مقدمة
عن المؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
بيان بالأعلام والأماكن الواردة بالكتاب
مقدمة
عن المؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
بيان بالأعلام والأماكن الواردة بالكتاب
مذكرات بكوك
مذكرات بكوك
تأليف
تشارلز ديكنز
ترجمة
عباس حافظ
مقدمة
قلنا في مقدمة الطبعة الأصلية لمذكرات نادي بكوك المنشورة بعد وفاة مؤسسه: إن المقصود منها إيراد صور مسلية لأنماط من الناس، ورسوم فكهة لصنوف من الوقائع والأحداث، لا محاولة فيها لإظهار البراعة في قصة «محبوكة» موصولة السياق، ولم يكن المؤلف يرى في ذلك الحين أن إيرادها على هذا الوجه ميسور؛ لأن أسلوب النشر المتبع في ذلك الوقت لم يكن على نسق مطرد. وقلنا كذلك: إننا قد أخذنا نغفل شيئا فشيئا الحديث عن جهاز النادي، كلما تقدمنا في الكتاب، وذلك بعد أن تبين لنا أن معالجته من أشق الأعباء، ولئن كانت التجربة والدراسة قد علمتنا فيما بعد شيئا بسبيل بعض تلك المطالب ونحوها، حتى لوددت اليوم لو أن هذه الفصول ترابطت بخيط قوي واحد، وأمسك بها موضوع يثير الاهتمام العام؛ فلا تزال في شكلها الحالي عين ما أريد بها أن تكون ...
ولقد رأيت روايات مختلفة لأصل هذه المذكرات التي ظلت على الحالات كلها في تقديري تتصف بفتنة الطرافة التامة، وسحر الجدة البالغة، وإذا كان يصح لي أن أستخلص من ظهور روايات وأقاصيص منها أن في نفوس قرائي توقا إلى معرفة حقيقتها؛ فإني سأقص عليهم كيف ظهرت في عالم الوجود.
كنت شابا في الثانية أو الثالثة والعشرين حين أثارت بعض قطع كنت أكتبها في ذلك العهد في صحيفة «المورننج كرونكل» اهتمام الناشرين «تشابمان وهول»، أو كنت قد كتبتها توا في المجلة الشهرية القديمة «أولد منثلي ماجازين»، وقد جمعت أخيرا سلسلة منها، ونشرت في مجلدين، ورسمت لها صور من ريشة المستر جورج كروكتشنك؛ فجاءني هذان الناشران يطلبان إلي أن أقترح شيئا يصح أن ينشر في أعداد لا يتجاوز ثمن العدد منها شلنا، ولم أكن أعرف يومئذ شيئا عنها، وأعتقد أن أحدا سواي لم يكن له بها علم، إلا من ذكرى لم تكن واضحة في خاطري، لروايات لا تحصى من هذا القبيل اعتاد الباعة المتجولون حملها، والطواف في الريف بها، وأذكر أني ذرفت على طائفة منها دموعا غزارا قبل أن أقضي فترة الدربة على الحياة ...
وعندما فتحت باب غرفتي في فندق «فرنفال» لأستقبل الشريك الذي يمثل دار الطباعة والنشر، عرفت فيه ذلك الشخص بالذات الذي كنت قد اشتريت منه منذ عامين، أو ثلاثة أعوام، ولم أكن قد رأيته من قبل، ولم أره من بعد ... النسخة الأولى من المجلة التي ألقيت إليها خفية ذات مساء على مطالع الشفق بباكورة قلمي، وهي «صور وشخصيات»، دعوتها «المستر مينز، وابن عمه»، ألقيتها إليها بيد راعشة، وقلب واجف، في جوف صندوق بريدها القاتم، ودارها المعتمة، في فناء مظلم بشارع «فليت ستريت» ... وظهرت تلك الباكورة فيها بكل ما أضفى الطبع عليها من رونق وبهاء؛ فانطلقت بها عندئذ إلى قاعة وستمنتستر، فمكثت فيها نصف ساعة؛ لأن عيني قد ارتدتا مشدوهتين من فرط الفرح والشعور بالفخار؛ فلم تطيقا الشارع، ولا كان الطريق بالموضع الذي يصلح لرؤيتها فيه، وقد حدثت زائري بتلك المصادفة، فرحبنا معا بها، وعددناها بشرى طيبة وفألا حسنا، وأقبلنا نتحدث في الأمر الذي جاء يبحث معي فيه ...
وكانت الفكرة التي شرحها لي هي إصدار شيء شهري ليكون وسيلة لنشر صور ورسوم من ريشة المستر سيمور، وأن هناك خاطرا بدا لذلك الرسام الفكه الصنع، أو لزائري نفسه، وهو تخيل ناد يدعى «نادي نمرود» يخرج أعضاؤه لصيد الطير أو السمك أو نحوهما، فيقعون في محارج، وتحيط بهم متاعب وورطات؛ لقلة براعتهم وفهمهم لدقائق الأشياء، وقال محدثي: إن فكرة كهذه سوف تكون أحسن وسيلة لإبراز تلك الرسوم والألواح، فلما بحثت تلك الفكرة اعترضت عليها، وكان سبب اعتراضي أنني لست بالصياد البارع، وإن كنت قد ولدت وقضيت بعض أيام نشأتي بالريف، ولم أصب من «الرياضة» إلا ما يتصل بكل أنواع الحركة ووسائل الانتقال، وأن الفكرة ليست بالطريفة، وأنها طرقت كثيرا من قبل، وأنه من الخير إلى أبعد حد أن تنشأ الصور نشأة طبيعية من النص نفسه، وأنني أحب أن أتخذ سبيلي طليقا من كل قيد في تصوير المشاهد الإنجليزية والناس، وأنني أخشى أن أفعل ذلك في النهاية على أية حال، مهما يكن السبيل الذي أختطه لنفسي في البداية. ولما قبلت فكرتي، فكرت في «المستر بكوك» وكتبت العدد الأول، وكان المستر سيمور يتناول «تجارب الطبع»؛ فيرسم الصور على قدودها، فهو الذي رسم «النادي» وصور تلك الصورة الجميلة لمؤسسه، وقد أخذ وصف الثياب والمعالم من المستر إدورد تشبمن، عن شخصية حقيقية كثيرا ما رآها بنفسه، وقد ربطت المستر بكوك بناد عملا بالاقتراح الأصلي، وجئت المستر «ونكل» قصدا؛ ليفتن فيها المستر سيمور كما يشاء، وبدأنا نصدر عددا من أربع وعشرين صفحة، بدلا من اثنين وثلاثين، وأربع صور بدلا من صورتين، وكانت وفاة المستر سيمور فجأة قبل صدور العدد الثاني، وهي مصاب أحزننا، وجزعنا منه؛ فاقتضى مماته اتخاذ قرار عاجل في أمر كنا قد مضينا فعلا فيه، فجعلنا العدد في اثنتين وثلاثين صفحة، واقتصرنا على صورتين، وبقي النظام هكذا إلى النهاية.
وأقول هنا على أشد الكره مني إن أقوالا قيلت تلميحا أو متناثرة عن المستر سيمور خاصة، وهي أن له نصيبا في اختراع هذا الكتاب، أو في شيء منه، لم يعرض بأمانة في الفقرة السابقة، ولكني أقتصر هنا على تدوين الوقائع التالية:
وهي أن المستر سيمور لم يبتكر يوما، ولم يقترح إطلاقا حادثة أو عبارة أو كلمة مما حواه هذا الكتاب، وأنه مات حين لم تكن قد صدرت منه غير أربع وعشرين صفحة، ولم تكتب على اليقين ثمان وأربعون، وأنني أعتقد أنني لم أر خط المستر سيمور في حياتي، وأنني لم ألتق به غير مرة واحدة في العمر، وكان لقائي له في الليلة السابقة لليوم الذي أدركه الموت في غده، فلم يعرض بلا ريب رأيا ما خلال لقائنا، ولا أبدى اقتراحا، وكان اجتماعنا في محضر شخصين لا يزالان في قيد الحياة، ويعرفان هذه الوقائع كلها حق المعرفة، ولا يزال تحت يدي إقرار مكتوب منهما بها ... وأخيرا أن المستر إدورد تشبمن أحد الشريكين في مؤسسة «تشمبن وهول»، وهو لا يزال حيا يرزق، قد دون كتابه للغرض ذاته، وهو تسجيل الحقيقة، كل ما يعرفه شخصيا عن أصل الكتاب وسيرته، وعن بشاعة هذه الدعوى التي لا أساس لها، وأورد من التفاصيل ما يدل في ذاته ووضوحه على استحالة احتوائها شيئا من الحق، ولست أريد - عملا بما أخذت نفسي به - أن أنقل هنا رواية المستر إدورد تشبمن لما قابل به شريكه الراحل في إحدى المناسبات، هذا الادعاء الذي أسلفت ذكره.
أما «بوز»
BOZ ، ذلك التوقيع الذي كنت أوقع به ما أكتب في «المورننج كرونكل»، و«المجلة الشهرية القديمة»، والذي كان يظهر على غلاف العدد الشهري من هذا الكتاب، وبقي دهرا طويلا بعد ذلك، فقد كان كنية أطلقت على طفل مدلل، كان أخا لي أصغر مني سنا، وكنت أدعوه «موزيس»؛ تكريما ل «قسيس وكفيلد»، فاستحالت هذه الكلمة عند النطق بها مزاحا من الأنف إلى «بوزس»، ثم أصبحت بعد اختصارها «بوز»، وكانت هذه اللفظة مألوفة في أفق بيتنا قبل أن أصبح «مؤلفا» بوقت طويل؛ فاتخذتها لنفسي توقيعا.
وقد لوحظ عن المستر بكوك أن شيئا من التغير طرأ قطعا على شخصيته؛ في سياق هذه الصفحات واطرادها، فقد أصبح أكثر طيبة، وأوفر عقلا، ولست أعتقد أن هذا التغير سيبدو مفتعلا أو متعملا لقرائي إذا هم تذكروا أن خواص رجل أوتي شيئا من غرابة الأفكار، ونواحي شذوذه، هي في الحياة أول ما ينطبع فينا عامة منه، وأننا لا نبدأ عادة ننظر إلى ما تحت الظواهر البادية لأعيننا منه، وندرك النواحي المثلى التي ينطوي عليها، إلا بعد أن نزداد معرفة به، ومتابعة لدقائق شخصيته.
ولكيلا يغيب عن فطنة فريق من سليمي النية الفارق بين الدين في جوهره، والترائي به، وبين التقوى وادعائها، وبين الاحترام المقترن بالخشوع للحقائق الجليلة التي جاءت في الكتاب المقدس، وبين إقحام حرفيته لا روحه إقحاما منطويا على الجرأة، ومثيرا للاشمئزاز في أحقر شئون الحياة وأبسط مسائلها وأدعاها إلى الخلاف، وما يؤدي إليه من البلبلة المتناهية لعقول السذج والجاهلين ... لكيلا تغيب عن فطنة بعض حسني القصد، وكان ذلك جائزا عند أمثالهم قبل أن يصدر من عهد قريب كتاب
OLD MORTALITY «الوفيات القديمة» هذه الفروق التي ذكرتها، أقول لهم: إنني في هذا الكتاب إنما سخرت من الرياء في الدين لا من الدين ذاته، وتهكمت بادعاء التقوى لا بالتقوى عينها، وهجوت الذين يعبدون الله على حرف، دون الذين يستمسكون بروح الكتاب المنزل ومعانيه، كما أضيف إلى ذلك أن كل هذا الذي تعرضت له بالسخرية والتهكم والهجاء، قد دلت التجارب والمشاهدات كلها على أنه لا يتفق مع الدين والتقوى وسلامة التناول لتعاليم الدين وأصوله، وأنه من المستحيل أن يتحدا، وأنه من أشد الأكاذيب أذى في المجتمع، وأبلغها على الناس ضررا، سواء اتخذت مقرها اليوم في قاعة إكستر، أو كنيسة «أينزر»، أو فيهما معا، ولعل هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كلمة تقال فيه، أو ملاحظة تعرض بسبيله، ولكن الواقع أنه ليس ثمة بد في كل حين من التنديد بهذا العبث السمج بالمقدسات، الذي نرى الخوض فيه مترددا على الشفاه، ولا يتأثر به القلب، أو بهذا الخلط بين المسيحية وبين أية طبقة من أولئك الذين وصفهم «سويفت» بقوله: إن لديهم من الدين ما يكفي لأن يتباغضوا، ولا يكفي لأن يجعلهم متحابين.
وقد وجدت من دواعي العجب والاغتباط، حين عدت أتصفح هذا الكتاب في طبعة جديدة، طائفة كبيرة الشأن من وجوه الإصلاح الاجتماعي قد تمت بصورة لا تكاد تحس، منذ كتبت هذه الفصول في الأصل، وإن كان التسامح مع المحامين، ومدى الوسائل والأساليب البارعة في تضليل هيئة المحلفين، لا يزالان بحاجة ماسة إلى التعديل، كما لا يزال إصلاح نظام الانتخابات البرلمانية - بل لعل البرلمانات ذاتها أيضا - في حدود الممكنات، ولكن الإصلاح الذي تناول القضاء قد قلم أظفار أمثال «دودين وفج» بين طائفة المحامين، وانتشرت بين وكلائهم وكتبتهم روح الاحترام الذاتي، والأناة والتعليم، والتعاون على هذه الغايات الكريمة والأهداف الحسنة، وتم التقريب بين البقاع النائية والأماكن القاصية ؛ لراحة الجمهور وفائدته، كما تغيرت القوانين المتعلقة بالحبس من أجل الديون، وهدم سجن «فليت»؛ مما يرجى أن يقضي مع مر الزمن على جملة من الأحقاد الصغيرة، وضروب العمى، وصنوف المساوئ التي ظل الجمهور أبدا ضحيتها دون أحد سواه.
ومن يدري لعلنا - قبل أن تصل هذه السلسلة التي ننشرها تباعا إلى ختامها - واجدون أنه قد أصبح في الحواضر والريف قضاة مدربون على أن يصافحوا كل يوم يد البداهة، ويهزون كف العدل، وأن «قوانين الفقراء» نفسها ستأخذ بالرحمة معاشر الضعفاء والشيوخ البائسين، وأن يؤمن الناس بأن المدارس، ومعاهد العلم المؤسسة على مبادئ المسيحية السمحة، هي أجمل ما يزين هذه البلاد المتحضرة طولا وعرضا، وأن يحكم رتاج السجون من الخارج بذلك الإحكام والتدقيق اللذين يحكم بهما رتاجها من الداخل، وأن يصبح تعميم وسائل النظافة والصحة حقا لأفقر أهل الفاقة - كما هي اليوم أمر لا غناء عنه لسلامة أهل الغنى، وأمن الدولة - وأن هذه الهيئات الصغيرة والإدارات القليلة التي لا تزال أقل من قطرات في بحر البشرية الخضم الذي يهدر ويزأر من حولها، لا تدع الحمى وذات الرئة طليقتين تصيبان خلق الله كما تشاءان، أو تاركين رباباتها ومعازفها الصغيرة ترسل أنغامها أبدا لتستقبل رقصة الموت ...
عن المؤلف
روائي إنجليزي ذائع الصيت ولد سنة 1812 لأب مسرف أوقعه التبذير في الدين وألقى به في السجن فساءت حال أسرته، واضطر دكنز أن يتلمس أسباب العيش منذ حداثته؛ تارة عاملا أجيرا، وتارة موظفا صغيرا في مكاتب المحامين، غير أن أول فتوحه في الكتابة جاء من اشتغاله مخبرا صحفيا يكتب النبذة القصيرة للصحف والمجلات عن أهم الشخصيات والأحداث الجارية، وأخذ ينشر مذكرات بكوك في فصول شهرية حتى تألق نجمه فتهافت عليه الناشرون وأخرج من الروايات عددا وافرا مثل «أوليفر تويست»، «دافيد كوبرفيلد» ... إلخ.
وقد برع دكنز أيما براعة في الأسلوب القصصي، وكان يصف شخوصه وصفا دقيقا ويرسم حركاتهم ويتعمق دراسة أخلاقهم وسرائرهم من حمق وكبرياء وقسوة وأنانية. وتصور رواياته ذكرياته الخاصة عن أشخاص صادفهم أو أحداث مرت به، غير أن خياله الخصيب استطاع أن يخلق من الأفراد العاديين شخوصا روائية مثيرة، وأن يصور الحوادث العابرة تصويرا رائعا يلمسه القارئ لمذكرات بكوك، غير أن ذلك لم يمنعه في كثير من الأحيان من دراسة الناس دراسة واقعية، فاستطاع بذلك أن يمزج الحقيقة بالخيال.
وقد اهتم دكنز بنقد مساوئ العهد الذي كان يعيش فيه؛ سواء في التربية أو الحكم البرلماني، أو الحياة الاقتصادية، كما دعا جاهدا إلى البر والخلق الطيب، ونادى بتسوية المشكلات الصناعية عن طريق التوفيق بين العمال وأصحاب العمل، وكان حبه للخير ومقدرته على إثارة العطف والرثاء من أهم ما حبب قراءه فيه. وظل دكنز يشتغل بكتابة القصص والتحرير في الصحف والمجلات حتى مات عام 1870.
الفصل الأول
أعضاء نادي بكوك
كان أول خيط من الضياء يبدد الظلام، ويجلو بنوره الباهر ذلك الغموض الذي أحاط بمطالع تاريخ حياة «بكوك» الخالد، وبداية سيرته، يرجع إلى قراءة الفقرات التالية من محاضر جلسات نادي بكوك، وهي فقرات يسر ناشر هذه المذكرات أشد السرور أن يضعها بين أيدي قرائه؛ دليلا على العناية البالغة، والجهد الذي لا يعرف الكلال، والحصافة المدققة التي توخاها في بحثه بين عديد الوثائق وتنقيبه.
وإليك هذه الفقرات:
12 مايو سنة 1827 - برياسة المستر جوزيف اسمجز نائب الرئيس الدائم، وعضو نادي بكوك.
تقرر بالإجماع الموافقة على القرارات الآتية:
بعد أن استمعت الهيئة بارتياح خالص وموافقة تامة إلى المذكرة التي قدمها المستر صمويل بكوك الرئيس العام للنادي، بعنوان: «آراء ونظرات في منبع بحيرات هامستد وغدرانها، مع بعض الملاحظات على نظرية الزقزوق»،
1
تود الهيئة هنا أن تقدم أصدق شكرها للمستر صمويل بكوك الآنف الذكر على هذا البحث.
والهيئة إذ تدرك عميق الإدراك مدى الفوائد التي ستعود حتما على العلم من هذا البحث الذي سلف ذكره، وجملة الحسنات الأخرى للبحوث والدراسات التي عقدها بدأب لا يعرف الكلال المستر صمويل بكوك الرئيس العام، وعضو نادي بكوك في هورنزي، وهايجت، وبريكستن، وكامبرول، لا يسعها إلا أن ترجو رجاء صادقا أن تؤدي حتما بحوث هذا العلامة إلى فوائد لا تقدر ، ومنافع لا تحصى، في ميدان أوسع مدى، إذا هو مد نطاق أسفاره، ومن ثم وسع أفق نظراته وملاحظاته في سبيل تقدم العلم ونشر المعارف.
وعلى ضوء هذا الرأي الذي ذكرناه، نظرت الهيئة بعين الجد والاعتبار في الاقتراح المقدم من المستر صمويل بكوك الآنف الذكر، والرئيس العام للنادي وأحد أعضائه، بالاشتراك مع ثلاثة أعضاء آخرين في النادي - سيأتي بعد ذكرهم - بشأن تأليف فرع جديد «لرابطة البكوكيين»، يدعى «شعبة المراسلين في نادي بكوك».
وقد حاز الاقتراح المذكور من الهيئة الموافقة والقبول، وبذلك تم تأليف شعبة المراسلين في النادي، وتعيين المستر صمويل بكوك الرئيس العام وعضو النادي، والمستر تراسي طبمن، والمستر أوجستس سنود جراس، والمستر نثنايل ونكل، العضوين بالنادي - أعضاء في هذه الشعبة، مع رجائهم أن يقدموا إلى النادي بمقره من وقت إلى آخر بيانات معتمدة عن أسفارهم وتحقيقاتهم، وملاحظاتهم على الأشخاص وأوجه السلوك، وكل ما يتعلق بالأحداث التي تقع لهم، مقترنة بكل النوادر، والقصص والمذكرات عن مختلف المشاهد والربوع، وما يتصل بها.
وقد تلقت هذه الهيئة بالعرفان الخالص الاقتراح القاضي بأن يقوم كل عضو من أعضاء «شعبة المراسلين» بأداء نفقات سفره، ولا مانع لديها إطلاقا من أن يواصل أعضاء الشعبة المذكورة بحوثهم لأية فترة من الوقت يشاءون بهذه الشروط ذاتها.
وقد أبلغ أعضاء شعبة المراسلين السالفة الذكر أن الاقتراح المقدم منهم بشأن قيامهم بأداء أجور البريد عن رسالاتهم، ونقل طرودهم، قد تم بحثه ومناقشته في هذه الهيئة، وترى أنه اقتراح جدير بأن يصدر من العقول الكبيرة التي تفتق عنها، وأنها تسجل هنا موافقتها التامة عليه.
وقد أضاف الأمين الذي ندين لملاحظاته بالبيان التالي، يقول: إن كل ملاحظ عابر لا يرى شيئا غير مألوف في ذلك الرأس الأصلع، والمنظار المستدير اللذين ظلا متجهين نحو وجهه «أي وجه الأمين» في أثناء تلاوته للقرارات التي سلف ذكرها، وأن هذا المنظر كان حقا ممتعا لكل من عرفوا أن عقل بكوك الجبار كان يشتغل خلف تلك الجبهة، وأن عينيه المشعتين كانتا تبرقان من وراء ذلك المنظار، وقد جلس ذلك الرجل الذي اقتفى مجرى تلك البحيرات العظيمة في هامستد حتى منبعها، وهز دنيا العلم بنظريته عن السمك «الزقزوق»، جلس ذلك الرجل هادئا لا يتحرك كمياه تلك البحيرات في عمق غورها، في يوم شديد الصقيع، أو كسمكة من تلك الأسماك في أدق زاوية من زوايا جرة من الصلصال، وقد ازداد هذا المنظر متعة، واشتد تشويقا، حين هبت الأصوات مرة واحدة من أفواه مريديه، تدعوه إلى إلقاء كلمة، وحين صعد ذلك الرجل الأمجد برفق إلى ذلك المقعد، «الوندسور» الذي كان من قبل جالسا فيه، وراح يخطب أهل النادي الذي كان هو مؤسسه، لقد كان ذلك منظرا مثيرا خليقا بدراسة فنان! فقد انثنى بكوك المفوه البليغ، وكانت إحدى يديه مختفية بشكل جميل خلف ذيل ردائه، والأخرى يلوح بها في الفضاء، يستعين على إلقاء خطبته الحماسية المتأججة، وقد كشفت وقفته المشرئبة عن حمائله، ولو أن تلك الحمائل ورباطي ساقيه كانت على رجل عادي، لجاز أن تمر دون ملاحظة، ولكنها على المستر بكوك - إذا جاز لنا هذا التعبير - كانت تثير الرهبة اختيارا لا افتعالا، وتدعو إلى الاحترام والإكبار، وقد أحاط به في مجلسه هذا أولئك الذين تطوعوا لمقاسمته أخطار أسفاره ورحلاته، والذين قدر لهم أن يشاركوه في مجد اكتشافاته، وعن يمينه جلس المستر تراسي طبمن ... طبمن المفرط في رقة الإحساس، والذي جمع إلى حكمة الشيب وحنكته، حماسة الشباب وحرارته، في أمتع مواطن الضعف البشري وأدعاها إلى الغفران ... وهو الحب، وقد اصطلح الزمان والغذاء الطيب على تسمين ذلك القوام الذي كان «قواما ممشوقا روائيا» في يوم من الأيام؛ فأصبح «صداره» الحريري الأسود أكثر على الدهر اتساعا، وأخذت سلسلة ساعته الذهبية تختفي من تحته، وتتوارى شيئا فشيئا من مرمى نظره، وبدأ ذقنه الرحيب يجور على حدود ربطة عنقه البيضاء، أما روحه ذاتها، فلم يطرأ عليها تحول ولا تبديل، وظل إعجابه بالجنس اللطيف العاطفة المتحكمة فيه. وعن يسار الزعيم العظيم جلس «سنود جراس» الذي أوتي نزعة شاعرية، وبجواره كذلك جلس الرياضي «ونكل»، وقد بدا أولهما في شكل شعري مرتديا «سترة» زرقاء غريبة، ذات طوق «ياقة» في مثل جلد الكلاب، وأما الآخر فقد أضاف بريقا ظاهرا على سترة صيد جديدة خضراء اللون، وربطة رقبة من صوف مخطط، وسروال ضيق لاصق ببدنه.
وقد سجلت خطبة المستر بكوك بهذه المناسبة والمناقشات التي دارت حولها في محاضر جلسات النادي، وهي شبيهة إلى حد بالغ بالمناقشات التي تدور في الهيئات الشهيرة الأخرى، ولما كان من الممتع تتبع وجوه الشبه بين تصرفات العظماء، فقد رأينا أن ننقل ما ورد في المحضر إلى هذه الصفحات.
كتب الأمين يقول: إن المستر بكوك لاحظ أن الشهرة عزيزة على قلب كل إنسان، فالشهرة الشعرية عزيزة على قلب صديقه «سنود جراس»، والشهرة بغزو الأفئدة عزيزة كذلك على قلب صديقه «طبمن»، والرغبة في كسب الشهرة في ميدان الصيد، برا وجوا وعلى الماء، أعز ما تكون مكانا من صدر صديقه «ونكل»، وأنه «أي المستر بكوك» لا يريد أن ينكر سلطان العواطف البشرية، وأثر الأحاسيس الإنسانية في نفسه «هتاف»، ولعله تأثر بمواطن الضعف البشري فيه «صيحات: حاشا»، ولكنه يجب أن يقول إنه إذا اشتعلت يوما في صدره نار الاهتمام بالذات، فإن إيثار الرغبة في نفع البشر كفيل فعلا بإخمادها، وإن مدح الجنس البشري هو ما يهتز له طربا، وحب الخير هو الضمان الكفيل به «هتاف حاد»، وإنه ليعترف بأنه قد شعر بشيء من الاعتزاز - وليستغل خصومه هذا القول ما شاء لهم الاستغلال - وهو معترف بهذا الشعور صراحة، أي نعم ... لقد شعر بشيء من الاعتزاز عندما قدم إلى العالم مذكرته بشأن نظرية السمك الزقزوق، ومن الجائز أن تحتفل الدنيا بها، أو لا تحتفل، «هتاف: تحتفل ... وتصفيق شديد»، وإنه ليلم بما أعلنه هذا البكوكي الموقر الذي سمع اللحظة صوته، وهو أنها قد احتفلت بها، ولكن إذا قيض لهذا البحث أن تمتد شهرته إلى أقصى حدود العالم المعروف، فإن الفخار الذي سوف ينظر به إلى وضع هذا المؤلف لا يقارن إطلاقا بذلك الفخار الذي ينظر به إلى ما حوله، في هذه الساعة التي يعدها أعز اللحظات في حياته «هتاف»، وهو رجل قليل الشأن، «حاشا ... حاشا»، ولكنه مع ذلك لا يسعه إلا أن يشعر بأنهم قد اختاروه لعمل عظيم، لا يخلو من بعض الخطر؛ فإن السفر ليس مأمونا، وعقول الحوذية غير موزونة ولا مستقرة، فلينظروا إلى الخارج، وليتأملوا المشاهد التي تجري من حولهم، فإن المركبات العامة تنقلب في كل ناحية، والخيل تحرن، والمراكب تنكفئ عاليها سافلها، والمراجل تنفجر «هتاف وصوت يصيح: كلا! كلا! هتاف»، فليتقدم حضرة العضو المبجل الذي صاح بقوله: «كلا»، ولينكر إن استطاع إلى الإنكار سبيلا، «هتاف» من هو الذي صاح «كلا»؟ «هتاف حماسي»، أهو رجل مغرور فاشل خائب - ولا أقول «بائع خردة» - «هتاف مدو»، أحس عقارب الغيرة تدب فيه من المذيع الذي وجه إلى بحوثه - أي بحوث المستر بكوك - وقد يكون غير جدير به، وأخذ يتلوى من حرقة الحملات التي توالت على محاولاته هو الضعيفة في ميدان المنافسة؛ فلجأ الآن إلى هذا الأسلوب الخبيث من الثلب والافتراء.
فقاطعه المستر بلوتن (من سكان أولدجيت)، ووجه إليه السؤال: هل حضرة العضو المبجل يعنيني بهذا التلميح؟ «صيحات: النظام ... الرياسة ... نعم ... كلا ... استمر ... دعوه يتكلم.»
ولكن المستر بكوك قال إنه ليس بالرجل الذي يسكته الصياح، وتثنيه الضجة عن مراده، فهو فعلا قد عنى بتلميحه السيد المحترم «ضجة عامة».
وقال المستر بلوتن إنه لا يقبل هذا الاتهام الباطل البذيء الذي اتهمه به السيد المحترم، بل يقابل هذا الاتهام باحتقار بالغ «هتاف شديد»، إن السيد المحترم مخادع «ضجيج وصيحات عالية: الرياسة ... النظام».
وهنا انبرى المستر أ. سنودجراس فألقى بنفسه على المقعد، وقال إنه يود أن يعرف هل يصح أن يسمح المجلس بأن يستمر هذا الخلاف المعيب بين عضوين من أعضاء النادي ... «مرحى ... مرحى!»
وقال الرئيس إنه واثق من أن العضو المحترم سيسحب التعبير الذي لجأ إليه منذ لحظة.
وأجاب المستر بلوتن بأنه مع احترامه العظيم للرياسة على يقين من أنه لن يسحبه.
وهنا أعلن الرئيس أنه يرى من واجبه المحتم أن يسأل السيد المحترم: هل استخدم هذا التعبير الذي أفلت اللحظة مني بالمعنى المتعارف؟
فلم يتردد المستر بلوتن في القول بأنه لم يقصد هذا المعنى، ولكنه استخدمه بمعناه «البكوكي» - «مرحى ... مرحى ...» - وأنه يجد لزاما عليه أن يعترف شخصيا بأنه يكن للسيد المبجل أرفع الاعتبار وأسمى التقدير، وأنه إنما عده «مخادعا» من وجهة النظر «البكوكية»، «مرحي ... مرحي ...»
وقال المستر بكوك إنه قد سر كثيرا بهذا التفسير الطيب الصريح التام من صديقه المبجل، وإنه يرجو أن يكون مفهوما في التو واللحظة أنه لم يكن يقصد بملاحظاته إلا تعبيرا «بكوكيا» ... «هتاف».
إلى هنا تنتهي الفقرات المقتطفة من المحضر، ولا يخامرنا الشك في أن المناقشة انتهت عند هذا الحد أيضا، بعد أن وصلت إلى هذه النقطة الموفقة الواضحة كل التوفيق والإيضاح، وليس لدينا بيان رسمي بالوقائع التي سيجدها القارئ مدونة في الفصل التالي، ولكنها بيانات جمعت بعناية من رسائل ومخطوطات أخرى، لا يختلف اثنان في صحتها وصدقها؛ مما يبرر روايتها في حلقات متصلة ...
اسم نوع من الأسماك.
الفصل الثاني
اليوم الأول من أيام الرحلة ... والأحداث التي جرت في مسائه ... والنتائج التي أسفرت عنها ... ***
طلعت الشمس، وهي الخادم المثابر في خدمة كل عمل، وبدأت تلقي ضياء على صبح اليوم الثالث عشر من شهر مايو سنة ألف وثمانمائة وسبع وعشرين، حين انبعث المستر صمويل بكوك من نومه، وأطل على العالم المترامي من تحته، وكان شارع «جوزول» عند قدميه، ممتدا عن يمينه إلى آخر مدى العين، ومتراميا عن شماله، وكان الجانب المقابل لهذا الشارع في الجهة الأخرى من الطريق، وراح المستر بكوك يناجي خاطره بقوله: «كذلك هي آراء الفلاسفة الضيقي النظر، الذين يقنعون بفحص الأشياء المترامية أمامهم، ولا ينظرون إلى الحقائق المحجوبة عنهم فيما وراء حدود أبصارهم، كما لو أني قنعت بإدامة النظر إلى شارع جوزول، دون أن أحاول مرة أن أخترق الربوع المحجوبة، التي تحيط به من كل ناحية.»
وما كاد المستر بكوك يتفوه بهذا الخاطر الجميل، حتى شرع يضع نفسه في ثيابه، ويضع ثيابه في حقيبته، وقلما ترى العظماء مدققين في تنسيق ملبسهم، ولم تلبث عملية الحلاقة واللبس ورشف القهوة أن تمت، وما هي إلا ساعة أخرى حتى كان المستر بكوك قد حمل حقيبته بيده، ووضع منظاره المعظم في جيب معطفه، و«مذكرته» في جيب صداره، وتهيأ لاستقبال أي اكتشافات جديرة بالتدوين، وقد وصل إلى موقف المركبات في شارع سانت مارتن موجراند.
وصاح المستر بكوك مناديا: «مركبة.»
وسمع صوتا يصرخ قائلا: «لبيك يا سيدي!»، وكان الصائح مخلوقا عجيبا، في سترة من الخيش، وميدعة من النوع ذاته، ولافتة من نحاس ذات رقوم حول رقبته، وقد بدا كأنه بعض المعروضات في مجموعة من التحف النادرة، وكان هذا هو «ساقي الخيل»، ومضى يردد قوله: «لبيك يا سيدي! حالا تأتي المركبة.» ولم يكد الساقي يحضر المركبة الأولى - وكان الحوذي قد ذهب إلى المقهى ليدخن قصبته الأولى - حتى ألقى المستر بكوك وحقيبته في جوفها.
وقال المستر بكوك: «مفترق جولدن.»
فصاح الحوذي في غضب مخاطبا صديقه الساقي: «تلك مسافة لا تزيد عن شلن يا تومي.»
وانطلقت العربة مبعدة.
وأنشأ المستر بكوك يسأل السائق وهو يحك أنفه بالشلن الذي أعده لدفع الأجرة: «كم عمر هذا الحصان يا صديقي؟»
وأجاب الحوذي وهو ينظر إليه بطرف عينه: «اثنتان وأربعون.»
فصاح المستر بكوك مبهوتا، وهو يضع يده على «مذكرته»: «ماذا تقول؟» فكرر الحوذي جوابه الأول، وعندئذ أطال المستر بكوك النظر في وجه الرجل، ولكن معالم وجهه ظلت جامدة لا تتحرك، فأكب المستر بكوك على «المذكرة» يدون فيها ما سمعه.
وعاد يسأله مستزيدا: «وما مدى الوقت الذي يبقى فيه «يعمل» كل مرة؟»
فأجاب الرجل: «أسبوعان أو ثلاثة أسابيع.»
قال في دهشة، وعاد يخرج المذكرة: «أسابيع!»
ومضى الحوذي يقول ببرود: «إنه يقيم في «بنتونويل» كلما ذهبنا به إلى مسكنه، ولكننا قلما نأخذه إليه بسبب ضعفه.»
وردد المستر بكوك مرتبكا قوله: «بسبب ضعفه!»
واستتلى الحوذي يقول: «إنه يسقط كلما أخرجناه من المركبة، ولكنه كلما كان مشدودا إليها، ممسوكا بحزم، مربوطا بإحكام، لا يستطيع السقوط، ولدينا زوج من العجلات المتينة فهي تتحرك في أثره إذا هو تحرك، فلا حيلة له غير المسير.»
وراح المستر بكوك يدون كل كلمة من هذا البيان في مذكرته؛ لإبلاغها إلى النادي، على أنها مثل فريد لقوة التشبث بالحياة عند الخيل في ظروف مجهدة، وما كاد يفرغ من التدوين حتى وصلت المركبة إلى «مفترق جولدن»؛ فوثب الحوذي من فوق مقعده، ونزل المستر بكوك من المركبة، وتسابق السيد طمبن، والمستر سنودجراس، والمستر ونكل إلى الترحيب به، وكانوا في لهفة ينتظرون وصول زعميهم المجيد.
ومد المستر بكوك يده بالشلن إلى الحوذي قائلا: «إليك أجرتك.»
ولشد ما كانت دهشة العالم؛ إذ رأى ذلك المخلوق غير المسئول يلقي بالشلن على الإفريز، ويطلب بالكناية والمجاز السماح له بمتعة الدخول معه - أي مع المستر بكوك - في عراك، نظير هذا القدر، فصاح المستر سنودجراس: «أنت مجنون.»
وقال المستر ونكل: «أو سكران.»
وقال المستر طبمن: «أو كلاهما.»
وقال الحوذي مبادرا إلى المناوشة: «هيا ... هيا ادخلوا لي أنتم الأربعة كلكم.»
وصرخ بضعة حوذية قائلين: «ذلك أمر عجيب! هيا يا سام اشتغل»، وأقبلوا في فرح بالغ يحيطون بالجمع.
وانبرى سيد في أكمام سود من البعثة يسأل السائق: ما سبب هذه «المعركة» يا سام؟
قال الحوذي: «عركة! لماذا يريد أن يدون (رقمي)؟»
وقال المستر بكوك في دهشة: «أنا لم أرد أن أدون (رقمك).»
فعاد الحوذي يسأله قائلا: «لماذا دونتها إذن؟»
وأجاب المستر بكوك بغضب: «أنا لم أدونها.»
وعاد الحوذي يقول مخاطبا النظارة المزدحمين حولهم: «هل يصدق أحد أن «مخبرا» ينتقل في مركبة إنسان، فلا يدون رقمه فقط، بل كل كلمة يقولها كذلك؟» وهنا لاحت فكرة بخاطر المستر بكوك ... فقد أدرك أن الحوذي يقصد «المفكرة».
وانثنى حوذي آخر يسأل: «هل فعل ذلك حقا؟»
فأجابه الأول قائلا: «أي والله لقد فعله، وبعد أن تحرش بي هكذا لمهاجمتي، جاء بثلاثة شهود هنا للإثبات، ولكني سأعطيها له ولو أخذت فيها ستة أشهر ... هيا ... أقبل علي ...» وألقى الرجل قبعته على الأرض بلا اكتراث لمتاعه، وأطار المنظار عن عيني المستر بكوك، وأتبع ذلك الهجوم بضربة على أنفه، وأخرى في صدره، وثالثة في عين المستر سنودجراس، ورابعة على سبيل التنويع في بطن المستر طبمن، وانثنى عنهم ليرقص في وسط الطريق، ثم يعود كرة أخرى إلى الإفريز، وأخيرا يخرج كل ما في صدر المستر ونكل من الهواء ... كل ذلك فعله في ست ثوان.
وصاح المستر سنودجراس قائلا: «يا شرطي!»
واقترح بائع فطير ساخن على الحوذي قائلا: «ضعهم تحت المضخة.»
ولهث المستر بكوك قائلا: «ستلقى على ما فعلت عقابا.»
وصاح النظارة المتألبون عليهم: «مخبرون!»
وارتفع صوت الحوذي قائلا وهو يلف ويدور بغير انقطاع: «هيا ... ادنوا مني ...»
وكان الغوغاء قد لبثوا إلى تلك اللحظة يشاهدون هذا المشهد، غير مشتركين فيه، ولكن ما كادت كلمة «مخبرين» تنتشر بينهم، حتى بدءوا يؤيدون بحماسة بالغة تنفيذ اقتراح بائع الفطير، ولا يعلم إلا الله مدى العدوان الذي كان من الجائز أن يرتكبوه لولا أن انتهت المعركة على غير انتظار بتدخل قادم جديد.
فقد انبرى شاب ناحل يكاد يلوح طويلا، وهو في سترة خضراء اللون، وقد خرج فجأة من فناء المركبات يقول: «ما هي القصة؟»
فعاد القوم يصيحون: «مخبرين!»
وعندئذ زأر المستر بكوك بلهجة تحمل معها الإقناع لكل سامع مجرد من الهوى: «لسنا كذلك!»
وقال الشاب مخاطبا المستر بكوك: «ألستم كذلك ... ألستم كذلك؟»، ومضى يشق طريقه وسط الزحام بتلك الحركة التي لا تخطئ الهدف، وهي دفعه بالمرفق وجوه كل من لقيه في طريقه.
وأنشأ ذلك العالم في بضع كلمات عاجلة يشرح له حقيقة الموقف.
وعندئذ قال الشاب ذو السترة الخضراء، وهو يسحب المستر بكوك في أثره بالقوة، ويستمر في الكلام وهو منطلق على هذا النحو: «تعال معي إذن ... وأنت يا رقم 924 خذ أجرتك، واذهب وشأنك ... هذا سيد محترم ... وأنا أعرفه حق المعرفة ... هذا كلام فارغ ... من هنا يا سيدي ... أين أصحابك؟ كل هذا نتيجة خطأ كما أرى ... لا بأس ... هذه حوادث تقع كل ساعة ... لأحسن الأسرات، وخيار الناس ... لا عليكم، ولا يهمكم الأمر ... سوء حظ صادفكم ... شدوه إلى مقعده ... ضعوا هذه في قصبته ... ليستطيب مذاقه ... مجرمون ملاعين ...»
مستر بكوك يحيى أعضاء النادي.
وبهذا الخيط الطويل من العبارات والجمل المتقطعة ونحوها، مضى الغريب يطلقها بذلاقة وسرعة غير مألوفة، مشى في المقدمة صوب «استراحة» الركاب، يتبعه المستر بكوك ومريدوه.
وصاح الغريب، وهو يدق الجرس بعنف بالغ: «يا غلام ... هات دورا من البراندي والماء، ساخنا وقويا، وحلو المذاق وموفورا ... هل أصاب عينك أذى يا سيدي؟ ... يا غلام! قطعة من لحم العجول نيأة لعين السيد؛ ليس ثمة علاج أفضل للرضوض من هذا اللحم النيئ يا سيدي ... إن عمود النور البارد مفيد جدا، ولكنه غير مريح ... لأنه يقتضي وقوفك في الشارع في العراء نصف ساعة، لاصقا عينيك بالعمود ... مفيد جدا ... ها ... ها ... وانثنى الغريب دون أن يتمهل لحظة ليملك أنفاسه، يرتشف في جرعة واحدة نصف لتر من البراندي والماء القراح، وتهالك على مقعد بكل بساطة، كأن شيئا غير مألوف لم يحدث إطلاقا.
وبينما كان الأصحاب الثلاثة في شغل شاغل بتقديم شكرهم لهذا الرجل الجديد الذي عرفوه، أتيح للمستر بكوك أن يتأمل لباس الرجل ومظهره، فبدا له أنه يكاد يلوح أنه ربعة، وإن جعلته نحافة جسمه واستطالة ساقيه يبدو أطول كثيرا مما هو في الواقع، وكانت السترة الخضراء لباسا رشيقا في تلك الأيام، التي شاعت فيها الأردية ذوات الأذيال الشبيهة بأذيال «الخطاطيف»، ولكن الواقع أنها في ذلك العهد كانت أليق برجل أقصر من هذا الغريب كثيرا؛ لأن أردانها القذرة الناحلة اللون لا تكاد تصل إلى معصميه، وكانت مزررة عليه إلى ذقنه تزريرا شديدا، حتى ليخشى أن تتفتق من الظهر، وقد زان رقبته بلفافة قديمة، فلا أثر عليه لبنيقة من قميص، وقد بدت في مواضع متفرقة من سراويله القصيرة السود رقعات براقة تتحدث عن طول العهد بالابتذال، وهي مشدودة بإحكام إلى حذاء مرقع، كأنما أريد بها إخفاء الجورب الأبيض المتسخ، وإن ظهر مع ذلك واضحا للعيان، وقد أفلتت من شعره الأسود المستطيل موجات مهملة من تحت كل جانب من جوانب قبعته المرقعة، كما كانت تلوح لمحات من معصميه العاريين بين أعالي قفازيه وأردان سترته، وكان وجهه ناحلا شاحبا منهوكا، وإن شاع على الرجل ذاته أثر لا يوصف من جرأة مرحه، واعتداد تام بالذات.
هذا هو الرجل الذي راح المستر بكوك يطيل النظر إليه من خلال منظاره الذي كان لحسن الحظ قد استرده، وانثنى - بعد أن استنفد أصحابه قواهم في التعبير عن شكرهم - يقدم إليه في عبارات منتقاة أصدق الشكر على معونته.
ولكن الغريب قاطعه قائلا: «لا بأس ... كفى ... ولا مزيد ... ذلك الحوذي ... نشيط ... يحسن استخدام كفه ... ولو كنت صاحبكم في هذه المعركة، فليلعني الله في كل كتاب، إذا أنا لم أكن قد كسرت دماغه ... ليتني فعلت ... همس خنزير ... وبائع الفطير أيضا ... كلام جد.»
وقطع على الرجل فيض هذا الكلام غير الموصول دخول حوذي العربة الحافلة التي ستسافر إلى روشيستر؛ ليعلن أن «الكومادور» على وشك القيام.
فلم يكد الغريب يسمع اسم المركبة حتى استوى في دهشة قائمة وهو يقول: «الكومادور» هذه مركبتي التي حجزت فيها مقعدا لي، في خارجها ... الآن أترككم لتدفعوا ثمن البراندي والماء ... نريد فكة خمسة ... نقود فضية رديئة ... شيء زائف ... أزرار لا تغني ... ولا تعني ... آه؟
ومضى يهز رأسه هزة الفطن العارف كل شيء، وصادف أن المستر بكوك وصحبه الثلاثة كانوا قد انتووا أن يجعلوا «روشيستر» أول محطة ينزلون بها هم أيضا، فبعد أن أفهموا صاحبهم الجديد بلباقة أنهم مسافرون إلى المدينة ذاتها، اتفقوا على أن يشغلوا المقعد المقام في ظهر المركبة؛ حتى يتسنى لهم جميعا الجلوس معا.
وانطلق الغريب يقول للمستر بكوك: «هب ... اطلع ...»، ومضى يعاونه على الصعود إلى السقف في سرعة بالغة، حتى لقد كاد يفسد وقار ذلك السيد، وجلال سمعته إلى حد كبير.
وسأل الحوذي الرجل الغريب: «هل معك أمتعة يا سيدي؟»
فأجاب قائلا: «من ... أنا؟ إضمامة في ورق لف هنا ... هذا هو كل ما لدي ... أما الأمتعة الأخرى فقد شحنت في المركب، صناديق معبأة محكمة بالمسامير ... ضخمة كالبيوت ... ثقال الوزن ... فوادح ... ملعونة ...»، وانثنى خلال قوله هذا يحشر في جيبه ما استطاع حشره من الحزمة الملفوفة في الورق الأسمر، التي توحي - في أغلب الظن - بأنها تحوي قميصا واحدا ومنديلا.
وصاح الغريب الكثير الكلام بأولئك الرفاق محذرا: «احرصوا على رءوسكم ... رءوسكم!» ... حين رآهم يجتازون الباب المنخفض الذي كان يقوم في تلك الأيام، ويوصل إلى فناء المركبات.
واسترسل يقول: «موضع بشع ... بناء خطر ... منذ أيام ... خمسة أطفال وأمهم، سيدة طويلة، وهي تأكل «الشطائر» ... فنسيت الباب ... طاخ ... الأولاد يتلفتون حولهم ... وإذا برأس الأم يطير عن جسدها، والشطائر في يدها ... لم يعد هناك فم تدخل فيه ... رأس أسرة يطير في الفضاء ... منظر بشع ... بشع ... ألا تنظر يا سيدي إلى هوايتهول؟ ... موضع بديع ... شرفة صغيرة ... لقد طار رأس إنسان آخر هنا، أليس كذلك يا سيدي؟ ... لأنه هو أيضا لم يحاذر كثيرا، ولم ينتبه ... أليس كذلك يا سيد؟»
وقال المستر بكوك: «إنني اللحظة أفكر في عجيب الصروف والتقلبات التي تتعرض لها شئون الناس وأمورهم.»
وأجاب الغريب قائلا: «آه ... قل لي هذا ... على باب القصر يوما، ويوما آخر يلقى من الشرفة ... أفيلسوف أنت يا سيدي؟»
قال: «مجرد ملاحظة للطبيعة البشرية وغرائبها يا سيدي.»
وأجاب الغريب: «آه ... وأنا كذلك، وأكثر الناس هكذا، هذا شغل من ليس له شغل ... وأنت يا سيد ... أشاعر؟»
فأجابه المستر بكوك بقوله: «إن لصديقي المستر سنودجراس نزعة قوية إلى الشعر.»
وقال الغريب: «... وأنا كذلك ... ولي ملحمة في عشرة آلاف بيت، نظمتها في ثورة يوليو ... ووضعت أبياتها في محل الواقعة ... عطارد نهارا، وأبوللو ليلا ... ضرب من مدافع الميدان ... وشعر عناء وألحان ...»
وانبرى المستر سنودجراس قائلا: «أكنت حاضرا ذلك المشهد المجيد يا سيد؟»
قال: «حاضرا، أحسبني كذلك،
1
وأطلقت فيه النار من بندقية ... وكان إطلاقي عن فكرة ... ثم اندفعت إلى حانة شراب ... فكتبت القصيدة ... ثم عدت ... طاخ ... طاخ ... فكرة أخرى ... والعودة ثانية إلى الحانة ... إلى القلم والدواة ... عدت كرة أخرى ... طعن وضرب ... أيام رائعة يا سيدي.»
والتفت فجأة إلى المستر ونكل فسأله: «أرياضي أنت يا سيدي؟»
فأجاب ذلك السيد بقوله: «قليلا يا سيدي.»
قال: «ولوع جميل يا سيدي ... ولوع جميل ... أكلاب يا سيدي؟»
قال: «ليس الآن.»
قال : «آه ... يجب أن تقتني كلابا ... حيوانات جميلة ... مخلوقات ذكية ... كان لي يوما كلب ... من نوع «البوينتر»
2
المؤشر - غريزة مدهشة ... خرجت به يوما للصيد ... فلقينا في طريقنا أرضا فضاء مسورة ... أطلقت له صفيرا ... فوقف الكلب عن المسير ... وعدت أصفر له ... بونتو لا يريم ... وقف جامدا لا يتحرك ... ناديته: بونتو ... بونتو ... لا يبغي حراكا ... كأنما قد وخز وخزا ... وقف يحملق في لوح ... تطلعت إلى اللوح ... رأيت هذه العبارة مكتوبة عليه «لدى الحارس أوامر بإطلاق النار على كل كلب يدخل هذه الأرض المسورة» ... هذا هو سر وقفته، لا يريد اجتياز ذلك اللوح ... إنه لكلب عجيب ... كلب قيم ... جدا.»
قال المستر بكوك: «ظرف غريب هذا ... أتسمح لي أن أدونه؟»
قال: «بلا شك ... يا سيدي، بلا شك عشرات أخرى من النوادر والحكايات عن هذا الحيوان، إن أردت.»
واستدار الغريب نحو المستر تراسي طبمن، وكان هذا منشغلا بإلقاء نظرات منافية للمبادئ البكويكية، على فتاة في الطريق فقال: «بنت حلوة يا سيدي؟»
فأجاب المستر طبمن: «جدا.»
قال: «بنات الإنجليز لسن في جمال بنات الأسبان ... مخلوقات نبيلات ... شعر فاحم ... أعين سود ... أجسام محببة ... مخلوقات حلوة ... حسان.»
فسأله المستر طبمن قائلا: «أزرت أسبانيا ياسيدي؟»
قال: «عشت فيها ... أجيالا.»
قال: «أولك فيها غزوات كثيرة يا سيدي؟»
قال: «غزوات ... آلاف ... دون بولارو فزجيج ... جراندي ... له ابنة وحيدة ... ألدونا كريستينا ... إنسانة بديعة ... أحبتني إلى حد الوله ... الوالد غيور ... بنت رفيعة النفس ... إنجليزي وسيم ... يتولى اليأس قلب ألدونا كريستينا ... تتناول حمض «البروسيك» ... في حقيبتي جهاز لغسيل المعدة ... إجراء عملية لها ... الشيخ بولارو في فرح بالغ ... يوافق على الزواج ... مصافحة وفيض عبرات ... قصة رائعة ... جدا ...»
وعاد المستر طبمن وقد تأثر بوصف مفاتنها بالغ التأثر يسأله: «هل السيدة في إنجلترا الآن يا سيدي؟»
قال الغريب وهو يضع على عينه اليمنى بقية صغيرة من منديل حريري قديم: «ماتت يا سيدي ... ماتت ... لم تشف من غسيل المعدة ... تحطمت بنيتها ... راحت ضحية.»
فسأله الشاعر سنودجراس: «وأبوها؟»
وأجاب الغريب: «ندامة وفجيعة ... اختفاء فجائي حديث المدينة كلها ... البحث في كل مكان ... بلا جدوى ... نافورة عامة في الساحة الكبرى تكف فجأة عن النفث ... أسابيع تنقضي ... لا تزال منقطعة عن نفثها ... يدعى العمال لتنظيفها ... ينزحون ماءها ... يعثرون على جثة عمي، محشورة الرأس في المضخة الرئيسية ... واعتراف مفصل في جوف نعله الأيمن ... أخرجوه ... عادت النافورة تنفث الماء كما كانت.»
وقال المستر سنودجراس من فرط تأثره: «هل لي أن أدون هذه القصة الغرامية الصغيرة يا سيدي؟»
قال: «بلا شك يا سيدي، بلا شك، وخمسين أخرى إذا شئت لها سماعا ... غريبة كقصتي ... رواية غريبة ... ليست خارقة للمألوف ... ولكن فريدة.»
وعلى هذا النحو مضى الغريب في الحديث، بين كئوس من شراب تتخلله، كلما وقفت المركبة لتغيير الخيل، حتى وصلوا إلى جسر روشستر، وكانت مذكرتا المستر بكوك والمستر سنودجراس قد امتلأتا بمختارات من هذه الأحداث كل الامتلاء.
وانثنى المستر أجستس سنودجراس يقول بكل الحماسة الشعرية التي امتاز بها، حين ألموا على الحصن القديم الباذخ في المدينة: «يا له من طلل عظيم!» وكانت الكلمات التي خرجت من فم المستر بكوك وهو يرفع المنظار المعظم إلى عينيه: «إنها لدراسة خليقة بأن يتولاها عالم من علماء الآثار!»
وقال الغريب: «آه ... موضع بديع ... بناء مجيد ... جدران عابسات ... أبواب متداعية ... أركان مظلمة ... مدارج متهاوية ... كنيسة قديمة أيضا ... رائحة ترابية ... أقدام الحجيج أبلت السلم القديم ... أبواب سكسونية صغيرة ... كراسي اعتراف كشبابيك تحصيل النقود في المسارح ... أولئك الرهبان زبائن غريبو الأطوار ... باباوات وأمراء خزائن، وكل صنوف الشيوخ والهرمين، بوجوههم العراض الحمر وأنوفهم المهشمة ... يتوافدون في كل يوم ... أردية مزردة كذلك ... بنادق ذوات أزندة ... توابيت موتى ... موضع بديع ... وأساطير قديمة كذلك ... وقصص وغرائب ... شيء مفتخر!» ومضى الغريب في هذه المناجاة حتى وصلوا إلى فندق الثور - بول إن - في شارع «هاي ستريت»؛ حيث وقفت المركبة عن المسير ...
وسأله المستر نثنايل ونكل: «أنازل هنا يا سيدي؟»
قال: «هنا ... كلا، ولكن لخير لكم ... منزل طيب ... وسرر ممتعة ... أما منزل «رايت» الملاصق، ففادح الأجر ... فادح جدا ... ولكنه نصف كراون في فندق الثور، إذا أخذت بالك من الخادم بزيادة في الأجر إذا أنت تغديت عند صديق، أكثر مما لو تناولت الطعام في المقهى ... أناس عجيبون ... جدا.»
والتفت المستر ونكل إلى المستر بكوك وغمغم ببضع كلمات، وتبادل المستر بكوك والمستر سنودجراس الهمس، وتهامس المستر سنودجراس والمستر طبمن، وتبادل القوم هز الرءوس هزة الموافقة.
ووجه المستر بكوك الخطاب إلى الغريب.
قال: «لقد أسديت إلينا صنيعا كبيرا جدا في هذا الصباح يا سيدي، فهل تأذن لنا في تقديم دليل يسير على عرفاننا لك وشكرنا، بالتماس حظوة الجلوس إليك على الغداء.»
قال: «بكل سرور ... لا أقصد أن أفرض شيئا عليكم ... ولكن دجاجة مسلوقة وعش الغراب ... شيء فاخر ... كم الساعة؟»
قال المستر بكوك وهو ينظر إلى ساعته: «دعني أنظر ... إنها الآن تقارب الثالثة ... هل نقترح الخامسة مثلا؟»
قال: «يوافقني هذا الموعد كل الموافقة ... الخامسة بالضبط ... وإلى أن نلتقي خذوا بالكم من أنفسكم.»
ومضى الغريب يرفع القبعة المطبقة بضع بوصات من فوق رأسه، ثم أعادها باستخفاف إلى موضعها، منحرفة كثيرا إلى ناحية، وانطلق في خفة يجتاز الفناء، ولا يزال نصف الإضبارة الملفوفة في الورق الأسمر بارزا من جيبه، واتجه صوب شارع «هاي ستريت».
وقال المستر بكوك: «الظاهر أنه جوابة تنقل في عدة أقطار، ودقيق الملاحظة لأمور الناس والأشياء.»
قال المستر سنودجراس: «وددت لو اطلعت على قصيدته.»
وقال المستر ونكل: «وددت لو أني شاهدت ذلك الكلب.»
أما المستر طمبن فلم يقل شيئا، وإنما ذهب خاطره في أثر «ألدونا كريستينا»، ومغسل المعدة والفوار، وقد امتلأت عيناه بالعبرات.
وبعد أن انتهى الجمع من استئجار حجرة جلوس خاصة، ومعاينة غرف النوم، والتوصية بتهيئة الطعام، خرجوا إلى الطريق لمشاهدة معالم المدينة، وما يحيط بها.
ولسنا نجد من مطالعتنا الدقيقة للملاحظات التي دونها المستر بكوك عن المدن الأربع: استراود، وروشستر، وشاتم، وبرومتون، اختلافا يذكر في مبلغ آثارها في نفسه عن أي تأثير لها في نفوس الآخرين من المسافرين الذين زاروا تلك المدائن، فلا يصعب علينا تلخيص وصفة العلم لها.
فقد كتب المستر بكوك في مذكراته يقول: «إنه ليلوح لي أن أهم ما تنبت هذه المدن جنود وبحارة ويهود، وطباشير وبراغيث بحر، وضباط وعمال أحواض، وأما السلع المعروضة للبيع في الطرقات فهي في الأغلب الأعم أمتعة بحرية، وخبز يابس، وتفاح، وسمك موسى، ومحار «جندوفلي»، وتبدو الشوارع ملأى بالحياة والحركة، ومردهما غالبا إلى مرح العسكريين ومجونهم، وإنه لبهيج حقا لمن أوتي خاطرا نزاعا إلى حب الخير أن يشهد أولئك الخلائق الأرداء، وهم مترنحون من أثر الإفراط في أكل اللحوم، وشرب الكحول الشديد، ولا سيما إذا تذكرنا أن السير في إثرهم والممازحة معهم كفيلان بلهو رخيص، ومتعة بريئة للغلمان من أهل المدينة.»
وواصل المستر بكوك قوله في مذكراته: «ولست أحسب شيئا يمكن أن يفوق خفة روحهم، فقد حدث في اليوم السابق لوصولي أن أحدهم أهين أشد الإهانة في حانة؛ إذ رفضت الساقية بتاتا أن تقدم له شرابا أكثر مما تعاطى، فما كان منه لمجرد التسلية إلا أن أخرج «سونكته» من غمدها، وجرح الفتاة في كتفها، وكان هذا الفتى البديع أول من قصد إلى الحانة في غداة اليوم التالي، وأبدى استعداده للتغاضي عن المسألة ونسيان ما جرى.
ومضى المستر بكوك يقول في مذكراته: «وأكبر ظني أن استهلاك التبغ في هذه المدائن كبير جدا، وأن الرائحة التي تعم الشوارع تتجاوز الحد في الزكاوة والعبق في أنوف المولعين بالتدخين المفرطين فيه، وقد ينفر المسافر الذي لا يعنى بغير المسائل السطحية من القذر الذي هو من أخص خواص هذه المدن، ولكنه يبدو سارا مرضيا لمن يكسبه دليلا على كثرة الحركة فيها، ورخائها التجاري ...
وفي تمام الخامسة قدم الغريب، وأعد الطعام بعد قليل، وكان قد تخلص من إضمامة الورق الأسمر الملففة، وإن لم يحدث تغييرا في لباسه، وانقلب أكثر ثرثرة من قبل.
قال وقد رأى الغلام يرفع أحد الأغطية: «ما هذا؟»
فأجابه الغلام: «سمك موسى يا سيدي.» - سمك موسى ... آه هذا سمك فاخر ... يأتي كله من لندن ... إن أصحاب الحافلات يعاونون في إقامة المآدب السياسية ... مركبات ملأى بسمك موسى ... عشرات من السلال ... إنهن مكرة ... كأس من النبيذ يا سيدي ...
وقال المستر بكوك: «بكل سرور.»
وبدأ الغريب بكأس نبيذ مع المستر بكوك أولا، ثم أخرى مع المستر سنودجراس، وثالثة مع المستر طبمن، ورابعة مع المستر ونكل، وخامسة مع الجمع كلهم، في عجلة تكاد تشبه عجلته في الكلام.
وانثنى إلى الغلام فقال: «زحمة ملعونة على السلم ... يا غلام ... أشباح تصعد، ونجارون يهبطون ... مصابيح وأقداح ومعازف ... ما الخبر؟»
فأجاب الغلام: «مرقص يا سيدي.»
قال: «اجتماع؟»
أجاب: «كلا يا سيدي ليس اجتماعا ... بل مرقص خيري يا سيدي.»
وهنا انثنى المستر طبمن يسأل باهتمام بالغ: «أفي هذه المدينة نساء حسان كثيرات؟ ... هل تعرف يا سيدي؟»
فصاح الغريب: «بديع ... مفتخر ... إنها «كنت» يا سيدي ... كل إنسان يعرف «كنت» بشهرة تفاحها وكرزها، وحشيشة دينارها ونسائها، ألك في كأس من النبيذ يا سيدي؟»
فأجاب المستر طبمن: «بكل سرور.»
وراح يملأ الكأس ويفرغها.
وعاد المستر طبمن إلى موضوع «الرقص»، فقال: «أحب كثيرا أن أحضره ... كثيرا جدا.»
وعاجله الغلام بقوله: «التذاكر عند مكان الشرب يا سيدي ... التذكرة بنصف جنيه يا سيدي.»
فعاد المستر طبمن يبدي رغبة صادقة في حضور السيد المرقص، ولكنه لم يجد استجابة له في عين المستر سنودجراس العابسة، ولا في نظرة المستر بكوك الذاهلة، فأقبل باهتمام بالغ على النبيذ والنقل الذي كان قد وضع منذ لحظة فوق المائدة.
وقفل الغلام راجعا، وخلا الجمع للاستمتاع بساعتين هنيئتين قضوهما في عشاء موفق.
وانبرى الغريب عندئذ يقول: «عفوا يا سيدي إن الزجاجة واقفة ... أدرها علينا ... في اتجاه الشمس ... خلسا لا تدع لها من ثمالة ... وراح يفرغ كأسه، وكان قد أترعها شرابا منذ دقيقتين أو نحوهما، وملأ أخرى ملأة رجل عريف بالشراب، عاف عليه.
وطاف النبيذ على الجميع، وطلبوا مزيدا، وطفق الضيف يتكلم، والبكويكيون يستمعون، وكلما مرت لحظة ازداد المستر طبمن ميلا إلى حضور المرقص، وطفح محييا المستر بكوك بشرا وحبا للخير العام، بينما ذهب المستر ونكل، والمستر سنودجراس في سبات عميق.
وانثنى الغريب يقول: «لقد بدءوا في الطبقة العليا مهرجانهم ... ألا تسمعون أنغام الكمان ... ها هو ذا المعزف ... لقد بدءوا .»
وكانت الأصوات والأنغام المختلفة التي وجدت طريقها إلى الطبقة الدنيا إيذانا بابتداء الرقصة الأولى.
فعاد المستر طبمن يقول: «ما أشوقني إلى الذهاب!»
وأجاب الغريب: «وأنا كذلك ... ولكن أمتعتي عليها اللعنة لم تصل بعد ... الشحنات ثقال ... ليس عندي ما أرتديه لأدخل، أمر غريب، أليس كذلك؟»
وكان حب الخير من المعالم البارزة للنظرية البكويكية، ولم يكن أحد أكثر حماسة، وأجلى غيرة، في مراعات هذا المبدأ، من المستر تراسي طبمن حتى لا يكاد أمر يصدق كثرة الشواهد، والأمثلة المدونة في محاضر جلسات النادي، على ما كان هذا الرجل المتناهي في حب الخير وإيتاء البر، يرسله من الخيرات والصدقات إلى بيوت أعضاء آخرين، أو يتركه من ثياب، أو يبادر به من معونة مالية.
فلا عجب إذا هو انثنى يقول: «إني ليسعدني أن أعيرك حلة من ثياب لهذا الغرض، ولكني أراك نحيفا، وأراني ...»
فعاجله الغريب قائلا: «سمينا كباخوس البدين،
3
وهو يقطع الأوراق، ويترجل من فوق القصعة في رداءة مختارة من صوف خشن ... آه؟ غير مقطر مرتين، بل مطحون طحنتين ... ها ... ها ... أدر النبيذ ...»
ولسنا ندري إلى الآن على وجه اليقين، هل أحس المستر طبمن شيئا من الغضب من تلك اللهجة الجدية الآمرة التي طلب بها إليه أن يدير النبيذ الذي طواه الغريب سريعا في جوفه، أم أحس أنه قد أزري فعلا به، وهو العضو الكبير النفوذ في نادي بكوك؛ إذ شبه على هذه الصورة المعيبة بباخوس المترجل عن قصعته، ولكنه أدار النبيذ وسعل سعلتين، ولبث ينظر إلى الرجل عدة ثوان بتجهم شديد وعبوس ظاهر، بينما بدا هذا هادئا كل الهدوء، ساكنا كل السكينة، تحت نظرته الفاحصة وحدجته القاسية.
وخف ما به شيئا فشيئا، فعاد إلى حديث المرقص.
قال: «لقد هممت أن أقول لك يا سيدي إنه إذا كان ثوبي عليك واسعا مفرط السعة، فلعل ثوب صديقي المستر ونكل أليق عليك، وأصلح سمتا.»
وانثنى الرجل الغريب يأخذ مقاس المستر ونكل بنظراته، وما لبث أن تهللت منه الأسارير رضى وارتياحا، وهو يقول: «بالضبط!»
ونظر المستر طبمن حوله فتبين له أن النبيذ الذي أحدث تأثير المنوم الشديد التخدير في كل من المستر سنودجراس والمستر ونكل، قد دب دبيبه في حواس المستر بكوك، فإن ذلك السيد راح ينتقل رويدا من مختلف المراحل التي تسبق الغيبة، من تأثير الطعام ومعقباته، وتحول إلى مرحلة الانتقال العادية من ذروة الفرح والمرح إلى غور الاكتئاب، ومن غور الاكتئاب إلى ذروة الفرح والمرح، وبدا لحظة كمصباح الغاز في الطريق ساطعا وهاجا، إلى حد غير طبيعي، ثم هبط حتى كاد نوره يتوارى وبريقه يخبو، وما هي إلا فترة قصيرة حتى توهج مرة أخرى هنية؛ ليعود فيرفرف، ويخفق، مرسلا ضوءا مترنحا مترقصا، وإذا هو في النهاية ينطفئ جملة واحدة، فقد تراخى رأسه على صدره، ولم يعد من دليل مسموع على وجود ذلك الرجل العظيم غير غطيطه المستمر، إلا من حشرجة عابرة بين الحين والحين.
وكان عامل الإغراء بمشاهدة الرقص، ولتكوين فكرة عن حسان نساء «كنت» قويا في نفس المستر طبمن، كما كان كذلك شديدا في نفس الرجل الغريب، فقد كان المستر طبمن يجهل هذا الموضع كل الجهل، ولا يعرف شيئا مطلقا عن أهله وسكانه، بينما بدا له أن الغريب عليم بهما كل العلم، كأنه أقام في تلك الجهة منذ طفولته.
وكان المستر ونكل نائما، وقد أوتي المستر طبمن قدرا كافيا من الخبرة بهذه المسائل، فلا يخفى عليه أن صاحبه لا يكاد يفتح عينيه وينتبه من غفوته، حتى ينطلق بالطبع متثاقلا إلى فراشه.
ولكنه لبث مترددا لا يقطع في الأمر برأي، وسمع الضيف الذي لا يكل ولا يمل يقول: «املأ كأسك، وأدر الزجاجة.» ففعل ... وجاء تأثير الكأس الأخيرة، فأزال بقية ما في نفسه من التردد، وحفزه إلى الاعتزام؛ فأنشأ يقول: «إن غرفة نوم المستر ونكل داخل غرفتي، ولن يتيسر لي أن أشرح له ما أريد إذا أنا أيقظته الساعة، ولكني أعرف أن لديه ثوب سهرة، قد أودعه جوف حقيبة من قماش، فأي بأس من ارتدائك إياه لدخول المرقص، وخلعه عنك عند عودتك، فأرده إلى صفه، دون حاجة إلى إزعاجه بهذا الأمر ونحوه؟
قال: «إنها لفكرة بديعة بحق ... خطة بارعة! ... يا له من موقف لعين ... أربع عشرة حلة في الصناديق ... وأضطر إلى ارتداء ثوب رجل آخر ... فكرة حسنة جدا ... هذه ... حسنة جدا.»
وقال المستر طبمن: «لنشتر التذاكر إذن.»
قال: «الأمر لا يستحق فك جنيه من أجله ... فلنعمد إلى القرعة، لنرى من الذي يدفع عن نفسه وصاحبه معا ... سأنادي ... وأنت تدبر ... وسأختار أنا المرأة ... المرأة ... هيا أيتها المرأة الساحرة!»
وهوى الجنيه ثم استقر، فإذا المرأة هي العليا ... أو على الأصح «الحية المجنحة»، وإن سماها الرجل «المرأة» من قبيل الأدب والمجاملة.
ودق المستر طبمن الجرس، فابتاع التذكرتين، وأمر بإحضار شموع.
ولم ينقض ربع ساعة، حتى كان الرجل الغريب قد انتهى من ارتداء ثوب المستر ونكل بكامل طاقمه.
وراح المستر طبمن يقول للغريب وهو يتطلع إلى شكله بارتياح بالغ في المرآة: «إنه ثوب جديد، وهو الأول من نوعه الذي فصل تفصيلا، وعليه شارة نادينا»، ومضى يسترعي نظر صاحبه إلى الزرار الكبير المذهب على الصدر، والذي نقشت في وسطه صورة نصفية للمستر بكوك، وعلى جانبيه الحرفان «ن.ب».
4
وقال الغريب: «ن.ب ... صورة عجيبة ... تامة الشبه بالشيخ ... ن.ب ... وماذا تعني ن.ب هذه؟» - «باهرة ...؟ إيه.»
فأنشأ المستر طبمن في غيظ متزايد واعتداد بالغ، يشرح له المعنى المراد.
وانثنى الرجل الغريب يقول: «ألا ترى أنها ضيقة من الخصر نوعا ما ... أليست كذلك؟»
قال هذا وهو يدور حول نفسه ليرى في المرآة أزرار الخاصرة، وقد بدت في منتصف الطريق إلى أعلى ظهره، وعاد يقول: «كأنها ثوب مأمور البريد ... هذه سترات غريبة ... معمولة بعقد، فلا قياس ولا أخذ أبعاد، ما أغرب تصريف العناية الإلهية ... كل القصار يعطون ثيابا طوالا ... وكل الطوال يعطون ثيابا قصارا.»
وعلى هذا النحو انطلق صاحب المستر طبمن أو رفيقه الجديد في ثرثرته، وهو يصلح من ثوبه، أو على الأصح من ثوب المستر ونكل، حتى إذا انتهى صحب المستر طبمن، وذهبا يصعدان السلم المؤدي إلى قاعة الرقص.
وقال الرجل الواقف بالباب : «الأسماء ... من فضلك.»
وتقدم المستر طبمن ليعلن عن نفسه، ولكن الرجل الغريب منعه قائلا: «لا أسماء مطلقا ...» وأقبل يهمس للمستر طبمن: «إن الأسماء لا تجدي، إذا كانت غير معروفة، قد تكون حسنة في ذاتها ... ولكنها ليست أسماء كبيرة ... قد تصح الأسماء المعروفة في حفلة صغيرة، ولكنها لا تحدث تأثيرا في الحفلات، والاجتماعات العامة ... فلنتنكر ... هذا خير وأفضل ... سيدان من لندن ... أجنبيان كبيران ... أي شيء ...»
وفتح الباب، ودخل المستر طبمن والغريب قاعة الرقص.
وكانت حجرة طويلة، صفت فيها أرائك مكسوة بأغطية قرمزية اللون، ونصبت خلالها الشموع في ثريات زجاجية، وكان الموسيقيون جلوسا وحدهم فوق منصة عالية، وقد حوت الحلبة زوجين أو ثلاثة أزواج من الراقصين على أنغام المعازف، وقد وضعت منضدتان للميسر في غرفة مجاورة خصصت للعب الورق، وبدأت أربع سيدات متقدمات في العمر، ومثل عددهن من الرجال البدينين، منهمكين في المقامرة.
وانتهى الرقص، وانطلق الراقصون يتنقلون في أرجاء القاعة، واتخذ المستر طبمن ورفيقه مكانا لهما في ركن؛ ليتفقدا القوم.
وقال الغريب: «انتظر لحظة، لا يلبث الفصل البديع ... أن يبدأ ... معاشر الوجهاء والسادات لم يحضروا بعد ... هذا بلد غريب ... أصحاب الطبقة العليا من أهل أحواض السفن لا يعرفون الطبقة الدنيا ... وهؤلاء لا يعرفون صغار السادات ... وصغار السادات لا يعرفون أرباب الحرف والمهن ... والوكيل لا يعرف أحدا.»
قال المستر طبمن: «ومن يكون ذلك الغلام الصغير، ذو الشعر الأشقر، والعينين القرنفليتين، الذي يبدو في ثوب تنكري؟»
فأجاب الغريب قائلا: «صه ... أرجوك ... العينان القرنفليتان، والثوب المستعار ... والغلام الصغير ... هراء ... شارة الآلاي السابع والتسعين ... هذا الشريف ويلموت سنايب ... أسرة عظيمة ... آل سنايب ... عظيمة جدا ...»
وفي هذه اللحظة صاح الرجل الواقف بالباب بصوت عال: «السير توماس كلابر، والسيدة كلابر، والآنسة كلابر.» وإذا ضجة تسري في أرجاء القاعة على دخول سيد فارع القد في ثوب أزرق، وأزرار براقة، وسيدة ضخمة في ثوب حريري أزرق، وشابتان من الوزن عينه في ثياب مهندمة، من اللون ذاته.
وهنا همس في أذن المستر طبمن: «الوكيل ... رئيس الأحواض ... رجل عظيم ... رجل عظيم إلى حد كبير ...» وكان أعضاء اللجنة الخيرية قد أفسحوا الطريق أمام السير توماس كلابر وأسرته إلى صدر القاعة، وتزاحم الشريف ويلموت أسنايب، وغيره من السادات الأعلام ليؤدوا التحيات للآنستين كلابر، بينما وقف السير توماس كلابر منصوب القامة، وراح ينظر بجلال من فوق لفافة عنقه السوداء إلى المجتمعين من حوله.
ولم تمض لحظة أخرى حتى نادى المنادي: «المستر اسميثي ... والسيدة اسميثي ... والآنستان اسميثي ...»
فسأل المستر تراسي طبمن رفيقه: «ومن يكون المستر اسميثي؟»
قال: «إنسان ما في الأحواض.»
وانحنى المستر اسميثي باحترام للسير توماس كلابر، ورد السير توماس كلابر على التحية بتنازل ظاهر، وألقت الليدي كلابر نظرة «تلسكوبية» على آل اسميثي من خلال منظارها، وحملقت مسز اسميثي بدورها البصر في سيدة أخرى سواها لم يكن زوجها قط في زمرة أهل الأحواض وأصحابها.
وأقبل على أثر هؤلاء آل بولدر ... الأميرالاي بولدر، ومستر بولدر، ومسز بولدر.
وأجاب الرجل الغريب على نظرة التساؤل التي بدت في عين المستر طبمن بقوله: «قائد الحامية ...»
واستقبلت الآنستان كلابر الآنسة بولدر بترحيب حار، وكان السلام الذي تبودل بين مسز بولدر، والليدي كلابر أبلغ ما يكون حرارة ومودة، بينما تبادل الأميرالاي بولدر والسير توماس كلابر حق «النشوق»، وبدا كل منهما على حد قول ألكسندر سلكيرك في مطلع القصيدة المعروفة: «أنا الملك على كل ما يقع عليه ناظري ...»
5
وبينما كان سادات الحفل: آل بولدر، وكلابر، وأسنايب على هذا النحو محافظين على وقارهم في صدر القاعة، كان غيرهم من أهل الطبقات المختلفة في المجتمع يحاولون الاقتداء بهم، في أرجاء أخرى منها، ومضى ضباط «الآلاي» السابع والتسعين، ومن هم دون أولئك عراقة وجاها يتوددون لنساء من هم أقل شأنا، بين موظفي الأحواض، وكبار العاملين فيها، كما انثنت زوجات «الوكلاء» والمحامين، وزوجة تاجر النبيذ، يرأسن طبقة أخرى (وكانت امرأة تاجر الجعة تزور آل بولدر في دارهم)، والظاهر أن مسز توملينسن، زوجة وكيل البريد قد وقع عليها الاختيار بالاجماع رئيسة لطبقة التجار وأرباب المهن.
وكان من أبرز الشخصيات في دائرته وأرمقها مكانة رجل قصير القامة بدين، له حلقة من الشعر الأسود ملتفة حول رأسه، وصلعة مستديرة جرداء على أم ناصيته، ويدعى الدكتور «سلامر» الطبيب في الآلاي السابع والتسعين، وقد مضى يتبادل النشوق مع كل إنسان، ويتحدث إلى كل إنسان، ويضحك ويرقص وينكت، ويلعب الميسر، ويفعل كل شيء، ويتراءى في كل مكان، وقد جمع هذا الطبيب القصير إلى كل هذه «الفعال» على كثرتها، فعلة أخرى أهم منها جميعا وأكبر شأنا ... وهي الإلحاح في غير كلال على تقديم أوفر نصيب، وأغزر قسط لا ينفد من الرعاية والاحتفال إلى أرملة عجوز قصيرة، ينم ثوبها النفيس ويشف إفراطها في الزينة والحلي عنها كأشهى غنيمة لذي دخل محدود.
وظل نظر المستر تراسي طبمن وصاحبه - فترة من الوقت - يستقر على الطبيب والأرملة، ولم يلبث الرجل الغريب فجأة أن بدد الصمت بقوله: «مال وفير ... هذه العجوز ... هذا الطبيب الفخور المتباهي ... فكرة لا بأس بها ... لعبة طيبة ...»
ونظر المستر طبمن إلى الغريب - وهو منطلق في هذه العبارات الغامضة - نظرة المستفسر المتسائل، فقال هذا: «سأرقص مع هذه الأرملة.»
قال: «ومن تكون؟»
قال: «لا أدري ... ما رأيتها من قبل في حياتي، هذا الطبيب لعنه الله ... ها هو ذا ينصرف.»
واجتاز الغريب القاعة مسرعا، فاستند إلى رف موفد، وراح يطيل النظر في إعجاب موقر حزين إلى وجه تلك السيدة القصيرة العجوز، ولبث المستر طبمن يشاهد هذا المنظر في دهشة صامتة.
وتقدم الغريب في سبيل تحقيق مأربه بخطوات سراع، فقد كان الطبيب في تلك اللحظة يراقص سيدة أخرى، وسقطت المروحة من يد الأرملة، فأسرع الغريب في التقاطها، وقدمها إليها، فكان الابتسام، فانحناء، فتحية، فكلام، ومضى الغريب بجرأة إلى رئيس الاحتفال وعاد به، وتلا ذلك تعارف صامت، وإذا الغريب ومسز بادجر يأخذان مكانهما في دور رقص.
وكانت دهشة الطبيب تتجاوز - إلى حد لا يوصف - دهشة المستر طبمن من هذا التصرف السريع، على شدة هذه الدهشة نفسها، فقد كان الغريب شابا في نضارة العمر، فلا عجب إذا بدأت الأرملة مزهوة فرحة به، فلم تعد تأبه بتلطف الطبيب وتحببه إليها ، ولم يجد غضبه مطلقا على مزاحمة البادئ الذي لبث ساكنا لا يعبأ بتاتا ... فقد وقف الطبيب جامدا في مكانه كأنما أصابه الشلل ... أفمثله وهو الدكتور سلامر طبيب الآلاي السابع والتسعين، ينطفئ نوره في لحظة ويخبو ضرامه من رجل لم يره من قبل أحد، ولا يعرفه أحد حتى الآن؟! الدكتور سلامر ... الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين يلفظ وينبذ على هذه الصورة! ... مستحيل ... ولا يمكن أن يحدث ... ولكنه مع ذلك حدث، بل هو حادث فعلا ... وها هما هذان واقفان معا ... ما هذا؟ ... يقدم صديقه إليها للتعارف! ... أيمكن أن يصدق عينيه؟ ... وعاد ينظر مرة أخرى ... وآلمه أن يعترف كارها بأن عينيه صدقتاه ... وها هي ذي مسز بادجر تراقص المستر تراسي طمبن ... تلك حقيقة واقعة لا ينفع فيها تخطئة ولا تكذيب ... وها هي ذي السيدة أمامه يتوثب جسدها ويقفز من هاهنا وهاهنا، بقوة لم تؤلف منها، وها هو ذا المستر تراسي طبمن يحجل في كل ناحية، وينم وجهه عن أشد الجد وأبلغ الوقار، وإنه ليرقص - كما يفعل خلق كثير من الناس - كأن الرقص على الأنغام ليس شيئا يبعث الضحك، ويدعو إلى المرح، بل تجربة قاسية للمشاعر، تقتضي مواجهتها عزما قويا لا يلين.
واحتمل الطبيب هذا كله بصبر وصمت، وتجلد لكل ما تلاه من تقديم شراب، وارتقاب كئوس، ومسارعة إلى «بقسماط» وغزل، ولكن لم تكد تنقضي بضع ثوان على اختفاء الغريب ليرافق السيدة بادجر إلى مركبتها، حتى اندفع الطبيب مسرعا من القاعة كالسهم، وقد فارت كل ذرة من غضبه المكظوم، وبدت فورتها على كل ناحية من وجهه عرقا متصببا من شدة الحنق ...
وبينما كان الغريب عائدا، والمستر طبمن بجانبه، راح يتحدث إليه في همس ضاحكا، فقال: «إن الطبيب القصير ظمآن، يريد أن يشرب من دمه ...»
وكان الغريب في فرح بالغ ... لأنه المنتصر.
وتقدم الطبيب نحوه، فقال بصوت مرعب وهو يقدم إليه بطاقته وينزوي به في ركن من «الدهليز»: سيدي! ... إن اسمي سلامر، الدكتور سلامر، يا سيدي ... من الآلاي السابع والتسعين ... ثكنات شاتام ... وها هي ذي بطاقتي يا سيدي.
وكان يريد أن يسترسل، ولكن الغيظ خنق أنفاسه.
وأجاب الغريب ببرود: «آه ... سلامر ... متشكر جدا ... رعاية جميلة منك ... لست في هذه الساعة مريضا يا سلامر ... ولكني سأطرق بابك إذا مرضت.»
وزفر الطبيب من فرط الغضب، وتقطعت أنفاسه، وانثنى يقول: «أنت نصاب يا سيدي ... نذل ... جبان ... كذاب، ألا شيء يمكن أن يحملك على إعطائي بطاقتك يا سيدي»
فأجاب الغريب - وهو يكاد يخاطب نفسه: «آه ... فهمت ... الخمر هنا باطشة ... وصاحب الفندق سيد سمح كريم ... الأمر سخيف جدا ... شراب الليمون أفضل كثيرا ... والحجرات حارة، والخمر في الصباح أليمة ... للسادة المسنين ... قاسية ... شديدة ...»
