إن أهم ما حدث إبان إمارة المرحوم من انقلاب فكري جعله يترك التمسك بمحض عثمانيته التركية، هو مغزى عسير، عندما أمره السلطان بأن يتوجه إلى تلك المتصرفية، فينقذ حاميتها من حصار السيد الإدريسي. وكان حصار أبهى - مركز متصرفية عسير - وقت حركة الإمام يحيى وحصاره صنعاء اليمن قبل أن يتفاهم مع الدولة العثمانية بواسطة عزت باشا الصدر الأعظم أخيرا. فتوجه بالقوة العثمانية الموجودة بالحجاز، فاستصحب معه الجندرمة الراكبة وقوة هجانة المدينة، وألف قوة أسماها (القوة المعاونة) على أن يأتيه المدد العسكري بالقنفذة.
وكنت يومئذ في المجلس النيابي، فطلبني، وأجازني المجلس، فالتحقت بالحجاز. وقال لي الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا: الأمير يطلبك ولا بد أنه سيكلفك بمأمورية معه. وقال لي رئيس مجلس النواب أحمد رضا بك: لم تستعين الدولة بنفوذ والدك؟ ألم يأت الوقت الذي ينبغي أن تتخلص فيه الدولة من النفوذ الشخصي؟ فقلت له: إنك نائب، ويمكنك أن تترك الرئاسة لوكيلك وتنزل إلى كرسي النيابة كعضو فتوجه سؤالا إلى الحكومة أو استيضاحا، فإن ذلك يكون أليق للصنعة التي أنت فيها، والدولة ستكون في حاجة ملحة إلى نفوذ المخلصين من بلاد العرب أجيالا أخرى، إن بقيت وبقوا.
ولما وصلت إلى مكة، مررت بسمو المرحوم الخديوي، وكان يميل رحمه الله إلى السيد محمد بن إدريس، ولعله كان يعضده. ولقد بلغني أن الدولة العثمانية طلبت إليه أن ينصح السيد فنصحه، وبقيت هذه النصيحة عند ذلك الحد. فلما رآني قال: السفر لتأديب الإدريسي؟ قلت: نعم. فقال: الوقت صيف وتهامة حارة، فلو أخرت الحركات إلى أن يعتدل الموسم؟ قلت: لا أدري، ولكن ربما توجه الجيش من طريق الشرق، والتأخير فيه إمكان سقوط أبهى، لذلك فالحركة واجبة. فقال: بلغني أن الأفكار العربية ممتعضة من هذا العزم. فأجبته بأن الأفكار هذه لا تصل إلى بعض الأخطار الممكنة، إن حصل تفكك في القسم الجنوبي من البلاد العربية يجعلها تحت أيد جاهلة، تمكن الأجانب من وضع أيديهم عليها. فقال: وفقكم الله، ولكن مهما أمكن، التمسوا الأسباب الواقية للصحة من الأوبئة والشمس. وفي الحقيقة لما وقعت الكوليرا في العساكر ذكرت تنبيهه هذا.
واقعة قوز ابا العير
وتحرك الركب الهاشمي من الحجاز في فصل الأسد، في حمارة القيظ، فوصلنا القنفذة، والإنسان لا يستطيع أن يطأ الأرض الملتهبة كالنار، وليس بالقنفذة من عربان البلاد المجاورة أحد سوى أهلها. وكان في الصحبة ثلاثة طوابير نظامية، يبلغ عددها ثلاثة آلاف جندي. وبعد أخذ الأهبة، كانت الحركة نحو (قوز ابا العير) وكان فيه قائد للسيد الإدريسي، اسمه ابن خرشان، ومعه عشائر تهامة. فأمرت أن ستصحب معي مائتي خيال وألف هجان، مع تلك الطوابير والمدفعية، فتوجهنا وكان معي المرحوم الملك فيصل؛ وحيث إن التدريب العسكري للحركات الليلية كان غير كامل الترتيب، فلم تتمكن القوى التركية من قطع المسافة في الوقت المناسب، إلا بعد تأخر تسع ساعات. فوصلنا إلى نقطة بساحل البحر جنوبي القنفذة، بها ماء يستطيع الإنسان شربه، اسمه (أم الدبة). وبعد استراحة ثلاث ساعات، توجهنا فأدركنا الزوال، ونحن على طرف سهل صلب من رمل دمث، والبحر بالناحية الغربية، وأمامنا وادي (يبا) الكثير الحراج الملتف الأشجار؛ والجيش يسير ويتقدمه الطابور الأول، ثم الثاني، ثم الأثقال، ثم الطابور الثالث، وعلى الجناح الأيسر القوى الهاشمية والخيل، وعليها الأمير فيصل (الملك فيصل).
