باريس ... كم حكى لنا عنها الحاكون حتى تصورت بيوتها بلورا أو ذهبا، وأهلها لا يسير واحد منهم على قدميه، وشوارعها مع السكوت الأخرس مزدحمة لا يستطاع السير فيها، وتتخطر النسوة في كل مكان، وينظرون لكل إنسان يردن أن يبتلعنه بأعينهن ... وها أنا لا أرى من ذلك شيئا؛ ها بيوت مبنية بالحجر كبيوتنا، وناس كالذين نرى عندنا، وشوارع تجري بمن فيها، ونسوة يسرن ظاهرات الجد ... عن أي باريس إذن كانوا يحكون؟
1 ...
15 يولية
سأترك هذا الفندق الذي نزلنا فيه أول الأمس لأنزل في بيت عائلة (بانسيون) أكون فيه بعيدا عن أصدقائي الذين جاءوا معي من مصر، وهم يرون أن هذه أحسن طريقة وأقربها لتعلم اللغة الفرنساوية، سأتركه الساعة رغما عما خلفته الليلة الماضية عندي من اللغوب، لو أن كل الأيام كيوم 14يولية وكل الليالي كليلته لما عرف الهم إلى نفوس الناس سبيلا، فمع أني بباريس لأمسي فقط فقد انتقل إلي من السرور العام ما جعلني لا أحس بمر ذلك النهار.
رأينا في الصباح قوس النصر، ورأينا عنده بعض الفرق الراجعة من الاستعراض، وبعد الظهر ذهبنا إلى الحي اللاتيني، حي المدارس، وجلسنا في قهوة فاشيت ملتقى المصريين، وقابلت بعضهم هناك وتعارفنا.
لست أدري ماذا أسمي هذا الذي يصنع أولئك الفرنسيون السكارى بنشوة الطرب، أمن أجل ما يسمونه عيد الحرية يخلعون عذار الوقار إلى هذه الدرجة فيرقصون في الأماكن العامة ويضحكون ويشربون ويعملون ما لا يعمل.
لا شك أنهم حقيقة تلك الأمة الممتلئة سرورا وجذلا، لا تكاد تسير خطوة إلا ويدهشك القوم بسرورهم المفرط حتى لا تستطيع مهما كان من رأيك فيهم أن تمنع نفسك عن مشاركتهم بقلبك في هذا السرور.
ذهبنا في المساء إلى ميدان الباستيل حيث يقوم تمثال الحرية عاليا يطل على المدينة الزاخرة، ولقد وجدنا نصبا في اختطاط طريقنا بين الجموع المزدحمة الناسية نفسها المأخوذ عقلها المستسلمة إلى فرح يبلغ حد الهوس، لم نكد نبلغ غايتنا حتى قابلتنا الأنوار الزاهية وتبينت العين الغادة التي تمثل فرنسا حين دكت قواعد سجن الباستيل مستودع الظلامات ومقام الأحرار الذين خسف بهم الاستبداد، ومن لحظة لأخرى ينتشر النور مختلفة ألوانه يضيء التمثال وعماده وقاعدته والناس سكارى بعيدهم وبالضوضاء المحيطة بهم وبتلك الأضواء الزاهية الزاهرة يمرحون في الميدان العظيم.
وبعد منتصف الليل رجعت إلى اللوكاندة وقد هدني التعب، لكني لم أنم طويلا إذ ما لبث الصبح أن تنفس حتى قمت أرتب عزالي لأقوم إلى مسكني الجديد.
دخلت نفسي بعد ذلك عالم الوحشة وأحسست أني صرت محتاجا لذراعي أنا ومساعدة نفسي، ولكن ما أشأم عدم معرفة اللغة تضطر الإنسان لطلب المساعدة من غيره، وإني وإن كنت سعيدا حيث كان مساعدي عبد الحميد سعيد من الرجال الذين لا ترفض مساعدتهم، إلا أني كنت دائم الإحساس بشيء من الوحشة والحاجة لنفسي دائما، ولقد كان من أسباب وحشتي بالطبيعة أني حديث العهد بباريس ومعيشتها وأماكن النزهة فيها.
ناپیژندل شوی مخ