وتحرك خطوة أو خطوتين ...
وقال الرجل القصير الغضوب: «أنت نازل في هذا الفندق يا سيدي ... وأنت سكران الآن طافح يا سيدي ... وستسمع عني صباح غد يا سيدي ... سأعرف من أنت يا سيدي ... أنا غدا واجدك ...»
وأجاب الغريب، وهو جامد لا يتحرك: «إني لأفضل أن تجدني خارج الفندق على أن تجدني في داخله ...»
وبدا الدكتور سلامر في صورة افتراس مكبوت عاجز عن الإفصاح، وهو يثبت قبعته فوق رأسه بحركة انفعال.
وراح الغريب، والمستر طبمن يهبطان السلم إلى غرفة النوم ليعيدا الثياب المستعارة إلى صاحبها، وونكل النائم لا يدري مما حدث شيئا ...
وكان المستر ونكل في ثبات عميق، فلم يلبثا أن انتهيا من إعادة الثياب إلى مكانها بسلام، وكان الغريب في حالة مجون متناهية، بينما راح المستر طبمن في ذهوله من أثر النبيذ الذي تناوله على الطعام، والخمر التي شربها في المرقص، وسطع الأنوار، وكثرة الغيد، يحسب الأمر كله «نكتة» بديعة.
وما كاد صاحبه ينصرف، حتى أخذ يحاول في شيء من الجهد الاهتداء إلى الشق الذي كان قد وضع فيه «قلنسوة النوم»، حتى لقد قلب الماثلة وهو يحاول وضع القلنسوة بعد العثور عليها فوق رأسه، ولم يتيسر له الوصول إلى فراشه إلا بعد سلسلة من الترنحات والفترات، ولكنه لم يلبث أن راح في سبات عميق.
وما كادت الساعة تكف عن دق السابعة من صباح اليوم التالي حتى تنبه ذهن المستر بكوك، الجامع، المدرك، الواعي من الغيبوبة التي هبط فيها من أثر النوم، على دقات عنيفة تطرق باب مخدعه.
فاستوى في فراشه وهو يقول: «من الطارق؟»
قال الطارق: «بوتس، يا سيدي.»
قال: «ماذا تريد؟»
أجاب: هل تتفضل يا سيدي فتنبئ من فيكم يرتدي سترة زرقاء فاتحة، وعليها زرار مذهب نقش عليه الحرفان «ن.ب»؟
فخطر للمستر بكوك أن السترة قد أعطيت إليه لتنفيضها، وأن الرجل نسي لمن هي ... فصاح قائلا: «المستر ونكل ... وهو في الغرفة التي بعد هذه بغرفتين إلى اليمين ...»
قال بوتس: «شكرا لك يا سيدي.» ... وانصرف.
وصاح المستر طبمن، حين سمع دقا شديدا ببابه أيقظه من سباته العميق: «ما الخطب؟»
فأجابه بوتس من الخارج: «هل أستطيع أن أكلم المستر ونكل يا سيدي؟»
فنادى المستر طبمن صاحبه النائم في الغرفة الداخلية: «ونكل ... ونكل.»
وسمع صوتا خافتا يرد عليه من تحت الغطاء: «هالو ... ماذا تريد؟»
قال: «أنت مطلوب ... أحد الناس واقف بالباب يطلبك ...»
وما إن تمكن المستر طبمن من النطق بهذه الكلمات بعد جهد جهيد، حتى استدار في فراشه، وعاد يغط في نوم عميق.
وقال المستر ونكل لنفسه: «أنا مطلوب!» وأسرع في القفز من فراشه، وألقى على جسده شيئا من ثياب وهو يقول: «مطلوب وأنا على هذه المبعدة من المدينة؟ ومن ترى هذا الذي يطلبني؟»
وفتح الباب، فوجد بوتس أمامه ...
قال هذا حين رآه: «إن سيدا في قاعة القهوة يطلب لقاءك، ويقول إنه لن يستغرق غير لحظة من وقتك، ولا يقبل اعتذارا.»
قال المستر ونكل: «أمر غريب جدا ... سأنزل حالا.»
وبادر إلى الاشتمال «بلفافة» سفر وجلباب نوم، وانطلق يهبط الدرج، فوجد عجوزا وبعض الخدم ينظفون قاعة القهوة، وضابطا في ثوب عسكري غير ثوب السهرة مطلا من النافذة.
والتفت الضابط عند دخول المستر ونكل، وأحنى رأسه انحناءة جامدة، وبعد أن أمر الخدم بالانصراف وأغلق الباب بكل عناية، انثنى يقول: «المستر ونكل ... أظن ذلك؟»
قال هذا: «نعم، أنا ونكل يا سيدي.»
قال: «لن يدهشك يا سيدي أن أنبئك أنني قدمت إلى هنا في هذا الصباح موفدا من قبل صديقي الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين ...»
قال: «الدكتور سلامر!»
قال: «نعم، الدكتور سلامر، وقد طلب إلي أن أبلغك رأيه في تصرفك الليلة البارحة، وهو أنه تصرف لا يمكن أن يحتمله سيد مهذب، وقد أضاف قوله: إنه تصرف لا يتصرفه سيد في حق سيد آخر ...»
وكانت دهشة المستر ونكل أصدق وأجلى من أن تفوت صديق الدكتور سلامر، ولهذا واصل حديثه قائلا: «لقد طلب إلي صديقي الدكتور سلامر أن أضيف أيضا أنه يعتقد اعتقادا جازما أنك كنت ثملا في فترة من الليل، ولعلك لم تع مدى الإهانة التي اقترفتها، وقد عهد إلي أن أقول لك: إنه إذا كان ذلك عذرا تلتمسه لتصرفك، فلا مانع لديه من قبول اعتذار مكتوب بخطك، وإملائي إياه عليك ...»
فراح المستر ونكل يردد القول في أبلغ لهجة ممكنة تنم عن الدهشة: «اعتذار مكتوب!»
فأجابه الزائر ببرود: «إنك بالطبع تعرف الوجه الآخر من الموقف إذا لم تفعل.»
قال المستر ونكل، وقد ارتبك ذهنه كل الارتباك من هذا الحديث غير المألوف: «هل كلفت حمل هذه الرسالة إلي بالاسم؟»
قال: «لم أكن شخصيا حاضرا، وإنما كلفت - بعد أن رفضت رفضا قاطعا أن تقدم بطاقتك إلى الطبيب - أن أتحقق من قبل ذلك السيد من شخصية الرجل الذي كان مرتديا سترة غير مألوفة، ذات لون أزرق خفيف، وزرار مذهب عليه صورة نصفية وحرفان، وهما: «ن.ب».
واضطرب ونكل من الدهشة، وهو يسمع هذا الوصف الدقيق لثوبه.
واسترسل صديق الدكتور سلامر يقول: «وقد اقتنعت من التحقيق الذي أجريته اللحظة في مكان الشراب، أن صاحب ذلك الثوب وصل إلى هنا، مع ثلاثة من السادات، أصيل أمس، فأوفدت في الحال رسولا إلى الرجل الذي وصف لي بأنه رئيس الجماعة، فأحالني في التو واللحظة إليك ...»
ولو أن البرج الأكبر في حصن روشستر زايل فجأة مكانه، وهوى قبالة نافذة قاعة القهوة، لما كانت دهشة المستر ونكل شيئا يصح أن يقارن بدهشته البالغة التي سمع بها ذلك الحديث، وكان أول خاطر قام في نفسه أن الثوب قد سرق، فلم يسعه إلا أن يقول للزائر: «هل تأذن لي في احتجازك لحظة واحدة؟»
فأجابه الزائر الثقيل غير المرحب به: «بلا شك.»
وجرى المستر ونكل مسرعا إلى الطبقة العليا، وفتح الحقيبة بيد راجفة؛ فوجد الثوب كما هو في موضعه المألوف، ولكنه بعد تحقيق دقيق تبين أن عليه آثارا ظاهرة توحي بأنه قد لبس في الليلة الماضية.
قال وهو يدع الثوب يسقط من يديه: «لا بد من أن يكون الأمر كذلك ... فقد أفرطت في النبيذ بعد الغداء، ويخيل إلي أنني ذهبت أطوف الشوارع وأدخن «سيجارا» بعد ذلك ... الواقع أنني كنت سكران ... ولا بد من أنني غيرت ثيابي، وذهبت إلى مكان ما وأهنت أحد الناس ... لا شك في ذلك عندي، وهذه الرسالة هي العاقبة الوخيمة ...»
وعاد المستر ونكل أدراجه إلى قاعة القهوة معتزما عزمة أليمة مرعبة، وهي أن يقبل الدعوة التي وجهها إليه الدكتور سلامر لمبارزته، وليكن من الشر ما يكون.
وقد دفعته إلى اتخاذ هذا السبيل عدة اعتبارات ... أولها: سمعته في النادي، فقد كان منظورا إليه أبدا على أنه حجة عالي الكعب في كل الشئون المتصلة بالتسلية والبراعة الرياضية، سواء الهجومية منها والدفاعية والبريئة، فإذا هو انزوى وتراجع في أول مناسبة يوضع فيها موضع التجربة، أضاع سمعته وفقد مكانته في غير رجعة. وثانيا: أنه تذكر أنه كثيرا ما سمع من المجربين الخبراء بهذه المسائل ونحوها، أن هناك تفاهما بين الشهود، على أن المسدسات في هذه الأحوال قلما تكون محشوة رصاصا، وخطر له أيضا أنه إذا طلب إلى المستر سنودجراس أن يكون شاهده، فقد ينبئ هذا السيد الخبر إلى علم المستر بكوك، وهذا بلا شك لن يضيع وقتا في إبلاغه إلى السلطات المحلية؛ ليحول دون مصرع مريده، أو إصابته بعاهة دائمة، أو جرح بالغ ...
تلك هي الخواطر التي جالت في ذهنه حين عاد إلى المقهى، وأفضى بعزمه على قبول الدعوة التي وجهها إليه الدكتور سلامر إلى المبارزة.
وقال الضابط الموفد من قبله: «هلا أحلتني إلى صديق لك ؛ لكي نتفق معا على موعد اللقاء ومكانه؟»
فأجاب المستر ونكل: «لا ضرورة تدعو لذلك ... عين أنت الزمان والمكان، وأنا أتولى إحضار صديق بعد ذلك.»
قال الضابط في لهجة مستخفة: «أتقول ... بعد غروب شمس هذا النهار؟»
قال: «حسن جدا.» وإن كان في أعماق قلبه يراه سيئا جدا.
قال: «أتعرف حصن بت؟»
أجاب: «نعم ... رأيته أمس.»
قال: «إذا تكرمت وعرجت على الساحة التي تتاخم الخندق، وأخذت الدرب الممتد عن الشمال، حتى تصل إلى زاوية من الحصن، وانطلقت في وجهك، فسوف تراني؛ لكي أذهب بك إلى موضع منعزل، ننهي فيه هذه المسألة، دون خشية من قدوم أحد يعوقنا، أو يقطع علينا أمرنا.»
فقال المستر ونكل في نفسه: «خشية من قدوم أحد يعوقنا!»
وقال الضابط: «أظن أن لا شيء آخر يقتضي التدبير.»
وأجاب المستر ونكل: «لست أعرف أن هناك شيئا آخر، طاب صباحك.»
قال: «طاب صباحك.» وانطلق يرسل صفيرا مرحا ...
وانقضى الإفطار ثقيلا غير شهي، وكان المستر طبمن في حال لا تمكنه من مغادرة غرفته بعد ذلك الإفراط في الشراب على غير عادته في الليلة البارحة، وبدا المستر سنودجراس كأنما يعاني انقباضا وهبوطا نفسيا وركودا شعريا، بل راح المستر بكوك نفسه يبدي نزوعا غير مألوف إلى ملازمة الصمت، والإقبال على «ماء الصودا»، بينما لبث المستر ونكل يرقب الفرصة المواتية، ولكن انتظاره لسنوحها لم يطل، فقد ذهب المستر سنودجراس يقترح الخروج لزيارة الحصن، ولم يكن أحد من الجميع ميالا إلى الخروج غير المستر ونكل، فانطلقا معا إليه.
وما كادا يبتعدان من الطريق العام، حتى راح المستر ونكل يقول: «أي سنودجراس، يا صديقي العزيز ... سنودجراس.»
قال ذلك وهو يرجو مخلصا صادقا أن يرد قائلا: إن ذلك ليس في إمكانه ... - «هل في إمكاني أن أعتمد عليك في أمر يستوجب الكتمان؟»
ولكنه أجاب بقوله: «لك ذلك ... هل تريد أن أقسم لك ... إني ...» قال مقاطعا، وقد روعته فكرة إقدام صاحبه قبل أن يعلم جلية الخبر على التعهد بكتمان السر ... وعاد يقول: «كلا ... لا تقسم ... لا تقسم، فليس ثمة ضرورة .»
وعندئذ أرخى المستر سنودجراس اليد التي كان - بدافع الروح الشعرية - قد رفعها إلى السماء وهو يهم بأن يقسم، واتخذ سيماء الترقب والإنصات.
وواصل المستر ونكل حديثه قائلا: «أريد عونك يا صديقي العزيز في مسألة تتصل بالشرف.»
قال وهو يشد يد صاحبه: «حبا وكرامة.»
فمضى المستر ونكل يقول - وقد أراد أن يجعل المسألة رهيبة ما أمكن: «إن الأمر يتعلق بواقعة حال مع طبيب ... مع الدكتور سلامر، من الآلاي السابع والتسعين ... واقعة مع ضابط، دعوة إلى المبارزة، سيحضر فيها ضابط آخر شاهدا عند غروب الشمس، هذا النهار، في موضع منعزل خلف حصن «بت» ...»
وقال المستر سنودجراس: «سأحضر معك.»
وقد تولته الدهشة مما عرفه، ولكنه لم يرع مطلقا، والمشاهد في هذه المسائل أن الذين لا يعنيهم الأمر فيها يبدون أقل انفعالا إلى حد غير مألوف، وأكثر هدوءا من الشخص المقدم عليه، وكان المستر ونكل قد نسي ذلك وغاب عنه، وراح يقيس شعور صاحبه بشعوره ...
ومضى يقول: «قد تكون العاقبة مروعة.»
قال: «أعتقد أن الدكتور سلامر يجيد الرماية إلى حد بالغ.»
وعاد المستر سنودجراس يجيب بهدوء: «أكثر هؤلاء العسكريين هم كذلك ... ولكنك لا تقل عنهم في هذا الشيء كذلك؟»
وأمن المستر ونكل على قوله، وأدرك أنه لم يستطع تخويف صديقه إلى الحد الكافي، فانتقل بالحديث إلى موضوع آخر.
قال بصوت مفعم بالانفعال: «سنودجراس ... إذا سقطت في هذا القتال، فسوف تجد رسالة مني إلى أبي، داخل رزمة سأضعها بين يديك.»
ولكن هذا الهجوم لم ينجح كذلك ... نعم لقد تأثر المستر سنودجراس، ولكنه تعهد بحمل الرسالة وتسليمها باستعداد ورضى، كأنه ساعي بريد يحمل كتبا ورسالات إلى الناس.
واستولى المستر ونكل يقول: «إذا سقطت، أو إذا سقط الطبيب، فسوف تحاكم يا صديقي العزيز؛ لاشتراكك في الأمر ومساعدتك على تنفيذه ... فهل تراني مورطا صديقي في هذه المسألة ... وقد أعرض حياته للخطر؟»
وغمز المستر سنودجراس بعينه لسماع هذا القول، ولكن بطولته كانت غلابة قاهرة، فصاح بحماسة قائلا: «في سبيل الصداقة لأواجهن كل المخاطر ...»
ولشد ما سب المستر ونكل ولعن في أعماقه صداقة صاحبه وتفانيه، وهما منطلقان في صمت جنبا إلى جنب بضع لحظات، وكل منهما غارق في لجج أفكاره.
وبدأ الصباح ينقضي، فازداد المستر ونكل يأسا من صاحبه وتململا، فوقف فجأة عن المسير، وانثنى يقول له: «أي سنودجراس، لا تحل بيني وبين هذا الأمر، ولا تبلغ السلطات المحلية عنه ... ولا تستعن برجال الأمن على احتجازي، أو احتجاز الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين؛ لمنع هذه المبارزة ... أقول: لا تفعل ذلك.»
فتناول المستر سنودجراس يد صديقه بحرارة، وهو يجيب بحماسة قائلا: «أبدا ... ولو وهبت الدنيا وهبا.»
وسرت رعدة في كيان المستر ونكل، حين اقتنع بأن لا أمل له في إثارة المخاوف في نفس صديقه، وحين استولت عليه قوة اليقين بأنه قد قدر عليه أن يكون هدفا ماثلا للرصاص.
وبعد أن شرح الواقعة للمستر سنودجراس، واستؤجرت المسدسات ولوازمها من البارود والرصاص والكبسول، من تاجر في روشستر، عاد الصديقان إلى الفندق، وخلا المستر ونكل للتفكير في المعركة المنتظرة، وعمد المستر سنودجراس إلى تدبير أسلحتها وترتيبها؛ استعدادا لاستخدامها في الحال.
وكان الأصيل بليدا سقيما، حين انطلقا مرة أخرى في هذه «الرحلة» الغريبة، وكان المستر ونكل قد تزمل برداء فضفاض سابغ؛ حتى لا يراه أحد، بينما حمل المستر سنودجراس تحت معطفه أسلحة القتال وآلات الموت.
قال المستر ونكل بلهجة مضطربة: «هل أعددت كل شيء؟»
وأجاب المستر سنودجراس: «كل شيء ... وقدرا موفورا من الذخيرة، إذا لم تحدث الطلقات تأثيرا، وفي الصندوق أيضا ربع رطل من البارود، وفي جيبي جريدتان للتعمير.»
وكانت هذه الشواهد أمثلة على صدق المودة التي لا غرابة في شعور المرء فيها بأبلغ العرفان لصديقه، ولكن القرائن توحي بأن عرفان المستر ونكل لصنيع صديقه كان أبلغ وأقوى من أن يجد كلاما يقال، أو تعبيرا لفظيا يصوره، فلا عجب إذا هو أخلد إلى الصمت، وظل سائرا في طريقه بخطوات أدنى إلى البطء.
وراح المستر سنودجراس يقول وهما يتسلقان سياج الساحة الأولى: «لقد جئنا في الموعد، فإن الشمس منحدرة إلى المغرب.»
فتطلع المستر ونكل إلى قرصها المتواري، وتملكه عندئذ خاطر أليم، وهو لعله أيضا موشك على «الانحدار» والمغيب.
وبعد أن سار الصديقان بضع دقائق، صاح المستر ونكل قائلا: «ها هو ذا الضابط.»
قال: «أين؟»
أجاب: «هناك، ذلك السيد المتزمل بقباء أزرق ... فنظر المستر سنودجراس صوب الموضع الذي أشار إليه صديقه بسبابته، فلمح شخصا مزملا كما وصفه، وأبدى الضابط انتباهه إلى وجودهما بإشارة خفيفة من يده، فتبعه الصديقان على قيد خطوات منه، وهو يبتعد منصرفا.
وجعل المساء يزداد في كل لحظة بلادة وإعتاما، وهبت ريح حزينة على تلك المساحات المهجورة صافرة، كأنها صفير عملاق جبار من بعيد لكلب بيته، كما أضافت كآبة الموضع أثرا من اكتئاب على مشاعر المستر ونكل؛ فأحس رجفة، وهما يجتازان زاوية الخندق، فقد بدت له أشبه بقبر ضخم رهيب.
وما لبث الضابط أن تحول فجأة عن الدرب، وبعد أن تسلق سياجا واجتاز سورا من عوسج، دخل ساحة منعزلة، فإذا سيدان في انتظاره، أحدهما قصير القامة بدين أسود الشعر، والآخر سيد وجيه في معطف سابغ مزركش، وقد جلس في هدوء تام فوق مقعد من مقاعد المعسكرات.
وقال المستر سنودجراس: «أحسبهما الخصم والطبيب ... هلا تناولت قطرة من «البراندي»؟ فتناول المستر ونكل الزجاجة من كف صاحبه، وتناول رشفة مستطيلة من الشراب المنعش الذي احتوته.
وأنشأ المستر ونكل يقول عندما اقترب الضابط منهما: «هذا صديقي المستر سنودجراس يا سيدي ...» فانحنى صديق الدكتور سلامر، وأخرج حقيبة مماثلة للحقيبة التي كان المستر سنودجراس يحملها.
وانثنى الضابط يقول ببرود وهو يفتح الحقيبة: «أظن يا سيدي أن لا شيء آخر يمكن أن تقوله، بعد أن رفض تقديم الاعتذار رفضا قاطعا ...»
وأجاب المستر سنودجراس، وقد بدأ هو الآخر يشعر بشيء من الانزعاج: «لا شيء يا سيدي.»
وعاد الضابط يقول: «هلا تقدمت خطوة؟»
قال: «بكل تأكيد ...»
وقيست المسافة، وتمت التدابير الأولية.
وقال الشاهد الآخر وهو يخرج المسدسات: «ستجد هذه أفضل من مسدساتك ... لقد رأيتني وأنا أحشوها ... فهل لديك مانع من استخدامها؟»
وأجاب المستر سنودجراس: «كلا، بلا شك.»
وقد أحس أن الضابط قد أراحه من ارتباك شديد؛ لأن حشو المسدس لم يكن شيئا هو به العارف الخبير.
ومضى الضابط يقول باستخفاف شديد، كأن المبارزين قطع من الشطرنج، وكأن الشاهدين من اللاعبين: «يصح لنا إذن أن نوقفهما في مكانهما.»
وأجاب المستر سنودجراس بالموافقة، وكان يسعه أن يوافق على أي شيء يقترح عليه؛ لأنه كان بكل شيء من هذا الأمر جاهلا.
وعندئذ تقدم الضابط إلى الدكتور سلامر، ومشى المستر سنودجراس إلى المستر ونكل.
قال وهو يقدم المسدس إليه: «كل شيء قد أعد ... هات قباءك.»
قال: «تماما ... والآن ثباتا ... واجنح له!»
وقال المستر ونكل المسكين: «لقد سلمتك الرسالة يا صديقي العزيز.»
وخطر للمستر ونكل أن هذه النصيحة أشبه بما ينصح به النظارة أصغر غلام في معركة تقوم بين الصبية في الشارع، وهي قولهم: «ادخل عليه واغلبه!» كلام جميل، ونصيحة بديعة، لو كنت تعرف حقا كيف يكون الدخول والغلب، ولكنه حسر عنه قباءه في صمت، وكان خلع ذلك القباء يستغرق عادة وقتا طويلا، وتناول المسدس، وتراجع الشاهدان، كما تراجع السيد الجالس فوق مقعد المعسكر، وراح كل غريم يدنو من غريمه.
وكان المستر ونكل معروفا بالتناهي في إنسانيته، وقد قيل: إن نفوره من إيذاء آدمي مثله عمدا وقصدا هو الذي جعله يغمض عينيه عندما وصل إلى البقعة الرهيبة المعينة له، وأن إغماضه حال بينه وبين رؤية سحنة الدكتور سلامر الغريبة، ووجهه العجيب، ونظراته الغامضة؛ فقد لبث هذا السيد يحملق مليا، ثم إذا هو يرتد خطوات، ويفرك عينيه، ثم يعود فيحملق، وإذا هو أخيرا يصيح قائلا: «قف. قف!»
وأنشأ يوجه القول إلى صديقه، وإلى المستر سنودجراس حين خفا إليه: «ما هذا كله؟ ... ليس هذا هو الشخص المقصود!»
وقال صديق الدكتور سلامر: «ليس هذا بلا شك ... ليس هذا بالرجل الذي أهانني الليلة البارحة!»
وصاح الضابط: «هذا شيء عجاب!»
وانثنى حامل المقعد قائلا: «حقا! ... إن المسألة إذن هي: هل ينبغي ألا نعد السيد الماثل أمامنا من الوجهة الشكلية الشخص الذي أهان صديقنا الدكتور سلامر ليلة أمس، وهل هو حقيقة أو ليس هو؟»
وما كاد يدلي بهذا الاقتراح، وبلهجة الحكيم الفطين، حتى تناول نشقة من حق سعوطه، ومضى يدير عينيه فيمن حوله، في صورة الحجة المثبت في هذه المسائل.
وكان المستر ونكل قد فتح عينيه وأذنيه أيضا، حين سمع خصمه ينادي بوقف القتال، وتبين - كما قال فيما بعد - أن هناك خطأ وقع في الأمر، بلا أدنى شك، فلم يلبث أن أدرك ما هو حتما ظافر به من الشهرة وحسن الصيت، إذا هو أخفى حقيقة الدافع الذي حفزه إلى القدوم، ولهذا تقدم بجرأة فقال: «لست أنا الرجل المقصود ... وأنا أعرف ذلك.»
وهنا قال السيد صاحب المقعد: «إذن هذه إهانة في حق الدكتور سلامر، وسبب كاف للأخذ في الإجراءات حالا.»
ولكن الضابط الشاهد انبرى له قائلا: «أرجوك يا «بين» أن تلتزم الهدوء، ودعني أسألك يا سيدي لماذا لم تفهمني بهذه الحقيقة صباح اليوم؟»
وعاد السيد صاحب المقعد يقول غاضبا: «مؤكد ... مؤكد.»
وقال الآخر: أرجوك أن تسكت يا «بين» ... هل تسمح يا سيدي بأن أعيد عليك سؤالي؟»
فأجاب المستر ونكل، وقد وجد فسحة من الوقت للتفكير فيما عسى أن يكون جوابه: «لأنك ... يا سيدي ... لأنك وصفت رجلا ثملا غير مهذب، يلبس سترة أتشرف بارتدائها، بل لي الشرف بابتكار تفصيلها ... وهي الشعار الذي اقترحته يا سيدي لأعضاء نادي بكوك في لندن، وإني على شرف هذا الثوب لحفيظ، ولهذا قبلت على الفور بغير تحقيق ولا سؤال الدعوة التي وجهتها إلي ...»
وهنا قال الطبيب القصير المرح، وهو يتقدم إليه باسطا يده: «إنني يا سيدي العزيز مكبر شهامتك، بل اسمح لي يا سيدي أن أبدي لك شديد إعجابي بمسلكك، وبالغ أسفي لما أحدثه هذا اللقاء لك من إزعاج بغير موجب.»
فأجاب المستر ونكل: «أرجوك يا سيدي أن لا تذكر ذلك.»
قال: «إنني بمعرفتك يا سيدي فخور.»
وقال المستر ونكل: «إن معرفتك يا سيدي تتيح لي أبلغ السرور.»
وتصافحا، ثم تصافح المستر ونكل والملازم تابلتون شاهد الطبيب، ثم تبادل ونكل التحية والرجل صاحب المقعد، وأخيرا تصافح المستر ونكل والمستر سنودجراس ، وكانت مصافحة السيد الأخير مقترنة بإعجاب مفرط، بذلك التصرف النبيل الذي بدر من صديقه الشهم الكريم.
وقال الملازم تابلتون: «أظن أنه يصح أن نؤجل الاجتماع.»
وأضاف الطبيب: «بلا ريب.»
وتدخل الرجل الذي كان جالسا على المقعد قائلا: «إلا إذا كان المستر ونكل يشعر بأنه قد غض من قدره بهذه الدعوة، وفي هذه الحالة أسلم بأنه له الحق في الترضية.»
ومضى الرجل يقول: «أو ربما كان السيد الشاهد شعر بشيء من الغضاضة من بعض الملاحظات التي بدت مني في بداية هذا الاجتماع، فإذا كان الأمر كذلك، فإني ليسعدني أن أقدم إليه الترضية في الحال ...»
فأسرع المستر سنودجراس في إبداء شكره البالغ للسيد الذي تكلم أخيرا على ما قدم من عرض كريم، وقال إنه لا يسعه ألا أن يرفضه؛ لأنه في أتم الرضى عن كل ما حدث.
وأقبل الشاهدان ينظمان حقيبتيهما، وغادر الجميع المكان وهم أصفى أمزجة مما كانوا عند التوافي إليه.
وسأل الدكتور سلامر المستر ونكل، وهما يسيران جنبا إلى جنب في أبلغ صور المودة: «أباق هنا طويلا؟»
فكان جوابه: «أظن أننا سنغادر المدينة بعد غد ...»
وقال الدكتور: «أرجو أن أحظى بلقائك أنت وصديقك في النزل الذي أقيم فيه، وقضاء مساء لطيف معكما بعد هذا الخطأ العجيب ... فهل أنت حر الليلة غير مرتبط بمواعيد؟
وأجاب المستر ونكل قائلا: «إن لنا بعض الصحاب هنا، ولست أود أن أتركهم الليلة، فلم لا توافينا أنت وصديقك في الفندق؟»
قال: «لا بأس مطلقا يا سيدي العزيز، وسوف يسعدني السعادة كلها أن أقدمكما إلى صديقي المستر بكوك، والمستر طبمن.»
وأجاب الدكتور قائلا: «سيسرني لقاؤهما أشد السرور.» ولم يدر من عسى أن يكون المستر طبمن.
وقال المستر سنودجراس: «ستأتيان بلا شك.»
قال: «طبعا ... بلا شك ...»
وكان القوم قد وصلوا عندئذ إلى بداية الطريق، فتبادلوا السلام وتفرقوا، فعاد الدكتور سلامر وصديقاه إلى الثكنات، وقفل المستر ونكل مع صديقه المستر سنودجراس عائدين إلى الفندق.
هذا مثل عجيب لقوة النبوءة في خيال الرجل ... فإن هذا الحوار جرى في عام 1827، والثورة وقعت في عام 1830.
نوع من كلاب الصيد، تسير وأنوفها إلى الأرض تشتم الصيد.
إله الخمر عند قدماء الإغريق.
ن.ب أي نادي بكوك.
مطلع قصيدة «ألكسندر سلكيرك» للشاعر وكيم كوبر.
الفصل الثالث
تعارف جديد - قصة الممثل المتجول - إزعاج غير مستحب ... ولقاء ثقيل الظل. ***
شعر المستر بكويك بشيء من القلق لغياب صديقيه على غير المألوف منهما، ولم يكن تصرفهما الغريب خلال الصباح كله مخففا من مخاوفه، فلا غرو إذا هو قد نهض بسرور غير عادي لاستقبالهما حين عادا يدخلان عليه، وأنشأ بشوق أكثر من المألوف يسألهما عما جرى، ويستفسرهما عن سر غيابهما، وهم المستر سنودجراس للرد على هذه الأسئلة، بأن يدلي ببيان تاريخي عن الظروف التي قصصناها الآن عليك، ولكنه أمسك فجأة؛ إذ لاحظ أن هناك بجانب المستر طبمن ورفيقهم في الحافلة أمس غريبا آخر، لا يقل مظهره عنهما غرابة؛ رجلا تبدو الهموم عليه، ويلوح وجهه الشاحب، وعيناه الغائرتان، أغرب وأعجب مما صنعتهما الطبيعة، بشعره الأسود المعتدل المنحدر في اضطراب، وتلبد نصف الطريق إلى وجهه، وكانت عيناه براقتين نفاذتين إلى حد يكاد يكون غير طبيعي، وعظما خديه ناتئين مرتفعين، وفكاه من فرط طولهما وتحولهما، حتى ليظن الرائي أنه يسحب لحم وجهه إلى الداخل لحظة تقليص عضلاته، لو لم يعلن فمه المفتوح نصف فتحة، وتقاطيع سحنته الثابتة الجامدة، أن الأمر طبيعي لا اصطناع فيه، وقد أحاط عنقه بلفاعة خضراء، تدلت أطرافها الواسعة متراخية فوق صدره، وبادية من لحظة إلى أخرى تحت عرى صداره القديم، وكان الجزء الأعلى من ثوبه سترة طويلة سوداء سابغة، وقد ارتدى من تحتها سراويل فضفاضة، وانتعل حذاء كبيرا يسارع إلى البلى.
وما لبثت عين المستر ونكل أن استقرت على هذا الرجل الأشعث الأغبر، بينما مد المستر بكوك يده نحوه وهو يقول: «صديق لصديقنا الذي معنا هنا، وقد عرفنا صباح اليوم أن لصديقنا علاقة بالمسرح في هذه المدينة، وإن كان لا يحب أن يعرف ذلك عنه، وأن هذا السيد أحد الزملاء في المهنة، وكان يهم بأن يطرفنا بحكاية قصيرة تتصل بها حين دخلت ...»
وقال الغريب ذو السترة الخضراء، الذي لقيه الجمع في اليوم السابق وهو يتقدم إلى المستر ونكل، ويتحدث بصوت منخفض، كأنه يكاشفه بسر من الأسرار، بل بحكايات وحكايات: «رجل مدهش ... يؤدي عملا شاقا ... في هذه المهنة ... ليس ممثلا ... رجل غريب ... عرك مختلف المهن والخطوب ... ونحن ندعوه في نادينا جيمي التعس.»
وحيا المستر ونكل والمستر سنودجراس الرجل الملقب «بالتعس» في أدب، وطلبا شرابا من البراندي والماء، وانثنيا يقتديان بالآخرين، فجلسا إلى المنضدة.
وقال المستر بكوك: «والآن يا سيدي هلا تكرمت علينا بقص ما كنت تهم بأن ترويه لنا؟»
وعندئذ أخرج الرجل «التعس» من جيبه لفة قذرة من الأوراق، واستدار نحو المستر سنودجراس، وكان هذا قد أخرج «كناشته»، فقال بصوت أجوف يلائم مظهره كل الملاءمة: «هل أنت الشاعر؟»
فأجاب المستر سنودجراس، مأخوذا إلى حد ما بهذا السؤال المباغت: «إنني أقوم بشيء يسير في هذا الباب.»
قال: «آه ... إن الشعر يصنع بالحياة ما تصنع الأضواء والأنغام بالمسرح، فإن أنت جردت أحدهما من بهارجه ومحسناته، وأزلت من الآخر الأوهام والخدع المحيطة به، فما الذي يبقى حقها فيهما يستحق أن يحيا المرء له أو يعنى به؟»
وأجاب المستر سنودجراس: «هذا حق وصدق يا سيدي.» واستطرد الرجل التعس حديثه قائلا: «إن الوقوف أمام الأضواء الأمامية على المسرح هو كالجلوس في بلاط عظيم، ومعرض بديع، والإعجاب بالثياب الحريرية التي يرتديها السادات فيه والغيد، أما المجلس من تحتهم، فذلك مكان الشعب الذي صنع ذلك الرواء، وأحدث ذلك البهاء، ولكنه ترك مهملا مجهولا، لا يعنى أحد به، ولا يأبه إنسان بمعرفته ... ترك ليغرق أو يعدم، ليهلك جوعا أو يحيا، كما تشاء الحظوظ وتريد المقادير ...»
وهنا قال المستر سنودجراس، وكانت عين الرجل التعس مستقرة عليه، فلم يكن بد من أن يقول شيئا: «بلا شك.»
وقال السائل الأسباني: «امض في حديثك يا جيمي كسوزان السوداء العين ... الكل في البادية ... لا نقيق ... تكلم بوضوح، وتهلل، وأبد مرحا.»
وقال المستر بكوك: «هل لك في كأس أخرى قبل أن تبدأ القصص يا سيدي؟»
فما كان من الرجل التعس إلا أن قبل هذا العرض، ومزج لنفسه كأسا من البراندي بالماء، واجترع في رفق نصفها، ونشر الأوراق الملففة بين يديه، وبدأ يقص القصص، بين تلاوة من الأوراق وسرد من غير أوراق.
وكانت القصة التالية هي قصته، كما سجلت في محاضر النادي بعنوان: «قصة الممثل المتجول».
قصة الممثل المتجول
ليس فيما أنا قاصه عليكم شيء عجاب، ولا أمر غير مألوف، فإن الحاجة والمرض ليسا غريبين في كثير من شئون الحياة، غرابة تستحق من التنويه أكثر مما تستحقه عادة تقلبات الطبيعة البشرية وتغيراتها المألوفة، وقد جمعت هذه الملاحظات معا في ورق مكتوب؛ لأني عرفت المرء الذي تتصل به حق المعرفة منذ عدة سنين، وجعلت أتابع شقاءه خطوة خطوة، وهو يهوي، حتى بلغ في النهاية حدا متناهيا من العوز والإدقاع، لا قيام له إلى الأبد منهما.
كان الرجل الذي أتحدث عنه ممثلا فقيرا من ممثلي المسرحيات الإيمائية الصامتة، وكان كخلق كثير ممن هم في مركزه وطبقته سكيرا مدمنا، وكان في أيامه النضرات قبل أن يوهن منه الإسراف في الملذات، ويحط السقام عليه، يتقاضى مرتبا حسنا، لو أنه انتهج سبيل الحرص والحكمة والقصد لظل يتقاضاه بضع سنوات، ولكنها ليست سنوات كثيرة على أية حال؛ لأن أمثاله يموتون في نضارة العمر، أو يفقدون قبل الأوان باستنفاد قواهم الجسدية استنفادا غير طبيعي، الملكة الوحيدة التي يعتمدون عليها في كسب أقواتهم وسداد أرماقهم، وقد أسرف على نفسه، وأمعن في آثامه، حتى أصبح من المحال أن يستعان به في الأعمال التي كان فيها نافعا فعلا للمسرح، فقد كان للحانة جاذبية لم يستطع مغالبتها، وكان المرض الذي يسوقه الإهمال، والفقر الذي لا أمل في النجاة منه، نصيبه المحقق كالموت ذاته إذا هو استمر ولم ينته، وثابر ولم يرعو، وقد استمر وثابر فعلا، فكانت النتيجة معروفة، وهي العجز عن الظفر بعمل، وهو يطلب القوت ويحتاج إلى الخبز.
ولا يجهل أحد ممن عرفوا المسرح، وكل ما يتصل به، كثرة الذين يترددون عليه من الفقراء والكدورين، والبادين في الثياب الناحلة الألوان، وما هم بممثلين يعملون فيه بانتظام، ولكنهم يشتركون في المراقص أو المواكب التي تشاهد في بعض الروايات أو البهلوانات، والمهرجين ومن إليهم ممن يستعان بهم في إخراج مسرحية «صامتة»، أو قطعة بمناسبة عيد الفصح، ثم يفصلون حين تنقطع الحاجة إليهم، وريثما يستوجب إخراج مشاهد حافلة، وروايات ضخمة، العودة إلى استئجارهم، وإلى هذا الأسلوب من العيش اضطر الرجل إلى الالتجاء، وكان يجلس كل ليلة مجلس الرياسة ببعض دور التمثيل الصغيرة، فيصيب منها بضعة شلنات أخرى في الأسبوع، تيسر له إرواء غلته ومعاودة كئوسه، ولكن هذا المورد أيضا لم يلبث أن انقطع، فقد كثرت تصرفاته الشاذة، إلى حد لم يعد معه في الإمكان أن يصيب الأجر الزهيد الذي كان ممكنا أن يصيبه، حتى بلغ فعلا حدود الجوع، ولم يعد يظفر بغير قدر تافه من المال أحيانا يستعيره من زميل قديم، أو يأتيه من الظهور على المسرح في أحقر دور التمثيل، فإذا أصاب شيئا، أنفقه في الخمر ديدنه القديم.
وفي ذلك العهد أو قرابته حين لم يكن أحد يدري كيف كان يعيش أكثر من عام، كنت قد ظفرت بعمل قصير الأمد في أحد المسارح، في هذه الضفة من النهر، فرأيت ذلك الرجل الذي كان قد غاب عن عيني فترة من الزمن؛ لأني كنت أتجول في الأقاليم، وكان هو يتسكع في أزقة لندن ودروبها الضيقة، وفيما كنت أرتدي ثيابي للانصراف من الملعب، وأجتاز المسرح إلى الباب، إذ راح يربت بيده على كتفي، وإن أنس لا أنس ذلك المشهد المنفر الذي أخذ عيني حين استدرت لأرى من الرابت، فقد بدا في ثوب من ثياب التمثيل الصامت، توافرت فيه كل غرائب رداءة «المضحك»، ولبسه «المهذار»، فما أحسب صور الأشباح في «رقصة الموت»، ولا أقبح الأشكال وأشدها ترويعا مما يخرج من ريشة أقدر الرسامين على الرسم، وأبرعهم في صنعة التصوير، إلا بادية دونها قبحا، وأقل منها نكرا، فإن بدنه المتورم، وساقيه الضامرتين اللتين زادهما ثوبه الغريب شناعة على شناعة، وعينيه الزجاجيتين المتناقضتين إلى حد مرعب، وكثافة الطلاء الذي لطخ به وجهه، ورأسه المزدان بأغرب الزينة، الراعش من أثر الفالج، ويديه الطويلتين الضامرتين المدهونتين بالطباشير - كل أولئك جعله يبدو مشوه الصورة، متكور الشكل، ليس في وسع الواصف أن يعطيك عنه فكرة كافية، حتى لتعروني إلى الساعة رجفة كلما خطر ببالي، وكان صوته أجوف راعشا، حين انتحى بي ناحية، وانثنى بعبارات متقطعة يقص علي قصة، ويعدد لي صنوفا من العلل، وألوانا من الحرمان التي يعانيها، وانتهى إلى النتيجة المعروفة طبعا، والمتكررة في هذه الحالات، وهي طلب قرض عاجل يسير، فدسست في كفه بضعة شلنات، وما كدت أتولى عنه حتى سمعت ضحكات عالية، كتلك الضحكات التي تلت أول مرة ظهر فيها على المسرح.
وجاءني بعد بضع ليال غلام، فألقى في يدي قصاصة قذرة من الورق، كتبت عليها بضع كلمات بالقلم الرصاص، يقول الرجل فيها أنه مريض في حالة خطرة، ويرجوني بعد التمثيل أن أراه في مسكنه، بشارع نسيت اسمه الآن، ولكنه غير بعيد من المسرح، فوعدته أني فاعل بمجرد فراغي من العمل، وانطلقت عقب انسدال الستار لكي أؤدي هذه المهمة المحزنة.
وكان الوقت متأخرا؛ لأن دوري كان في المسرحية الأخيرة، وكان إيراد الليلة مخصصا لبعض أفراد الفرقة، فطال التمثيل فيها إلى حد غير مألوف، وكان الليل حالكا مقرورا، والريح رطبة قاصفة، جعلت المطر يسقط غزيرا على الشرفات وواجهات الدور، وقد اجتمعت منه برك من الماء في الشوارع الضيقة التي قلما يختلف إليها الناس، وأطفأت شدة الرياح المصابيح القليلة المتناثرة في بعض نواحيها، فلم يكن المسير مزعجا فحسب، بل أشد ما يكون أخطارا كذلك، ولكني لحسن الحظ اتخذت الطريق السوي، واستطعت بعد جهد قليل أن أهتدي إلى البيت الذي وصف لي، فإذا هو سقيفة فحم تعلوها طبقة واحدة، وجدت في الغرفة الخلفية منها ضالتي المنشودة، واستقبلتني عند السلم زوجته، وهي امرأة مسكينة، فنبأتني أنه قد أغفى منذ لحظة، واقتادتني بخطى رفيقة إلى الحجرة، ووضعت كرسيا لي بجانب فراشه، ورأيت الرجل راقدا وقد ولى وجهه إلى الجدار ولم يبد اكتراثا بمحضري؛ فاتسع لي الوقت لأدير عيني في المكان الذي احتواني، فإذا هو على سرير قديم جيء به خلال النهار، وقد أسدلت بقايا ستار مهلهل حول رأس السرير؛ وقاية من الريح، وإن كانت الريح وجدت طريقها إلى الحجرة المتعبة من كثرة الثقوب والشقوق في الباب، وجعلت تهب على الستار، وتهزه هزا في كل لحظة، ورأيت نارا خابية من فحم رجوع في موقدة صدئة، مفككة غير مستقرة، ومنضدة قديمة ملطخة ذات ثلاثة أركان، قد صفت عليها بعض زجاجات من أدوية، ومرآة مكسورة، وبضعة أشياء أخرى مما يشاهد في البيوت، وطفلا صغيرا نائما على فراش أعد له مؤقتا، فوق أديم الحجرة، وقد جلست المرأة على كرسي بجانبه، وشهدت هنالك رفين من الرفوف، وبضع صحاف وأقداح وأطباق، وحذاء من أحذية المسارح، وسيفين من أسيافها، معلقين تحت الرف، وكانت تلك الأشياء هي كل ما حوته الحجرة، إلى جانب أكوام صغيرة من الخرق البالية والرزم، ألقيت في زواياها بغير عناية ولا اهتمام.
وكذلك اتسع الوقت أمامي لملاحظة هذه الدقائق القليلة، وتأمل تنفس المريض ولهثه، ورجفات الحمى التي كانت تهزه، قبل أن ينتبه إلى وجودي، وحاول جاهدا أن يجد مستقرا لرأسه، فلم يستطع، فأخرج يده من تحت غطائه؛ فسقطت فوق كفي، فانتبه فجأة، وراح يحملق البصر بلهفة في وجهي.
وعندئذ قالت زوجه: «المستر هطلي يا جون ... المستر هطلي الذي بعثت في طلبه الليلة كما تعلم.»
فقال المريض، وهو يمر بكفه على جبينه: «آه ... هطلي ... هطلي ... أين هو؟» وخيل إلي أنه يحاول أن يجمع شتات أفكاره بضع لحظات، ثم أمسك بمعصمي إمساكة التشبث، وراح يقول: «لا تتركني ... لا تتركني ... ألا تعرفني؟»
قلت موجها خطابي إلى زوجه الباكية: «أهو هكذا من وقت طويل؟»
قالت: «منذ الليلة البارحة ... جون ... جون ... ألا تعرفني؟»
وقال وهو يرجف حين انحنت فوقه: «لا تدعها تقترب مني ... أبعدها ... لست أطيق قربها مني.»
وانثنى ينظر إليها نظرات موحشة، يبدو خلالها رعب شديد، وخوف مميت، وهمس في أذني قائلا: «لقد ضربتها يا جم ... ضربتها أمس، وضربتها مرارا قبل ذلك ... لقد أجعتها هي والطفل كذلك، والآن بت واهنا يائسا لا حول لي ولا قوة، وستقتلني جزاء ما فعلت بها ... أنا عارف أنها قاتلتي، ولو شهدتها وهي تبكي كما شهدتها أنا، لعرفت أنت أيضا ... أبعدها عني ...»
وأرخى إمساكته بمعصمي، وانقلب على وسادته، منهوكا مجهدا ...
وكنت أعرف حق المعرفة المراد من ذلك كله، وإذا كان شيء من الشك قد خامرني لحظة، فإن نظرة واحدة إلى وجه المرأة الشاحب، وبدنها الذاوي كانت كافية لشرح حقيقة الأمر، وكشف خافيته.
فقلت للمرأة المسكينة: «يحسن أن تنتبذي من الحجرة مكانا قصيا ... فإنك لن تستطيعي له خيرا، ولعله سيهدأ إذا لم يرك.»
فتوارت عنه، وعاد الرجل بعد بضع لحظات يفتح عينيه، ويدير بصره فيما حوله، قلقا موجسا ...
قال في لهفة: «هل ذهبت؟»
قلت: «نعم ... نعم ... إنها لن تمسك بأذى.»
قال، وهو يغض من صوته: «سأقول لك شيئا يا جم ... إنها تؤذيني فعلا ... إن في عينيها شيئا يلقي في قلبي رعبا يذهب بلبي، فقد قضت الليلة البارحة كلها وعيناها الواسعتان المحملقتان ووجهها الشاحب بقرب عيني ووجهي، كلما تحولت تحولت، وكلما أجفلت من نومي وجدتها بجانب فراشي تنظر إلي ...»
ومضى يدنيني منه، ويقول في همس عميق مروع: «هي حتما روح شرير ... صه ... إنني أعرف أنها كذلك ... ولو كانت مخلوقة آدمية لماتت من عهد طويل ... فليس في البشر امرأة تتحمل ما تحملت.»
وأحسست ألما بالغا في نفسي حين تخيلت صنوف القسوة، وألوان العذاب، والآلام والإهمال التي لا بد أن تكون قد اصطلحت على إحداث هذا الأثر المخيف في نفس هذا الرجل ومشاعره، ولم أجد جوابا أجيب به، ومن الذي يستطيع أن يجدد الأمل، أو يعرض العزاء، أو يهب السلوى، لهذا المخلوق المنكر الذي يرقد أمامي ...؟
وقضيت في مجلسي ذاك أكثر من ساعتين، لبث خلالها يتقلب في مرقده، ويلقي بذراعيه متململا هاهنا وهاهنا، وينكفئ على هذا الجانب، ثم ينقلب على الآخر، حتى هبط أخيرا إلى حال من الغيبوبة يطوف فيها العقل المكدود من مشهد إلى مشهد، وينتقل من موضع إلى موضع، دون رقابة عليه من الفكر، وإن ظل مع ذلك عاجزا عن التخلص من إحساس غامض مما هو فيه من عذاب، وما يشعر به من ألم، ولما تبين لي من هذا الهذيان المنقطع، والتخريف المجرد من كل صلة أو تماسك، أن هذه هي حقيقة حاله، وأدركت أن الحمى على أكبر الظن سوف لا تزداد سوءا في الحال، تركته واعدا زوجته المسكينة أنني سأكرر زيارتي مساء اليوم التالي، وأنني إذا اقتضى الأمر ماكث مع المريض الليل كله.
وأنجزت موعدي، وبدا لي أن الساعات الأربع والعشرين الماضية أحدثت تغييرا مروعا، فقد رأيت العينين - وإن لبثتا غائرتين كثيرا في محجريهما - ثقيلتين مهمومتين تلتمعان، وترسلان بريقا مخيفا، يشفق المرء من التطلع إليه، وكانت الشفتان قد ارتدتا يابستين، محترقتين مشققتين في عدة أجزاء منهما، وشهدت البشرة الجافة الصلبة تتأجج من شدة الحرارة المحرقة، وبدا لي أن في وجه الرجل أمارات قلق موحش، لا يكاد يشبه شيء في هذه الأرض، وعلامات هياج نفسي رهيب، يدل دلالة بالغة على مدى فتكات المرض ومبلغ تلفه، وكانت الحمى قد بلغت أشدها.
واتخذت المجلس الذي شغلته في الليلة الماضية، ولبثت فيه ساعات، مصغيا إلى أصوات تزلزل قلب أشد المخلوقات الآدمية قسوة وجمودا ... أصوات رجل في سكرات الموت، مشرف على التلف.
وعرفت مما سمعته عن رأي الطبيب أن لا أمل في حياته، وبدا لي أنني جالس بجانب فراش رجل محتضر، وشهدت الأطراف الذاوية التي كانت إلى ساعات قليلة تتشوه وتتنكر لتسلية النظارة في الملهى، قد عادت تتلوى من عذاب الحريق وشدة الحمى ... وسمعت ضحكة المهرج المدوية، مختلطة بأنين المحتضر.
وإنه لمن الفاجع للنفس أن يسمع المرء العقل وهو يعود إلى ما كان يألفه من عمل أو حرفة وهو سليم موفور العافية، فترى البدن الراقد حيالك واهيا ذابلا لا حراك به، ولكن حين يكون ذلك العمل من نوع يتعارض أشد التعارض مع التفكير الجدي، أو الحرفة الرزينة، نجد الأثر الذي يحدث للمريض قويا بالغا، فلا عجب إذا كان الملهى والألحان هما الغالبين على كل ما عداهما من المشاهد، والموضوعات التي جعل الرجل يتحدث عنها في غشيته، ويرددها في غيبوبته، فقد خيل إليه أن الوقت مساء، وأن عليه دورا يمثله في تلك الليلة، وأنه قد تأخر عن الموعد، ولا بد له من مغادرة البيت في الحال، ولكن لماذا يحتجزونه ويمنعونه من الذهاب ... سيخسر الأجر إذا لم يذهب ... فليذهب حتما ... ولا يتخلف ... ولكن كلا ... إنهم لا يريدون أن يتركوه ... وراح يدفن وجهه في يديه المحترقتين، ويئن أنين المتوجع من ضعفه وقسوة معذبيه ... ثم يسكن لحظة، ويعود فيطلق بضعة ألحان رخيصة ... كانت هي آخر ما حفظه ... ونهض من فراشه، ونشر ذراعيه الذابلتين، وانثنى يتقلب فوق سريره القذر، وأخذ يمثل ... فقد توهم أنه على المسرح، وبعد سكون قصير أنشأ يغمغم بأنغام أغنية صاخبة، وعاد إلى بيته القديم بعد التمثيل ... وما أشد الحر في الحجرة ... لقد كان مريضا مدنفا، ولكنه الآن سليم وسعيد ... املأ الكأس ... وانزع القدح ...! من هذا الذي أبعده من شفتيه ... إنه ذلك المضطهد المتعقب عينه، الذي كان من قبل يطارده ... وعاد يتقلب فوق الوسادة، ويئن أنينا عاليا ... ثم تلت الأنين فترة غياب ونسيان مطلق، وإذا هو يهذي وينطلق في تيه متشعب من الحجرات الخفيضة السقوف ... حتى ليضطر أحيانا إلى الزحف على يديه وركبتيه ليمضي في طريقه ... وكان الطريق ضيقا ومظلما، وكلما دار منحرفا عنه، حال حائل بينه وبين التقدم في مسيره ... ووجد حشرات زواحف مخيفة، ذوات أعين تحملق فيه، وتملأ الهواء من حوله، وتبرق بريقا بشعا في وسط الظلام الكثيف الذي يغمر الموضع، كما كانت الجدران والسقف ملأى بالحيات والأفاعي ومختلف الزواحف، والسقف المقبوب يتسع شيئا فشيئا، حتى يبلغ حجما ضخما ... وإذا أشباح مرعبة تروح وتغدو من حوله، وقد رأى وجوها يعرفها، قد ارتدت قبيحة منكورة تمط شفاها له سخرية، وتلعب حواجبها هزءا به وتهكما، وإذا أصحابها يتقدمون نحوه، فيكوونه بقطع من حديد محمي، ويربطون رأسه بالحبال حتى ينحبس الدم منه، وهو يصارع في سبيل الحياة صراع مجنون هائج .
وفي نهاية إحدى تلك النوبات، وقد وجدت مشقة بالغة خلالها في احتجازه في فراشه، رأيته يهبط فيما يشبه النوم، وكان طول المراقبة وكثرة الإجهاد قد تغلبا على قواي، فأغمضت عيني بضع دقائق، ولكني لم ألبث أن شعرت بقبضة قوية خشنة تمسك بكتفي، فاستيقظت في الحال، فإذا أنا أراه قد تحامل في فراشه، واستوى في مرقده، وعرا وجهه تغير مروع، ولكنه أفاق من الغشية؛ إذ تبين لي أنه قد عرفني، ورأيت الطفل الذي كان قد انزعج من وقت طويل، واضطرب من شدة هذيانه، ينهض من فراشه الصغير، ويجري نحو أبيه صارخا من شدة الخوف، غير أن أمه عاجلته، فتناولته بين ذراعيها؛ مخافة أن يؤذيه وهو في عنفوان جنونه، ولكنها حين أبصرت التحول البادي على قسمات وجهه، وقفت مروعة جامدة بجانب سريره، وتناول كتفي في يد متشنجة راعشة، وباليد الأخرى ضرب صدره، وحاول جاهدا أن ينطق ... ولكنه لم يستطع ... فبسط ذراعيه نحوهما، وعاد يحاول مرة أخرى ... ولكن حشرجة قامت في حنجرته ... وخطف بريق على عينيه ... وانبعثت منه أنة قصيرة مختنقة ... وارتد إلى الوراء ... ميتا.
وكان يسعدنا أشد الإسعاد أن ندون رأي المستر بكوك في هذه القصة التي أسلفناها عليك، ولسنا نشك في أننا كنا نوافيك به، لولا وقوع حادث حال لسوء الحظ بيننا وبين إيراده.»
وكان المستر بكوك قد أعاد إلى المنضدة الكأس التي لبثت خلال العبارات الأخيرة من القصة مرفوعة بيده، وهم بالكلام - استنادا إلى ما ورد فعلا في كناشته، من أنه هم فعلا بأن يفتح فمه ليقول شيئا - لولا أن دخل غلام الفندق في تلك اللحظة، فقال له: «بعض السادات يا سيدي.»
وقد ذهبت الظنون إلى القول بأن المستر بكوك كان على وشك إلقاء بعض ملاحظات من شأنها أن تنير العالم كله، إن لم يقتصر نورها على المدينة القائمة على ضفاف «التايمز»، لولا هذه المقاطعة، فقد راح يطيل النظر عابسا في وجه الغلام، ثم أدار عينه في وجوه الجمع عامة، كأنما يطلب منهم خبرا يتصل بأمر أولئك الزائرين.
وعندئذ نهض المستر ونكل من مجلسه، فقال: «آه ... بعض صحاب لي، دعهم يتفضلوا بالدخول.» وأردف يقول عقب انصراف الخادم: «إنهم أناس لطاف جدا، ضباط من الآلاي السابع والتسعين، عرفتهم مصادفة في هذا الصباح، وسنأنس إليهم كثيرا.»
فاستعاد المستر بكوك طمأنينته في الحال، وما لبث الغلام أن عاد معلنا دخول ثلاثة سادات إلى الحجرة.
وتولى المستر ونكل مهمة التعريف فقال: «الملازم تابلتون ... المستر بكوك، الدكتور بين ... المستر بكوك ... المستر سنودجراس، الذي رأيته من قبل ... صديقي المستر طبمن، الدكتور بين، الدكتور سلامر، المستر بكوك ... المستر طبمن، الدكتور سلام ...»
وهنا وقف المستر ونكل فجأة عن الكلام؛ إذ رأى أمارات الانفعال الشديد جلية على وجه كل من المستر طبمن والطبيب.
وقال هذا بلهجة توكيد ظاهر: «لقد التقيت بهذا «السيد» من قبل ...»
وقال المستر ونكل في دهشة: «أحقا؟»
ومضى الدكتور سلامر يقول: «وهذا ... الشخص أيضا، إذا لم أكن مخطئا ...» وراح يلقي نظرة متفحصة على الرجل الغريب ذي الثوب الأخضر، وتابع الكلام قائلا: «أعتقد أنني وجهت إلى هذا الشخص دعوة ملحة في الليلة الماضية، فرأى من الواجب أن يرفضها ...»
وما إن أتم هذا القول، حتى نظر إلى الغريب نظرة متعاظمة مترفعة، وهمس لصديقه الملازم تابلتون.
فقال هذا السيد حين سمع قوله: «لا تقل هذا.»
قال: «بل أقوله ... لأنه الواقع.»
وغمغم الآخر صاحب المقعد المألوف في الثكنات باهتمام شديد: «من واجبك أن تركله بقدمك في الحال.»
وتدخل الملازم قائلا: اسكت من فضلك يا «بين». وتقدم صوب المستر بكوك فقال: «هل تسمح يا سيدي أن أسألك: هل ينتمي هذا الشخص إلى جمعكم؟»
وكان المستر بكوك يبدو مبهوتا إلى حد كبير من هذا المسلك المجافي للأدب.
ولكنه أجاب قائلا: «كلا يا سيدي ... إنه ضيفنا.» وعاد الملازم يسأل: «وهل هو عضو في ناديكم، أو أنا مخطئ؟»
وأجاب المستر بكوك: «كلا ... بلا شك.»
وعاد الملازم يسأل: «ألم يضع يوما شارة النادي على ثوبه؟»
فازدادت دهشة المستر بكوك، وقال: «كلا ... مطلقا.»
وعندئذ التفت الضابط إلى صديقه الدكتور سلامر، رافعا كتفيه في هزة لا تكاد ترى، كأنما يشك في صدق ذاكرته، وبدا الدكتور سلامر غضوبا مغيظا، وإن ظل مبهوتا حائرا، ولبث المستر «بين» ينظر نظرة موحشة مفترسة إلى وجه المستر بكوك المشرق الحائر، لا يفهم مما سمع شيئا.
وانثنى الطبيب فجأة، يوجه الكلام إلى المستر طبمن بلهجة جعلته يجفل إجفالة ظاهرة، كأن دبوسا غرز بمكر في مشط قدمه، قائلا: «لقد كنت في المرقص الذي أقيم هنا في الليلة الماضية؟»
وشهق المستر طبمن شهقة خافتة مؤمنا بها على قوله، وهو ينظر طيلة الوقت إلى المستر بكوك.
وعاد الطبيب يقول وهو يشير إلى الغريب، وقد ظل هذا جامدا لا يتحرك ولا ينبس: «وكان هذا الشخص رفيقك؟»
وأقر المستر طبمن الحقيقة.
وانثنى الطبيب إلى الغريب، فقال: «والآن يا سيدي، إنني أكرر عليك بحضور هؤلاء السادات سؤالي القديم: هل تريد أن تقدم إلي بطاقتك، فتلقى مني المعاملة الخليقة بسيد مهذب، أو ستضطرني إلى معاقبتك في التو واللحظة؟»
وهنا قال المستر بكوك: «مهلا أيها السيد، إنني في الواقع لا يمكنني أن أسمح بأن يمضي الأمر على هذا النحو قبل أن أسمع شرحا ... طبمن ... اقصص علينا الخبر.»
وعندئذ امتثل المستر طبمن للأمر، فشرح الحادث في بضع عبارات، ولم يمس مسألة استعارة الثوب إلا مسة عابرة، وإنما أطال في محاولة تبرير ما جرى بأنه حدث «بعد الغداء»، وانتهى من شرحه بقول يسير يعلن فيه ندامته وأسفه فيما يتعلق بشخصه، وترك للغريب تبرئة نفسه أو الدفاع عن مسلكه كما يشاء.
وهم الغريب أن يفعل لولا أن عاجله الملازم تابلتون، وكان يتبعه بعينيه في فضول شديد، قائلا في سخرية بالغة واحتقار شديد: «ألم أرك قبل الآن في دار التمثيل يا سيدي؟»
قال بلا حياء: «بلا شك.»
ومضى الملازم يقول باحتقار، وهو يلتفت إلى الدكتور سلامر: «إنه ممثل متجول ... وهو يقوم بأحد الأدوار في المسرحية التي سيخرجها ضباط الآلاي الثاني والخمسين على مسرح روشستر ليلة غد ... لا تستطيع إجراء شيء في هذه المسألة ... مستحيل.»
وقال «بين» المتعاظم المترفع: «تماما.»
وانثنى الملازم تابلتون موجها الخطاب إلى المستر بكوك: «آسف لوضعك في هذا الموقف الأليم، اسمح لي أن أقترح عليك الوسيلة المثلى لاجتناب تكرار أمثال هذه الحوادث في المستقبل، وهي أن تكون حريصا على انتقاء رفقائك.»
وأضاف يقول وهو يخرج مسرعا من الحجرة: «طاب صباحك يا سيدي.»
وتبعه الدكتور «بين» السريع الغضب فقال: «واسمح لي أنا أيضا يا سيدي بأن أقول إنني لو كنت في مركز تابلتون أو سلامر لجدعت أنفك يا سيدي، وأنف كل رجل في جماعتك ... أي والله، لما ترددت في جدع أنوفكم جميعا، إنني أدعى «بين» يا سيدي ... الدكتور «بين» في الآلاي الثالث والأربعين، طاب مساؤك يا سيدي.»
وما كاد يختم هذا القول بالكلمات الثلاث الأخيرة بصوت جهير، حتى تسلل مزهوا متعاظما في إثر صديقه، وتبعهما على الأثر الدكتور سلامر دون أن يقول شيئا، وإنما قنع بإلقاء نظرة ساخرة على القوم جميعا.
وكان الغضب المتزايد، والدهشة المتناهية، قد هاجا في صدر المستر بكوك، وأثارا عاطفة النبل في جوانحه، حتى كاد صداره ينشق عند سماعه ذلك التحدي السافر، فوقف مسمرا جامدا في مكانه، ينظر نظرات فارغة، ولكن صوت انغلاق الباب أثابه إلى رشده، فانطلق وسورة الغضب بادية في عينيه، والنار متأججة في ناظريه، ويده على أكرة الباب، وكانت في اللحظة التالية ستمسك بعنق الدكتور «بين» طبيب الآلاي الثالث والأربعين، لولا أن جرى المستر سنودجراس وراءه، فأمسك رئيسه الموقر من ذيل ردائه، وراح يجره جرا.
وصاح المستر سنودجراس بصاحبيه قائلا: «أمسكاه يا ونكل وطبمن، فلا يصح أن يعرض للخطر حياته الغالية في أمر كهذا.»
وقال المستر بكوك: «دعوني أذهب.»
وعاد المستر سنودجراس يصيح بهما قائلا: «شددا الإمساك به.»
وهكذا تعاون القوم جميعا على إرغام المستر بكوك على التهالك في مقعد رحيب.
وقال الغريب ذو الثوب الأخضر: «دعوه وخلوا عنه ... بكأس من البراندي والماء ... يا له من شيخ بديع، ممتليء شجاعة وإقداما ... اشرب هذا الكأس ... هم، إنه شراب مفتخر.»
وكان من قبل قد ذاق حلاوتها، بعد أن تولى الرجل التعس «شعشعتها»، وتقدم الغريب بالكأس فقربها من شفتي المستر بكوك؛ فلم تلبث بقاياها أن توارت في جوفه.
وساد السكون لحظة، وفعلت كأس البراندي فعلها؛ فعاد وجه المستر بكوك ينطلق واسترد تهلله المألوف.
وقال الرجل «التعس»: «إنهم لا يستحقون منك التفاتا.»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «أنت على حق يا سيدي ... فهم لا يستحقونه، وإني لخجلان من أنني استسلمت لهذا الغضب الذي بدر مني ... هلا قربت كرسيك من المنضدة ياسيدي؟» فامتثل الرجل التعس في الحال لأمره، وانتظم القوم حلقة حول الخوان، وعاد الوئام يسود القوم، وإن بدا على المستر ونكل شيء من القلق قد ظل مخامرا صدره، ولعل مرجعه إلى انتزاع ثوبه من الحقيبة، وغيابه عنها إلى حين، وإن لم يكن من المعقول أن نظن أن حادثا يسيرا كهذا يمكن أن يثير غضبا ولو عابرا في صدر رجل من معاشر «البكويكيين».
وفيما عدا هذا عاد القوم إلى مرحهم، واستردوا صفو مزاجهم، وانتهى المساء بالروح المرحة التي بدأ بها.
الفصل الرابع
يوم ميدان ومبيت في الخيام ... أصدقاء جدد آخرون ... دعوة إلى زيارة الريف. ***
نرى خلقا كثيرا من المؤلفين يقيمون اعتراضا سخيفا، بل في الواقع اعتراضا غير صادق على الاعتراف بالموارد التي استقوا منها معلوماتهم النفسية ورواياتهم القيمة، ولكنا لا نرى هذا الرأي، وإنما نحاول أن نؤدي على أكمل وجه واجبنا بوصفنا ناشرين، ومهما يصح أن نحمله في هذه الظروف من الطموح أو الرغبة في ادعاء تأليف هذه القصة، فإن احترام الحقيقة يمنعنا أن نفعل ذلك، هل يقتضينا ألا نعزو من الفضل أكثر من جهد التنسيق الحكيم، والسرد النزية، جاعلين مذكرات «بكوك» بمثابة منبع النهر الجديد، ونحن إزاءها أشبه بشركة هذا النهر ومؤسسته، فإن جهد غيرنا هو الذي هيأ لنا معينا عظيما من الوقائع الخطيرة، وكل مهمتنا أن نبسطها ونسوقها في «فيض رقراق»، أو «غدير» رقيق، في هذه الفصول المتتابعة، إلى العالم «المتعطش لمعرفة البكويكيين».
وعملا بهذا المبدأ، وتنفيذا صادقا لعزمنا على الوفاء بحق والمراجع التي استأنسنا بها؛ نقول بصراحة: إننا مدينون «لكناشة» المستر سنودجراس بما أوردناه من الحوادث في هذا الفصل ، والذي سيليه، والآن وقد أرضينا ضميرنا، نمضي في السياق بغير تعليق آخر.
نهض أهل روشستر جميعا وسكان المدن المجاورة من مراقدهم في ساعة باكرة من صباح اليوم التالي، وهم في قلق بالغ وحماسة ظاهرة؛ لأن عرضا عسكريا كبيرا سيجري في الميدان، وأن القائد العام سيتفقد بعين النصر مناورات ستة آلايات ستشترك فيه، وقد أقيمت استحكامات موقوتة لهذا الغرض، ووضعت التصميمات لمهاجمة القلعة والاستيلاء عليها وتفجير الألغام.
وكان المستر بكوك من أشد المعجبين بالجيش، ولعل قراءنا قد أدركوا ذلك في النبذة اليسيرة التي أوردناها عن وصفه «لشاتام»، فلم يكن ثمة شيء أشد إمتاعا له، ولا أكثر انسجاما مع إحساس كل رفيق من رفقائه من هذا المشهد المرتقب، فلا غرو إذا هم بادروا إلى المسير نحو أرض العرض، وكان الناس قد استفاضوا إليه قبلهم، من مختلف الأحياء وعديد الدروب.
وكان الاستعداد في الميدان يوحي بأن الاحتفال المنتظر سيكون على أعظم جانب من الخطورة والروعة والجلال، فقد أقيم الحراس حوله حتى تظل أرضه الفضاء مخصصة للجنود، ومضى الخدم في المدفعية يحجزون أماكن للسيدات، والجاويشية يروحون ويغدون مسرعين، وقد حملوا كتبا مجلدة بالقماش تحت آباطهم، وبدا الأميرالاي بولدر في ثوبه العسكري الكامل، ممتطيا صهوة جواده، وهو يعدو به من موضع إلى آخر، ويدخل به في غمار الجماهير، أو يتمخطر فوقه ويصيح بأعلى صوته حتى يبح من كثرة الصياح، ويحمر وجهه أشد الاحمرار لغير ما سبب ظاهر أو باعث معقول، والضباط يجرون إلى الأمام وإلى الخلف، ويتحدثون أولا إلى الأميرالاي بولدر، ثم يصدرون الأوامر إلى الجاويشية، ثم يعدون جميعا مبتعدين، وكانت وجوه الجنود أنفسهم وهم في أحذيتهم اللامعة، وأطقمهم البراقة، تبدو عليها خطفة من هيبة وجلال تكفي للدلالة على ما لهذا الاحتفال من شأن خاص.
ووقف المستر بكوك ورفقائه الثلاثة في الصف الأول من صفوف الجماهير، ولبثوا في لهفة يرتقبون ابتداء العرض العام، وكان الزحام يشتد بين لحظة وأخرى؛ فشغلهم الجهد الذي اضطروا إلى بذله للعرض على المكان الذي وقفوا فيه عن كل شيء سواه ، ساعتين كاملتين، وأحسوا ضغطا شديدا في فترة ما من خلفهم، وإذا بالمستر بكوك يدفع فجأة إلى الأمام دفعا عدة ياردات بسرعة ورجرجة لا تتفقان مطلقا مع وقاره وهيبته، وفي لحظة أخرى سمع صيحات تأمره بالتراجع عن الخط، وأحس مؤخر بندقية يسقط فوق أصابع رجله لتنبيهه بإطاعة الأمر، أو في صدره للتحقق من امتثاله إليه، وإذا بعض الماجنين عن شماله، يضغطون من هذا الجانب بجمعهم عليه، ويحشرون سنودجراس حشرة أليمة متناهية في الإيلام، صائحين به: «إلى أين أنت ذاهب؟» وما كاد ونكل يفرغ من إبداء غضبه المتناهي من مشهد هذا الهجوم عليهم بغير داع، حتى عمد أحدهم من خلفه إلى إرخاء قبعته على عينيه، ومطالبته بأن يتكرم فيضع رأسه في جيبه، فكانت هذه المداعبات بجانب الدعابات الأخرى، ثم اختفاء السيد طبمن فجأة بلا سبب، وحيرة أصحابه في الاهتداء إليه؛ مما جعل الموقف يبدو - في الجملة - مزعجا أكثر منه سارا، أو مرغوبا فيه.
وأخيرا ارتفع في الفضاء زئير أصوات كثيرة في صفوف النظارة؛ إيذانا بوصول من كانوا طيلة الوقت في انتظاره، فاتجهت الأبصار جميعا نحو نقطة الابتداء، ولم تنقض بضع لحظات في لهفة شديدة وارتقاب بالغ، حتى شوهدت الأعلام خفاقة في الفضاء، والأسلحة وهاجة في ضياء الشمس، وجاء الجنود صفا صفا، يمشون إلى الساحة بانتظام، ثم وقفوا فاصطفوا، وتعالت كلمات الأمر من أفواه القواد، فارتفعت البنادق والأسلحة مؤدية وقفة السلام، وجاء القائد العام يمشي إلى جانبه الأميرالاي بولدر وعدد كبير من الضباط يتفقد العرض، وعزفت الموسيقات كلها عزفة واحدة، ووقفت الخيل على ساقين، وتراجعت إلى الخلف، وهزت أذيالها في كل مكان، ونبحت الكلاب، وارتفع الهتاف من أفواه الحاشدين، وانطلقت الكتائب في سير عام مبتعدة، فلم تجد العين تشهد على الجانبين وإلى نهاية مدى البصر، غير ظل مستطيل في أردية حمر وسراويل بيض، وهي مستقرة جامدة بلا حراك.
وكان المستر بكوك مشغولا طيلة الوقت بالتعثر والسقوط، وتخليص نفسه بأعجوبة من بين سيقان الخيل، فلم يستمتع بمشاهدة المنظر استمتاعا كافيا، حتى اتخذ الصورة التي وصفناها؛ فتمكن عندئذ من الوقوف مستويا على ساقيه، ولم يلبث سروره وابتهاجه أن جاوزا الحدود.
فأقبل على صاحبه المستر ونكل يقول: «هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء أبدع من هذا، وأكثر متعة للنفس؟»
فأجاب هذا قائلا: «لا يمكن.»
وكان رجل قصير القامة، قد لبث ربع ساعة واقفا على قدميه يدوسهما بكل ثقله، وهو صابر لا يشكو.
وهاجت في صدر المستر سنودجراس وقدة الشاعرية، وكادت تبعث متأججة منه؛ فذهب يقول: «إنه حقا لمشهد رفيع باهر، أن تلم عينك بحماة وطنك البواسل، وهم مصطفون في ثيابهم البراقة أمام مواطنيهم الآمنين، مشرقو الوجوه، لا بوحشية الحرب بل بلطف الحضارة، ملتمعو الأعين، لا بنار الرغبة في النهب والسلب وحب الانتقام، بل بضياء الإنسانية وبريق الفهم والذكاء ...»
واندمج المستر بكوك بكل مشاعره في روح هذا المديح ومعانيه، ولكنه لم يستطع ترديد أصدائه، وتكرار ألفاظه بالذات.
وتلفت حوله وأنشأ يقول: «نحن الآن في موقف بديع.» فقد بدأ الناس يتفرقون من مواقفهم القريبة منهم، حتى كادوا يخلون لأنفسهم حيث وقفوا.
وانثنى المستر سنودجراس والمستر ونكل يرددان قول صاحبهما: «بديع!»
ووضع المستر بكوك منظاره فوق عينيه، وقال: «وما تراهم يفعلون الساعة؟»
وقال المستر ونكل وقد بدأ لونه يتغير: «أظنهم ... أحسبهم يهمون بإطلاق النار.»
ولكن المستر بكوك قال في عجلة: «هذا كلام فارغ!»
وقال المستر سنودجراس في شيء من الفزع: «أعتقد أنهم سيفعلون ...»
فأجاب المستر بكوك: «مستحيل.» ولم يكد يفوه بهذه الكلمة حتى صوب جنود الآلايات الستة في حركة واحدة فوهات بنادقهم، كأنما يوشكون أن يسددوها إلى هدف واحد مشترك، وهذا الهدف هو معاشر البكويكيين، وإذا دوي مروع يدوي، فيرج الأرض رجا، ويهزها من نقطة ارتكازها هزا، كما يهز سيدا كبيرا ويقتلعه من مكانه اقتلاعا.
وفي ذلك الموقف العصيب، موقف التعرض للنيران المروعة من الذخيرة «الرش»، والمضايقة من حركات القوات العسكرية، وقد أخذ قسم منها يصطف في الجبهة المقابلة، راح المستر بكوك يبدي من السكينة التامة ورباطة الجأش، ما يلازم صفات الرجل الكبير العقل، ويقترن عادة بسجاياه وخلاله ؛ فقد أمسك المستر ونكل من ذراعه، واتخذ موقفه بين هذا والمستر سنودجراس، راجيا بجد منهما أن يذكرا أن ليس ثمة خطر مباشر، يدعو إلى الخوف من إطلاق النار، إلا ما قد يحتمل من الإصابة بالصم من شدة الدوي وقصفه.
وهنا اعترض المستر ونكل، وقد اصفر وجهه من الافتراض الذي كان هو الذي أثاره بقوله: «ولكن افرض أن بعض الجنود قد وضع خطأ رصاصا حيا في «ظروفه» وخراطيشه، فقد سمعت شيئا يصفر في الفضاء اللحظة، وقد مرق الصوت الصافر بقرب أذني.»
وقال المستر سنودجرادس: «لخير لنا أن ننبطح على وجوهنا، أليس ذلك أحجى وأحكم؟»
وقال المستر بكوك: «لا ... لا ... لقد انتهى كل شيء الآن.»
وقد بدت شفتاه ترجفان، وصفحة وجهه تبيض وتشحب، ولكن شفتيه لم تنفرجا عن أي تغيير من خوف أو جزع، شأن الرجل الخالد الذي لا يخشى الموت.
وكان المستر بكوك على حق ... فقد انقطع إطلاق النيران، ولكن لم يكد يتسع الوقت له ليهنئ نفسه بصواب رأيه، حتى شوهدت في الميدان حركة واسعة، وسرت في الصفوف أوامر عاجلة، وقبل أن يتمكن الرفقاء الثلاثة من تكوين رأي في معنى هذه الحركات الجديدة، أقبلت الآلايات الست بأجمعها شاهرات الأسنة، متقدمات بخطوة سريعة نحو البقعة التي كان السيد بكوك وصاحباه واقفين فيها.
إن الإنسان معرض للموت في كل لحظة، وإن هناك حدا للشجاعة البشرية لا تستطيع تجاوزه، فلا غرو إذا كان المستر بكوك بعد نظرة سريعة من خلال منظاره، إلى هذه الكتل الزاحفة، قد ولى ظهره لها، ولذا نقول: لاذ بأذيال الفرار ... لأنه أولا تعبير محبب، وثانيا: أن شكل المستر بكوك لا يتفق مع هذا الأسلوب من التقهقر، ولكنا نقول: إنه انطلق «خببا» على قدر ما استطاعت ساقاه أن تحملاه، أي نعم انطلق بسرعة بالغة، لم يفطن معها إلى غرابة موقفه كل الفطنة، إلا بعد حين.
وكانت القوات التي اصطفت قبالة المستر بكوك من قبل، وحار في إدراك المراد من اصطفافها بضع ثوان على هذه الصورة، قد وقفت هكذا لصد هجمة تمثيلية من الجنود المحاصرين للقلعة، على سبيل التمثيل. وإذا بالمستر بكوك ورفيقاه قد وجدوا أنفسهم فجأة محصورين بين صفين من القوات الكبيرة، أحدهما يزحف بخطى سريعة، والآخر ثابت؛ للاشتباك في قتال وطعان.
وصاح الضابط في الجيش الزاحف: «هو ...»
وصرخ الضباط في الجيش الواقف: «ابتعدوا عن الطريق، أفسحوا السبيل ...»
وصاح البكويكيون الثلاثة مروعين: «إلى أين نذهب ...؟»
فكان الجواب الوحيد: «هو ... هو ... هو ...»
وتلت هذا الموقف حيرة بالغة، وذهول شديد، ووقع أقدام ثقال، ورجة عنيفة، وضحكة مكبوتة، وكانت الآلايات الستة على قيد خمسمائة ياردة، ولكن حذاء المستر بكويك بدا طائرا في الفضاء، وأما المستر سنودجراس والمستر ونكل فقد اضطرا إلى الانقلاب ظهرا لبطن في خفة ظاهرة، وكان أول شيء وقعت عين المستر ونكل عليه حين حط على الأرض، بعد ذلك الانقلاب في الفضاء، وهو يمسح بمنديل حريري أصفر «نهر الحياة» الذي نزف من أنفه - مشهد زعيمه الموقر على قيد خطوات منه، وهو يعدو في إثر قبعته، وهي تصفر لاهية ذاهبة مع الهواء كل مذهب.
وقلما تعرض للمرء في حياته لحظات يواجه فيها محنة تثير الضحك، ولا تبعث كثيرا من الإشفاق عليه والرثاء لحاله، كاللحظة التي يجري فيها مطاردا قبعته، وأن القبض عليها ليقتضي قدرا كبيرا من الهدوء، وحدا بالغا في الاتزان، فلا ينبغي للمرء أن يتعجل الهجوم عليها، وإلا داسها بقدميه، أو استبقها في عدوه، كما لا يصح له الغلو في الهدوء، وإلا فقدها إلى الأبد، وإنما الطريقة المثلى هي التلطف للطريدة، والأخذ بالحذر والحيطة، وترقب الفرصة المواتية، والتقدم شيئا فشيئا أمامها، ثم الانقضاض العاجل عليها، والإمساك بها من قمتها، وحشرها في رأسك حشرا لا فكاك لها منه، وأنت في ذلك كله باسم بسعة الرضى، كأنك تعتقد أنها منظر مضحك لك، كما هو مضحك لسواك من الناس.
وكان الريح رخاء، فراح المستر بكوك يتدحرج أمامها مداعبا، ثم هبت الريح، فهب المستر بكوك مثلها، فانطلقت القبعة متدحرجة دحرجة مرح ودعابة كأنها سمكة حية في موج شديد، وكان من الجائز أن تظل متدحرجة على هذا النحو حتى تعز على منال المستر بكوك، لولا أن وقف فجأة في طريقها حائل ساقته الأقدار، في اللحظة التي أوشك ذلك السيد أن يدعها إلى مصيرها المحتوم.
نقول: إن المستر بكوك أحس بإعياء تام، وكاد ينثني عن المطاردة، في اللحظة التي اندفعت فيها القبعة بعنف؛ فاصطدمت بعجلة مركبة كانت واقفة في صف مستطيل من بضع مركبات أخرى في البقعة التي ساقته إليها خطاه، وأدرك المستر بكوك أن الظرف في مصلحته؛ فاندفع بخفة إلى الأمام، فاسترد قبعته ووضعها فوق هامته، وتمهل ليملك أنفاسه اللاهثة، ولكنه ما كاد يقف في مكانه نصف دقيقة، حتى سمع صوتا ينادي باسمه في لهفة، وتبين في الحال أنه صوت المستر طبمن؛ فرفع بصره ليرى أين هو، فشهد منظرا ملأ خاطره دهشة وحبورا.
رأى في مركبة مفتوحة، انتزعت جيادها منها مراعاة لشدة الزحام شيخا بدينا في ثوب أزرق، وأزرار براقة، وسراويل من المخمل، وحذاء طويل، وبجانبه شابتين في ثياب هفافة وريش، وفتى في نضارة العمر، يبدو عليه أنه يحب الغادتين، وسيدة لا يستطيع المرء أن يقدر سنها، وأكبر الظن أنها خالتهما، ومعهم المستر طبمن وهو مطمئن مرتاح، كأنه يمت إلى الأسرة بنسب منذ طفولته، وقد ربطت بمؤخر المركبة سلة كبيرة من تلك السلال التي تثير في الخاطر القوي الخيال صور الدجاج البارد واللسان وزجاجات النبيذ، وفي مقعد السائق جلس غلام بدين محمر الوجه، وهو يهوم في مجلسه تهويما، لا يكاد الداني المتأمل يبصره على هذه الصورة، حتى يعتقد أنه سوف يكون الساعي على القوم بما حوته تلك السلة من أطياب، عندما يحين الوقت المناسب لتناولها.
وألقى المستر بكوك نظرة عجلى على هذه المشاهدة الممتعة، وإذا هو يتلقى تحية أخرى من مريده الأمين؛ فقد صاح المستر طبمن به قائلا: «بكوك ... بكوك ... أقبل ... أسرع إلينا.»
وتلاه الشيخ البدين مناديا: «تعال يا سيدي، أرجوك أن تأتي ... يا جو؟ ... لعنة الله على هذا الغلام، لقد عاد إلى النوم ... أي جو ... أنزل السلم.»