وكانت القوتان تأتمران بإمرتي، وقائد الطوابير الثلاثة هو القائد زكي بك الشركسي. ولدى قدومنا إلى ذلك المحل، عاد إلينا ضيف الله العبود، أحد الشيوخ، وقد أرسل - ومعه كوكبة من الخيل - عينا ليكشف ما وراء الحرجة وما بها، فقال إنها محشوة بالرجال. وفي تلك الأثناء، وإذا بالبقية من العيون - أي القوة الكشافة - تعود مسرعة ثم عادت المقدمة من الهجانة وهي منهزمة متوجهة نحو الغرب إلى ناحية البحر، وإذا بجحيم من النار يطلق فجأة من تلك الحراج. فأمرت زكي بك بالتوقف، وأشرت عليه بأن يسوق الطابور في شكل الصيادة، ويكون الطابور الثاني احتياطيه، وأن تقف الأثقال، وأن تقف أيضا القوى الهاشمية فإذا دفعناهم وجاء الوقت المناسب، أمرت القوى الهاشمية بالهجوم، والتعقيب من ناحيتها. فحرر هذا الأمر، ووقع منه ومني، وأرسل إلى الأمير فيصل وإلى قواد الطوابير، فسرنا والتحمنا مع القوى الكامنة في الحراج، فدفعناهم وتوغلنا.
وقبل أن يأتي الوقت ويصدر الأمر بهجوم القوة المعاونة، وإذا بنا نراهم يهجمون مسرعين، وأن ليس أمامهم إلا زرع يحصد، فقلت لزكي بك: مر الطابور الاحتياطي يتقدم إلى الميسرة، حيث كانت فيه القوة المعاونة، فإنني لست آمن عليهم الهزيمة الآن. فقال إنه لا يستطيع ترك القوة الآن، ورجاني أن أبلغ هذا الأمر بذاتي. وقبل أن أتم المحاورة، وإذا بالمرافق يقول لي: انظر يا سيدي إلى يسارنا! فإذا بالقوة المعاونة ترتد لا تلوي على شيء. وقد بلغت إلى حيث الطابور الثاني، وكان يقوده إسماعيل بك، فقلت: سر بالطابور وخذ موقعا إلي يسار الطابور الأول، أما القافلة فمرها لترجع إلى (أم الدبة)، وليكن الطابور الثالث هو الاحتياطي. وإذا بالرجل يمسك بعرف جواد يتقيأ، ولم يكن في حالة ترضيني، ورأيت فيه من الجبن ما أزعجني؛ فكررت الأمر فلم يصغ، وإذا بنا نضرب من الميسرة ضربا مروعا.
