وهذا هو الركابي باشا، الذي كان عندنا في عمان في رئاسة الوزراء مرتين، رحمه الله.
في ذلك الحج، الذي جرى ذكر الركابي باشا فيه، كان قد حج الخديوي المرحوم عباس حلمي باشا، وقوبل في الحجاز بما هو أهل له من الإكرام والاحترام بسبب شخصيته، ثم للعلائق الودية بين البيتين، منذ محمد علي باشا والشريف محمد بن عون. وكنت أصبت في تلك الزيارة، وأنا بالمدينة، بحمى التيفوئيد، وسافرت وأنا مصاب بها، ولقد أتعبتني ولكن الله سلم. ولما وصلت إلى بئر الماشي، وهي على مرحلة من وادي الليمون وعلى مرحلتين من مكة، بشرت بابني طلال، وأخبرت بأنني قد انتخبت مبعوثا عن مكة المكرمة في مجلس المبعوثان العثماني. ولقد ساءني هذا الخبر، حيث سئمت الحياة الطويلة بتلك العاصمة، فدخلت مكة وأنا في شدة مرضي، ثم برئت بعناية الله بعد انقضاء المدة المرضية؛ فسافرت إلى مصر، ومنها إلى إسطنبول، لأقوم بوظيفة المبعوث. ولما وصلت الباخرة السويس، وإذا بمحافظ السويس والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد وعلي بك شاهين صاحب تشريفات الخديوي على الرصيف في انتظاري، وقد أوفدهم الخديوي المرحوم للتحية والدعوة للنزول ضيفا عليه بقصر رأس التين بالإسكندرية، فشكرتهم ورجوتهم أن يبلغوا سموه امتناني وقبول الدعوة الكريمة مع الشكر العميق، ثم أبرقت لسموه بهذا المعنى.
ولقد كان الوالد المرحوم جعلني في رفقة سموه مدة الحج، فعرفني حق المعرفة ومال إلي بكليته؛ فسافرنا من السويس في قطار خاص إلى الإسكندرية، وكان الغداء والعشاء في القطار. أما هؤلاء الذوات فبعد أن أدوا واجبهم تخلفوا في القاهرة، ما عدا علي بك شاهين والشيخ حازم بن مليحم مقوم الحج المصري، فإنهما سافرا معي إلى رأس التين. وتفضل سموه فقابلني في اليوم الثاني، بذلك القصر الفخم الذي كاد يزداد بهاء بطلعة سموه المشرقة، أسكنه الله فسيح الجنان وأبدله دارا خيرا من داره، فإنه الغريب الشهيد. ولما رآني قال مظهرا الدهشة، «مالك؟ دانت خسيت؟ جرى إيه؟» فأجبته: ما من شيء يا أفندينا. وإنما حمى أصابتني بعد سفر سموك من المدينة، واستمرت بي أكثر من خمسة وعشرين يوما، ثم زالت. فقال : متى تسافر؟ فقلت: إن أذن سموك فالسفر غدا إن شاء الله. فأجاب: «ما يصحش قبل أن يفحصك الدكتور كاوسكي بك فنرى المرض ده هو إيه». وبعد المعاينة بأخذ الدم من إصبعي، قال الطبيب كاوسكي إن مرضي كانت الحمى التيفوئيدية، ورتب لي علاجا أستعمله.
فسافرت بعد أسبوع بالباخرة الرومانية (داجيتا)، وكانت مثل العروس، ذات مدخنتين وعلى أحدث طراز، تسير في الساعة ثلاثة وعشرين ميلا. فأمر سموه أن يحجز لي في الباخرة الجناح الممتاز، وكان معي المرحوم الشريف شاكر بن زيد والشيخ محمد بن غاصب؛ فسافرنا والشهر أول مايو والبحر ليس بالساجي ولا بالهائج، فمضت تلك الليلة. ومن لم يألف البحر من الركاب كان في حجرته. ولكن لما أصبحنا، كان البحر وكأنه المرآة الصقيلة، والركاب على ظهر السفينة جلوس هنا وهناك.
ولقد لفت أنظار الأجانب لباسنا العربي المشلح والعقال؛ ولقد تجرأت شابة رومانية ورجت مني أن ألبسها صمادتي وعقالي ففعلت، فأخذت تنظر إلى نفسها في المرآة وتصفق بيديها، وكانت جميلة رشيقة فاتنة، وأظنها غاظت المرحوم شاكر، فقال بلغته العتيبية: «نعن ابو ذا الوجه وراك ما طلبتي عقالي وانا وصمادتي؟» فضحكت وأمرت خادمي أحمد وصفي، فجاءني بصمادة أخرى وعقال فلبستهما؛ وتحيرت المسكينة ماذا عساها أن تفعل، فقلت: أتركها لك كتذكار - وكانت تحسن العربية قليلا - ثم قلت لها: أنا فلان، النائب في مجلس المبعوثان، فشكرتني وأخبرتني أنها كريمة قنصل رومانيا بالإسكندرية. ووصلت بنا الباخرة صباح الغد إلى (بيريه) ومن بيريه إلى إسطنبول.