فنزل الغلام من فوق مقعده ببطء، وأنزل سلم المركبة ، وأمسك ببابها مفتوحا أمام المستر بكوك ليدخل، وفي هذه اللحظة أقبل المستر سنودجراس والسيد ونكل.
وصاح الرجل البدين: «إن في المركبة متسعا لكم جميعا أيها السادة ... اثنان في جوفها، والآخر خارجها ... يا جو ... هيئ مكانا لأحدهم فوق المقعد، والآن يا سيدي هلم.» وراح يمد ذراعه، ويجذب المستر بكوك أولا، ثم المستر سنودجراس بعده، إلى الدخول بالقوة، وصعد المستر ونكل إلى المقعد، وفي إثره الغلام النوام، ولم يكد يستقر في مجلسه حتى ذهب في النعاس.
وأنشأ الرجل البدين يقول: «أهلا بكم أيها السادة ... إني لفرح بلقائكم، وأنا عليم بكم حق العلم، وإن كان من المحتمل أنكم لا تذكرونني، فقد قضيت بضع أمسيات في ناديكم خلال الشتاء الماضي، والتقيت مصادفة بالمستر سنودجراس في هذا الصباح، وسرني لقاؤه السرور كله، والآن كيف أنت يا سيدي؟ إنك لتبدو في خير وعافية أكثر من أي وقت آخر.»
فشكر المستر بكوك له هذه التحية، وصافحه بمودة وتلطف.
ودار الرجل البدين بعينه إلى المستر سنودجراس في حنان أبوي، فقال: «والآن ... كيف حالك يا سيدي؟ بديع؟ أليس كذلك؟ حسنا؟ ... هذا جميل ... هذا جميل ...» وانثنى إلى المستر ونكل، فمضى يقول: «وكيف أنت يا سيدي؟ حسنا ... إنني لسعيد أن أسمعك تقول إنك بخير ... حقا إنني لسعيد ... هاتان ابنتاي يا سادة ... وهذه أختي مس راشل واردل، هي آنسة، ومع ذلك ليست آنسة، إيه يا سيدي ... إيه!» ومضى يضع مرفقه مداعبا بين أضلاع المستر بكوك، ويضحك من أعماق قلبه.
وقالت مس واردل بابتسامة متعبة: «ما هذا يا أخي؟ ... ويحك!»
قال: «حقا ... حقا ... وهل ينكر أحد ذلك أيها السادة؟ أستميحكم المعذرة، هذا صديقي المستر «تراندل»، والآن قد تعارفتم جميعا، فلنطمئن ولنسعد، ولنر ماذا نحن صانعون بعد ذلك ... هذا هو ما أقوله.»
ووضع الرجل البدين منظاره على عينيه، وأخرج المستر بكوك أيضا منظاره، ووقف الجميع في المركبة، وراح كل منهم ينظر من فوق كتف الآخر إلى تدريبات الجنود وحركاتهم.
وكانت حركاتهم مثار دهشة بالغة؛ فقد مضى صف منهم يطلق النار من فوق هامات الصف الآخر، ثم يعدو مبتعدا، وراح هذا يفعل ما فعله الأولون، ثم يسرع مبتعدا كذلك، ثم يؤلف الجمع مربعات منهم، بحيث يقف الضباط في وسطها، ثم ينزلون الخندق من جانب واحد بمدارج خشبية، ثم يصعدون من الجانب الآخر بالوسيلة عينها، ويتقدمون إلى متاريس من السلال، فيقلبونها من مواضعها، وهم في ذلك كله يبدون من الشجاعة والإقدام أروع الأمثلة، وتلا ذلك من إطلاق المدافع الضخمة، وإفراغ كل ما في جوفها لمسح العدو مسحا، ومن الدوي الرهيب قبل إصدار الأمر إلى القوات بالمسير - ما جعل الفضاء يردد أصدية الصرخات المنبعثة من أفواه النساء، حتى لقد بلغ الرعب من الآنستين «واردل» حدا اضطر المستر تراندل إلى إسناد إحداهما في المركبة؛ حتى لا تسقط من موضعها هلعا، بينما بادر المستر سنودجراس إلى إسناد الأخرى، واستولى الفزع على أخت المستر واردل إلى حد مروع، حمل المستر طبمن على تطويق خصرها بذراعه؛ لكيلا تسقط في جوف المركبة. وكان الاضطراب قد ساد الجمع، ما خلا الغلام البدين؛ فقد لبث في نومه هادئا كل الهدوء، كأن قصف المدافع النغمة المألوفة التي اعتاد أن ينام عليها.
وصاح الرجل البدين مناديا: «جو ... جو.» حين اقتحمت القلعة، وجلس المنتصرون والمحاصرون لتناول الطعام، وطفق يقول: «لعنة الله على هذا الغلام، لقد ذهب في النوم مرة أخرى ... تكرم يا سيدي، واعركه في ساقه من فضلك، فلا شيء غير العرك يوقظه ... شكرا لك ... والآن علينا بالسلة يا جو.»
وعندئذ استيقظ الغلام، وما أيقظه حقا غير الشعور بجزء من ساقه منضغطا بين إصبعي المستر ونكل، وراح يثب من فوق المقعد، وأخذ في فك أربطة السلة بسرعة لم تكن منتظرة منه، بعد جموده واستيلاء النعاس عليه.
وقال الرجل البدين: «الآن فلنجلس متقاربين.»
وبعد أن تناول القوم عدة نكات وأمازيح عن حشر أكمام السيدات، واصطبغت الخدود بحمرة الحياء من عدة مقترحات مضحكة، كقول قائل منهم يحسن أن تجلس السيدات في حجور الرجال، انتظمتهم جميعا حلقة في المركبة، وبدأ الرجل البدين يتسلم الأطعمة من الغلام، وكان هذا قد صعد خلف المركبة لهذا الغرض.
وصاح السيد البدين: «الآن يا جو ... علينا بالسكاكين والشوك.» فناوله الغلام إياها، فوزعت على السيدات والسادة في جوف المركبة، وأوتي المستر ونكل القائم فوق مقعد السائق نصيبه من هذه القواطع النافعة.
وعاد السيد البدين يصيح: «جو ... الأطباق!»
وتم توزيع الصحاف بالطريقة ذاتها ...
وصاح السيد البدين: «جو ... الدجاج! لعنة الله على هذا الغلام ... لقد ذهب في النوم مرة أخرى ... جو ... جو!»
وراح يدق رأس الغلام دقات متوالية بعصا حتى انتبه بمشقة من نعاسه، فصاح السيد به: «هات الطعام!»
وكان في صوته، وهو يقول الكلمة الأخيرة، شيء أيقظ الغلام الشحيم اللحيم بعنف، فقفز وراحت عيناه المتثاقلتان من سلطان النعاس عليهما تبرقان خلف خديه الضخمين، فطفق يبتسم ابتساما بشعا للطعام، وهو يخرجه من جوف السلة.
وصاح المستر واردل به قائلا: «هيا ... أسرع.» حين شهد الغلام متشبثا في سرور ولذة بدجاجة محمرة، لا يستطيع لها فراقا، ولا يبغي لها تركا، فزفر زفرة عميقة، وألقى نظرة متشهية على لحمها اللدن، وسمنها الظاهر، ثم تقدم على كره منه بها إلى سيده ...
وقال هذا: «هذا حسن ... انتبه ... والآن هات اللسان ... والحمام ... وانتبه لهذا اللحم الكندوس ... ولحم الخنزير ... ولا تنس الكبوريا ... وأخرج «السلاطة» من الغطاء ... وأعطني المفرش!»
وكانت هذه الأوامر العاجلة تخرج من شفتي المستر واردل، وهو يحمل المآكل المختلفة التي أسلفنا ذكرها، ويضع الصحاف في أيدي القوم وعلى ركبهم، وهي كثيرة لا تنتهي.
وعندما بدأت عملية الانقضاض على الطعام، أنشأ ذلك السيد المزاح يقول: «والآن أليس هذا بديعا؟»
وأجاب المستر ونكل، وهو يقطع أوصال دجاجة فوق مقعد السائق: «مفتخر!»
وسأل المستر واردل: «ألك في كأس من النبيذ؟»
قال: «بكل سرور.»
وأجاب المستر واردل: «خير لك أن تأخذ زجاجة بأكملها لنفسك، وأنت في مكانك هذا ... ألا تقر هذا الراي؟»
قال: «إنك لكريم!»
وعاد الرجل البدين ينادي الغلام: «يا جو!»
وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.» ولم يكن في هذه المرة نائما، فقد ظفر لنفسه بفطيرة محشوة لحما ...
قال: «زجاجة نبيذ للسيد ... إني لسعيد برؤيتك يا سيدي ...»
وأجاب المستر ونكل: «شكرا.» وقد أفرغ الكأس في جوفه، ووضع الزجاجة بجانبه فوق المقعد.
وقال المستر تراندل مخاطبا المستر ونكل: «هل تسمح لي بمتعة الشراب معك يا سيدي؟»
قال: «حبا وكرامة.»
وتناول السيدان كاسا من النبيذ، ثم انطلقا يشربان أخرى مع القوم جميعا، سيدات ورجالا ...
وهمست العمة العانس بتلك الغيرة الصادقة التي تحسها العمات العوانس، لأخيها السيد واردل: «انظر كيف تعاكس إميلي العزيزة بالغزل ذلك السيد الغريب؟!»
فأجابها السيد الشيخ المرح: «أوه ... لا أعرف ... كل هذا طبيعي ... بل أقول إنه شيء مألوف ... يا مستر بكوك، هل لك في نبيذ؟»
فاستجاب المستر بكوك للدعوة على الفور، وكان في تلك اللحظة منهمكا في البحث عما عسى أن يكون الحشو في جوف اللحم المحمر ...
وقالت العمة العانس في لهجة الولية الراعية: «يا عزيزتي إملي ... لا تتكلمي بصوت مرتفع يا حبيبتي.» فأجابتها هذه بقولها: «يا سلام ... يا عمتي!»
وهنا همست مس إيزابللا واردل لأختها إملي قائلة: «أظن أن عمتي والشيخ الكبير يريدان أن يستأثرا بكل شيء لنفسيهما!»
وضحكت الفتاتان من أعماق قلبيهما، غير أن العجوز حاولت أن تبدو متلطفة راضية، ولكنها لم تستطع.
وأقبلت على المستر طبمن تقول بلهجة رثاء رقيق: «إن للبنات أرواحا أي أرواح! كأن الأرواح الحية المرحة ممنوعة، وامتلاكها بغير رخصة جريمة نكراء!»
وأجاب المستر طبمن جوابا لم تكن تنتظره منه، فقد ذهب يقول: «أي نعم، إن لهن ما وصفت ... وهو شيء يبهج، ويبعث السرور.»
وقالت مس واردل متشككة: «هيم ...!»
وعاد المستر طبمن يقول مجاملا، وهو يلمس معصم راشل الفاتن بإحدى يديه، ويرفع الزجاجة في رفق بالأخرى: «هل تسمحين لي ...؟»
قالت: «أوه ... يا سيدي!»
وبدا المستر طبمن شديد الإغراء، وأبدت راشل خوفها من أن يعود الدافع إلى إطلاق النار؛ فتحتاج طبعا إلى من يسندها مرة أخرى ...
وهمست عمة الفتاتين الودود في آذان المستر طبمن: «هل تعتقد أن ابنتي أخي مليحتان؟»
فقال هذا البكويكي على الفور، وفي عينيه نظرة شيقة: «أعتقد ذلك، إذا لم تكن عمتهما حاضرة.»
قالت: «يا لك من رجل «شقي»! ولكن قل لي حقا ... لو كانت قسماتهما أحسن ... قليلا ... ألست ترى أنهما ستبدوان عندئذ فتاتين مليحتين على ضوء الشموع؟»
قال بلهجة استخفاف: «أعتقد أنهما كانتا ستبدوان كذلك.»
قالت: «أوه ... إنك لماجن! ... أعرف ماذا كنت موشكا أن تقوله.»
وهنا قال المستر طبمن: «ماذا؟» لأنه في الواقع لم يكن فكر فعلا في أن يقول شيئا إطلاقا ...
قالت: «أعرف أنك هممت بأن تقول أن «إيزابيللا» «محنية»، أعرف أنك كنت قائلا ذلك ... إنكم معاشر الرجال أقوياء الملاحظة، والواقع أنها كذلك، فلا نفي ولا إنكار، وفي الحق، إذا كان ثمة شيء أكثر إظهارا لقبح الفتاة من كل ما عداه فهو الانحناء، وكثيرا ما قلت لها أنها ستبقى منحنية الشكل، حين تتقدم قليلا من العمر ... حقا إنك لماجن!»
ولم يكن لدى المستر طبمن مانع من أن يكسب هذه الشهرة بثمن بخس كهذا، فتراءى كأنه العريف العليم، وابتسم ابتسامة غريبة ...
وهنا قالت راشل المعجبة به: «يا لها من ابتسامة ساخرة! ... إنني أصارحك أنني منك جد خائفة.»
قال: «أخائفة مني أنا؟!»
قالت: «أوه ... إنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عني ... إنني أعرف معنى ابتسامتك هذه حق المعرفة.»
قال ولم يكن يدري بتاتا المراد: «ماذا تقولين؟»
وهنا قالت العمة المعجبة، وهي تخفض كثيرا من صوتها: «إنك تعني بها أنك لا تعتقد أن انحناءة إيزابيللا رديئة كجرأة إملي ... ولك الحق ... إنها لجريئة، ولا يمكنك أن تتصور مبلغ ألمي أحيانا من جرأتها، بل لكثيرا ما بكيت منها الساعات الطوال ... إن أخي العزيز طيب القلب غاية الطيبة، سليم النية كل السلامة، فلا يفطن إليها أبدا، ولو فطن فلا أشك في أن قلبه سينفطر ألما ... لوددت لو استطعت أن أحسب جرأتها مجرد اصطناع وتكلف ... أرجو أن تكون كذلك ...» وهنا أرسلت هذه العمة الودود زفرة عميقة، وهزت رأسها هزة اليائس المحزون.
وهمست مس إملي واردل لأختها: «إني واثقة من أن عمتي تتحدث عنا ... إني واثقة من ذلك كل الثقة ... إن الرغبة في الأذى والخبث بادية على وجهها ...»
وأجابت إيزابيللا قائلة: «أكذلك! ... هيم ... أي عمتي العزيزة!»
فقالت عمتها: «نعم يا حبيبتي الغالية!»
وأجابت إيزابيللا: «إنني أخشى كثيرا أن يمسك برد يا عمتي ... خذي منديلا من حرير فاربطيه حول رأسك الكبير الغالي ... يجب في الواقع أن تحرصي على صحتك، وتراعي سنك.»
وكانت هذه العبارة التي أطلقتها الفتاة ردا على ما قالته عمتها في حقها كلاما في محله، وكانت صحتها تستحقه فعلا، ولكنه بلغ من الحقد حدا لم يكن يحسن الالتجاء إليه، ولسنا نستطيع أن نتكهن بما كانت عمتها في غضبها مجيبة لو لم يغير المستر واردل موضوع الحديث، وهو لا يدري، بترديد ندائه على الغلام: «جو!»
وقال هذا السيد الشيخ: «لعنة الله على هذا الولد ... لقد عاد إلى النوم!»
وانثنى المستر بكوك يقول: «هذا غلام شاذ حقا ... أينام دائما على هذا النحو؟»
وقال الشيخ بتأن: «إنه «نائم» على الدوام، وإنه ليذهب ليؤدي أعماله وهو مستغرق في النوم، ويغط وهو يخدمنا على المائدة.»
قال المستر بكوك: «ما أعجب، وما أغرب!»
وردد الشيخ قوله: «حقا ما أعجب وما أغرب ... إني بهذا الغلام لفخور ... ولن أدعه يفارقني لأي سبب من الأسباب، إنه لأعجوبة من أعاجيب الطبيعة ... جو ... جو ... ارفع هذه الأشياء وافتح زجاجة أخرى ... أأنت سامع؟»
ونهض الغلام الشحيم اللحيم وفتح عينيه، وازدرد الفطيرة الضخمة التي كان منشغلا بمضغها حين استولى النعاس عليه آخر مرة، وراح في بطء ينفذ أوامر سيده، محدقا البصر في استرخاء في بقايا المائدة، وهو يرفع الصحاف ويودعها جوف «السفط».
وأحضرت الزجاجة الجديدة، وما لبثت أن أفرغت، ثم ربط السلة في موضعها القديم، وعاد الغلام السمين يصعد إلى المقعد، ووضعت المناظر والمجاهير مرة أخرى فوق الأبصار، واستؤنفت الحركات العسكرية أمام النظارة، واشتد قصف المدافع، وعادت السيدات إلى الإجفال من الخوف، وإذا بنزك ينبعث في الفضاء، فيتلقاه الناس بالفرح والاغتباط، وما كاد ينطفئ ويتوارى، حتى حذا الجنود والجماعة التي أسلفنا عليك وصفها حذوه، فتواروا هم كذلك منصرفين.
وانثنى الشيخ يقول وهو يهز يد المستر بكوك عقب حديث جرى متقطعا على فترات خلال ختام العرض : «والآن تذكر أننا سنراكم جميعا غدا ...»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد.»
قال: «ولديك عنواننا.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يستوحي كناشته: «نعم ... عزبة مانور ... في دنجلي ديل.»
قال: «بالضبط ... وتذكر أنني لن أتركك حتى تقيم لدينا أسبوعا على الأقل، وأؤكد لك أنك ستشهد كل ما يستحق المشاهدة، وإذا رغبت في الاستمتاع بالحياة في الريف، فتعال أشهدك منها ألوانا، وأسرحك فيه سراحا جميلا ... يا جو ... لعنة الله على هذا الغلام ... لقد عاد إلى النوم ثانية ... جو ... ساعد «توم» على إسراج الجياد.»
وأسرجت الخيل، وصعد السائق، ووثب الغلام إلى مجلسه بجانبه، وتبودلت عبارات الوداع، وانطلقت المركبة رجراجة، وفيما كان البكويكيون يديرون أعينهم لتعليتها بآخر لمحة منها، أرسلت الشمس الهائلة إلى المغيب ضياء باهرا من حمرة اللحيم على وجوه مضيفيهم، كما سقط الضياء على الغلام الشحيم اللحوم، فإذا رأسه ينحدر فوق صدره، وقد عاوده النعاس ...
الفصل الخامس
فصل قصير، يصف فيما يصف، كيف تولى المستر بكوك قيادة المركبة، وكيف ركب المستر ونكل حصانا، وكيف تصرفا في هذه المسألة ... ***
كانت السماء صافية ممتعة، والهواء عليلا، وكل شيء في الفضاء الرحيب جميلا، حين أطل المستر بكوك من فوق سياج «جسر روشستر» يتأمل الطبيعة، وينتظر طعام الفطور.
وكان المشهد في الحق أدعى إلى الاستحواذ على من كان أقل من المستر بكوك عقلا لماحا، أو دونه خاطرا مصقولا، فمن شماله ينهض الجدار الأثري المتداعي من عدة نواحيه، والمطل من بعضها الآخر على الشاطئ الرملي المترامي - كثبانا متعرجة، وربوات عالية، وقد نما وتكاثر عشب البحر، فبدا عقدا ضخمة فوق الأحجار المتثلمة الجوانب، المحددة الأسنان، والعشب يهتز مع كل هبة من أنفاس الريح، بينما راح اللبلاب الأخضر يتشبث في حزن واكتئاب بالشرفات القواتم الخربة، ومن ورائه يقوم الحصن القديم، أبراجا بلا سقوف، وجدرانا ضخمة مهدمة، وإن حدثنا حديث الزهو والفخار عن بأسه القديم، وقوته الغابرة، يوم كان منذ سبعمائة عام، يضج بصليل السيوف، واشتباك السلاح، وتتردد في نواحيه أصدية المآدب والولائم، وضوضاء اللهو والقصف، وقد ترامت على ضفتي نهر المدواي حقول من القمح، ومروج ناضرة، تلوح خلالها طاحونة هواء، أو كنيسة منعزلة، وتبدو مترامية إلى أقصى حدود البصر في مشهد جميل مختلف الألوان، تزيده جمالا الظلال المارقة التي تخترقه كلما توارت السحب القلائل المتناثرة في ضياء الصباح، والنهر يعكس على صفحته زرقة السماء الصافية، ويلتمع ويبرق ويشع، وهو مستفيض في رفق، منطلق في سكون، ومجاديف الصيادين مغيبة في جوف أمواجه، محدثة صوتا جليا صائلا، والزوارق الثقال - وإن بدت جميلة الصور - تنساب في بطء على صفحته.
وما لبث المستر بكوك أن انتبه من هذه «الفجوة» التي اجتذبته إليها تلك المشاهد البادية أمامه، على زفرة عميقة ولمسة رفيقة فوق كتفه، فاستدار ليرى من هذا المباغت.
قال: «أتتأمل هذا المشهد؟»
فوجد «الرجل التعس» واقفا بجانبه.
قال: «نعم ... كنت أفعل.»
فعاد الرجل التعس يقول: «وتهنئ نفسك باليقظة باكرا هذا البكور؟»
فأومأ المستر بكوك إيماءة الإيجاب.
وواصل الرجل حديثه يقول: «ما أحوج الناس إلى النهوض من فراشهم باكرين؛ ليشهدوا الشمس في روعتها التامة، وكل جلالها؛ إذ قلما يمكث بهاؤها النهار كله، فما أقرب الشبه بين صباح اليوم وصباح الحياة.»
وقال المستر بكوك: «لقد قلت حقا يا سيدي.»
واسترسل الرجل التعس: «وقد صدق القول السائر: إن الصباح لأبدع وأجمل من أن يدوم. وما أولى بهذا القول أن ينطبق على حياتنا اليومية ... يا إلهي ... بأي ثمن أود لو استعدت أيام طفولتي، أو استطعت أن أنساها إلى الأبد.»
وقال المستر بكوك بإشفاق ورثاء: «لقد قاسيت كثيرا في حياتك يا سيدي.»
وأجاب الرجل التعس في عجلة: «نعم، لقد قاسيت أكثر مما يستطيع الذين يرونني اليوم أن يصدقوا جوازه، أو يعتقدوا احتماله.»
وتمهل لحظة، ثم عاد يقول فجأة: «ألم يخطر يوما ببالك - في ذات صبح كهذا - أن في الموت غرقا هناءة وراحة وسلاما؟»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «يا لله! ... كلا!» وانثنى قليلا عن سياج الجسر؛ إذ تصور - على الرغم منه - أن الرجل قد يدفعه من فوقه، ولو على سبيل التجربة.
ومضى هذا في حديثه يقول دون أن يفطن إلى الحركة التي بدرت منه: «ولكني فكرت في ذلك أحيانا كثيرة، ويلوح لي أن الماء الهادئ البارد إنما يغمغم بدعوتي إلى الراحة والسكون، فما هي إلا قفزة، فرشاش، فمغالبة قصيرة، فدوامة عابرة، ثم تستحيل شيئا فشيئا إلى موجة خفيفة رقيقة، وقد أطبق الموج عليك، وانفلق الماء فوق رأسك، فإذا الدنيا قد أغلقت دونك أبواب متاعبك وخطوبك إلى الأبد.»
وكانت عينه الغائرة تشع كالشهاب، وهو يمضي في هذا القول، ولكن هذه الحماسة الخاطفة ما لبثت أن رسبت، فأشاح بوجهه في هدوء، ومضى يقول: «ولكن حسبنا هذا، ودعنا منه ... إنني أريد أن أراك لأمر آخر ... لقد دعوتني إلى قراءة تلك الأوراق عليك في الليلة السابقة للبارحة، وأصغيت إلي وأنا أتلوها على سمعك.»
قال: «حقا ... وكان رأيى بلا شك أن ...»
ولكن الرجل التعس قاطعه قائلا: «لم أسألك رأيك، ولست أريد الآن أن أسألك ... إنك مسافر جوالة للتسلية والمعرفة معا، فما قولك إذا أنا بعثت إليك بمخطوط غريب، أقول «غريب» لا لأنه غير معقول، أو غير مرجح، بل إنه لغريب كصفحة من صفحات قصة الحياة الحقيقية، فهل أنت مبلغها إلى ناديكم الذي حدثتني كثيرا عنه؟»
قال: «بلا شك إذا شئت، وسوف تدون في محاضرة.»
وأجاب الرجل التعس: «سأوافيك بها، فعلي بعنوانك.» ولما أنبأه المستر بكوك بالموضع الذي يرجح أن ينزل به، أقبل الرجل يكتبه بعناية في «دفتر جيب» ملطخ ببقع من الدهن، واعتذر من إلحاح المستر بكوك عليه في دعوته إلى الإفطار، وتركه عند الفندق وانصرف بخطى وئيدة.
ووجد المستر بكوك صحبه الثلاثة قد نهضوا من فراشهم، ولبثوا في انتظار وصوله، ليشرعوا في تناول الفطور، وكان قد أعد فوق المائدة، وبدا منظره شهيا مغريا، فجلسوا إليه، وبدأ لحم الخنزير المحمر والبيض والشاي والقهوة وأصناف أخرى من الطعام تتوارى في سرعة ظاهرة، تشهد بجودة المأكل في ذاتها، وحدة شهية الآكلين.
وانثنى المستر بكوك يقول: «والآن لنتحدث عن رحلتنا إلى ضيعة مانور ... كيف يتواتى لنا السير إليها؟»
وقال المستر طبمن: «لعله من الخير أن تستشير غلام الفندق.»
ودعي الغلام للاستشارة.
وقال حين سئل: «دنجل ديل» أيها السادة ... تبعد منا خمسة عشر ميلا أيها السادة ... عند مفرق الطريق ... أتريدون مركبة سفر؟»
وقال المستر بكوك: «إن مركبة السفر لا تتسع لأكثر من راكبين اثنين.»
وقال الغلام: «هذا صحيح يا سيدي ... أستمحيك معذرة، مركبة ذات أربع عجلات تبدو بديعة جدا، يا سيدي ... ولها مقعد خلفي يتسع لاثنين، وآخر للسيد الذي سيسوق ... آه ... أستمحيك عفوا يا سيدي ... إنها لن تتسع إلا لثلاثة ركاب.»
وهنا قال المستر سنودجراس: «وما العمل إذن؟»
قال الغلام وهو ينظر إلى المستر ونكل: «لعل أحد السادة يجب أن يركب حصانا يا سيدي ... إن لدينا جيادا حسنة للركوب يا سيدي ... وفي إمكان أي واحد من خدم المستر واردل يتفق قدومه إلى روشستر أن يعود به يا سيدي ...»
وقال المستر بكوك: «هذا هو الحل المطلوب ... فما رأيك يا ونكل، هل تركب حصانا؟»
والواقع أن المستر ونكل شعر بمخاوف بالغة، وتشاؤم شديد في أعماق قلبه من ناحية مدى خبرته بركوب الخيل، ولكنه لم يشأ أن يفطن أحد إلى تلك المخاوف التي تساوره، فأجاب على الفور وبجرأة بالغة: «بلا شك، هذه متعة لي، لا يدانيها شيء.»
وهكذا اندفع المستر ونكل نحو القدر المقدور له، وسلم مسرعا لمصيره، فليس له عنه رجوع، ولا منه مرد.
وقال المستر بكوك للغلام: «لتكن المركبة والحصان عند الباب في الحادية عشرة ...»
وأجاب الغلام: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وانصرف الخادم، وانتهى الإفطار، وصعد السفر إلى مخادعهم ليعدوا الثياب التي سيأخذونها في رحلتهم الدانية.
وفرغ المستر بكوك من المعدات التمهيدية، ووقف يطل من خلال أستار غرفة القهوة على السابلة، الغادين والرائحين في الطريق، فدخل الغلام عليه، وأنبأه أن العجلة على الأهبة، وما لبثت العجلة ذاتها أن أكدت النبأ، بظهورها في اللحظة ذاتها لعين المستر بكوك من خلال الستار.
وكانت العربة صندوقا صغيرا، غريب الشكل، أخضر اللون، قائما على أربع عجلات، ولها موضع منخفض من خلفها أشبه شيء بصندوق نبيذ، يتسع لجلوس رجلين، ومجلس مرتفع لثالث في المقدمة، ويجرها حصان أسمر ضخم، يبدو متناسق العظام، وقد وقف بقربه سائس، ممسكا بعنان حصان آخر ضخم، يبدو كأنه قريب للحصان المشدود إلى العجلة، وهو مسرج مهيأ لركبة السيد ونكل.
وانثنى المستر بكوك يقول، وهم وقوف على الإفريز، ريثما توضع الثياب في العربة: «يا إلهي! ومن الذي سيسوقها، ما خطر ذلك يوما ببالي!»
وقال المستر طبمن: «أوه ... أنت طبعا.»
وردد المستر سنودجراس القول: «طبعا.»
فصاح المستر بكوك مدهوشا: «أنا!»
وتدخل السائس فقال: «لا خوف مطلقا يا سيدي ... إني أؤكد لك أنه حصان هادئ يا سيدي؛ حتى ليستطيع طفل في المهد أن يسوقه.»
قال مستفسرا: «أهو شرود مجفل؟»
وأجاب السائس: «شرود يا سيدي؟ إنه لن يشرد ولن يجفل، حتى ولو لقي في طريقه مركبة ملأى بقردة اشتعلت النار في أذنابها.»
وكانت هذه التوصية لا تقبل الجدل، فدخل المستر طبمن، والمستر سنودجراس في «السحارة» - مقعد السائق - وصعد المستر بكوك الكرسي القائم في المقدم، وأسند قدميه إلى رف مقام لهذا الغرض.
وقال السائس لصبيه: «هيا يا وليم «المؤتلق»، أعط السيد اللجام.»
وتقدم وليم «المؤتلق»، وأكبر الظن أنه سمي بهذا اللقب؛ لشعره الناعم، وسحنته «الزيتية»، فوضع الزمام في يسرى المستر بكوك، بينما دس السائس الكبير سوطا في يمناه ...
وصاح المستر بكوك: «أوه ...!» وقد رأى الحصان الطويل يبدي ميلا ظاهرا نحو الارتداد إلى شرفة غرفة القهوة.
وردد كل من المستر طبمن والمستر سنودجراس آهته، وهما في مقعد السائق.
وانثنى السائس الكبير يقول مشجعا: «هذه مداعبة منه أيها السادة ... امسكه يا وليم.» فتقدم هذا إلى الحصان، فرده عن حدته، بينما جرى السائس الكبير ليعين المستر ونكل على الامتطاء.
وقال: «من الجانب الآخر يا سيدي إذا تكرمت.»
وقال غلام في خدمة الخيل، وهو يبتسم هامسا لغلام الفندق، وهو يكتم ضحكة: «أراهن أن السيد كان سيركب من الجانب الخاطئ.»
وتلقى المستر ونكل هذا الدرس وامتثل له؛ فصعد إلى السرج بمشقة بالغة، لا تقل عن مشقة الصعود إلى بارجة من الطراز الأول.
وسأل المستر بكوك صحابه: «هل كل شيء تام؟» وهو في أعماق صدره يشعر بأن كل شيء ... ليس تاما ...
وصاح السائس: «دعه ينطلق ... أمسك به يا سيدي.»
وانطلقت العجلة، والحصان المسرج، وعلى المقعد الأعلى من الأولى جلس المستر بكوك، واستوى المستر ونكل فوق صهوة الآخر، وكل من في فناء الفندق ينظرون فرحين ضاحكين.
وأنشأ المستر سنودجراس، وهو على مقعد السائق يقول للمستر ونكل وهو فوق السرج: «وما الذي يجعله يمشي هكذا مجانبا؟»
وأجاب المستر ونكل: «لا أدري!»
وكان حصانه قد انطلق في الطريق بشكل غريب كل الغرابة ... مندفعا أولا بجنبه، ورأسه متجهة صوب جانب من الطريق، وذيله نحو الجانب الآخر.
ولم يؤت بكوك الفرصة لملاحظة ذلك، أو مشاهدة شيء سواه، فقد كانت كل قواه محصورة في مراقبة حركات الحصان المشدود إلى العجلة، فقد راح يبدي من الغرائب والعجائب ما يجتذب أي مشاهد ويسره، ولكنه لا يسر، ولا يجتذب الجالس من خلفه، بل لقد لبث يرفع رأسه بشكل متعب مزعج، ويشد اللجام إلى حد جعل من المشقة البالغة على المستر بكوك الإمساك به، وكانت للحصان نزعة عجيبة إلى الاندفاع فجأة بين لحظة وأخرى نحو جانب الطريق، ثم الوقوف بغتة، ثم الانطلاق بضع دقائق بسرعة من العسير مراقبتها.
وانثنى المستر سنودجراس يقول حين رأى الحصان يفعل ذلك للمرة العشرين: «ماذا تراه يقصد من هذا؟» فأجابه المستر طبمن قائلا: «لست أدري ... ولكن أليس هذا أشبه شيء بالشرود والإجفال؟»
وهم المستر سنودجراس بالجواب، لولا أن أسكتته صرخة منبعثة من المستر بكوك، وهو يقول: «ويحي ... لقد سقط السوط من يدي ...»
فنادى المستر سنودجراس قائلا: «يا ونكل!»
وجاء هذا «الفارس» يتخطر فوق فرسه الطويلة، وقد هبطت قبعته، حتى غطت أذنيه، وهو يرعش من جميع جهاته، كأنما يوشك أن يتنافر بددا في كل ناحية، من فرط الجهد الذي كان يبذله.
ومضى المستر سنودجراس يناشده: «التقط السوط أيها الشهم الكريم.»
فراح المستر ونكل يشد عنان الفرس الطويلة حتى امتقع من الجد وجهه، واستطاع بعد لأي وقفها عن المسير، وعندئذ ترجل، وسلم السوط إلى المستر بكوك، وتناول اللجام، واستعد للوثوب فوق الصهوة.
ولسنا ندري أكانت تلك الفرس العالية، من ناحية روح اللعب المستمكنة منها، تريد أن تلهو لهوا بريئا مع المستر ونكل، أم خطر لها أن تقطع الرحلة على هواها بغير راكب يعلو صهوتها، فإن ذلك أمر لا نستطيع أن نقطع فيه برأي حاسم، ومهما يكن الباعث الذي بعث الفرس على هذا المسلك، فلا ريب في أن المستر ونكل لم يكد يلمس اللجام، حتى بادرت الفرس إلى التطويح به من فوق رأسها، واندفعت إلى الخلف تجره في إثرها جرا إلى نهاية طرفيه.
ومضى المستر ونكل يقول متلطفا لها مواسيا: «مسكينة مسكينة ... يا لك من فرس كريمة سمحة!» ولكن الفرس «الكريمة السمحة» كانت في مناعة من الملق، أبية على المديح، فجفلت كلما حاول المستر ونكل الدنو منها، تتثنى مبتعدة، ورغم كل صنوف التلطف، والمداراة، والممانعة، راح هو وهي يدوران ... ويلفان، زهاء عشر دقائق، ولا يزال كل منهما مبتعدا عن الآخر، المسافة ذاتها التي كانت بينهما من البداية، وهو أمر مجهد في الظروف المألوفة، ولكنه أجهد وأشق خاصة على طريق منعزل، يعز فيه الظفر بمعين أو نصير.
وصاح المستر ونكل بعد أن طال الأمد على هذه المراوغة: «ماذا تراني أصنع ... وليس في إمكاني التغلب عليها ...»
وأجابه المستر بكوك من فوق المركبة قائلا: «يحسن بك أن تقودها حتى تبلغ بابا من أبواب المكوس.»
وعاد المستر ونكل يصيح قائلا: «ولكنها لا تريد أن تسير، هلا جئت فأمسكت بها؟»
وكان المستر بكوك المثل المجسم للرفق والإنسانية، فلا عجب إذا هو ألقى باللجام على ظهر الحصان، وهبط من مقعده، وجر العجلة بعناية إلى ناحية السياج؛ مخافة أن يأتي شيء ما على الطريق، وعاد ليعاون صاحبه في محنته، تاركا صاحبيه الآخرين في المركبة.
ولكن ما كادت الفرس تشهد المستر بكوك يتقدم نحوها، والسوط في يده، حتى استعاضت عن الدوران الذي كانت ممعنة فيه، بحركة تراجع حاسم شديد، لم تلبث أن اجتذبت بها المستر ونكل - وهو لا يزال ممسكا بالطرف الآخر من العنان - جذبة أسرع من الجري العاجل ، في الاتجاه الذي جاءوا منه.
وجرى المستر بكوك لنجدته، ولكنه كلما أسرع في جريه، أسرعت في ارتدادها، واشتد احتكاك الأقدام، والركل بالأرجل، حتى تعالى الغبار وتطاير العثير، وعندئذ شعر المستر ونكل بذراعيه تكادان تنخلعان من كتفيه؛ فترك العنان ينفلت منه.
ووقفت الفرس ساكنة، ثم حملقت، ثم هزت رأسها وتولت بظهرها، وبكل رفق وهدوء انطلقت خببا عائدة إلى روشستر، تاركة المستر ونكل والمستر بكوك يتبادلان النظرات في ذهول واكتئاب، ولكن لم يلبث أن طرق سمعهما صوت جرجرة من مكان قريب، فرفعا البصر ليريا ماذا جرى.
وفي الحال صرخ المستر بكوك صرخة المبهور المعذب: «ويلنا ... إن الحصان الآخر يريد الفرار!»
وكان ذلك هو الواقع، فقد أجفل الحصان من ذلك الصوت، وأحس بالأعنة فوق ظهره، فكانت النتيجة معروفة، وهي أنه انطلق في وجهه، والمركبة ذات العجلات الأربع من خلفه، والمستر سنودجراس والمستر طبمن في جوفها، وكانت الفرصة قصيرة، والوقت ضيقا، فألقى المستر طبمن بنفسه فوق السياج، وحذا المستر سنودجراس حذوه، واندفع الحصان بالمركبة ذات العجلات الأربع نحو قنطرة خشبية، ففصل العجلات عن الهيكل، ومقعد السائق عن المقعد الأمامي، ووقف أخيرا جامدا، ينظر إلى الدمار الذي أحدثه.
وكان كل هم الصديقين اللذين لم يسقطا من المركبة، أن يستخلصا صاحبيهما المنكودين من وسط الشوك والحسك اللذين سقطا فيهما، وهي عملية انتهت بارتياح لا يوصف؛ لأنهما تبينا أنهما لم يصابا بأذى غير مزق في ثيابهما، وخدوش في وجهيهما من الشوك الذي أصابهما، وكان العمل الثاني الذي ينتظر منهما أن يفكا الحصان من المركبة المهشمة، وما كادا يفعلان هذا حتى انطلق الجميع يمشون في بطء، وهم يجرون الحصان بينهم، تاركين العجلة لمصيرها.
ووصلوا بعد مسيرة ساعة كاملة على جانب الطريق إلى حانة صغيرة، ذات شجرتين من أشجار الدردار، ومسقى للخيل، وأمامها صوة لهداية الناس إلى الطريق، ومن خلفها جرن للدرس، أو جرنان غير منسقين، وعن أحد جانبيها حديقة مطبخ وسقائف عفنة وأكواخ من المدر متناثرة بغير نظام حولها، ورأوا رجلا أحمر الشعر يعمل في الحديقة، فبادر المستر بكوك إلى مناداته صائحا: «يا هذا!»
فرفع الرجل ذو الشعر الأحمر بدنه، وظلل عينيه بيده، ووقف يحملق البصر مليا في وجه المستر بكوك وصحبه.
وأعاد المستر بكوك النداء قائلا: «يا هذا!»
فكان جواب الرجل ذي الشعر الأحمر ترديدا لذلك القول.
قال: «كم تبعد دنجلي ديل من هذا الموضع؟»
قال: «سبعة أميال على الأقل.»
فعاد يسأله: «وهل الطريق معبد؟»
قال: «كلا.» ولم يكد يفوه بهذا الجواب المقتضب، ويحاول الاطمئنان - في الظاهر - بإلقاء نظرة فاحصة أخرى، حتى أكب على العمل من جديد.
وقال المستر بكوك: «إننا نريد إبقاء هذا الحصان هنا، أظن أننا مستطيعون ... ألا نستطيع؟»
وكرر الرجل الأحمر الرأس السؤال قائلا، وهو معتمد بفأسه: «تريدون إبقاء هذا الحصان هنا؟»
وأجاب المستر بكوك، وكان قد تقدم عندئذ، وهو ممسك بالحصان إلى سور الحديقة: «بالطبع.»
وخرج الرجل من الحديقة، ونظر طويلا إلى الحصان، وصاح مناديا: «يا سيدة ... يا سيدة ...»
وجاءت على النداء امرأة طويلة معروفة، بادية العظام من رأسها إلى قدمها، وهي في «إزار» أزرق خشن، وقد هبط صدرها قدر بوصة أو بوصتين إلى ما يلي إبطيها.
وتقدم المستر طبمن إليها، وراح يقول في أرق صوت ممكن وألطف إغراء: «هل تسمحين لنا أيتها السيد الكريمة أن نبقي هذا الحصان هنا؟»
ووقفت المرأة تحدجهم بنظرة قاسية، وأقبل الرجل ذو الرأس الأحمر، فهمس لها في أذنها كلاما.
وانثنت المرأة تقول بعد تفكير قصير: «كلا ... أخشى ألا يتسنى ذلك.»
وهنا صاح المستر بكوك قائلا: «تخشين! ... مم تخشى هذه المرأة؟»
قالت وهي متكئة إلى الدار: «لقد وقعنا في محرجة آخر مرة ... ليس عندي ما أقوله لك.»
وقال المستر بكوك وهو في دهشة: «هذا أغرب شيء لقيته في حياتي كلها.»
وهمس المستر ونكل في أذنه، وقد أحاط به أصحابه: «أعتقد أنهما يظنان أننا جئنا بهذا الحصان من طريق غير شريف.»
فصاح المستر بكوك في سورة غضب: «ماذا تقول؟»
فأعاد المستر ونكل قوله السابق على استحياء.
وانثنى المستر بكوك ينادي الرجل قائلا: «أيها الرجل ... هل تظن أننا لهذا الحصان سارقون؟»
وأجاب الرجل ذو الشعر الأحمر: «بل أنا على يقين.»
وراح يرسل ابتسامة عريضة غمرت وجهه كله من إحدى أذنيه إلى الأخرى، وتولى عنهم إلى الدار، وأغلق الباب بعنف في إثره.
ووقف المستر بكوك مذهولا يقول: «إنه لأشبه بحلم ... حلم قبيح ... كيف يتصور الخاطر إنسانا يمشي اليوم كله بحصان مخيف، لا يستطيع الخلاص منه؟»
وانطلق «البكوكيون» المحزونون ساهمين واجمين، وذلك الحصان الطويل يتبعهم في رفق، وقد أحسوا جميعا بأشد الاشمئزاز منه.
وكان الأصيل قد آذن بمغيب حين عرج الأصدقاء الأربعة، ورفيقهم ذو الأربع، على الدرب المؤدي إلى «ضيعة مانور»، وكان السرور لقربهم من الموضع المنشود أقل كثيرا من الفرح الذي كانوا سيشعرون به، لو لم يقع ذلك الحادث لهم، فقد بدت لهم غرابة مظهرهم، ونكر ما هم فيه ... ثياب ممزقة، ووجوه مخدوشة، وأحذية علاها الغبار، وأعراض الإعياء بادية عليهم ... وأكثر من هذا كله ... الحصان.
ولكن راح المستر بكوك يلعن ذلك الحصان، وقد لبث يحدق في ذلك الحيوان الكريم بعينه، بين لحظة وأخرى، ويحدجه بنظرات حقد وجدة، وكان قد حسب في خاطره أكثر من مرة مبلغ الخسارة التي سوف يتكبدها إذا هو قطع رقبته، ولكن فكرة إيراده موارد التلف، أو إطلاق سراحه في هذا العالم الفسيح يصنع فيه ما يشاء، عادت الآن تستبد بخاطره عشرة أضعاف رغبته الأولى، وإذا هو ينتبه من التفكير في هذه التصورات ونحوها، على ظهور شبحين فجأة، عند منعطف زقاق، وما لبث أن تبين أنهما المستر «واردل»، وتابعه الأمين ... الغلام البدين.
وابتدره الشيخ المضياف الكريم قائلا: «ماذا أرى؟ أين كنتم؟ لقد ظللت طيلة النهار أرتقبكم ... يا عجبا! ما بالي أراكم مجهدين حقا؟ ... وما هذا؟ ... أخدوشا أرى؟ ... أرجو ألا تكون جروحا ... إنه ليسعدني أن أسمع أن لا أذى ولا ضير ... يسعدني كل السعادة أن أسمع ذلك ...
أكذا انكسرت بكم العجلة؟ لا بأس ... ذلكم حادث مألوف في هذه الأنحاء ... يا جو ... أراه قد عاد إلى النوم ... جو ... خذ هذا الحصان من السيد، وقده إلى الإسطبل.»
ومضى الغلام البدين يمشي متثاقل الخطى خلفهم، وهو يجر الحصان، وأما السيد الكبير، فقد راح يواسي أضيافه بكلام رقيق، فيما رأوا من اللباقة أن يحدثوه به من أحداث يومهم هذا، وانطلق بهم إلى المطهى وهو يقول: «لا بد من إصلاح ما أفسده الحادث من ثيابكم هنا، ثم أتقدم بكم للتعارف بالقوم المجتمعين في قاعة الاستقبال ... يا «أما» هاتي نقيع الكرز الآن ... وأنت يا «جان» هاتي إبرة وخيطا في الحال، وأنت يا «ماري» فوطا وماء ... هيا يا بنات أسرعن.»
وتفرقت ثلاث فتيات بضات أو أربع سراعا لإحضار الأشياء التي طلبها السيد الكريم، بينما نهض خادمان ذو رأسين ضخمتين، ووجهين مستديرين، من مقعديهما في ركن المطبخ عند المدخنة، فقد كانا يجلسان بجوار النار المشبوبة كأنهما يصطليان في متعة محببة يوم عيد الميلاد، وإن كان الوقت مساء أحد الأيام في شهر مايو، والموسم الربيع، وانطلقا يغوصان في بعض الزوايا المظلمة، وما لبثا أن أطلعا منه «حقا» من الطلاء الأسود، وبضع فرش لمسح الأحذية ...
وعاد الشيخ الكبير ينادي: «قليلا من السرعة ... هيا ... تحركوا!» ولكن هذه النصيحة لم تكن ضرورية إطلاقا، فقد جاءت إحدى البنات فملأت الأقداح شرابا، وأقبلت أخرى بالفوط والمناشف، وتناول أحد الخادمين فجأة قدم المستر بكوك؛ حتى لقد خيف على الرجل أن يفقد توازنه، وانطلق الخادم ينفض الغبار عن حذائه، حتى أحس بأن أصابع قدمه قد التهبت نارا، بينما عكف الآخر على مسح ثوب المستر ونكل بفرشاة كثيفة من قماش، وهو لا يفتأ خلال ذلك يرسل ذلك الصوت المخيف الذي اعتاد سائقوا الخيل أن يرسلوه، وهم عاكفون على تطميرها.
وأما المستر سنودجراس، فما إن فرغ من الغسل والتنظيف والتجميل حتى ألقى نظرة عامة على المكان، وهو يولي ظهره إلى النار، ورشف شراب «الكرز» في ارتياح ومتعة، وقد وصف المكان في كناشته بقوله: إنه حجرة رحيبة الجنبات، رصفت أرضها بالآجر الأحمر، وازدان سقفها بأفخاذ الخنازير وأجنابها، وتدلت منها حبال من البصل وعقود، بينما تجملت جدرانها بعدة سياط مما يستخدم في الصيد والقنص، وبرذعتين أو ثلاث براذع، وسرج ، وبندقية قديمة صدئة كتب تحتها ما يفهم منه أنها محشوة ... كما كانت - والعهدة على الراوي - منذ نصف قرن على أقل تقدير، وساعة جدار قديمة، تبدو موحشة الصورة رزينة الشكل، لا تقل قدما عن تلك البندقية، وهي تتدلى من أحد الخطاطيف الكثيرة التي تزين خزانة أدوات المائدة.
وقال الشيخ الكريم: «على استعداد؟» حين فرغ أضيافه من الاغتسال، وإصلاح الهندام، وتنفيض الثياب، والتطمير، فأجاب المستر بكوك قائلا: «على أتم الاستعداد.»
قال: «هلموا بنا إذن!»
وبعد أن اجتاز الجمع عدة دهاليز مظلمة، ووافاهم المستر طبمن، وكان قد تخلف قليلا لينتزع قبلة من خد الجارية «أما»، وكان جزاؤه عليها ما يستحق من لكمات وخدشات - وصلوا إلى باب القاعة، فانثنى مضيفهم الكريم يقول وهو يفتح الباب، ويتقدم لإعلان قدومهم: «مرحبا بكم أيها السادة في ضيعة مانور.»
الفصل السادس «جماعة» قديمة الطراز تلعب الورق ... أشعار القسيس وأبياته ... قصة «عودة السجين» ... ***
ونهض عدة أضياف من مجالسهم في تلك القاعة القديمة؛ لتحية المستر بكوك وأصحابه عند دخولهم، وتوانى المستر بكوك خلال فترة التقديم والتعارف، ومراسيمها المرعية؛ ليتأمل القوم الذين أحاطوا به، ويلاحظ أشكالهم، ويفكر فيما عسى أن تكون شخصياتهم وصناعاتهم، وهي عادة كان يحرص على مراعاتها عادة، كدأب الكثير من العظماء أمثاله.
وكانت في مجلس الصدارة من الجمع سيدة عجوز، غطت رأسها بقبعة عالية، وارتدت «ثوبا» من حرير ناصع اللون، وتبين أنها لم تكن سوى والدة المستر «واردل» بجلالة قدرها، وكان مجلسها في الجانب الأيمن من المدفأة، بينما ازدانت الجدران بصور مختلفة نواطق بأنها نشأت النشأة الواجبة لها في شبابها، ثم لم تفارقها أو تنحرف عنها في مشيبها، وهي صور شتى ... قديمة التواريخ، إلى جانب مناظر طبيعية، لا تقل عنها قدما، ومقابض قرمزية حريرية لأباريق شاي أحدث عهدا، وكانت العمة والفتاتان والمستر واردل يتنافسون على إبداء العناية البالغة، والرعاية المستمرة للسيدة الكريمة، وهم مزدحمون حول مقعدها الرحيب، بين ممسكة بمسمعتها، ومتقدمة ببرتقالة في يدها، وأخرى بزجاجة رائعة لمعطسها، ورابعة منهمكة في توطئة الوسادات المرفوعة سنادا لها، بينما جلس قبالتها سيد عجوز أصلع، يبدو المزاج الرافق والطيبة على وجهه، وهو قسيس دنجلي ديل، واتخذت زوجته مجلسها بجانبه، وهي سيدة متقدمة في العمر بدينة، متفتحة كأكمام الزهر، تبدو كأنها لم تبرع في فن صنع الأشربة المنزلية والمرطبات وأسرار تخميرها وإجادتها، إلى الحد البالغ الذي يرضي شاربها فحسب، بل برعت في مذاقها أحيانا لإرضاء نفسها كذلك، وكان في القاعة أيضا رجل صغير الجثة، شديد المراس، له وجه كالتفاحة، وهو يتحدث إلى سيد كبير السن بدين في ركن منها، واثنان أو ثلاثة أشياخ آخرين، ومثلهم من السيدات، وقد جلسوا جميعا معتدلي القدود، جامدين في مقاعدهم، ينظرون مليا إلى المستر بكوك ورفقائه في سفره.
وانثنى السيد واردل يقول بأعلى صوته: «هذا هو السيد بكوك يا أماه.»
وقالت العجوز وهي تهز رأسها: «آه ... لا أستطيع سماع كلامك.»
وهنا صرخت الفتاتان في نفس واحد: «المستر بكوك ... يا جدتي.»
وصاحت العجوز: «آه ... حسن ... هذا الأمر لا يهم كثيرا ... بل أني لأجترئ فأقول إنه لا يعني بامرأة عجوز مثلي.»
وقال المستر بكوك وهو يتناول يد السيدة الكبيرة، ويرفع صوته حتى ليبدو الاحمرار على سحنته الخيرة: «أؤكد لك يا سيدتي، أن لا شيء أبهج لخاطري من لقاء سيدة في مثل سنك على رأس أسرة طيبة كهذه، تبدو في منتهى الشباب والعافية.»
وعادت السيبدة العجوز بعد لحظة سكون تقول: «آه ... كل ذلك بديع ... ولكني لا أستطيع أن أسمعه.»
وقالت إيزابللا واردل مخافتة: «إن جدتي الآن كدرة المزاج ... ولكنها لن تلبث أن تتحدث إليك.»
وهز المستر بكوك رأسه هزة المستعد للتسامح أمام مناقص الشيخوخة وعيوبها، ومضى يشترك في الحديث العام مع السادات الآخرين.
قال: «موضع بهيج هذا.»
ورد أصحابه سنودجراس وطبمن وونكل هذه العبارة قائلين: «بهيج حقا.»
وقال المستر واردل: «أعتقد ذلك.»
وانثنى السيد الشديد المراس، المستدير الوجه كالتفاحة يقول: «ليس في إقليم «كنت» كله موضع أفضل من هذا الموضع يا سيدي، أي والله يا سيدي ... إني لعلى يقين أن ليس فيه مكان أفضل.» وراح يتلفت حوله منتصرا، كأن أحدا قد عارضه معارضة شديدة، ولكنه في النهاية تغلب عليه.
وصمت الرجل لحظة، ثم عاد يقول: «ليس في جميع أرجاء «كنت» موضع أفضل.»
وهنا انبرى الرجل البدين يقول بجد: «إذا استثنينا مراعي مولين؟»
فصاح الآخر باحتقار بالغ: «مراعي مولين!»
وعاد الرجل البدين يقول: «نعم، مراعي مولين.»
وتدخل سيد بدين آخر فقال: «هذه أرض طيبة طبعا.»
وقال بدين ثالث: «إنها لكذلك يقينا.»
وقال المضيف اللحيم: «كل إنسان يعرف ذلك.»
وعندئذ ألقى الرجل العنيد المستدير الوجه نظرة تشكك حوله، ولكنه تبين أنه «أقلية»، فاتخذ سمات الرفق والمسالمة، فلم يقل شيئا.
وسألت العجوز إحدى حفيدتيها قائلة: «عم يتحدثون؟» وكان صوتها مسموعا مرتفعا، كدأب معاشر الصم، كأنما لا يعنيها أن يسمع آخرون ما قالته.
وأجابت حفيدتها قائلة: «عن الأرض يا جدتي ...»
قالت: «وماذا عن الأرض ... هل من أمر ذي بال؟»
وأجابت الفتاة: «كلا ... كلا ... كان المستر ملر يقول: إن أرضنا أحسن من مراعي مولين ...»
وقالت العجوز غاضبة: «من أين أتاه العلم بأرضنا؟ إن ملر لمختال فخور ... ولك أن تقولي له إنني قلت ذلك.»
وما إن فرغت من قولها هذا، وهي لا تشعر بأن كلامها كان أكثر من همس، حتى استوت في جلستها، وحدجت الرجل الشديد المراس بنظر حاد.
وبادر المضيف الكثير الحركة، في لهفة طبيعية على تغيير موضوع الحديث، يقول: «هلم ... هلم ... ما قولك في لعبة «ربر»، يا مستر بكوك؟»
قال: «أحب الأشياء إلى نفسي ... ولكن أرجوك ألا نجعل اللعب على حسابي.»
قال: «أؤكد لك أن أمي مولعة بلعبة «الربر» ... ألست كذلك يا أمي؟»
وأجابت العجوز بالإيجاب، وكانت أقل صمتا بكثير في موضوع لعب الورق مما هي في الموضوعات الأخرى.
وصاح السيد الكبير مناديا: «جو ... جو ... لعنة الله ... ولكن ها هو ذا ... هلم هيئ لنا موائد اللعب.»
فمضى ذلك الغلام النوام بغير حاجة إلى مزيد من اليقظة يعد مائدتين، إحداهما للعبة «البابا جوان» وأخرى للعبة «الويست»، وكانت حلقة لاعبي الويست تتألف من المستر بكوك، والسيدة العجوز، والمستر ملر، والسيد البدين، أما اللعبة المستديرة، فقد شملت بقية الحاضرين.
وكان اللعب فيما يتعلق «بالويست» مقترنا بكل الجد والاتزان والرزانة التي تليق باسمها، ومعناه «السكون»؛ حتى ليلوح لنا أن تسميتها «باللعب» تسمية منكرة، وغير متفقة مع «الجد» الذي يراعى فيها، أم اللعبة الأخرى فقد بلغ من ضجتها والمرح الصاخب من حولها، أن قطعت فعلا على المستر ملر أفكاره ومسرحاته، فلم يندمج فيها كما ينبغي، وارتكب عامدا مرارا عدة أغلاط صارعة ومخالفات أثارت غضب السيد البدين إلى حد بعيد، وأدخلت السرور على نفس السيدة العجوز إلى الحد ذاته.
وقال المستر ملر بلهجة المنتصر، وهو يعود إلى الخدعة القديمة في نهاية كل دور: «هي ... ما رأيكما، لم يكن في الإمكان أن تلعب هذه الورقة أحسن من هذا ... إني لأمتدح نفسي وأتملقها ... مستحيل أن أكون قد عدت إلى خدعة أخرى؟»
وقال العجوز: «لقد كان أجدر بملر أن يرمي «الإسباني»، أليس كذلك يا سيدي؟»
فأومأ المستر بكوك إيماءة الموافقة.
وقال وهو يتوسل إلى زميله مستنجدا: «أكان ذلك أحق؟»
وأجاب السيد البدين بصوت مرعب: «إنه أجدر بك يا سيدي ...!»
قال وهو مطرق الرأس: «يؤسفني ذلك جدا.»
وزمجر السيد البدين قائلا: «هذه لعبة معروفة متداولة كثيرا.»
وقال المستر بكوك: «عشرتان بالشرف تساوي لدينا ثمانية.»
وقالت العجوز: «هل تلعب «عشرة»؟»
قال: ألعب ... «عشرتين»، واحدة «والثالثة».
وقال المستر ملر: «ما رأيت يوما حظا كهذا ...»
وقال السيد البدين: «بل ما رأيت ورقا كهذا ...»
وساد سكون رهيب، أما المستر بكوك فبدا «زائغا»، وأما السيدة العجوز فبدت جادة، ولاح السيد البدين غضبان متحاملا، وكان المستر ملر هيابا خائفا.
وقالت العجوز: «نلعب دورا آخر ... هل يمكن؟» وأقبلت تسجل الانتصار، بوضع قطعة من ذات البنسات الستة ونصف بنس مضعضعا تحت «الماثلة».
وقال المستر بكوك: «هذا «تطبيق» يا سيدي ...»
وأجاب السيد البدين بحدة: «فاهم يا سيدي ...»
وأعقب اللعب دورا آخر من المستر ملر «المنحوس»، انفجر على إثره غضب السيد البدين وهياجه، فانتبذ من القوم مكانا قصيا، ولبث صامتا لا ينبس ساعة وسبعا وعشرين دقيقة، خرج بعدها من معتزله وأقبل على المستر بكوك يعرض عليه سعوطه، بدا كأنما قد قرر في نفسه أن يأخذ بالسماحة المسيحية فيصفح عن المسيئين إليه، ويغفر ما أصابه من أذى، وتبين أن سمع السيدة العجوز قد تحسن يقينا، وشعر المستر ملر السيئ الحظ بأنه قد أخرج من محيطه، كما يخرج الدرفيل فيوضع في مكان ديدبان.
أما اللعبة الأخرى، فقد استمرت في مرح وسلام، وكانت إيزابللا واردل والمستر تراندل «شريكين»، وكذلك كانت إملي واردل والمستر سنودجراس، حتى المستر طبمن أيضا والعمة العانس؛ فقد عقدا شركة بينهما من الروغان والملق، وكان المستر واردل الشيخ في أوج ابتهاجه، وأنسه ومرحه، وهو مضحك في تدبير ألعابه ورمي أوراقه، كما كانت السيدات العجائز فطنات ذكيات بعد المكسب، إلى حد جعل المنضدة كلها في قصف مستمر من المرح والضحك، وكانت بينهن سيدة لا تفتأ تخسر، وكان معها في كل مرة ست أوراق أو نحوها، فكان القوم يضحكون في كل دور، ولا يمسكون عن الضحك، وعندما نظرت السيدة العجوز نظرة الغاضبة من اضطرارها إلى الدفع، ازددوا هم ضحكا، حتى أخذ وجهها ينطلق شيئا فشيئا إلى أن راحت أشد منهم ضحكا من نفسها، وأعلى صوتا، وعندما ألقت العمة العانس ورقتين كانتا في يدها، وهما «البنت» و«الشايب»، كأنهما صورة «قران»، ضحكت الفتاتان مرة أخرى، وكادت العانس تنزع إلى الغضب، ولكنها شعرت بالمستر طبمن يضغط يدها من تحت المائدة، فعادت أساريرها تنطلق، وبدت كأنما قد فهمت، كأن «القران» في الواقع لم يكن بعيدا إلى الحد الذي ظنه بعض الناس وتوهموه؛ فعاود القوم الضحك، ولا سيما المستر واردل، فقد كانت النكتة تلذه بقدر ما تلذ الشباب، وأما المستر سنودجراس فلم يفعل شيئا غير الهمس بعواطف شعرية في أذن شريكته؛ مما جعل أحد السادات الشيوخ ينكت تلميحا على الشركة في لعب الورق، والشركة في الحياة، فما كان من السيد الشيخ إلا أن أبدى بعض الملاحظات على هذه المقارنة، مصحوبا بغمزات بالحواجب، وومضات بالفم، جعلت القوم يضحكون كثيرا ولا سيما زوجته، وانبرى المستر ونكل يلقي بنكات معروفة في المدن، ولكنها ليست معروفة إطلاقا في الريف؛ فضحك الجمع لها كثيرا، وقالوا: «إنها نكت ظريفة كل الظرف» حتى لقد شعر المستر ونكل بأنه قد أصاب شرفا عظيما، ومجدا باذخا، بينما لبث القسيس الخير مسرورا راضيا؛ لأن الوجوه المستبشرة التي أحاطت بالمائدة جعلته هو الآخر سعيدا قرير العين، ولئن جاء الضحك أقرب شيء إلى الصخب، فقد انبعث من القلوب لا من الشفاه، وهذا هو أفضل المرح وأحسنه حقا.
وانقضى المساء سريعا في تلك الرياضة البهيجة واللهو اللطيف، وبعد أن فرغ القوم من العشاء الدسم، وإن كان من النوع «البيتي»، انتظم الجمع حلقة أنس حول الموقدة، وقال المستر بكوك إنه لم يشعر في حياته يوما بمثل هذه الهناءة التي شعر بها الآن، ولم يحس من قبل ما يحس الساعة، من الإقبال على الاستماع بهذه اللحظات العابرة، والانتفاع بها غاية الانتفاع.
وقال المضيف الكريم، وقد جلس جلسة الأبهة والسلطان بجانب المقعد الرحيب، الذي جلست فيه السيدة العجوز ويدها مشتبكة بيده: «هذه هي اللحظة التي أحبها ... إن أسعد اللحظات في حياتي انقضت بجانب هذه الموقدة القديمة، وأنا بها جد مولع، حتى لأحتفظ بالنار مشوبة فيها كل مساء، إلى أن يشتد أوارها فلا يطيق المرء احتمالها ... وإن أمي العجوز هنا قد ألفت الجلوس أمام هذه الموقدة، فوق ذلك الكرسي الصغير الذي اعتادت الجلوس عليه وهي فتاة ... أليس كذلك يا أماه ...؟»
وكانت الدمعة التي تبادرت إلى عينها على عودة ذكرى الأيام الخوالي فجأة، ورغد السنين الماضيات، قد تسللت إلى وجهها، وهي تهز رأسها وتبتسم ابتسامة حزينة.
وواصل رب الدار المضياف حديثه قائلا بعد سكون قصير: «إني لأستميحك المعذرة عن حديثي بسبيل هذا المكان القديم، فإنه علي عزيز، ولا أعرف موضعا سواه، إن الدور والعقول القديمة لتلوح لي كأنها صحاب أحياء لي وأصدقاء، وكذلك كنيستنا الصغيرة التي أذكر بهذه المناسبة أن صديقنا الفاضل نظم في «لياليها» شعرا غنائيا، حين جاء أول مرة ليقيم بين ظهرانينا ... يا سيد سنودجراس، هل بقيت في كأسك قطرات من الشراب؟»
فأجاب المستر سنودجراس: «كثيرة ... وأشكرك ...» وكان فضوله الشعري قد هاج في نفسه عند سماع العبارة الأخيرة التي فاه بها مضيفه الكريم، فاستتلى يقول: «عفوا إذا أنا ذكرتك بأنك قلت اللحظة شيئا عن أغنية اللبلاب.»
فقال رب الدار وهو يومئ برأسه إيماءة العليم نحو القسيس: «سل صديقنا الجالس قبالتنا عن أمرها ...»
وقال المستر سنودجراس: «هل تأذن لي يا سيدي في مصارحتك أني أود أن أسمعها منك.»
وأجاب القس قائلا: «ولم لا؟ ... وإن كانت المسألة صغيرة جدا، والعذر الوحيد لي عن اقترافها هو أني كنت في تلك الأيام شابا، ومهما يكن من شيء، فإني مسمعك إياها إذا شئت.»
وكان الجواب بالطبع غمغمة فضول وتلهف، وأنشأ السيد الكبير ينشد، وامرأته تعاجله بالتلقين إذا نسي شيئا!
قال: لقد سميتها.
اللبلاب الأخضر
يا للبلاب الأخضر من نبات طيب رقيق، يتسلل إلى كل أثر قديم، وطلل عتيق، ويأبى إلا أن يتخير لطعامه، في محبسه المنفرد المقرور ومقامه، فلا يختار إلا الجدار المنقض، والحجر البالي، لإرضاء أنفته وأوهامه، وأفضل الغذاء لديه الطحلب الذي اصطنعته كرة السنين ودورة الأعوام الخوالي، وأنه ليتسلل إلى حيث لا يرى للحياة أثر، إنه لنبات قديم نادر ... ذلك هو اللبلاب الأخضر ... •••
إنه ليختلس الخطى سراعا، وإن لم يؤت جناحا ولا ذراعا، ولكن له قلبا مخلصا وفيا ... ألا تراه كيف يلتف حول صديقته السروة العظيمة التفافا قويا، ويتشبث بها تشبثا وفيا، ويجر على الأرض أذياله، ماكرا متلطفا، ويدع أوراقه تموج في رفق تموجا، وهو يحتضن فرحا ويزحف زحفا، حول الطحلب الوفر، على قبور الموتى الذاهبين، متسللا إلى حيث الموت الرهيب قد تسلل ... إنه لنبات قديم نادر ... ذلك هو اللبلاب الأخضر. •••
أجيال وقرون انقضت، وآثارها بليت وعفيت ... وأمم وشعوب تفرقت وانقرضت، ولكن اللبلاب القوي المعمر لن يذوي إلى الأبد، ولن ينقطع عبقه ولن يتبدد، ونضارته المنبعثة من قلبه وخضرته في تجدد ... وسيسمن هذا النبات الجريء القديم على الماضي، وينمو ويشتد، وكل ما يبني الإنسان من قصر منيف وبنيان باذخ ويشيد، سيصبح في النهاية للبلاب طعاما.
وإنه المتسلل على الزمان القائم المستمر ...
إنه نبات قديم نادر ... ذلك هو اللبلاب الأخضر ... •••
وبينما كان الشيخ يردد هذه الأبيات للمرة الثانية، حتى يتمكن المستر سنودجراس من تدوينها، راح المستر بكوك يتطلع في قسمات وجهه باهتمام بالغ، وما إن فرغ الشيخ من إملائه، وأعاد المستر سنودجراس الكناشة إلى موضعها من جيبه، حتى أنشأ المستر بكوك يقول: «معذرة يا سيدي إذا أنا أبديت ملاحظة على قصر العهد بتعارفنا، ولكن سيدا مثلك لا يمكن - في اعتقادي - إلا أن تكون قد مرت عليه عدة مشاهد وأحداث خليقة بالتدوين، في طريق تجاربه، بوصفه خادما من خدام الله.»
فأجاب الشيخ قائلا: «لقد شاهدت شيئا منها بلا شك، ولكن الحوادث والأشخاص الذين عرفتهم هم من النوع العادي؛ لأن مجال عملي محدود جدا.»
وانثنى المستر واردل - بدافع الرغبة في إخراجه من صمته وحمله على الكلام؛ إرضاء لزائريه الجدد - يقول: «إنني أعتقد أنك دونت بعض المشاهدات، ألم تفعل كذلك في أمر جون أدموندز؟»
فأومأ الشيخ قليلا إيماءة الموافقة، وهم بأن يغير الموضوع، لولا أن بادره المستر بكوك قائلا: «أستميحك عفوا يا سيدي إذا أنا اجترأت على سؤالك: من يكون جون أدموندز هذا؟»
وابتسم الشيخ مسرورا راضيا، وقرب مقعده، كما قرب الآخرون مقاعدهم وتلاصقوا، وكان أسبقهم إلى تقريبها المستر طبمن والسيدة العانس، ولعلها كانت تشكو وخزا في أذنيها، كما رفعت السيدة العجوز مسمعتها، واستيقظ المستر ملر، وكان قد استولى النعاس عليه في فترة تلاوة الأبيات، حين أحس وخزة تأنيب من تحت المائدة، وخزه بها الشيخ البدين الرزين الذي كان شريكا له في لعب الورق.
وبدأ السيد العجوز - بلا مقدمات - يقص القصة التالية التي دعوناها:
عودة السجين
قال الشيخ: حين جئت لأقيم في هذه القرية، وهو عهد يرجع إلى خمسة وعشرين عاما خلت، وجدت أن أسوأ الناس فيها سمعة وشرهم مكانا، رجل يدعى «أدموندز» كان قد استأجر ضيعة صغيرة بجوار هذا الموضع، وكان امرأ سوء، غليظ القلب، حاد الطبع، متبطلا منحلا في عاداته، قاسيا متوحشا في نزعاته، ولم يكن له من صديق أو صاحب ، غير أفراد قليلين من المكاسل والسوقة والمستهترين، جعل يقضي أوقاته معهم متسكعا في الحقول، أو ماجنا معربدا في الحان، فلم يكن أحد من خلق الله يعنى بالكلام مع هذا الرجل، الذي كان قوم كثيرون يخشونه، والجميع يكرهونه، والكل يتحامونه.
وكانت له زوج، وولد كان يبلغ من العمر أول ما نزلت بهذا الموضع قرابة اثني عشر عاما، وليس في وسع إنسان أن يتصور مدى الآلام التي كانت تلك المرأة تعانيها، ومبلغ الجلد الرقيق والاحتمال اللذين تذرعتا بهما، والعذاب المضني الذي قاسته في تنشئة ذلك الصبي، وليغفر لي الله ظني، إن بعض الظن إثم، وإن كنت على يقين تام في أعماق قلبي أنه ظل يعمل جاهدا عدة سنين على كسر قلبها، وتحطيم فؤادها، ولكنها احتملت ذلك كله من أجل ولدها، بل ومن أجله هو كذلك، وإن بدا هذا القول لقوم كثيرين غريبا، فقد كانت في يوم من الأيام تحبه، وهو الحيوان البهيم، والجبار القاسي الغاشم عليها، فلا عجب إذا أيقظت ذكرى ماضيه ومبلغ مكانه من قبل في نفسها مشاعر الرفق به، والصبر عليه، والحلم في معاملته، وهي المعذبة المعانية، وهي مشاعر لا يعرفها ولا يتجمل بها من دون خلق الله غير معاشر النساء.
وكانا فقيرين بطبيعة الحال، ما دام الرجل سادرا في غلوائه، ولكن الجهد المستمر الذي كانت تبذله، والعناء الذي كانت تجانبه بكرة وعشيا، وصباحا وظهرا وليلا، جعلهما بمنجاة من الحاجة، وجنبهما العوز، ولكنه جازاها على تلك الجهود شر الجزاء؛ كان الذين يمرون بالموضع عشاء، أو في ساعة واهنة من الليل، يقولون: إنهم كانوا يسمعون أنين امرأة في خطبها ونحيبها، وتطرق آذانهم أصوات لكمات وضربات، وحدث أكثر من مرة أن خرج الغلام بعد منتصف الليل، يدق في رفق باب الجيران؛ فرارا من غضب ذلك الوالد الشاذ، أو امتثالا لأمر أمه التي خشيت عليه من بطشه.
وكانت تلك المخلوقة المسكينة لا تكف عن الحضور إلى كنيستنا الصغيرة، وكثيرا ما كانت تلوح عليها آثار القسوة والعذاب الذي كانت واجدته منه، ولا تستطيع لتلك الآثار إخفاء، فكانت لا تفتأ في كل أحد، صباحا وأصيلا، تأتي فتتخذ مجلسا بعينه، والغلام بجانبها، ولئن كانا يلوحان في ثياب مهلهلة، بل أسوأ مظهرا من كثير من جيرانهما، الذين هم أقل منهما شأنا، ودونهما في العيش مكانا، فقد ظلا أبدا حريصين على الظهور أمام الناس نظيفين وضاءين، وكان كل امرئ يومئ إيماءة مودة، ويعد كلمة رقيقة حانية للسيدة أدموندز المسكينة، وأحيانا إذا وقفت لتتبادل بضع كلمات مع جارة لها بعد انتهاء الصلاة، وسط أشجار الدردار المؤدية إلى السقيفة، أو تتخلف قليلا عن الخارجين لتلقي نظرة فخار وزهو وحب على وجه ولدها اليافع، وهو يستبق في صحبته بعض الرفاق الصغار، وقد تهلل وجهها الذي علاه الهم وغمرته الكآبة، بعرفان صادق، وشكر جميل، فكانت تبدو على الأقل هادئة النفس، قانعة راضية، وإن لم تلح مبتهجة سعيدة هانئة ...
وانصرفت خمس سنين أو ست، فأصبح الغلام شابا قويا صلب العود ناميا، ولكن الزمان الذي أكسب الصبي القوة، وحبا كيانه الواهن بأسا، وأحال أوصاله الواهية مفتولة، في قوة الرجولة وأيدها - قد أحنى ظهر أمه، وأضعف من خطاها، ولكن الذراعين اللتين كان أولى بهما أن تسنداها لم تعودا بين أحضانها، ولا مشتبكتين وذراعيها، وذلك الوجه الذي كان أحق به أن يؤنسها في وحشتها، لم يعد ينظر إلى وجهها، فكانت تأتي إلى الكنيسة، فتجلس في مقعدها القديم، وإن ظل المقعد الملاصق خاليا، ولبث الكتاب المقدس مصونا لديها، محفوظا كعهده، والصفحات تنشر بين يديها وتطوى كدأبها، ولكن لم يكن ثم أحد يقرأها معها، فكانت الدموع تتساقط غزارا سراعا على الكتاب، وتجعل الكلمات متراقصة أمام عينيها، وظل جيرانها على ما ألفوه، رحماء بها، حناة عليها، ولكنها جعلت ترد على تحياتهم بإشاحة وجهها، ولم تعد تبطئ الخطى بين أشجار الدردار كعادتها، ولم يبق في قرارة نفسها من أمل مداعب يوحي إليها أن السعادة قادمة على الأيام، بل بقيت المرأة المنهكة ترخي قبعتها على وجهها، وتنصرف مهرولة مسرعة.
وهل أحدثك عما كان من أمر ذلك الفتى ... إنه لم يعد كلما رجع بخاطره إلى أيام الطفولة الأولى، التي لا بد من أن تعيها الذاكرة، فيذكر شيئا من تلك السلسلة المستطيلة من صنوف الحرمان الطائع المختار، الذي كانت تقاسيه أمه من أجله، إلى جانب من المساءة والإهانة والبطش الذي كانت تحتمله في سبيله، وهل أحدثكم عنه، كيف استخف بفؤادها الكسير، وكيف نسي عامدا كل ما فعلته وقاسته بسببه، فمضى بصحبة الفاسدين وسيئي السيرة والمنبوذين من الناس، ومضى في غيه لا يبالي، وينحدر إلى الهاوية، ولا يعبأ هل هو ملاق في هذا الضلال مصرعه، وجالب العار عليها والشنار بسوء مسلكه؟ واأسفا للطبيعة البشرية ... وما أحسبكم إلا عرفتم النتيجة المحتومة، قبل أن أصفها لكم، فقد كادت تلك المرأة الشقية المنكوبة تصل إلى نهاية حدود شقائها وبأسائها، لقد وقعت جرائم كثيرة في هذه الربوع، وظل أمر الجناة مجهولا؛ مما زادهم جرأة، وأغراهم بالمعاودة والإمعان، ووقع حادث سطو جسيم يدل على جرأة جناته، فاقتضى الأمر السهر في البحث عنهم، وتشديد مطاردتهم، ولم يكن الجناة يحسبون لهذا التعقب الملح حسابا، وقد وقعت الشبهة على الفتى أدموندز وثلاثة من أصحابه؛ فقبض عليه وحوكم، وحكم عليه بالموت.
وإن الصرخة الموحشة النفاذة، التي ارتفع بها صوت المرأة، فترددت أصداؤها في جنبات ساحة القضاء، حين نطق القاضي بهذا الحكم الرهيب؛ لترن اللحظة في أذني، وقد ألقت تلك الصيحة المدوية الرعب في قلب الجاني، وكانت المحاكمة والإدانة والحكم بالموت قد عجزت جميعا عن إيقاظ ضميره، فلم تلبث الشفتان اللتان ظلتا مرفوعتين في عبسة كظيمة طيلة الجلسة أن رعشتا وانفرجتا على الرغم منه، وارتد وجهه شاحبا كرماد نار خابية، وتفصد العرق البارد من كل مسامه، ورجفت أوصاله القوية، ووقف مرنحا متمايلا في القفص لا تحمله ساقاه.
وفي الغثيات الأولى، من أثر ألمها البالغ وعذابها الشديد، راحت هذه الأم المعذبة تلقي بنفسها جاثية عند قدمي، ضارعة إلى الله من أعماق صدرها - وهو الذي أضفى عليها رحمته في مختلف الخطوب التي اجتازتها، والمحن والأهوال التي مرت بها - أن يخلصها من هذا العالم المليء بالويلات والأحزان ، وينقذ حياة ولدها الوحيد.
وأعقب ذلك انفجار في أحزانها، وصراع عنيف أرجو الله أن لا أشهد مثله مرة أخرى فيما بقي من حياتي، وكنت أحس أن قلبها قد تحطم من تلك اللحظة، ولكني لم أكن قد سمعت يوما منها شكاة، ولا أفلتت أمامي أنات من بين شفتيها.
ولقد كان مشهدا يثير الشفقة، منظر تلك المرأة في فناء السجن، تغدو إليه في كل يوم؛ محاولة في لهفة وحرارة أن ترقق بالحب والتوسل والتضرع قلب ابنها القاسي، وتلين من فؤاده الجمود المتحجر، ولكن محاولتها ذهبت أدراج الرياح، فقد ظل واجما عنيدا، لا تتحرك في نفسه خالجة، ولا تجيش في صدره عاطفة، بل إن استبدال حكم الموت ذاته بالنفي أربعة عشر عاما لم يستطع أن يلين ولو لحظة من قسوته، أو يرقق من غلظته، ولم تلبث روح الاستسلام وقوة الجلد التي طالما أعانتها من قبل، وشدت من نفسها الواهنة، أن عجزت عن مقاومة ضعفها، ومغالبة وهنها، فمرضت، ولكنها ظلت تجر قدميها المتعثرتين، تاركة فراشها إلى السجن لتزور ابنها مرة أخرى، وإذا قوتها تخذلها؛ فتهوي إلى الأرض مهدمة لا تستطيع حراكا.
وكانت القسوة التي كان ذلك الفتى يباهي بها، وعدم مبالاته، قد امتحنا حقا، وجربا إلى آخر الحدود، فكاد الانتقام الذي ألقى بجرانه عليه، يذهب بلبه، وانقضى يوم ولم تأت أمه لتزوره، وفات آخر ولم تقترب منه، حتى كان مساء اليوم الثالث، ولم يرها، ولم يبق إلا أربع وعشرون ساعة أخرى فيفترق عنها، ومن يدري فقد يكون فراق الأبد ... يا لله! لشد ما عادت إلى خاطره ذكريات الأيام الخوالي التي كان قد نسيها، فراح يقطع الفناء الضيق، ذهوبا وجيئة بخطى مسرعة، كأن أخبارها ستوافيه سراعا كلما أسرع في غدوه ورواحه على تلك الصورة، يا لله ... لشد ما آلمه الإحساس المرير بأنه قد بات وحيدا مهجورا، مقطوع الصلة بالدنيا، حين سمع النبأ اليقين، وهو أن أمه الوالدة التي لم يعرف من أبويه غيرها، مريضة في فراشها، أو من يدري فقد تكون محصورة في سكرات الموت ، على مبعدة ميل واحد من الموضع الذي وقف فيه، ولو أنه كان حرا طليقا من الأغلال؛ لاستطاع في بضع دقائق أن يكون بجانبها، فاندفع نحو باب السجن، وأمسك بقضبانه الحديدية بكل قوة الاستيئاس، وراح يهزها هزا، وهي تعود جامدة مرتدة إلى مكانها، ومضى يلقي بكل قوته على الجدار السميك، كأنما يريد أن يشق لنفسه طريقا من خلال هذا الحجر الأصم، ولكن البناء المكين سخر من جيده الضعيف، فوقف يقلب يديه حسرة، ويبكي كالطفل من فرط اليأس.
وحملت مغفرة الأم وبركتها إلى ولدها في السجن، ونقلت إليها وهي في فراشها أقسامه المغلظة على توبته وندامته، وتضرعاته الحارة لها أن تعفو عنه، واستمعت إليه في إشفاق ورحمة ورثاء له، وهو يصف لي عشرات الوسائل التي سينتهجها ليكفل لها الراحة والمعونة عند عودته، ولكني كنت أعلم أن أمه لن تكون من أهل هذه الدنيا قبل أن يعود إليها بعد عدة أشهر.
ونقلوه ليلا، ولم تنقض على نقله بضعة أسابيع، حتى رحلت أمه من هذا العالم، وأرجو موقنا، وأومن حقا، إلى مكان تجد فيه السعادة الأبدية، والراحة السرمدية، وقمت بالصلاة على رفاتها، وهي اليوم ترقد في فناء كنيستنا الصغيرة، وليس على قبرها حجر، ولا فوق جدثها من أثر، فقد عرف البشر أحزانها، وعرف الله ما في نفسها من فضيلة وخير.
وكان الاتفاق قد تم قبل نقل السجين على أن يكتب إلى أمه بمجرد الإذن له في مراسلتها، وأن يرسل كتبه إليها بعنواني، وكان أبوه قد رفض بتاتا أن يرى ابنه، من اللحظة التي اعتقل فيها، وأصبح سواء لديه أبقي حيا أم ذهب في الهالكين.
وانصرمت عدة سنين، ولم يأتنا عنه نبأ، ولما انقضى أكثر من نصف المدة المحكوم بها عليه، ولم أتلق منه كتابا، استنتجت من انقطاع أخباره أنه قضى نحبه، بل لقد رجوت أن يكون الموت قد أدركه.
ولكن الواقع أن أدموندز كان قد أرسل إلى موضع قصي من الأرض، عند قدومه إلى مستعمرة السجناء، ولعل هذا هو السبب في أنني لم أتلق منه ولا كتابا واحدا، وإن كان قد بعث إلي بعدة خطابات، وقد لبث في ذلك الموضع عينه المدة المقررة كلها، وهي أربعة عشر عاما، ولما انقضت اتخذ طريقه إلى هذه البلاد وهو ذاكر عزمته القديمة، والميثاق الذي قطعه على نفسه لأمه، ولقي في سفره صعابا كثيرة وأهوالا عدة، حتى عاد ساعيا على قدميه إلى موطنه.