وبعد ثلاثة أرباع الساعة، كان الموقف في غاية من الحرج؛ وإذا بفريق من الهجانة، فأنخته بين السبخاء والموقع الرملي، وشرعت أدافع ما استطعت؛ وإذا بأناس من المنهزمين يلتحقون بي، وهم فرسان عرفوا بالنجدة، كفاجر بن شليويح، وحبيليص الشيباني، وفهد العرافة بن سعود، وبعض الأشراف، ثم لحق بي الشريف شاكر بن زيد؛ ولم يكن لنا منهم إلا الثبات لتخليص القوة العثمانية من موقفها القتال. وبالنتيجة لم يسلم من الطوابير الثلاثة إلا سبعون نفرا. ولما أن أعيدت الحملة والمدافع إلى أم الدبة، كنت آخر من ترك الموقف، بعد أن قتل ابن خيرة أمير الجناح الأيمن للقوة الإدريسية. ووصلنا القنفذة في اليوم الثاني بخسارة عظيمة. ولو كر الأدارسة ليلتها أو الليلة الثانية، لقضوا على الجميع. ولكن خسائرهم كانت أفدح.
كانت هذه الواقعة، واقعة (قوز ابا العير)، والتراجع الذي وقع من القوة المعاونة العربية، السبب الأول في سوء الظن الموجه إلينا من باقي قوات الحملة التركية، وأولهم المير الاي نظيف بك. وكأنهم نسوا ما كان يحيق بهم من حركات كهذه، في اليمن وعسير وفي جبل الدروز والكرك وفي كل محل.
وبعد خمسة عشر يوما، تكررت الحملة بقوات جديدة وردت وأمر على الجميع الشريف زيد بن فواز، وقد صدر الأمر إلي بأن أكون أحد أمراء الحملة؛ فتوجهنا من القنفذة صباحا ووصلنا ظهرا إلى (أم الدبة)، وكانت القوة التركية هي هذه: ثلاثة طوابير نظامية، كل طابور ثمانمائة وخمسون جنديا، بقيادة القائد زكي بك؛ وثلاثة طوابير رديف، بقيادة القائمقام إسماعيل بك، وكان عدد هذه الطوابير ألفا ومائتي جندي؛ وطابور آخر اسمه طابور اليمن، لأنه جلب من اليمن، يقوده قائد اسمه ضياء الدين بك، وعلى المجموعة هذه كلها الأمير الآي نظيف بك، أما القوة المعاونة، فكانت هي هي، خيلها وهجانتها. فتحركنا وقت الظهر ، ولما وصلت القوة إلى محل المعركة الأولى، وكانت الساعة الحادية عشرة غروبية، وجدنا قوة الأدارسة في تلك الحالة الحرجة نفسها، فقابلونا بنار حامية كسالف عادتهم. فقال نظيف بك للشريف زيد: ماذا تأمر؟ قال: لا أمر لي إلا بعد أن تعرض علي ما تراه أنت، فإذا رأيت ما يجب تنبيهكم إليه فعلت. فالتفت إلي وقال: ما رأيك؟ فقلت: الأمر بالمبيت واستئناف الحركة صباحا، لأني أخشى ألا تكون الحركات العسكرية ناجحة ليلا، ونحن في أرض دغل لا نعرف مخارجها ومداخلها. فقال: تقول هذا من أجل أن يرى الناس، أن سبعة طوابير عثمانية أوقفتها شرذمة بدوية. فجلى عما كان يكتم فقلت له: هذا رأي أكتبه كتابة. ثم التفت إلى اليوزباشي أركان الحرب بهاء الدين بك فقال له: ماذا تقول؟ فقال: أقول إن كل شبر تتقدمه الآن في وقت الغروب والليل مقبل، يسوقك إلى الاضمحلال، وإني أضم رأيي إلى رأي عبد الله بك. فقال: اكتب الأمر بالمبيت: الآي زكي بك الجبهة. الاي سعيد بك الميسرة. الأثقال في الوسط. طابور اليمن في الساقة. القوة الهاشمية المعاونة الميمنة. فلما كتبه عرضه على الشريف زيد، فوافق عليه وصدق. ثم أمرت بأن أكون مع زكي بك في الجبهة، وأن الأمير فيصل (الملك فيصل) على القوى الهاشمية في اليمين، وبقي الشريف زيد بن فواز ونظيف بك في مقر القيادة.
ناپیژندل شوی مخ