ولا ينبغي لي أن أنسى زميلي، الشيخ حسن الشيبي رحمه الله، العضو الثاني عن مكة في ذلك المجلس، والشيخ محمد علي طالب المطوف في مكة - الذي كان مسافرا إلى القرم لعلاقته مع الحجاج هناك - ذلك الرجل البشوش الضحوك، الذي كان سبب أنسنا طول الطريق.
ووصلنا الأستانة، ورست الباخرة بالرصيف، فإذا في استقبالنا هناك الشريف جميل بن ناصر، موفدا من طرف العم المرحوم، الذي كان في إسطنبول عضو مجلس الأعيان؛ ووجدنا هيئة الاستقبال الموفدة من رئيس المجلس والمؤلفة من ثلاثة أعضاء: عبد الرحمن باشا اليوسف نائب دمشق، وسعيد بك نائب أزمير، وحسين جاهد بك نائب إسطنبول، فشكرناهم جميعا؛ وتوجهنا إلى أستينيا، في القصر الذي أعرفه والذي تزوجت به، والذي لم يلحقنا فيه أي كدر، وبه نال الوالد المرحوم الإمارة، كما أنه قد ولد فيه أخي زيد وشقائقي الثلاث.
وبعد إقامة ثلاثة أيام، وتقديم الشكر للعم المرحوم، انتقلت إلى قصر المصيف للوالد المرحوم ببيوك - دار بأعلى البوسفور - ثم توجهنا أنا والشيخ حسن الشيبي في معية المرحوم قبل تلك النقلة، يوم كنا في ضيافته، إلى دار رئيس مجلس النواب أحمد رضا بك، فقابلنا بالبشر والغبطة واللطف الكثير، ثم قال إنه ينتظرنا في دار المجلس بديوان الرئاسة في الساعة الحادية عشرة من ذلك اليوم.
ولما جئناه في الساعة المعينة وجدنا عنده مجدي أفندي مبعوث بروسا، ورئيس كتاب ديوان الرئاسة وهو شيخ معمم ضخم طلق المحيا جهوري الصوت؛ ووجدنا عنده أحد مستقبلينا سعيد بك مبعوث أزمير؛ ووجدنا ألكسندر كرندوري باشا عضو الأعيان. فحييناه وصافحنا وأجلسنا؛ ولكن لم أجده كما رأيته في داره، بل رأيته مقطب الوجه؛ فقال لي مبادرا: وجدت هنا في ديوان الرئاسة، بعد أن حضرت، برقيات من مكة تحتج على انتخابكما، قائلة عنك أنت يا عبد الله بك، إنك لم تصل إلى السن القانونية، وتقول عن زميلك الشيخ حسن أفندي الشيبي إنه لا يقرأ ولا يكتب لا في التركية ولا في العربية. فقلت له: إنني لم أشهد تاريخ ولادتي، ولكن أعتقد أن الهيئة التي فحصت صناديق الانتخاب، ورئيسها الوالي وأعضاءها القاضي ورجال مجلس الإدارة، ذكروا أن الانتخاب جرى وفق القانون؛ فإن كان هناك ما يخالف الحقيقة فالتبعة عليه ولست بالكاذب، وأقرر أنني لم أشهد يوم ولادتي. وأما زميلي فله أن يدافع عن نفسه، فهو من أكرم بيوت مكة، وهو يجيد اللغة العربية كتابة وقراءة، وأما اللغة التركية فلم يعتن بها هناك. والأوراق في المجلس إن قبلها فذلك، وإن رفضها فلست بالذي يخسر أي شيء إلا زمالتكم. وإسطنبول بلد أحبها، وحضرت في موسم الربيع، وفي إمكاننا الرجوع إلى وطني متى سئمت ... وقمت وأنا أقول: «الله اصمار لادق» أي في أمان الله ...
وذهبنا إلى دائرة الأعيان، حيث أجلسنا العم المرحوم في الشرفة المخصصة للأعيان بدائرة المبعوثين. ولما عرفنا أهل المجلس أننا مندوبو مكة، قالوا: لم لا يجلسون في كراسيهم؟ فقال الرئيس: هنا برقيات اعتراضية، وردت من الحجاز، ستقرأ عليكم الآن، فإن رفضتموها وقبلتموهما نائبين فعند ذلك يجلسان. فقال أحد النواب: ومن تريدون؟ أتبعث إليكم مكة أفضل من ابن الشريف وابن فاتح بيت الله؟ فصاح المجلس كله: لا اعتراض لا اعتراض. ثم أخذنا باليد وأجلسنا وانتهى الأمر.
ناپیژندل شوی مخ