ففي أصيل يوم أحد جميل، في شهر أغسطس، قدم «جون أدموندز» إلى القرية التي غادرها مجللا بالعار والشنار قبل ذلك بسبعة عشر عاما، وكان أقرب طريق إليها يمر بالكنيسة، وما كاد الرجل يجتاز باب فنائها الخشبي حتى هاجت الذكرى في فؤاده، وراحت أشجار «الدردار» القديمة الفارعة، التي ألقت الشمس وهي في المغيب، من خلال أفنائها، ضياء سنيا على الدرب الظليل الممتد أمامها - توقظ في نفسه ذكريات أيام طفولته الخالية، فمضى يتمثل نفسه يوما وهو متشبث بيد أمه، منطلق في سكون معها إلى الكنيسة، وتذكر كيف كان من عادته أن يتطلع إلى وجهها الشاحب، وكيف كانت عيناها تغرورقان أحيانا بالعبرات، وهي تنظر إلى معالم وجهه، تلك العبرات السخينة التي كانت تساقط على جبينه، وهي تنحني عليه لتقبله، وتستثير دموعه هو كذلك وعبراته، وإن لم يكن يعرف يومئذ مبلغ المرارة التي كانت تختلط بدمعها ... وتذكر كذلك كم مضى يعدو فرحان جذلا في هذا الدرب مع بعض اللدات من الصبيان مثله، ملقيا بين لحظة وأخرى عينه إلى الخلف ليلمح بسمة أمه، أو يسمع صوتها الحنون، وسرعان ما أحس كأن ستارا قد رفع عن ذاكرته، فما لبث أن تزاحمت على خاطره مشاهد قسوته، حين كان يتلقي كلمات الرفق والحنان منها بجفوة، ونذرها بسخرية، ووعوده لها بخلف ونكث، حتى لقد أحس في قلبه رجفة بالغة، فلم يعد يستطيع احتمالا ولا تجلدا ...
ودخل الكنيسة، وكانت صلوات المساء قد انتهت، والمصلون قد انصرفوا، ولكن الأبواب لا تزال مفتحة، فكانت خطواته - وهو يمشي في جنباتها - تتردد أصداؤها جوفاء غريبة الوقع، حتى لقد أوجس خيفة أن رأى نفسه بمفرده، وأحس السكون البالغ من حوله ، فأدار في المكان عينه، فتبين له أنه لا يزال على قديم عهده، لم يعتره تحول ولا تبدل، وإن بدا أصغر مما كان يألفه، ولكن ها هي ذي التماثيل القديمة، التي طالما تطلع إليها بتلك الرهبة الصبيانية ألوف المرات، وها هو ذا المنبر الصغير، بوسادته الناحلة اللون، ومائدة العشاء الرباني التي طالما وقف أمامها ليردد «الوصايا» التي كان يجلها وهو صبي، وقد نسيها وهو رجل، ومضى يقترب من المقعد القديم، فبدا له باردا مهجورا، وكانت الوسادة قد أزيلت عنه، ولم يجد الكتاب المقدس في موضعه، فقال في نفسه لعل أمه اليوم تتخذ مقعدا أقل شأنا، أو نراها وقد وهن العظم منها، فلم تعد تقوى على المجيء إلى الكنيسة وحدها، ولم يجرؤ على التفكير فيما كان منه متوجسا، وسرت برودة في أنحاء نفسه، ورجفة شديدة في كيانه، فأشاح ببصره موليا، وكان شيخ كبير قد دخل السقيفة في اللحظة التي وصل فيها، فأجفل أدموندز متراجعا، فقد عرفه حق المعرفة، ولطالما شهده وهو يحفر القبور في مقبرة الكنيسة ... وتساءل خاطره: ماذا عسى أن يقوله هذا الرجل للسجين العائد؟
ورفع الشيخ عينيه ليتأمل وجه هذا الغريب، وحياه بقوله: «طاب مساؤك.» وانطلق بخطى وئيدة، وقد نسيه، ولم يعرف من هو.
ومضى يهبط التل، ويمشي في مناكب القرية، وكان الجو صائفا، والناس جلوسا على أبواب دورهم، أو متمشين في بساتينها الصغيرة، وهو يمر عليهم، وقد راقتهم هدأة الأصيل، والاستجمام من كفاح النهار وكده، وكم من نظرات اتجهت صوبه، وكم من لمحات متشككة مستريبة ألفاها على جانبي الطريق؛ ليرى هل أحد من الناس عرفه فتحاماه، فقد رأى وجوها غريبة عليه في كل بيت، وتبين في بعضها أشكالا تقرب من أشكال لدات له في المدرسة ورفاق ... رأى صبيا منذ آخر عهده به، قد أصبح رجلا يحيط به جمع من أولاد له، وهم في مرح وقصف، وشهد في بيوت أخرى شيخا واهنا محطوما، يجلس في مقعد رحيب بباب كوخ، تذكر أنه كان يومئذ عاملا ممزاحا طروبا، ولكن القوم جميعا قد نسوه، فمضى في طريقه مجهولا لا يعرفه أحد.
وكانت آخر خيوط الشمس في المغيب قد سقطت على الأرض، ملقية شفقا أحمر على سنابل القمح الصفر، ومطيلة خلال الأشجار في البساتين، حين وقف قبالة بيتهم القديم، مهد طفولته، ذلك البيت الذي طالما حن إليه فؤاده، وأحس له حبا بالغا لا يوصف، خلال أعوام سجنه الطوال، وفترة أحزانه المبرحة، وكان السور خفيضا، وإن تذكر الأيام التي كان يبدو فيها جدارا شاهقا في عينه، وأطل على البستان القديم، فوجد فيه من البذور والأزاهر أكثر مما كان من قبل يألفه، ورأى الأشجار القديمة كما هي، وشهد الشجرة ذاتها التي رقد تحتها ألف مرة، كلما شعر بتعب من اللعب والرتع في الشمس، والتي كان يحس تحت وارف ظلها دبيب النوم في طفولته السعيدة يدب رفيقا إلى معاقد أجفانه. وطرقت أذنيه أصوات منبعثة من عقر الدار، فأصغى إليها، ولكنها وقعت غريبة في مسمعه، ولم يعرفها، فقد كانت أصواتا مرحة، وكان يعلم حق العلم أن أمه العجوز المسكينة لا يمكن أن تكون مرحة، وهو عنها النائي المغترب.
وفتح الباب، فوثبت من خلاله مجموعة من الأطفال الصغار صارخين قافزين، وظهر الأب يحمل طفلا صغيرا بين ذراعيه، فأحاطوا جميعا به، مصفقين بأيديهم الدقيقة، مجتذبينه إليهم ليشاركهم في ألعابهم ومراتعهم، فما لبث السجين أن تذكر كيف كان ينزوي رعبا من مشهد أبيه في ذلك المكان بالذات، وكيف كان يدفن رأسه الراجف تحت اللحاف، وكم سمع الكلمة الخشنة منه، وذاق «العلقة الساخنة» من كفه، وولولة أمه الحدبة الرءوم عليه؛ فأجهش الرجل بالبكاء من شدة الألم الذي اعتلج في خاطره، وهو منصرف من الموضع، ولكنه مضى في طريقه جامعا قبضة يده، صارفا بأسنانه، تغمر صدره عاطفة موحشة قاتلة.
وكذلك كانت الرجعة التي تمثلها في عدة السنين الخاليات، والتي من أجلها قاسى الأهوال، وعانى أشد صنوف العذاب، لا وجه يرحب به، ولا نظرة صفح وغفران تطالعه، ولا بيت يتلقاه، ولا يد تتقدم إليه بعون ... وذلك كله في القرية القديمة التي نشأ فيها، والبلد الذي درج على أرضه صغيرا، إن عزلته في الغابات والآجام، حيث لا يرى إنسانا ولا يلم ببشر؛ لأهون والله من هذا وأخف وقعا ...
ولقد تذكر كيف كان وهو في تلك الأرض القصية، التي قضى فيها عهد عبوديته وعاره وشناره، يتمثل مسقط رأسه كما تركه، لا كما سوف يبدو عند مآبه، فلم تلبث هذه الحقيقة المرة أن نزلت باردة جامدة على فؤاده، وأمسكت بكفها الباردة بقلبه، وأحس روحه تهوي في أعماقه، فلم يجد في نفسه شجاعة تغريه بسؤال الناس عما صنع الله بأهله، أو تحمله على التقدم إلى الإنسان الوحيد الذي يحتمل أن يتلقاه بحنان ورحمة، بل مضى يمشي مبطئ الخطى، متحاميا عدوة الطريق كالمجرم الأثيم، وعرج على بعض المروج التي كان يعرفها حق المعرفة، وراح يتهالك على الحشائش، دافنا وجههه في راحتيه.
ولم يفطن عندئذ إلى رجل كان راقدا فوق الجسر غير بعيد، وإن كان هذا قد شعر به، فاستدار ليختلس نظرة إلى هذا الطارئ الغريب؛ فأحدثت ثيابه حفيفا، فانتبه أدموندز من غشيته، ورفع رأسه ليتبين ما سر هذا الحفيف وباعثه.
وكان الرجل الآخر قد استوى جالسا فوق الثرى، وقد بدا كأنه مقوسا، ووجهه مغضنا، ولونه أبهر شاحبا، ويوحي لباسه بأنه من العاملين الكادحين في الأرض، ويدل مظهره على أنه قد بلغ من الكبر عتيا، وإن لاح عليه أن الشيخوخة التي أدركته كانت من أثر الإسراف على نفسه، واصطلاح السقام عليه، لا من مطال العمر وتقادم السنين.
ولبث يحملق البصر في ذلك الطارئ الغريب، وإن كان بريق عينيه قد خبا، وجفناه متثاقلين خلال النظرة الأولى، فما عتمتا أن أبرقتا، وخطف عليهما وميض غير طبيعي، ونظر مروع رهيب، بعد أن استقرتا على ذلك الوجه الغريب القائم حياله، كأنما توشك عيناه أن تخرجا من محجريهما.
وانثنى أدموندز يتحامل شيئا فشيئا ليستوي على ساقيه، ويطيل النظر في وجه ذلك الشيخ المهدم، وإذا الرجلان يتبادلان النظرات في صمت مستطيل.
وبدا الشيخ شاحبا في مثل شحوب الموتى، وأخذته رجفة راجفة، وترنح حتى استوى على قدميه ، كما وثب أدموندز من مكانه، وتراجع خطوة أو خطوتين، ثم دنا من الشيخ.
قال بصوت متهدج متقطع: «دعني أسمع منك قولا ...»
ولكن الشيخ المهدم صاح به ساخطا ناهرا: «اغرب عني!»
وعاد السجين يدنو منه ويقترب.
وانثنى الشيخ يصرخ: «اغرب عني!» واشتد به الرعب فرفع عصاه، وضرب أدموندز بها ضربة شديدة على وجهه.
وغمغم السجين قائلا وهو يصرف بأسنانه: «أبي ... أيها الشيطان!» واندفع هائجا، وأمسك الشيخ من عنقه، ولكنه كان أباه، فما لبثت ذراعه أن تراخت إلى جنبه عاجزة لا حراك بها.
وأما الشيخ، فقد أرسل صيحة عالية تردد صداها في الحقول الساكنة كأنها زمجرة مارد رجيم، وارتد وجهه مسودا، وانبجس الدم من فمه وأنفه؛ فلطخ العشب بحمرة قاتمة، وترنح الشيخ ثم هوى ... فقد انفجر شريان فيه، وأدركه الموت قبل أن يتقدم ابنه إليه ليرفعه.
وسكت السيد الكبير لحظات، وعاد يقول: «وفي ذلك الركن من فناء الكنيسة، ذلك الركن الذي تحدثت عنه، يرقد رجل قضى ثلاث سنين في خدمتي عقب ذلك الحادث، ظل خلالها سحيق القلب، تائبا نادما خاشعا كل الخشوع الذي يتسنى لأحد من البشر الإخلاد إليه، وما عرف أحد سواي خلال السنين التي قضاها قبل أن يوافيه الموت من يكون ذلك الرجل، ومن أين أتى ... لقد كان جون أدموندز ... السجين العائد!»
الفصل السابع
كيف رأينا المستر ونكل، بدلا من أن يسدد الرماية إلى الحمامة ويقتل الغراب، سددها إلى الغراب وجرح الحمامة، وكيف تبارى فريق نادي الكريكت في «دنجلي ديل» مع فريق «ماجلتون»، وكيف تناول هذا الفريق طعام العشاء على مائدة رب الضيعة في دنجلي ديل، وشئون طريفة طلية أخرى. ***
واصطلحت متاعب النهار، أو أثر القصة التي قصها القسيس ومفعولها المنوم، على معاقد أجفان المستر بكوك ولهفته على النعاس، فلم تكد تنقضي بضع دقائق على اقتياده إلى حجرة نومه المريحة، حتى هبط في سبات عميق لا أحلام فيه، ولم يوقظه منه إلا شمس الصباح، وقد نفذت بأشعتها الباهرة في جوانب المخدع، كأنما تعتب عليه طول المكث في سريره، ولم يكن السيد بكوك بالرجل المكسال المتبلد، فما عتم أن وثب من فراشه وثبة جندي محارب، متحمس للقتال من جوف خيمته.
وغمغم ذلكم السيد المتحمس، وهو يفتح باب الشرفة المتشابك قائلا، وهو يرسل تنهدا مستطيلا: «ريف جميل ... ريف جميل ... من ذا يطيق العيش في بلد لا يشهد فيه كل يوم غير الطوب والقرميد، بعد أن أحس سلطان مشهد كهذا وأثره في نفسه؟ ومن ذا الذي يحتمل الحياة في موضع لا أبقار فيه غير الأبقار المرسومة على غطاء المدخنة، ولا شيء فيه من عطر إله الرعاة، غير رائحة الآجر، ولا إنتاج فيه غير الحجر؟ ... ومن ذا الذي يحتمل أن يحيا تلك الحياة السقيمة في موضع كهذا؟ إنني أسأل: من ذا الذي يطيقها، لعمري، ومن ذا يحتملها؟»
وبعد طول التساؤل والمناجاة بينه وبين خاطره، على هذا النحو، راح السيد بكوك يخرج رأسه من خلال الباب المتشابك الأجزاء، ويجيل البصر فيما حوله.
وتصاعدت رائحة الدريس الزكية الحلوة إلى شرفة حجرته، وتأرج الفضاء المترامي حوله بأنفاس الزهر وشذى الشجر الفواح، وفي البساتين القائمة من تحته، ولمعت المروج النضر بندى الصباح المتلألئ على أوراق الأفنان، وهي تنثني وتتمايل في الهواء العليل، والأطيار تشدو، كأن كل قطرة براقة من قطر الندى فوارة تبعث الوحي، وتدفع الإلهام، فتصدح وتغني، فلم يلبث المستر بكوك أن ذهب في حلم فاتن، وخيال ممتع بديع، لم يوقظه منه غير صوت ينادي: «من هنا.»
فنظر عن يمينه، فلم ير أحدا، وتلفت عن شماله، وأرسل بصره يشق الفضاء، ورفعه إلى السماء، ولكنه لم يكن مطلوبا فيها، وعندئذ فعل ما يفعله كل إنسان في الحال ... نظر إلى الحديقة، فإذا هو يبصر السيد واردل.
وبادره هذا السيد الخفيف الروح في لهفة المتعجل اللذة، المرتقب للمتع، قائلا: «كيف أنت؟ ... إنه لصباح جميل ... يسرني أنك قد بكرت من فراشك هذا البكور ... هيا انزل إلينا وعجل، فإني هنا مرتقبك ...»
ولم يكن المستر بكوك بحاجة إلى دعوة أخرى، فلم يستغرق إصلاح بزته غير عشر دقائق، وإذا هو قد وافى السيد واردل ووقف بجانبه.
قال بدوره لمضيفه: «هأنذا ... ماذا وراءك؟» وقد رآه مسلحا ببندقية، وشهد أخرى ملقاة على الحشائش.
وأجابه مضيفه قائلا: «إنني وصاحبك خارجان لصيد الطيور قبل أن يحين موعد الفطور، إنه حسن الرماية جدا ... أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك: «لقد سمعته يقول إنه الماهر الحاذق، ولكني لم أره يوما يسدد الرماية إلى شيء.»
وعاد المضيف يقول: «حسنا، أود لو يأتي معي ... جو ... جو!»
وإذا الغلام البدين يخرج من البيت، وهو من أثر هياج الصباح وكثرة حركته، يبدو أكثر من ثلاثة أرباع نائم ...!
قال السيد الكبير لغلامه: «اصعد وناد السيد، وقل له: إنه سيجدني أنا والمستر بكوك في مألف الطير ... وأر السيد الطريق إليها، هل أنت سامع؟»
وانصرف الغلام لتنفيذ الأمر، بينما حمل المضيف البندقيتين كأنه روبنصن كروزو آخر، وسار في المقدمة ليهدي صاحبه إلى الطريق.
وبعد أن سار بضع لحظات في طريق تقوم الأشجار على حفافيه، وقف عن المسير قائلا: «هذا هو الموضع.»
ولم يكن المستر بكوك بحاجة إلى من ينبئه؛ لأن نعيق الغربان المستمر كان كافيا للتدليل على المكان المقصود.
وألقى الشيخ بندقية فوق الثرى، وحشا الأخرى.
وانثنى المستر بكوك يقول: «هاهم أولاء.» وفيما كان يقول ذلك، بدت أشباح المستر طبمن، والمستر سنودجراس، والمستر ونكل من مكان بعيد؛ ذلك أن الغلام البدين لم يكن متحققا أي السادات هو المطلوب، فعمد بذكائه الخاص - ومنعا للوقوع في خطأ - إلى دعوتهم جميعا.
وصاح الشيخ بالسيد ونكل مناديا: «أقبل ... إن راميا حاذقا مثلك كان أجدر به أن يستيقظ من وقت طويل، حتى ولو من أجل عمل يسير كهذا.»
فأجاب السيد ونكل بابتسامة مصطنعة، وتناول البندقية الأخرى، وقد بدا على وجهه من الأثر والتعبير ما نحسب الغداف
1
الملهم المتطير، الشاعر بدنو الموت رميا بالرصاص، إلا موجسا من دلالته، مشفقا من معانيه، ومن الجائز أن يكون ما بدا على وجهه دليلا على الحذق ومضاء العزيمة، ولكن الظن الغالب أنه يرجع إلى الألم والحيرة والارتباك.
وأومأ الشيخ برأسه، فبادر غلامان مهلهلا الثياب - كانا قد أقيما في هذا الموضع تحت إشراف الصبي «لامبرت» - إلى التسلق فوق شجرتين.
عندئذ راح السيد بكوك يسأل مضيفه: «ما شأن هذين الغلامين؟»
فقد أحس شيئا من الجزع؛ لأنه اعتقد أن سوء أحوال الفلاحين والعاملين في الأرض - كما سمع من قبل الشيء الكثير عنها - ربما أرغمت هذين الغلامين الصغيرين على كسب قوتهما من عمل خطر محفوف بالمكاره، وهو أن يجعلا من نفسيهما هدفا لصيادين غير خبيرين بالرماية.
وأجاب السيد واردل ضاحكا: «لا لشيء غير بدء الصيد.» وعاد السيد بكوك يقول مبهوتا: «لأي شيء تقول؟»
قال بصراحة: «لتخويف طيور الغداف.»
قال: «أهذا كل ما في الأمر؟»
قال: «هل اقتنعت؟»
أجاب: «كل الاقتناع.»
واستتلى المضيف يقول: «حسنا جدا ... هل أبتدئ؟»
وقال السيد ونكل، وقد سره أن يعطى أي مهلة يسترد فيها أنفاسه، ويستعيد جأشه: «تفضل.»
قال «قف جانبا إذن ... والآن ...»
وفي هذه اللحظة صرخ الغلامان، وهزا فرعا يحوي وكرا، فإذا ستة غربان صغار، كانت في حديث عنيف، قد طارت لترى ما الخطب، فعمد الشيخ إلى إطلاق النار ردا عليها وبمثابة جواب، فسقط أحدها، وطارت الأخرى هاربة.
وقال الشيخ لغلامه «احمله يا جو.»
وخطفت على وجه الغلام ابتسامة، وهو يتقدم ليحمله، وقد تمثلت له صور الفطير المحشو بلحم الغداف، ومرقت رسومها في خياله، وضحك وهو بالغداف عائد، فقد وجده سمينا ممتلئا.
والتفت الشيخ إلى المستر ونكل، وهو يعيد حشو قذيفته، وقال «والآن هلم يا مستر ونكل.»
وتقدم هذا فسدد بندقيته، وبادر المستر بكوك وصحابه إلى التراجع بغير إرادة؛ تجنبا لأي أذى قد يمسهم من تساقط طيور الغداف، وتناثرها من حولهم، فقد كانوا على يقين من كثرة صرعاها برصاص صاحبهم المدمر.
وساد سكون رهيب ... وتلته صيحة ... وأعقب الصيحة رفيف أجنحة ... ثم تكتكة خافتة.
وصاح الشيخ: «هيا!»
وسأل السيد بكوك صاحبه قائلا: «ألم تخرج الرصاصة؟»
وأجاب السيد ونكل وهو شاحب الوجه، والغالب أن يكون مرد شحوبه إلى الخيبة: «الطلقة خابت!»
وبادر الشيخ إلى البندقية فتناولها وهو يقول: «هذا غريب، فما عرفت من قبل أن بندقية منها تكذب ... يا عجبا ... ما لي لا أرى للظرف أثرا؟»
وعاد المستر ونكل يقول: «ويحي ... لقد نسيت الظرف.» وأصلح هذا الخطأ اليسير، وعاد المستر بكوك يقبع تحاميا للخطر، وتقدم المستر ونكل بخطوة عزم وتصميم، ووقف المستر طبمن خلف شجرة يطل من ورائها، وأرسل الغلام صيحة، فطارت أربعة غربان، فأطلق المستر ونكل عليها النار، وإذا بصيحة تنبعث كأنها صيحة إنسان لا صرخة غراب، وهي صرخة ألم جثماني ... وتبين أن المستر طبمن قد أنقذ أرواح عدد لا يحصى من الأطيار البريئة الوادعة، بتلقي جزء من الطلقة في ذراعه اليسرى ...
وليس من الهين أن نصف مبلغ الاضطراب الذي أدى إليه هذا الحادث، والارتباك الشديد الذي أعقبه، وكيف انثنى السيد بكوك في بوادر انفعاله يصيح بالسيد ونكل: «يا لك من شقي!» وكيف استلقى المستر طبمن فوق الثرى، وكيف جثا السيد ونكل مروعا فزعا بجانبه، وكيف مضى المستر طبمن - وهو لا يعي - ينادي باسم سيدة، وكيف فتح أولا إحدى عينيه، ثم عاد ففتح الأخرى، ورجع فأغمضهما معا ... نقول: إن وصف ذلك كله تفصيلا لا يقل مشقة وتعذرا عن شرح ما تلاه، وكيف أخذ الجريح السيئ الحظ يفيق رويدا من غشيته، وكيف ضمدت ذراعه بالمناديل، وحمل على فترات مسنودا إلى أذرع أصحابه المشفقين عليه، كلما مضوا به عادوا فتمهلوا قبل استئناف المسير.
وحين اقتربوا من البيت، كانت السيدات في الحديقة ينتظرن وصولهم، ويرتقبن الفطور، وظهرت السيدة العانس؛ فابتسمت وأشارت إليهم بأن يسرعوا، وتبين أنها لم تكن تعرف ما جرى ... لها الله ...! إن الجهل قد يكون أحيانا نعمة أي نعمة ...
وتدانوا ... وانثنت إيزابللا واردل تسأل قائلة: «ما الذي حدث للشيخ الكبير؟» ولكن العمة العانس لم تعبأ بهذا السؤال، وحسبت المستر بكوك هو المراد به، وكان المستر طبمن في تقديرها لا يزال فتى في نضارة الشباب، فقد كانت تنظر إلى سنه من خلال منظار مصغر!
وصاح المضيف الشيخ مشفقا على إزعاج ابنتيه: «لا تخفن.»
وكان القوم قد ازدحموا حول المستر طبمن وأحاطوا به، فلم يتبين لهن حقيقة الحادث، ولم يعرفن مداه .
وعاد الشيخ يقول: «ما الخطب؟»
وصاحت النساء: «ما الخطب؟»
قال: «إن المستر طبمن أصيب في حادث بسيط ... هذا هو كل ما في الأمر ...»
وما إن سمعت العمة العانس هذا القول، حتى أطلقت صرخة تشق الفضاء، وانطلقت في ضحكات «هستيرية».
وسقطت في أحضان ابنتي أخيها.
وقال الشيخ: «ارششن قليلا من الماء على وجهها ...»
وغمغمت العانس تقول: «كلا ... كلا ... إنني بخير الآن ... بيلا ... إميلي ... هيا ادعوا طبيبا، أهو جريح؟ أهو ميت ... هل هو ... ها ها ها ...؟ وأصابتها النوبة رقم 2، فعادت إلى ضحكها «الهستيري» الذي كانت الصرخات المولولة تتخلله.
وهنا قال المستر طبمن، وهو من فرط تأثره لا يكاد يمسك دموعه، حين شهد هذا العطف عليه وهو في ألمه: «هدئي روعك يا سيدتي العزيزة ... هدئي روعك.»
وعندئذ صاحت العمة العانس - وقد انتابتها النوبة رقم 3 - تقول: «هذا صوته!»
وعاد المستر طبمن يقول لها مواسيا: «لا تنفعلي هكذا يا سيدتي العزيزة ولا تضطربي، أتوسل إليك ... أؤكد لك أن الجرح يسير ...»
وصاحت السيدة المتشنجة: «لم تمت إذن ... قل: إنك لم تمت!»
وفي هذه اللحظة تدخل المستر واردل في خشونة لا تتفق وهذا المشهد الشعري، قائلا: «كفى حمقا يا راشل! ما الفائدة بالله عليك من قولك له إنه لم يمت؟»
وقال المستر طبمن: «كلا ... كلا ... أنا لم أمت، ولكني لست بحاجة إلى معونة أحد سواك ... دعيني أستند إلى ذراعك.» ومضى يهمس لها: «أواه يا آنسة راشل ...!» فدنت المرأة المضطربة منه، ومدت نحوه ذراعها.
ودخل القوم قاعة الفطور، ومد المستر طبمن يده، فرفع كفها برفق إلى شفتيه، وتهالك على الأريكة.
وسألته راشل في لهفة: «هل أغمي عليك؟»
قال: «كلا ... لا شيء ... لن ألبث أن أفيق.»
وأغمض عينيه.
وغمغمت العانس تقول - ولما يمض على إغماضه أكثر من ثوان معدودات: «لقد تولاه النوم ... عزيزي ... عزيزي يا مستر طبمن.»
وإذا السيد طبمن يثب من مكانه صائحا: «أواه ... أعيدي على سمعي تلك الكلمات مرة أخرى ...»
فأجفلت السيدة وقالت وقد استولى عليها الحياء: «وهل سمعتها حقا؟»
قال: «نعم ... سمعتها ... هلا رددتها ... إن كنت تريدين أن أفيق فأعيديها على مسمعي.»
قالت: «صه! ... أخي قادم!»
وعاد المستر طبمن إلى استلقائه، ودخل السيد واردل مصطحبا طبيبا.
وفحص الطبيب الذراع، وضمد الجرح، وأعلن أنه يسير لا يذكر، فاطمأنت الخواطر وهدأت النفوس، وشرع القوم في إشباع شهواتهم إلى الطعام، وعادت أمارات الغبطة إلى وجوههم إلا السيد بكوك فقد لزم الصمت، وبدت الشكوك والريب تلوح على محياه، فقد زعزع هذا الحادث في نفسه الثقة بالمستر ونكل إلى حد كبير.
والتفت المستر واردل إلى هذا الصياد البارع، فسأله قائلا: «هل تعرف الكريكت؟»
ولو أن المستر ونكل سئل في أي وقت آخر هذا السؤال لكان رده بالإيجاب، ولكنه أحس بدقة الموقف، فقال في استحياء وتواضع: «كلا.»
وأنشأ المستر سنودجراس يسأل رب البيت: «هل تلعب الكريكت يا سيدي؟»
قال: «كنت فترة من الدهر، ولكني أهملتها اليوم ... وأنا مشترك في النادي هنا، ولكني لا ألعب.»
وقال المستر بكوك: «أعتقد أن المباراة الكبرى ستقام اليوم.» وأجاب رب الدار: «أجل ... وتحب طبعا أن تشهدها.»
فقال المستر بكوك: «إني ليبهجني يا سيدي أن أشهد أي ألعاب يمارسها الناس في أمان، ولا تتعرض فيها حياة البشر للخطر من عجز غير البارعين فيها، الذين لم يحذقوها.»
وتمهل المستر بكوك، ونظر إلى المستر ونكل طويلا، فانزوى هذا من نظرة زعيمه المتفحصة، واسترد ذلك الرجل العظيم عينيه بعد بضع دقائق، وأضاف يقول: «هل من شفيع يشفع لتركنا صديقنا الجريح لعناية السيدات؟»
وقال المستر طبمن: «لستم تاركي لرعاية أفضل من هذه وأجدى.»
وقال المستر سنودجراس: «حقا إن هذا لمتعذر.»
وكذلك تم الاتفاق، على أن يبقى المستر طبمن في الدار برعاية السيدات، وأن يذهب الباقون من الأضياف بقيادة المستر واردل، إلى الموضع الذي ستقام فيها هذه المباراة التي أثارت أهل ماجلتون من سكونهم، وهاجت حماسة «دنجلي ديل» وحميتها ...
وفي الطريق - والمسافة لا تعدو أكثر من ميلين خلال دروب ظليلة، ومسالك مقفرة - عطفت أحاديث القوم على المشاهد البهيجة، التي أحاطت بهم من كل ناحية، حتى لقد كاد المستر بكوك يأسف بعد اجتياز هذا الطريق، على أنهم وصلوا إلى الطريق الرئيسي الذي يشق بلدة «ماجلتون».
ولا يجهل أحد أوتيت عبقريته ميلا إلى علم تخطيط الأرض، أن «ماجلتون» بلدة ذات شخصية معنوية، ولها عمدة ومشايخ وأعضاء مجلس قروي، وكل من يطلع على عناوين كبارها، من العمدة إلى الأعضاء، أو من الأعضاء إلى العمدة، أو منهما معا إلى الهيئة العامة، أو من هؤلاء الثلاثة إلى البرلمان، يتبين منها ما كان أولى أن يتبينه من قبل، وهو أن ماجلتون قرية قديمة مخلصة، جمعت بين الحماسة الصادقة لتعاليم المسيحية، وبين التفاني في المحافظة على الحقوق التجارية، بدليل أن العمدة والمجلس وغيرهما من السكان قدموا في أوقات مختلفة، لا أقل من ألف وأربعمائة وعشرين معروض احتجاج على استمرار النخاسة والرق في الخارج، ومثل هذا العدد من المعروضات يحتجون فيها على التدخل في نظام المصانع في البلاد، وثمانية وستين معروضا أخرى، يؤيدون فيها بيع المأكولات في الكنيسة، وثمانين وستة معروضات يلتمسون فيها إلغاء البيع والشراء في الطريق أيام الآحاد.
ووقف المستر بكوك في الشارع الأكبر في هذه البلدة المجيدة، وألقى نظرة فضول مختلط باهتمام على الأشياء المحيطة به، فرأى ساحة خصصت للسوق، وفي وسطها فندق كبير، علقت لافتة على واجهته تمثل صورة شائقة في عالم الفن، وإن ندر وجودها في دنيا الطبيعة، ونعني بها صورة أسد أزرق، ارتفعت منه ثلاث سيقان مقوسة في الفضاء، وهو متوازن على الطرف الأقصى من المخلب الأوسط في قدمه الرابعة، وعلى مدى البصر رأى دكان دلال، ومكتبا للمطافئ، وسمسار غلال، ودكان تاجر قماش، وحانوت «سراج»، ومعمل خمر، ثم دكان بقال، ودكان بيطار، وكان الأخير أيضا يبيع القلانس والقبعات والثياب والمظلات المصنوعة من القطن، ويقدم المعلومات المختلفة لمن يشاء، وألمت عيناه كذلك ببيت مقام من الآجر الأحمر، له فناء مرصوف صغير في مقدمه، لا يشق على أحد أن يعرف أنه بيت المحامي، وبيت آخر مبني من الآجر ذاته، وله شباك من حصير، ولوح نحاسي كبير على بابه، كتب عليه بخط مقروء واضح أنه بيت الطبيب، وكان بضعة غلمان في طريقهم إلى ملعب «الكريكت»، وتاجران أو ثلاثة تجار قد وقفوا بأبواب حوانيتهم، وهم يلوحون كأنهم يودون أن يتخذوا الطريق هم كذلك إلى الملعب، وكان من الجائز كل الجواز أن يفعلوا، دون أن يفقدوا كثيرا من البيعاء، أو تفوتهم فرص البيع.
وقف المستر بكوك لحظة يجيل العين في هذه المشاهد؛ لكي يدونها في فرصة مؤاتية، ولكنه عاد يلاحق أصحابه، وكانوا قد انحرفوا عن الطريق العام، وأصبحوا على مقربة من ميدان المباراة.
وكانت «الشبكات» منصوبة، كما أقيم سرادقان يستريح فيهما أفراد الفريقين المتباريين، ويتناولون فيهما المرطبات، ولم يكن اللعب قد بدأ بعد، ووقف اثنان أو ثلاثة من لاعبي فريق «دنجلي ديل» وفريق «ماجلتون» يتلهون ويتسلون في وقار وجلال، بإلقاء الكرة في استخفاف ظاهر من يد إلى يد أخرى، بينما كان عدة سادات لآخرين مرتدين الزي ذاته في قبعات من القش، وقمصان من «الفانللا»، وسراويل بيض، وهو زي بدوا فيه أشبه ببناءين من الهواة، متفرقين حول الخيام، فتقدم المستر واردل بالقوم إلى خيمة منها، وإذا بعشرات من تحيات «وكيف الحال؟» تستقبل ذلك الشيخ الكبير، وإذا بالقبعات القش ترتفع للسلام عليه، والانحناءات تطالعه من اللاعبين ذوي القمصان، بعد أن تولى تعريف الجميع بأضيافه قائلا إنهم سادات قادمون من لندن، يتلهفون على مشاهدة مباراة اليوم التي لا يخامره الشك في أنها ستكون مبعث غبطة بالغة.
وأنشأ سيد ضخم - بدا جسمه وساقاه أشبه بنصف لفة ضخمة من الأصواف، مرفوعة فوق مخدتين منفوختينن - يقول: «أظن الأوفق يا سيدي أن تدخل السرادق.»
وقال آخر يشبه كثيرا النصف الثاني من اللفة السالفة الذكر: «ستجد الجلوس في السرادق أوفق وأريح كثيرا يا سيدي.»
فأجاب المستر بكوك قائلا: «إنك لكريم يا سيدي.»
وقال الأول: «من هنا يا سيدي، هنا الدرجة الأولى، وهي أفضل مكان في الملعب كله.»
وتقدمهم وهو يلهث من فرط البدانة إلى الخيمة التي أشار إليها.
وتتابع على سمع المستر بكوك عند دخوله السرادق قول القائلين: «مباراة باهرة ... لعب بديع ... رياضة رائعة ... جدا ...» وكان أول شيء طالع عينيه منظر صاحبه ذي الثوب الأخضر، الذي رافقهم في المركبة إلى روشستر، وقد وقف يهتف وسط مظاهر بالغة من السرور والاغتباط، غمرا حلقة مختارة من صفوة أهل ماجلتون وساداتها، وكان هندامه قد تحسن قليلا، وكان ينتعل حذاء، ولكنه هو بعينه لا شك فيه ولا ريب.
وعرف الغريب أصحابه في الحال؛ فاندفع نحوهم، وتناول يد المستر بكوك، ومشى به إلى أحد المقاعد بذلك التهور المألوف منه، وهو لا يكف عن الكلام، كأنه المشرف على المكان كله، المدبر المنظم لكل شيء فيه.
وطفق يقول: «من هنا ... من هنا ... تسلية ممتعة ... جعة موفورة ... دنان ملأى منها ... أكوام من اللحم ... لحم العجول ... توابل ومشهيات ... حمل مركبات منها ... يوم عظيم ... اجلس ... ابتهج يا رجل واشعر بأنس، كأنك في بيتك ... مسرور للقائك جد السرور ...»
وجلس المستر بكوك كما أمر أن يجلس، كما امتثل السيد ونكل والمستر سنودجراس لتوجيهات صديقهما العجيب، بينما لبث المستر واردل ينظر في دهشة صامتة.
وعندئذ انبرى المستر بكوك يقول: «هذا أحد أصدقائي يا مستر واردل.»
فصاح هذا قائلا: «أحد أصدقائك ...! كيف أنت يا سيدي العزيز، يا صديق صديقي؟ هات يدك يا سيدي.»
وتناول الغريب يد السيد واردل بكل حماسة الصداقة المتينة التي توثقت على السنين، ثم تراجع خطوة أو خطوتين، كأنما يريد أن يتأمل وجهه وشكله، ثم صافحه مرة أخرى بحرارة أشد من قبل.
وقال المستر بكوك وهو يبتسم ابتسامة تنازعت فيها الطيبة والعجب الشديد: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟»
فأجابه الغريب قائلا: «دع عنك ... إنك نازل في فندق «الكراون» ... الكراون في بلدة ماجلتون ... التقيت بجماعة فيه من ذوي القمصان والسراويل البيض ... شطائر بالأنشوقة ... والكلاوي ... قوم ظرفاء ... شيء بديع ...»
وكان المستر بكوك قد ألف من ذلك الغريب هذا النحو «الاختزالي» من الكلام، فاستخلص من تلك العبارات السريعة المفككة المقطوعة الصلة أن الرجل تعرف بطريقة ما بلاعبي ماجلتون، وأنه لم يلبث أن أحال مجرد المعرفة - بوسائله الخاصة - إلى هذا المدى من «المودة» الذي يسهل معه توجيه الدعوة إليه، والمبالغة في تكريمه ، فلا غرو إذا سكن فضوله، وهدأ خاطره، وأقبل على منظاره يضمه على عينيه استعدادا لمشاهدة اللعب، وكان قد بدأ فعلا.
وكان أول النازلين إلى الحومة فريق ماجلتون، واشتدت الحماسة حين تقدم المستر دمكنز والمستر بدر - وهما من أبرز أعضاء ذلك النادي المشهور - متماسكين باليدين إلى الشبكتين المخصصتين لهما، وكان اللاعب الذي وقع الاختيار عليه ليلعب إزاءه دمكنز البارع من فريق «دنجلي ديل» هو المستر لفي، زين أهلها، وأرفع القوم مكانة فيها، كما انتخب المستر سترجلز لمباراة «بدر» القاهر الذي لم يغلبه في اللعب غالب إلى الساعة، بينما «رابط» عدة لاعبين «للمراقبة» في أنحاء مختلفة من الملعب، ومضى كل لاعب منهم يتخذ الوضع اللائق، وهو واضع يديه فوق ركبتيه، وقد انحنى برأسه وظهره كثيرا، كأنه يتأهب للعبة المعروفة «بقفزة الضفادع»،
2
والمشاهد أن اللاعبين جميعا يفعلون ذلك، حتى ليذهب الظن عامة إلى أنه من المستحيل إجادة المراقبة في أي وضع آخر.
ووقف «الحكام» خلف الشباك، واستعد العداءون لعد الرميات، وعندئذ ساد سكون تتقطع فيه الأنفاس، وارتد المستر لفي بضع خطوات خلف شبكة المستر بدر، وكان هذا قد وقف في مكانه هادئا لا يتحرك، وقرب الكرة من عينه اليمنى عدة ثوان، وانتظر دمكنز مجيئها في طمأنينة واعتداد، وعيناه تراقبان حركات لفي.
وصاح الممسك بالكرة فجأة «العب!» وطارت الكرة من يده رأسا وبسرعة بالغة صوب النقطة الوسطى من الشبكة، وكان دمكنز الفطن المتنبه على الأهبة لها، فسقطت فوق طرف القبعة، ثم قفزت بعيدا فوق رءوس «المراقبين» الذين انحنوا لها كثيرا ليدعوها تطير فوقهم.
وتعالت عندئذ الصيحات متتابعة: «اجر ... اجر ... ضربة أخرى ... والآن اقذفها عاليا ... هيا طوح بها ... قف عندك رمية أخرى ... كلا ... نعم ... كلا ... اقذفها إلى أعلى ... اقذفها إلى أعلى ...»
وانتهت تلك الصيحات بفوز فريق ماجلتون بهدفين، ولم يتخلف بدر أو يتوان في الظفر بأكاليل الغار للإشادة بذكره، وكسب المجد لبلدته، فجعل يحتجز الكرات المشكوك فيها، ويتخلى عن الكرات الرديئة، ويتوخى الجيدة منها، فيرسلها طائرة في مختلف أرجاء الملعب، وكان «المراقبون» قد عرقوا وسخنوا واستولى التعب عليهم، واستبدل برماة الكرة آخرون، وظلوا يطوحون بها حتى خدرت أذرعهم، ولكن دكنز وبدر ظلا غالبين لا قاهر لهما، وكلما حاول سيد متقدم في السن أن يوقف سير الكرة، تدحرجت من خلال ساقيه، أو تسربت من بين أنامله، وكلما حاول سيد ناحل الإمساك بها، ضربته على أنفه، ثم قفزت لاهية مداعبة، وهي أشد من قبل وثبا وقفزا، تاركة الرجل مغرورق العين بالدمع، متلويا من الألم، وكلما طوحت رأسا صوب الشبكة، وصل دمكنز إليها قبل وصول الكرة ... وجملة القول: أن لاعبي فريق ماجلتون بفضل براعة دمكنز، وحذق «بدر»، ظفروا بنحو أربع وخمسين رمية صائبة، بينما كان حساب ما فاز به لاعبو «دنجلي ديل» فارغا، أو ظل على «بياض» كشحوب وجوههم، وكان تفوق غرمائهم أكبر من أن يحاولوا التغلب عليه، وذهبت سدى كل جهود «لفي» الصادقة، وحماسة «استرجلز» المتقدة، في حشد كل ما في وسع البراعة والخبرة أن تبذلاه، أو تستعينا به لاسترداد الأرض التي فقدها فريقهما ... ولم تجد المحاولات كلها نفعا، فما لبث لاعبو «دنجلي ديل» أن استسلموا، وتركوا فريق «ماجلتون» يظهرون من براعتهم الفائقة ما هم مظهروه.
وكان الغريب طيلة الوقت مقبلا على الطعام والشراب والكلام، لا ينثني لحظة عنها ولا يكف، وكلما شهد رمية طيبة أبدى ارتياحه ورضاه عن لاعبها، في لهجة المتنزل من عليائه، المتبرع بعطفه ورعايته، مما سر كثيرا الفريق الذي ينتمي ذلك اللاعب إليه، بينما كان يقابل كل محاولة خائبة، أو يقتصر في وقف الكرة بالتعبير عن استيائه الشخصي من ذلك اللاعب المسيء، أو المحاول الفاشل في عبارات غريبة، كقوله: «آه يا غبي ... والآن ... خسئت يا طري اليد ... مغفل مخادع ...» وما إليها من عبارات، جعلته يبدو في أعين جميع المحيطين به كأبدع خبير، لا تنكر خبرته بسائر فنون الكريكت وأسرارها.
وازدحمت الخيمة بكلا الفريقين المتبارين عقب انتهاء المباراة، فأنشأ الغريب يقول: «مباراة مفتخرة ... لعبت بإجادة ... بعض الألعاب تستحق الإعجاب ...»
وهنا سأله المستر واردل، وقد سرته كثيرا ثرثرته وهذره: «هل سبق لك يا سيدي أن لعبتها؟»
قال: «لعبتها؟ ... أظن أنني لعبتها آلاف المرات ... ليس هنا ... بل في جزر الهند الغربية ... شيء مثير ... نضال حام متوقد ... جدا ...»
وقال المستر بكوك: «لا بد من أن يكون اللعب رياضة دافئة في مناخ كهذا؟»
قال: «دافئة ...! بل ساخنة كالنار ... محرقة متأججة ... لعبت مرة في مباراة ... بشبكة واحدة ... صديقي الأميرالاي السير توماس بليزو، وكان المعتقد بأنه سوف يظفر بأكبر عدد من الأهداف ... عملنا القرعة لمن يلعب أولا ... وابتدأنا الساعة السابعة صباحا ... ستة أفراد من الأهلين اشتركوا في المباراة «مراقبين»، نزلت واتخذت مكاني ... الحر شديد ... كل الأهلين أغمي عليهم ... وحملوا من الملعب حملا ... وجيء بستة آخرين ... ولكنهم عجزوا عن ملاحقتي ... أغمي عليهم كذلك ... دوخت الأميرالاي ... أبى أن يسلم ... تابعي الأمين ... كوانو سامبو ... آخر من بقي ... الشمس تتلظى شواظا من نار ... المضرب ملتهب ... الكرة مسودة من شدة الاحتراق ... رميت خمسمائة وسبعين رمية ... كاد الإعياء يستولي علي ... كوانكو مضى يستجمع آخر بقايا قواه ... ظل إلى جانبي يعد لي الضربات إلى النهاية ... اغتسلت ... وذهبت لأتناول طعام الغداء.»
وهنا سأله سيد متقدم في العمر: «وماذا صنع الله يا سيدي بذلك الرجل الذي لم أستطع أن ألتقط اسمه؟»
قال: «هل تعني «بليزو»؟»
قال: «كلا ... السيد الآخر.»
قال: «كوانكو سامبو؟»
أجاب: «أي نعم يا سيدي.»
قال: «مسكين كوانكو! لم يقم بعدها أبدا ... لقد مات يا سيدي!»
وهنا راح الغريب يخفي وجهه في جرة سوداء، ولكنا لا نستطيع أن نؤكد هل أراد بهذه الحركة أن يخفي تأثره، أو يرشف ما في الجرة ويحتسيه؟ وكل ما نعرفه أنه تمهل فجأة، وتنفس نفسا طويلا عميقا، وجعل ينظر حوله بفضول، بينما اقترب اثنان من كبار أعضاء نادي «دنجلي ديل» من المستر بكوك، فقالا: «إننا موشكون أن نتناول غداء بسيطا في فندق «الأسد الأزرق» يا سيدي، ونرجو أن تتكرم أنت وأصحابك بمشاركتنا فيه.»
وأجاب المستر واردل: «بالطبع ... ومن بين أصدقائنا المستر ...»
والتفت نحو الغريب، فقال هذا السيد الخبير بكل شيء، وهو ينتهز الفرصة: «جنجل»! الفرد جنجل المحترم ... من أهل نوهول نوهوير.
3
وأجاب المستر بكوك على الدعوة قائلا: «إنني على يقين أنني سأكون سعيدا كل السعادة.»
وقال المستر جنجل، وهو يدخل إحدى ذراعيه في ذراع المستر بكوك، والأخرى في ذراع المستر واردل: «وأنا كذلك!»
ومضى يهمس في أذن المستر بكوك قائلا: «غداء طيب ... بارد، ولكنه عظيم ... لقد أطللت على القاعة في هذا الصباح ... دجاج، وفطير، وألوان شهية ... كرام ... أهل أدب ... جدا.»
ولم تكن ثمة مقدمات أخرى، أو تمهيدات يراد اتخاذها، فلم يلبث القوم أن اتخذوا سمتهم إلى البلدة في جماعات صغيرة، أو مثنى وثلاث، ولم يكد ينقضي ربع ساعة حتى كانوا جميعا جلوسا في القاعة الكبرى بفندق «الأسد الأزرق» في ماجلتون، وقد اتخذ المستر دمكنز كرسي الرياسة، وتولى المستر لفي مركز «نائب الرئيس».
وكثر الكلام، واشتدت قعقعة السكاكين والشوك والصحاف، وهرولة ثلاثة غلمان ضخام الرءوس، واختفت في لمح البرق اللحوم المصفوفة فوق المائدة، وكان المستر جنجل الماجن يساوي في كل ضجة وحركة، أو يعدل على الأقل ستة من الأشخاص العاديين.
ولما أكل كل منهم ما استطاع أن يأكل ملء جوفه أو يزيد، رفع الغطاء عن المائدة، وأزيلت الزجاجات والأقداح، ووضع النقل والفاكهة، وانسحب الخدم لكي «يزيحوا» ما هنالك ... أو بعبارة أخرى، ليعكفوا على البقايا والفضلات من كل مأكول ومشروب يصح لهم أن يضعوا عليه أيديهم، امتلاكا ومكسبا ...
وفي وسط تلك الجلبة العامة من المزاح والكلام، لبث رجل صغير الجثة ساكنا صموتا، تلوح على وجهه سمات من هو قائل لك: «حذار ... لا تكلمني، أو أني سأعارضك»، وإن مضى بين لحظة وأخرى يجيل البصر حوله كلما وجد الحديث هدأ قليلا، كأنما يفكر في قول شيء قيم، أو كلام متزن، أو يروح يسعل سعلة قصيرة، توحي بعظمة ووقار لا وصف لهما، وأخيرا، حين كاد السكون يسود المكان، انطلق ينادي بصوت مرتفع رهيب قائلا: «يا لفي!» فغمر الجميع سكون شديد، وانثنى السيد الذي وجه النداء إليه يجيب قائلا: «نعم يا سيدي.» قال: «أود أن أوجه إليك يا سيدي بضع كلمات، إذا تكرمت فرجوت إلى السادة أن يملئوا الأقداح.»
وهنا صاح المستر جنجل بلهجة المشرف الراعي: «مرحى ... مرحى!» وردد الآخرون هتافه، وأترعت الأقداح، واتخذ نائب الرئيس سمت الحكمة والانتباه الشديد، وأنشأ يقول: مستر «ستيبل»!
ونهض الرجل الصغير الجثة فقال: «سيدي، أود أن أوجه ما أنا قائله إليك أنت، لا إلى رئيسنا الفاضل؛ لأن رئيسنا الفاضل هو إلى حد ما - بل اسمح لي أن أقول إلى حد كبير - موضوع ما سأقوله، أو ما يصح أن ...»
فبادر المستر جنجل إلى إسعافه قائلا: «أن أدلي به ...»
قال: «أجل ... ما سأدلي به ... إني لشاكر صديقي الكريم، إذا أذن لي أن أدعوه كذلك مرحى (أربع مرات، وواحدة بلا شك من المستر جنجل) على التعبير الذي اقترحه، إنني يا سيدي ديليري - أي من أهل دنجلي ديل - هتاف - فلست أدعي شرف الانتساب إلى أهل ماجلتون، وإن أردت يا سيدي الصراحة قلت: إنني لست أطمع في الظفر بهذا الشرف، وأنا مبين لك السبب يا سيدي ... «مرحى» ... وهو أنني مسلم على الفور لماجلتون بكل الأمجاد والمناقب، التي في وسعها بحق أن تنسبها إلى نفسها ... وإنها لأمجاد ومناقب، من فرط كثرتها وشهرتها لا تقتضي مني تنويها، ولا تحتاج إلى تعديد أو ترديد، ولكن إذا تذكرنا يا سيدي أن ماجلتون أنجبت دمكنز وبدر، فلا يصح أن ننسى أن دنجلي ديل لها أن تفخر بإنجابها رجلا مثل «لفي»، وسيدا من طراز «استرجلز» - هتافات مدوية - وأرجو ألا أعد رجلا يريد أن ينتقص من فضل السيدين، أو يغض من قدرهما ومواهبهما، ولكني يا سيدي أحسدهما على اغتباطهما وهناءتهما بهذه المناسبة - هتاف - وأكبر ظني أن كل سيد يستمع الساعة إلى ما أقوله، يعرف رد ذلك الرجل الذي وجد نفسه - على سبيل المجاز والاستعارة - قابعا في طشت، فقال للإمبراطور الإسكندر: لو لم أكن ديوجينيس لوددت أن أكون الإسكندر»، وبالمثل أستطيع أن أتصور هذين السيدين، وهما قائلان مقالة «ديوجينيس»: لو لم أكن دمكنز لوددت أن أكون «لفي»، ولو لم أكن «بدر» لوددت أن أكون «استرجلز» - هتاف حماسي - ولكن يا سادة ماجلتون، أفي ملاعب الكريكت وحدها يبرز أبناء جلدتكم أعلاما ساطعين؟ ألم تستمعوا يوما عن دمكنز، وقوة العزيمة؟ ... ألم تسمعوا يوما عن بدر، والنضال عن حقوق الملكية؟ - هتاف شديد - أولم تسمعوا عن نضالكم عن حقوقكم وحرياتكم وامتيازاتكم، حين انتقص منها ولو لحظة واحدة، حتى لقد أحسستم من انتقاصها التطير واليأس، وحين تطرق اليأس إليكم، ألم يكن الاسم دمكنز هو الذي عاد يشعل نار الحمية في صدوركم حين خبت جذوتها، أولم تكف يومئذ كلمة من هذا الرجل لكي ترسلها مشتعلة كما كانت مستعرة باهرة اللهب، كأنها لم تخب يوما ولم تخمد - هتافات مدوية - أيها السادة، إني لأود أن أحيط اسمي «دمكنز وبدر» مقترنين بهالة باهرة من الحماسة والهتاف ...»
وهنا وقف الرجل الصغير الجثة عن الكلام، وبدأ الجمع يتصايحون ويدقون الموائد بأيديهم، ولبثوا كذلك في صياح ودق بقية المساء لا يكفون عنهما إلا على فترات قصار، وشربت الأنخاب مرة أخرى، وكان كل من المستر لفي، والمستر استرجلز، والمستر بكوك، والمستر جنجل، موضع مديح مستمر، وثناء مستطاب غير منقطع، ومضى كل منهم في دوره يرد بالشكر على هذا التكريم.
وكان أجدر بنا، ونحن مخلصون كل الإخلاص في تأدية رسالتنا الكريمة، التي توفرنا عليها، أن نشعر بزهو لا نستطيع عنه تعبيرا، وأن نحس بأننا أدينا عملا يستحق خلودا نحن الساعة محرومون منه، لو أننا استطعنا أن نسجل هنا ما تيسر من تلك الخطب الرنانة، التي ألقيت في ذلك الحفل؛ ليطلع عليها قراؤنا الكرام، وكان المستر سنودجراس كدأبه قد دون حشدا كبيرا من المذكرات، وكانت هذه المذكرات بلا شك كفيلة بأوفى وأنفع المعلومات، لولا أن بلاغة تلك الخطب وحماسة عباراتها، أو لولا أن الحمى التي انتابته من أثر النبيذ، قد جعلت يد ذلك السيد راجفة كل الارتجاف، مهتزة أشد الاهتزاز، مما جعل خطه لا يكاد يقرأ، وأسلوبه لا يفهم إطلاقا، ولكنا بفضل البحث المستمر، والصبر الشديد على التحقيق والاستقصاء، استطعنا أن نكشف بعض حروف تشبه من بعيد أسماء الخطباء، كما تيسر لنا العثور على «مدخل» أغنية يظن أن المستر جنجل هو الذي كان يغنيها، ويكثر فيها ترديد كلمات وألفاظ، بين كل بيت ونحوه، من مثل «الكأس والطاس»، و«المشعشع» كلون الياقوت، «وباهر» «والنبيذ»، ويخيل إلينا أيضا أننا استطعنا في نهاية تلك المذكرات أن نتبين إشارة غير واضحة إلى «عظام محمرة»، ثم كلمة «باردة» ... وكلمة «بدون»، ولكن أي فكرة يمكن أن نبنيها على هذا الأساس يجب بطبيعة الحال أن تقوم على مجرد «الحدس والتخمين»، ولسنا نريد أن نمعن في شيء منهما، ولا فيما عسى أن يكون مدلول تلك الكلمات.
ولهذا نعود إلى المستر طبمن، غير مضيفين هنا شيئا، غير أنه لم يكن قد بقي على منتصف الليل سوى بضع دقائق، حتى سمعت أصوات سادات دنجلي ديل وماجلتون، وهم يغنون بحماسة وقوة هذا النشيد الوطني الجميل المؤثر، وهو:
لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إليها حتى يطلع النهار
الغداف: نوع من الطير.
كاللعبة المعروفة بين أطفالنا، وهي: «عنكب، شد واركب»، والتي يسميها الفرنسيون: «قفزة الخروف».
العادة أن يذكر الاسم والبلد والإقليم عند التعريف، وقد عرف المستر جنجل نفسه بأنه من نوهول
NO HALL
أي لا بلد له، وهي من أعمال نوهوير، أي ليست في مكان ما.
الفصل الثامن
شرح واف للموقف، والتدليل على أن طريق «الحب الصادق» ليس «سكة حديدية». ***
كانت السكينة المخيمة على ضيعة «دنجلي ديل» المنعزلة، وكثرة أفراد «الجنس اللطيف» فيها، واللهفة والقلق اللذين أبدينه نحو المستر تراسي طبمن - عوامل اجتمعت لتنمية تلك الأحاسيس الرقيقة التي أنبتتها الطبيعة، وغرزتها في أعماق صدره، والتي تبين الآن أنها قد قدر لها أن تتركز حول شخص واحد محبب جميل ...
لقد كانت الغيد الصغيرات مليحات، وآدابهن فاتنة، وأمزجتهن ومنازعهن مألوفة، لا شذوذ فيها ولا نبو عما عرف من الأمزجة، وشوهد في مظهر العمة العانس شيء من اعتزاز واعتداد، وفي مثبيتها نذير يقول لك حذار من الاقتراب، وفي العين روعة لا تخلوها في أنضر أيامها حقا يميزها عن أية أنثى وقعت عليها عين المستر طبمن في يوم من الأيام، ولكن الجلي الواضح أنه كان بينه وبينها شيء من تماثل الطباع، وتوافق «الأرواح»، بل شيء من التشابه الغريب في العواطف والأحاسيس، وكان اسمها أول ما ارتفع إلى شفتيه وهو جريح مستلق فوق الحشائش، وكانت ضحكاتها الهستيرية أول صوت طرق أذنه حين حمل إلى البيت، ولكن هل كان جزعها عليه راجعا إلى «حساسية» محببة، ورقة شعور لم يكن في الإمكان مغالبته أو كبته في أية حالة مماثلة، أو كان مبعثه شعورا أقوى من ذلك أثرا وإحساسا أطغى من ذلك سلطانا، شعورا ليس في إمكان أحد من خلق الله أن يوقظه في نفس امرأة وصدرها؟
هذه هي الشكوك والهواجس التي ألحت على خاطره وهو راقد ممدد على الأريكة، بل هذه هي الشكوك والخوالج التي اعتزم أن يقطع فيها برأي في الحال، ويتخذ فيها قرارا حاسما لا حول عنه إلى الأبد.
وكان الوقت مساء، وقد ذهبت إيزابللا وإميلى تتمشيان مع المستر ترندل، واستولى النعاس على السيدة العجوز وهي في مقعدها، وغطيط الغلام البدين ينبعث رتيبا خافتا من المطبخ البعيد، والجواري البضات الغضات مسترخيات في مقاعدهن عند الباب الجانبي يستمتعن ببهجة المساء وفتونه، ولذة المغازلة «في غير إثم» مع بعض الفلاحين الملحقين بالمزرعة.
وفي خلوة جلس المستر طبمن والعمة العانس لا يعنى أحد بهما، ولا يعنيان بأحد، ولا يحلمان إلا بنفسيهما، بل هنالك جلسا كزوج من قفاز مطوي، متلاصقين متجاورين.
وأنشأت العمة العانس تقول: «لقد نسيت أزهاري.»
وقال المستر طبمن بلهجة الحض والاحتثاث: «هيا نسقيها الآن ...»
وقالت هي برثاء وتلطف: «أخاف عليك أن تصاب بالبرد من هواء المساء!»
قال وهو ينهض: «كلا ... كلا ... بل سيفيدني الخروج ... دعيني أذهب معك.»
وتمهلت الغادة لتصلح من الرباط الذي علقت فيه ذراعه اليسرى، وتناولت ذراعه اليمنى، واقتادته إلى الحديقة.
وكانت ثمة خميلة في الطرف الأقصى منها تحوي عيدانا من زهر العسل والياسمين والنباتات الزاحفة، وهي خلوة من تلك الخلوات الحلوة التي يبنيها البشر لسكنى العناكب.
وتناولت العمة العانس «رشاشة» كبيرة كانت ملقاة في ركن، وهمت بأن تغادر الخميلة لو لم يحتجزها المستر طبمن، ويجرها إلى مقعد قريب منه.
قال: «يا آنسة واردل.»
فارتجفت، حتى لقد وجدت حصوات في الأرض طريقها عرضا إلى جوف الرشاشة؛ فاهتزت كما تهتز «شخشيخة» الوليد.
وعاد المستر طبمن يقول: «يا آنسة واردل ... إنك لملك كريم!»
وصاحت راشل، وقد احمرت وجنتاها احمرار لون «الرشاشة» ذاتها: «يا سيد طبمن!»
وقال ذلكم «البكوكي» البليغ: «أي والله ... إنني أعرف ذلك حق المعرفة.»
غمغمت السيدة بدلال قائلة: «يقولون إن النساء جميعا ملائكة!»
وأجاب هو قائلا: «إذا صح ذلك، فماذا عسى أن تكوني «أنت» إذن، وبأي شيء يمكن أن أقارنك، في غير رياء أو ادعاء ... أين تلك المرأة التي تشبهك ... وأين أرجو أن أعثر على هذا المثال النادر من الإبداع والجمال مجتمعين ... وأين تراني متلمسا ... أواه ...» وتمهل المستر طبمن، وراح يضغط اليد التي أمسكت بمقبض الرشاشة السعيدة.
وأمالت السيدة برأسها إلى ناحية، وهمست في رفق قائلة: «يا للرجال من غشاشين!»
وصاح هو قائلا: «إنهم لكذلك ... إنهم لكذلك، ولكن ليس الرجال جميعا بالخداعين، بل هناك على الأقل واحد لن يتغير أو يتحول ... واحد يقنعه أن يكرس كل حياته لسعادتك ... ولا يحيا إلا في عينيك، ولا يتنفس إلا في ابتسامتك، ولا يحمل عبء الحياة الفادح إلا من أجلك ...»
وقالت السيدة: «أيمكن أن يكون لرجل كهذا وجود؟»
وأجاب المستر طبمن المتلهف مقاطعا: «يمكن أن يوجد! ... بل هو فعلا موجود ... إنه هنا يا آنسة واردل.»
وقبل أن تفطن إلى ما هو مقدم عليه، راح يجثو على ركبتيه عند قدميها.
وأهابت راشل به: «يا مستر طبمن ... انهض!»
وكان جوابه الجريء: «أبدا ... أواه ... يا راشل!»
وأمسك بيدها المتراخية، فهوت الرشاشة إلى الأرض، في اللحظة ذاتها التي أدنى فيها يدها من شفتيه، وهو يغمغم قائلا: «أي راشل، قولي إنك تحبينني.»
وأجابت العمة العانس مطرقة: «يا مستر طبمن، لا أكاد أقدر على قول هذه الكلمات ... ولكن كل ما أستطيع أن أقوله هو أنك لست بالذي لا أهتم به.»
وما كاد المستر طبمن يسمع هذا الاعتراف، حتى أخذ يفعل ما يحث الانفعال الشديد على فعله، وما يفعله كل إنسان دائما إذا وجد نفسه في مثل هذا الموقف، وإن كنا نحن قليلي المعرفة بهذه المسائل وأمثالها ... لقد استوى واقفا، وأحاط بذراعه جيد العمة العانس، وطبع على شفتيها عدة قبلات، تلقتها بعد أن أظهرت طبعا ما ينبغي إظهاره من المغالبة والمقاومة، بكل هدوء ورضى، لا ندري كم من عشرات القبل مثلها كان من المحتمل أن يطبعها المستر طبمن على شفتيها، لو لم تجفل السيدة إجفالة لا تصنع فيها، وتصرخ صرخة مروعة، قائلة: «يا مستر طبمن! إننا مراقبان ... لقد اكتشف أمرنا!»
فتلفت المستر طبمن حوله، فرأى الغلام البدين واقفا جامد الحركة، محملقا بعينيه الكبيرتين المستديرتين في الخميلة، وإن لم يبد على وجهه أي انفعال ولا أقل تعبير، حتى ليعجز أقدر الخبراء بعلم الفراسة، عن تأويل ذلك بأن مرجعه إلى الدهشة، أو مرده إلى الفضول، أو إلى أية عاطفة أخرى من العواطف المعروفة التي تخالج صدور البشر.
ولبث المستر طبمن يجيل البصر في وجه الغلام البدين، وظل هذا يحملق البصر فيه، وكلما تبين الفراغ المطلق في سحنة الغلام، ازداد اقتناعا بأن الغلام إما أنه لا يعرف، أو لم يفهم شيئا مما كان جاريا أمام عينيه، ولهذا انثنى بعد هذا الاقتناع يقول بكل هدوء وثبات: «ماذا جئت تريد هنا يا سيدي؟»
الغلام البدين يستيقظ ...
فكان جوابه على الفور: «العشاء مهيأ يا سيدي.»
قال وهو ينظر إليه نظرة نفاذة: «هل أتيت هذه اللحظة فقط يا سيدي؟»
وأجاب الغلام البدين: «في هذه اللحظة ذاتها.»
وعاد المستر طبمن يحدجه بنظرة قاسية، فلم يلمح في عينيه غمزة، ولا اختلاجة في معارفه.
وتناول المستر طبمن ذراع العمة العانس، ومشى بها إلى البيت، وفي إثرهما انطلق الغلام البدين.
وهمس لها قائلا: «إنه لا يعرف مما جرى شيئا.»
وقالت العمة العجوز: «وهو كذلك.»
وسمعا صوتا من خلفهما يشبه صوت ضحكة مكبوتة، فالتفت المستر طبمن بسرعة، ولكنه لم يستطع أن يصدق أن هذا الصوت انبعث من ذلك الغلام، فلم تكن تبدو على وجهه بارقة من مرح، أو خالجة ضحك ... ولكن كل وجهه ينم عن اللهفة على الطعام.
وهمس المستر طبمن: «لا بد من أنه كان غارقا في النوم.»
وأجابت العمة العانس: «لا شك عندي مطلقا في ذلك.» وضحكا من أعماقهما.
ولكن المستر طبمن كان مخطئا، فإن الغلام البدين لم يكن كما توهم غارقا في النوم، بل كان يقظان صاحيا، منتبها إلى كل ما جرى.
وانقضى العشاء دون أن يحاول أحد تجاذب أطراف الحديث، فأما السيدة العجوز فقد أوت إلى فراشها، ومضت إيزابيللا واردل تكرس نفسها للمستر ترندل خاصة، بينما خصت العمة العانس المستر طبمن بكل اهتمامها، وبدا على «إملي» الانشغال بشيء بعيد ... لعل أفكارها كانت في إثر سنودجراس الذي لم يعد إلى الآن.
ودقت الحادية عشرة ... والثانية عشرة ... والواحدة بعد نصف الليل، ولما يصل السادة بعد، وبدأ الذهول يستقر على الوجوه كلها ... أتراهم سطا اللصوص عليهم في الطريق، وهل يصح لهم أن يرسلوا بعض الخدم ومعهم المصابيح ليبحثوا عنهم في كل مكان يرجح أنهم اتخذوا منه طريقهم إلى البيت، أم ينبغي ... صه ... ها هم أولاء قد وصلوا ... يا عجبا ما الذي أخرهم كل هذا الوقت ... ها هو ذا صوت غريب لم تألفه الأسماع ... لمن يكون هذا الصوت؟ ... وبادر القوم سراعا إلى المطبخ حيث ترددت الجلبة وتعالت، فلم يلبثوا أن طالعتهم أكثر من لمحة من حقيقة الحال وواقعه.
فقد بدا المستر بكوك واضعا يديه في جيبيه، وقبعته مرخية تماما على عينه اليسرى، وقد استند إلى «منضدة» المطبخ، وهو يهز رأسه من جانب آخر، ويرسل فيضا متتابعا من ألطف وأرق الضحكات، بلا أقل سبب ظاهر أو باعث معقول، بينما راح المستر واردل، وقد احمر وجهه أشد الاحمرار، يمسك بكف سيد غريب، ويرسل فيضا من عبارات الصداقة الأبدية، أما المستر ونكل فقد أسند ظهره إلى الساعة الأثرية، وأخذ يتوعد في كلام خافت متلعثم كل من يقترح عليه أن يأوي إلى فراشه، بتحطيم رأسه، بينما تهالك المستر سنودجراس على مقعد، وهو في أسوأ حال من التعب والعجز والسكر يمكن أن يتصورها الخاطر، وقد بدت بكل علاماتها وأماراتها في كل ناحية من معارف صفحته المعبرة.
وراحت السيدات الثلاث يسألن قائلات: «ما الخبر؟ هل من شيء يستوجب الاهتمام؟»
فأجابهن المستر بكوك قائلا: «لا شيء ... إننا كلنا ... بخير ... يا مستر واردل ... ألسنا بخير؟»
وأجاب الرجل الممراح قائلا: «أظن ذلك ... يا عزيزاتي، أقدم إليكن صديقي المستر جنجل ... صديق المستر بكوك، وقد جاء في زيارة قصيرة.»
وسألت إملي في قلق شديد: «هل من شيء ألم بالمستر سنودجراس يا سيدي؟»
وأجاب الغريب: «لا شيء يستوجب الاهتمام يا سيدتي ... عشاء بعد الكريكت ... حفلة باهرة ... أغان «مفتخرة» نبيذ معتق ... نبيذ جيد ... جدا يا سيدتي ... نبيذ ...»
وغمغم المستر سنودجراس بصوت متقطع: «لم يكن النبيذ هو السبب ... بل سمك السلمون ...
وفي هذه الحالات لا يكون الذنب للنبيذ، ولكن الذنب للسلمون.»
وانثنت إملي تقول: «ألا يحسن أن يذهبوا إلى فراشهم يا سيدتي ... وليحمل اثنان من الغلمان السيد إلى مخدعه ...»
وقال المستر ونكل بعناد: «لن أذهب إلى الفراش.»
وقال المستر بكوك بقوة وجرأة، وهو لا يكف عن الضحك والابتسام: «لن يحملني في هذه الدنيا غلام ...»
وقال المستر ونكل مخافتا لاهثا: «مرحى!»
وردد المستر بكوك الصدى بقوله: «مرحى!» ومضى ينزع قبعته عن رأسه، فألقى بها على الأرض، ورمى في جنة منظاره في وسط المطبخ، وهو من هذه الفعلة المجونية ضاحك مقهقه.
وشرع المستر ونكل يصيح في نغمة عالية، ثم يخفضها: «لنشرب زجاجة ... أخرى!»
وهوى رأسه إلى صدره، وتمتم مكررا عزمته الغلابة على أن يظل ساهرا، لا يأوي إلى فراشه، ويعبر عن أسفه الصادق على ما فرط منه في حق طبمن في الصباح، وهبط وادي الكرى سريعا، فحمله وهو على هذه الحال إلى فراشه شابان عملاقان تحت إشراف الغلام البدين بنفسه، ولم يلبث المستر سنودجراس أيضا أن ترك له العناية به، وتقبل المستر بكوك ذراع المستر طبمن المبسوطة إليه، وتوارى في هدوء، وهو أشد من قبل ابتساما، وأكثر ضحكا، وأما المستر واردل فبعد أن ودع أفراد الأسرة كلها وداعا أليما، كأنه قد أمر بأن يساق إلى المشنقة في الحال، ترك للمستر ترندل شرف حمله إلى الطبقة العليا من البيت، وأوى إلى فراشه بعد محاولة فاشلة في سبيل التظاهر بكل ما يقتضيه الوقار والجد.
وقالت العمة العانس: «يا له من منظر بشع!»
وقالت الفتاتان معا: «ويثير الاشمئزاز ...»
وقال المستر جنجل: «مخيف ... مروع ...» وهو يبدو رزينا متزنا، وكان قد سبق صحابه بزجاجة ونصف زجاجة، ومضى يقول: «منظر شنيع ... جدا ...»
وهمست العمة العانس للمستر طبمن: «يا له من رجل ظريف!»
وهمست إيزابللا واردل كذلك: «جميل الملامح أيضا.»
وقالت العمة العانس: «بلا شك.»
وتذكر المستر طبمن عندئذ واقعة الحال مع أرملة روشستر؛ فانشغل باله واضطرب خاطره.
ولم يفد الحديث الذي تلا ذلك، واستغرق نصف ساعة في تهدئة هواجسه.
وطفق الزائر الجديد يكثر من الكلام، ولم تكن حكاياته ونوادره ليفوقها شيء، غير أدبه الجم، ولطفه المتناهي، وأحس المستر طبمن أنه كلما ارتفعت مكانة «جنجل» في القلوب ارتد هو إلى الظل، وفقد موضعه، فظل ضحكه مفتعلا، ومرحه مصطنعا، وحين وضع صدغيه أخيرا بين أطواء لحافه وأغطيته، مضى يتصور في سرور شنيع مدى الاغتباط الذي كان يشعر به، لو أنه استطاع في تلك اللحظة أن يدس رأس «جنجل» بين الفراش الريشي والحشية ليخنقه خنقا.
واستيقظ الغريب - الذي لا يعرف الكلال، ولا ينتابه الإعياء - مبكرا في الصباح، ولا يزال رفقاؤه في مراقدهم من أثر إفراطهم في الليلة البارحة، ومضى ينشط ويؤدي من الحركات الرياضية ما يزيد في بهجة مائدة الفطور ولذة الطعام، وكانت محاولاته وجهوده موفقة ناجحة إلى حد جعل السيدة العجوز الصماء تلح عليه أن يحكي لها نادرة أو نادرتين من أحسن نوادره من خلال جهاز سمعها، بل لقد تنزلت من عليائها لتقول للعمة العانس: إنه - أي «جنجل» - فتى جسور لا يعرف الحياء ... وهو رأي وافقت عليه كل ذوات قرباها الحاضرات، وأقررنه على الأثر.
وكان من عادة السيدة العجوز في كل صباح صاف في فصل الصيف أن تذهب إلى الخميلة، التي كان السيد طبمن قد انكشف فيها أمره، وقد بدأ الغلام البدين بإحضار قبعة صغيرة من الحرير الأسود اللون، كانت معلقة في مشجب خلف باب مخدع السيدة العجوز، ثم جاء بلفاعة كثيفة من القطن، وعصا غليظة ذات مقبض كبير، وما أن وضعت السيدة العجوز القبعة على رأسها، وتلفت بلفاعتها على مهل، واتكأت على العصا بإحدى يديها، وبالأخرى استندت إلى كتف الغلام البدين، ومشت الهوينى إلى الخميلة، حيث اعتاد الغلام أن يتركها لتستمتع باستنشاق النسيم العليل نصف ساعة أو نحوه؛ فيعود أدراجه إليها، ويسير بها عائدة إلى البيت.
وكانت السيدة العجوز دقيقة في ملازمة هذه العادة، ومعنية بكل دقائقها وجزئياتها، وقد انفرطت ثلاثة أعوام متوالية، وهي في كل صيف تجري عليها، فلم تنحرف يوما أقل انحراف عن شيء منها، فلا عجب إذا هي أحست ببعض الدهشة في ذلك الصباح بالذات حين رأت الغلام البدين لم ينصرف من الخميلة، بل خطا بضع خطوات، ثم تلفت بحذر حوله في كل ناحية، وعاد يمشي نحوها مختلسا الخطى في شكل يثير أشد العجب.
وشعرت السيدة العجوز بوجل ... وأوجست خيفة - وكل العجائز أبدا موجسات - وكان أول خاطر تبادر إلى ذهنها أن الغلام المتورم يريد أن يمسها بأذى بالغ لينتزع النقود الصغيرة التي لديها، وكانت توشك أن تصرخ طالبة النجدة، لولا أن الكبر والعجز قد أفقداها من زمن بعيد القدرة على الصراخ، فقنعت بمراقبة حركاته، وهي في رعب شديد لم يلبث أن ازداد حين رأته يقترب كثيرا منها، ويصيح في أذنها بلهجة مضطربة، وإن بدت لها هي متوعدة مهددة: «... يا سيدتي ...!»
واتفق في تلك اللحظة أن كان المستر جنجل يتمشى في الحديقة بجوار الخميلة، فسمع صيحة الغلام لها، فوقف ليستمع إلى مزيد، وكانت لوقوفه واستراقه السمع ثلاثة أسباب، أولا: أنه كان خاليا من كل عمل، وفضوليا. وثانيا: أن مثله لا يعرف التردد مطلقا، ولا وخز الضمير. وثالثا وأخيرا: أنه كان في خفية عن الأنظار خلف بعض الزهر وقصار الشجر.
هنالك وقف ... وهنالك أرهف السمع.
وعاد الغلام البدين يصيح: «يا سيدتي!»
فأجابت السيدة العجوز وهي راجفة: «إيه يا جو ... لقد كنت لك يا جو سيدة كريمة حانية، وقد أحسنت إليك أبدا، وأكرمت مثواك، ولم تكلف يوما بعمل يفدحك، وكان لك من الطعام القسط الوفير.»
وكانت هذه العبارة الأخيرة مناشدة منها لأشد حواس الغلام البدين تأثرا، فبدا ذلك عليه، فراح يجيب مؤمنا عليها: «أعرف ذلك حقا ...»
وانثنت العجوز - وقد استردت بعض الشجاعة - تقول: «إذن ماذا تريد أن تفعل الآن؟»
قال: «أريد أن أجعل بدنك يقشعر ...!»
وبدا هذا القول منه تعبيرا عن عرفانه للجميل شبيها بتعبير إنسان متعطش للدم، فلم تفهم السيدة العجوز تماما ما هي الوسيلة التي يريد أن يستعين بها للوصول إلى هذه النتيجة، وعاودها رعبها السابق.
وراح الغلام البدين يسألها قائلا: «ماذا تظنين أني رأيته في هذه المظلة الليلة البارحة؟»
قالت وهي فزعة من هذه اللهجة الجديدة، التي اتخذها ذلك الغلام السمين: «يا ويحي ... ماذا رأيت؟»
قال مترددا: «السيد الغريب ... الذي جرحت ذراعه ... وهو يقبل ويحتضن ...»
فعاجلته مقاطعة: «من يا جو ...؟ أرجو أن لا تكون خادما من خدم البيت.»
وزأر الغلام البدين في أذن العجوز: «بل شر من ذلك وأدهى!»
قالت: «أإحدى حفيداتي ...؟»
قال: «أسوأ من ذلك وأدهى!»
قالت وقد ظنت ذلك أقصى حدود الفظاعة البشرية: «أتقول: شر من ذلك وأدهى؟ ... من تكون إذن ... يا جو؟ ... أصر على أن أعرف.»
فتلفت الغلام البدين بحذر حوله، وراح يصيح بعد أن انتهى من الحيطة واطمأن: «مس راشل.»
وعندئذ صرخت السيدة العجوز بصوت صافر قائلة: «من هي؟ ارفع صوتك قليلا.»
وصرخ الغلام البدين في أذنها: «مس راشل!»
قالت: «ابنتي!»
وراحت الإيماءات المتتابعة التي أومأها الغلام اللحيم، يعبر بها عن الموافقة، تحيل خديه السمينين أشبه بالفالوذج المترجرج.
وعادت السيدة العجوز تقول: «وهل كانت راضية منه بما فعل؟»
وقال الغلام البدين، وقد تسللت بسمة مومضة إلى قسمات وجهه: «لقد رأيتها هي أيضا تقبله!»
ولو استطاع المستر جنجل من مخبئه أن يشهد وجه السيدة العجوز، وما علاه في تلك اللحظة عند سماعها هذا النبأ؛ لانفجرت منه على الأرجح ضحكة مدوية تنم عنه، وتكشف عن مختبئه بجوار تلك العريشة، ولكنه ظل مصغيا مرهفا أذنيه، فسمع عبارات متقطعة كقولها: «بدون إذني ... وفي هذه السن التي وصلت إليها ... وأنا عجوز مدبرة ... كان أولى بها أن تنتظر حتى أموت ...» وعندئذ سمع مواقع حذاء الغلام البدين، ومواطئه فوق الحصباء، وهو منصرف تاركا السيدة العجوز وحدها.
ولعل من أعاجيب المصادفات - وإن كان هو الواقع - أن المستر جنجل كان بعد خمس دقائق من وصوله إلى «ضيعة مانور» في الليلة الماضية قد اعتزم في أعماق نفسه أن يضرب حصارا في الحال حول قلب تلك العمة العانس، فقد كان له من الفطانة ما يكفي لكي يتبين أن طريقته المرتجلة كانت مستحبة لدى موضع هجومه، ومركز حصاره، وكان يساور نفسه شيء أقوى من مجرد الظن أنها تملك أحب ما يقتنى في هذه الدنيا، وأعز ما يملك ... وهو ... المال ... فلم تلبث أن خطرت له فكرة العمل السريع الملح على إزالة منافسه من طريقه بأية وسيلة، فاعتزم في الحال اتخاذ خطط معينة تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، دون إضاعة لحظة واحدة، وقد رأينا فيلدنج
1
يقول لنا: إن مثل الرجل كمثل نار، والمرأة كمثل قطعة صوف، وإن أمير الظلام - أي إبليس - هو الذي يحكمها فيحدث ضوءا، ويبعث وهجا. ولم يكن يخفى على المستر جنجل أن الفتيان للعمات العوانس كالغاز المستعمل للبارود، فانتوى أن يبادر إلى تجربة مدى الانفجار وأثره.
ومضى في زحمة نفسه بالأفكار والخواطر، بعد هذا القرار الخطير الذي اتخذه، يتسلل من مخبئه متسترا بالشجر، حتى اقترب من البيت، والظاهر أن الحظ كان له حليفا، فقد تبين أن المستر طبمن والسادات الآخرين قد غادروا الحديقة من الباب الخلفي في تلك اللحظة بالذات التي دخلها فيها، وعرف أن الفتاتين قد خرجتا وحدهما، عقب تناول الإفطار مباشرة، وأن الجو خال، والظروف مواتية.
ورأى باب قاعة الإفطار مفتوحا قليلا فأطل منه، فوجد العمة العانس تغزل، فسعل، ورفعت بصرها إليه وابتسمت، ولم يكن التردد من خلقه، فوضع أنملته فوق شفتيه بشكل غامض وحركة مجهولة، وتقدم فأغلق الباب.
قال في جد مصطنع: «اغفري لي يا مس واردل تطفلي على قصر العهد بتعارفنا ... لا متسع من الوقت للكلفة ... لقد اكتشفت الأمر كله.»
وقالت العمة العانس بشيء من الدهشة لمباغتته، وظهوره على تلك الصورة الفجائية، وبعض الشك في سلامة عقله: «سيدي!»
قال وهو يهمس همسة مسرحية: «صه ... الغلام البطين ... ذو الوجه الطري كالفطير ... المستدير العينين ... الوغد الأثيم ...»
وهنا هز رأسه هزة معبرة، فاضطربت العمة العانس، وتولاها الوجل.
قالت وهي تحاول جاهدة اصطناع الهدوء: «أظنك تقصد جوزف يا سيدي؟»
قال: «نعم ... هو جو ذلك اللعين ... ذلك الكلب الضخم جو ... لقد أبلغ السيدة الكبيرة ... السيدة الكبيرة مغضبة ... حانقة ... هاذية ... العريشة ... طبمن يقبل ويحضن ... وكل الأشياء التي من هذا القبيل ... إيه ... يا سيدتي ... إيه!»
قالت: «إذا كنت قد أتيت إلى هنا يا مستر جنجل لتهينني ...»
وأجاب جنجل الصفيق: «لا إطلاقا ... بتاتا ... لقد سمعت القصة ... جئت لأحذرك من الخطر ... أقدم خدماتي ... لأمنع الثرثرة ... لا بأس ... ظنيها إهانة ... سأغادر الحجرة.»
واستدار كأنما يريد أن ينفذ وعيده.
فانفجرت العمة العانس باكية وهي تقول: «ماذا أفعل؟ إن أخي سيغضب، وسيشتد حنقه.»
وقال المستر جنجل: «بالطبع سيغضب ...» وتمهل هنيهة، ثم عاد يقول: «بل سيتهيج، ويحنق لعرضه.»
وصاحت العمة العانس في نوبة أخرى من اليأس: «أواه يا مستر جنجل، ماذا يمكن أن أقوله له؟»
قال بكل برود: «قولي: إن الغلام البدين كان يحلم.»
فلم تكد تسمع هذا الاقتراح حتى خطف شعاع من أمل في خاطرها، ولاحظ المستر جنجل ذلك، فاستغله لمصلحته فاستتلى قائلا: «ما أسهل هذا وما أيسر! ... غلام خبيث ... امرأة جميلة ... الغلام البدين سوف يساط ... وتنتهي الحكاية ... بسلام.»
ولسنا ندري هل سر العمة العانس رجحان كفة نجاتها من عواقب هذا الاكتشاف الذي حدث في أسوأ الأوقات، أو خفف وصفه لها بقوله: «امرأة جميلة» من حدة غمها، ولكنا نعلم أنها شعرت بشيء من الخجل، وراحت تلقي على المستر جنجل نظرة شكر، ورنوة عرفان.
وتنهد ذلك السيد الذي أوحى بالفكرة، وأرسل زفرة من أعماقه ، ونظر مليا إلى وجه العمة العانس، وأجفل إجفالة مسرحية، ثم استرد عينيه فجأة.
وقالت العمة العانس في نغمة حانية: «يلوح لي يا مستر جنجل أنك لست سعيدا، فهل تسمح لي بأن أبدي لك عرفاني لتدخلك الكريم، بأن أسأل عن سبب حزنك، والعمل إذا أمكن على إزالته.»
فأجفل المستر جنجل إجفالة أخرى وقال: «ها ... إزالته ... إزالة حزني ... وأنت تخلعين حبك على رجل لا يدرك هذه النعمة، ولا يقدرها حق قدرها ... رجل يفكر الساعة في كسب رضى ابنة أخي ... الإنسانة التي ... ولكن لا يصح لي أن أتكلم ... إنه صديقي ... ولست أريد أن أكشف النقاب عن مساوئه ... يا مس واردل ... وداعا!»
ولم يكد يتم كلماته هذه، وهي الكلمات الوحيدة المتصلة المتتابعة التي عرف يوما عنه أنه فاه بها، حتى رفع إلى عينيه بقايا منديل لاحظناه من قبل، والتفت ناحية الباب.
وأهابت به العمة العجوز: «قف يا مستر جنجل، لقد لمحت عن المستر طبمن تلميحا معينا، فاشرحه.»
قال بلهجة المحترفين - أي الممثلين: «أبدا ... أبدا ...» ولكي يظهر أن لا رغبة له في أن يسأل سؤالا آخر، راح يسحب كرسيا، ويدنيه من مجلس العمة العانس، ويستوي فوقه.
وقالت العمة العانس: «أتوسل إليك يا مستر جنجل وأتضرع ... إذا كان هناك سر مخيف يتصل بالمستر طبمن ... فاكشفه.»
فألقى بنظره على وجه العمة، وأنشأ يقول: «وهل أستطيع ... هل أستطيع أن أرى ... مخلوقة محببة ... تقدم على مذبح ... الجشع المجرد من الإحساس؟»
وتظاهر بأنه يغالب عدة انفعالات متعارضة بضع لحظات، ثم انثنى يقول بصوت خافت أجش: «إن طبمن لا يريد منك إلا ... مالك!»
فصاحت العانس بغضب شديد قائلة: «يا له من وغد!»
وهنا تبددت شكوك المستر جنجل ... لقد عرف أنها تملك مالا ... فاسترسل يقول: «وفوق هذا يحب أخرى.»
وصاحت العانس: «أخرى ... ومن تكون؟»
قال: الفتاة القصيرة ... ذات العينين السوداوين ... ابنة الأخ ... إملي.»
وساد سكون ...
ولو أن في العالم كله إنسانا واحدا كانت العمة العانس تكن له كراهية مميتة، وتطوي الجوانح على غيرة متأصلة منه، لكان هذا الإنسان هو ابنة الأخ تلك بالذات، فلا عجب إذا تغير في الحال وجهها، وغمر الاحمرار عنقها، وراحت تطوح برأسها في صمت واحتقار يفوق كل وصف.
وأخيرا أنشأت تقول، وهي تعض شفتيها، وتكبح جماح حقدها: «هذا لا يمكن، لا أصدق!»
قال: «راقبيهما.»
قالت: «سأفعلن.»
قال: «وراقبي نظراته.»
قالت: «إني لفاعلة.» - «وهمساته.» - «سأفعل.» - «وسيجلس بجانبها إلى المائدة.» - «فليجلس.» - «وسيتملقها.» - «ليتملقها؟» - «وسيبدي لها كل عناية ممكنة.» - «دعه.» - «وسيجفوك.»
وهنا صاحت العمة العانس قائلة: «يجفوني ... يجفوني، وهل تراه فاعلا؟» ورجفت من شدة الغيظ، وخيبة الأمل.
قال: «وستقتفين نفسك بنفسك.»
قالت: «لأفعلن.»
قال: «وهل ستظهرين له روحك؟»
قالت: «وإني لفاعلة.» - «ولن تكون لك به صلة بعد ذلك.» - «أبدا.» - «وستتقبلين أحدا آخر ...» - «نعم.» - «حقا.»
وراح المستر جنجل يجثو عند قدميها، ولبث طويلا في جثوته، حتى نهض حبيبا مقبولا عند العمة العانس على شرط واحد ... وهو أن تظهر خيانة المستر طبمن جلية واضحة.
وكان عبء الإثبات من واجب المستر الفرد جنجل، فمضى يبرز الدليل في ذلك اليوم بالذات على مائدة الغذاء.
وكادت العمة العانس لا تصدق عينيها، حين رأت المستر تراسي طبمن يجلس بجانب «إملي» يرنو إليها، ويهمس ويبتسم؛ «إغاظة» في المستر سنودجراس، فلم يوجه كلمة ولا نظرة، ولا رنوة واحدة إلى التي كانت موضع معزته وحبه في المساء المنصرم.
وجعل المستر واردل يقول لنفسه: «لعنة الله على ذلك الغلام، لقد سمع هذه القصة من أمه ... لعنة الله عليه ... كان نائما بلا شك ... ذلك كله من نسج الخيال.»
وكانت العمة العانس في تلك اللحظة ذاتها تقول لنفسها: «يا للخائن! لم يخدعني المستر جنجل العزيز ... أوه، كم أنا لذلك الشقي الأثيم كارهة!»
ولعل في الحديث الذي نحن هنا موردوه شرحا كافيا لسر هذا التحول الغريب في ظاهره، الذي بدا من جانب المستر تراسي طبمن.
كان الوقت مساء، والمنظر في الحديقة، وكان هناك شبحان يسيران في طريق جانبي، أحدهما أميل إلى القصر والبدانة، والآخر أدنى إلى الطول والنحول، وكان الرجلان هما المستر طبمن، والمستر جنجل.
وبدأ الرجل البدين الحوار.
قال: «لست أدري كيف فعلت ذلك؟»
وأجاب الآخر: «بديع ... مفتخر ... لو كنت في مكانك لما فعلت أحسن من ذلك، ولا أفضل ... لتكرر الدور عينه غدا ... وفي كل مساء ... إلى حين صدور تعليمات أخرى.»
قال: «وهل تريد راشل مني أن أثابر؟»
قال: «بالطبع ... وإن كان ذلك على الرغم منها ... ولكن لا بد مما ليس منه بد ... لتحويل الأنظار ... وإزالة الشبهات ... خائفة من أخيها ... تقول: إنه لا حيلة غير ذلك ... وإنه يستمر عدة أيام قليلة لا أكثر ... وعندما تعمى أبصار الكبار في السن هنا ... تقدم فتوج سعادتك بأكاليل الانتصار.»
قال: «أولم تحملك إلي رسالة ما؟»
قال: «حب. أعز الحب وأغلاه، أزكى التحيات ... وفاء ثابت لا يتغير ... فهل أقول لها عنك شيئا؟»
قال: «لا شيء سوى أن تبين لها كم أني مشوق متلهف للخطة التي أستطيع فيها أن أدعوها «مليكتي»، ولا تبقى ضرورة لكل هذا التصنع والرياء.»
قال: «بلا شك ... بلا شك ... لديك مزيد أحمله إليها؟»
وهنا تناول المستر طبمن المسكين يد صاحبه، وهو يقول: «أواه يا صديقي ... لك مني أصدق الشكر على كريم عطفك المبرأ من الغرض، واغفر لي إن كنت قد ظلمتك، ولو كان ذلك الظلم مجرد تفكير مر بخاطري؛ فظننتك مزاحمي، أو قائما في طريقي ... أيها الصديق العزيز، هل يتاح لي يوما أن أرد إليك هذا الجميل؟»
فأجاب المستر جنجل قائلا: «لا تتكلم عن ذلك، ولا تتحدث.» وأمسك عن القول كأنما تذكر شيئا فجأة، ثم مضى يقول: «والشيء يذكر بالشيء ... هل معك عشرة جنيهات أنت في غنى عنها؟ ... لي غرض معين أريد تنفيذه ... وسأردها إليك في غضون ثلاثة أيام.»
وقال المستر طبمن من صميم قلبه: «أظن معي ... أقلت بعد ثلاثة أيام ...»
قال: «بعد أيام ثلاثة ليس أكثر ... انتهى كل شيء على ما يرام ... لا حوائل أخرى، ولا صعاب.»
ومضى المستر طبمن يعد النقود في كف صاحبه، وجعل هذا يدسها قطعة قطعة في جيبه، وهما يسيران صوب البيت.
وقال جنجل: «حذار ... ولا نظرة واحدة.»
وأجاب المستر طبمن: «ولا رنوة حتى.» - «ولا مقطعا من كلمة.» - «ولا همسة هامس.»
قال: «بل ليكن كل اهتمامك منصرفا إلى بنت الأخ ... وأظهر بعض الجفوة للعمة على الأقل ... على سبيل تضليل العجائز الآخرين.»
قال بصوت مرتفع: «سأحاذرن.»
وقال المستر جنجل في نفسه: «وسأحاذر أنا أيضا.» ودخلا البيت.
وتكرر مشهد ذلك الأصيل في ذلك المساء، والأصائل والليالي الثلاث التالية، حتى إذا كان مساء اليوم الرابع، بدا رب الدار منشرح الصدر رائق المزاج؛ إذ اقتنع أن ما ادعي على المستر طبمن لا أساس له، كما كان هذا الأخير مغتبطا راضيا؛ لأن المستر جنجل أبلغه أن مسألته لا تلبث أن تنتهي، وكذلك بدا المستر بكوك، وهو قلما يبدو عكس ذلك، والمستر سنودجراس أيضا؛ لأنه بدأ يغار من المستر طبمن، والسيدة العجوز؛ لأنها كسبت في لعبة «الويست»، وبالمثل كان المستر جنجل ومس واردل؛ لأسباب ذات بال فيما يتصل بهذا التاريخ المليء بالأحداث، حتى يصح أن نفرد لشرحها الفصل التالي.
كاتب إنجليزي معروف.
الفصل التاسع
اكتشاف ومطاردة
كان العشاء قد أعد فوق الخوان، وصفت المقاعد من حوله، ونسقت الزجاجات والجرار والأقداح فوق النضد الجانبي، وكان كل شيء يشير إلى اقتراب أبهج فترة في الساعات الأربع والعشرين كلها.
وسأل المستر واردل: «أين راشل؟»
وأضاف المستر بكوك قائلا: «أي والله، وأين جنجل؟»
وقال رب الدار عجبا: «لم يغب لحظة قبل الآن عن ناظري غريب حقا، لست أحسبني قد سمعت له صوتا منذ ساعتين على الأقل، يا عزيزتي إملي، دقي الجرس.»
ودق الجرس، وظهر الغلام البدين.
وسئل: «أين مس راشل؟» وكان جوابه أنه لا يدري.
وقيل له: «وأين المستر جنجل إذن؟» فقال: «إنه لا يعرف.»
وبدت الدهشة على الجميع، وكانت الساعة متأخرة قد جاوزت الحادية عشرة، وضحك المستر طبمن في سره، فقد كان وحده الذي يعرف أنهما ذهبا يتمشيان في مكان ما، ويتحدثان عنه ... ها ... ها ... فكرة بديعة هذه ... ومضحكة.
وأنشأ المستر واردل بعد لحظة سكون يقول: «لا بأس ... لن يلبثا أن يظهرا ... والحق أقول: إنني لا أطيق انتظار أحد على العشاء.»
وقال المستر بكوك: «هذه قاعدة بديعة ... خليقة بالإعجاب .»
وقال المضيف: «تفضل بالجلوس.»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «بالتأكيد.»
واتخذ إلى المائدة مجلسه.
وكان فوق الخوان كتلة ضخمة من لحم البقر البارد، وقدمت إلى المستر بكوك حصة وفيرة منها، ولكنه ما كاد يرفع الشوكة إلى شفتيه، ويهم بفتح فمه لتلقي قطعة من اللحم، حتى ارتفعت فجأة أصوات مختلطة من جانب المطبخ، فأمسك ووضع شوكته، وتمهل المستر واردل أيضا، وأرخى قبضته على السكين، وهو لا يعي، فبقيت مغروزة في كتلة اللحم، ونظر إلى المستر بكوك، ونظر المستر بكوك إليه.
وسمعت مواقع أقدام ثقال في الردهة، وانفتح الباب فجأة، وإذا ذلك الرجل الذي مسح حذاء المستر بكوك عند مقدمه قد اندفع إلى القاعة، يتبعه الغلام البدين وبقية الخدم.
وصاح رب الدار بهم: «ما معنى هذا؟ ويحكم!»
وسألت السيدة العجوز حفيدتها: «هل شب حريق في المطبخ يا إملي؟»
وصرخت الفتاتان معا: «يا إلهي ... يا جدتاه ... كلا ... لا قدر الله!»
وزأر رب الدار قائلا: «ما الخطب؟ وما الأمر؟»
ووقف الرجل يحاول استعادة أنفاسه، وانثنى يقول بصوت خافت: «لقد ذهبا يا مولاي ... هربا يا سيدي!»
ولوحظ في هذه اللحظة أن المستر طبمن وضع الشوكة والسكين من يديه، وارتد شاحبا مبهورا.
وسأل المستر واردل الرجل بحدة: «من هما اللذان ذهبا؟»
قال: «المستر جنجل، ومس راشل ... في مركبة من فندق الأسد الأزرق في ماجلتون، لقد كنت هنالك، ولكني لم أستطع الإمساك بهما، فأسرعت إلى هنا لإبلاغكم ...»
ولم يكد المستر طبمن يسمع هذا النبأ حتى نهض من المائدة مذعورا هائجا، وقال: «لقد ذهب على حسابي ... أخذ نفقة السفر مني ... لقد أخذ مني عشرة جنيهات، أمسكوه! لقد نصب علي واحتال، لا يمكن أن أحتمل هذا، العدالة يا مستر بكوك، لن أحتمل هذا مطلقا!»
ومضى المسكين في هذه الصيحات المتقطعة وأمثالها يلف ويدور حول نفسه، وحول القاعة، وهو في جنة.
وصاح المستر بكوك، وهو ينظر إلى حركات صديقه الغريبة بدهشة مروعة: «يا حفيظ يا رب! لقد جن، فماذا نصنع؟»
وقال الشيخ المضيف البدين، ولم يكن قد ألقى باله إلى شيء ، غير هذه العبارة الأخيرة: «ماذا نصنع؟ نشد الحصان إلى المركبة، ونستأجر أخرى من فندق الأسد الأزرق، ونطاردهما بغير توان، أين؟» وقد صاح بهذه الكلمة الأخيرة، بينما كان الرجل قد انطلق لينفذ الأمر، وعاد يصيح قائلا: «أين ذلك الوغد جو؟»
وأجاب صوت يقول: «أنا هو، ولكني لست وغدا.»
وكان ذلك صوت الغلام البدين.
وصرخ الشيخ وهو يندفع نحو ذلك الغلام المنحوس: «دعني أنقض عليه يا بكوك، لقد رشاه ذلك المجرم جنجل، ليصرف أنفي عن اشتمام الحقيقة باختلاقه حكاية سخيفة عن أختي وصديقك طبمن.»
وهنا هبط المستر طبمن في جوف أحد المقاعد: «دعني أنقض عليه.»
وصرخت النساء: «لا تدعه يذهب وحده إنه سيقتل إذن الغلام البدين.» وإجهاشاته بالعبرات كانت أعلى، وأوضح من صرخاتهن.
وصاح الشيخ: «لا يمنعني أحد ... يا مستر ونكل، ارفع يديك عني، وأنت يا مستر بكوك اتركني من فضلك يا سيدي.»
وكان مشهدا جميلا في وسط تلك الجلبة والأصوات المختلطة، أن يرى المرء ذلك التعبير الهادئ الفلسفي الذي بدا على وجه المستر بكوك، وقد احمر قليلا من الإجهاد، وهو واقف وذراعاه محيطان بقوة حول خصر مضيفه البدين، وبطنه الرحيب؛ ليكبح جماح غضبه، ويحتجزه عن إيذاء الغلام البدين، بينما تكاثرت السيدات جميعا على الغلام فأوسعنه خدشا وجذبا، وجررنه جرا، ودفعنه من القاعة دفعا، وما إن أرخى المستر بكوك قبضته حتى دخل الرجل ليعلن أن المركبة قد أعدت.
وصرخت النساء جميعا قائلات: «لا تدعه.» ولكن صيحات ترك لغضبه.
وهنا قال المستر بكوك: «سأذهب معه.»
وقال المضيف وهو يتناول يده: «إنك لرجل كريم يا بكوك، إملي، أعط المستر بكوك لفاعة يلقيها حول رقبته، وعجلي ... ويا بنات، خذن بالكن من جدتكن، لقد أغمي عليها، والآن هل أنت على استعداد؟»
وراح المستر بكوك في عجلة يلف فمه وذقنه في لفاعة كبيرة، ويضع قبعته على رأسه، ويلقي بمعطفه الكبير على ذراعه، حتى إذا انتهى من ذلك كله أجاب بالإيجاب.
ووثبا إلى العجلة، وصاح رب الدار: «أطلق لها العنان يا توم.» وانطلقا يقطعان الأزقة والدروب الضيقة، والعجلة تهتز وتعلو وتهبط، وهي مارقة فوق الأخاديد، تصطدم بأسوار العوسج على كلا الجانبين، كأنما توشك أن تتكسر إربا في كل لحظة.
وصاح واردل حين وصلوا إلى باب فندق الأسد الأزرق، وقد رأى جمعا قليلا قد وقفوا حوله على الرغم من أن الوقت كان متأخرا: «كم من الوقت ترونهم سبقونا؟»
فكان جواب الجميع: «ليس أكثر من ثلاثة أرباع ساعة.»
وصرخ الشيخ: «مركبة وأربعة خيول في الحال، هيا أسرعوا، ودعوا العجلة لتدخلوها فيما بعد.»
وصاح رب الفندق: «والآن يا أولاد: مركبة وأربعة خيول في الحال، عجلوا، شيئا من الهمة، هلموا.»
وجرى رب الفندق وخدمه سراعا مبادرين، وأنوار «المصابيح» لماحة، وهم يروحون بها ويغدون، وسمعت حوافر الخيل وهي تدق أرض الفناء غير المستوية، وجاءت المركبة من المرابط رجراجة، والمكان يعج جلبة وحركة.
وصاح واردل قائلا: «هيه ... أليست المركبة آتية الليلة؟»
وأجاب رب الفندق قائلا: «إنها تقطع الفناء اللحظة يا سيدي.»
وجاءت المركبة، وشدت الخيل، وفوق صهواتها وثب الأولاد، وفي جوفها دخل الراكبان.
وصاح واردل: «افهموا. سبعة أميال في أقل من نصف ساعة، اجعلوا هذا نصب أعينكم، هيا انطلقوا.»
وأعمل الأولاد السوط والمهماز وسط صراخ الخدم وصاحب الفندق، وانطلقت المركبة سريعة مغضبة هائجة.
وأنشأ المستر بكوك يحدث خاطره، حين وجد لحظة تتسع للتفكير: «موقف حرج للرئيس العام لنادي بكوك، مركبة رطبة، خيل غريبة، خمسة عشر ميلا في الساعة، والساعة الثانية عشرة ليلا!»
ولم يتبادل السيدان كلمة واحدة، خلال الأميال الثلاثة أو الأربعة الأولى، فقد كان كل منهما مستغرقا في أفكاره، منشغلا بهواجسه وخواطره، حتى لا يجد شيئا يمكن أن يقوله لصاحبه، ولكن حين اجتازا هذه المسافة من الرحلة، وبدأت الخيل تستحث وتؤدي مهمتها بشكل حسن، وسرعة معقولة، لم يلبث المستر بكوك أن اغتبط بتلك السرعة إلى حد لم يستطع عنده أن يبقى ملازما الصمت على تلك الصورة، فقال: «أعتقد أننا سنلحقهما بلا شك.»
وأجابه صاحبه: «أرجو ذلك.»
وتطلع المستر بكوك إلى القمر، وكان ضياؤه باهرا فقال: «ليلة صافية.»
وأجاب واردل قائلا: «هذه هي المصيبة ؛ لأنهما استغلا ضياء القمر فسبقانا، أما نحن فسوف نفقد كل مزايا هذا البزوغ وفائدته ... إذ لن تمضي ساعة أخرى حتى يتوارى نور القمر.»
فسأله المستر بكوك: «أظن أن المسير بهذا المعدل غير مستحب في الظلام، أليس كذلك؟»
وقال صاحبه بجفاء: «فعلا.»
وبدأ اضطراب المستر بكوك العابر يهدأ قليلا، فمضى يفكر في المتاعب والأخطار التي تكتنف هذه الرحلة التي أقدم بغير ترو عليها، ولكنه انتبه من تأملاته على صيحة الغلام الراكب فوق الحصان الذي في المقدمة، وهو يقول: «لو ... لو ... لو ... لو ...»
وعلى أثره صاح الغلام الثاني: «لو ... لو ... لو ... لو ...»
وتبعهما المستر واردل نفسه يصيح، في حماسة صيحتهما ذاتها، وقد أخرج رأسه ونصف جسمه من نافذة المركبة
وصاح المستر بكوك أيضا: «لو ... لو ... لو ...» مرددا النغمة عينها، وإن لم تكن لديه أقل فكرة عن معناها، أو الغرض منها، وفي وسط هذه «الصيحات» من السيدين والغلامين وقفت المركبة.
وسأل المستر بكوك: «ما الخطب؟»
وأجاب الشيخ واردل: «هنا باب ... وسنسمع شيئا عن الهاربين.»
وبعد أن انقضت خمس دقائق في دق متواصل وصياح، خرج من بيت المكوس رجل متقدم في العمر في قميص وسراويل، وفتح البوابة، فابتدره المستر واردل قائلا: «كم من الوقت انقضى منذ مرت مركبة من هنا؟»
قال: «كم من الوقت؟»
قال «آه.»
وعندئذ مضى الرجل يقول: «لست أدري تماما، ولكن من وقت غير طويل، ولا هو قصير، ولعله بين ذلك.»
وعاد الشيخ يسأله: «هل مرت مركبة من هنا فعلا؟»
قال: «أي نعم مرت مركبة.»
وتدخل المستر بكوك فسأله: «متى يا صديقي؟ هل من ساعة مثلا؟»
فأجاب الرجل قائلا: «أستطيع أن أقول ذلك.»
وسأله الغلام الراكب في العربة: «أو من ساعتين؟»
وأجاب الرجل بلهجة المتشكك: «لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.»
وهنا صاح الشيخ غاضبا: «انطلقا أيها الغلامان بنا، ولا تضيعا الوقت مع هذا العجوز المغفل.»
وصاح الرجل وهو يومض بابتسامة: «مغفل!» وقد وقف في وسط الطريق، وفتح البوابة قليلا، وراح يرقب بنظره المركبة وهي تتضاءل وشيكا كلما أمعنت في المسير وأوغلت: «كلا لست مغفلا إلى هذا الحد، وقد أضعتم عشر دقائق هنا، وانصرفتم جاهلين الحقيقة كما جئتم، ولو أن رجلا على الطريق أصاب جنيها، وعرف كيف يكسبه كما عرفت، لما لحقتم بتلك المركبة قبل موسم عيد الميلاد أيها الشيخ القصير البدين.»
وانثنى الرجل يغلق البوابة، وهو يبتسم ابتسامة أخرى مستطيلة، وعاد إلى البيت، وأغلق الباب في أثره.
وكانت المركبة في تلك اللحظة موغلة في المسير دون إبطاء صوب نهاية الرحلة، وكان القمر كما تكهن واردل، قد أخذ يضعف نوره سريعا، وبدأت قطع كبيرة من سحب قاتمة ثقال كانت منذ لحظات تتجمع رويدا، وتغمر وجه السماء، تتحول إلى كتلة سوداء واحدة، وأخذت قطرات كبيرة من المطر تتساقط بين هنيهة وأخرى على نافذة المركبة، كأنما تنذرهما بوشك اقتراب ليل عاصف، وكانت الريح أيضا ضدهم، وهي تهب في زفيف وعصف على الطريق الضيق تزمجر وتعصف من خلال الشجر الذي يحف به، فعمد المستر بكوك إلى جمع أطراف معطفه حول بدنه، وانزوى منكمشا في ركن من المركبة، وهبط في سبات عميق، لم يستيقظ منه إلا على وقوف المركبة، وصوت جرس رب الفندق، وصيحة عالية تقول: «علينا بخيل في الحال.»
ولكن حدث هنا أيضا بعض التأخير، فقد كان الخدم في سبات عميق، اقتضى خمس دقائق لإيقاظ كل خادم منهم، وكان رب الفندق قد وضع مفتاح الإسطبل في مكان ما ونسيه، فمضى يبحث عنه، ولما وجده أخطأ خادمان منهم لا يزال النوم يداعب أجفانهما، فوضعا على حصان سرج الحصان الآخر، واضطر الأمر إلى تكرار الأسراج من جديد، ولو كان المستر بكوك هو المسافر وحده لكانت هذه العقبات المتكررة كافية لعدوله في الحال عن هذه المطاردة، ولكن الشيخ لم تكن هذه الحوائل لتثنيه عن واجبه بهذه السهولة، فطفق يستجمع كل عزمته، ويستعين بكل قوته، ويلكز هذا الغلام، ويدفع ذاك، ويفك رباطا هنا، ويشد حلقة هناك، حتى تهيأت المركبة للمسير في فترة أقل مما كان متوقعا وسط كل هذه الحوائل والعقبات.
وواصلوا المسير، ولكن المدى أمامهم لم يكن ليغري بأمل، فإن المرحلة تبلغ خمسة عشر ميلا، والليل حالك، والريح عاتية، والمطر يهطل مدرارا، وليس في الإمكان قطع شوط كبير مع اجتماع هذه العوائق كلها، وكان الوقت قد جاوز الواحدة بعد نصف الليل، ولا بد من انقضاء ساعتين أو قرابتهما لبلوغ نهاية المرحلة، ولكن شيئا تراءى لهم، فجدد آمالهم وأحيا موات هممهم، وعاد يرفع من أرواحهم المتخاذلة.
وصاح المستر واردل وهو يقفز من مكانه في المركبة، ويشير إلى مركبة أخرى علاها الطين الرطب، وهي واقفة في الفناء: «متى جاءت هذه المركبة؟»
قال رب الفندق الذي وجه السؤال إليه: «من أقل من ربع ساعة يا سيدي.»
وعاد المستر واردل يسأله، وهو لاهث الأنفاس من اللهفة والقلق: «وهل كانت تحوي سيدة وسيدا؟» - «نعم يا سيدي.» - «والسيد طويل، وعليه سترة، وساقاه مستطيلتان، وناحل البدن؟» - «نعم يا سيدي.» - «والسيدة نصف، ولها وجه نحيل، وتبدو عجفاء إيه؟» - «نعم يا سيدي.»
وصاح السيد الكبير: «وحق السموات إنهما هما يا بكوك!»
وواصل رب الفندق حديثه يقول: «كان من الجائز أن يكونا الآن هنا، ولكنهما أرادا أن لا يشق لهما غبار.»
قال واردل: «هو كذلك، والله هو كذلك، مركبة وأربعة خيول في الحال، وسنلحقهما قبل أن يبلغا المرحلة التالية، هلموا يا أولاد، جنيه لكل منكم إذا نشطتم، هيا أظهروا همة يا أيها الفتيان الطيبون.»
ومضى الشيخ بهذه الاحتثاثات والحوافز ونحوها، يروح ويغدو في جنبات الفناء في حالة من الهياج، انتقلت عدواها إلى بكوك أيضا، فلم يلبث هذا تحت تأثير العدوى أن ورط نفسه في عملية الإسراج، وتهيئة الخيل والعجلات، في صورة تبعث أشد الدهشة، اعتقادا جازما منه بأنه بعمله هذا قد يعاون معاونة فعلية في الاستعداد لمواصلة المسير.
وصاح واردل بصاحبه وهو يقفز إلى المركبة، ويرفع سلمها: «ادخل، ادخل.» وانثنى يغلق الباب بعنف في إثره، ويعاود الصياح قائلا: «هيا بنا، أسرعوا.» وقبل أن يعي بكوك شيئا مما حوله أحس بمن يرفعه رفعا من الباب الآخر، وإذا الشيخ يجتذبه إلى الداخل، وصاحب الفندق يدفعه من الخارج، وإذا المركبة منطلقة تنهب الطريق نهبا.
وقال الشيخ الكبير بسرور بالغ: «آه ... نحن الآن متابعون السير حقا.»
والواقع أنهم كانوا كذلك، بدليل ما كان المستر بكوك يحسه بين لحظة وأخرى من الاصطدام مرة بالجزء الخشبي الصلب من المركبة، وأخرى بجسم صاحبه.
وصاح المستر واردل البدين: «اثبت.» حين رأى المستر بكوك يضرب برأسه في بطنه الرحيب، وهو يقول: «لم أشعر بخضخضة كهذه في حياتي.»
وقال صاحبه: «لا عليك؛ فلن تلبث أن تزول، ثباتا، ثباتا.»
وراح المستر بكوك يغرز نفسه في ركنه، محاولا أن يثبت فيه ما استطاع، بينما راحت المركبة أشد سرعة من قبل، وأكثر اندفاعا.
ولبثت على تلك السرعة مارقة حتى قطعت قرابة ثلاثة أميال، أخرج بعدها المستر واردل رأسه من النافذة، وأطل على الطريق دقيقتين أو ثلاث دقائق، ثم أدخل وجهه وقد غمره رشاش من المطر، وصاح لاهثا في لهفة شديدة: «ها هما ...»
وعندئذ أخرج المستر بكوك رأسه من النافذة؛ فإذا هو يبصر حقا مركبة وأربعة جياد، على مسافة قصيرة منهما، وهي مندفعة في سرعة بالغة.
وقال الشيخ بصوت يكاد يكون صراخا: «تقدما، تقدما، جنيهان لكل منكما، لا تدعاهما يسبقاننا، هلما، احرصا على اللحاق بهما.»
وكانت الخيل المسرجة في المركبة الأولى قد شرعت تعدو بأقصى السرعة، ومركبة واردل تنهب الأرض في إثرها نهبا، ولا تلوي على شيء.
وصاح الشيخ الغضوب قائلا: «إني أرى رأسه - لعنه الله - إني لأرى رأسه!»
وقال المستر بكوك: «وأنا أيضا، هذا هو.»
ولم يكن المستر بكوك مخطئا، فقد كان وجه المستر جنجل الذي غمره الوحل المتطاير من العجلات ظاهرا للعين من شرفة المركبة، وحركة ذراعه التي كان يلوح بها بعنف صوب السائقين لتشجيعهما واحتثاثهما على زيادة السرعة.
وكان الموقف قد استحمى واستحر، وبدت الحقول والأشجار وأسوار العوسج تمرق من أمامهما بسرعة «الدوامة»، وشدة انطلاق المركبة واندفاعها، حتى دنت من جانب المركبة المستبقة، وكان صوت جنجل في تلك اللحظة غالبا على أصوات العجلات، وهو يستحث الغلمان، واشتد غضب الشيخ، وثارت ثائرته، وذهب يزأر شاتما لاعنا عشرات الشتائم واللعنات ، صارخا: «أيها الأوغاد، أيها المجرمون!» جامعا قبضة يده، ملوحا بها، يهزها في الفضاء هزا لذلك المستهدف لغضبه، ولكن المستر جنجل لم يجاوز في الرد على هذا الوعيد أكثر من الابتسام المستخف، والجواب عن هذه التهديدات بصيحات المنتصر، حين انطلقت خيله مستجيبة لمهوى السياط المتزايدة، ووخزة المهماز في الخاصرة، في سرعة متجددة، تركت المطاردين في إثرها متخلفين.
وما كاد المستر بكوك يدخل رأسه من النافذة، ويفعل المستر واردل مثله من الجهد والتعب بعد ذلك الصياح الشديد، حتى حدثت رجة عنيفة طوحت بهما فوق مقدم المركبة، وتلتها خبطة فجائية، وصوت تهشم شديد، وانطلاق عجلة من مكانها، وانقلاب المركبة رأسا على عقب.
وبعد بضع ثوان في ذهول واضطراب بالغين، لا يتبين خلالهما غير اندفاع الخيل، وتحطم الزجاج، شعر المستر بكوك بأيد تجذبه من تحت أنقاض المركبة، ولم يكد يستوي على قدميه، ويستخرج رأسه من أطراف معطفه الفضفاض الذي حال في الواقع بينه وبين الانتفاع بمنظاره، حتى بدت النكبة واضحة لعينيه.
ورأى الشيخ واردل حاسر الرأس، طارت القبعة من فوقه، ممزق الثياب في عدة أجزاء منها، واقفا بجانبه، وبقايا المركبة متناثرة عند قدميه، وأما الغلامان فقد استطاعا بعد جهد قطع «السيور» والحلقات التي تربط الخيل، ووقفا بجانب رءوسها، تعلوهما الأوحال، ويلوحان أشعثين أغبرين من عناء السفر، ومجهدة الركوب.
وعلى قيد مائة خطوة أو نحوها، وقفت المركبة الأخرى على صوت الاصطدام، والغلامان يبتسمان ابتسامة يختلج لها وجهاهما أشد الاختلاج، وهما يشهدان ما حل بالمركبة الأخرى من فوق سرجيهما، بينما أطل المستر جنجل من النافذة، يتأمل المشهد بارتياح ظاهر.
وكان النهار قد طلع منذ لحظة، فبدا المشهد جليا للعين على مطالع خيوطه.
وصاح جنجل الصفيق الذي لا يعرف الحياء: «هل أصيب أحد؟ شيخان كبيران، ليسا من الوزن الخفيف، عملية خطرة جدا.»
وصرخ واردل، وزأر قائلا: «إنك لوغد!»
وأجاب جنجل ضاحكا: «ها ها!» ثم أردف يقول بغمزة ذات دلالة من طرف عينيه، وهزة من أنملته صوب داخل مركبته: «إنها بخير، وتحملني إليك السلام، وترجو أن تكف عن إتعاب نفسك، الحب لطبي، ألا تركبان في المؤخرة؟ سق يا غلام.»
فعاد الغلامان إلى مجلسهما من المركبة، وانطلقت بهم، وقد رفع المستر جنجل منديلا أبيض، وأخذ يلوح به من النافذة سخرية واستهزاء.
ولكن هدوء طبع المستر بكوك، وسكينة نفسه لم يكدرهما شيء مما جرى، ولم يزعجهما انقلاب المركبة ذاتها، وإنما كانت تلك الخسة التي بلغ من نكرها أن يقترض في أول الأمر مالا من مريده الأمين، ثم تختصر اسمه اختصارا وقحا، فتدعوه «طبي» أكثر وأشد مما يطيق صبره، حتى راح يتنفس بمشقة، ويحمر وجهه إلى طرف منظاره ذاته، وهو يقول في رفق ولهجة جد: «لو أتيح لي لقاء هذا الرجل مرة أخرى فلأ ...»
ولكنه لم يتم؛ فقد عاجله المستر واردل بقوله: «نعم، نعم، هذا كله جميل ولكنهما، ونحن هنا واقفان نتكلم، سيظفران بعقد قرانهما في لندن.»
فتمهل المستر بكوك، وكبت غضبه، كما يملأ المرء الزجاجة ويغلقها بالسدادة.
والتفت المستر واردل إلى الغلامين فقال: «كم المسافة بيننا وبين المرحلة التالية؟»
قال أحدهما لزميله: «ستة أميال، أليس كذلك يا توم؟»
وأجاب هذا: «أكثر قليلا.»
وانثنى الأول يقول: «ستة أميال أو نحوها.»
وقال المستر واردل: «لا بد مما ليس منه بد، سنقطعها مشيا يا بكوك؛ ليس ثمة شيء غير هذا.»
وأرسلا غلاما على حصان ليظفر لهما بمركبة أخرى وخيل، وتركا الآخر لحراسة المركبة المحطمة، ثم انطلقا بعزمة الرجال يقطعان بقية الطريق على الأقدام، بعد أن لفا لفاعيتهما حول عنقيهما، وأرخيا قلعتيهما لكي يحتميا ما استطاعا من هطل المطر، وكان قد عاد بعد انقطاع يسير يتساقط صببا مدرارا.
الفصل العاشر
إزالة كل ما كان يساور النفوس من الشكوك «إن كان ثمة شيء منها» في أن المستر جنجل منزه عن الغرض. ***
لا تزال لندن تحوي عدة فنادق، كانت في سالف الدهر مركزا للمركبات التي تؤدي الأسفار، وتقطع الرحلات في صورة أكثر جدا، وأفعل أثرا مما يبدو من المركبات في هذه الأيام، ولكن تلك الفنادق قد انحط شأنها اليوم، فلم تعد تزيد عن محطات ونقط لحجز أماكن في المركبات المسافرة إلى الريف، ولن يهتدي القارئ الآن إلى شيء من تلك الفنادق أو «الوكالات» القديمة، مهما يحاول البحث عنها بين فنادق الصليب الذهبي «الجولدن كروس»، و«الثور»، بل والأفواه «ماوثز» القائمة بواجباتها الرائعة في شوارع لندن التي دخل التحسين عليها، فإذا أراد فندقا من تلك الفنادق القديمة، فليوجه خطاه صوب أحياء المدينة المظلمة، ومعالمها الأثرية، فهو واجد في بعض زواياها المهجورة عدة فنادق كهذه، لا تزال قائمة تعلوها الكآبة، وينم شكلها عن قوة التشبث بالبقاء في وسط الأبنية الحديثة المحيطة بها.
وفي قصبة لندن خاصة لا تزال ثمة بضعة فنادق عتيقة احتفظت بمعالمها الخارجية كما هي، فلم يطرأ عليها تغيير، ولم تتعرض لخطر الدعوة العامة إلى التحسين والتعمير، ولا استهدفت لمغامرات الأفراد بأموالهم في تجديد المباني وتشييد العمارات، وهي إلى اليوم تبدو عظيمة، متماسكة غريبة، ذات دهاليز وممرات ومدارج، ومن الرحابة وقدم العهد بحيث تكفي لتهيئة مواد موضوعات لمئات القصص عن المردة والعفاريت، إذا فرضنا أننا قد نتدهور إلى هذا الحد المؤسف من ابتكار شيء منها، أو وصل الإسفاف بنا إلى تأليف روايات على غرارها، أو إذا تصورنا أن الدنيا سوف تعيش حتى تستنفد الأساطير الصحيحة التي لا تحصى عن جسر لندن القديم، وما جاوره من الأحياء القائمة على جانب «صرى».
وفي فناء أحد تلك الفنادق، وهو فندق الأيل الأبيض (هوايت هارت) الذائع الصيت، كنت ترى ثمة رجلا منهمكا في تنظيف حذائه، في بكور الصباح التالي لليوم الذي وقعت فيه الحوادث التي سردناها عليك في الفصل السابق، وكان الرجل يرتدي صدارا مخططا تخطيطا لا يدل على ذوق جميل، ذا ردنين أسودين من القطن، وأزرار زرق من الزجاج، وسراويل ذات لون كئيب، «وطماقا» يكسو ساقيه، وقد لف حول رقبته منديلا أحمر خفيف الحمرة لفة غير محبوكة ولا متقنة، وألقى قبعة قديمة بيضاء بغير عناية على جانب من رأسه، وأمامه صفان من الأحذية، أحدهما قد فرغ من تنظيفه، وبقي الآخر متسخا لم يتناوله بعد، وكلما فرغ من مسح حذاء أضافه إلى مجموعة الأحذية التي نظفها، وكف لحظة عن العمل يتأمل نتائجه بارتياح ظاهر.
ولم تكن ترتفع في جنبات الفناء تلك الجلبة التي امتازت بها أفنية الفنادق الكبيرة عادة، ولا بد فيه تلك الحركة الدائبة المعروفة عنها، بل كانت هنالك ثلاث مركبات أو أربع ضخمة، محملة أكداسا من البضائع تلوح تحت أغطيتها الرحيبة، وترتفع إلى ما يقرب من ارتفاع النوافذ في الطبقة الثانية من أي منزل عادي، وهي مصفوفة تحت سقف مرتفع، يمتد على طول الفناء من أحد طرفيه، والغالب أنها كانت على وشك الخروج في ذلك الصباح؛ فقد أخرجت من السقيفة إلى الجزء الفضاء من الفناء.
وحول جانبي الأرض الفضاء كليهما قام صف مزدوج من الدهاليز المؤدية إلى غرف النوم «بدرابزين» قديم مشوه الشكل، كما بدا صفان مزدوجان من الأجراس يحميهما من التقلبات الجوية سقف مغبر منحدر، من تحته باب يؤدي إلى «محل الشراب»، وغرفة القهوة، وقد سبقت عربتان صغيرتان وعربتان أخريان من عربات النقل إلى سقائف صغيرة مختلفة، وبين فترة وأخرى كان يرتفع صوت مركبة قادمة، أو حركة حلقات وسراج في الطرف الأقصى من الفناء، كأنما تعلن من يعنيه الأمر أن الإسطبل قائم في هذه الناحية من الفندق، فإذا قلنا أيضا أن هناك بضعة غلمان في جلابيب فضفاضة بدوا رقودا فوق الطرود الثقال، والرزم الضخمة، وغيرها من البضائع المتناثرة في أرجاء الفناء فوق أكداس من القش، فقد وصفنا بما فيه الكفاية مظهر فناء فندق الأيل الأبيض في «هاي ستريت»، ورسمنا صورته العامة كما كان يبدو في صباح ذلك اليوم الذي نتحدث عنه.
وأعقب ارتفاع صوت أحد الأجراس ظهور وصيفة رشيقة في الردهة العليا لغرف النوم، وبعد أن طرقت إحدى الحجرات وتلقت أمرا ممن فيها، وقفت على رأس السلم تنادي قائلة: «يا سام ...!»
وأجاب الرجل ذو القبعة البيضاء: «نعم!» - «رقم 22 يطلب حذاءه.» - «اسألي رقم 22 هل يريده الآن، أو ينتظر حتى يتلقاه؟»
وقالت الفتاة مداعبة: «هيا ... يا سام ... دع الهزل والمزاح ... العميل يريد حذاءه حالا.»
فأجابها مساح الأحذية: «حسن، أنت شابة لطيفة تصلح للعمل مع فرقة موسيقية ... انظري إلى هذه الأحذية هنا ... أحد عشر زوجا ... ونعل لرقم 6 ذي الساق الخشبية، والأحد عشر زوجا مطلوبة في الساعة الثانية والنصف، والنعل في التاسعة ... فمن هو رقم 22 حتى يتقدم الباقين جميعا ... لا ... لا ... كل إنسان بدوره ... كما قال «جاك كش» حين راح يشد وثاق الجمع واحدا بعد الآخر، آسف يا سيدي لأني جعلتك تنتظر ... ولكني قادم إليك حالا ...»
وأقبل المساح على عمله، وكان يمسح حذاء طويلا، وهو يضاعف نشاطه.
وتردد صوت جرس آخر عاليا، وظهرت ربة الفندق العجوز الكثيرة الحركة في الدهليز المقابل، وصاحت قائلة: «يا سام ... أين ذلك البليد الكسول ... آه ... ها أنت ذا يا سام ... لماذا لا ترد؟»
قال بخشونة: «ليس من حسن الذوق أن أرد حتى تنتهي من الكلام.»
قالت: «اسمع هنا ... امسح هذا الحذاء لرقم 17 حالا، وأحضره إلى قاعة الجلوس الخاصة رقم 5 في الدور الأول.»
وطوحت ربة الفندق بحذاء أنثى في الفناء، وانصرفت مسرعة.
وتناول سام الحذاء، وأخرج قطعة من الطباشير من جيبه، وأخذ مذكرة على مشط النعل بها، وهو يقول لنفسه: «رقم 5 حذاء سيدة، قاعة الجلوس الخاصة ... لا أظنها جاءت في مركبة العفش.»
وصاحت الفتاة وهي لا تزال مستندة إلى سياج السلم: «لقد جاءت باكرة في هذا الصباح مع سيد في مركبة أجرة، وهو السيد الذي يريد حذاءه ... أحسن لك أن تمسحهما ... هذا هو كل ما في المسألة.»
قال في غضب شديد، مخرجا الحذاء المشار إليه من الكومة المصفوفة أمامه: «لماذا لم تقولي ذلك من أول الأمر، فقد كنت فاهما أنه عمل غير ذي شأن من الذين لا يدفعون عادة أكثر من ثلاثة بنسات، وإذا بي أسمع ... قاعة خاصة ... وسيدة أيضا، فإن كان سيدا - كما قلت - فحقه أن يدفع شلنا في اليوم، وأجرة الذهاب والإياب.»
وحفزه هذا الخاطر الملهم، فمضى في مسح الحذاء بالفرشاة بحماسة وإقبال صادقين، فلم تنقض بضع دقائق حتى كان الحذاء والنعل قد دهنا بطلاء براق، كان بلا ريب مثيرا للحسد في نفس المستر وارن .
فقد كانوا في فندق الأيل الأبيض «هوايت هارت» يستعملون طلاء «داي ومارتن».
ووصل المساح إلى باب الغرفة رقم 22.
وسمع صوت رجل من الداخل يقول: «ادخل.» ردا على دقة سام للباب.
وانحنى «سام» بأحسن ما لديه من الانحناءات، ومثل في حضرة سيدة ورجل كانا جالسين يتناولان طعام الفطور، وبعد أن سلم الحذاءين بكل الرسميات المطلوبة، ووضع أحدهما على اليمين، والآخر على اليسار عند قدمي السيد، ووضع حذائي السيدة مثلها عن يمينها ويسارها - تراجع خطوات نحو الباب.
وقال السيد: «الأحذية؟»
وأجاب سام: «نعم يا سيدي.» وهو يغلق الباب، ويبقي يده على الأكرة.
قال: «هل تعرف ... ما يسمى ... بماذا؟ بحي الأطباء؟» - «نعم يا سيدي.» - «أين هو؟» - «بحضرة كنيسة القديس بولس يا سيدي، وهناك باب مقوى خفيض على الجانب الذي تقف عنده المركبات، وبائع كتب في ركن منه، وفندق في الركن الآخر، وحمالان في الوسط يعملان في استخراج الرخص.»
وقال السيد: «سمساران للرخص!»
وأجاب سام: «نعم، سمساران للرخص ... وهما يلوحان في حلة بيضاء، ويلمسان قبعتيهما احتراما عند دخولك، ويسألانك: «رخصة يا سيدي، رخصة؟» إنهما لشخصان عجيبان يا سيدي ... ومعلموهما عجيبون أيضا ... وكلاء محامين في محكمة «أولد بيلي»، وهذا كله صحيح لا خطأ فيه.»
وسأل السيد قائلا: «وماذا يعملان؟»
قال: «يعملان ... سبحان الله يا سيدي ... يعملان ما لا يخطر ببال ... يدخلان أشياء في رءوس أناس كبار السن لم يكونوا يحلمون بها في يوم من الأيام ... كان والدي يا سيدي حوذيا ... وكان أرمل أيضا وبدينا لا يصلح لشيء ... سمينا إلى حد غير مألوف ... ماتت زوجته، وتركت له أربعمائة جنيه ... فذهب إلى ذلك الحي لمقابلة المحامي ليسحب النقود ... ذهب في هندام رشيق جدا ... حذاء طويل، ووردة في عروة سترته ... وقبعة عريضة الحاشية ... ولفاعة خضراء ... وجيه جدا ... واجتاز الباب، وهو يفكر فيما عسى أن يفعل لاستثمار ذلك المال ... وإذا السمسار يتقدم نحوه، ويرفع القبعة له ويسأله: «رخصة يا سيدي؟ ... رخصة؟» فيقول والدي: «وماذا تكون هذه؟» فيقول صاخبا: «رخصة يا سيدي؟» ويقول والدي: «أي رخصة تعني؟» فيجيبه السمسار: «رخصة الزواج!» ويقول والدي: «أي زواج! ما فكرت فيه مطلقا.» فيعود السمسار يقول له: «أعتقد أنك محتاج إلى رخصة يا سيدي ...» ويذهل والدي، ويفكر قليلا ثم يقول: «لا ... لا ... إنني كبير في السن ... ومفرط في السمنة إلى حد لا أصلح معه للزواج.» فيقول السمسار: «أبدا والله ... لست كذلك يا سيدي.» ويجيب الوالد: «لا أظن.» ولكن صاحبنا يقول له: «أنا متأكد أنك لست كذلك ... لقد زوجنا سيدا في ضعفي بدانتك في يوم الإثنين الماضي.» ويقول الوالد: «أحقا؟» فيجيب السمسار: «فعلا، وأنت طفل صغير بالنسبة إليه ... من هنا الطريق يا سيدي، من هنا ...» ومشى والدي في إثره كما يمشي القرد المستأنس خلف صاحبه حتى وصلا إلى مكتب منعزل، حيث جلس رجل وسط أوراق قذرة، وصناديق صفيح صغيرة؛ ليوهم أنه مشغول ولديه أعمال كثيرة، ويقول هذا المحامي للسيد الوالد: «تفضل اجلس ريثما أتم تحرير الإقرار.» فيقول أبي: «شكرا لك يا سيدي.» ويجلس وهو محملق البصر، فاغر الفم على سعته، يتأمل الأسماء المكتوبة على الصناديق، ويسأله المحامي: «ما الاسم الكريم؟» فيجيب الوالد: اسمي «توني ولر». فيعود يسأله: «وأية أبرشية تتبع؟» ويقول أبي: «بل سفج.» وهو محل الشراب الذي كان قد عرج عليه في طريقه قبل حضوره، ولم يكن يعرف أية «أبرشيات»، أي والله لم يكن فعلا يعرف، ويسأله المحامي: «وما اسم السيدة؟» فبهت الوالد، ولم يدر بماذا يجيب، قال: «والله لا أعرف.» ويقول المحامي: «لا تعرف! ... كيف هذا؟» ويجيب والدي: «والله لا أدري ... ألا يجوز أن نؤجل مسألة الاسم إلى ما بعد؟» ويقول المحامي: «مستحيل.» وهنا يفكر الوالد لحظة ثم يقول: حسنا، اكتب «مسز كلارك». ويقول المحامي وهو يغمس القلم في الدواة: «أي كلارك؟» فيرد الوالد قائلا: «سوزان كلارك ماركيز أوجرانبي من ناحية دركنج، فهي ستقبلني إذا طلبت ذلك إليها ... أنا لم أقل شيئا لها، ولكني أعرف أنها سترضى بي.» وهكذا تم تحرير الرخصة، والواقع أنها رضيت به، وأدهى من ذلك أنها الآن قابضة على خناقه، وأنا لم أفز بشيء من الأربعمائة جنيه ... حظ سيئ ... أرجوك المعذرة يا سيدي ... كلما ذكرت هذه المظلمة، أجري كالعجلة الجديدة عقب «التشحيم».
وغادر «سام» الحجرة بعد أن وقف لحظة ليتبين هل هو مطلوب لشيء آخر.
وقال السيد: «ولسنا بحاجة إلى تقديمه للقارئ، فهو المستر جنجل بعينه، الساعة التاسعة والنصف ... هذا هو الوقت الملائم ... فلأذهب في الحال ...»
وقالت العمة العانس بدلال ودعابة: «الوقت الملائم ... لأي شيء؟»
قال وهو يضغط يد العمة العانس: «للرخصة يا أعز الملائكة، وإعطاء خبر للكنيسة لكي أدعوك مليكتي غدا ...»
وقالت راشل بحياء: «الرخصة ...؟»
وردد المستر جنجل الكلمة، وترنم قائلا: «في سرعة العربة للرخصة أذهب ...» «وفي عجلة، دقات الجرس أءوب ...»
قالت: «ما أشد استعجالك!»
قال: «استعجالي! لا شيء يقف أمام الساعات والأيام والأسابيع، والشهور والأعوام التي ستوحد بيننا وتجمعنا ... أنا مستعجل، ستطير كلها ... مقلقا ... وفوهة ... وقاطرة ... قوة ألف حصان ... لا شيء.»
وسألت راشل: «ألا يمكن ... ألا يمكننا أن نقترن قبل صباح غد؟»
قال: «مستحيل، لا يمكن ... إبلاغ الكنيسة ... استخراج الرخصة اليوم ... الاحتفال بالقران غدا.»
وقالت راشل: «إني في هلع من أن يكشف أخي أمرنا.»
قال: «يكشف أمرنا! ... كلام فارغ ... هزته كسرة المركبة هزة شديدة ... وبجانب ذلك ... اتخذت أشد الحيطة ... تركنا المركبة ... مشينا ... أخذنا عربة مأجورة ... جئنا إلى «الضاحية» ... آخر مكان في العالم يخطر بباله أن يبحث فيه عنا ... ها ... ها ... فكرة مفتخرة هذه، جدا.»
وقالت العانس بحب، وهو يلصق قبعته الضيقة برأسه: «لا تغب.»
قال: «أغيب عنك ... أيتها الفاتنة القاسية!» ... وأسرع في مجانة إلى العمة العانس، وطبع قبلة بريئة على شفتيها، واندفع من الحجرة وهو يرقص.
وقالت العمة العانس وهو يغلق الباب وراءه: «يا له من عزيز!»
وقال هو لنفسه وهو منصرف من الردهة: «يا لها من فتاة عجوز بديعة!»
ومن المؤلم للخاطر أن يتمثل المرء منا مبلغ غدر الإنسان ولؤمه، ولهذا لا نبغي أن نتابع خيط أفكار المستر جنجل وسلسلة تصوراته وهو منطلق في طريقه إلى حي الأطباء، وإنما حسبنا في هذا المجال أن نقول إنه أفلت من شراك السمسارين الواقفين بالمرصاد في بذلتيهما ذواتي اللون الأبيض.
ووصل إلى مكتب القسيس العام بسلام، وبعد أن ظفر بكتاب رقيق لطيف العبارة، محرر على ورق مصقول جميل من كبير أساقفة كانتربري إلى عزيزيه المخلصين «ألفرد جنجل»، و«راشل واردل» تحيات وسلاما، وبعد ... إلخ. وضع بكل حذر الوثيقة الشرعية في جيبه، وعاد أدراجه منتصرا إلى المدينة.
وبينما كان في طريقه إلى الفندق؛ إذ دخل الفناء سيدان بدينان، وآخر نحيف، وتلفتوا حولهم للبحث عن شخص مسئول يمكن الحصول منه على بضعة معلومات، واتفق أن كان المستر صمويل ولر منهمكا عندئذ في تلميع حذاء طويل لمزارع جلس يستمتع بغداء خفيف، يتألف من رطلين أو ثلاثة أرطال من اللحم البارد، وجرة أو جرتين من النبيذ، بعد متاعب السوق.
وتقدم السيد النحيف رأسا إلى المستر صمويل ولر فقال: «يا صديقي!»
وقال «سام» لنفسه: «يظهر أنك من الذين يطلبون المشورة، ولا يدفعون شيئا، وإلا لما حييتني هكذا مسرعا، ودعوتني صديقا ...»
ولكنه أجاب السائل قائلا: «نعم يا صديقي!»
وقال السيد النحيف بنحنحة مغرية: «اسمع يا صديقي ... هل لديكم هنا نزلاء كثيرون الآن ... والحركة طيبة؟»
واختلس سام نظرة إلى السائل، فبدا له أنه رجل نحيف، «ضامر» ذو وجه أسمر مغلق، وعينين صغيرتين خلاجتين، لا تكفان عن الغمز والاختلاج واللمع على كلا جانبي أنفه الدقيق الملح، وكان مرتديا ثيابا سوداء، ومنتعلا حذاء براقا كعينيه، وغطاء رقبة صغيرا أبيض اللون، وقميصا نظيفا متغضنا، وسلسلة ساعة ذهبية، وخاتما متدليا من جيب صداره، وكان يحمل قفازا أسود من جلد الماعز في يديه، لا عليهما، وكلما تكلم ألقى بمعصميه تحت ذيل ردائه، فعل الرجل الذي اعتاد حل المشكلات.
وعاد الرجل النحيل يسأل قائلا: «الحركة طيبة، هه؟»
وأجاب سام: ««طيبة جدا يا سيدي، فلا ينتظر أن نفلس، ولا أن نغتني، يكفينا أننا نأكل لحم الضأن المسلوق بغير قبار، ولا يهمنا الفجل الحراق ما دمنا نجد لحم العجول.»
وقال الرجل النحيل: «أراك ابن نكتة ... أفأنت كذلك؟»
وأجاب سام: «كان أخي الكبير مصابا بهذا المرض، ومن الجائز أنه من الأمراض المعدية ... وقد اعتدت أن أنام معه.»
وعاد السيد النحيف يقول وهو يدير عينيه فيما حوله: «وهل هذا الفندق القديم العجيب لك؟»
وأجاب سام بكل برود: «لو كنت أرسلت خبرا أنك قادم لأصلحناه ورممناه.»
وبدت على الرجل النحيف الحيرة من هذه الردود المسكنة؛ فاختلي بالسيدين البدينين للمشاورة، ولم يكد يتم تبادل الرأي حتى تناول شيئا قليلا من علبة سعوطه الفضية المستطيلة الشكل، وهم بتجديد الحديث، لولا أن أحد السيدين الضخمين، وهو رجل تلوح الطيبة على وجهه، ويضع منظارا على عينيه، ويلبس «طماقا» أسود اللون، بادر إلى التدخل قائلا لسام: «إن واقع الأمر هو أن صديقي هذا - مشيرا إلى السيد البدين الآخر - سيعطيك نصف جنيه إذا أنت رددت على سؤال أو سؤالين ...»
ولكن السيد النحيل قاطعه بقوله: «كلا ... يا سيدي العزيز كلا، يا سيدي العزيز! من فضلك اسمح لي يا سيدي العزيز! إن المبدأ الأول الذي ينبغي أن يراعى في هذه المسائل هو أنك إذا وضعت مسألة ما في يدي أحد أرباب المهنة، فلا يجوز لك بأية حال أن تتدخل في سيرها، بل يجب أن تضع فيه ثقتك المطلقة، وفي الحقيقة يا مستر ...»
والتفت إلى السيد الآخر البدين: «لقد نسيت اسم صديقك.»
وأجاب المستر واردل «بكوك»، ولم يكن الرجل المعني بالسؤال أحدا غير صاحب هذه الشخصية المرحة.
وواصل السيد النحيف حديثه قائلا: «وفي الحقيقة يا مستر بكوك أستميحك المعذرة يا سيدي العزيز، وفي الحقيقة إني ليسعدني أن أتلقى أية مقترحات منك «بصفة ودية» - كما نقول نحن رجال القانون - ولكن لا يخفى عليك بطبيعة الحال مبلغ الخطأ البالغ من تدخلك في تصرفاتي في هذه القضية، بهذا الاقتراح الذي تعرض فيه دفع نصف جنيه، إنه اقتراح من النوع الذي نسميه في اصطلاحنا القانوني «إغراء»، في الحقيقة يا سيدي العزيز، في الحقيقة ...»
وتناول السيد النحيل قدرا «جدليا» من سعوطه، وبدا عليه الجد المتناهي.
وقال المستر بكوك: «إن كل رغبتي يا سيدي هي أن أنهي هذه المسألة المؤلمة في أسرع وقت ممكن.»
وأجاب السيد النحيف: «صح ... صح ... تمام!»
وواصل المستر بكوك حديثه قائلا: «وفي سبيل تحقيق هذا الغرض استعنت بالحجة التي علمتني التجارب أنها الوسيلة التي يغلب على الظن أنها الطريقة الناجحة في كل قضية.»
وقال الرجل النحيل: «حسن جدا ... حسن جدا، فعلا، ولكن كان يصح أن تقترحها علي أنا أولا، إنني واثق يا سيدي العزيز أنك لست تجهل مدى الثقة التي ينبغي أن توضع في أرباب المهنة، وإذا لم يكن بد في هذه النقطة من الاستناد إلى السوابق والأمثال؛ فدعني يا سيدي العزيز أحيلك إلى القضية المشهورة في بارنول و...»
وهنا قاطعه سام، وكان قد لبث يستمع في دهشة خلال هذا الحوار القصير، فقال: «إن مسألة جورج بارنول لا تهم في الموضوع، كل إنسان يعرف أي نوع من القضايا كانت قضيته، وإن كان رأيى الذي لا أتحول عنه، أتفهمني؟ كان رأيي الثابت أن المرأة الشابة كانت تستحق الشنق أكثر منه، ولكن هذه المسألة - على أية حال - غير ذي بال، أنت تريد مني أن أقبل نصف جنيه، حسن جدا، وأنا قبلت، هذا هو ما أقوله، وليس عندي قول أحسن منه.» والتفت إلى المستر بكوك قائلا: «هل يمكنني ياسيدي؟» وهنا ابتسم المستر بكوك وقال: «ثم ننتقل إلى المسألة الأخرى، ماذا بالله تريد مني، كما قال الرجل حين رأى العفريت؟»
وهنا قال المستر واردل: «نريد أن نعرف ...»
وقاطعه السيد النحيف المترقب لكل كلمة: «والآن يا سيدي العزيز، يا سيدي العزيز!»
فهز المستر واردل كتفيه، ولزم الصمت.
وواصل السيد النحيف حديثه بجد بالغ: «نريد أن نعرف، نريد أن نسألك أنت؛ حتى لا نثير مخاوف في الداخل، نريد أن نعرف من هم النزلاء في اللحظة الراهنة في الفندق؟»
وأجاب سام: «من هم النزلاء؟» ولم يكن يعرف النزلاء إلا بذلك الجزء الخاص من ثيابهم الذي يقع تحت ملاحظته مباشرة، ونعني به «الأحذية»، ومضى يقول: «عندنا الساق الخشبية في رقم 6، وعندنا زوجان من الروس في رقم 13، وعندنا «نصفان» في التجاري، وهذا الحذاء الطويل الممسوح للجالس في ركن منزو من «محل الشراب» ... وخمسة أحذية طوال أخرى في غرفة القهوة.»
وعاد السيد النحيف يسأله: «أليس هناك آخرون؟»
فأجاب سام وقد تذكر فجأة: «قف لحظة، نعم عندنا زوج أحذية طراز ولنجتون، طال العهد على انتعاله، وزوج من أحذية السيدات في رقم 5.»
وسأله واردل في عجلة، وكان هو والمستر بكوك قد استولى الذهول عليهما عند استعراض أوصاف النزلاء على تلك الصورة: «أي نوع من أحذية النساء هو؟»
فأجاب سام: «من صنع الريف.» - «وهل كتب عليه اسم الصانع؟» - «أي نعم، براون.» - «ومن أي بلد؟» - «من ماجلتون.»
فصاح المستر واردل قائلا: «هما، والله لقد اهتدينا إليهما.»
وعاد سام يقول: «صه، أما الولنجتون فقد ذهب إلى حي (الأطباء).»
وقال السيد النحيف: «كلا، أأنت واثق؟»
فقال: «نعم، لأجل الرخصة.»
وعاد واردل يصيح قائلا: «لقد أتينا في الوقت المناسب هيا، أرنا الحجرة، فلا ينبغي أن نضيع لحظة واحدة.»
وتدخل السيد النحيف قائلا: «أرجوك يا سيدي العزيز، أرجوك، الاحتياط، الاحتياط.» وأخرج من جيبه كيسا من الحرير الأحمر، ونظر طويلا في وجه «سام» وهو يخرج من الكيس جنيها ذهبيا.
وتهللت أسارير سام على مشهده.
وقال السيد النحيل: «أرنا الحجرة في الحال، دون أن تعلن قدومنا.»
فألقى سام الحذاء الطويل الممسوح في ركن، وتقدم الجمع يشق الطريق من خلال دهليز مظلم، ويصعد بهم سلما رحيبا، ووقف في نهاية دهليز آخر، ومد يده، وهمس للمحامي وهو يضع النقود في كفه: «ها هو ذا.»
وتقدم سام بضع خطوات يتبعه الصديقان، ومستشارهما القانوني، حتى وقف بباب هنالك.
وغمغم السيد النحيف قائلا: «أهذه هي الغرفة؟»
فأومأ سام إيماءة الإيجاب.
وفتح الشيخ واردل الباب، ودخل الثلاثة كلهم في اللحظة التي كان فيها المستر جنجل قد عاد من مهمته، ووقف يبرز الرخصة أمام العمة العانس.
ولم تكد هذه تراهم حتى أطلقت صرخة مدوية، وارتمت على مقعد، وغطت وجهها بيديها، وطبق المستر جنجل الرخصة في كفه، ودسها في جيب ردائه، بينما تقدم الزائرون الثقلاء إلى وسط الغرفة، وصاح واردل وهو لاهث من شدة الغضب يقول: «أنت، أنت وغد عجيب، ألست كذلك؟»
وقاطعه السيد النحيف، وهو يضع قبعته فوق النضد: «يا سيدي العزيز ... يا سيدي العزيز! أرجو أن تفكر من فضلك - هذا سب علني يستوجب رفع قضية تعويض، هدئ روعك يا سيدي العزيز - أرجوك!»
وقال الشيخ: «كيف سولت لك نفسك أن تجر أختي من بيتي؟»
وعاد السيد النحيف يقول: «هذا كلام صحيح ... صح، تمام، يجوز لك أن تسأله هذا السؤال، كيف سولت لك النفس يا سيدي؟»
وقال المستر جنجل بلهفة حادة خشنة: «ومن تكون أنت؟»
واضطر السيد النحيف من حدة لهجة السائل وخشونته إلى التراجع خطوة أو خطوتين.
وتدخل واردل قائلا: «من يكون هو أيها الوغد؟ إنه المحامي عني المستر بركر من «جرايزان» ... يا بركر، إنني أصر على مقاضاة هذا الشقي، ومحاكمته، وتخريب بيته، وأنت ... (ملتفتا فجأة إلى أخته) وأنت يا راشل في هذه السن التي كان أولى بك فيها أن تكوني أحكم وأحجى، ماذا تقصدين بالفرار مع متشرد كهذا، وتعريض سمعة أسرتك للعار، والاستهداف لهذا البؤس والشقاء؟ هلمي البسي قبعتك وعودي، ادع لنا مركبة يا هذا في الحال، وهات حساب هذه السيدة، هل سمعت؟ هل أنت سامع؟»
وأجاب سام، وقد جاء مهرولا حين سمع دق الباب بعنف شديد؛ مما يثير الدهشة في نفس أي إنسان لا يعرف أن عينه كانت تطل من خصاص الباب طيلة هذا الحديث الذي دار في الحجرة: «حالا يا سيدي!»
وعاد واردل يقول لأخته: «البسي القبعة!»
وقال جنجل: «لا تفعلي شيئا كهذا، وأنت يا سيدي اخرج من هنا، ليس لك عمل هنا، السيدة حرة تتصرف كما تشاء؛ لأنها تجاوزت الحادية والعشرين.»
وصاح واردل باحتقار: «تجاوزت الحادية والعشرين! قل الحادية والأربعين!»
وقالت العمة العانس، وقد تغلب الغضب في نفسها على اعتزامها الإغماء: «كلا، لم أتجاوزها.»
وأجابها أخوها قائلا: «بل تجاوزتها، أنت لا تقلين عن الخمسين ساعة واحدة!»
وعندئذ أطلقت العمة العانس صرخة شديدة، وغابت عن رشدها.
وبادر المستر بكوك الإنساني الرحيم إلى مناداة ربة الفندق وهو يقول: «كوبا من الماء.»
وصاح واردل في شدة غضبه: «كوبا من الماء! هاتوا جردلا فألقوه على بدنها كله لكي تفيق، إنها تستحق كل ما جرى لها.»
وصرخت ربة الفندق الحنون قائلة: «يا لك من حيوان! ما أشقاك يا أختي!» وطفأت تلاطفها قائلة: «هلمي أفيقي! اشربي قليلا من هذا يفقك، لا تستسلمي هكذا يا حبيبتي.» إلى غير ذلك. وأخذت ربة الفندق بمعونة إحدى الوصيفات تمسح بالخل جبين العمة العانس، وتضرب كفيها، وتدغدغ أنفها، وتفك حمائل ثدييها، وتعطيها المنبهات ما تعطيه النساء الرحيمات عادة للسيدات اللائي يحاولن تهييج أنفسهن، والالتجاء إلى التشنج.
وقال سام وقد ظهر لدى الباب: «المركبة جاءت يا سيدي.»
وصاح واردل: «هيا بنا، سأحملها وأنزل بها السلم.»
وعند هذا الاقتراح عاد التشنج إلى العمة العانس بشدة مضاعفة.
وهمت ربة الفندق بالدخول في احتجاج شديد على هذا التصرف، وبدأت فعلا تغضب وتسأل واردل هل يحسب نفسه رب الخليقة، وعندئذ تدخل المستر جنجل قائلا: «مساح! ادع لي ضابطا ...!»
وأهاب السيد النحيف بالمساح قائلا: «قف، قف.» والتفت إلى المستر جنجل فقال: «فكر يا سيدي، فكر.»
وأجاب هذا: «لن أفكر، إنها سيدة نفسها، وسأرى من الذي سيجرؤ على أخذها، إلا إذا شاءت هي.»
وغمغمت العمة العانس تقول: «لا يمكن أن أوخذ، لا أريد، وهنا عاودتها الغشية المروعة.»
وقال السيد النحيف بصوت خافت وهو ينتحي المستر واردل، والمستر بكوك ناحية: «يا سيدي العزيز، يا سيدي العزيز، إننا في موقف جد حرج، وقضية مؤلمة جدا، لا أذكر أنني شهدت يوما أسوأ منها، ولكن في الحقيقة يا سيدي، في الحقيقة لسنا نملك السيطرة على تصرفات هذه السيدة، وقد حذرتك.»
وسأل المستر بكوك: «بأي نوع من الترضية تشير؟ قبل مجيئنا يا سيدي العزيز إنه لا سبيل أمامنا غير الترضية.»
قال: «إن صديقنا يا سيدي العزيز في موقف لا يسر، في موقف سيء جدا؛ فلنقنع بعرض بعض المال ولو خسرناه.»
وقال واردل: «إنني لأوثر أن أخسر شيئا منه على التسليم بهذه الفضيحة، وتعريض هذه الحمقاء لشقاء مؤبد.»
وقال السيد النحيف الهمام: «أظن أن هذا ممكن ... يا مستر جنجل، تفضل معنا إلى الغرفة المجاورة لحظة .»
وأجاب المستر جنجل الطلب، ودخل الأربعة حجرة خالية، وبدأ السيد النحيف الحديث بعد أن أغلق الباب بعناية فقال: «والآن يا سيدي، هل من وسيلة لتصفية هذه المسألة؟ تقدم خطوة إلى هذه الناحية يا سيدي ولو لحظة.»
تعال إلى النافذة يا سيدي؛ حيث تتيسر الخلوة لنا، هكذا يا سيدي، أرجو أن تجلس يا سيدي، والآن يا سيدي العزيز بيني وبينك إننا نعرف حق المعرفة أنك هربت مع هذه السيدة من أجل المال، لا تعبس يا سيدي، لا تعبس، بيني وبينك نحن نعرف ذلك، ونحن - أنا وأنت - من الرجال الذين يعرفون شئون العالم، ولا يخفى علينا نحن أن هذين الصديقين ليسا كذلك؟»
وبدأ وجه المستر جنجل ينطلق شيئا فشيئا، ويزول العبوس منه، ولاح شيء يشبه الاختلاج لحظة خاطفة في عينه اليسرى.
وقال السيد النحيف وقد لاحظ هذه الاختلاجة التي أحدثها كلامه: «حسن جدا ... حسن جدا، والواقع أن السيدة لا تملك شيئا كثيرا، بل إنها عدا بضع مئات لا تملك في الحقيقة شيئا قبل وفاة أمها، ولكن أمها يا سيدي العزيز عجوز دردبيس، وصحتها قوية.»
وقال المستر جنجل بإيجاز، ولكن بتأكيد: «عجوز!»
ومضى المحامي يقول وهو يسعل سعلة خفيفة: «أي نعم يا سيدي العزيز، إنها عجوز تقريبا، ولكنها سليلة بيت قديم، نعم يا سيدي العزيز، قديم بكل معنى الكلمة، لقد جاء مؤسس هذه الأسرة إلى ولاية «كنت» حين غزا يوليوس قيصر أرض بريطانيا، ولم يحدث يوما أن فردا من الأسرة - اللهم إلا واحدا - لم يعش إلى الخامسة والثمانين، ولكن هذا الواحد مات شنقا في عهد هنري ما، هنري هذا أو ذاك، والسيدة العجوز في الثالثة والسبعين فقط الآن يا سيدي العزيز.»
وتمهل السيد النحيف، وتناول قدرا من سعوطه.
وقال المستر جنجل: «وماذا أيضا؟»
قال: «والآن ألا تتنشق؟ هذا أفضل كثيرا، عادة كثيرة التكاليف، وأنت يا سيدي العزيز شاب ملم بشئون الدنيا، وفي إمكانك أن تدفع بحياتك إلى الأمام إذا توافر لك شيء من المال.»
وعاد المستر جنجل يقول: «وماذا أيضا؟»
قال: «هل تفهم مرادي؟»
أجاب: «ليس كثيرا.»
قال: «ألا ترى يا سيدي العزيز؟ دعني أصارحك، ألا ترى أن خمسين جنيها والحرية خير من واردل والانتظار؟»
وعندئذ نهض المستر جنجل من مجلسه، وهو يقول: «لا يكفي، بل لا يكفي ولا نصف الكفاية.»
ولكن السيد النحيف أمسك به من زر ثوبه محتجا وهو يقول: «حسن، حسن، انتظر يا سيدي العزيز، رقم مستدير بديع، يستطيع رجل مثلك أن يبلغ به ثلاثة أضعافه في وقت قصير، إن خمسين جنيها يا سيدي العزيز تعمل عملا كبيرا.»
وقال المستر جنجل ببرود: «ومائة وخمسون تعمل أكثر.»
وعاد السيد النحيف يقول: «حسن ... يا سيدي العزيز، لا يصح أن نضيع الوقت في تجزئة القش، قل ... قل سبعين!»
قال: «لا يكفي.»
وقال المحامي: «لا تذهب يا سيدي العزيز، ولا تسرع، ثمانين، هلم، سأكتب لك صكا بها في الحال.»
وعاد المستر جنجل يقول: «لا تكفي.»
وقال السيد النحيف وهو يمسك به: «حسن، حسن، يا سيدي العزيز، قل لي أنت ما الذي يكفي إذن؟»
وأجاب المستر جنجل: «مسألة كلفتني نفقات كثيرة دفعتها من جيبي ... أجور سفر تسعة جنيهات ... رخصة ثلاثة جنيهات ... الجملة اثنا عشر جنيها ... ومائة بصفة تعويض ... تكون الجملة 112 ... إخلال بالتعهد، وفقدان السيدة ...»
وقال السيد النحيف بنظرة العارف: «نعم يا سيدي العزيز، نعم ولكن دعنا من الفقرتين الأخيرتين، يعني مائة واثني عشر جنيها، فلنقل مائة فقط، هيا!»
وأجاب المستر جنجل: «مائة وعشرون.»
وقال السيد النحيف بنظرة العارف: «نعم يا سيدي العزيز صكا بها.»
وجلس إلى المنضدة لتنفيذ هذا الاتفاق.
وقال وهو ينظر إلى المستر واردل: «سأجعل الوفاء بعد غد، وفي الوقت ذاته يمكننا أن نأخذ السيدة الآن.»
وأومأ المستر واردل إيماءة الموافقة وهو غاضب.
وقال المستر بركر: «مائة.»
وعاد المستر جنجل يقول: «مائة وعشرون.»
واحتج السيد النحيف قائلا: «يا سيدي العزيز!»
وتدخل المستر واردل فقال: «أعطه القدر المطلوب، ودعه يذهب.»
وتم تحرير «الصك»، ودسه المستر جنجل في جيبه.
ونهض المستر واردل وهو يقول: «والآن انصرف من هذا المكان في الحال!»
وقال السيد النحيف «يا سيدي العزيز ...»
وعاد المستر واردل يقول: «ولا تنس أنه ما كان شيء في هذا العالم ليحملني على هذا الحل، حتى ولا الإبقاء على كرامة أسرتي، لو لم أعرف أنك في اللحظة التي ستذهب فيها، والمال في جيبك هذا، ذاهب إلى الشيطان أسرع ما تكون خطى، وأعجل إذا أمكن مما كنت إليه ذاهبا، وأنت لا تملك منه شيئا.»
وعاد السيد النحيف يحتج قائلا: «يا سيدي العزيز ...!»
واستتلى واردل يقول: «اسكت يا بركر. وأنت يا سيدي انصرف من الحجرة.»
وأجاب المستر جنجل بكل صفاقة: «حالا ... وداعا يا بكوك! إلى الملتقى.»
ولو أن امرءا هادئ الطبع رأى وجه ذلك الرجل العظيم الذي وسم هذا الكلب باسمه، خلال الجزء الأخير من ذلك الحديث، لكاد يعجب لنار الغضب التي تأججت في عينيه كيف لم تذب زجاجة منظاره، فقد كان غضبه رهيبا جليلا، وخيشومه راعشا، وقبضتا يديه مجتمعتين رغم إرادته، حين سمع اسمه ينبعث من فم ذلك المجرم الأثيم، ولكنه كبح جماح غضبه مرة أخرى، فلم ... «يسحقه»!
ومضى ذلك الخائن الغليظ يقول وهو يلقي بالرخصة عند قدمي المستر بكوك: «خذ وغير الاسم، وعد بالسيدة إلى البيت، إنها تصلح لطبي ...»
وكان المستر بكوك فيلسوفا، ولكن الفلاسفة مع ذلك ليسوا إلا بشرا يلبسون دروعا تقيهم الطعن والضرب، وقد أصابه السهم، ونفذ في دروعه الفلسفية إلى صميم قلبه فأصمه، وفي جنة الغضب الذي استولى عليه راح يقذف بالدواة إلى الأمام في جنون، ويندفع هو نفسه وراءها، ولكن المستر جنجل كان قد توارى؛ فوجد المستر بكوك نفسه في أحضان «سام»!
وصاح هذا العامل الشاذ الغريب الأطوار: «ها! يظهر أن الأثاث رخيص في البلد الذي جئت منه يا سيدي، هذا حبر يكتب بنفسه يا سيدي، ألا ترى كيف كتب علامتك على الجدار أيها السيد الكبير؟ هدئ روعك يا سيدي، ما الفائدة من الجري وراء رجل ظفر بالحظ، ووصل إلى الطرف الآخر من الضاحية في هذه اللحظة؟»
وكان عقل المستر بكوك كعقول بقية العظماء حقا مهيأ للاقتناع، وهو المفكر السريع القوي العارضة ، فلا غرو إذا كانت لحظة تفكير واحدة كافية لتذكيره بأن غضبه لا أثر له، ولا جدوى منه، فلم يلبث أن هدأ بالسرعة ذاتها التي هاج بها وثار، وراح يلهث وينظر نظرة حنان وطيبة إلى صديقيه.
والآن، هل نحدثكم عن العويل الذي جرى حين وجدت مس واردل نفسها مهجورة، قد تخلى عنها جنجل الغادر؟ وهل نحدثكم بشيء مما كتبه المستر بكوك من وصف رائع لذلك المشهد الذي يقطع نياط القلوب؟»
إن كناشته التي محت أسطرها دموع العطف الإنساني مبسوطة الساعة منثورة بين أيدينا، وكلمة واحدة تذهب بها إلى أيدي الصفاقين والطامعين ... ولكن كلا! ينبغي أن نحزم الأمر، فلا نهز صدر الجمهور برسم ذلك الألم الشديد.
وحسبنا أن نقول: إن الصديقين والسيدة المهجورة عادوا بحزن ووجوم وبطء إلى البيت في غداة اليوم التالي في مركبة ماجلتون الكبيرة، كانت ظلال المساء القاتمة قد غمرت ما حولهم حين وصلوا إلى «دنجلي ديل»، ووقفوا في مدخل «ضيعة مانور».
الفصل الحادي عشر
رحلة أخرى - وكشف أثري - وتسجيل اعتزام المستر بكوك حضور معركة انتخابية - ومخطوط من القسيس الشيخ. ***
وكانت ليلة هدوء وراحة في ذلك السكون التام الذي يحيط بمزرعة «دنجلي ديل»، وساعة كاملة في استنشاق أنسامها العليلة، وهوائها العطر، في صباح اليوم التالي، كافية لاستجمام المستر بكوك من أثر تعبه الجثماني الأخير، وقلقه النفسي، فقد غاب هذا الرجل العظيم عن أصحابه ومريديه يومين كاملين، فلا غرو إذا هو شعر بقدر من السرور والابتهاج، لا يستطيع الخيال العادي أن يتصوره على حقيقته، حين تقدم خطوة للسلام على المستر ونكل، وتحية المستر سنودجراس، عندما التقى بهما بعد عودته من رياضته في بكرة الصباح.
وكان السرور متبادلا، ومن ذا الذي ينظر إلى وجه المستر بكوك المشرق المتهلل، ولا يشعر بهذا الشعور؟ ولكن بدت على صديقيه غمامة لم تكن لتفوت عين ذلك الرجل العظيم، أو تخفى على مشاعره، وإن عجب وحار في تعليلها، فقد كان يلوح عليهما معا شيء غريب، غير مألوف، بل مزعج أيضا.
وقال المستر بكوك وهو يتلقى صاحبيه باليدين، ويبادلهما أصدق التحيات والترحاب: «وكيف حال طبمن؟»
ولم يحر المستر ونكل جوابا، وإن كان السؤال موجها إليه خاصة، أو أكثر من صاحبه، بل أشاح بوجهه، وبدا عليه الاستغراق في تفكير أليم.
وعاد المستر بكوك يقول بجد: «كيف حال صديقنا يا سنودجراس؟ إنه ليس مريضا؟»
وأجاب المستر سنودجراس وقد تحيرت دمعة في مآقيه كقطرة من قطرات المطر على إطار نافذة: «كلا، ليس مريضا.»
ووقف المستر بكوك ينقل عينيه في صديقيه.
قال: «ونكل، سنودجراس، ما معنى هذا، أين صديقنا، وما الذي حدث؟ تكلما أستحلفكما بالله، أناشدكما، بل آمركما أن تتكلما.»
وكانت دعوة المستر بكوك إليهما مقترنة برهبة وجلال لا يستطيعان مقاومتهما.
وهنا قال المستر سنودجراس: «لقد ذهب!»
فصاح المستر بكوك: «ذهب! ذهب!»
وعاد المستر سنودجراس يقول: «ذهب.»
وصاح المستر بكوك قائلا: «إلى أين؟»
وأجاب المستر سنودجراس وهو يخرج كتابا من جيبه، ويضعه في يد صديقه: «ليس في وسعنا غير الحدس والتخمين بعد قراءة هذا الكتاب، وقد لوحظ صباح أمس حين وصل كتاب من المستر واردل، يقول فيه إنه عائد مع أخته ليلا، أن الكآبة التي كانت مخيمة على صديقنا طيلة اليوم السابق قد أخذت تشتد، ولم يلبث أن اختفى سحابة النهار كله، وجاء بهذا الكتاب في المساء رسول من فندق «الكراون» في ماجلتون، وقال إنه تركه لديه في الصباح مع تعليمات مشددة بألا يسلم الكتاب قبل حلول المساء.»
وفض المستر بكوك الرسالة، فوجدها بخط صاحبه، وهي تحوي هذه الكلمات:
عزيزي بكوك:
إنك يا صديقي العزيز بعيد بمراحل من منال كثير من مواطن الضعف الخلقي التي لا يستطيع الناس الغلبة عليها، ولست تدري ما مدى مصاب رجل حين تهجره فجأة إنسانة محببة، ومخلوقة فاتنة، وحين يقع فريسة لاحتيال مجرم شقي، جعل يخفي بسمة الخبث والمكر خلف قناع المودة، وأرجو الله أن لا يعرضك يوما لمثل هذا المصاب ...
إن أي كتاب يرسل بعنواني هذا: «لذر بوتل - قربة الجلد، كوبهام - كنت» سيجدني، إذا فرضنا أنني سأظل حيا، إني مسارع من مشهد هذه الدنيا التي أصبحت قبيحة نكراء في عيني، فإن أنا سارعت من هذا العالم كله، فرحمة بي، ومغفرة لي.
إن الحياة يا عزيزي بكوك لم تعد تطاق عندي أو تحتمل، وإن الروح التي تحترق فينا لأشبه بعقدة الحمال يريح عليها المرء أثقال همومه، وأحمال متاعبه، فإذا هي خذلتنا، لم نعد نطيق لأحمالنا وأعبائنا احتمالا، بل نروح تحتها ... لك أن تنبئ راشل ... آه ... من ذلك الاسم! ...
تراسي طبمن
وانثنى المستر بكوك يقول وهو يطوي الكتاب: «يجب أن نغادر هذا المكان في الحال ... ما كان يجمل بنا أن نمكث فيه بأي حال بعد الذي جرى، ونحن الآن مضطرون إلى السفر لافتقاد صديقنا.»
ومشى في المقدمة صوب البيت.
وبادر إلى إعلان عزيمته، وكانت دعوات القوم له ومناشدتهم إياه البقاء صادقة ملحة، ولكن المستر بكوك لم ينثن عن عزمه، ولم يلن لرجاء، معتذرا بأن عملا كثيرا يقتضيه الاهتمام العاجل به.
وكان القسيس الشيخ حاضرا، فانتحى بالمستر بكوك ناحية، وأنشأ يقول: «لا أحسبك ذاهبا في الواقع، أذاهب حقا؟»
فردد المستر بكوك القول بأنه فعلا مسافر.
وقال السيد الكبير: «إذن هاك مخطوطا صغيرا كنت أرجو أن تتاح لي متعة قراءته عليك بنفسي، فقد عثرت عليه عند وفاة صديق لي من المشتغلين بالطب في مستشفى الأمراض العقلية ببلدنا، مع جملة أوراق أخرى ترك لي الخيار بين إتلافها، أو الإبقاء عليها إذا رأيتها تستحق الحرص عليها، ولا أكاد أعتقد أنه مخطوط حقيقي، وإن كان من المؤكد أنه ليس مكتوبا بخط صاحبي، ولكن لتقرأه، ولتحكم بنفسك، سواء كان حقيقة من وضع رجل مجنون فعلا أو مبينا على تخريفات إنسان معذب، وهو ما أعتقد أنه الأرجح.»
وتناول المستر بكوك المخطوط، وودع الشيخ الخير الطيب، مبديا له كثيرا من الاحترام وصادق الدعوات.
وكان توديع أهل الضيعة الذين أكرموا مثواهم، وأحسنوا وفادتهم أشق وأصعب من توديع ذلك الشيخ، وأقبل المستر بكوك على الفتاتين يقبلهما، وقد هممنا أن نقول كما لو أنهما ابنتاه، لكن المقارنة ما كانت تصح، وإن كان من الجائز أن يبث في هذا السلام قدرا أكبر من الحرارة، كما عانق السيدة العجوز عناق الابن لأمه، وربت بكفه خدود الخادمات في أبلغ صورة الأبوة وأصدق مظاهرها، وهو يدس في كف كل منهن بعض الأدلة المادية على رضاه وارتياحه. وكان تبادل التحيات بينهم وبين مضيفهم الكريم الكبير، والمستر تراندل أبلغ كثيرا من ذلك، وأطول أمدا، ولم يتمكن الأصحاب الثلاثة من الإفلات من مكرميهم إلا بعد أن نودي مرارا على المستر سنودجراس، فخرج أخيرا من دهليز مظلم، وتبعته وشيكا إملي، وكانت عيناها البراقتان تلوحان قاتمتين على غير العادة، وراحوا يلقون عدة نظرات إلى الضيفة، وهم سائرون في طريقهم بخطى بطيئة، وكم من قبلة حملها المستر سنودجراس الريح؛ ردا على شيء يشبه منديل سيدة كان ملوحا به من إحدى النوافذ العليا، حتى بلغوا منعرجا في طريقهم؛ فاحتجب البيت عن أنظارهم.
ولما وصلوا إلى ماجلتون استأجروا مركبة تقلهم إلى روشستر، وكانت شدة حزنهم قد خفت عند بلوغها إلى حد سمح لهم بتناول عشاء مبكر شهي فاخر، وبعد أن ظفروا بمعلومات ضرورية تتصل بالطريق إلى الوجهة المقصودة، عاودوا المسير إلى «كوبهام» مع الأصيل.
وكان السير بهيجا، فقد كان الأصيل جميلا في أحد أيام شهر يونية، وكان طريقهم يشق صميم غابة مترامية ظليلة، تهب عليها الأنسام فترسل حفيفا رفيقا وسط أوراق الشجر الألفاف، ويزيدها لطفا وجمالا شدو الأطيار الجامحة فوق الأغصان، ويتسلل خلالها اللبلاب والطحلب في عناقيد كثيفة متلوية حول الدوح، ويكسو العشب الناضر اللين الأرض بساطا من سندس، وما زالوا يسيرون في وسط تلك الغابة حتى ألموا على أرض فضاء، وبستان نضير، وبناء قديم، يدل طرازه الأثري الجميل على أنه يرجع إلى عهد الملكة «إليزابث»، وتبدو على كل جانب صفوف طوال من أشجار السرو الرائعة الفخمة، وأسمطة من «الدردار»، وتشاهد قطعان كبيرة من الغزلان وهي ترعى الكلأ الندي الصبيح، وبين الفينة والفينة يتراءى أرنب بري وجل يعيث في الأرض، ويجول في رحابها بسرعة الظلال التي تلقيها السحب الخفاف الخاطفة على ذلك المشهد المشمس، كأنها أنفاس عابرة انبعثت من أعماق صدر الصيف.
وقال المستر بكوك وهو يجيل العين فيما حوله: «يخيل إلي أنه لو كان هذا هو الموضع الذي يأتي إليه كل الذين يشكون مما يشكو منه صاحبنا، لعاودهم وشيكا تعلقهم القديم بهذا العالم.»
وقال المستر ونكل: «وهذا رأيي أيضا.»
ومضى المستر بكوك - بعد أن أوصلهم المسير نصف ساعة إلى القرية - يقول: «وفي الحق، إن هذا الموضع أصلح ما يختاره كاره الناس، وأجمل نزل، وأشهى مستقر رأيته في حياتي.»
وأبدى كل من المستر ونكل والمستر سنودجراس موافقته أيضا على هذا الرأي.
وبعد الاهتداء إلى حانة لذربوتل، وهي حانة قروية نظيفة رحيبة لشرب الجعة، دخل المسافرون الثلاثة وسألوا في الحال عن سيد يدعى «طبمن».
وقالت ربة الحان: «أر السادة قاعة الجلوس يا توم!»
وفتح غلام ريفي ضخم البدن بابا في نهاية الردهة، فدخل الأصدقاء الثلاثة حجرة مستطيلة خفيضة السقف، فرشت بعدد كبير من المقاعد ذات ظهور ومساند مرتفعة، ووسائد من الجلد غرائب الأشكال، وازدانت جدرانها بعدة رسوم قديمة مختلفة الألوان، وصور أثرية أخرى، وفي طرفها الأقصى تقوم مائدة مكسوة بغطاء أبيض، وقد صفت عليها دجاجة مشوية، ولحم خنزير، وشراب وما إليه، وقد جلس إليها المستر طبمن، وهو أبعد ما يكون شبها بالرجل الذي أراد أن يودع العالم ويترك الحياة.
وما إن دخل الصحب عليه، حتى وضع السكين والشوكة فوق المائدة، وتقدم للقائهم تبدو عليه سمات الكآبة والأحزان.
قال وهو يتناول يد المستر بكوك: «لم أكن أتوقع لقاءكم هنا، إن هذا منكم لكريم.»
وقال المستر بكوك وهو يجلس ويمسح عن جبينه العرق الذي تصبب من طول المسير: «آه، أكمل غداءك، وتعال سر معي، فإني أريد أن أتحدث إليك على انفراد.»
ففعل «طبمن» كما طلب إليه، وبعد أن أنعش المستر بكوك نفسه برشفة طيبة من الشراب، لبث ينتظر صديقه حتى ينتهي من طعامه على مهل، ولكن الطعام انتهى عاجلا، فانطلقا يسيران معا.
وكانا يبدوان خلال فترة تقرب من نصف ساعة رائحين غاديين في فناء الكنيسة، ويلوح المستر بكوك من بعيد منهمكا في مقاومة الأمر الذي اعتزم صديقه الإقدام عليه، وليس ثمة فائدة من تكرار أقواله هنا وحججه؛ إذ ليت شعري أية لغة يمكن أن تعبر عن تلك القوة التي راح صاحب تلك الحجج البادهة يستعين بها على شرحها، ولا يهمنا أن نعرف هل كان المستر طبمن قد برم فعلا بالعزلة التي أرادها، أو شعر بأنه العاجز كل العجز عن مقاومة تلك المناشدة البليغة التي سمعها من صاحبه، وإنما كل ما يهمنا أنه سلم في النهاية، وانثنى عن المقاومة، وأنشأ يقول إنه لم يعد يهمه أن يقضي البقية التعسة من أيامه في هذه الدنيا، ولكن ما دام صديقه قد أصر على أن يصحبه، ورضي برفقته الذليلة، فلا يسعه إلا قبول مقاسمته أسفاره ومخاطره.
وابتسم المستر بكوك، وتصافح الصديقان، وعادا أدراجهما ليوافيا رفيقيهما الآخرين.
وفي تلك اللحظة بالذات تواتى للمستر بكوك ذلك الكشف الخالد الذي كان موضع فخار أصدقائه واعتزازهم، ومثار حسد كل عالم أثري في هذا البلد وسواه، فقد حدث وهما يجتازان الفندق، ويبتعدان قليلا في بعض أرجاء القرية أن تذكرا البقعة بالذات التي يقوم فيها، فتلفتا وراءهما، وعندئذ وقعت عين المستر بكوك على حجر صغير مكسور، يبدو جزء منه مدفونا في الأرض أمام باب كوخ، فوقف لحظة ينظر، ثم أنشأ يقول: «إن هذا لشيء عجاب!»
وقال المستر طبمن، وهو ينظر بلهفة إلى كل ما هو منه قريب، ويحدق في كل شيء ببصره، عدا الشيء الذي يعنيه صاحبه: «ما هو هذا العجاب؟ يا عجبا ... ما الخطب، وما الأمر؟»
وكانت هذه العبارة الأخيرة صيحة تنم على الدهشة الشديدة، سببها أنه رأى المستر بكوك في حماسته للكشف، وولوعه بالتنقيب، يجثو على ركبتيه أمام ذلك الحجر الصغير، ويشرع في إزالة الغبار الذي علاه بمنديله.
وقال المستر بكوك: «أرى نقشا هنا!»
وقال المستر طبمن: «أممكن هذا؟»
ومضى المستر بكوك يقول، وهو يحكه بكل ما أوتي من قوة، وينظر بانتباه بالغ من خلال منظاره: «إنني ألمح صليبا، وأتبين حرف الباء، ثم حرف «التاء»؛ هذا شيء من الخطر بمكان، إنه بعض نقوش قديمة لعلها ترجع إلى ما قبل قيام الملاجئ القديمة في هذا الموضع بأمد طويل.»
ودق برفق باب الكوخ، فخرج له رجل يعمل في الأرض، فبادره المستر بكوك الخير الكريم بالسؤال قائلا: «هل تعرف يا صديقي كيف أتى هذا الحجر إلى هنا؟»
وأجاب الرجل بأدب قائلا: «كلا، لا أعرف يا سيدي، إنه كان هنا قبل أن أولد أو يولد أحد منا بعهد طويل.»
فنظر المستر بكوك إلى رفيقه نظرة المنتصر.
وانثنى يسأل الرجل وهو يهتز من شدة الفضول: «إنك، إنك ... أحسبك لا توليه اهتماما خاصا، فهل ترضى أن تبيعه الآن؟»
وسأل الرجل وقد بدت على وجهه من الأمارات ما يغلب على الظن أنه ينم عن المكر الشديد: «ولكن من ذا يرضى أن يشتريه؟»
وقال المستر بكوك: «سأعطيك عشرة شلنات في الحال إذا أنت حملته من مكانه لأجلي.»
ومن السهل أن تتصور مبلغ الدهشة التي استولت على القرية، حين رأوا المستر بكوك بعد أن تم انتزاع ذلك الحجر الصغير بضربة فأس واحدة، يحمله بجهد شديد بكلتا يديه إلى الفندق، ويضعه فوق المنضدة بعد مسحه بعناية وتنظيفه.
أما فرح البكوكيين وسرورهم به، فقد جاوزا الحدود، حين رأوا بعد الصبر والمثابرة على التنظيف والتشطيف والحك والدعك أن جهدهم كلل بالنجاح.
وكان الحجر غير مستوي الأطراف، وكانت الحروف المنقوشة عليه متباعدة، وغير منتظمة، ولكن الجزء التالي من النقش كان جليا واضحا:
ب أ ل س ت
B I L S T
أ م
U M
ب ش ي
س م
S. M.
أ ر ك
A R K
ولم تلبث عينا المستر بكوك أن برقتا بريق سرور بالغ، وقد جلس ينظر إلى هذا الأثر النفيس الذي كشفه منهوم العين، فقد حقق مطمعا من أكبر مطامعه، وقد تواتى له في إقليم عرف بكثرة ما فيه من آثار العصور الغابرة، وفي قرية لا تزال تحوي شيئا من تذكارات الأجيال الماضية، وقد تواتى له، وهو رئيس نادي بكوك أن يكشف نقشا غريبا عجيبا، لا نزاع في قدمه، نقشا غاب عن أعين كثير من العلماء الذين سبقوه، حتى لم يكن يصدق حواسه، أو يعتمد على شهادة مشاعره.
وقال لأصحابه: «هذا ... هذا هو الذي يحدوني إلى تقرير خطتي، سنعود إلى المدينة غدا.»
وصاح مريدوه المعجبون به: «غدا؟»
قال: «أجل غدا، إن هذا الكنز الثمين يجب أن يوضع في الحال حيث يتسنى فحصه، والتقصي في دراسته، وفهمه على حقيقته، وأدى سبب آخر لاتخاذ هذا التدبير، وهو أنه بعد بضعة أيام سيجرى انتخاب عن دائرة «إيتنزول» التي سيتولى فيها المستر بركر - وهو سيد التقيت من عهد قريب به - تأييد أحد المرشحين، وفي نيتي أن نشهد وندرس بدقة مشهدا ممتعا لنفس كل إنكليزي أقصى غاية الإمتاع.»
وصاح الرفقاء الثلاثة في نفس واحد بحماسة: «سنشهده حتما!»
وأدار المستر بكوك عينيه فيما حوله، فلم تلبث حمية مريديه، وشدة تعلقهم به أن أججتا جذوة الحماسة في صدره.
لقد كان زعميهم، وقد أحسن هذه الزعامة حقا.
قال: «لنحتفل بهذا الاجتماع السعيد في شراب ومرح.»
وتلقى أصحابه هذا الاقتراح الجديد بمثل ما تلقوا به الاقتراح الأول من الموافقة والارتياح العام، وبعد أن تولى بنفسه إيداع الحجر الخطير الشأن جوف صندوق صغير من الخشب، اشتراه من ربة الفندق لهذا الغرض، جلس في مقعد رحيب عند رأس المائدة، وترك المساء ينقضي كله في مهرجان وسمر.
وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة - وهو وقت متأخر بالنسبة لسكان قرية كوبهام الصغيرة - حين أوى المستر بكوك إلى غرفة النوم التي كانت قد أعدت لاستقباله، ومضى يفتح النافذة، ويضع مصباحه على المائدة، ويسبح في زاخر من الأفكار والتأملات بسبيل الأحداث السريعة التي جرت في اليومين السابقين.
وكان الزمان والمكان معا ملائمين للتأمل، صالحين للتفكير، فلم ينتبه منهما إلا على دق ساعة الكنيسة الثانية عشرة، وكانت الدقة الأولى قد رنت رهيبة الوقع في أذنه، ولكن السكون حين كفت الساعة عن الدق بدا غير محتمل، كأنه شعر بأنه قد فقد رفيقا؛ فاضطربت أعصابه، وهاجت هائجته، فأسرع إلى خلع ثيابه، ورفع المصباح فوق طنف المدفأة، وأوى إلى فراشه.
وكل إنسان منا قد جرب تلك الحالة النفسية السيئة التي يحاول فيها الشعور بالتعب الجثماني مغالبة الأرق عبثا، ومقاومة استعصاء النوم عليه، وكانت تلك حال المستر بكوك في هذه اللحظة، فقد راح أولا يتململ على أحد جنبيه، ثم مضى ينقلب على الجنب الآخر، ويغمض عينيه بإلحاح كأنما يداعب النوم مداعبة، ويغري نفسه بالاستسلام إليه ... ولكن ذلك كله لم يجد نفعا، ومهما يكن من شيء، سواء كان الإجهاد الذي عاناه ولم يكن يألفه، أو كانت حرارة الجو، أو البراندي والماء، أو نومه في فراش غريب عليه، فقد لبثت أفكاره تعود بشكل متعب إلى الصور البشعة المعلقة فوق الجدران في الطبقة الأولى من الفندق، والقصص القديمة التي أثارتها في فترة المساء، وبعد أن قضى نصف ساعة في مغالبة غير منتجة، وصل إلى قرار متعب، وهو أن لا فائدة من محاولة النوم، ونهض من فراشه، فارتدى بعض ثيابه وهو يقول لنفسه إن تأدية عمل ما خير من الرقاد في الفراش، وتصور كل ضروب المفزعات، وأطل من النافذة، وكان الظلام شديدا، فعاد يمشي في الغرفة ذهوبا وجيئة، وبدت الغرفة لخاطره قفرا موحشة.
وبعد أن لبث لحظة يدور بين النافذة والباب، ومن الباب إلى النافذة، خطر بباله لأول مرة ذلك «المخطوط» الذي تلقاه من القسيس، فاستروح إلى الفكرة، وبدا له أنه إذا لم يجد قراءته ممتعة، فلعله سيدفع به إلى النوم، فأخرجه من جيب ردائه، وقرب مائدة صغيرة من سريره، وأصلح ذبالة المصباح، ووضع المنظار على عينيه وتهيأ للقراءة، وكان الخط غريبا، والورق ملطخا ممحوا في عدة أجزاء منه، وما لبث العنوان أن أحدث هزة فجائية في نفسه كذلك، فلم يتمالك نفسه من إلقاء نظرة ترقب وتوجس حول الغرفة، ولكنه عاد يفكر في سخف الاستسلام لهذا الشعور، فأصلح من ذبالة المصباح مرة أخرى، وأنشأ يقرأ القصة التالية:
قصة مجنون كتبها بخط يده
نعم ... قصة مجنون ... ما كان أشد وقع هذه الكلمة في قلبي، لو قيلت منذ عدة سنين، ولكم كانت ستثير الرعب الذي كان يتملكني أحيانا، ويجعل الدم يصفر ويطن في عروقي، حتى ليقف العرق البارد من الخوف قطرات كبارا على بشرتي، وترعش فرائصي من الفزع! ولكني الآن أستطيب ذلك الوصف واستروح إليه، إنه اسم بديع، أروني الملك الذي يخشى من عبسة غضبه مثل ما يخشى من حملقة المجنون، أو تروح حباله ومقصلته يوما مضمونة نصف ضمانة قبضة المجنون على الرقاب، أجل، أجل! إنه لشيء عظيم أن يكون المرء مجنونا، وأن يطل عليه كما يطل على الأسد المفترس من خلال قضبان قفصه الحديدية، وأن يصرف بأسنانه، ويعوي ويزمجر في سكينة الليل الطويل وهدأته، على رنين أصفاده، ولحن سلاسله الثقال، وأن ينقلب ويتلوى بين أكداس الفتن، نشوان ثملا بتلك الموسيقى العذبة الأنغام، مرحى لدار المجانين؛ إنها لمكان نادر، وموضع بديع!
إني لأذكر أياما كنت فيها خائفا من أن أصبح مجنونا؛ أياما اعتدت خلالها أن أستيقظ من نومي فأجثو ضارعا إلى الله أن ينجيني من النقمة التي حلت بقومي، وكنت فيها أنفر من مشهد المرح والفرح، لأختبئ في مكان منعزل، أو ركن مهجور، وأقضي الساعات الطوال مراقبا سير الحمى التي كانت تأكل عقلي أكلا، فقد كنت أعلم أن الجنون ممتزج بدمي ذاته امتزاجا، مختلط بنخاع عظامي اختلاطا، وأن جيلا بأكمله مر سليما لم تظهر فيه على أحد من أهلي أعراض هذا المرض وأدلته، وأنني سوف أكون أول من سيتجدد فيه، ويعاود الظهور عليه. لقد كنت أعلم أن الأمر سيكون كذلك «حتما»؛ لأنه هكذا كان من قبل، وكذلك سيكون من بعد، فكنت كلما قبعت في ركن مظلم من غرفة مزدحمة بالناس، ورأيتهم يتهامسون ويشيرون إلي ويديرون أعينهم نحوي، أيقنت أنهم إنما كانوا يتحدثون عن هذا المخلوق الذي قضي عليه بالجنون، فكنت أتسلل منصرفا إلى العزلة والاكتئاب.
وكذلك فعلت عدة سنين، أي والله عدة سنين طوال؛ إن الليالي هنا طويلة أحيانا، طويلة مفرطة في الطول، ولكنها ليست شيئا يذكر إذا قيست بتلك الليالي القلقة التي كانت تتخللها الأحلام المفزعة، والرؤى البشعة، التي كلما ذكرتها الآن جعلت الدم يجمد في عروقي، لقد كانت تتراءى لي في زوايا الحجرة صور ضخمة مهزوزة، ذوات وجوه ماكرة، وسحنات مستهزئة ساخرة، تقترب مني فتنحني ليلا فوق مضجعي، لتغريني بالجنون وتزينه لخاطري. لقد مضت تحدثني في همس خافت أن أرض البيت القديم الذي مات فيه جدي لأبي ملطخة بدمه، وأنه هو الذي أراقه بيده في ثورة جنون استولت عليه، فكنت أدخل أناملي العشر في أذني حتى لا أستمع إلى حديثها، ولكنها كانت تصرخ في رأسي حتى تدوي أرجاء الحجرة بصراخها، وكانت تقول لي: إن الجنون كان قد هجع وسكن قبل جدي لأبي بجيل من الزمان، ولكن جده هو عاش أعواما مقيد اليدين بالأصفاد؛ حتى لا يتمكن من تمزيق جسده بهما، وتقطيع أوصاله إربا. وكنت أعلم أن الحق هو ما قالت ... كنت أعرف ذلك حق المعرفة، وقد اهتديت إليه قبل ذلك بسنين، وإن حاولوا إخفاء هذه الحقيقة عني. ها، ها، لقد كنت أمكر منهم وأدهى، وإن حسبوني يومئذ مجنونا.
وأخيرا استولي الجنون علي، فعجبت لنفسي كيف كنت من قبل أتوجس منه خوفا، وأنا الآن أستطيع أن أشق طريقي في هذا العالم، وأضحك وأصرخ بين خيار أهله وصفوة بنيه؛ لقد أدركت أنني مجنون، ولكن الناس لم تخطر بأذهانهم شبهة ولا ريبة في أنني كذلك، ولكم رحت أعانق نفسي من فرط السرور كلما فكرت في الخدعة البديعة التي مضيت أخدعهم بها بعد تلك الإشارات التي كانوا يشيرون بها نحوي، والسخرية التي ينظرون بها صوبي، حين لم أكن مجنونا، بل كنت موجسا فقط من أن أصبح كذلك في يوم من الأيام، ولكم كنت أضحك فرحا واغتباطا كلما وجدتني منفردا، وتمثلت في خاطري كيف كتمت عنهم سري، وكم تخيلت أصدقائي المشفقين وهم مسارعون إلى الابتعاد عني، والانفضاض من حولي، إذا هم عرفوا الحقيقة وأدركوها، ولكم هممت بأن أصرخ من فرط اللذة كلما خلوت إلى طعام برجل منهم ضحوك ممراح، وتصورت كيف سينقلب وجهه شاحبا مسفوعا، وكيف سيطلق للريح ساقيه إذا هو عرف أن هذا الصديق العزيز الذي يجلس بقربه، ويشحذ سكينا لامع النصل في يده ... مجنون، أوتي كل القوة ، ونصف الإرادة، في تغييبه ذلك النصل في صميم قلبه. أواه، لقد كانت حياة مرحة مليئة بالبهجة واللذات!
لقد أصبح اليسار في هذا العالم لي، والثراء يتدفق علي تدفقا، وأنا أعربد وألهو بنعم ومتع زادها أضعافا مضاعفة شعوري بسري المكتوم، لقد ورثت عقارا، وخدعت القانون، القانون ذاته المديد البصر كعين النسر، فأين كل ذكاء أصحاب العقول السليمة الحداد الأبصار؟ أين براعة المحامين المدارية الذين لا ينثنون عن اكتشاف نقص ولو يسير، أو البحث عن أقل مخالفة للقانون؟ إن مكر المجنون قد فاق مكرهم جميعا ...
وكان المال في يدي، فكم تملقني الناس وكم تلطفوا، وجروا في أذيالي، ومضيت أنفق بسخاء وأفرط في البذل، ولكم مدحني الناس وأشادوا بي! وكيف ذهب أولئك الإخوة الثلاثة المتكبرون المتغطرسون يتطامنون، ويذلون لي، ويقفون خاشعين أمامي، وكيف جعل أبوهم الشيخ الأشيب أيضا يوليني الإجلال، ويخاطبني بالاحترام والصداقة المتفانية. لقد كان يعبدني عبادة! وكانت للشيخ ابنة، هي للإخوة الثلاثة أخت، وكان الخمسة فقراء وكنت غنيا، فلما تزوجت الفتاة رأيت ابتسامة انتصار تخطف على وجوه أهلها المحاويج، حين رأوا خطتهم المرسومة قد نجحت، وأدركوا أنني وقعت لهم غنيمة باردة، ولكن كان الابتسام أولى به أن يكون من جانبي، فقد كنت أحق منهم بأن أبتسم وأضحك وأقهقه، وأقطع شعري تقطيعا، وأتمرغ فوق الأرض صارخا من المرح والسرور؛ لأنهم لم يكونوا يدرون أنهم زوجوا الفتاة لرجل مجنون.
ولنقف هنا لحظة لنسأل: هل تظنونهم كانوا منقذيها، إذا هم عرفوا خافية أمري؟ أسعادة أختهم أولى، أم ذهب زوجها؟ إن أقل ريشة أنفخها في الهواء لتعدل السلاسل البهيجة التي تعذب بدني.
ولكني على فرط مكري وخداعي كنت في أمر واحد مخدوعا، فلو لم أكن مجنونا؛ لأننا معاشر المجانين على حدة ذكائنا، وشدة فطانتنا، نضل أحيانا وتفوتنا أشياء كثيرة - لأدركت أن الفتاة كانت تؤثر أن توسد تابوتا مظلما، وهي متخشية باردة خامدة الأنفاس، على أن يساق بها عروسا محسودة إلى بيتي الفخم المتوهج الأضواء، لقد كان أولى بي أن أعرف أن قلبها يهفو إلى ذلك الشاب الأسود العينين الذي سمعت اسمه مرة، وهي تلفظه في نومها المضطرب، لقد ضحى بها عروسا لي، لتنقذ من الفاقة ذلك الرجل العجوز الأشيب وإخوتها المتكبرين.
ولست أتذكر الآن شخوصا ووجوها، ولكني أعرف أن الفتاة كانت حسناء، لقد كنت أعرف عن يقين أنها كذلك، فقد كنت في الليالي الصافية القمراء، أستيقظ من نومي، فأشهد قواما نحيلا، وقدا أهيف واقفا حيالي ساكنا، لا يعير حراكا في ركن من هذا المحبس الانفرادي، قوام امرأة ذات شعر فاحم مستطيل، تتدلى ذوائبه على ظهرها، ولا تحركه ريح من رياح هذه الدنيا، وعينين مستقرتين على وجهي، لا تطرفان ولا تغمضان. صه! إن الدم ليبرد في عروقي وأنا أكتب هذه السطور، إن ذلك القوام هو «قوامها»، وإن الوجه الشاحب، والعينين زجاجيتان، ولكني أعرفهما حق المعرفة، إن ذلك القوام لا يتحرك أبدا، كما تفعل الأشباح الأخرى التي تملأ هذا المكان أحيانا، إن ذلك القوام لأشد رهبا، وأكثر رعبا لي من تلك الأرواح التي كانت تغريني بالجنون منذ عدة سنين، إنه قادم من القبر لتوه وساعته، فهو أشبه بالموت كل الشبه.
ولبثت قرابة عام كامل أرى ذلك الوجه يزداد شحوبا، وأبصر العبرات تتسلل إلى خديها الحزينين، ولا أدري لذلك سببا، ولكني اهتديت أخيرا إليه؛ لأنه كان من المستحيل أن يظل خافيا علي طويلا، لم تكن تطيقني، ولم يخطر ذلك يوما بخلدي، لقد كانت تحتقر ثرائي، وتمقت الفخفخة التي كانت تعيش فيها، ولم أكن أتوقع ذلك، لقد كانت تحب غيري، وما كان ذلك ليدور يوما في خاطري، واستولت على نفسي أحاسيس غريبة، وتملكتني أفكار تدفعها إلى خاطري قوة خفية مجهولة، فتدور كالدوامة حول عقلي، لم أكن أكرهها، وإن كنت قد كرهت الفتى الذي ظلت تبكي من أجله، لقد رثيت، نعم لقد رثيت لها، في تلك الحياة التعسة التي قضى بها عليها أهلها الجامدون القساة الأنانيون، وكنت أعلم أنها لن تعيش طويلا، ولكني تصورت أنها قبل أن يدركها الموت قد تلد مخلوقا منحوسا مقدرا عليه أن يورث أبناءه من بعده الجنون المتنقل في ذرارينا، فكان تصوري لهذا كله دافعا دفعني إلى تقرير خطتي، لقد اعتزمت أن أقتلها.
فكرت عدة أسابيع في استخدام السم، ثم الإلقاء في اليم، وبعدئذ في الإحراق، وراقني مشهد البيت الكبير ولهب النيران مندلعة في جنباته، وزوجة المجنون محترقة في ناحية منه مستحيلة رمادا، وتصورت أيضا أضحوكة دفع مكافأة كبيرة، ومنظر إنسان عاقل يترنح في الفضاء عقابا على فعلة لم يأتها؛ وذلك كله نتيجة مكر مجنون. فكرت كثيرا في هذا، ولكني عدلت أخيرا عنه. آه! ما أشد اللذة التي كنت أحسها، وأنا أشحذ الموسى يوما بعد آخر، وأتحسس نصلها المرهف، وأتمثل الدم المتحبس الذي ستحدثه ضربة واحدة من نصلها الرفيع!
وجاءتني أخيرا تلك الأرواح القديمة التي كانت من قبل توافيني، فهمست في أذني أن الوقت قد حان، ودست الموسى المفتوحة في كفي، فأمسكتها بقوة، ونهضت برفق من فراشي، وانحنيت فوق زوجتي النائمة، وكان وجهها مدفونا في راحتيها، فأزحتهما عنه بلطف، فسقطتا متراخيتين فوق صدرها، لقد كانت تبكي؛ لأني رأيت العبرات لا تزال ندية على خدها، وكان محياها ساكنا هادئا، بل حين أطللت عليه أشرقت ابتسامه ساجية على قسماته المصفرة، فألقيت يدي برفق على كتفها، فأجفلت، كأنه حلم عابر ... فعدت أنحني فوقها، وعندئذ صرخت واستيقظت ...
حركة واحدة من كفي، فإذا هي خامدة إلى الأبد، لا تستطيع صراخا، ولا تخرج صوتا، ولكني ذعرت وتراجعت، لقد كانت نظراتها مستقرة على وجهي؛ فانزويت منها رعبا ووجلا، ولست أدري كيف حدث ذلك لي، بل لقد خارت حيالها عزيمتي، ونهضت من الفراش وهي لا تزال ترمقني بنظراتها، فارتجفت، وكانت الموسى في يدي، ولكني لم أستطع حراكا، ومشت إلى الباب، وما كادت تقترب منه حتى تلفتت، وتولت بعينيها عن وجهي، لقد زال السحر؛ فوثبت نحوها وأمسكت بذراعها، فسقطت فوق الأرض مرسلة صرخة بعد صرخة.
وكان في وسعي عندئذ أن أقتلها بغير مقاومة، ولكن الفزع ساد البيت، وطرق سمعي وقع أقدام فوق مدارج السلم، فرددت الموسى إلى موضعها المألوف في أحد الأدراج، وفتحت الباب، ورفعت صوتي أطلب النجدة.
فجاءوا ... واحتملوها إلى فراشها، فرقدت فيه ساعات وهي هامدة لا حياة ولا حراك بها، ولكن حين عاودتها الحياة والنظرة والكلام، تخلت حواسها عنها، فجعلت تهذي هائجة ثائرة.
ودعي الأطباء، وكانوا رجالا أساطين في عملهم، أتوا إلى باب داري في مركبات فاخرة، وجياد مطهمة، وخدم في ثياب مزخرفة، ولبثوا يترددون على سريرها عدة أسابيع، وعقدوا اجتماعا كبيرا، وتشاوروا في همس داخل حجرة أخرى، وانتحى أبرعهم وأشهرهم ناحية بي، وقال لي أنا المجنون أن أستعد لسماع ما هو أنكى وأدهى، لقد أبلغني أن زوجتي مجنونة! وكان واقفا بجانبي عند نافذة مفتحة، وعيناه تنظران إلى وجهي، ويده ملقاة فوق ذراعي، وكان في وسعي بحركة واحدة أن أقذف به إلى الشارع، ولو فعلت لكان في ذلك متعة يندر أن يكون في الدنيا متعة مثلها، ولكني خليته ولم أفعل، فقد كان سري معرضا للخطر، فأمسكت، وبعد بضعة أيام نبئوني أنه لا بد من وضعها تحت رقابة، ولا غناء عن تعيين حارس لها، فذهبت إلى الحقول حيث لا يستطيع أحد أن يسمعني، وضحكت ملء صدري حتى ردد الفضاء أصدية صرخاتي وضحكاتي.
وماتت في غداة اليوم التالي، وتبعها الشيخ الأشيب إلى القبر، وذرف الإخوة المتكبرون دمعة على جسد المخلوقة التي كانوا في حياتها ينظرون إلى ما تعانيه من آلام نظرات قاسية كأنهم جلمود من صخر أصم، وكان ذلك كله غذاء لفرحي المكتوم، فجعلت أضحك من خلف المنديل الأبيض الذي قربته من وجهي، ونحن عائدون أدراجنا من دفنها، حتى اغرورقت بالدموع عيناي ...!
ولئن كنت قد نفذت غرضي وقتلتها، فقد ظللت قلقا منزعجا، وشعرت بأنه لن ينقصني وقت طويل حتى يعرف الناس سري حتما، ولم أعد أستطيع أن أخفي المرح الثائر، والسرور الهائج، اللذين كانا يغليان في جوانحي، ويجعلانني كلما خلوت إلى نفسي في البيت، أصفر وأصفق، وأرقص وأزمجر، وأصرخ صراخا عاليا. وكنت كلما خرجت وشهدت الناس مسرعين في الطريق، أو ذاهبين إلى المسرح لمشاهدة التمثيل، أو سمعت أنغام الموسيقى، أو رأيت القوم يرقصون، شعرت من فرط الفرح أني قادر على أن أندفع نحوهم، وأمزقهم إربا، وأعوي من اللذة عواء، ولكني كنت أصرف بأسناني، وأضرب الأرض بقدمي، وأغيب أظفاري الحداد في كفي، وأكبت رغبتي، فلم يكن أحد يعرف بعد أنني مجنون.
وأذكر، وإن كان ما أذكره آخر الأشياء التي لبثت قائمة في خاطري؛ لأنني الآن أصبحت أخلط بين الحقائق وبين أحلامي، ولكثرة أعمالي هنا، واستمرار نقلي من موضع إلى آخر، لا أجد متسعا من الوقت أمامي لكي أفصل بين الحقائق والأوهام لاضطراب غريب يسودها جميعا، وفوضى عجيبة تغمرها جملة - أذكر كيف تركت سري أخيرا ينطلق من مكمنه.
ها، ها، أحسبني أشهد الآن نظراتهم المروعة إلى وجهي، وأحس الراحة والسرور في دفعهم بقوة عني، وضرب وجوههم المصفرة بجمع كفي، ثم أطلق للريح ساقي، تاركا الناس صائحين صارخين في أثري. إن قوة عملاق جبار تتملكني كلما فكرت في ذلك كله أو تمثلته، أنظر إلى هذا القضيب الحديدي كيف يلتوي من قبضتي، حين أهيج وتثور ثائرتي، لقد أصبحت قادرا على انتزاعه من مكانه، كما أنتزع عودا من العوسج، أو فرعا من الفروع، ولكن هنا دهاليز طويلة ذوات أبواب كثيرة، فلا أظنني مستطيعا أن أهتدي إلى طريقي من خلالها، ولو استطعت، فلست أجهل أن هناك أبوابا من حديد يحرصون على بقائها موصدة بالأقفال والمزاليج؛ لأنهم يعرفون أي مجنون ذكي بارع أنا، وهم فخورون بأن يبقوني هنا ليشهدني الناس، وأعترض عليهم.
دعني أنظر! أي نعم! لقد أخرجوني، وكان الليل قد أوهن حين بلغت داري، وكان أشد الإخوة الثلاثة كبرياء وعجرفة منتظرا وصولي، وأذكر جيدا أنه قال إنه كان يرتقب رؤيتي لمسألة عاجلة. لقد كنت أكره ذلك الرجل بكل كراهية مجنون، ولكم من مرات تلهفت أناملي على تمزيقه، وقيل لي: إنه في البيت يرتقبني. فمرقت صاعدا السلم إليه، وأمرت الخدم بالانصراف، وكان الوقت متأخرا، ونحن وحدنا لأول مرة.
وحرصت على أن أشيح بعيني عنه أولا؛ لأني كنت أعلم أنه كان يعرف - ولكم كان اغتباطي بأنه يعرف - أن بريق الجنون كان ينبعث منهما كالشرر. وجلسنا بضع دقائق صامتين، وأخيرا بدأ هو الكلام، فقال إن إسرافي في الأيام الأخيرة، وبعض الأقوال الغريبة التي صدرت مني عقب وفاة أخته، كانت إهانة لذكراها، وإن عدة ظروف أخرى وأمور فاته في أول الأمر أن يلاحظها، جعلته أخيرا يعتقد أنني لم أكن أحسن مثواها؛ فهو يريد أن يعرف هل هو على حق إذا استخلص من ذلك كله أنني أقصد أن ألقي ظل عتب وملامة على ذكراها ومساءة إلى أسرتها، وكان اقتضاؤه مني شرحا لذلك كله يرجع إلى الثوب العسكري الذي كان يرتديه.
وكان ذلك الرجل يحمل براءة رتبة عسكرية، براءة اشتراها بمالي، وبشقاء أخته «وكان هو في مقدمة الذين تآمروا على إلقائي في الشرك، ووضع أيديهم على ثروتي، لقد كان ذلك الرجل هو الأداة الكبرى في إرغام أخته على الزواج بي، وهو يعلم حق العلم أنها قد وهبت فؤادها لذلك الغلام المزقزق كالعصفور؛ كل ذلك لأنه يرتدي ثوبا عسكريا، فلم ألبث أن أدرت عيني إليه، لقد فعلت ذلك على الرغم مني، ولم أنبس بكلمة واحدة.
ورأيت التغير الفجائي الذي بدا عليه من نظرتي، لقد كان شجاعا جسورا، ولكن لونه ارتد مسفوعا، وتراجع بمقعده، فجررت أنا مقعدي إليه وضحكت، فقد أحسست عندئذ بمرح بالغ، ورأيته يرتجف، وشعرت بالجنون يثور في أنحائي، لقد تولاه الرعب مني.
قلت: «لقد كنت مولعا بأختك وهي في قيد الحياة كل الولوع.»
وراح هو يتلفت حوله قلقا مضطربا، ورأيت يده تقبض على مسند المقعد، ولكنه لم يحر جوابا.
قلت: «أيها الوغد! لقد اكتشفتك، وأزحت النقاب عن مؤامراتك الجهنمية ضدي، أعرف أن قلبها كان مستقرا على إنسان سواي قبل أن ترغمها على الزواج بي إرغاما ... أعرف ذلك، أعرف ذلك.»
فوثب فجأة من مجلسه، ورفع المقعد عاليا، وأمرني بأن أتراجع، فقد حرصت على أن أدنو منه رويدا وأنا أتحدث إليه.
لقد كان قولي صراخا أكثر منه كلاما، فقد كنت أشعر بانفعالات صخابة هائجة، تتدفق في شراييني، والأرواح القديمة تهمس في أذني وتغريني بأن أمزق قلبه تمزيقا.
قلت وأنا مندفع نحوه: «اللعنة عليك، أنا الذي قتلتها، أنا مجنون. فلتسقط، الدم! الدم! أريد دما.»
وبضربة واحدة من كفي أطحت بالمقعد الذي شهره في وجهي من فرط رعبه، وأطبقت عليه، وتمرغنا معا على الأرض برجة شديدة.
لقد كان ذلك الصراع بديعا رائعا؛ لأنه كان رجلا فارع القد، شديد المراس، يدافع مستميتا عن حياته، وأما أنا فمجنون قوي باطش، أتعطش لدمه، وكنت أعرف أن ليس ثمة قوة على الأرض تعدل بأسي وبطشي، وكنت على حق، نعم كنت مصيبا مرة أخرى وإن أصبحت مجنونا. وبدأت مقاومته تفتر، وجثمت فوق صدره، وأمسكت بكلتا يدي القويتين عنقه المفتول، وخيل إلي من لسانه المتدلي أنه يسخر مني، فشددت القبضة على مخنقه.
وإذا الباب يفتح فجأة في جلبة شديدة، ويدخل جمع من الناس مهرولين، وهم يتصايحون أن أمسكوا المجنون.
لقد كشف سري، وأصبح نضالي الآن في سبيل شيء واحد، وهو الحرية والفكاك، واستويت على ساقي قبل أن تصل يد إلي، وألقيت بنفسي في وسط المهاجمين، وشققت بينهم طريقي بذراعي القوية، كأني كنت أحمل فاسا في يدي وأجندلهم به من أمامي صرعى مضرجين، وبلغت الباب، ونزلت السلم مسرعا، وفي لحظة واحدة احتواني الطريق.
وعدوت لا ألوي على شيء، فلم يجرؤ أحد على إيقافي، وسمعت وقع أقدام من خلفي فضاعفت سرعتي، فلم يلبث وقعها أن وهن وخفت من بعيد، ثم تلاشى بددا، ولكني طفقت أعدو مخترقا مستنقعا، عابرا جدولا، متخطيا سياجا، قافزا فوق جدار، في صيحة موحشة زادتها وحشة الصيحات المنبعثة من المخلوقات الغريبة التي تزاحمت حولي من كل ناحية، حتى راحت صيحاتنا مجتمعة تشق أجواز الفضاء. لقد كنت محمولا على أذرع شياطين تمرق في الهواء كالريح، وتدك كل جسر وسياج يعترضها دكا، وتلف بي لفا، في حفيف وسرعة جعلتا رأسي يموج موجا، إلى أن طرحتني أخيرا عنها بهزة عنيفة، فسقطت على الأرض في رجة «أليمة»، وحين أفقت وجدتني هنا ... هنا في هذا المحبس الانفرادي المظلم الذي قلما تدخله أشعة الشمس، ويتسلل القمر إليه، فلا يضيء إلا ليريني الظلال والأشباح السود الحوامة من حولي، وذلك النهج الصامت القائم على ذلك الركن المعهود، وكلما رقدت يقظان ساهرا، سمعت أحيانا صرخات غريبة، وصيحات منبعثة من بعيد في هذا المكان الرحيب، أما ما هي تلك الصيحات فلست أدري، وإنما كل ما أدريه أنها ليست آتية من ذلك الشبح الناحب الماثل في ذلك الركن، ولا هو بعابئ بها ولا مكترث؛ لأنه من أول خيوط الغسق إلى مطالع ضياء النهار لا يزال قائما، ثم جامدا لا حراك به يستمع إلى أنغام سلاسلي الحديدية، ويرقب وثباتي وقفزاتي فوق فراشي الخشن.
وقد وردت في ذيل هذا المخطوط المذكرة التالية بخط آخر: «لقد كان الرجل المنكود الذي دون هذيانه فيما سلف مثالا محزنا لعقبى القوى التي تتجه اتجاها سيئا في الشباب، ونتيجة سوأى أليمة للإفراط المتمادي، حتى يصبح إصلاحها متعذرا، فإن الإسراف في غير روية، والتناهي في الملذات بغير تفكير، والإباحية التي استبدت بأيام شبابه، جعلته محموما هاذيا مخرفا، كانت آثارها الأولى ذلك الوهم الغريب المبني على نظرية معروفة في عالم الطب، يؤيدها فريق من أهله، ويعارضها الفريق الآخر، وهي أن الجنون وراثي في الأسرة، فإن هذا الوهم الغريب أحدث لديه وجوما مستمرا تطور مع الأيام إلى جنون سوداوي، ثم انتهى أخيرا إلى جنون هاذ صاخب، وقد توافرت عدة أسباب تحمل على الاعتقاد بأن الحوادث التي رواها، وإن جاء وصفها مشوها بفعل خياله المريض، قد وقعت حقا، ومن العجيب للذين عرفوا مساوئ شبابه، وأدركوا طرفا من أخبار مفاسد حداثته، كيف لم تؤد به انفعالاته الثائرة - حين لم يعد للعقل سلطان عليها - إلى ارتكاب أفعال أكثر مما ارتكب هولا ورهبا.»
وكان مصباح المستر بكوك قد أوشك أن يخبو ضياؤه، حين انتهى من قراءة ذلك المخطوط الذي تلقاه من القسيس الشيخ، فلما انطفأ النور فجأة، دون رفيف سابق من ذبالته على سبيل الإنذار، أحس برجفة شديدة تسري في كيانه المضطرب، فأسرع في خلع ما كان قد ارتداه من الثياب عندما نهض من مرقده، وأقضه المضجع من السهد، ثم ألقى نظرة خوف حوله، وبادر في عجلة إلى التسلل تحت الأغطية، ولم يلبث أن راح في سبات عميق.
وكانت الشمس ساطعة في غرفته حين استيقظ، والصباح بدأ يدنو من الضحى، وكانت الكآبة التي استولت عليه وأرهقته في الليلة الماضية، قد تلاشت مع الظلال القاتمة التي كانت تكتنف المشهد المترامي من حوله، فأشرقت أفكاره وأحاسيسه إشراق الصباح ذاته، وما إن تناول الصحاب الأربعة فطورهم بشهية وإقبال، حتى انطلقوا سعيا على الأقدام صوب «جريفسند»، يتبعهم رجلا حاملا الحجر في صندوقه الخشبي، فوصلوا إليها حوالي الواحدة بعد الظهر - وكانوا قد أمروا بأن ترسل أمتعتهم من روشستر إلى لندن رأسا - ووجدوا لحسن الحظ أماكن لهم خارج مركبة حافلة، فدخلوا لندن في أصيل اليوم ذاته مشرقي النفوس، خفاف الأرواح، معافين.
وشغلتهم الاستعدادات التي كان لا بد من تدبيرها للرحلة التي اعتزموها إلى دائرة «إيتنزول» الانتخابية، طيلة الأيام الثلاثة الأولى أو الأربعة، ويقتضي الحديث عن هذه الرحلة الخطيرة فصلا قائما بذاته، فلا يسعنا إلا أن نخصص بقية هذا الفصل لنقص عليك فيه بإيجاز كبير تاريخ ذلك الكشف الأثري، وختام قصته.
والظاهر من محاضر النادي أن المستر بكوك ألقى محاضرة عنه في جمعية عامة، عقدت في مساء اليوم التالي لعودتهم، وتناول في المحاضرة طائفة من التفسيرات الطريفة، والتعليلات والنظريات البارعة، في معنى تلك النقوش ومرادها، كما يظهر أن رساما حاذقا تولى رسم ذلك الحجر الغريب بكل معالمه ودقائقه في أمانة وإتقان، وأن هذا الرسم طبع على الحجر، وقدمت نسخ منه إلى جمعية الآثار الملكية وغيرها من الهيئات العلمية، وأن الحسد والغيرة بمختلف أعراضهما ومظاهرهما المتعددة دبا في نفوس المنافسين؛ فذهبوا في الجدل حول موضوع الحجر كل المذاهب، وأن المستر بكوك نفسه كتب «رسالة» في ست وتسعين صفحة بالخط الدقيق، وساق سبعة وعشرين تعليلا مختلفا لمعنى تلك النقوش، والمراد منها، وأن ثلاثة سادات كبار السن حرموا أكبر أولادهم من الميراث، وقطعوا منه نصيبهم لافتراضهم الشك في صحة ذلك الأثر، وأن شخصا آخر اشتدت الحماسة به فقطع رقبته منتحرا قبل الأوان؛ يأسا من عجزه عن استقصاء معانيه، وأن المستر بكوك عين عضوا فخريا في سبع عشرة جمعية، بين أهلية وأجنبية؛ عرفانا بفضل اكتشافه، وأن هذه الجمعيات السبع عشرة لم تهتد واحدة منها إلى شيء بسبيله، ولكنها كانت جميعا متفقة على أنه كشف نادر خارق للمألوف حقا.
غير أن المستر «بلوتن» الذي يستهدف اسمه حتما لاحتقار أبدي من جانب المولعين بكل غريب، ورفيع وجليل، نقول: إن المستر بلوتن راح بذلك الشك، وتلك المكابرة، اللذين عرفا عن العامة وأصحاب العقول السوقية، يذهب في تأويل هذا الكشف مذهبا يحط من القدر، ويثير الضحك والسخرية، فقد أراد أن يطفئ بريق اسم «بكوك» الخالد، فقصد إلى «كوبهام» بنفسه، وعاد فألقى في النادي خطابا يقول فيه ساخرا متهكما: إنه اجتمع بالرجل الذي اشترى ذلك الحجر منه، وإنه يظن أن الحجر قديم، ولكنه نفى قطعا أن النقش الظاهر عليه أثري؛ لأنه هو الذي نقشه بنفسه في بعض أوقات فراغه، وأن تلك الحروف لا يراد بها أكثر ولا أقل من شيء واحد، وهو تكوين اسمه منها، فهو يدعى «بيل سطمبس» - هذه علامته - وأن المستر سطبمس لم يكن قد اعتاد الإنشاء، وإنما كل ما يسترشد به في نقش الحروف والكلمات هو «أصواتها» أكثر مما يستهدي بقواعد الكتابة والتشكيل ذاتها، ولهذا نسي اللام الأخرى من اسمه الأول.
وقد تلقى نادي بكوك - كما ينتظر من معهد مستنير مثله - هذا القول بما يستحقه من الاحتقار، وقرر فصل «بلوتن» - الجريء في دعواه، الضعيف السيئ الحال - من عضويته، وإهداء المستر بكوك منظارا ذهبيا رمزا لثقة النادي به، وموافقته على ما صرح به، فلم يكن من المستر بكوك في الرد على هذا العرفان إلا أن عهد إلى رسام برسم صورة زيتية له لتعليقها في قاعة النادي.
ولئن كان المستر بلوتن قد طرد من النادي، فقد ظل مناضلا لا يقهر، وراح يوجه «رسالة» إلى الجمعيات العلمية السبع عشرة، الأهلية والأجنبية، مكررا فيها البيانات التي سبق أن أدلى بها، وكاد خلالها يفصح عن رأيه في أن هذه الجمعيات السبع عشرة نصابة محتالة «مهرجة»، وغضبت الجمعيات السبع عشرة الأهلية والأجنبية لكرامتها، فلم تلبث أن ظهرت عدة رسالات أخرى في الموضوع ذاته، وتبادلت الجمعيات العلمية الأجنبية المكاتبات مع الجمعيات العلمية الأهلية، وتولت هذه ترجمة رسالات تلك إلى الإنجليزية، وتولت تلك نقل رسالات الأولى إلى لغاتها، وبدأ بذلك النقاش العلمي المشهور الذي عرفه الناس جميعا، وأطلقوا عليه القضية البكوكية.
ولكن هذه المحاولة في سبيل إيذاء المستر بكوك في سمعته ارتدت في نحر صاحبها المفتري، فقد أجمعت الهيئات العلمية السبع عشرة على أن هذا المفتري بلوتن جاهل دعي، وشرعت في إعداد بحوث أخرى، ورسالات جديدة، ولا يزال ذلك الحجر إلى يومنا هذا قائما أثرا مطماسا غير مقروء من آثار عظمة المستر بكوك، بل أثرا باقيا من آثار صغار خصومه، وهوان أقدارهم.
الفصل الثاني عشر
وصف إجراء خطير جدا اتخذه المستر بكوك، ولا يقل شأنا في رواية حياته عنه في سياق هذا التاريخ. ***
لم تكن حجرات المستر بكوك في شارع «جوزول» - على محدود نطاقها - نهاية في النظافة، جامعة لأسباب الراحة فحسب، بل كانت أيضا لائقة بنوع خاص لأن تكون مسكن رجل في مثل عبقريته، وقوة ملاحظاته، وكانت حجرة جلوسه في مقدمة الطابق الأول، وحجرة نومه في واجهة الطابق الثاني، وكانت الفرصة مواتية له - سواء جلس إلى مكتبه في حجرة الجلوس، أو وقف أمام المرآة في حجرة نومه - للتأمل والتفكير في الطبيعة البشرية من جميع مظاهرها ونواحيها المتعددة، في ذلك الحي الذي كان عظيم الشهرة بقدر ما كان كثير السكان. وكانت ربة البيت مسز باردل هي الوحيدة التي آل إليها ميراث موظف سابق في مصلحة الجمارك، وكانت امرأة لطيفة جمة النشاط، حسنة المظهر، أوتيت براعة طبيعية في طهو الطعام، ازدادت بفضل الممارسة الطويلة ومداومة الدرس، حتى استحالت إلى نبوغ فائق، وموهبة رفيعة، ولم يكن لها أطفال، ولا خدم، ولا دجاج، وكل من يساكنها في ذلك البيت رجل بدين، وغلام صغير، أولهما ساكن بأجر، والآخر نجيبها، وكان الساكن البدين يحضر دائما في تمام العاشرة ليلا، فإذا جاء حشر نفسه حشرا في نطاق سرير فرنسي قصير في الحجرة الخلفية، وكانت ألعاب «السيد باردل» الصغير وحركاته الرياضية ومراتعه، مقصورة على الأفاريز المجاورة والمزاريب والأفنية العامة، فكانت النظافة والسكينة تغمران البيت، وكانت رغبة المستر بكوك فيه قانونا لا نقض فيه ولا إبرام ...
وكان كل من يعرف هذه النواحي من التدبير المنزلي في ذلك البيت، ولا يخفى عليه شيء من عقلية المستر بكوك المنظمة الجديرة بالإعجاب، يبدو له أن مظهره وسلوكه في الصباح السابق لليوم المقرر لسفره إلى «إيتنزول» نهاية في الغموض والغرابة؛ فقد جعل يذرع الغرفة ذهابا وجيئة بخطى مسرعة، ويخرج رأسه من النافذة على فترات، كل ثلاث دقائق أو نحوها، وينظر مرارا إلى ساعته، ويبدي من مختلف أمارات القلق ما لم يكن من ديدنه، وكان من الجلي أنه كان يفكر في أمر كبير الأهمية، ولكن لم يكن أحد - ولا مسز باردل نفسها - مستطيعا أن يكشف ما هو ذلك الأمر الذي يشغله.
وأخيرا انثنى ينادي: «يا مسز باردل.» في اللحظة ذاتها التي كانت هذه المرأة اللطيفة توشك أن تنتهي من إزالة التراب من الحجرات.
وأجابت مسز باردل: «نعم يا سيدي!»
قال: «إن غلامك الصغير قد ذهب من وقت طويل جدا.»
وأجابت مسز باردل محتجة: «كيف ذلك؟ ... إن الطريق إلى الضاحية طويل يا سيدي.»
وقال المستر بكوك «آه! إنه حقا كذلك.»
وعاد المستر بكوك إلى الصمت، وواصلت مسز باردل إزالة التراب والكنس.
ولم تمض بضع دقائق أخرى حتى عاد المستر بكوك ينادي: «يا مسز باردل.»
وأجابت قائلة: «نعم يا سيدي.»
قال: «هل تظنين أن الإنفاق على اثنين أكثر من النفقة على واحد بمفرده؟»
وأجابت مسز باردل، وقد امتقع لونها حتى وصل امتقاعه إلى طرف قلنسوتها؛ إذ خيل إليها أنها قد رأت بريق رغبة في الزواج يشع من عيني الساكن عندها: «وي ... يا مستر بكوك ... وي يا مستر بكوك ... يا له من سؤال!»
قال: «ولكن هل تظنين حقا ... أن ...»
قالت وهي تدني «المنفضة» من مرفق المستر بكوك المسند إلى المائدة: «إن هذا يتوقف كثيرا على الشخص نفسه كما تعرف يا مستر بكوك، وهل هو شخص مدبر حريص على المال أو لا يا سيدي.»
قال: «هذا عين الصواب، ولكن الشخص الذي أمام عيني ...» - وهنا أطال النظر إلى مسز باردل - «... أعتقد أنه قد أوتي هذه الصفات، إلى جانب علمه الواسع بالدنيا وأحوالها، ولديه قدر كبير من الذكاء، قد يكون ذا فائدة محسوسة لي يا مسز باردل ...»
وقالت مسز باردل وقد اصطبغ وجهها بلون الأرجوان مرة أخرى، وبلغت حمرته طرف قلنسوتها: «وي يا مستر بكوك!»
ومضى المستر بكوك يقول وقد ازداد حماسه كشأنه إذا تكلم عن موضوع يهمه: «إني جاد حقا فيما أقوله، ولا أخفي عنك يا مسز باردل أنني قد اعتزمت التنفيذ.»
فصاحت مسز باردل قائلة: «ويحي يا سيدي!»
وقال المستر بكوك وهو يرسل نظرة لطيفة إلى رفيقته: «سترين الآن إنه كان غريبا مني كل الغرابة أنني لم أستشرك مطلقا في هذا الأمر، ولم أذكره إطلاقا حتى أرسلت غلامك الصغير في هذا الصباح، آه!»
فلم تستطع مسز باردل أن تجيب بأكثر من نظرة، فقد طالما عبدت المستر بكوك عبادة من بعيد، ولكن ها هي ذي فجأة ترفع إلى مكانة مرموقة لم تصل إليها في يوم من الأيام ذروة أمانيها، ولا بلغها أوج ما كان يداعب خاطرها من غرائب الآمال والتعلات. لقد اعتزم المستر بكوك أن يفاتحها في أمر الزواج بها، ورسم الخطة لذلك، فأرسل ابنها الصغير إلى الضاحية؛ ليخلو الجو لهما، يا له من مفكر حكيم! ويا له من بصير عليم بالأمور!
وقال المستر بكوك: «هيه ما رأيك؟»
وأجابت مسز باردل، وهي راعشة من فرط الاضطراب: «أوه! يا مستر بكوك إنك لكريم يا سيدي!»
قال: «سأعفيك من كثير من التعب، أليس كذلك؟»
وأجابت مسز باردل: «ما فكرت يوما في مسألة التعب، ولكنه كريم منك كل الكرم يا مستر بكوك أن تراعي مسألة وحدتي إلى هذا الحد، وتهتم بها كل هذا الاهتمام.»
وقال المستر بكوك: «الواقع أنني لم أفكر في ذلك إطلاقا، ولكني أرى أن يكون في البيت إنسان يجلس معك كلما ذهبت إلى المدينة، هذا هو ما أردته، تأكدي أن هذا هو ما أردت.»
قالت: «سأكون سعيدة السعادة كلها بالتأكيد.»
قال: «وغلامك الصغير؟»
فقاطعته مسز باردل، وهي تنتحب انتحابة أم حين يذكر ابنها: «واكبدي له!»
قال: «وسيكون له هو أيضا رفيق يؤنسه، رفيق خفيف الروح، يعلمه - بلا شك - من الألاعيب والحيل في أسبوع واحد ما لا يؤاتيه منها علمه في عام كامل.»
وابتسم المستر بكوك ابتسامة لطيفة ساجية.
وقالت مسز باردل: «أواه! أيها العزيز.»
فأجفل المستر بكوك.
وقالت باردل: «أواه ... أيها الكريم، الحنون الطيب، اللعوب.» ثم نهضت من مخدعها وبلا سابق إنذار، وألقت ذراعيها حول عنقه، وأرسلت فيضا من عبراتها، وأنغاما متلاحقة من نحيب.
وصاح المستر بكوك من فرط دهشته قائلا: «يا للعجب! ... يا مسز باردل، أيتها المرأة العاقلة الأريبة، ويحي! يا له من موقف! أرجوك أن تراعي ... يا مسز باردل ... باردل حذار، ماذا عسى أن يقال إذا دخل أحد؟»
وصاحت باردل ثائرة هائجة: «ليدخلوا، فلن أفارقك ولن أتركك أيها العزيز الكريم الحدب الحنون ...»
وراحت بهذه الكلمات تتشبث بنحره أكثر من قبل، وتزيده ضما واعتناقا.
ومضى المستر بكوك يقاوم بعنف وهو يقول: «رحمة بي، إني أسمع وقع أقدام على السلم، ألا كفي عن هذا، حسبك، هيا أيتها المخلوقة الطيبة! ... كفي عني!»
ولكن توسلاته واحتجاجاته ذهبت سدى، فقد أغمي على مسز باردل وهي بين ذراعي بكوك، وقبل أن يتمكن من إلقائها فوق مقعد، دخل السيد باردل الصغير مؤذنا بقدوم طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس.
ووقف المستر بكوك في مكانه جامدا لا يتحرك، ولا ينطق نطقا، وقف بحمله الجميل بين ذراعيه، وهو ينظر نظرات شاردة إلى وجوه أصحابه، دون أن يحاول مطلقا أن يتقدم للسلام عليهم أو شرح موقفه، كما وقفوا هم محملقي الأبصار، بينما لبث السيد باردل بدوره يحملق في الجميع.
وكانت دهشة البكوكيين بالغة، وحيرة المستر بكوك متناهية، إلى حد كان من المحتمل معه أن يظلوا جميعا وقوفا في أماكنهم ريثما تثوب السيدة إلى نفسها، لولا أن بدت من ولدها حركة من أجمل الحركات، وأشدها تأثيرا، وأبلغها دلالة على حبه البنوي، وكان الغلام في ثوب ضيق من قماش مضلع، تناثرت عليه أزرار نحاسية من حجم كبير، قد وقف في أول الأمر لدى الباب مبهوتا مستريبا، ولكن ما لبث أن تصور أن أمه لا بد من أن تكون قد اعتدي عليها، وما عتم هذا التصور أن استولى على خاطره الساذج، واعتقد أن المستر بكوك هو المعتدي، فلم يلبث أن راح يرسل صراخا مروعا، مزمجرا عاويا، ويندفع إلى الأمام ناطحا برأسه، وبدأ بمهاجمة ذلك السيد الخالد في ظهره وساقيه، بلكمات وعضات أسنان بكل ما في ذراعه من قوة، وكل ما في هياجه وغضبه من عنف.
وقال المستر بكوك من أثر ما أحسه من الضرب واللكز: «خذوا هذا الغلام الشقي بعيدا؛ إنه مجنون!»
وقال البكوكيون الثلاثة الذين عقدت الدهشة ألسنتهم: «ما الخبر؟»
وأجاب المستر بكوك بحدة: «لست أدري، أبعدوا هذا الغلام!» - وهنا احتمل المستر ونكل الغلام وهو يصرخ ويقاوم إلى الطرف الآخر من الحجرة - «والآن أعينوني على المسير بهذه المرأة إلى الدور الأول.»
وعندئذ قالت مسز باردل بصوت خافت: «أواه، إنني أحسن حالا الآن.»
وقال المستر طبمن الجسور كعهدنا به: «دعيني أسر بك إلى الدور الأول من البيت.»
وصاحت مسز باردل بتشنج: «شكرا لك يا سيدي، شكرا لك.»
وسيق بها إلى الدور الأول، يصحبها ولدها البار.
وأنشأ المستر بكوك يقول عندما عاد صاحبه: «لست أتصور ما الذي دها هذه المرأة، فما كدت أعلن لها عزمي على الاستعانة بخادم، حتى استرسلت في هذه الحالة الشاذة التي وجدتموها فيها، هذا شيء عجاب!»
وقال أصحابه الثلاثة: «جدا!»
واستتلى المستر بكوك يقول: «لقد وضعتني في موقف حرج كل الحرج.»
وكان جواب الثلاثة قولهم: «جدا.» وهم يسعلون سعلة خفيفة، ويتبادلون نظرات الشك والارتياب.
ولكن ذلك لم يغب عن نظر المستر بكوك الثاقب، وشعر بأنهم مرتابون في صدق ما قاله، وتبين له أنهم متهموه.
وأنشأ المستر طبمن يقول: «إن في الدهليز الآن رجلا.»
فأجاب بكوك قائلا: «إنه الرجل الذي حدثتكم عنه، فقد أرسلت إلى الضاحية في هذا الصباح أدعوه، تكرم يا مستر سنودجراس فادعه ...»
واستجاب المستر سنودجراس، وفي الحال ظهر صمويل ولر، وابتدره المستر بكوك قائلا: «أوه، أحسبك لا تزال ذاكري.»
وأجاب «سام» بنظرة وتعطف: «أظن ذلك، لقد بدأ ذلك الرجل بداية غريبة، لقد كان واحدا ولكنه كثير عليكم، كما كان يغلبكم في السعوط مرة أو مرتين ... أليس كذلك؟»
فقال المستر بكوك في عجلة: «دعنا من تلك القصة الآن، إني أريد أن أتحدث إليك عن أمر آخر، اجلس!»
وأجاب سام: «أشكرك يا سيدي.» وراح يجلس دون انتظار أمر آخر، وكان قد وضع قبعته القديمة البيضاء عند مدخل رأس السلم خارج الباب، ومضى يقول: «إنها - أي القبعة - «منظر» فقط، ولكن لبسها فوق الرأس مربك ... وكانت قبل أن تزول عنها حافتها، تبدو قالبا جميلا كقالب من القرميد، ومع ذلك أصبحت أخف مما كانت قبل زوال حافتها، هذه نقطة، والنقطة الأخرى هي أن كل ثقب فيها يدخل الهواء، ولهذا أسميها «أنبوبة التهوية!»
ولم يكد ينتهي المستر ويلر من هذا التعبير عن عواطفه، حتى أرسل ابتسامة لطيفة إلى البكوكيين المجتمعين.
وعاد المستر بكوك يقول: «والآن فيما يتعلق بالأمر الذي دعوتك من أجله، بموافقة هؤلاء السادة.»
وقاطعه سام قائلا: «هذه هي النقطة يا سيدي، علي بها أو أخرجها، كما قال الوالد لابنه حين ابتلع قطعة من النقود!»
ومضى المستر بكوك يقول: «نريد أولا أن نعرف هل من سبب يدعوك إلى الاستياء من مركزك الحالي؟»
وأجاب سام قائلا: «قبل أن أرد على هذا السؤال أيها السادة أريد أولا أن أعرف هل في نيتكم أن تعرضوا علي مركزا أحسن منه؟»
وهنا لاحت على وجه المستر بكوك ومضة من الطيبة الهادئة، وحب الخير، فذهب يقول: «أكاد أقطع العزم على استخدامك.»
قال: «أحقا؟»
وأومأ المستر بكوك إيماءة الإيجاب.
قال: «والأجر؟»
قال: «اثنا عشر جنيها في السنة.» - «والكساء؟» - «حلتان.» - «والعمل؟» - «القيام على خدمتي، والسفر معي ومع هؤلاء السادة هنا .»
وهنا قال سام بلهجة التوكيد: «اكتب العقد في الحال؛ لقد أصبحت أجيرا في خدمة سيد واحد، وأنا موافق على الشروط.»
وسأل المستر بكوك: «هل قبلت إذن العمل؟»
قال: «بالتأكيد، وإذا كانت الثياب لائقة نصف لياقة المكان، فأنعم بها.»
وعاد المستر بكوك يسأله قائلا: «وفي إمكانك بالطبع تقديم شهادة؟»
وأجاب سام: «سل ربة فندق «الأيل الأبيض» عن ذلك يا سيدي.»
قال: «هل في إمكانك أن تحضر في هذا المساء؟»
وأجاب سام بفرح بالغ: «إذا كانت الملابس معدة الآن، فأنا على استعداد الدخول فيها من هذه اللحظة.»
وقال المستر بكوك: «تعال في الثامنة من هذا المساء، فإذا كانت المعلومات المطلوبة مرضية، فسوف نعدها لك.»
وكان سلوك المستر ويلر لا غبار عليه، ولا لائمة إلا من حادثة واحدة تنم عن نزق لطيف، شاركته فيها مساعدة خادمة، فلم يتردد المستر بكوك في إتمام العقد في ذلك المساء بالذات، وبتلك السرعة وذلك النشاط اللذين عرفا عن ذلك الرجل النادر، لا في تصرفاته العامة فحسب، بل في كل تصرفاته الخاصة أيضا، بادر في الحال إلى أخذ خادمه الجديد إلى سوق من تلك الأسواق الرخيصة التي تباع فيها الثياب الجديدة والمستعملة، ويستغني فيها عن متاعب الشكليات، كأخذ المقاس، وتجربة الأزياء ونحوها، فلم يكد يحل الليل حتى تم تجهيز المستر ولر برداء رمادي اللون، وضعت عليه شارة «نادي بكوك»، وقبعة سوداء ذات شريط، وصدار قرنفلي اللون مخطط، وسراويل خفيفة، وأغطية ساق، وأنواع أخرى كثيرة لا يحدها الحصر.
وانثنى ذلك الإنسان الذي تحول فجأة كل هذا التحول يقول، وهو يتخذ مجلسه خارج المركبة الحافلة الشاخصة إلى «ايتانسويل» في صباح اليوم التالي: «إني لفي عجب! هل يراد مني أن أكون حاجبا، أو سائسا، أو حارس صيد، أو بائع بذور؟ فإني لأبدو خليطا من هؤلاء جميعا، ولكن لا بأس، إن فيه لتبديلا للهواء، ورؤية كثير من المناظر، وقليلا من العمل، وكل ذلك علاج للفاقة التي أشكو منها مر الشكوى ... فليحي البكوكيون ...!»
الفصل الثالث عشر
وصف لدائرة إيتنزول الانتخابية، ومراكز الأحزاب فيها ، وانتخاب نائب في البرلمان عن تلك الدائرة القديمة الوفية الوطنية. ***
دعنا نعترف صراحة بأننا إلى الفترة التي بدأنا فيها نغوص في مجلدات محاضر نادي بكوك، وأوراقها الضخمة، لم نكن قد سمعنا «بإيتنزول» أبدا، بل دعنا نقر بتلك الصراحة ذاتها أننا قد بحثنا عن دليل يثبت وجود هذا الموضع في عهدنا الحاضر، ولعلمنا بالثقة البالغة التي ينبغي أن توضع في كل مذكرة أو بيان من جانب المستر بكوك، ونفيا لكل رغبة منا في تغليب ذاكرتنا على بيانات ذلك الرجل العظيم، وتصريحاته المدونة في السجلات، مضينا نستأنس بكل المراجع والمظان التي تتصل بهذا الموضوع، ونتابع كل اسم وارد في قوائم «أ و ب»، فلم نعثر على أثر فيها «لإيتنزول» في حرف الألف، ولا في الحرف الذي يليه، وتقصينا البحث أيضا في كل ناحية من خرائط الجيب، والمصورات الجغرافية للأقاليم التي يصدرها كبار الناشرين عندنا لخدمة الجمهور؛ فلم نعثر فيها على أثر لذلك الاسم، فلا غرو إذا نحن اعتقدنا أن المستر بكوك قد تعمد الاستعاضة عن اسم الموضع الذي دون ملاحظاته عنه باسم مصطنع، تحدوه تلك الرغبة الملحة في تحاشي الإساءة إلى أحد، وتحفزه تلك المشاعر المرهفة التي يعرف كل من عرفوه حق المعرفة أنها أروع خلاله، وأبرز سجاياه، وقد تأكد هذا الاعتقاد لدينا من حادث يلوح صغيرا وتافها في حد ذاته، ولكنه جدير بالتنويه، إذا نحن نظرنا إليه من هذه الناحية، فقد تيسر لنا أن نستخلص من «كناشة» المستر بكوك عبارة تفيد بأن الأماكن المطلوبة له ولمريديه كانت محجوزة قبيل السفر في المركبة الحافلة الشاخصة إلى «نوروك»، وإن كانت هذه العبارة قد شطبت فيما بعد، كأنما أريد إخفاء كل شيء يتصل بموقع هذه الدائرة، والطريق المؤدي إليها، ولهذا لا نريد أن نضرب في أودية الحدس، بل نمضي سراعا في سياق هذا التاريخ، قانعين بالمواد التي يسرها أبطاله لنا، والأشخاص الذين ورد ذكرهم في ثناياه.
يبدو إذن أن أهل «إيتنزول» كأهل عدة بلدان صغيرة أخرى، يعدون أنفسهم قوما لا يدانيهم أحد في خطر الشأن، وعلو المكانة، وأن كل رجل في «إيتنزول» يشعر بالقدر الواجب لأمثاله، فلا يتردد في الانتساب قلبا وقالبا إلى أحد الحزبين الكبيرين اللذين تقاسما البلدة بينهما، وهما حزب «الزرق»، وحزب «الصفر»، فأما الزرق فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها لمعارضة الصفر، ولم يكن الصفر ليدعوا فرصة إلا اهتبلوها لمعارضة الزرق، فكانت النتيجة أنه كلما التقى الزرق والصفر في اجتماع عام، سواء في قاعة البلدية أو المولد أو السوق، تبادلوا الكلمات الحادة، والألفاظ النابية، والنزاع المستحر، حتى لنحسب مع كل هذه الخلافات أننا بحاجة إلى القول بأن «الحزبية» في «إيتنزول» دخلت في كل شيء. فإذا اقترح الصفر بناء «كوة» في سقف السوق العامة؛ لدخول النور إليها، عقد الزرق اجتماعات، ونددوا بهذا الاقتراح وشنعوا عليه، وإذا اقترح الزرق إنشاء مضخة إضافية في شارع «هاي ستريت»، هب الصفر هبة رجل واحد، وأعلنوا استنكارهم لهذه الكبيرة المنكرة، وكانت في البلدة صحيفتان، صحيفة «الغازت إيتنزول»، وفنادق لهؤلاء، وفنادق لأولئك، وفي الكنيسة ذاتها للزرق جناح، وللصفر جناح.
ولم يكن بد لكل حزب من هذين الحزبين القويين بطبيعة الحال من أن يختار لسانه الناطق، وممثله الصادق، فكانت في البلدة صحيفتان: صحيفة «الغازت إيتنزول»، و«الإيتنزول الإنديبندنت»، أولاهما تذود عن مبادئ الزرق، والأخرى تنتهج سياسة الصفر قطعا، وكانت الصحيفتان ظريفتين بديعتين، فهما فصول افتتاحية أي فصول! وهجمات حامية أية هجمات! فتقول إحداهما عن زميلتها: «رصيفتنا الغازت المعدومة الفضل.» وتقول هذه: «الإنديبندنت المخادعة الخسيسة.» وتتحدث هذه عن «الغازت» قائلة: «تلك الصحيفة السافلة، العيابة الدساسة.» إلى آخر تلك الشتائم المثيرة للنفوس التي تتناثر غزارا في أعمدة كل صحيفة منهما، وتفيض بها أنهارها، ولا يخلو منها عدد من أعدادها، وتلك العبارات التي يسر لها القراء أشد السرور، أو يغضبون منها أبلغ الغضب، وكل حزب بصحيفتهم مرحون ...
وقد اختار المستر بكوك ببعد نظره المعروف، وفطانته المشهورة، الوقت الملائم كل الملاءمة لزيارة تلك الدائرة، فما عرف يوما فيها تنافس حامي الوطيس كذلك التنافس على الترشيح، بين «الأونورابل» صمويل سلمكي، من سلمكي هول، مرشح الزرق ، والسيد هوراشيو فزكن، من فزكن لودج بقرب إيتنزول الذي ألح عليه أصدقاؤه في قبول ترشيح نفسه عن حزب الصفر، وراحت صحيفة «الغازت» تهيب بالناخبين في الدائرة ألا ينسوا أن الأنظار - لا في إنجلترا فحسب، بل في جميع أرجاء العالم المتحضر أيضا - تتطلع إليهم، بينما طالبت «الإنديبندنت» حتما بأن تعرف هل ناخبو دائرة «إيتنزول» لا يزالون على عهدها بهم رجالا عظماء النفوس، أو انقلبوا آلات مهنية مسخرة، لا يستحقون اسم «الانجليز»، ولا هم جديرون بنعمة الحرية التي حباهم الله بها. وهكذا لم تشهد البلدة من الحمية والحماسة في يوم من الأيام قدر ما شهدت منهما الآن.
وكان المساء قد أوغل حين نزل المستر بكوك وصحبه من سقف المركبة الحافلة بمعاونة سام، فإذا هم يشهدون أعلاما زرقاء كبيرة ترفرف من شرفات فندق «تاون أرمز»، ويرون اللافتات منصوبة في كل نافذة، معلنة بحروف ضخمة أن لجنة الأونورابل صمويل سلمكي تنعقد يوميا في ذلك الفندق، ويبصرون حشدا من المتسكعين والمتبطلين قد ازدحم الطريق بهم، وهم يتطلعون بأبصارهم إلى رجل مبحوح الصوت جاهدا، حتى احمر من كثرة الصراخ وجهه، وإن كانت قوة حججه، ومحور خطابه قد ضاعا إلى حد ما وسط الدقات المستمرة من أربعة طبول ضخمة، كانت اللجنة الانتخابية المناصرة للمستر «فزكن» قد أقامتها في ركن الشارع، وكان بجانب الخطيب رجل نحيف كثير الحركة، جعل يرفع قبعته بين لحظة وأخرى، ويشير إلى الناس بمعاودة التصفيق والهتاف لذلك الخطيب، فكان الناس لا ينفكون يفعلون ذلك وهم في أشد الحماسة. ولبث السيد المحمر الوجه مسترسلا في الخطابة حتى ارتد وجهه أشد احمرارا، كأنما كانت حماسة القوم عنده وافية بالغرض، حتى ولو لم يسمع أحد مقاله.
وما إن نزل البكوكيون من المركبة، حتى أحاط بهم فريق من أفراد الغوغاء المخلصين الأوفياء، هاتفين ثلاثة هتافات تصم الآذان، وما لبث جموع الغوغاء الأخرى أن رددت تلك الهتافات؛ لأنه ليس من الضروري مطلقا أن يعرف المحتشدون حقيقة ما هم هاتفون بسبيله! فلم يلبث ترديدهم أن استحال إلى زئير انتصار يدوي في الفضاء دويا، حتى اضطر الخطيب المحمر الوجه في الشرفة إلى الوقوف عن الكلام.
وصاح الغوغاء في الختام: «مرحى!»
وصرخ الرجل النحيف الموكل بإعطاء الإشارة إلى الناس: «هتاف ... مرة أخرى!» فعاد الغوغاء يهتفون كأن رئاتهم من حديد، وأجهزتها من فولاذ ...
وصرخ الناخبون الأمناء الأحرار: «سلمكي إلى الأبد!»
وردد المستر بكوك وهو يرفع قبعته: «سلمكي إلى الأبد!» وصاح المحتشدون: «لا فزكن بعد الآن!»
وعاد المستر بكوك يهتف: «لا فزكن بعد الآن بلا شك ... مرحى ...!»
وأعقب الهتاف زئير جديد، كصيحة الحيوانات في حديقتها، حين يدق الفيل الجرس إيذانا بمجيء اللحم البارد.
وهمس المستر طبمن يسأل صاحبه: «ومن يكون سلمكي هذا؟»
وقال المستر بكوك هامسا كذلك: «لست أدري فلا تسأل عن شيء؛ لأنه من الخير في هذه المواقف وأشباهها أن يفعل المرء كما يرى الناس يفعلون!»
وهنا قال المستر سنودجراس: «ولكن افرض أن هناك فريقين منهم، فماذا تكون الحال؟»
فكان جواب المستر بكوك: «تهتف مع أكثر الفريقين عددا، وأعز نفرا!»
وكان ذلك الرد وحده أبلغ من جملة كتب ومجلدات.
ودخل الرفقاء الفندق، وأفسح الحشد لهم عن اليمين والشمال منتحين طريقا لمرورهم، وهم يهتفون أشد الهتاف.
وكان أول أمر أحق بالتفكير البحث عن أماكن للمبيت.
فنادى المستر بكوك أحد غلمان الفندق، وسأله قائلا: «هل نستطيع الظفر بسرر هنا؟»
وأجاب الغلام: «لا أعرف يا سيدي، أخشى أن يكون المكان ممتلئا يا سيدي، ولكني سأستفهم يا سيدي.»
وانصرف لتنفيذ هذا الغرض، ثم لم يلبث أن عاد ليسأل السادة هل هم من حزب «الزرق»؟
ولم يكن المستر بكوك، ولا أحد من صحابه معنيا بقضية الترشيح، ولا مهتما بأيهما يؤيد، فلا عجب إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال متعذرة.
وانثني المستر بكوك يسأل الغلام: «هل تعرف سيدا يدعى المستر بركر؟»
وأجاب الغلام قائلا: «بلا شك يا سيدي.»
قال: «أحسبه من الزرق؟»
وأجاب الغلام: «نعم يا سيدي.»
فصاح المستر بكوك قائلا: «نحن إذن ... زرق!»، ولكنه لاحظ على الرجل شيئا من التشكك عقب هذا الإعلان الصريح، فأعطاه «بطاقته»، وطلب إليه تقديمها إلى المستر بركر في الحال، إذا كان بالمصادفة مقيما في الفندق.
وانصرف الغلام، وعاد بعد هنيهة يرجو من المستر بكوك أن يتبعه، ومشى به إلى قاعة رحيبة في الطبقة الأولى من الفندق، حيث جلس المستر بركر إلى منضدة مغطاة بالكتب والأوراق.
وتقدم السيد النحيف للقائه: «آه ها، يا سيدي العزيز، إني لسعيد بلقائك يا سيدي العزيز جدا، تكرم بالجلوس، أهكذا أدخلت نيتك في حيز التنفيذ؟ لقد جئت إلى هنا لمشاهدة الانتخاب؟»
فأجاب المستر بكوك: «أي نعم.»
واستتلى الرجل النحيف قائلا: «المنافسة حامية الوطيس يا سيدي العزيز.»
وقال المستر بكوك وهو يفرك يديه: «يسرني أن أسمع ذلك؛ لأني أحب أن أشهد الوطنية الصلبة المكينة في أي جانب هي منبعثة متدفقة، المنافسة إذن حامية؟»
وأجاب الرجل النحيف: «أي نعم، إلى حد بالغ فعلا، وقد فتحنا جميع المقاهي، والمحال العامة في البلدة، فلم ندع لخصمنا منها شيئا غير حانات الجعة؛ ضربة عارف بالأمور يا سيدي العزيز، آه؟»
وابتسم الرجل النحيف ابتسامة سرور ورضى، وتناول قدرا كبيرا من السعوط، وسأل المستر بكوك: «وما هي النتيجة المرجحة لهذه المنافسة؟»
وأجاب الرجل النحيف: «لا تزال مشكوكا فيها إلى الآن يا سيدي العزيز، إن جماعة «فيزكين» احتجزوا ثلاثة وثلاثين ناخبا في مربط المركبات بفندق الأيل الأبيض.»
وقال المستر بركر، وهو هابط بصوته إلى ما يشبه الهمس: «أتقول في مربط المركبات؟»
ومضى الرجل النحيف يقول: «إنهم سيبقونهم في هذا المكان ريثما يحتاجون إليهم، والغاية من هذا الاحتجاز هي كما ترى منعنا من الوصول إليهم، ولو استطعنا لما كان ثمة أية فائدة؛ لأنهم يبقونهم سكارى عن عمد، إن وكيل فزكين داهية، داهية كبير فعلا.»
ولبث المستر بكوك محملقا، ولم يقل شيئا.
وقال المستر بركر راج، وهو هابط بصوته إلى ما يشبه الهمس: «ولكننا جد مطمئنين، وقد أقمنا هنا ليلة أمس حفلة شاي صغيرة، دعونا إليها خمسا وأربعين امرأة يا سيدي العزيز، وأعطينا كل واحدة منهن مظلة خضراء عند انصرافها.»
وقال المستر بكوك مبهوتا: «مظلة!»
ومضى المستر بركر يقول : «فعلا، يا سيدي العزيز، فعلا، وزعنا خمسا وأربعين مظلة خضراء بسعر الواحدة سبعة شلنات وستة بنسات؛ كل النساء بالزخارف والزينة مولعات، إن تأثير هذه المظلات خارق للمألوف؛ لأنها كفيلات بحصولنا على أصوات أزواجهن، ونصف عدد إخوتهن. إنها لتفوق في تأثيرها الجوارب والقمصان، وما إليها من الأشياء الجوفاء، إنها فكرتي يا سيدي العزيز، فكرتي أنا من جميع نواحيها، إنها تنفع في البرد والمطر والشمس على السواء، ولا تستطيع الآن أن تمشي بضع خطوات في الشارع دون أن تلتقي بعدد «من هذه المظلات الخضراء.»
وهنا استرسل الرجل النحيف في ضحك شديد، لم ينثن عنه إلا بدخول شخص ثالث، وكان هذا رجلا طويلا نحيلا ذا رأس رملي اللون، يميل إلى الصلع، ووجه امتزجت فيه رهبة المظهر بنظرة العمق الذي لا يسبر له غور، وكان مرتديا ثوبا أسود مستطيلا، وصدارا في مثل لون ردائه، وسراويل فضفاضة، ويتدلى منظار ذو زجاجتين من جيب صداره، وعلى رأسه قبعة خفيضة ذات حاشية عريضة، وتولى المستر بركر تعريف المستر بكوك به، فقال: إنه المستر «بت» رئيس تحرير «الغازت إيتنزول».
وبعد بضع ملاحظات تمهيدية راح المستر بت يدور بعينيه ناحية المستر بكوك، وهو يقول بلهجة الجد: «هل تثير هذه المنافسة اهتماما شديدا في العاصمة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أعتقد ذلك.»
وعاد المستر بت يقول وهو ينظر صوب المستر بركر مرتقبا منه التأمين على قوله: «إني لواثق أن بعض الفضل في ذلك يرجع إلى مقالي المنشور في يوم السبت الماضي.»
وأجاب السيد النحيف: «بلا أدنى شك.»
وقال المستر بت: «إن الصحافة أداة ذات قوة بالغة يا سيدي.»
ووافق المستر بكوك على هذا الرأي كل الموافقة.
واستتلى المستر بت قائلا: «ولكني على يقين يا سيدي من أنني لم أسئ يوما استغلال هذه القوة العظيمة التي في يدي، ولم أوجه هذا السلاح الرفيع الشأن الذي وضع في كفي في صدر حياة الأفراد الخاصة وقدسيتها، أو في صميم سمعة إنسان وشهرته، وأعتقد يا سيدي أنني كرست قواي وجهودي، وقد تكون هذه الجهود صغيرة متواضعة، بل أعرف أنها كذلك في سبيل غرس تلك المبادئ التي ...»
وهنا بدا على رئيس تحرير «الغازت إيتنزول» أن ذهنه بدأ يشرد، فبادر المستر بكوك إلى إسعافه قائلا: «بلا شك.»
وقال المستر بت: «ودعني أسألك يا سيدي، ما شعور الرأي العام في لندن من ناحية خصومتي مع جريدة «إيتنزول المستقلة»؟»
وتدخل المستر بركر قائلا، وهو ينظر نظرة استحياء يغلب على الظن أنها عريضة: «لقد تأثرت كثيرا بلا شك.»
ومضى المستر بت يقول: «ستبقى هذه الخصومة ما بقيت لي صحتي وقواي، وذلك النصيب من النبوغ الذي وهبته، ولن أنزوي أو أتراجع يا سيدي يوما عن هذا النضال، حتى أضع قدمي فوق هامة «إيتنزول المستقلة»، وإن كان نضالي حيالها قد يحدث بلبلة في عقول الناس، ويثير مشاعرهم، ويجعلهم عاجزين عن تأدية واجباتهم اليومية في الحياة العادية. إني أود أن يعلم أهل لندن وشعب هذا البلد جميعا يا سيدي، أن لهم أن يضعوا ثقتهم في شخصي، وأنني لن أتخلى عنهم، وأنني معتزم أن أقف بجانبهم يا سيدي إلى النهاية ...»
وقال المستر بكوك: «إن تصرفك يا سيدي نهاية في النبالة، وسمو النفس.» وراح يتناول يد «بت» العظيم.
وعاد المستر بت يقول، وهو يكاد تتقطع أنفاسه من تأثير هذا التصريح الوطني الذي أدلى به: «إنني أراك يا سيدي أخا رجاحة ونبوغ، وإني لسعيد كل السعادة يا سيدي بمعرفة رجل مثلك.»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «إنني أشعر بشرف عظيم من هذا الرأي الذي أبديته، اسمح لي يا سيدي بأن أقدم إليك رفقائي في سفري، وهم أعضاء مراسلون أيضا في النادي الذي أفخر بأنني مؤسسه.»
وقال المستر بت: «يسرني التعارف بهم كل السرور.»
فانصرف المستر بكوك لحظة، وعاد بأصحابه، فقدمهم كما تقتضي المراسيم إلى رئيس تحرير «الغازت إيتنزول».
وهنا قال المستر بركر: «والآن يا عزيزي «بت» ... إن المسألة التي أمامنا اللحظة هي ماذا نحن صانعون لأصدقائنا هنا؟»
وقال المستر بكوك: «أظن أن في إمكاننا أن ننزل في هذا الفندق.»
وأجاب المستر بيركر: «ليس فيه ولا سرير واحدا خاليا يا سيدي العزيز، ولا سرير واحدا.»
وقال المستر بكوك: «هذا غريب كل الغرابة!»
وتبعه رفقاؤه قائلين: «جدا!»
وانثنى المستر بت يقول: «عندي فكرة في هذا الموضوع، قد تكون موفقة كل التوفيق، إن في فندق «بيكوك» سريرين، وفي إمكاني أن أجترئ فأقول بالنيابة عن مسز بت: إنها ستسر كل السرور بتوفير مكان للمستر بكوك، وواحد من أصدقائه في بيتنا، إذا لم يكن ثمة مانع لدى السيدين الآخرين وخادمهما من التنقل حيث يشاءون في فندق «بيكوك».
وبعد إلحاح متكرر من جانب المستر بت، وتكرار رجاء من الأعضاء من هذا الاقتراح من جانب المستر بكوك، محتجا بأنه لا يرضى لنفسه أن يحدث مضايقة أو تعبا لزوجته الفاضلة، تم الاتفاق على أن هذا هو التدبير الميسور الذي يمكن اتخاذه، وتم هذا فعلا، وعقب أن تناول الأصدقاء طعام الغداء معا في فندق «تاون آرمز» افترقوا، فذهب المستر طبمن والمستر سنودجراس إلى فندق «بيكوك»، واتجه المستر بكوك والمستر ونكل إلى دار المستر بت، بعد أن اتفق الجميع على أن يتوافوا إلى فندق «تاون آرمز» في الصباح؛ لمرافقة موكب السيد المحترم صمويل سلمكي إلى مقر الانتخاب.
وكانت أسرة المستر بت مقصورة عليه هو وزوجته وحدهما، ولا يخفى أن الذين رفعتهم عبقريتهم الجبارة إلى مصاف الأعلام البارزين في هذا العالم، لا يخلون عادة من مواطن ضعف صغيرة، تلوح أوضح وأجلى ظهورا مما هي في الواقع، لتناقضها مع شخصيتهم العامة، وإذا كان في المستر بت نقطة ضعف، فقد كان موطن الضعف فيه أنه «يكاد يبدو» خاضعا أكثر مما ينبغي لرقابة زوجته عليه، وسلطانها الذي لا يخلو من الغض والازدراء به، وإن كنا لا نجد مبررا يدعو إلى تعليق أهمية خاصة على هذه الحقيقة؛ لأن مسز بت في هذا الحادث بالذات أبدت أدبا جما، وسلوكا يستهوي النفوس، وفتونا يستبي الأفئدة في استقبال السيدين.
وقال المستر بت وهو يقدم الضيفين: «يا عزيزتي، هذا هو المستر بكوك ... المستر بكوك من لندن.»
وتلقت مسز بت يد المستر بكوك الأبوية بعذوبة ساحرة ، بينما وقف المستر ونكل الذي لم يقدم إليها إطلاقا، في ناحية مظلمة، وهو يحني رأسه بالتحية دون أن يأبه أحد به.
وقالت مسز بت: «يا عزيزي ب.»
وأجابها المستر بت قائلا: «إيه يا عزيزتي.»
قالت: «من فضلك عرفني بالسيد الآخر.»
قال: «ألف معذرة! اسمح لي - مسز بت، المستر ...» وعاجله المستر بكوك قائلا: «المستر ونكل.»
وردد بت الاسم: «ونكل.»
وتم التعارف ...
وأنشأ المستر بكوك يقول: إننا معتذران لك يا سيدتي كثيرا عن إزعاجنا لنظامكما المنزلي في «ساعة ضيقة».
وأجابت السيدة بت برشاقة بالغة: «أرجوك يا سيدي ألا تذكر هذا، وأؤكد لك أن هذه متعة كبيرة لي، أن أشهد وجوها جديدة؛ لأنني أعيش من يوم إلى يوم، وأسبوع إلى أسبوع، في هذا المكان المضجر دون أن أرى أحدا.»
وقال المستر بت مداعبا: «لا ترين أحدا يا عزيزتي!»
وأجابت مسز بت بحدة: «لا أحد سواك.»
وقال رب الدار لضيفه، تعليلا لأسف زوجته وضجرها: «وهكذا ترى يا مستر بكوك أننا إلى حد ما منقطعان عن عدة ملذات ومسرات، كان من الجائز أن نتناول قسطا منها. إن مركزي في رياسة تحرير «الغازت إيتنزول»، والمكانة التي تحتلها هذه الصحيفة في البلاد، وانغماسي المستمر في دوامة السياسة ...»
وهنا قاطعته مسز بت قائلة: «عزيزي ب ...»
وقال رئيس التحرير: «نعم يا حياتي.»
فعادت تقول: «أود يا عزيزي أن نحاول إيجاد موضوع آخر للحديث يتسنى لهذين السيدين أن يجدا فيه مصلحة وطنية.»
وقال المستر بت بذلة بالغة: «ولكن المستر بكوك يا حبيبتي يبدي اهتماما به.»
وقالت مسز بت بلهجة التوكيد: «لا بأس عليه إذا هو استطاع، ولكنني تضايقت أشد الضيق من سياستك ومشاداتك مع «الجريدة المستقلة»، وهذا الهراء كله، وإني لمندهشة حقا يا «ب» من هذا العرض الذي تريد به إظهار سخافتك!»
وقال المستر بت: «لكن يا عزيزتي ...»
وعاجلته زوجته قائلة: «أوه! كلام فارغ! لا تكلمني! هل تلعب «الأكارتيه» يا سيدي؟»
وأجاب المستر ونكل قائلا: «يسعدني كل السعادة أن أتعلمها منك.»
قالت: «إذن قرب هذه المنضدة الصغيرة من هذه النافذة ، ودعني أبتعد من سماع هذا الكلام السقيم في السياسة.»
وقال المستر بت للخادم التي أحضرت الشموع: «اذهبي يا جان إلى مكتبي في الدور الأول، وهات الملف الخاص «بالغازت» عن عام 1828.» والتفت إلى المستر بكوك، ومضى يقول: «سأقرأ عليك بضع افتتاحيات كتبتها في حينها عن تعيين واحد من الصفر جابيا جديدا لجمع المكوس هنا، وأعتقد أنها ستسرك.»
وقال المستر بكوك: «أحب كثيرا أن أسمعها.»
وجاء الملف، وجلس رئيس التحرير وبجانبه جلس المستر بكوك.
وقد بحثنا عبثا في كل صفحات «كناشة» المستر بكوك على أمل الاهتداء إلى خلاصة عامة لتلك المقالات الإنشائية الجميلة، ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأنه وجد لذة تامة في قوة أسلوبها وطرافته، وقد رأينا المستر ونكل يسجل من جانبه القول بأن عينيه ظلتا مغمضتين - كأنما إغماضهما من فرط السرور - طيلة الوقت الذي استغرقتها قراءتها.
وجاء إعلان القوم أن العشاء قد هيئ، فأوقف لعب «الأكارتيه»، وقراءة المقالات الجميلة في «الغازت إيتنزول»، وبدت مسز بت أصفي ما تكون مزاجا، وأبدع ما تكون نفسية، وكان المستر ونكل قد قطع شوطا كبيرا في كسب جميل رأيها فيه، فلم تتردد في إبلاغه سرا أن المستر بكوك شيخ لطيف ظريف، وهي عبارة تنطوي على تعبير اعتاد بعض الذين توثقت معرفتهم بذلك الرجل الجهار الذهن التحدث به، والكلام فيه، وقد حرصنا على إيراده هنا؛ لما فيه من دليل يهز القلوب لتوه وساعته، ويقنع النفوس بذلك التقدير الذي تقدره به كل طبقة من طبقات المجتمع، والسهولة التي يشق بها طريقه إلى المشاعر والأفئدة.
وكان الوقت متأخرا، وقد أوغل الليل، حين أوى الصديقان إلى الراحة، بعد أن استولى النعاس على صاحبيهما الآخرين، وهما المستر طبمن والمستر سنودجراس في بعض زوايا فندق «بيكوك» بوقت طويل، ولم يلبث النوم أن أخذ بمعاقد أجفان المستر ونكل، ولكن مشاعره كانت قد اضطربت، وإعجابه قد استثير، فلبث وجه السيدة بت الجميل، وقوامها المحبب، عدة ساعات بعد أن غشي النوم على حواسه، فلم يعد يشعر بأمور الدنيا ومشاهدها، يتراءيان مرة بعد أخرى لخياله السابح، ويتمثلان له في شوارد أحلامه، وسوانح رؤاه.
وكانت الضوضاء والحركة اللتان عادتا مع مطالع الصباح كافيتين لأن تنفيا من خاطر أغزر الخياليين في العالم خيالا، كل شيء غير الأفكار المتصلة رأسا بالانتخاب، الذي أخذ موعده يقترب مسرعا، فلم يلبث قرع الطبول، والنفخ في الأبواق والمزامير، وصيحات الناس، ومواقع حوافر الخيل أن ترددت أصديتها في الشوارع من أبكر ساعات الفجر وبوادره، وجاءت معركة عارضة بين خفاف المناوشين من كل حزب، فزادت في الحال حركة الاستعدادات صخبا، ونوعت صورها وأشكالها تنويعا لطيفا مقبولا ...
وأنشأ المستر بكوك يقول «لسام» غلامه حين ظهر بباب غرفة نومه، في اللحظة التي كان يتم فيها زينته: «إيه يا سام، أظن الحياة قد دبت اليوم في كل شيء.»
وأجاب المستر ولر: «مباراة منظمة يا سيدي، إن جماعتنا يتوافون الساعة إلى الفندق، وقد بدأت أصواتهم تبح من الصياح الآن.»
وعاد المستر بكوك يسأل غلامه قائلا: «وهل يبدو عليهم يا سام أنهم فعلا مخلصون لحزبهم.»
وقال سام: «لم أر يا سيدي إخلاصا كهذا في حياتي.»
وقال المستر بكوك: «قويا، آه؟»
وأجاب سام: «بشكل غير عادي، لم أر الناس من قبل يأكلون ويشربون إلى هذا الحد الكبير، وأعجب أنهم لا يخافون أن «يتفجروا» من كثرة الأكل والشراب على هذه الصورة.»
وقال المستر بكوك: «هذا يرجع إلى خطأ السادات هنا في فهم معنى العطف والحنان.»
وأجاب سام بإيجاز: «جائز جدا.»
وألقى المستر بكوك نظرة من النافذة وهو يقول: «يلوحون لي أناسا خفافا لطافا ظرافا.»
وأجاب سام قائلا: «ظرافا للغاية، لقد كنت أنا واثنان من خدم فندق بيكوك نضع تحت «المضخة» الناخبين المؤيدين لصحيفة «إنديبندنت» الذين كانوا يتعشون هناك في الليلة الماضية.»
وصاح المستر بكوك قائلا في دهشة: «تضعونهم تحت المضخة!»
وأجاب خادمه: «نعم، فقد نام كل إنسان حيث سقط، فكنا نجرهم في هذا الصباح واحدا بعد واحد إلى المضخة؛ فنضعهم تحتها، ونترك الماء ينزل عليهم، وهم الآن في حال حسنة، وشكل بديع، وقد دفعت لنا اللجنة على هذا العمل شلنا عن كل رأس.»
وصاح المستر بكوك في دهشة: «أيمكن أن تحدث هذه الأمور؟»
وقال سام: «يا سيدي، بارك الله في عمرك، بالله أين كان مولدك؟ هذه أمور بسيطة جدا، فما بالك بغيرها إذن؟ هذه لا شيء.»
وقال المستر بكوك «لا شيء!»
وأجابه غلامه: «لا شيء مطلقا يا سيدي، لقد حدث في الليلة السابقة لآخر يوم في الانتخاب الأخير هنا أن الحزب المعارض رشا الساقية في فندق «تاون آرمز»؛ لغش البراندي الذي ستقدمه لأربعة عشر ناخبا لم يكونوا قد أعطوا أصواتهم، وكانوا نازلين في هذا الفندق.»
فسأله المستر بكوك: «ماذا تقصد بكلمة غش البراندي؟»
وأجاب سام قائلا: «يعني تضع فيه منوما، وقد فعلت الساقية، فتركتهم ينامون جميعا إلى ما بعد انتهاء الانتخاب باثنتي عشرة ساعة، واضطر القوم أن يحملوا واحدا منهم إلى صندوق الانتخاب في مركبة نقل، وهو نائم غارق في النوم، على سبيل التجربة، ولكنها لم تفلح؛ لأن اللجنة رفضت، فاضطروا إلى العودة به وألقوه في فراشه ليواصل النوم مرة أخرى.»
وقال المستر بكوك محدثا نفسه، ومخاطبا سام في وقت واحد: «هذه تصرفات غريبة!»
وأجاب سام: «ليست غريبة كثيرا بالنسبة لظرف عجيب حدث لوالدي نفسه في أحد الانتخابات في هذه الدائرة ذاتها يا سيدي.»
قال: «وكيف كان ذلك؟»
ومضى سام يقول: «كان والدي يسوق مركبة إلى هنا في ذات مرة، فحل موعد الانتخاب، فأستجأره أحد الحزبين لإحضار ناخبين من لندن، وفي الليلة السابقة لموعد انصرافه، بعثت اللجنة الانتخابية لتأييد مرشح الحزب الآخر في طلبه سرا، فذهب مع الرسول، وأدخله الرسول على اللجنة، وكانت تجلس في غرفة واسعة، فرأى خلقا كثيرا فيها، وأكواما من الأوراق والأقلام والمحابر وغيرها، وقال السيد الجالس في كرسي الرياسة: «آه يا مستر ولر، يسرني لقاؤك يا سيدي، كيف حالك؟» وقال والدي: «بخير والحمد لله، أشكرك يا سيدي.» وقال السيد الرئيس: «أرجو أن تكون الأحوال بين بين.» وأجاب والدي: «الحال طيبة، وأشكرك يا سيدي.» وقال السيد: «اجلس يا مستر ولر، أرجوك أن تجلس يا سيدي.» فجلس والدي، وراح هو والسيد يتبادلان النظر طويلا، وبدأ السيد يقول: «ألا تتذكرني؟» وأجاب والدي: «لا أستطيع أن أقول.» وقال السيد: «أنا عارفك ... لقد عرفتك وأنت غلام.» وأجاب والدي: «والله أنا غير متذكر.» وقال السيد: «شيء غريب جدا، لا بد أن تكون ذاكرتك ضعيفة يا مستر ولر.» وأجاب والدي: «ذاكرتي ضعيفة جدا.» وقال السيد: «أعتقد ذلك.» وعندئذ ملئوا له كأسا من النبيذ، وطفقوا يتحدثون معه عن سوقه، ويداعبونه، ويمزحون معه، وأخيرا دسوا ورقة بعشرين جنيها في يده، وعاد السيد يقول: «إن الطريق رديء للغاية من هنا إلى لندن.» وأجاب والدي: «إنه طريق ثقيل في بعض أجزائه.» وقال السيد: «وبالأخص قرب القناة.» وقال والدي: «هذا طريق ملعون جدا.» وقال السيد: «ولكنك يا مستر ولر سواق بارع تحسن استخدام السوط، وتفعل بخيلك ما تشاء، ونحن جميعا نحبك يا مستر ولر، فإذا كان لا بد أن يقع حادث وأنت قادم بأولئك الناخبين إلى هنا، فليكن ذلك الحادث إسقاطهم في القناة، ولكن دون أذى لهم، وهذا المبلغ لمزاجك.» وقال الوالد: «هذا كريم منك يا سيد، وسأشرب كأسا في صحتك.» وراح يشربها، ووضع المال في جيبه، وضم ثوبه عليه، وانحنى مسلما وخرج.»
ومضى سام يقول وهو يلقي على سيده نظرة جريئة صامتة لا يمكن التعبير عنها: «وسوف لا تصدق يا سيدي إذا قلت لك أن المركبة التي جاء فيها بأولئك الناخبين في ذلك اليوم انقلبت عن تلك النقطة عينها، وسقطوا كلهم في القناة ...!»
وأسرع المستر بكوك في سؤاله: «وهل خرجوا منها؟»
وأجاب سام بكل رفق وبطء: «أظن أنه ظهر أن شيخا منهم لم يعثر عليه، ولكني علمت أن قبعته وجدت، وإن لم أكن متأكدا تماما هل كان رأسه فيها أو لا، وكل ما أنا مندهش له هو هذه المصادفة العجيبة المدهشة؛ إن مركبة والدي بعد الذي قاله ذلك السيد رئيس اللجنة الانتخابية قد انقلبت في تلك الجهة بالذات، وفي ذلك اليوم بعينه ...!»
وقال المستر بكوك: «إنه بلا شك ظرف غير مألوف بالمرة، ولكن نظف قبعتي يا سام؛ لأنني أسمع صوت المستر ونكل يناديني إلى الفطور.»
ومضى المستر بكوك بعد هذه الكلمات يهبط السلم إلى قاعة الجلوس؛ حيث وجد طعام الإفطار مهيأ، والأسرة مجتمعة، ولم تلبث الوجبة أن انتهت، وزينت قبعة كل من السيدين بشارة زرقاء بارزة، وكان المستر ونكل قد تعهد بمرافقة السيدة إلى سطح أحد المساكن القريبة من مكان الانتخاب، فذهب المستر بكوك والمستر بت وحدهما إلى فندق «تاون آرمز»، وكان أحد أعضاء لجنة المستر سلمكي واقفا في شرفة خلفية منه يخطب في ستة أولاد صغار وصبية، وهو يمجدهم بين كل عبارة وأخرى من خطابه بمناداتهم: يا رجال «إيتنزول»، فكان أولئك الغلمة يستقبلون هذا اللقب المخلوع به عليهم بأشد الهتاف والتصفيق.
وكان فناء الإسطبلات في الفندق مظهرا صادقا من مظاهر قوة «الزرق»، وروعتهم وجلالهم، فقد كان هنالك جيش منظم من حملة الأعلام الزرقاء، بعضهم يحمل سارية واحدة، والآخرون يحملون ساريتين، وقد ازدانت تلك الأعلام بوسائل مبتكرة، وزخارف مناسبة، وكتب عليها عبارات بحروف مذهبة، وهي ترتفع أربعة أقدام، وتلوح كبيرة الأحجام، كما كانت هناك فرقة موسيقية كبيرة، تتألف من طبول ومزامير وأبواق، ويسير أفرادها أربعة أربعة، ويبرئون ذممهم من الأجر الذي يتقاضونه بحق، ولا سيما الطبالون منهم، فقد كانوا أشداء مفتولي العضلات، إذا صح أن في الناس من يكسب أجره بحق، وكان هنالك أيضا جماعات من المحافظين على النظام يحملون عصيا زرقاء، وأعضاء اللجنة - وهم عشرون عضوا - يضعون أغطية زرقاء حول أعناقهم، وجمع حاشد من السوقة يلبسون قبعات بهذا اللون، وكان هنالك ناخبون على ظهور الخيل، وآخرون مشاة، ومركبة مكشوفة بأربعة جياد لمركب السيد الشريف صمويل سلمكي، وأربع مركبات بحصانين لأصدقائه ومؤيديه، وكانت الأعلام خفاقة، والموسيقى عازفة، والمحافظون على النظام يسبون ويلعنون، وأعضاء اللجنة يتشاحنون ويتشاجرون، والغوغاء يصيحون ويصرخون، والجياد تتواثب وتتراجع، والسائسون تتفصد جباههم عرقا، وكل من في الموضع، وكل ما في الساحة، قد هيئ واجتمع وتوافر لخدمة السيد الشريف صمويل سلمكي ومصلحته، وشرفه وسمعته، وهو أحد المرشحين عن دائرة إيتنزول للنيابة عنها في مجلس العموم ببرلمان المملكة المتحدة.
وتعالت الهتافات واستطالت، وخفقت الرايات - وقد كتب على أديم إحداها «حرية الصحافة» - في اللحظة ذاتها التي أشرف فيها رأس المستر بت الأصفر الشعر على الحاشدين من إحدى الشرفات، على السوقة المحتشدين في الفناء، وما كان أشد الحماسة التي استقبل بها السيد الشريف صمويل سلمكي، وقد تقدم في حذائه الطويل، وغطاء رقبته الأزرق، فتناول يد المستر بت، معبرا في صورة «مسرحية» للمحتشدين في الساحة عن شكره الذي لا يمحوه شيء، ودينه الذي لا يفي به عرفان لجريدة «الغازت إيتنزول».
وانثنى المستر صمويل سلمكي يسأل المستر بركر: «هل كل شيء على ما يرام؟»
وأجاب ذلك الرجل النحيف: «كل شيء يا سيدي العزيز.»
وقال السيد الشريف: «أرجو ألا تكونوا قد نسيتم شيئا.»
وأجاب المستر بركر: «لم نترك شيئا يصح أن يفعل إلا فعلناه يا سيدي العزيز، لا شيء إطلاقا، إن لدى الباب المؤدي إلى الشارع عشرين شخصا اغتسلوا واستحموا وتهيئوا لتتقدم إليهم فتصافحهم بيدك، وستة أطفال محمولين على الأذرع لكي تربت على رءوسهم بكفك، وتسأل عن أعمارهم، فاهتم خاصة بالأطفال يا سيدي العزيز، فإن هذه الحركة كبيرة الأثر في النفوس دائما.»
وقال السيد الشريف صمويل سلمكي: «سأهتم بالأمر.»
وعاد السيد النحيف الفطن المحتاط لكل شيء يقول: «ويمكن أيضا يا سيدي العزيز، إذا استطعت، لأني أريد أن أقول إن ذلك شيء لا يمكن الاستغناء عنه، وإنما أقول إذا تيسر أن تقبل واحدا منهم، فثق أن ذلك سيحدث تأثيرا عظيما جدا في نفوس الناخبين.»
وهنا سأل السيد الشريف قائلا: «ألا يمكن أن يحدث هذا التأثير العظيم ذاته إذا تولى عملية التقبيل أحد من الأنصار والمؤيدين؟»
وأجاب الوكيل: «أخشى ألا يحدثه، أما إذا توليتها أنت بنفسك يا سيدي العزيز، فإني أعتقد أنها ستجعلك محبوبا من الشعب كل المحبة.»
وقال السيد المحترم بلهجة المستسلم: «ليكن ذلك، ما دام لا مفر منه ...»
وصاح أعضاء اللجنة العشرون: «أعدوا الموكب.»
وفي الحال، ووسط الهتاف المدوي من حناجر المحتشدين، اتخذت الفرقة الموسيقية، والمحافظون على النظام، وأعضاء اللجنة الانتخابية، وجموع الناخبين، والخيالة، والمركبات، أماكنهم من الموكب الزاخر، وامتلأت كل مركبة من المركبتين اللتين يجرهما حصانان بأقصى عدد من الركاب يمكن حشرهم فيها وقوفا على سوقهم، وركب في الأخرى المستر بكوك، والمستر بركر، والمستر طبمن، والمستر سنودجراس، ونحو ستة من أعضاء اللجنة أيضا.
وسادت لحظة رهيبة، وغمرها سكون مروع؛ انتظارا لظهور السيد المحترم صمويل سلمكي، وتقدمه ليستقل المركبة ليبدأ الموكب سيره، ولم تلبث الجماهير أن أرسلت فجأة هتافا مدويا.
وقال المستر بركر في حماسة بالغة: «لقد خرج إليهم.» ولم يكن السيد النحيف في موضع يمكنه أن يمكن الركب الذين معه من رؤية ما هو حادث.
وتعالى هتاف آخر أشد دويا من سالفه.
وعاد المستر بركر يقول: «لقد صافح الناخبين بيده.»
ودوى هتاف ثالث أبعد صدى.
فقال المستر بركر وهو يرعش من شدة الفضول والسعوط: «لقد ربت بيده على رءوس الولدان.»
وعاد الهتاف يشق عنان السماء.
وصاح السيد النحيف وهو في فرح بالغ: «لقد قبل أحدهم.»
وتعالى الهتاف مرة أخرى.
وعاد السيد النحيف يصيح من شدة الحماسة: «لقد راح يقبلهم جميعا.»
وبدأ الموكب يشق طريقه وسط صيحات تصم الآذان.
وليس في إمكاننا أن نصف كيف اختلط هذا الموكب بالموكب الآخر، أو بأية وسيلة اختلط، وكيف تواتى له الخروج من الفوضى التي ضربت أطنابها، من جراء هذا الاختلاط، وكل ما في وسعنا أن نقوله إن قبعة المستر بكوك طارت من فوق رأسه؛ فهبطت فوق عينيه وأنفه وفمه، بسبب سارية من ساريات أعلام «الصفر»، أصابتها في بداية الموكب، وقد وصف هو المشهد بقوله إنه وجد نفسه - حين تيسر له أن يلتقط لمحة من المشهد - محاطا من كل جانب بوجوه غاضبة، وسحنات كاشرة، وغمامة كثيفة من الغبار، وحشد حاشد من المتشاجرين، وقال إن قوة خفية أنزلته من المركبة كرها، وإنه اشتبك أيضا في معركة ملاكمة، ولكنه لا يعرف مطلقا مع من اشتبك أو كيف، أو لماذا، ثم وجد نفسه يدفع من الخلف دفعا فوق مدارج سلم خشبي، ولم يكد يرفع قبعته عن رأسه حتى رأى نفسه بين أصدقائه في مقدمة الجانب الأيسر من المنصة، وكان الجناح الأيمن مخصصا لحزب «الصفر»، والجزء الأوسط منها للعمدة وموظفيه، وكان أحدهم - وهو المنادى البدين في المدينة - يقرع ناقوسا ضخما، يطلب أن يسود الصمت، بينما كان السيد هوراشيو فيزكن والسيد المحترم صمويل سلمكي قد وضعا يديهما فوق قلبيهما، وهما يدليان في تلطف متناه لذلك البحر الزاخر من الرءوس الذي غمر مقدمة الساحة المكشوفة، وقد تصاعدت من ناحيتها عواصف وزوابع من الأنات والصرخات والصيحات والصفير، تزري بما للزلزال من تأثير.
وقال طبمن: «هناك، فوق سطح ذلك البيت ... ها هو ذا ونكل!»
وقال المستر بكوك، وهو يضع منظاره فوق عينيه، وكان لحسن الحظ قد حفظه في جيبه إلى تلك اللحظة: «أين؟»
وقال طبمن: «هناك، فوق سطح ذلك البيت.»
وبالفعل كان المستر ونكل ومسز بت هنالك فوق الأنابيب المصنوعة من الرصاص في سطح بيت من القرميد يجلسان مستريحين على مقعدين، وهما يلوحان بمنديلهما تلويحة توحي أنهما قد لمحا المستر بكوك وزميله، وهي تحية رد عليها المستر بكوك بقبلة من يده أسلمها إلى الريح لتحملها إلى السيدة.
ولم تكن الإجراءات المتبعة في هذا الموقف قد ابتدأت بعد، والمعروف عن الجماهير، حين لا تجد شيئا تنشغل به، أن تنبعث إلى «التنكيت»، فكانت تلك الحركة البريئة من جانب المستر بكوك كافية لإثارة المجون.
الانتخابات في إيتنزول.
فصاح صوت قائلا: «آه، أيها العجوز الخبيث، الذي ينظر إلى البنات! أليس كذلك؟»
وصاح آخر: «ارجع أيها الشيخ عن الإثم، وتب يوما.»
وصاح ثالث يضع المنظار على عينيه: «ليغازل امرأة متزوجة!»
وصرخ رابع: «أراه يغمز لها بطرف عينه الأثيمة.»
وقال خامس: «احرص يا بت على امرأتك.»
وتعالت الضحكات.
وكان غضب المستر بكوك على أشده، من هذه النكات التي اقترنت بمقارنة مثيرة بينه وبين رجل كبير السن، واختلطت بعدة مداعبات ونكات من هذا النوع وأمثاله، والتي أريد منها أيضا المساس بشرف سيدة بريئة، فكاد يرفع الصوت محتجا، لولا أن طلب إلى الجمع التزام السكوت؛ فاكتفى بإرسال نظرة قاسية عابسة إلى الجماهير، ورثاء لعقولها الضالة، فما زادتهم نظرته هذه إلا ضحكا مدويا، واستهزاء متناهيا.
وصاح رجال العمدة: «سكوتا!»
وقال العمدة بلهجة فخمة تليق بمركزه الرفيع: «يا ويفن، اطلب إليهم السكوت.»
وامتثالا لهذا الأمر عاد المنادي يقرع الناقوس، وعندئذ صاح أحدهم قائلا: «أين الفطير؟» فدوت الضحكات مرة أخرى.
وبدأ العمدة يخطب، فقال بأعلى صوت استطاع إطلاقه من حنجرته: «أيها السادة، أيها الإخوان، ناخبي دائرة إيتنزول، لقد اجتمعنا هنا اليوم لانتخاب نائب يشغل المقعد الخالي بوفاة المرحوم ...»
وهنا قاطعه صوت من جانب الجمهور يقول: «ليحي العمدة، وليكن النجاح والتوفيق نصيبه، حتى لا يفلت من كفه المسمار وطبق الفنجان اللذان يتقاضى منهما مرتبه!»
فقوبلت هذه الإشارة إلى مهنة الخطيب ووظيفته بعاصفة من الضحك والسرور، فلم تلبث بقية خطبته من أثر قرع الناقوس مرة بعد أخرى أن ضاعت في الهواء، ولم تعد مسموعة إلا حين بلغ منها العبارة الختامية التي شكر فيها للجمهور انتباهه وإصغاءه لخطبته من بدايتها إلى خاتمتها، وهو شكر قوبل بعاصفة جديدة من الضحك لبث ربع ساعة مدويا.
وانبرى عندئذ رجل نحيف طويل العود يلبس قميصا أبيض، مكويا بالنشاء؛ ليخطب في الجماهير المحتشدة، ولكنه ما كاد يتكلم حتى ارتفعت الأصوات من كل ناحية تطلب إليه أن يرسل غلاما إلى بيته ليسأل امرأته: هل تراه ترك صوته تحت الوسادة! بيد أنه استطاع أن يقول إنه يرجو أن يرشح الشخص الجدير بشرف النيابة عنهم في البرلمان. ولما قال إن هذا الشخص هو السيد هوراشيو فيزكن، قابله أنصار فيزكن بالهتاف، ومؤيدو سلمكي بالصفير، واشتد الهتاف والصفير لحظة طويلة، حتى لقد كان في وسع الخطيب والذي سيليه فوق المنبر أن يغنيا أغنيات فكهة، بدلا من أن يخطبا ويناشدا، دون أن يأبه بهما أي مخلوق لغنائهما.
وبعد أن فرغ أنصار هوراشيو فيزكن من دورهم، تقدم رجل صغير الجثة، سريع الغضب، قرنفلي الوجه، ليقترح مرشحا آخر خليقا بأن يمثل ناخبي إيتنزول في البرلمان، وكان من الجائز لذلك الرجل القرنفلي الوجه أن يمضي في خطبته سابحا طافيا، لو لم يكن مفرطا في الغضب والاحتداد إلى حد جعله لا يفطن إلى مجانة الجماهير ودعابتها، ولكنه بعد بضع كلمات حشد فيها ألوانا من الاستعارات والمجاز، انتقل من التنديد بأولئك الذين قاطعوه إلى تبادل التحدي مع السادة القائمين فوق المنصة، فلم تلبث أن ارتفعت صيحات مزمجرة في وجهه، فاضطر إلى التعبير عن مشاعره بالإشارات والحركات دون الكلام، ثم ترك المنصة للخطيب الذي يليه، فقام هذا يلقي خطبة مكتوبة استغرقت نصف ساعة، وهو يأبى الامتناع عن الكلام، والوقوف عن الخطبة؛ لأنه كان قد بعث بها إلى صحيفة «الغازت إيتنزول»، وكانت الصحيفة قد نشرتها فعلا بحذافيرها.
وعندئذ تقدم السيد هوراشيو فيزكن من «لودج فيزكن» بقرب إيتنزول ليخطب في جموع الناخبين، ولكنه ما كاد يبدأ الكلام حتى أخذت الفرقة الموسيقية التي استأجرها السيد المحترم صمويل سلمكي تعزف بقوة لم يكن صخبها في الصباح ليذكر بجانب ضوضائها في هذا المقام، فما كان من أنصار «الصفر» للرد على هذا إلا أن راحوا يضربون بالعصي رءوس «الزرق» وأكتافهم، ومضى هؤلاء يحاولون التخلص من هؤلاء الجيران الثقلاء معاشر الصفر، وعندئذ بدأ التدافع والتجاذب والعراك بين الفريقين، وهو مشهد ليس في إمكاننا أن نؤدي له من حق الإنصاف أكثر مما فعله «العمدة»، وإن كان قد أصدر أوامر مشددة إلى اثني عشر رجلا من القائمين على حفظ النظام بالقبض على كبار الجناة، وهم قرابة مائتين وخمسين رجلا، وكان السيد هوراشيو فيزكن وأصحابه خلال هذه الملاحم والاشتباكات قد استشاطوا غيظا، وتناهوا في الغضب والهياج، حتى اضطر السيد هوراشيو في النهاية أن يرجو إلى منافسه السيد المحترم صمويل سلمكي أن ينبئه هل كان عزف تلك الفرقة الموسيقية تنفيذا لأمر صادر منه؟ ولكن السيد المحترم صمويل سلمكي رفض الإجابة عن هذا السؤال، فما كان من السيد هوراشيو فيزكن إلا أن هز قبضة يده في وجه السيد المحترم، وعندئذ تصاعد الدم في وجه هذا السيد، فطلب إلى منافسه المبارزة، وإزاء هذه المخالفة الصارخة لجميع القواعد والسوابق المتصلة بأمر النظام وصونه، طلب العمدة إلى «المنادي » أن يقرع الناقوس، وأعلن أنه سوف يدعو كلا من السيد هوراشيو فيزكن، والسيد المحترم صمويل سلمكي إلى الحضور أمامه، وينذرهما بوجوب حفظ النظام، وأمام هذا التنديد المروع تدخل أنصار المرشحين، وبعد أن قضى أصدقاء كل حزب ومريدوه ثلاثة أرباع الساعة في مشاجرات ومنازعات بين كل اثنين من الفريقين، رفع السيد هوراشيو فيزكن يده، فلمس قبعته تحية للسيد المحترم صمويل سلمكي، وفعل هذا ما فعله منافسه، فكفت الموسيقى عن العزف، وهدأ الفريقان نوعا ما، وسمح للسيد هوراشيو فيزكن بمتابعة الكلام.
وكانت خطبتا المرشحين، على اختلافهما في كل شيء، تنويها بديعا بفضل ناخبي إيتنزول ورجاحة ألبابهم، فقد ذهب كلاهما في خطابه يعلن أن الدنيا لم تشهد من قبل من هم أكثر استقلالا، ولا أوفر فطنة واستنارة، ولا أرعى للروح الوطنية، ولا أسمى أذهانا، ولا أبدع نزاهة، من معاشر الناخبين الذين تعهدوا بإعطائه أصواتهم، كما مضى كل منهما يشير من طرف خفي إلى توجسه خيفة من أن يكون الناخبون في الجانب الآخر من الخبث والسخف والعجز، بحيث لا يصلحون لتأدية الواجب الخطير الذي طلب إليهم تأديته، وراح السيد فيزكن يعلن استعداده لإنجاز كل ما يطلبه الناخبون منه، بينما مضى سلمكي يعلن أنه معتزم ألا يفعل شيئا يطلبه الناخبون إليه أن يفعله، وقال الاثنان إن تجارة «إيتنزول» ومصالح أصحاب المصانع فيها، ومستلزمات رخاء الدائرة ورفاهيتها، أعز على نفسيهما من كل شيء في هذا العالم، وإن في وسع كل منهما أن يعلن بكل اطمئنان وثقة أنه هو الرجل الذي سيفوز في المعركة، ويظفر بتمثيل الدائرة.
وعزفت الموسيقات، وأعلن العمدة أنه يؤيد السيد المحترم صمويل سلمكي، وطلب السيد هوراشيو أخذ الأصوات، فحدد موعد للتصويت، وعندئذ تقدم اقتراح بشكر العمدة على حسن تصرفه، ومقدرته في توجيه الحفل، من كرسي رياسته، ورد العمدة شاكرا بعد أن قال إنه كان يتمنى لو أنه وجد كرسيا يستطيع وهو فيه أن يظهر كفايته وحسن تصرفه؛ لأنه ظل واقفا على قدميه طيلة الاجتماع.
وأعيد تنظيم الموكب، ودرجت المركبات في طريقها برفق، شاقة صفوف الجماهير، وانثنى الناس في إثرها يرسلون صيحات وهتافات مختلفة كما تملي عليهم مشاعرهم، وترتضي أهواؤهم.
وظلت البلدة خلال فترة أخذ الأصوات في حمى شديدة من الهياج والحماسة، وجرى كل شيء على أحسن وجوهه، وفي أبدع مظاهره، فكانت السلع التي فرضت عليها المكوس تعرض رخيصة إلى حد ملحوظ في مختلف المتاجر والمحال العامة، وكانت مركبات الإسعاف تطوف الشوارع لنقل الناخبين الذين يصابون فجأة بدوار خلال المعركة الانتخابية، وهو عارض انتشر بينهم انتشارا يبعث على أشد القلق، حتى ليشاهد خلق كثير منهم في أغلب الأحيان رقودا فوق الأفاريز غائبين عن صوابهم، وقد بقيت فئة قليلة من الناخبين متخلفة عن الانتخاب إلى اليوم الأخير قبل إقفال الصناديق، وهم معاشر أهل الرأي والمفكرين الذين لم يقتنعوا بحجج كلا الحزبين، وإن كثرت الاجتماعات والمؤامرات بينهم وبين أنصارهما، وقبل انتهاء الموعد بساعة، طلب المستر بت التشرف بحديث خاص مع أولئك الأذكياء الكبار النفوس الوطنيين، فاستجابوا له، وكانت حججه موجزة ولكن مرضية، فانطلقوا بجمعهم إلى صناديق الانتخاب، وحين عادوا كان الفوز للسيد المحترم صمويل سلمكي من سلمكي هول «محققا».
الفصل الرابع عشر
يحوي وصفا موجزا لجمع تلاقوا في فندق بيكوك، وقصة تاجر متجول. ***
إنه ليثلج الصدر، ويسر النفس، التحول من التفكير في شئون الحياة السياسية ونضالها وجلبتها، إلى الراحة والسكينة اللتين تلازمان الحياة الخاصة، ولم يكن المستر بكوك في الحقيقة نصيرا لأي حزب بالذات، ولا منتميا إليه كل الانتماء، ولكن حماسة المستر بت أوقدت مشاعره إلى حد جعله يشغل كل وقته، ويحشد كل اهتمامه؛ لمتابعة الإجراءات والتدابير التي جئنا بوصفها في الفصل السابق من كناشته ومذكراته، ولم يكن المستر ونكل أيضا طيلة انشغال زعيمه بتلك الشئون، متبطلا ولا متبلدا، بل لقد مضى يخصص كل وقته للرياضات البهيجة، والرحلات الريفية اللطيفة مع مسز بت التي لم تكن تدع أية فرصة تسنح لها إلا انتهزتها؛ التماسا للترفيه عن نفسها من تلك الحياة المملة الرتيبة التي ما فتئت تشكو منها.
وهكذا بينما كان هذان السيدان يقيمان في دار رئيس التحرير، وينزلان فيها منزلة الأهل والعشراء، كان المستر طبمن والمستر سنودجراس قد تركا وحدهما ليستمتعا إلى حد كبير بالعيش على هواهما، ولم يكونا يعنيان كثيرا بالمسائل السياسية، فراحا يقتلان الوقت في الاستمتاع غالبا بكل ما تكفله الحياة في فندق بيكوك من صنوف اللهو وألوان التسلية، وهي لا تعدو لعبة «البليارد» في الطابق الأول منه، وألعاب «الكرة» في ساحة مهجورة من فنائه الخلفي، وكان المستر ولر مستكمل العلم بهاتين اللعبتين، فتولى تدريبهما على دقائقهما، وما خفي عليهما من أسرارهما التي لا يعرفها الأشخاص العاديون، وظل يلقنهما شيئا فشيئا حتى يألفا ممارستهما على الأيام، وهكذا استطاعا رغم حرمانهما كثيرا من متعة لقاء المستر بكوك والانتفاع بمجالسه، أن يقضيا أوقاتهما بغير ملالة، وتمكنا من تجنب السآمة والضجر.
ولكن مجالس المساء في الفندق لم تكن تخلو من مفاتن، مكنت هذين الصديقين من التغلب على الدعوات التي كان «بت» الذكي الموهوب - رغم بلادته، وأحاديثه السقيمة - يوجهها إليهما، وكانت العادة أن تمتلئ في كل مساء «القاعة التجارية» في الفندق «بحلقة اجتماعية»، كان يطيب للمستر طبمن أن يلاحظ أفرادها، ويتأمل تصرفاتهم وآداب سلوكهم، ويألف المستر سنودجراس تدوين أقوالهم وأفعالهم في مذكراته.
وأكثر الناس يعرفون ما شأن تلك القاعات التجارية عادة، ولم تكن هذه القاعة في فندق «بيكوك» تختلف في شيء عن أمثالها في الفنادق الأخرى، أي إنها كانت قاعة رحيبة الجوانب، تكاد تلوح خالية من الرياش عارية، وإن كان ما فيها منه يوحي بأنه كان أحسن وأفضل منظرا، حين كان أجد وأحدث عهدا، وقد وضعت في وسطها منضدة كبيرة، وعدة مناضد أخرى صغيرة في مختلف زواياها، وجملة منوعة الأشكال من المقاعد، وبساط قديم من البسط التركية يكاد يتناسب حجمه مع مساحة القاعة ذاتها تناسب منديل غادة، وكانت الجدران ومقر الحارس مزدانة بخريطة أو خريطتين كبيرتين، وعدة معاطف «لوحتها الشمس»، أو ذهبت التقلبات الجوية بألوانها، وقلانس وقبعات مدلاة من صف مستطيل من المشاجب في ركن منها، كما ازدان الطنف بدواة من الخشب تحوي «بقية» قلم ونصف قرطاس، ودليلا للمسافرين، ودليلا للأعلام، وتاريخا للأقاليم ينقصه الغلاف، وبقايا سمكة في تابوت زجاجي، وكان أفق القاعة مختنقا بذوائب الدخان المتصاعد من اللفائف والقصبات، حتى أحالت القاعة قاتمة اللون، ولا سيما الأستار الحمر المغبرة التي تظلل النوافذ والشرفات. وكانت على الصوان الجانبي أنواع منوعة من الأشياء متجاورات متقاربات، كان أبرز ما فيها بضعة أباريق، وصناديق، وسياط، ولفاعات للسفر، وصينية للسكاكين والشوك، وآنية للتوابل والخردل.
وفي هذه القاعة كان المستر طبمن والمستر سنودجراس يجلسان في مساء اليوم الذي انتهت فيه الانتخابات مع عدة نزلاء آخرين، يدخنون ويشربون.
وأنشأ رجل بدين موفور العافية، يناهز الأربعين، أعور ذا عين سوداء شديدة البريق، يختلج فيها المكر والمجانة والولوع بالمزاح، يقول: «أيها السادة، نحن معاشر السادة، إن من عادتي أن أقترح شرب نخب الحاضرين، وأخص نفسي بشرب نخب «ماري»، إيه يا ماري!»
فأجابته الساقية، وهي تبدو غير مستاءة من هذه التحية التي وجهت إليها: «الزم شأنك أيها المنكود.»
وقال ذو العين السوداء: «لا تنصرفي يا ماري!»
وأجابت الفتاة: «دعني وهذه القحة.»
وقال الأعور وهو ينادي الفتاة بعد أن تركت القاعة: «لا بأس! سأحضر إليك بنفسي يا ماري بعد لحظة، فلا تغضبي يا عزيزتي، وكوني مرحة.»
ومضى في حركة ليست بالشاقة، وهي الغمز بعينه السليمة للجميع؛ مما أثار ابتهاجا متزايدا في نفس رجل مكتهل ذي وجه قذر، وقصبة تبغ من الفخار، فراح يقول بعد سكون قصير: «النساء مخلوقات لطيفات.»
وأجاب رجل شديد احمرار الوجه قائلا من خلف لفافة في فمه: «آه، لا نزاع في ذلك.»
وعاد السكون يغمر المجلس عقب هذه القطعة الصغيرة من الفلسفة.
وانثنى ذو العين السوداء، وهو يملأ بالتبغ قصبة هولندية كبيرة: «لا تنس أن في الدنيا أشياء ألطف من النساء وأظرف.»
فسأله ذو الوجه القذر: «هل أنت متزوج؟»
قال: «لست أستطيع أن أقول إنني كذلك.»
وأجاب الآخر: «هذا هو ما خطر لي.» وعندئذ انتابته نوبات من الضحك لهذا الجواب، اشترك معه فيها رجل ذو صوت هادئ ووجه رزين، اعتاد أن يوافق كل إنسان على ما يقوله.
وانبرى المستر سنودجراس في حماسة يقول: «إن النساء أيها السادة، رغم كل ما قيل ويقال عنهن، دعامة حياتنا، وسلوة عيشنا، ومتعة نفوسنا.»
وقال السيد ذو الوجه الساكن: «إنهن لكذلك!»
واعترض الرجل الأشعث قائلا: «حين يكن صافيات المزاج.»
وقال السيد الهادئ: «هذا صحيح جدا.»
وقال المستر سنودجراس، وكانت أفكاره قد عادت سراعا به إلى «إملي واردل»: «إنني لا أقر هذا الاشتراط، وأعترض عليه بكل احتقار وكل غضب، أروني الرجل الذي يقول شيئا ضد النساء، وأنا أعلن على رءوس الأشهاد أنه ليس رجلا.»
وأخرج المستر سنودجراس «اللفافة الكبيرة» من فمه، وضرب المنضدة ضربة عنيفة بجميع كفه.
وقال الرجل الهادئ: «هذه حجة سليمة صائبة.»
وقال الأشعث مقاطعا: «ولكنها حجة تحوي نقطة لا أوافق عليها.»
وقال السيد الهادئ: «وفي هذا القول بلا شك كثير من الحق يا سيدي.»
وقال التاجر المتجول ذو العين الواحدة: «في صحتك يا سيدي.» وراح يومئ برأسه للمستر سنودجراس إيماءة الموافقة.
وقبل المستر سنودجراس منه هذه المجاملة.
ومضى التاجر المتجول يقول: «إنني أحب دائما أن أسمع حجة صائبة، حجة قوية كهذه؛ لأنها تنعش الصدر كل الإنعاش، ولكن هذه المحاجة اليسيرة عن النساء قد ذكرتني بقصة سمعتها من عم لي كبير في السن، وكانت ذكراها منذ لحظة هي التي حملتني على أن أقول: إن في الدنيا أحيانا أشياء ألطف من النساء وأجمل.»
وقال ذو الوجه المحمر الممسك باللفافة الكبيرة: «أحب أن أسمع هذه القصة.»
وقال التاجر: «أحقا؟» ولم يرد، بل ظل يدخن بشدة بالغة.
وقال المستر طبمن، ولم يكن تكلم قبل هذه اللحظة: «وأنا كذلك.» فقد كان متشوقا لزيادة مدخره من العلم والتجربة.
وقال ذو العين الماكرة، وهو يحيلها بالاختلاج أشد مكرا: «أحقا تريد أن تسمعها، حسن جدا، سأقصها، ولكن كلا، ما أنا بقاصها؛ لأني أعرف أنكم لن تصدقوها.»
وقال المستر طبمن: «إذا قلت إنها حقيقة ... فسأصدقك بالطبع.»
وأجاب التاجر الجواب: «على هذا الشرط إذن سأقصها، فهل سمعتم يوما باسم بيت تجاري كبير يدعى بيلسن وسلام؟ ولكن ليس بذي بال أن تكونوا قد عرفتموه أو لم تعرفوه؛ لأنه بيت ترك التجارة من عهد بعيد، وقد وقع ما ستسمعونه للوكيل المتجول في خدمة ذلك البيت منذ ثمانين عاما، وكان صديقا حميما لعمي، وكان عمي هو الذي قصها على مسمعي، وقد جعل لها عنوانا غريبا، ولكنه كان قد اعتاد أن يدعوها:
قصة التاجر المتجول
وقد اعتدت أنا أن أقصها على النحو التالي:
في ذات مساء خلال أيام الشتاء، وحوالي الساعة الخامسة، حين أخذ الغسق يغمر الكون، كان رجل يستقل عجلة ذات حصان واحد، وهو يستحث حصانه المكدود على الطريق الذي يشق «براري مارلبرة» في اتجاه برستل، وكان من المحتمل أن يراه أحد من الناس، بل لا أشك في أن أحدا من الناس كان لا بد أن يراه حتما، إلا إذا كان من عساه أن يمر به في تلك الناحية أعمى لا يبصر، وكان الجو من السوء، أو الليل من شدة البرودة والبلل، بحيث لم يكن ثمة شيء في طريقه غير هطل الأمطار، وغزارة الماء من حوله، فكانت العجلة تشق طريقها وحيدة مكفهرة مقرورة، ولو أن تاجرا متجولا في تلك الأيام لمح تلك العجلة الصغيرة المتجردة التي يضرب هيكلها إلى لون الطفل، وتبدو الحمرة على عجلاتها، وشاهد تلك الفرس الشموس الشكسة السريعة التي تبدو هجينا بين حصان جزار، ومهرة موزع بريد؛ لعرف في الحال أن ذلك التاجر لم يكن أحدا غير «توم سمارت» الذي يعمل في خدمة بيت «بيلسن وسلام» في شارع «كاتيتن» بحي الأعمال في لندن، ولكن لم يكن ثمة أحد من التجار الجوالين في ذلك الطريق ليشاهده، فلبث أمره مجهولا لا يدري مخلوق عنه شيئا، وظل منطلقا بعربته الطفلية اللون، وعجلاتها الحمراء الأديم، وفرسها الشموس السريعة الخطى، كأنما قد احتفظ الكل بالسر، فلبث الأمر مكتوما على الناس مخفيا.
وفي الأرجاء المهجورة من هذا العالم بقاع أخف رحمة من «براري مارلبرة» حين تهب عليها الرياح العاتية، فإذا أضفت إلى هذا كله ذلك المساء المكفهر القاتم، والطريق الموحل الزلق، وهطل المطر الشديد ، وجربت ما يكون من الأثر بنفسك، على سبيل الاختبار الشخصي، أدركت قوة هذا الوصف كاملة، ووعيت رهبة ذلك المشهد جملة.
وكانت الريح تهب في الطريق، لا في اتجاه البلدة، ولا في الاتجاه المضاد، وكلا الأمرين لا يقل عن الآخر سوءا، بل كانت تهب في عرضه، تاركة المطر ينحدر ويميل كالأسطر التي كان الطلبة في المدرسة يسطرونها في كراساتهم؛ حتى تستقيم كتابتهم عليها، وقد تسكن الريح لحظة وتتلاشى، ويبدأ المسافر يوهم نفسه أنها قد تعبت، واضمحلت من هياجها السابق، فهدأت من روعها، وأخلدت إلى الراحة، وإذا هي تهب مرة أخرى، وتزمجر زمجرة، وتصفر صفيرا بعيدا، ثم تندفع فوق أعالي الربى، وتكتسح السهول، مستجمعة زفيفها وقوتها، وهي مقتربة، حتى تصطدم بإعصارها العنيف بالفرس والرجل معا، ملقية بقطرات المطر العصيب في آذانيهما، وأنفاسهما الباردة الرطبة في مستدق عظامهما، وتنطلق مبتعدة في زئير يصم الأسماع، كأنما تسخر من ضعفهما، وتغتبط بانتصارها واعتدادها بشدتها وسلطانها.
ولبثت الفرس تعدو مرسلة الرشاش من حولها وسط الأوحال والمياه، متهدلة الأذنين، مطوحة بين لحظة وأخرى برأسها، كأنما تريد بهذه الحركة التعبير عن اشمئزازها من هذا المسلك الجاف الذي تسلكه عناصر الطبيعة، وإن احتفظت مع ذلك بسرعتها، حتى تعود الرياح فتهاجمها مرة أخرى بأشد وأقسى مما هاجمتها به من قبل، فلا تلبث أن تقف عن المسير فجأة، وتغرز قوائمهما الأربع في الأرض؛ حتى لا تكتسحها من مكانها، وهي رحمة أحاطت بها؛ لأنها لو انساقت مع الريح، وهي خفيفة، والعربة خفيفة مثلها، وتوم سمارت من الوزن الخفيف كذلك، لذهب الجميع يتدحرجون إلى أقصى أطراف الأرض، أو ريثما تهدأ الرياح، وأغلب الظن في كلتا الحالين أن الفرس والعربة الطفلية اللون ذات العجلات الحمر، وتوم سمارت ذاته، لن يعودا صالحين للخدمة بعد ذلك.
وقال توم سمارت، وكان مولعا في بعض الأحيان بالسب واللعن: «لعنة الله على ذقني وطوقي، إن كان هذا سيطول شرحه، فلتنسفني الريح نسفا.»
ولعلكم تسألونني: لماذا أبدى توم سمارت - بعد أن كادت الريح تطوح به - رغبة في التعرض لهذه العملية مرة أخرى، ولكني لست أدري ما الباعث له على هذا، وكل ما أعرفه أنه قال ذلك فعلا، أو على الأقل كان هذا هو ما اعتاد أن ينبئ عمي بأنه قال كذلك، وكلا الأمرين سواء.
وصاح توم سمارت: «لتنسفني الريح!» وصهلت الفرس كأن هذا هو رأيها في الموقف تماما.
ولكن توم سمارت راح يربت على عنقها بطرف سوطه قائلا: «استجمعي قواك، ولا تبتئسي أيتها البنت العجوز، لا فائدة من مواصلة المسير في هذه الليلة، وأول منزل نصادفه في طريقنا سنبيت فيه، فكلما أسرعت في السير بلغنا المأرب المقصود، هلمي أيتها البنت العجوز، هلمي، ولكن برفق، برفق!»
ولست أستطيع طبعا أن أقول: هل كانت تلك الفرس الشموس قد اعتادت سماع صوت توم إلى حد يكفي لأن تفهم المعنى المقصود، أو وجدت أن الجمود في مكانها أشد تعرضا للبرد والزمهرير من متابعة المسير، ولكن كل ما أستطيع أن أقوله إنها ما كاد توم ينتهي من كلامه حتى نشرت في الفضاء أذنيها، وانطلقت بسرعة جعلت المركبة الطفلية اللون تجلجل حتى ليخيل إليك أن كل عجلة من عجلاتها الحمراء موشكة أن تطير من موضعها على العشب في براري مارلبرة، وحتى عجز توم نفسه - وهو السائق الماهر - عن إيقافها أو الحد من سرعتها، إلى أن وقفت من تلقاء ذاتها أمام فندق على قارعة الطريق في الجانب الأيمن منه، على مبعدة نحو ربع ميل من نهاية تلك التلال الكلئة.
وألقى توم نظرة سريعة على الطبقة العليا من المبنى، وهو يلقي باللجام إلى السائس، ويرشق السوط في مقعده، وبدا له أن المكان غريب قديم العهد، بني من نوع من الحصباء، ومسقوف بالأخشاب، وله نوافذ منحدرة الشكل بارزة كل البروز إلى مشرع الطريق، وباب خفيض، وسقيفة مظلمة، ومدرجان عاليان يهبطان إلى البيت ولا يصعدان إليه، كالطراز المألوف في عصرنا الحديث، ولكنه كان على كل حال موضعا يلوح عليه أنه مريح يبعث الرضى؛ إذ ينبعث من نافذة «موضع الشراب» فيه نور قوي بهيج، يلقي شعاعا وهاجا على الطريق، وينير العدوة الأخرى المقامة من العوسج، ومن الشرفة المقابلة ينبثق نور خفاق يبدو لحظة ضعيفا لا يكاد يبين، ثم لا يلبث في اللحظة التالية أن يبرق بقوة من خلال الأستار المسدلة، موحيا بأن نارا متأججة تتقد داخل الحجرة، وما إن تبين توم هذه الأمارات والشواهد بعين الجوابة الخبير بالأسفار، حتى ترجل عن العجلة بكل خفة ممكنة تواتت لأوصاله وأطرافه التي كان البرد يهرؤها، ودخل البيت.
ولم تكد تنقضي بضع دقائق حتى كان توم مستكنا في الغرفة المقابلة لموضع الشراب، وهي الغرفة ذاتها التي خيل إليه أنها تحوي نارا مشوبة، وقد جلس قبالة نار متأججة فعلا، غنية بالوقود من فحم، ورأى فوق المدفأة أكداسا من الخشب، تكفي أن تتألف منها بضعة آجام، وقد راحت النار تزمجر وتطقطق، وتحدث صوتا يكفي في حد ذاته لأن يدفئ قلب أي إنسان عاقل، وكان هذا كله مرفها على النفس، مريحا للخاطر، ولكنه لم يكن كل شيء في الدار، بل كانت ثم فتاة رشيقة ذات عين براقة، وكعب نظيف، وهي تنشر غطاء أبيض متناهيا في النظافة فوق الخوان، وفيما كان توم جالسا، وقد أسند قدميه وهما في الخف إلى حاجز «الموقدة»، وولى ظهره إلى الباب المفتوح، استطاع أن يشهد على أديم المرآة المعلقة فوق الموقدة منظرا فاتنا، لما كان يحويه مكان الشراب من صفوف الزجاجات الخضر الذهبية، ومن قدور المخلل والأطعمة المحفوظة، وأنواع الجبن، ولحوم الخنازير السليقة، والقطع المستديرة من لحم العجول، كل أولئك قد صفت فوق الرفوف بصورة مغرية، وشكل جذاب، ونظام بديع، وهو مريح كذلك، ولكن ذلك لم يكن كل ما هنالك أيضا، فقد رأى في مكان الشراب أرملة غضة بضة قد جلست تشرب الشاي على أصغر وأبدع مائدة يمكنك أن تتخيلها، وهي قريبة من أوهج وأدق نار مشبوبة يمكن أن توقد، ويبدو على تلك الأرملة أنها في الثامنة والأربعين أو نحوها، ذات وجه مرفه مريح كمكان الشراب ذاته، والظاهر أنها ربة الفندق، وصاحبة الأمر والنهي في كل هذه الأملاك البديعة، والذخائر الممتعة، ولكن كان ثمة عيب واحد يغض من جمال الصورة، وفتون معالمها ودقائقها، وهو وجود رجل طويل مفرط الطول، في سترة سمراء، وأزرار براقة، وشاربين أسودين، وشعر فاحم متموج، كان يجلس إلى الشاي مع الأرملة، ولا يحتاج المرء إلى ذكاء وقاد لكي يتبين أن الرجل يحاول إقناعها بأنه قد حان لها أن لا تبقى أرملة، وأن تنعم عليه بحق الجلوس في مكان الشراب طيلة الأعوام التي بقيت له في الحياة.
ولم يكن «توم سمارت» بالرجل الذي تنتزع به النفس إلى الهياج أو الحسد، ولكن منظر ذلك الرجل الطويل ذي السترة السمراء، والأزرار المقعرة الشكل البراقة، لم يلبث لسبب ما أن أثار حفيظته وغضبه الشديد، وخاصة لأنه مضى بين لحظة وأخرى يلاحظ، وهو في مجلسه قبالة المرآة، بعض حركات لطف ومودة تجري بين ذلك العملاق وتلك الأرملة، مما يكفي للإيحاء بأن ذلك الرجل الطويل قد أصاب عندها حظوة عالية كقامته.
وكان توم مولعا بشراب «البنتش» الساخن، بل أجرؤ على القول بأنه كان به «جد» مولع، فبعد أن اطمأن إلى أن فرسه الشموس قد أحسن علفها، ومهد لها مربطها، وبعد أن أكل كل قطعة من الطعام الشهي الذي جعلت الأرملة تلقيه إليه بيديها، راح يطلب قنينة من «البنتش» على سبيل التجربة، وإذا كان ثمة شيء من مختلف فنون البيت وأساليب تدبيره، تحسن الأرملة إعداده أكثر من أي شيء سواه، فذلكم هو «البنتش» بالذات، وقد وافقت القارورة الأولى منه مزاج توم سمارت، وطاب لديه مذاقها، إلى حد أغراه بطلب أخرى في الحال، ولا يخفى أيها السادة أن «البنتش» الساخن شراب لذيذ ممتع غاية الإمتاع، في أي ظرف من الظروف، ولكنه في تلك الغرفة الدفئة القديمة، وقبالة تلك النار المتقدة الزائرة، وتلك الرياح القاصفة في الخارج حتى ليكاد كل لوح من الخشب في ذلك البيت يهتز ويتشقق من هول قصفها - كان ممتعا في تقدير توم سمارت كل المتعة، فطلب قارورة أخرى، ثم ثالثة، ولست متأكدا هل طلب واحدة بعد ذلك، ولكن الواقع أنه كلما أكثر من شرب البنتش الساخن، اشتد به التفكير في ذلك الرجل الطويل الفارع.
وأنشأ توم يحدث نفسه فقال: «لعنة الله على قحته، ما شأنه في مكان الشرب البديع؟ وأي عمل له فيه؟ إنه لقبيح الصورة دميم، لو أن للأرملة ذوقا جميلا لاختارت إنسانا أحسن من هذا نوعا ما.» ومضت عينه تنتقل بين الزجاجة المقامة فوق المدفأة، وبين الزجاجة الموضوعة فوق المائدة، وما إن شعر بأنه قد أمسى ثائر العاطفة، حتى أفرغ القارورة الرابعة في جوفه، وطلب الخامسة.
وكان توم سمارت أيها السادة لا يكف من قبل عن التعلق بالحانات، والولوع بالشراب، وكان كل مناه من عهد طويل أن يقف في مشرب يملكه، مرتديا سترة خضراء، وأربطة ركبتين، وحذاء مستطيلا، وكانت نفسه أبدا تهفو إلى الجلوس في مكان الصدارة من مجالس الشراب ومطارح السمر، ولطالما تخيل نفسه مقتعدا كرسي الرياسة في حجرة يملكها، ويدير الحديث بلباقة وحذق، وأي أسوة حسنة هو المتجمل بها أمام زبائنه في الجناح المخصص للشراب، ولم تلبث هذه الأخيلة كلها والأماني الماضية أن خطرت في تلك اللحظة بباله، وهو جالس إلى قوارير شرابه بجانب النار التي تزأر في الموقدة، فلا عجب إذا هو شعر بغيظ شديد من مشهد ذلك الرجل المارد، وهو قد أوشك أن يظفر بهذا البيت البديع، بينما هو - توم سمارت - لا يزال يهفو في أثر أمنية بعيدة لا تقترب أبدا، وبعد أن ظل طيلة بقاء القارورتين الأخيرتين أمامه يفكر مليا هل من حقه أن يخلق سببا للاشتجار مع ذلك المارد؛ لأنه عرف كيف يظفر بالحظوة عند تلك الأرملة البضة، وانتهى به التفكير إلى نتيجة مقنعة، وهي أنه رجل أساءت الدنيا كثيرا إليه، واضطهدته الأقدار، فمن الخير له أن يأوي إلى الفراش.
وتقدمته الفتاة الرشيقة، تصعد به سلما قديما رحيبا، وتظلل شمعة الحجرة بكفها؛ وقاية لها من التيارات الهوائية التي تجد لها في ذلك البيت القديم الذي تخفق الأرواح فيه سبيلا إلى التسرب خلال منافسه، والعبث فيه كما تشاء، دون أن تطفئ نور الشمعة، ولكنها مع ذلك قد هبت عليها فأطفأتها، مهيئة لخصوم «توم» فرصة اتهامه بأنه هو الذي أطفأها، ولم تكن الريح هي التي أخمدت أنفاسها، وإنه بينما كان يتظاهر بأنه يحاول إضاءتها، كان في الواقع يقبل الفتاة ويلثمها، وسواء كان هذا أو ذاك هو الصحيح، فقد تيسر الحصول على ضوء آخر، وتقدمت به الفتاة في تيه من الحجرات والدهاليز حتى بلغ الغرفة التي أعدت لمبيته، فسلمت الفتاة مودعة، وتركته وحده.
وكانت الغرفة رحيبة ذات مرافق كبيرة، وتحوي سريرا يصح أن يتسع لمنام طلبة قسم داخلي في إحدى المدارس، فضلا عن صوانين للثياب من خشب السرو يتسعان لأمتعة جيش صغير، ولكن أشد ما استرعى نظر توم وأثار خياله مقعد غريب رهيب المنظر، عالي المسند، تناهى في طرافة الشكل، وله وسادة من الدمقس المزين بالأزهار، وركبتان مستديرتان في أسفل ساقيه، مربوطتان بقماش أرجواني، كأنما يشكو من نقرس أصاب أصبع قدميه.
وخيل إلى توم أنه دون سائر المقاعد كلها يبدو «غريبا» حقا، وكان الأمر محتملا أن ينتهي عند هذا الحد، فينشغل الرجل عنه، لولا أنه لاحظ على ذلك المقعد بالذات شيئا آخر، وإن لم يتبين فعلا ما هو، فقد كان من الشذوذ والغرابة بحيث لا يماثله مقعد آخر من كل المقاعد وقطع الأثاث التي شهدها في حياته، حتى لقد استهواه، واجتذب خاطره اجتذابا، فجلس قبالة الموقدة، وظل يحملق البصر في ذلك المقعد القديم نصف ساعة، وهو لا يستطيع أن يسترد عنه عينه، ولا يشيح بوجهه دونه.
وراح توم يقول لنفسه وهو ينضو عنه ببطء ثيابه، ويطيل النظر إلى ذلك المقعد القائم بجوار مضجعه بشكله الغريب المرهوب: «لعمري ما رأيت في حياتي عجبا كهذا في أيامي الخاليات.» وكان توم قد استحال «حكيما» فيلسوفا من أثر «البنتش الساخن» الذي شربه، فمضى في نجواه يقول: «هذا غريب جدا، غريب جدا!» وانثنى يهز رأسه هزة الحكمة البالغة، ويلقي نظرة أخرى على المقعد، ولكنه لم ير شيئا جديدا يمكن أن يستخلص منه علة، أو يهتدي إلى سر، فدخل في فراشه، وتغطى بلحافه ليدفئ بدنه، وما لبث أن هبط في سبات عميق.
ولكنه بعد نصف ساعة أو قرابته استيقظ مجفلا من حلم مضطرب، تراءت له فيه صور عمالقة ومردة وقوارير من شراب، وكان أول شيء تمثل لخياله في يقظته، هو ذلك المقعد الغريب.
فقال في نفسه وهو يحاول إغماض أجفانه، ويقنع نفسه أنه عائد إلى النوم: «لن أعيرك نظرة بعد الآن.» ولكن النوم لم يطاوعه، فلم يلمح غير مقاعد غريبة تتراقص أمام عينيه، وتهز سوقها، ويقفز بعضها فوق ظهور بعض، وتحدث من الألعاب صنوفا وألوانا.
وأخرج توم رأسه من تحت الأغطية، وهو يقول: «ليس ثمة ضير من أن أشهد مقعدا واحدا حقيقيا، كما لو شهدت مجموعتين أو ثلاث مجموعات من الكراسي المزيفة، ونظر إلى المقعد فإذا هو قائم حياله ظاهر واضح على وهج النار المشبوبة في المدفأة، يبدو متحديا مستفزا كدأبه.
وفيما كان يطيل البصر إليه، إذ بدا له فجأة أن تحولا متناهيا في الغرابة قد عراه، فقد بدأ المسند العالي يتخذ تقاطيع وجه بشري مغضن كثير المكاسر كوجوه الشيوخ، واستحالت الوسادة الحريرية رويدا رويدا إلى صدار غريب ذي شقين، والركبتان المستديرتان إلى قدمين اثنتين منتعلتين خفا من قماش أحمر اللون، وبدا المقعد القديم أشبه شيء برجل متقدم في السن دميم الخلقة إلى حد بعيد، من شيوخ القرن الماضي، وهو مشتبك الذراعين، فاستوى توم في مرقده، وراح يفرك عينيه ليطرد الصورة الماثلة لهما، ولكن بلا فائدة ولا جدوى، لقد تمثل المقعد القديم أمامه رجلا عجوزا دميما، بل أدهى من ذلك وأنكى، راح يغمز بطرف عينه لتوم سمارت.
وكان توم بطبعه رجلا ثابت الجنان غير هياب ولا وجل، وقد شرب خمس قوارير من البنتش الساخن، فلم يلبث بعد الإجفالة العابرة التي أحسها في بداية الأمر أن استشاط غيظا منه بتلك القحة المتناهية، وأخيرا عقد النية على ألا يسكت على هذه الجرأة، فراح يقول بلهجة غضب شديد، حين رأى ذلك الوجه القبيح لا يزال مستمرا في غمزه أكثر من قبل: «قل لي أيها الشيطان اللعين ما الذي يدعوك إلى هذا الغمز لي على هذه الصورة؟»
وأجابه المقعد أو الرجل العجوز، أيا ما تحبون أن تدعوه: «لأنني أحب أن أغمز هكذا يا توم سمارت!» ولكنه كف مع ذلك عن الغمز، حين رأى توم يكلمه، وبدأ يضحك ويبدي نواجذه أشبه بقرد عجوز بلغ أرذل العمر.
وبهت توم حين سمعه يناديه باسمه، وإن تظاهر بأنه لم يرع منه ولم يبال: «كيف تعرف اسمي يا ذا الوجه القبيح الذي يشبه «كسارة» الجوز؟»
وقال السيد العجوز: «لا عليك ياتوم، لا عليك، ليست هذه هي الطريقة التي تخاطب بها مقعدا قديما من خشب المجنة الأسبانية، اللعنة علي، ما كنت مخاطبي بأقل من هذا احتراما لو أني كنت مقعدا مصنوعا من قشرة لا من خشب صلب!»
وبدا الشيخ وهو يقول ذلك موحشا غاضبا، حتى لقد بدأ الخوف يسري في نفس توم من وحشة غضبه، فمضى يقول بلهجة أرق كثيرا من لهجته الأولى: «لم أقصد أن أعاملك يا سيدي بأي استهزاء أو احتقار.»
وقال الشيخ: «ما علينا، قد يكون ذلك، ولكن اسمع يا توم.» - «نعم يا سيدي.» - «إنني أعرف كل شيء عنك يا توم، كل صغيرة وكبيرة، أنت فقير شديد الفقر يا توم.» - «إني في الحق كذلك، ولكن من أين عرفت ذلك عني.»
وأجاب السيد العجوز: «لا تسأل عن ذلك، وأنت شديد الولوع بالبنتش يا توم.»
وكان توم قد هم بأن يزعم أنه لم يذق قطرة منذ عيد ميلاده الأخير، لولا أن التقت عينه بعين الشيخ، وتبين له من نظراته أنه كان يعرف كل شيء، فخجل توم، ولزم الصمت.
وعاد الشيخ يقول: «اسمع يا توم، إن الأرملة امرأة جميلة، جميلة إلى حد بالغ، أليست كذلك يا توم؟» وانثنى العجوز يتخازر بعينيه، ويرفع إحدى ساقيه الواهيتين القصيرتين، ويبدو منعزلا بشكل متناه في القبح، حتى اشمأز توم من هذا التصرف النزق من رجل في مثل سنه.
ومضى العجوز يقول: «إنني ولي أمرها يا توم.»
قال: «أحقا؟»
واستتلى العجوز يقول: «لقد عرفت أمها يا توم وجدتها، وكانت مولعة بي ، هي التي حاكت لي هذا الصدار يا توم.»
قال: «أفعلت ذلك هي؟»
واسترسل العجوز قائلا: «وهذا الحذاء، ولكن لا تذكر شيئا من ذلك يا توم؛ لأني لا أحب أن يعرف أحد من الناس أنها كانت تحبني إلى هذا الحد، فقد يحدث ذلك بعض الكدر في الأسرة.»
وبدت على العجوز جرأة متناهية، قال توم سمارت في وصفها فيما بعد، إنه كاد يهم من تناهيها أن يجلس فوقه بلا ندامة أو أسف.
ومضى ذلك الشيخ المستهتر يقول: «لقد كنت في زماني أخا حظوة كبيرة عند النساء، وكم من مئات الغيد رحن يجلسن في حجري ساعات طوالا لا يزايلنه، فما رأيك في هذا يا كلب؟»
وهم الشيخ بأن يقص عليه طرفا من وقائعه الغرامية في شبابه، لولا أن استولت عليه نوبة صرير عنيفة، أعجزته عن المضي في قصصه.
وقال توم لنفسه: «هذا جزاؤك أيها الشيخ المتصابي!» ولكنه لم يقل للعجوز شيئا.
وعاد هذا إلى حديثه فقال: «آه! لقد أصبحت أعاني كثيرا من هذه العلة اليوم، لقد بدأت أشيخ يا توم، وكدت أفقد كل مقوماتي الحديدية وقضباني، وقد أجريت لي أيضا جراحة قبل الآن ... وأدخلت قطعة صغيرة في ظهري، وكانت المحنة أليمة قاسية يا توم، عانيت منها عناء شديدا.»
وأجاب توم سمارت قائلا: «أكبر ظني يا سيدي أنك عانيت كثيرا.»
واسترسل العجوز يقول: «ولكن ليست هذه هي موضوع البحث يا توم، وإنما كل ما أريد أن أقوله أنني أريد منك أن تتزوج الأرملة.»
وقال توم في دهشة: «أنا يا سيدي!»
وأجابه العجوز: «نعم أنت.»
وصاح توم قائلا: «بارك الله في جدائلك الموقرة يا سيدي ...» - وكانت قد بقيت للشيخ بضع شعرات متناثرة من شعر الخيل - «إن الأرملة لن ترضى بي بعلا لها.» وراح يزفر على كره منه، وقد خطر «البار» لخياله.
وقال الشيخ بقوة: «أحقا لن ترضى بك؟»
وأجاب توم قائلا: «بلى، بلى، إن هنالك إنسانا آخر، رجلا طويل القد، ملعون الشبه، ذا شاربين أسودين.»
وقال الشيخ: «اسمع مني يا توم، إنها لن ترضى به .»
وقال توم: «لن ترضى به! أحقا؟ لو وقفت في مكان الشراب أيها السيد الكبير لقلت غير هذا المقال.»
وصاح الشيخ قائلا: «أف! أف منك! ... أنا عارف كل شيء.»
قال: «وماذا تعرف؟»
وأجاب السيد الكبير: «تعاطي القبلات خلف الباب، وكل ما هو من هذا النوع أو نحوه.» ثم انثنى يرسل نظرة وقحة أخرى، أغضبت توم أشد الغضب؛ لأن سماع عجوز - كان أولى به أن يكون أعقل من ذلك وأحجى - يتحدث في هذه الأمور وأمثالها، شيء تعرفون جيدا، أيها السادة، أنه أثقل ما يكون على النفس، وأسوأ ما يكون قيلا.
ومضى الشيخ يقول: «إنني أعرف كل شيء يا توم، وقد شاهدت مثله يقع كثيرا في زماني يا توم بين قوم لا أود أن أذكر لك أسماءهم، ولكن ذلك كله لم يأت في النهاية بنتيجة.»
وقال توم وهو ينظر إليه نظرة فضول: «لا بد من أنك شهدت العجب في شبابك.»
وأجاب الشيخ بغمزة مضطربة من عينيه، وزفرة أليمة من صدره: «لك أن تقول ذلك، إنني آخر فرد من أسرتي يا توم.»
قال بفضول: «أوكانت كبيرة العدد؟»
قال: «اثني عشر يا توم، رفيعي الظهور حسانا، تشتهي عينك أن تراها، ولم نكن كهذه الأجنة المجهضة التي شاعت في هذه الأيام، كلها أذرع، ومجرد طلاء يروقك منظره، وكان أجدر بك ألا تنخدع به.»
وسأله توم قائلا: «وماذا صنع الله بالآخرين؟»
وأجاب السيد العجوز وهو يرفع مرفقه إلى عينه: «لقد ذهبوا جميعا يا توم وانقرضوا، لقد خدمنا خدمة شاقة، ولم يكن الآخرون في مثل قوة بنيتي، فأصلبهم النقرس في سوقهم وأذرعهم، ونقلوا إلى المطابخ وغيرها من المستشفيات، وحدث لأحدهم - وكان قد ابتذل طويلا في الخدمة، وقاسى بلاء شديدا - أن فقد قواه العقلية، وبلغ جنونه حدا اقتضى إحراقه، وهي نهاية مروعة يا توم.»
وقال توم سمارت: «مرعبة.»
وسكت العجوز لحظة، والظاهر أنه كان يغالب انفعالاته، ثم عاد يقول: «ولكني يا توم قد شردت عن الموضوع، إن ذلك الرجل الطويل يا توم أفلق، وغد، أثيم، وسوف يبيع كل الأثاث الذي يحويه هذا البيت بمجرد الزواج بالأرملة، ويلوذ بأذيال الفرار، وعندئذ ماذا ستكون العاقبة؟ سوف تجد المرأة نفسها وحيدة مهجورة ضاع مالها، وحل الخراب بدارها، وسوف ألفظ أنفاسي الأخيرة في دكان أحد الراهنين.»
وقال توم: «نعم، ولكن ...»
وصاح الشيخ به قائلا: «لا تقاطعني! أما عنك أنت يا توم، فلي رأي آخر مختلف كل الاختلاف عن رأيي فيه؛ لأني أعرف حق المعرفة أنك يوم تستقر في مشرب وحانة عامة، لن تغادرها ما دام بين جدرانها شراب تتعاطاه.»
وقال توم سمارت: «إني لشاكر لك كل الشكر هذا الرأي الجميل في شخصي.»
واستتلى العجوز في لهجة الآمر الناهي قائلا: «ولهذا ستنالها، أما هو فلن يظفر بها.»
وقال توم في لهفة: «وما الوسيلة إلى منعه؟»
وأجاب السيد الكبير بقوله: «هذا السر الذي أكشفه لك: إنه متزوج فعلا!»
وكاد توم يهب من فراشه، قائلا: «وكيف يتواتى لي إثبات ذلك؟»
وأزاح السيد الكبير ذراعه عن جنبه، وأشار إلى إحدى الخزانتين، ثم أعاد في عجلة ذراعه إلى موضعها السابق، وانطلق يقول: «إنه قد نسي أنه في الجيب الأيمن من سراويله الموضوعة في تلك الخزانة، قد ترك خطابا يرجو فيه أن يعود إلى زوجته الحزينة التي رزقت منه بستة - افهم مني يا توم - بستة ولدان كلهم صغار.»
ولم يكد الشيخ يفوه بهذه الكلمات، حتى بدت معالم وجهه تتلاشى شيئا فشيئا، وأخذ شكله يتوارى رويدا، وغمرت غشاوة عيني توم سمارت، وراح الشيخ يندمج تدريجا في المقعد، ويتقمص تقمصا، ويتحول الصدار الحريري إلى وسادة، والخف الأحمر إلى كيسين صغيرين من قماش أرجواني اللون، وبدأ الضياء يخفت قليلا قليلا، وارتمى توم سمارت فوق وسادته، وتولاه النعاس.
وأيقظه مطلع النهار من نومه الذي استولى عليه عقب اختفاء الشيخ، فجلس في فراشه، وراح يحاول عبثا بضع لحظات أن يتذكر أحداث الليلة الماضية، فلم تلبث ذكراها أن تدافعت على خاطره، فنظر إلى المقعد، فإذا هو كما رآه من قبل مقعد غريب الشكل، رهيب المنظر، وخيل إليه أنه لم يكن سوى خيال بارع قوي الأثر ، ذلك الذي جعله يكشف وجوه شبه بين ذلك المقعد والشيخ الكبير الذي لا يزال ماثلا لخاطره.
وقال توم بلهجة أجرأ في النهار مما كانت في الليل، والناس تعاودهم الجرأة في النهار عامة: «كيف أنت أيها العجوز المتصابي؟»
ولكن المقعد ظل جامدا صامتا لا يحير جوابا.
واسترسل توم يقول له: «صباح أنكد.» ولكن المقعد لم يشأ أن ينساق إلى الحديث.
وقال توم: «إلى أي الخزانتين أشرت؟ أظنك لا تبخل علي بهذا على الأقل.»
ولكن المقعد أيها السادة لم ينبس ببنت شفة.
وقال توم وهو يغادر الفراش بحذر بالغ: «لا عناء من فتحها على أية حال.»
ومشى صوب إحدى الخزانتين، فوجد المفتاح في القفل، فأداره وفتح الباب، وإذا هو يجد فعلا سراويل في جوفها، فدس يده في الجيب، فاطلع الخطاب عينه الذي تحدث الشيخ الكبير عنه.
وأنشأ توم يقول، وهو ينظر إلى المقعد، ثم إلى الخزانة، ثم إلى الخطاب، ثم عاد ينظر إلى المقعد: «هذا شيء غريب، غريب كل الغرابة!» ولكنه لم يجد ما يقلل من هذه الغرابة التي أحارته، فخطر له أنه يحسن به أن يرتدي ثيابه، وينهي قصة الرجل الطويل بغير إبطاء، ليخرج من الشقاء الذي هو فيه، وانطلق ينزل السلم، معددا الحجرات التي يجتازها في طريقه، بعين فاحصة متقصية، عين المالك العتيد، متصورا أنه ليس من المستحيل أن تصبح تلك الحجرات وما حوت من رياش ملك يمينه، وما إن بلغ الطبقة الدنيا من الفندق حتى لمح الرجل الطويل واقفا في مكان الشراب الدفيء الصغير، واضعا يديه خلف ظهره، كأنه في بيته الذي لا ينازعه فيه أحد، ولم يكد يرى توم حتى ابتسم له ابتسامة فارغة، ولو رآها مراقب عابر، لظن أنه إنما ابتسمها ليبدي أسنانه البيض، ولكن توم سمارت تصور أن الشعور بالنصر كان يغمر المكان الذي كان يتمثل لخاطر ذلك المارد، وهو يبتسم على تلك الصورة؛ فراح يضحك في وجهه، وينادي ربة الفندق إليه.
قال وهو يغلق باب البهو الصغير على إثر دخولها: «طاب صباحك يا سيدتي.»
وأجابته الأرملة قائلة: «صباح الخير يا سيدي، أي طعام تريده لفطورك يا سيدي؟»
وكان توم مشغولا بإعداد الكلام الذي يصح أن يفتح به الموضوع، فلم يجب، ومضت هي قائلة: «إن عندنا لحم خنزير مملحا شهيا للآكلين، ودجاجة باردة سمينة، فهل أجيء بهما يا سيدي؟»
وأيقظت هذه الكلمات توم من سبح أفكاره، وازداد إعجابه بالمرأة وهي تتكلم، فقال في نفسه: «يا لها من مخلوقة مدبرة! يا لها من مرفهة أريبة!»
وابتدرها توم سائلا: «من يكون ذلك السيد الواقف في مكان الشراب يا سيدتي؟»
قالت وهي تشعر بخجل عابر: «إنه يدعى جنكنز يا سيدي.»
فعاد يقول: «إنه رجل طويل.»
فأجابت: «إنه رجل بديع جدا يا سيدي، وسيد لطيف للغاية.»
وقال توم: «آه!»
قالت وهي حيرى من سلوكه: «هل من شيء آخر تريده يا سيدي؟»
قال: «نعم يا سيدتي العزيزة، هل تتكرمين بالجلوس لحظة؟»
فبدت الدهشة عليها، ولكنها جلست، فجلس هو كذلك بجوارها، ولست أدري كيف حدث ذلك أيها السادة، ولكن عمي اعتاد أن يقول لي: إن توم سمارت نفسه قال إنه لا يعرف كيف حدث ذلك هو أيضا، ولكن الواقع أن راحة كف توم لمست بوسيلة من الوسائل ظهر يد الأرملة، فاستقرت عليه، وهو منطلق يقول بلهجة المتلطف الذي يعرف حق المعرفة أنه كذلك: «يا سيدتي العزيزة، إنك لجديرة بزوج بديع جدا، إنك فعلا كذلك.»
وقالت الأرملة، وهو ما كان منتظرا أن تقوله: «يا إلهي!»
وكانت طريقة توم في التمهيد للحديث غير مألوفة، إن لم نقل أدعى إلى إثارة الدهشة والذهول، ولكن يجب أن نراعي عاملا له أثره، وهو أنه لم تكن عينه قد وقعت عليها قبل الليلة البارحة.
ومضى توم يقول: «إنني لا أحب الملق، بل أمقته وأسخر منه يا سيدتي، إنك حقا جديرة بزوج يستحق أشد الإعجاب، وسوف يكون السعيد الموفق، كائنا من يكون.»
وفيما كان توم يقول ذلك، انطلقت عينه على غير إرادة منه، تنتقل هائمة بين وجه الأرملة، وتلك الخيرات المحيطة به من كل ناحية.
وبدت الأرملة أكثر حيرة وارتباكا مما كانت من قبل، وهمت بالنهوض، ولكنه ضغط يدها برفق كأنما أراد أن يحتجزها، فلبثت في مجلسها، والأرامل أيها السادة لسن بالخوافات، كما اعتاد عمي أن يقول.
وقالت ربة البيت الغضة البضة في شبه ضحكة: «إنني على يقين أنني مدينة لك كثيرا يا سيدي لحسن رأيك، وإذا قدر لي يوما أن أتزوج مرة أخرى ...»
وقاطعها توم سمارت، وهو ينظر بخبث شديد من الطرف الأيمن لعينه اليسرى: «أتقولين إذا؟»
قالت وهي ضاحكة ضحكة كاملة في هذه المرة: «والله إني لأرجو حين أفعل ذلك أن يكون لي زوج كالذي وصفته.»
وقال توم: «جنكنز مثلا؟»
وصاحت الأرملة: «يا إلهي يا سيدي!»
ومضى يقول: «أوه، لا تقولي لي إنني أعرفه!»
وقالت الأرملة مستجمعة شجاعتها إزاء تلك اللهجة الغامضة التي تحدث توم بها: «إنني لعلى يقين أن من يعرفه لا يعرف عنه سوءا.»
وقال توم سمارت: «احم؟»
وبدأت الأرملة تعتقد أنه قد حان لها أن تبكي، فأخرجت منديلها، وسألت توم: هل يريد أن يهينها؟ وهل يرى من أدب السيد المهذب أن يطعن في حق سيد آخر من خلف ظهره؟ وإذا كان عنده ما يقوله، فلماذا لا يقوله لذلك الرجل مواجهة، بدلا من ترويع امرأة مسكينة ضعيفة على هذا النحو؟
وأجاب توم قائلا: «لن أتردد في قوله له، ولكني أردت أولا أن تسمعيه أنت.»
قالت وهي تطيل النظر إلى وجهه: «وما هو؟»
قال وهو يضع يده في جيبه: «ستذهلين لسماعه.»
وعادت الأرملة تقول: «إذا كان ما تريد أن تقوله أنه يطلب مالا، فإني أعرف ذلك مقدما، فلا تتعب نفسك في ترديد ما أعلمه.»
وقال توم سمارت: «أف! هذا هراء، لا شأن له ولا خطر، أنا نفسي أريد مالا، ليس هذا هو ما أعني.»
وصاحت الأرملة المسكينة قائلة: «رباه! ماذا يمكن أن يكون إذن؟»
وقال توم سمارت: «لا تراعي!» وبكل رفق راح يخرج الكتاب وينشره قائلا بلهجة المتشكك: «ولكني أرجو أن لا تصرخي!»
قالت: «كلا! كلا! دعني أنظر الكتاب.»
قال: «أولست مستسلمة إلى إغماء أو شيء من هذا القبيل؟»
قالت: «لا عليك! لا عليك! دعني أر الكتاب.»
قال وهو يضع الكتاب في كفها: «ها هو ذا.»
أيها السادة، لقد سمعت عمي يقول: إن توم سمارت قال إن ولولة الأرملة حين علمت بالسر كانت تنفذ في أي فؤاد قد من الصخر، وكان توم بالطبع رقيق القلب كريمه، ولكن تلك الصرخات نفذت فيه إلى الصميم، وظلت الأرملة تهتز وتقلب كفيها وهي تقول: «أواه، ما أشد خبث الرجال ومكرهم!»
وقال توم سمارت: «إنه لأمر مرعب يا سيدتي العزيزة، ولكن هدئي من روعك.»
وصاحت الأرملة: «أواه، لا أستطيع تهدئة روعي، لن أجد أبدا رجلا سواه يمكن أن أحبه كل هذا الحب الذي أوليته إياه.»
وقال توم سمارت: «بل ستجدينه يا عزيزتي!» وترك دمعة من أكبر الدموع حجما تنحدر من عينيه رثاء لنكبة الأرملة، وكان توم سمارت في فورة عطفه، وثورة رحمته، قد طوق خصرها بذراعه، وكانت في اشتداد حزنها قد أمسكت بيده، وتطلعت إلى وجهه، وابتسمت من خلال عبراتها، فأطل هو على محياها، وابتسم من ثنايا دموعه.
ولم أستطع أيها السادة أن أعرف يوما هل قبل توم الأرملة في تلك اللحظة بالذات، أو لم يقبلها، فقد اعتاد أن يقول لعمي إنه لم يفعل ذلك، ولكني منه في شك مريب، وأكاد أعتقد فيما بيننا أيها السادة أنه قد فعل.
وعلى أية حال، لقد استطاع توم أن يطرد الرجل الطويل من الباب الأمامي بعد نصف ساعة من ذلك الموقف الذي جرى، وتزوج بالأرملة بعد شهر، واعتاد أن يطوف أرجاء الإقليم في عربته الطفلية اللون ذات العجلات الحمر، والفرس الشموس السريعة الخطى، حتى اعتزل العمل بعد ذلك بعدة سنين، وذهب إلى فرنسا مع زوجته، وانتهى الأمر بهدم ذلك البيت القديم على مر الأيام.»
وهنا قال ذلك الشيخ الفضولي: «هل تأذن لي في سؤالك: ماذا كان من أمر المقعد؟»
فأجاب التاجر الأعور قائلا: «لقد لوحظ عليه أنه بات يكثر من الصرير والطقطقة في ليلة الزفاف، ولكن توم سمارت لم يستطع أن يجزم هل كان ذلك منه تعبيرا عن فرحه، أو شكوى من ضعفه وإلحاح العلة عليه، وإن كان يحسب الثانية هي أقرب إلى الحقيقة؛ لأن المقعد لم يعد يتكلم بعد ذلك التاريخ.»
وقال الرجل الأشعث الأغبر وهو يعيد ملء قصبته: «وهل صدق كل إنسان هذه القصة، أو وجدت من يكذبها؟»
وأجاب التاجر المتجول: «لقد صدقها الجميع إلا خصوم توم، فقد قال فريق منهم: إنه اخترعها اختراعا. وقال آخرون: إنه كان سكران منزوفا، فتوهمها توهما، وأمسك بالسراويل خطأ قبل أن يذهب إلى النوم. ولكن الناس لم يأبهوا يوما بما قال أولئك الخصوم.» - «وهل قال توم إن كل ما فيها صحيح؟» - «بل كل كلمة من كلماتها.» - «وماذا قال عمك؟» - «كل حرف من حروفها.»
وعقب الرجل الأشعث الأغبر بقوله: «لا بد من أنهما كانا لطيفين.»
وأجاب التاجر الجوابة: «أي نعم، في منتهى اللطف فعلا.»
الفصل الخامس عشر
تصوير صادق لشخصين بارزين، ووصف دقيق لمأدبة فطور عامة في بيتهما وحديقتهما، وكيف أدت هذه المأدبة إلى لقاء صاحب قديم، وبداية فصل جديد ... ***
وبدأ ضمير المستر بكوك يؤنبه قليلا على إهماله في الأيام الأخيرة شأن صديقيه المقيمين في فندق «بيكوك»، وفيما هو يهم بالخروج للبحث عنهما في صبيحة اليوم الثالث عقب انتهاء الانتخاب، إذ جاء خادمه الأمين، فدس في يده بطاقة كتب عليها هذا الاسم:
مسز ليو هنتر
1
العرين - إيتنزول
وقال سام بلهجة غامضة: «صاحب البطاقة في الانتظار.»
وسأله المستر بكوك: «هل يريد مقابلتي يا سام؟»
وأجاب سام: «إنه يريد مقابلتك شخصيا، ولا يغني أحد سواك عنك، كما قال السكرتير الخاص في خدمة الشيطان حين جاء يدعو الدكتور فاوستس.»
وقال المستر بكوك: «هل هو رجل؟»
وأجاب المستر ولر قائلا: «إذا لم يكن كذلك، فهو أحسن تقليد له.»
وقال المستر بكوك: «ولكن هذه بطاقة سيدة!»
وأجاب سام قائلا: «سواء كان هذا أو ذاك، فقد أعطانيها سيد، وهو منتظر في حجرة الاستقبال، وقال إنه يفضل أن ينتظر طول النهار على أن ينصرف دون مقابلتك.»
وما إن سمع المستر بكوك هذا الإلحاح في لقائه، حتى نزل إلى حجرة الاستقبال، حيث جلس رجل وقور السمات، لم يكد يراه مقبلا عليه حتى استوى قائما، وقال باحترام بالغ: «المستر بكوك، أليس كذلك؟»
قال: «بلى.»
وعاد الرجل الوقور يقول: «اسمح لي يا سيدي بشرف مصافحتك، ائذن لي يا سيدي في تناول يدك.»
وقال المستر بكوك: «بلا شك.»
وهز الغريب اليد المبسوطة إليه، ثم استرسل يقول: «لقد سمعنا يا سيدي بصيتك، وبلغت الضجة التي أحاطت بكشفك الأثري سمع مسز ليو هنتر زوجتي يا سيدي، فأنا المستر ليو هنتر.» وتمهل الغريب لحظة كأنما كان يرتقب من المستر بكوك التأثر بهذا الكشف عن اسمه، ولكنه رآه قد ظل هادئا كل الهدوء، فاستتلى قائلا: «إن زوجتي يا سيدي ... مسز ليو هنتر لفخورة بأن تعد في مصاف معارفها كل من رفعوا ذكرهم بأمجاد أعمالهم ومواهبهم، فاسمح لي يا سيدي أن أضع في مكان بارز من قائمة أسمائهم اسم المستر بكوك، وإخوانه أعضاء النادي الذي يستمد اسمه منه.»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «إني ليسعدني السعادة كلها أن أتعرف إلى مثل هذه السيدة يا سيدي.»
وقال الرجل الوقور: «وإنك لفاعل يا سيدي، فنحن صباح غد يا سيدي مقيمون مأدبة فطور عامة - حفلة ريفية - لعدد كبير من أولئك الأعلام الذين ظفروا بالمجد والشهرة بفضل أعمالهم ومواهبهم، فاسمح يا سيدي لمسز ليو هنتر بأن تحظى بلقائك في مغناها المعروف بالعرين.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور.»
ومضى الرجل الوقور يقول: «إن مسز ليو هنتر قد أقامت عدة مآدب إفطار من هذا النوع يا سيدي، مآدب للعقل والنهى يا سيدي، وفيض النفس والروح، كما وصفها أحدهم في أبيات كتبها إلى مسز ليو هنتر عن مآدبها هذه، وهي أبيات تنم عن شعور صادق، ووصف مبتكر.»
وقال المستر بكوك: «وهل هو من الذين مجدتهم أعمالهم ومواهبهم؟»
وأجاب الرجل الوقور: «أي نعم يا سيدي، إن جميع معارف مسز ليو هنتر هم كذلك، إن كل أمنيتها يا سيدي ألا تعرف أحدا سواهم.»
وقال المستر بكوك: «تلك أمنية سامية جدا.»
وأجاب الرجل الوقور : «إن مسز ليو هنتر ستعتز حقا بهذه الملاحظة التي خرجت من بين شفتيك يا سيدي حين أنقلها إليها، وأظن يا سيدي أن بين رفقائك سيدا أخرج قصائد روائع، وخرائد صغيرة.»
وأجاب المستر بكوك قائلا: «إن لصديقي المستر سنودجراس نزعة قوية إلى الشعر.»
واستتلى الرجل الوقور يقول: «ومسز ليو هنتر كذلك يا سيدي، فهي بالشعر مولعة، إنها لتعبد الشعر عبادة، بل يجوز لي أن أقول إن كل روحها وخواطر ذهنها مندمجة فيه اندماجا، وقد أخرجت بعض قصائد طرائف من نظمها يا سيدي، ولعلك قرأت لها يوما أغنيتها التي تناجي فيها «ضفدعة تلفظ أنفاسها» يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «لا أظن أنني قرأت شيئا كهذا من قبل.»
وأجاب المستر ليو هنتر: «إني لفي دهشة يا سيدي، فإن تلك الأبيات أثارت ضجة بالغة، وقد مهرتها بالحرف «ل»، وثمانية نجوم، وظهرت أولا في «مجلة السيدة»، وكان مطلعها:
هل أطيق رؤيتك تلهثين
وعلى بطنك، ترقدين، ولا تتنهدين؟
وكيف أطيق صبرا على مشهدك تموتين
فوق الخشبة أيتها الضفدعة!
وقال المستر بكوك: «جميل!»
وقال المستر ليو هنتر: «بديع، سلس!»
وقال المستر بكوك: «جدا.»
ومضى المستر ليو هنتر يقول: «والأبيات التالية لا تزال أكثر تأثيرا، هل أتلوها؟»
وقال المستر بكوك: «من فضلك.»
وقال السيد الوقور، وقد بدا أكثر وقارا: «إنها تجري هكذا:
خبريني أشياطين في صورة غلمان
بصرخات موحشة، وصياح يصم الآذان
صادوك بكلبهم من مستنقعات المتع
أيتها الضفدعة التي بأنفاسك تجودين؟»
وقال المستر بكوك: «صياغة بديعة.»
وقال المستر ليو هنتر: «كلها في الصميم! ولكنك ستسمع مسز ليو هنتر ترددها على سمعك بنفسها، فهي وحدها التي تعرف كيف توفيها حقها يا سيدي، إنها سترددها وهي متمثلة لك في شخصية أخرى يا سيدي صباح الغد.» - «شخصية أخرى؟» - «في شخصية «منيرفا» ربة الحكمة، لقد نسيت أن أقول لك يا سيدي إنها مأدبة في ثياب تنكرية.»
وقال المستر بكوك، وهو ينظر إلى شكله: «يا عجبا! ربما لا يمكني!»
وصاح المستر ليو هنتر بدهشة: «لا يمكنك؟ لا يمكنك؟ يا سيدي، كيف هذا ؟ إن لدى سلمون لوكس اليهودي في شارع «هاي ستريت» آلافا مؤلفة من هذه الثياب، فلنفكر يا سيدي في عديد الشخصيات المناسبة لتختار منها ما يلائمك: أفلاطون، زينون، أبيقور، فيثاغورس، وسائر أصحاب المدارس ومؤسسي الأندية.»
وأجاب المستر بكوك: «أعرف ذلك، ولكني لا أستطيع أن أضع نفسي في ميزان واحد وأولئك العظماء، ولهذا لا أدعي لنفسي حق ارتداء ثيابهم.»
ففكر الرجل الوقور مليا، ثم عاد بعد لحظات يقول: «لست أدري بعد أن فكرت يا سيدي في هذا الأمر، هل سيكون سرور مسز ليو هنتر أكبر وأعظم أن يرى ضيوفها سيدا في مثل صيتك الذائع في ثوبه المألوف، أو يشهدوه في ثوب من ثياب التنكر، وشخصية منتحلة؟ ولكن يصح أن أجترئ فأعدك بهذا «الاستثناء» فيما يتعلق بك. نعم يا سيدي، إنني لواثق كل الثقة أنه بالنيابة عن مسز ليو هنتر يجوز لي أن أقدم على هذه الجرأة.»
وقال المستر بكوك: «إذا كان الأمر كذلك فسوف يسرني كل السرور أن أحضر.»
وقال الرجل الوقور كأنما قد ثاب فجأة إلى نفسه: «ولكني قد أضعت عليك وقتك يا سيدي، وإني أعلم أنه لثمين يا سيدي، ولهذا لن أحتجزك، سأقول إذن لمسز ليو هنتر أن لها أن تطمئن إلى قدومك أنت وأصحابك الأمجاد، طاب صباحك يا سيدي، إني لفخور بأني قد شهدت شخصية عظيمة كهذه، لا خطوة يا سيدي ولا كلمة.»
وتسلل المستر ليو هنتر بكل وقار منصرفا، قبل أن يعطي المستر بكوك فرصة لاحتجاج أو رفض.
وتناول المستر بكوك قبعته، وقصد إلى فندق الطاووس «بيكوك»، ولكن المستر ونكل كان قد نقل إليه نبأ المأدبة التنكرية قبله.
وكان أول كلام استقبل به الزعيم قوله إن مسز بت ستحضر المأدبة.
وقال المستر بكوك: «أحقا؟»
ومضى المستر ونكل يقول: «في ثياب «أبوللو»، ولكن المستر بت يعترض على الثوب فقط.»
وقال المستر بكوك بلهجة التوكيد: «وله حق، كل الحق.»
وقال المستر ونكل: «أي نعم، ولهذا سترتدي ثوبا أبيض من الحرير ذا برق من الذهب.»
وسأل المستر سنودجراس قائلا: «أحسبهم لا يكادون يعرفون مرادها منه، أتظنهم سيعرفون المقصود؟»
فأجاب المستر ونكل بغضب: «طبعا، سيعرفون؛ لأنهم سيرون قيثارها.»
فقال المستر سنودجراس: «هذا صحيح، لقد نسيت ذلك.» وقاطعه المستر طبمن قائلا: «وسأبدو أنا في زي قاطع طريق.»
وهنا قال المستر بكوك، وقد تولته هزة فجائية: «ماذا؟»
وردد المستر طبمن القول في رفق: «قاطع طريق!»
ومضى المستر بكوك يقول وهو ينظر إلى صديقه بعبوس شديد: «لا أحسبك تعني يا مستر طبمن أن في نيتك أن تحشر نفسك في سترة من القطيفة «الخضراء»، ذات ذيل يبلغ طوله بوصتين؟»
وأجاب المستر طبمن بحماسة: «هذه هي نيتي، ولم لا يا سيدي؟»
وقال المستر بكوك ثائرا: «لأنك يا سيدي ... لأنك أكبر سنا من أن تبدو في هذا الذي اخترته.»
وصاح المستر طبمن مبهوتا: «أكبر سنا!»
ومضى المستر بكوك يقول: «وإذا أردت اعتراضا آخر، فأنت أكثر بدانة من ذلك يا سيدي.»
فاشتد احمرار وجه صديقه، وانثنى يقول: «هذه إهانة يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك باللهجة ذاتها: «إن ظهورك يا سيدي في حضرتي بسترة خضراء من المخمل ذات ذيل قصير لا يعدو البوصتين إهانة لي، أكثر منه إهانة لك.»
وقال المستر طبمن: «سيدي، أنت مخلوق ...»
وقال المستر بكوك: «سيدي، وأنت آخر.»
وراح المستر طبمن يتقدم خطوة أو خطوتين، ويحدج المستر بكوك بنظرة حادة، ورد المستر بكوك عليها بمثلها، وزادها منظاره احتدادا، وزفر زفرة التحدي، بينما وقف المستر سنودجراس والمستر ونكل يشهدانهما وهما جامدان في موضعهما من شدة الدهشة لهذا المشهد بين رجلين من طرازهما.
وقال المستر طبمن بعد لحظة بصوت خافت أجش: «سيدي، لقد دعوتني كبيرا في السن.»
وقال المستر بكوك: «نعم، لقد فعلت.» - «وبدينا.» - «وأكرر التهمة.» - «ومخلوقا ...» - «وإنك لكذلك!»
وهنا مضى المستر طبمن يقول بصوت راعش من شدة الانفعال، وهو يشمر عن معصميه: «إن صلتي بشخصك يا سيدي كبيرة، كبيرة جدا، ولكن لا بد لي من الأخذ عاجلا بثأري من شخصك هذا.»
وقال المستر بكوك: «تقدم إذن يا سيدي.» وراح هذا البطل من شدة تأثره بهذا الحوار المهيج المستفز يستسلم فعلا لاتخاذ موقف جمود تام، اعتقد المشاهدان الواقفان على مرأى منه أنه موقف أراد به اتخاذ وضع دفاعي حيال مهاجمه.
وانثنى المستر سنودجراس يصيح قائلا، وقد استطاع فجأة استعادة قوة النطق التي أفقدته إياها حتى اللحظة تلك الدهشة البالغة التي استولت عليه، وهو يندفع نحوهما، فيقف حائلا بينهما، معرضا نفسه حتما لتلقي ضربة على الصدغ من أحدهما: «ما هذا يا مستر بكوك؟ وعين الدنيا تتطلع إليك، والعالم إليك ناظر، والمستر طبمن مثلنا جميعا يستمد بريقا متألقا من اسمه الخالد الذي لا يمحي العار! أيها السيدان! العار!»
وما لبث الغضون والتقاطيب غير المألوفة التي رسمها الغضب العارض على جبين المستر بكوك الواضح، وجبهته المتهللة، أن توارت على منطق صديقه الشاب، وانمحت كما تنمحي السطور المكتوبة بالقلم الرصاص من أثر الممحاة الرقيقة اللينة؛ فاستعاد وجهه هدوءه وطيبته، وانثنى يقول: «لقد كنت متسرعا، متسرعا جدا، يا طبمن هات يدك!»
وعندئذ اختفى الظل القاتم على وجه المستر طبمن، وهو يتناول بحرارة يد صديقه قائلا: «لقد كنت أنا أيضا متسرعا.»
ولكن المستر بكوك قاطعه قائلا: «كلا، كلا، الخطأ خطئي، أسترتدي السترة القطيفة الخضراء؟»
وأجاب المستر طبمن: «كلا، كلا.»
فعاد المستر بكوك يقول: «بل ستفعل لإرضائي.»
وقال المستر طبمن: «حسن، حسن، سأفعل!»
وكذلك تم الاتفاق على أن يرتدي المستر طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس جميعا ثيابا تنكرية، وهكذا انساق المستر بكوك مع حرارة إحساسه الرقيق إلى قرار أمر كانت رجاحة عقله وأصالة رأيه تمجانه، وتنفران من قبوله، ولا نحسب مثلا أروع، ولا شاهدا أبلغ من هذا وأجل، يمكن أن نتصوره؛ للدلالة على لطف شخصيته، ولين عريكته، ولو افترضنا أن الحوادث المدونة في هذه الصفحات جاءت جميعا من نسج الخيال.
ولم يكن المستر ليو هنتر مبالغا فيما تحدث به عن كثرة موارد المستر سلمون لوكس، والألوف المؤلفة من الثياب التنكرية في متجره، فقد كانت خزائنه ملأى حافلة بها، لا بالقديم منها فحسب، ولا بالقشيب فقط، ولا بالمفصل التفصيل الدقيق على زي عصر بذاته، وجيل بعينه، بل كان كل شيء فيه مرصعا بالبرق، وأي شيء أبدع وأجمل مظهرا من التراصيع والبروق ...! ورب معترض يقول إنها ليست مناسبة في النهار، ولكن كل إنسان يعرف أنها تبرق وتتلألأ إذا كانت ثمة شموع ومصابيح، وأنه لا خلاف في أن الذنب ذنب الذين يقيمون الحفلات التنكرية، إذ هم أقاموها نهارا، ولم تبد الثياب براقة ذات سناء كما تلوح ليلا، وليس الذنب مطلقا للبروق ذاتها والتراصيع.
وكان هذا الرأي رأي المستر سلمون لوكس، وحجته المقنعة، وقد تأثر بها المستر طبمن والمستر ونكل والمستر سنودجراس، فقبلوا أن يستأجروا من الثياب ما وصاهم به الرجل، وزكاه لديهم، معتمدين على ذوقه وخبرته، آخذين برأيه فيها، وهي أنها مناسبة للحفلة إلى حد بديع.
واستؤجرت مركبة من فندق أسلحة المدينة «تاون آرمز»؛ لكي تقل البكوكيين، وأخرى مكشوفة من الفندق عينه ليركبها المستر بت وزوجته، إلى دار مسز ليو هنتر، وكان المستر بت قد عمد إلى وسيلة لطيفة لإبداء عرفانه للدعوة التي وجهت إليه، فكتب في جريدة «الغازت إيتنزول» يقول: «إنه لعلى ثقة بأن الحفلة سوف تتيح للعين مشهدا حافلا بأفانين وألوان مختلفة من الفتنة، والسحر المبين، وسوف تكون معرضا مدهشا يأخذ بمجامع القلوب، تتلاقى فيه أضواء الجمال والنبوغ، والكرم العظيم، والأبهة البالغة ... وفوق ذلك كله ستمتاز المأدبة بحد من الروعة يلطف منه الذوق الرفيع، وحد من الزينة يهذب من حواشيه الانسجام التام، والحشمة الطبيعية الواجبة، حتى ليبدو بهاء الشرق وأرض سحره التي تحدثنا عنها الأساطير، بالقياس إليها، قاتمة كدرة معتمة، كخاطر المخلوق الحقود الخسيس الذي يحاول أن ينال بسم حسده ونفث حقده، من جمال الاستعدادات التي تعدها السيدة الفاضلة الرفيعة المكانة التي تتقدم بهذا الإعجاب المتواضع إلى محرابها.» وكانت هذه العبارة الأخيرة سخرية لإذاعة موجهة إلى الإنديبندنت «الجريدة المستقلة» التي ظلت في أربعة أعداد متوالية تحاول الزراية بالحفلة؛ لأنها لم تدع إليها، وتشنع على المأدبة، بأكبر الحروف حجما، وتصفها بأسوأ الأوصاف.
وحل الصباح، فكان مشهدا بديعا ممتعا للعين أن ترى المستر طبمن في ثوب «قاطع طريق»، ذي سترة محبوكة ضيقة للنهاية، جالسة فوق ظهره وكتفيه أشبه شيء بمخدة الدبابيس، بينما بدا الجزء الأعلى من ساقيه محشورا في سراويل قصيرة من المخمل، والجزء الأدنى منهما ملفوفا مقمطا في تلك الأربطة، واللفائف المعقدة التي اعتاد قطاع الطرق جميعا ربطها وحزمها بنوع خاص، وكان من الممتع للعين كذلك أن تشهد وجهه المتفتح الصفي المزدان بالشارب، الشبيه بسدادة القوارير، وهو مطل من طوق قميص مفتوح، وأن تتأمل قبعته التي تحكي «قمع السكر» بأربطتها التي جمعت بين مختلف الألوان، وقد اضطر أن يحملها فوق ركبته، كما لو كانت شيئا مما يحمل ولا يعرف، وله قمة تعلوه، ولا يتواتى للمرء أن يحمله بين رأسه والسقف. وكان منظر المستر سنودجراس لا يقل إضحاكا وطرافة، فقد بدا في صدار وحلة من الحرير الأزرق، وسراويل محكمة من الدمقس الأبيض، وحذاء وخوذة إغريقية، يعرف كل إنسان - أو إذا لم يعرف، فإن المستر سلمون لوكس يعرف - أنه الثوب المألوف الذي يرتديه عادة شعراء الفروسية الغزلون، من أبعد عصور التاريخ إلى الوقت الذي اختفوا فيه جملة على وجه الأرض.
كل ذلك كان ممتعا، ولكنه لم يكن شيئا مذكورا بجانب هتاف العامة وصرخاتهم، حين وقفت بهم المركبة، وراء مركبة مسز بت، التي كانت واقفة بباب داره، وحين انفتح الباب ذاته، وبدا منه ذلك الرجل العظيم «بت»، مرتديا ثوب ضابط روسي من رجال الشرطة، يحمل سوطا ضخما في يده كأبدع رمز، وأنسب شارة، لسلطان «الغازت إيتنزول» ونفوذها المرهوب، وبأسها العظيم، وتلك السياط المخيفة التي يلهب بها ظهور المخطئين والمسيئين إلى الحياة العامة.
وصاح المستر طبمن والمستر سنودجراس من جانب الدهليز، حين شهدا هذا «الرمز» الماشي على قدمين: «مرحى!»
وهتف الجمهور: «مرحى! يا بت!»
وفي وسط هذه التحيات تقدم المستر بت وهو يبتسم تلك الابتسامة المقترنة بالكرامة والهيبة، التي تدل دلالة كافية على شعوره بقوته، وإحساسه بنفوذه، ومعرفته كيف يبديه، ومتى يجب أن ينفذه، فدخل في المركبة.
وعندئذ خرجت من البيت المسز بت، وكانت بلا ريب ستبدو أشبه بأبوللو لو لم ترتد ثوبا فضفاضا، وكان يأخذ بيدها المستر ونكل، وهو في سترة ذات لون أحمر مائل إلى البياض، كان من المحتمل أن يتراءى للعين أشبه بالرجل «الرياضي» دون أحد سواه، لو لم يرتد هو الآخر شيئا جعله أقرب ما يكون شبها إلى ساعي بريد، وأخيرا أقبل المستر بكوك، فصفق الأولاد والغلمة له كما صفقوا للآخرين، وهتفوا كهتافهم المدوي لهم، وأغلب الظن أنهم اعتقدوا أن سراويله وأربطة ساقيه هي بعض بقايا العصور المظلمة.
وانطلقت المركبتان صوب دار مسز ليو هنتر، بينما راح المستر ولر الذي تقرر أن يذهب معهم للخدمة كبعض الندول والسعاة، يتخذ مجلسه فوق مقدم المركبة التي احتوت سيده.
ولم يلبث الرجال والنساء، والأولاد والبنات، والأطفال الصغار الذين احتشدوا لرؤية المدعوين في ثيابهم المستعارة، أن صاحوا صيحات الفرح الشديد والمسرة البالغة، حين رأوا المستر بكوك يمشي بين «قاطع طريق»، وبين أحد الشعراء الغزلين، إلى مدخل الدار في وقار وجلال، وما كان أشد الصيحات التي استقبلوا بها المستر طبمن، وهو يحاول تثبيت قبعته الشبيهة بقمع السكر فوق رأسه، يهم بالدخول إلى حديقة البيت دخلة رسمية جليلة.
وكانت الاستعدادات أبدع ما تكون مدى، وأبهج ما تكون نطاقا، بل كانت في الحق مصداقا لما توقعه المستر بت فيما كتبه عن أبهة الشرق، وفخفخة أرض السحر، وتكذيبا كافيا في الوقت ذاته لما كتبته «الإنديبندنت» الأفعى عن الحفلة من سوء، وقول خبيث، وتشنيع.
وكانت حديقة البيت أكثر من فدان وربع فدان مساحة، وهي مزدحمة بالناس، فلم تشاهد العين يوما مثل ما اجتمع في الحديقة ذلك الصباح من وهج الجمال، وسناء الأدب، وحسن الأزياء، فهنالك الغادة الشابة التي كانت تتولى قسم الشعر في صحيفة «الغازت إيتنزول»، وهي في ثوب «سلطانة»، وقد استندت إلى ذراع الشاب الذي يشرف على باب النقد والاستعراض، وكان يرتدي ثوبا مناسبا لمركزه ذاك، وهو ثوب «فريق»، خلا الحذاء، وهنالك أيضا جموع من العباقرة وأهل النبوغ، ممن يحسب العاقل أو من به مسكة من العقل أن الشرف كله في لقائهم، ولكن إلى جانب أولئك جميعا كان هناك نحو ستة من أسود لندن، من المؤلفين والكتاب، الذين وضعوا كتبا ومؤلفات كاملة، ثم عادوا فطبعوها للناس.
وإنك لتراهم في الحديقة يمشون بين المدعوين كأنهم من عامة الناس، مبتسمين ومتحدثين أحاديث لا تخلو من هراء كثير، وليس من شك في أنهم تعمدوها تعمدا، عن لطف ورعاية، لكي يفهمهم عامة الناس الذين أحاطوا بهم، وكانت هناك أيضا فرقة موسيقية وضع أفرادها على رءوسهم قلانس من الورق المقوى، وأربعة مغنين «من كل شيء كان»، وهم مرتدون زي بلادهم، واثنا عشر من السعاة والخدم في الفنادق استؤجروا، وجاءوا هم كذلك في زي بلادهم، وهو زي قذر نهاية في الاتساخ كذلك.
وفوق كل هذا وذاك، كانت هنالك مسز ليو هنتر في زي «منيرفا» تستقبل الجميع، وتفيض زهوا واغتباطا بجمع هذا الحشد الحاشد من المشاهير والأعلام في صعيد واحد.
وقال خادم ينبه ربة الدار: «المستر بكوك يا سيدتي.» بينما كان هذا السيد يقترب من تلك «المعبودة» المشرفة على الحفل، وهو ممسك قبعته بيده، وكل من «قاطع الطريق» والشاعر الغزلي ممسك بإحدى ذراعيه.
وصاحت مسز ليو هنتر مجفلة في نشوة دهشة مصطنعة: «ماذا! أين!»
وقال المستر بكوك: «هنا.»
فعادت مسز ليو هنتر تصيح قائلة: «هل أتيح لي حقا أن أحظى برؤية المستر بكوك نفسه؟ أممكن هذا؟»
وأجاب المستر بكوك وهو ينحني انحناءة بالغة: «هو بعينه، لا أحد سواه يا سيدتي، اسمحي لي أن أقدم أصدقائي: المستر طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس، إلى الشاعرة صاحبة قصيدة الضفدعة المحتضرة.»
ولا يعرف غير القليلين الذين جربوا مدى المشقة التي يعانيها كل من يريد أن ينحني بالتحية، وهو في سترة خضراء من المخمل ضيقة عليه شديدة الضيق، وقبعة عالية مفرطة في الارتفاع، أو في صدار حريري أزرق، وسراويل بيضاء، أو أربطة ركب، وأحذية طوال لم تفصل مطلقا على لابسيها، بل ركبت عليهم دون أي مراعاة لتناسب الأحجام والمساحات بينها وبين المرتدين، فلا عجب إذا قلنا: إنه لم يعان أحد يوما مثل ما عانى المستر طبمن من التلوي والتقلص والتقبض، وهو يحاول أن يبدو مستريحا ليس به من عناء، وإنه لم يقاس أحد يوما من هذه الأوضاع المحرجة مثل ما قاساه أصدقاؤه المتنكرون في تلك الثياب.
وانثنت مسز ليو هنتر تقول: «إنني مضطرة يا مستر بكوك إلى استنزال وعد منك بأن لا تتحرك من جنبي طيلة اليوم، إن هناك مئات من الناس لا بد لي قطعا من تقديمك إليهم.»
وقال المستر بكوك: «إنك لجد كريمة يا سيدتي.»
ومضت «منيرفا» تقول وهي تشير بغير اهتمام إلى فتاتين مليئتين، إحداهما تلوح في نحو العشرين، والأخرى أكبر منها بعام أو عامين، وهما مرتديتان ثيابا أقرب ما تكون إلى ثياب الأحداث والصغار لكي تلوحا أصغر من سنهما، أو تبدو أمهما أدنى إلى الشباب، وهو أمر لم يحدثنا عنه المستر بكوك في مذكراته، ولم يقطع فيه برأي حاسم، ومضت منيرفا تقول أول كل شيء: «ها هما هاتان ابنتاي الصغيرتان، لقد كدت أنساهما.»
وأجاب المستر بكوك بعد أن شهدهما تتوليان مبتعدتين، عقب تقديمهما إليه: «إنهما جميلتان في غاية الجمال.»
وقال المستر بت بجلال: «مثل أمهما.»
وصاحت به مسز ليو هنتر: «أوه أيها الرجل الشرير!» وراحت مداعبة تدق بلطف ذراع رئيس التحرير بمروحتها (تصوروا منيرفا ممسكة بمروحة!)
وقال المستر بت، وهو يشغل في هذا البيت وظيفة (النافخ في البوق): «والآن يا عزيزتي مستر هنتر، أنت تعرفين أنه عندما كانت صورتك في معرض الجمعية الملكية، ذهب كل إنسان يتساءل: هل هي صورتك أو صورة ابنتك الصغرى؟ لأنكما بدوتما أقرب شبها وأتم تماثلا، حتى ليحار المرء فيكما، ولا يدري الفارق بينكما!»
وقالت مسز ليو هنتر، وهي تنعم بدقة أخرى من مروحتها على هذا الأسد الرابض في جريدة «الغازت إيتنزول»: «وإذا كانوا قد حاروا ولم يدركوا الفارق، فما حاجتك إلى ترديد ذلك أمام الغرباء؟»
وصاحت مسز ليو هنتر في أثر رجل غزير الشاربين في ثوب أجنبي كان قد مر بها: «يا كونت، يا كونت!»
وتولى الكونت إليها بوجهه قائلا: «آه، أتريدنني؟»
قالت: «أريد أن أقدم رجلين بارعين كل البراعة، أحدهما إلى الآخر. يا مستر بكوك، يسرني أن أقدم إليك الكونت «سمورلتورك»، وأردفت تقول للمستر بكوك مخافتة بصوتها: «الأجنبي المشهور الذي جاء ليجمع معلومات ومواد لكتابه العظيم عن إنجلترا. يا كونت سمورلتورك، أقدم إليك المستر بكوك.»
فحيا المستر بكوك الكونت بكل الاحترام الخليق برجل عظيم مثله، بينما أخرج الكونت مجموعة من الألواح، ومضى يقول وهو يبتسم لمسز ليو هنتر: «ماذا قلت يا مسز هنت؟ بيج فج، أو ما تدعونه «محاميا» آه، فهمت بيج فج.» وهم الكونت بأن يدون اسم المستر بكوك في ألواحه بوصفه سيدا من ذوي الأردية الطوال، ورجلا استمد اسمه هذا من المهنة التي ينتمي إليها، لولا أن قاطعته مسز ليو هنتر قائلة: «كلا، كلا، يا كونت، إن اسمه هو بك ... وك.»
وأجاب الكونت: «آه، فهمت، بيك الاسم الأول، «وويكي» اللقب أو الكنية، حسن جدا، بيك ويكس، كيف حالك يا مستر ويكس؟»
وأجاب المستر بكوك بكل لطفه المألوف: «بخير، أشكرك، هل جئت إلى إنجلترا من عهد بعيد؟»
قال: «من عهد بعيد، بعيد جدا، من أسبوعين أو أكثر.»
وسأله المستر بكوك قائلا: «وهل تنوي المقام طويلا؟»
قال: «أقيم أسبوعا واحدا.»
وابتسم المستر بكوك وهو يقول: «سيذهب الوقت كله في جمع كل المواد التي تريدها.»
وقال الكونت: «آه، إنها مجموعة فعلا.»
وقال المستر بكوك: «أحقا؟»
وأردف الكونت قائلا وهو يدق جبينه بيده دقة ذات دلالة: «كلها هنا، وفي البيت كتاب ضخم حافل بالملاحظات والمذكرات عن الموسيقى، والرسم، والعلم، والشعر، والسياسة، وكل الأشياء.»
وقال المستر بكوك: «إن كلمة «السياسة» تقتضي وحدها دراسة شاقة لا يستهان بسعة نطاقها، وترامي حدودها.»
وقال الكونت وقد عاد يخرج ألواحه: «آه، حسن جدا، هذا أبدع مطلع يفتتح به فصل في الكتاب، وهو الفصل السابع والأربعون: السياسة، إن كلمة السياسة مدهشة في حد نفسها.» وراح يدون كلمات المستر بكوك في ألواحه، في مختلف الصياغات والزيادات التي عنت لخياله الخصيب، واقتضاها علمه الناقص باللغة الإنجليزية.
ونادته مسز ليو هنتر قائلة: «يا كونت!»
وأجاب الكونت: «نعم يا مسز هنت.»
قالت: «وهذا هو المستر سنودجراس، صديق للمستر بكوك وشاعر!»
وصاح الكونت قائلا وهو يخرج الألواح مرة أخرى: «قفي، في باب «الشعر» أصدقاؤنا الأدباء، الاسم «سنوجرادس»، حسن جدا، وقدمنا إلى «سنودجراس» الشاعر الكبير، وصديق «بيك ويكس»، وكانت التي قدمتنا إليه هي مسز هنت، التي نظمت قصيدة أخرى بديعة، ما هو ذلك الاسم؟ الضفدعة ... الضفدعة المحتضرة؟! حسن جدا، حسن جدا في الحقيقة.»
وأعاد الكونت الألواح إلى مكانها، وانحنى عدة انحناءات مختلفة، وانصرف وهو مرتاح كل الارتياح؛ لأنه استطاع أن يضيف أهم وأثمن الإضافات إلى خزانة معلوماته.
وقالت مسز ليو هنتر عقب انصرافه: «الكونت سمورلتورك رجل مدهش!»
وقال المستر بت: «فيلسوف سديد الرأي.»
وأضاف المستر سنودجراس: «صافي القريحة، قوي الذهن.»
وتناول جمع من الذين كانوا وقوفا على مقربة الثناء على الكونت سمورلتورك، فقالوا وهم يهزون الرءوس هزة الحكماء: «جدا.» بإجماع الأصوات.
وكان من الجائز وقد سرت الحماسة في مديح الكونت، وتعالت بالثناء عليه، أن يتغنى القوم بها إلى نهاية الحفل، لولا أن بادر الأربعة المغنون «المساكين»، فاصطفوا أمام شجرة تفاح صغيرة؛ ليتراءوا في منظر جميل، وشرعوا يغنون أغانيهم الوطنية، وتبين أن التغني بها لم يكن شاقا في شيء؛ لأن السر في غنائها هو أن ثلاثة منهم كان عليهم أن يقبعوا كالخنازير، وليس على الرابع إلا أن يعوي أو يزمجر، ولم يكد هذا الدور الغنائي ينتهي وسط التصفيق الشديد، والهتاف المدوي، من حناجر المدعوين، حتى انبرى غلام فبدأ يشتبك في إسلاك مقعد، ثم يقفز فوقه، ويزحف تحته، ويقع معه، ثم يلفهما حول عنقه، وأخيرا، بمثل السهولة التي يتيسر بها للمخلوق البشري أن يبدو للأنظار كأنه ضفدعة برية، وكانت كل هذه الحركات والألعاب تثير السرور والضحك والابتهاج في نفوس النظارة الحاشدين.
وعقب ذلك سمع صوت مسز بت وهي ترسل شدوا مخافتا، أو شيئا تدعوه المجاملة «غناء»، وكان كله «قديما» أو مناسبا للمقام؛ لأن «أبوللو» نفسه كان واضع «ألحان»، وقلما يغني واضعو الألحان ألحانهم، أو ألحان سواهم.
وتلا ذلك قراءات من الشعر، فقرأت مسز ليو هنتر على المدعوين مرثيتها الشعرية «للضفدعة المحتضرة»، وكان المدعوون يصفقون لها ويستعيدونها، وكادوا يكررون الهتاف باستعادتها، لولا أن فريقا أكبر منهم رأوا أنه قد حان أن يجدوا شيئا يأكلونه، وذهبوا يقولون إنه من المحبب للغاية استغلال طيبة مسز هنتر وطبيعتها الكريمة، إلى حد مطالبتها بإعادة الأبيات، وكانت مسز ليو هنتر قد أبدت ارتياحها التام لتلاوة القصيدة من جديد، ولكن أصدقاءها الكرام المشفقين عليها أبوا أن يسمعوها مهما يكن الأمر، وكانت قاعة الطعام قد فتحت أبوابها، فاندفع إليها كل الذين كانوا من قبل فيها، وتزاحموا عليها سراعا متدافعين، وكان برنامج مسز ليو هنتر يقضي بتوزيع مائة بطاقة، وإعداد الطعام لخمسين، أو بعبارة أخرى لا تطعم غير «الآساد» الكبار من المدعوين، وتدع الحيوانات الصغار تتلمس طعامها جاهدة.
وصاحت مسز ليو هنتر، وقد جعلت «الآساد» يحيطون بها: «أين المستر بت؟»
وقال رئيس التحرير من أقصى طرف القاعة، حيث لا أمل له في الوصول إلى الطعام، ما لم تبادر ربة البيت إلى نجدته: «هأنذا!»
قالت: «أولا تأتي إلى هنا؟»
وقالت مسز بت بصوت رقيق للغاية: «أوه، أرجوك، لا تحفلي به، إنك تتعبين نفسك كثيرا دون ضرورة يا مسز هنتر، ألا تستطيع يا عزيزتي أن تؤدي لنفسك حقها، وأنت في موضعك ذاك؟»
وأجاب بت المسكين، وهو يكشر نابه عن ابتسامة مصطنعة: «بلا شك يا عزيزتي!»
واأسفا لذلك السوط الذي في يده ...! إن الذراع العصيبة التي تستخدمه بتلك القوة الضخمة في المسائل العامة، قد استحالت شلاء من نظرة زوجته الآمرة المتحكمة.
وأرسلت مسز ليو هنتر عينها فيما حولها، وألقت نظرة فوز وانتصار، فقد رأت الكونت سمورلتورك منهمكا كل الانهماك في تدوين ملاحظاته عن ألوان الصحاف والمآكل، بينما مضى المستر طبمن يوزع «السلاط» المصنوع من جراد البحر على عدة «لبؤات» كبار بأدب جم، لم يشهد مثله من قاطع طريق في يوم من الأيام، وراح المستر سنودجراس يعرض على الشاب الذي كان يتولى نقد الكتب في «الغازت إيتنزول»، ويقبل على محادثة السيدة الشابة التي تشرف على قسم الشعر فيها، وكان المستر بكوك يحاول جاهدا التلطف للجميع، وبدا كل شيء بديعا، والحلقة لا ينقصها أحد، وإذا بالمستر ليو هنتر، الذي كان كل عمله في هذه المناسبات الوقوف بالأبواب، والتحدث إلى المدعوين الذين هم أقل شأنا من أولئك المحيطين بزوجته، ينادي فجأة قائلا: «يا عزيزتي، هنا المستر شارل فيتز-مارشال.»
وصاحت مسز ليو هنتر: «أواه يا عزيزي، لكم كنت في قلق وارتقاب شديد لحضوره، أرجو أن تفسحوا طريقا لكي يمر المستر فتز-مارشال، ألا أنبئ يا عزيزي المستر فتز-مارشال أن يأتي رأسا إلي لكي أؤنبه على تأخيره.»
وصاح صوت قائلا: «أنا آت يا سيدتي العزيزة بأسرع ما استطعت، زحام شديد، القاعة غاصة، مهمة شاقة جدا.»
ولم يكد المستر بكوك يسمع هذا الصوت حتى سقطت السكين والشوكة من يده، وأرسل نظرة من وراء المائدة إلى المستر طبمن، وكان هذا أيضا قد سقطت السكين والشوكة من كفه، وبدا كأنما يوشك أن يسقط على الأرض بلا سابق إنذار.
وصاح ذلك الصوت، بينما كان صاحبه يشق طريقه بين الخمسة والعشرين الأخيرين من المتنكرين في أزياء «الأتراك»، والضباط، والفرسان، وشارل الثاني، وهم الذين لا يزالون حائلا بينه وبين الوصول إلى المائدة: «يا لله! صقل بديع من طراز بيكر لم يدع ولا ثنية واحدة في سترتي بعد كل هذا الحشر، ليتني جئت بكل ثيابي الثمينة لكي تصقل هنا، ها ها فكرة حسنة هذه أن تصقل الثياب هكذا، وهي على جسم لابسها، وإن كانت عملية متعبة جدا.»
وبهذه العبارات المتقطعة مضى شاب يرتدي زي ضابط بحري يشق الطريق إلى المائدة، ويتمثل للبكوكيين المبهوتين المستر ألفريد جنجل بشكله وملامحه.
ولم يكد يتسع له الوقت لتناول يد مسز ليو هنتر الممدودة إليه، حتى التقت عيناه بعيني المستر بكوك، وهما من شدة الغيظ تقدحان شررا، فقال: «ها، لقد نسيت شيئا! لم أعط تعليمات لسائسي الخيل، سأذهب إليهم في الحال وأعود بعد دقيقة واحدة.»
وقالت مسز ليو هنتر: «دع الخادم أو المستر هنتر يقوم بذلك في الحال يا مستر فتز -مارشال.»
ولكنه أجاب قائلا: «كلا، كلا، سأقوم أنا بها، لن أغيب، سأعود بعد لحظة.» واختفى في غمار الزحمة.
وقال المستر بكوك وهو ينهض من مقعده: «هل تسمحين لي يا سيدتي أن أسأل: من يكون ذلك الشاب، وأين يقيم؟»
وأجابت مسز ليو هنتر: «إنه سيد من أهل الثراء يا مستر بكوك، أريد أن أقدمك إليه، ويقيني أن الكونت سيسر بمعرفته.»
وقال المستر بكوك في عجلة: «نعم، نعم، وأين يقيم؟»
قالت: «إنه يقيم الآن في فندق الملاك «أنجل» ببلدة بري.»
فعاد يسأل ليستوثق: «أتقولين في بيري.»
قالت: «نعم، في بري سانت أدموندز التي لا تبعد منا أميالا كثيرة، ولكن عجبا يا مستر بكوك، لا أحسبك تاركنا هكذا، لا يمكن يا مستر بكوك أن تفكر في الانصراف هكذا وشيكا!»
وقبل أن تتم كلامها كان المستر بكوك قد توارى في غمار الزحام، ووصل إلى الحديقة حيث وافاه بعد لحظة المستر طبمن، وكان قد تبع حركاته عن كثب.
قال المستر طبمن: «لا فائدة، لقد انطلق.»
فأجاب المستر بكوك: «أعرف ذلك، ولكني سأتبعه.»
وقال المستر طبمن مبهوتا: «تتبعه! إلى أين؟»
وأجاب المستر بكوك بلهجة سريعة: «إلى فندق أنجل في بلدة بري، ما يدرينا أي قوم تراه يحتال عليهم فيها، لقد غش رجلا فاضلا من قبل، وكنا نحن السبب، ولم نكن ندري، لن أدعه يفعلها مرة أخرى إذا أنا استطعت؛ لأفضحنه، ولأكشفن خبيئته للناس، أين خادمي؟»
وإذا المستر ولر يقول: «أنا هو يا سيدي.» وقد خرج من بقعة منعزلة كان فيها «يناقش» زجاجة من نبيذ «الماديرة» استخلصها من مائدة الفطور قبل ذلك بساعة أو ساعتين.
ومضى يقول: «ها هو ذا خادمك يا سيدي الفخور بهذا اللقب، كما قال الهيكل العظمي الحي عندما عرضوه ...»
وقال المستر بكوك: «اتبعني في الحال! وأنت يا طبمن إذا أنا تأخرت في «بيري»، فوافني إليها حين أكتب إليك، والآن إلى اللقاء.»
ولم تكن الاحتجاجات على ذهابه بمجدية، فإن المستر بكوك قد اتقدت الحماسة في صدره، وأجمع نيته على الذهاب، فلم يسع المستر طبمن إلا الرجوع إلى أصحابه، ولم تنقض ساعة حتى غرقت ذكريات المستر ألفريد جنجل، أو المستر شارلز فيتز-مارشال في لجة رقصة «الكوادريل»،
2
وزجاجة من الشمبانيا، بينما كان المستر بكوك وخادمه سام ولر جالسين خارج مركبة حافلة، تنهب بهما الأرض، وتقربهما شيئا فشيئا من بلدة «بري سانت أدموندز» لمطاردة الرجل الغريب!
معنى «ليو هنتر» في الأصل «صيادة السبع»، وتقيم في العرين، بيت السبع، ولكن الكلمة هنا تعني المكان الذي اتخذته السيدة للدرس والبحث، أو المحراب.
رقصة يشترك فيها أربعة أزواج من الراقصين، وتسمى موسيقاها «كوادريل» كذلك.
الفصل السادس عشر
حافل بالأحداث بحيث لا يغني الإيجاز في وصفها. ***
ليس في شهور العالم كله شهر تبدو فيه الطبيعة أبهى ثيابا كشهر أغسطس، ولسنا ننكر أن للربيع عديد محاسنه، وأن شهر مايو شهر وسمي متفتح كأكمام الزهر، ولكن مفاتن هذا الشهر تزداد حسنا لاختلافها عن أيام الشتاء وشهوره، وليس لشهر أغسطس هذه المزية، فهو يأتي حين لا نذكر شيئا غير السموات الصافية، والحقول الناضرة، والأزاهر الفواحة، وحين تتوارى عن خواطرنا أخيلة الجليد والثلوج والرياح المقرورة، كما توارت عن الأرض ... ومع ذلك كله ما أجمل هذا الشهر وأخفه على النفس! فإن الأزهار فيه وحقول القمح لتضج بطنين العمل، وثمار الدأب، فنرى الأشجار رازحة فيه تحت كثاف عناقيد الثمرات الطيبة، على أغصانها المنحنية إلى الأرض، والقمح متكدسا في البيادر أكواما جميلة، أو متموجا متمايلا مع كل نسمة عليلة من الأنسام الهابة عليه، كأنما تناجي المنجل، وتضفي على الأرض لونا من نضار، وكأنما يغمر الكون كله لطف بهيج لين بديع، يسر الناظرين، وكأنما امتدت فتنة الموسم ذاته إلى المركبة التي لا تشعر بحركتها البطيئة في الحقول الجنية غير العين وحدها، ولا يطرق الأذن منها صوت شديد.
وكلما مرت المركبة مارقة من خلال الحقول والبساتين المترامية على حافة الطريق، تمهلت جموع النساء والأطفال، الذين يجمعون الثمار في الغرابيل، أو يجنون سنابل القمح المتناثرة، وكفت لحظة عن عملها، وظللت وجوهها الملفوحة من حر الشمس بأكفها السمراء مثلها من وقدة أشعتها، لترمق الركب أعينها الطلقة، ويروح من بينها صبي قوي البدن، وإن كان أصغر سنا من أن يعالج عملا، ولكنه من فرط الخبث والنزوع إلى العبث والأذى لا ينبغي أن يترك في البيت، يتسلق جانب «السلة» التي أودع جوفها ليبقى في مأمن، وينطلق يركل بقدميه، ويصرخ من فرط الفرح، بينما يكف الحاصد عن العمل ويقف مشبوك الذراعين، لينظر إلى المركبة وهي مارقة قبالته، وتنثني الخيل التي تجر العجلات، فتنعم على خيل المركبة المطهمة بنظرات نعسانة، كأنما لسان حالها يقول في أبلغ ما يمكن أن تتحدث به نظرات حصان: «إنه لمنظر بديع حقا!» ولكن السير في رفق، فوق أرض الحقول اللينة، أفضل من هذا العدو السريع فوق أرض معفرة مثيرة الغبار على هذه الصورة.
وإذا أنت ألقيت البصر كرة أخرى إلى ركن من الطريق، رأيت النساء والأطفال قد عادوا إلى ما كانوا فيه من عمل ودأب، وألقيت الحصد قد رجع يكب على ما بين يديه، وأبصرت العجلة قد عادت الميسر، وكل شيء قد عاد إلى الحركة والنضال.
ولم يغب جلال هذا المشهد عن خاطر المستر بكوك وذهنه المتسق المنظم، ولكنه عقد العزم على كشف خبيئة الخبيث الداهية «جنجل» في أي مكان قد يعاود فيه النصب والاحتيال على الناس، وجلس في بداية الأمر صموتا مفكرا ساهما، يتدبر الوسائل التي يتسنى له بها تحقيق هدفه على أحسن وجه، فقد أخذ خاطره شيئا فشيئا ينجذب إلى المشاهد المحيطة به، حتى بدأ عندئذ يجد متعة بالغة في هذه المركبة، كأنه قد اعتزم بها الاستمتاع بأبدع نزهة.
وأنشأ يقول: «مشهد بهيج يا سام!»
وأجاب سام وهو يلمس قبعته: «إنها لتضرب رءوس المداخن يا سيدي.»
فابتسم المستر بكوك، ومضى يقول: «أحسبك لم تشهد في كل حياتك شيئا غير رءوس المداخن، والطوب، والملاط يا سام.»
وأجاب المستر ولر وهو يهز رأسه: «لم أكن طول عمري مساح أحذية يا سيدي، فقد كنت صبي حوذي صاحب مركبة نقل في يوم من الأيام.»
وقال المستر بكوك: «ومتى كان ذلك؟»
وأجاب سام : «عندما حملت من رقبتي وغرتي، فألقيت لأول مرة في هذا العالم لألعب لعبة «قفزة الضفدع» مع متاعبها وأكدارها، فبدأت صبي حمال، ثم صبي سائق مركبة نقل، ثم مساعدا، ثم مساح أحذية، وأنا الآن خادم سيد، ومن يدري فقد أصبح أنا الآخر سيدا في يوم من الأيام، أضع القصبة في فمي، ولي سقيفة في حديقة بيتي الخلفية، من يدري؟ وإن كنت أنا نفسي لن أدهش يومئذ، ولن أعجب.»
وقال المستر بكوك: «إنك لفيلسوف يا سام.»
وأجاب سام قائلا: «أعتقد يا سيدي أنها وراثية في الأسرة، ووالدي في هذا الدور ذاته الآن، فإذا «كشرت» له امرأة أبي أو هبت فيه، لم يفعل شيئا غير أن يطلق «صفيرا» من بين شفتيه، وإن هي غضبت وكسرت قصبته، انصرف من البيت واشترى قصبة غيرها، وإذا ما صرخت ودخلت في دور «تشنج»، واصل تدخينه هادئا ساكنا، حتى تثوب إلى نفسها، هذه فلسفة يا سيدي، أليست كذلك؟»
فأجاب المستر بكوك ضاحكا: «أو بديل حسن جدا منها على كل حال، ولا بد من أن تكون قد خدمتك كثيرا في سير حياتك المتنقلة يا سام.»
وصاح سام قائلا: «خدمتني! يا سيدي، لك أن تقول ذلك، ولكني بعد أن هربت من الحمال، وقبل أن أعمل مع السائق ... قضيت أسبوعين في مسكن غير مفروش.»
وقال المستر بكوك في دهشة: «مسكن غير مفروش؟»
قال: «نعم، في عقود جسر واترلو الجافي، مكان بديع للمبيت ... لا يبعد أكثر من مسيرة عشر دقائق من المكاتب العامة، وإذا كان ثمة عيب فيه، فهو أن الموقف يبدو «طلقا» كثير الهواء، وكنت أشهد فيه بعض المناظر الغريبة.»
وقال المستر بكوك باهتمام بالغ: «أظنك لا بد فعلت.»
واستتلى المستر ولر يقول: «مناظر يا سيدي تنفذ في جنب قلبك الرحيم، وتخرج من الجنب الآخر، وأنت لا ترى المتشردين الذين يأوون إلى ذلك الموضع بانتظام ... بل ثق أنهم أحكم من أن يتركوك تراهم هناك، وأحيانا ترى المتسولين الأحداث، الذكور منهم والإناث، الذين لم يرقوا بعد في المهنة، يتخذون من ذلك المكان مقرا لهم، ولكن المشاهد عامة فيه هم أولئك المخلوقات المكدودة الجائعة التي لا مسكن لها ولا مأوى، فتلجأ إلى تلك الزوايا المظلمة في ذلك الموضع المعزول ... تلك المخلوقات المسكينة التي لا تستطيع أن تكفل لأنفسها الحبل ببنسين!»
وراح المستر بكوك يسأله: «وما هو هذا الحبل ببنسين يا سام؟»
وأجاب سام قائلا: «الحبل ببنسين يا سيدي هو وكالة رخيصة الأجور للمبيت، السرير فيها ببنسين اثنين في الليلة ...»
قال: «ولماذا يسمون الفراش حبلا؟»
وأجاب سام بقوله: «بارك الله يا سيدي في سلامة قلبك، إنه ليس فراشا، وعندما بدأت السيدة والسيد اللذان أسسا هذا الفندق ينظمان عملهما، جعلا المراقد على الأرض، ولكنهما وجدا أن العمل هكذا لا يجدي، فبدلا من أن يأخذ النزلاء حقهم من النوم نظير بنسين لا أكثر، راحوا يعتادون الرقاد في الفندق نصف اليوم، فجاء صاحبا الفندق أخيرا بحبلين، تفصل كلا منهما عن الآخر مسافة ست أقدام، وعن السقف ثلاث، ويمتدان بعرض الغرفة، والمراقد مصنوعة من خرق من الخيش الخشن، مصفوفة على طول الحبلين.»
وقال المستر بكوك: «وماذا بعد؟»
قال: «إن مزية هذه الخطة واضحة، ففي كل صباح في الساعة السادسة يسقطون الحبلين من أحد طرفيها، فيقع النزلاء جميعا من فوق مضاجعهم، والنتيجة أنهم يستيقظون طبعا، وينهضون بكل هدوء وينصرفون.»
وانقطع سام فجأة عن سياق الحديث الثرثار، قائلا: «معذرة يا سيدي ... أليست هذه بري سانت أدموندز؟»
وأجاب المستر بكوك: «هذه هي.»
وانطلقت المركبة تشق شوارع معبدة في وسط بلدة صغيرة جميلة، تلوح عليها سمات الرفاهية والنظافة، ووقفت أمام فندق رحيب يقع في شارع مفتوح واسع، يكاد يواجه الكنيسة القديمة.
وقال المستر بكوك وهو يتطلع إلى الفندق ببصره: «وهذا هو فندق (أنجل)، وسنترجل هنا يا سام، ولكن لا بد من الأخذ بشيء من الحيطة، فمر بحجز غرفة خاصة، ولا تذكر اسمي، أتفهمني؟»
وقال وهو يغمز بعينه غمزة ذكاء وفهم: «تماما يا سيدي.» ومضى يجر حقيبة المستر بكوك من الجزء الخلفي الذي ألقيت فيه بعجلة عندما لحقا بالمركبة في «إيتنزول»، وانطلق المستر ولر لإنجاز المهمة التي وكلت إليه، فلم يلبث أن تم حجز غرفة خاصة، ومشى المستر بكوك إليها دون تأخير.
وقال المستر بكوك: «والآن يا سام، إن أول شيء ينبغي أن تفعله هو ...»
فعاجله المستر ولر قائلا: «نأمر بإعداد الغداء؛ فقد تأخر عن وقته يا سيدي.»
فنظر المستر بكوك إلى ساعته وقال: «آه، هذا صحيح، وأنت على حق يا سام.»
وأردف المستر ولر يقول: «وإذا جاز لي أن أقدم نصيحة يا سيدي، قلت: وبعد هذا الإخلاد إلى الراحة الليل كله، فلا نبدأ البحث عن ذلك الرجل «العميق» إلا في الصباح، فليس في الدنيا يا سيدي شيء أكثر إنعاشا للبدن من النوم، كما قالت الخادمة قبل أن تتجرع ملء قشر بيضة من المخدر.»
وقال المستر بكوك: «أحسبك مصيبا فيما تقول يا سام، ولكن يجب أولا أن أستوثق من أنه في هذا الفندق، وأنه ليس من المرجح أن يهرب أو ينصرف.»
وقال سام: «اترك هذه المسألة لي يا سيدي، ودعني آمر لك بغذاء طيب خفيف، واسأل في الطابق الأسفل ريثما يعدون لك الطعام، وأنا كفيل بأن أنتزع أي سر من قلب مساح الأحذية في خمس دقائق يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «افعل!»
وفي الحال انصرف المستر ولر، ولم ينقض نصف ساعة حتى كان المستر بكوك جالسا إلى طعام شهي، وبعد ثلاثة أرباع الساعة عاد المستر ولر يقول: «إن المستر شارلز فتز-مارشال أمر بحجز غرفة خاصة له إلى حين صدور أوامر أخرى؛ لأنه سوف يقضي المساء في بعض الدور الخاصة في جوارنا، وأمر بأن ينظف حذاؤه قبل عودته، وأخذ خادمه معه.»
ولما انتهى المستر ولر من إبلاغ سيده هذا النبأ استرسل يقول: «والآن يا سيدي إذا استطعت أن أتحدث مع هذا الخادم هنا في الصباح، فسوف يقول لي كل شيء عن سيده.»
وقاطعه المستر بكوك قائلا: «وكيف تعرف هذا؟»
وأجاب المستر ولر: «سبحان الله يا سيدي، كل الخدم يفعلون ذلك دائما.»
وقال المستر بكوك: «آه، لقد نسيت ذلك، وما ... ذا بعد ...؟»
قال: «وعندها تفكر يا سيدي في خير ما ينبغي عمله، ونحن نقوم بالتنفيذ.»
وتبين أن هذا هو أحسن تدبير يصح اتخاذه، فتم أخيرا الاتفاق عليه، وانصرف المستر ولر بعد إذن سيده ليقضي المساء كما يهوى، ولم تمض لحظات حتى انتخب بإجماع آراء الخدم المجتمعين في الطبقة الأولى من الفندق لتولي كرسي الرياسة، وهو مكان مشرف عرف كيف يدير الجلسة منه، ويشغله بجدارة فائقة، ويكتسب أتم الرضى والارتياح من السادة الأعضاء، حتى لقد ذهبت ضحكاتهم المدوية تخترق مخدع المستر بكوك، وتقتطع ثلاث ساعات على الأقل من وقت راحته الطبيعية.
وفي بكرة الصباح أخذ المستر ولر يعالج الآثار الباقية من سهرة الليلة الماضية والإفراط في الشراب، بدفع نصف بنس لقاء أخذ حمام رشاش، بعد أن تيسر له إقناع غلام ملحق بالإسطبل بقبول هذا القدر نظير تشغيل المضخة لترش الماء على رأسه ووجهه، حتى أفاق تماما، وإذا هو يلمح فتى في ثوب أحمر من ثياب الخدم جالسا فوق أريكة في فناء الفندق، يقرأ في كتاب يبدو عليه أنه كتاب «مزامير»، وهو مستغرق في القراءة، وإن جعل بين لحظة وأخرى يسترق نظرات إلى الشخص القائم تحت «المضخة»، كأن هذا المنظر قد أثار اهتمامه، رغم انشغاله بقراءة ذلك الكتاب.
وقال المستر ولر لنفسه: «إنك لمخلوق بديع، يطيب للعين أن تنظر إليه!» وكانت هذه الخواطر أول ما خطر له حين ألمت عيناه بنظرة ذلك الخادم الغريب في هذا الثوب التوتي اللون، فقد كان وجهه كبيرا أصفر اللون دميما، وعيناه غائرتين، ورأسه ضخما تدلى منه قدر من شعر فاحم.
وعاد المستر ولر إلى نجواه فقال: «إنك لمخلوق بديع!» ومضى في استحمامه، غير مفكر بعد ذلك فيه.
ومع ذلك فقد ظل الفتى ينظر إلى سام فيرفع عينيه عن الكتاب، ثم يعود بعدئذ إليه، كأنما يريد أن يجاذبه الحديث.
وأخيرا أنشأ سام يقول بإيماءة مالوفة يقصد بها إعطاءه الفرصة للكلام: «كيف الحال أيها الحاكم؟»
وأجاب هذا قائلا بتحفظ بالغ، وهو يطوي الكتاب: «يسعدني أن أقول إنني بخير تام يا سيدي، وأرجو أن تكون كذلك أيضا.»
فقال سام: «لو أني أشعر بأني لا أشبه زجاجة خمر متحركة، لما بدوت مترنحا كل هذا الترنح في هذا الصباح. هل أنت نازل في هذا الفندق أيها الشيخ الكبير؟»
فأجاب الرجل التوتي الثياب بالإيجاب.
وقال سام وهو يجفف وجهه بالمنشفة: «وإذا كان ذلك، فلماذا لم تكن معنا في الليلة الماضية؟ ... وأنت ظاهر يبدو أنك إنسان تحب المتعة، وتبدو أنيسا صاحب مزاج ...» وهنا خفض من صوته، وانثنى يقول: «كأنك سمكة لوت حية في سلة جير.»
وأجاب الغريب: «لقد كنت في الخارج ليلة أمس مع سيدي.»
وسأل المستر ولر، وقد احمر وجهه من الحماسة الفجائية واحتكاك المنشفة معا: «وماذا يدعى؟»
وأجاب الرجل التوتي اللون: «فتز-مارشال.»
فتقدم المستر ولر نحوه وهو يقول: «هات يدك، إني أود معرفتك، ويروقني شكلك أيها الزميل القديم.»
وقال الرجل التوتي اللون بكل بساطة: «هذا شيء غريب جدا! وأنا أيضا شعرت بميل شديد إليك، حتى لقد أردت أن أكلمك من أول لحظة رأيتك فيها تحت المضخة!»
وقال المستر ولر: «أحقا؟»
وأجاب الرجل: «نعم، بشرفي، أليس هذا غريبا؟»
وقال سام وهو يهنئ نفسه بسذاجة هذا الغريب: «شيء مدهش! وما اسمك أيها السيد؟»
قال: «جوب.»
ومضى المستر ولر يقول: «وإنه لاسم حسن جدا، إلا أنه اسم لا يشتق منه اسم يتهكم به، فما هو الاسم الآخر؟»
وأجاب الغريب: «تروتر، وما اسمك أنت؟»
وتذكر سام تحذير سيده، فأجاب قائلا: «اسمي ووكر، واسم سيدي ويلكنز، ألا تتناول قليلا من شيء في هذا الصباح يا مستر تروتر؟»
وافق المستر تروتر على هذا الاقتراح اللطيف، فدس كتابه في جيب ردائه، وانطلق مع المستر ولر إلى غرفة الشراب، ولم يلبثا أن انشغلا بالبحث في اختيار خليط منعش منه، يتألف من مزج مقادير معينة من خمرة الهولاندز البريطانية وروح القرنفل، في إناء من الزنك.
وأنشأ سام يسأل جليسه، وقد ملأ له كأسا للمرة الثانية: «وأي مكان تشغل عند سيدك؟»
وأجاب جوب وهو يمسح شفتيه بلسانه: «سيئ، مكان سيئ جدا.»
وقال سام: «أتقول جدا؟»
قال: «هذا صحيح، بل أسوأ من هذا؛ إن سيدي مقدم على الزواج.» - «لا تقل هذا!» - «بل هو الواقع، وأسوأ منه أيضا أنه ينوي الفرار بوريثة ثراء ضخم في مدرسة داخلية.»
وقال سام وهو يعيد ملء كأس محدثه: «يا له من ثعبان! وأظن أن المدرسة الداخلية هنا في هذه البلدة، أليس كذلك؟»
وكان هذا السؤال قد ألقي بلهجة متناهية في الاستخفاف، وقلة المبالاة، ولكن المستر جوب تروتر أبدى من الحركات والإشارات ما ينبئ صراحة بأنه قد فطن إلى فضول صاحبه الجديد، ومحاولته انتزاع رد منه على سؤاله، فأفرغ ما في كأسه، ونظر نظرات غريبة إلى محدثه، وغمز بكلتا عينيه، واحدة بعد الأخرى، وأخيرا أدى حركة بذراعه، كأنما يدير يد «مضخة» وهمية، موحيا بتلك الحركة أنه يعد نفسه تحت عملية «امتصاص»، يقوم المستر ولر بها «لفتح» ما في صدره من الأسرار.
وقال المستر تروتر في النهاية: «كلا! كلا! هذا أمر لا يصح أن يقال لكل إنسان، هذا سر، سر عظيم يا مستر ولر.»
وما كاد الرجل «التوتي» اللون ينتهي من هذه العبارة، حتى انثنى يقلب القدح رأسا على عقب، كأنما يريد تذكير صاحبه أنه لم يعد لديه شيء من شراب يطفئ به ظمأه، ولمح سام تلك الإشارة، وشعر بالحركة الدقيقة التي أديت بها، فأمر أن يملأ الإناء شرابا، وعندئذ برقت عينا الرجل «التوتي» الصغيرتان.
وقال سام: «إذن هو سر؟»
وأجاب «التوتي» اللون وهو يتناول رشفة من الشراب، وقد بدا البشر في وجهه: «أظنه كذلك.»
وسأل سام صاحبه: «أحسب سيدك عريض الثراء.»
وهنا ابتسم المستر تروتر، وأمسك الكأس بيسراه، وضرب جيب ردائه أربع ضربات واضحة بيمناه، كأنما يشير بها إلى أن سيده كان من الجائز أن يفعل ذلك دون إحداث إزعاج شديد لأحد بوسوسة أي نقود في جيبه.
1
وقال سام: «آه، أهذه هي اللعبة إذن؟»
فأومأ الرجل التوتي اللون إيماءة ذات مغزى.
واحتج المستر ولر قائلا: «حسن، ألا تظن أنك إذا تركت سيدك يختطف هذه الفتاة كنت مجرما شقيا؟»
وأجاب المستر تروتر ، وهو ينظر إلى رفيقه نظرة ندامة بالغة، ويرسل أنة خافتة: «أعرف ذلك، وهو ما يشغل ذهني، ويحرق فكري، ولكن ماذا أفعل؟»
وقال سام: «ماذا تفعل! تكشف السر للسيدة، وتفضح سيدك.»
وأجاب جوب تروتر: «ولكن من الذي سيصدقني؟ إن الفتاة تعد مثالا مجسما للبراءة والفطنة، وسوف تكذبني، وكذلك سوف يفعل سيدي، منذا الذي يصدقني؟ وسأفقد مركزي، وسأتهم بمؤامرة أو شيء من هذا القبيل، هذا هو كل ما سيصيبني من حركة كهذه.»
وفكر سام قليلا ثم مضى يقول: «في هذا القول شيء معقول، فيه شيء معقول.»
ومضى المستر تروتر يقول: «ولو أني وجدت سيدا محترما يتولى هذه المسألة بنفسه، لكان لدي شيء من الأمل في منع هذا الاختطاف، ولكن هنا أيضا الصعوبة ذاتها يا مستر ووكر؛ فإني لا أعرف سيدا في هذا المكان الغريب، ولو وجدت لما صدق قصتي في الغالب، ولأنكرها إنكارا.»
ووثب سام فجأة من مجلسه، وأمسك بالرجل «التوتي» من ذراعه وهو يقول: «تعال معي، إنني أعتقد أن سيدي هو الرجل الذي تريده.» وحاول جوب تروتر الامتناع قليلا، ولكن سام سار بهذا الصديق الذي اكتشفه حديثا إلى غرفة المستر بكوك، فقدمه إليه بعد خلاصة موجزة للحديث الذي دار منذ لحظة بينهما.
وقال جوب تروتر وهو يقرب من عينيه منديلا قرنفلي اللون، يكاد يبلغ ست بوصات مربعة، قائلا: «إنني ليحزنني كثيرا يا سيدي أن أخون مخدومي.»
وأجاب المستر بكوك: «إن هذا الشعور يشرفك كثيرا، ولكن هذا هو واجبك على أية حال.»
وقال جوب بانفعال شديد: «أعرف يا سيدي أن هذا هو واجبي، وأننا جميعا نحاول أن نؤدي واجبنا يا سيدي، وأنا بكل خشوع أحاول تأديته، ولكن من التجربة القاسية خيانة عهد سيد ترتدي ثيابه، وتأكل خبزه، ولو كان في ذاته مجرما يا سيدي.»
وتأثر المستر بكوك كثيرا من قول الرجل فقال: «إنك امرؤ خير، وإنسان أمين.»
وهنا تدخل سام، وقد رأى الدمع يجول في عيني تروتر، ولكنه لم يطق صبرا على هذا الموقف، فقال: «كفى، كفى، دع هذا البكاء جانبا؛ إنه لا فائدة منه مطلقا، لا فائدة.»
وقال المستر بكوك لخادمه معاتبا: «يؤسفني يا سام أن أراك قليل المبالاة بشعور هذا الشاب.»
وأجاب المستر ولر قائلا: «إن شعوره يا سيدي جميل، وما دام الأمر كذلك، ومن الأسف أن يفقده، فمن الخير أن يبقيه في جوانحه، بدلا من أن يتركه هكذا يتبخر ماء ساخنا، وخاصة أنه لا فائدة منه ولا نفع، إن الدموع لم تملأ في يوم من الأيام ساعة فارغة، ولا حركت آلة بخارية، وإني لأنصح لك أيها الشاب إذا ذهبت بعد اليوم إلى الجلوس مع جماعة من المدخنين، أن تملأ قصبتك بهذه الفكرة التي شرحتها لك، وأما في اللحظة الراهنة، فأرجوك أن تضع هذا المنديل القرنفلي في جيبك، إنه ليس جميلا حتى تحتاج إلى تركه هكذا مرفرفا خفاقا في الهواء، كأنك أحد الراقصين على الحبال.»
وقال المستر بكوك مخاطبا جوب: «إن خادمي على حق، وإن كانت طريقته في التعبير عن رأيه طريقة غير مهذبة، ولهذا تبدو أحيانا غير مفهومة.»
وأجاب المستر تروتر قائلا: «إنه على حق تماما يا سيدي، ولن أستسلم للبكاء بعد الآن.»
وقال المستر بكوك: «حسن جدا، والآن قل لي: أين هذه المدرسة؟»
وأجاب جوب تروتر: «إنها تقع في بيت كبير قديم العهد خارج المدينة يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك يسأل: «ومتى ستنفذ هذه الخطة المنكرة، ومتى سيتم هذا الاختطاف؟»
وأجاب جوب: «الليلة يا سيدي.»
فصاح المستر بكوك قائلا: «الليلة!»
وعاد تروتر يقول: «نعم، الليلة بالذات يا سيدي، وهذا هو ما يزعجني كثيرا.»
وقال المستر بكوك: «لا بد من اتخاذ تدابير في الحال، وسأذهب على الفور لمقابلة السيدة التي تشرف على تلك المدرسة.»
وقال جوب: «معذرة يا سيدي إذا قلت إن هذا التصرف لن يجدي.»
قال: «ولماذا؟»
وأجاب تروتر: «لأن سيدي رجل واسع الحيلة داهية.»
وقال المستر بكوك: «أعرف ذلك عنه.»
ومضى جوب يقول: «وقد استولى على قلب تلك السيدة إلى حد يجعلها لا تصدق شيئا سيئا عنه، حتى وإن جثوت عند قدميها، وأقسمت جاهدا أنه لحق، ولا سيما أنك لا تملك دليلا على صدق ما تقول غير كلام خادم، ستزعم (وسيزعم معها سيدي بالطبع) أنه فصل لبعض خطأ ارتكبه، وأنه إنما قال ذلك انتقاما وأخذا بالثأر.»
وهنا قال المستر بكوك: «وماذا يحسن أن تفعل إذن؟»
وأجاب جوب قائلا: «لا شيء يقنع تلك السيدة العجوز غير ضبطه متلبسا بجريمة الاختطاف يا سيدي.»
وعندئذ انبرى المستر ولر يقول استطرادا: «آه، ستعود تلك القطط العجائز فتصدم رءوسها بالأحجار.»
وقال المستر بكوك: «أخشى أن يكون ضبطه متلبسا أمرا من الصعب جدا تنفيذه.»
وأجاب المستر تروتر بعد تفكير قائلا: «لا أعرف يا سيدي، ولكني أعتقد أنه سهل غاية في السهولة.»
قال: «وكيف؟»
وأجاب الخادم: «سنختبئ أنا وسيدي في المطبخ في العاشرة ليلا، بعد أن تم لنا الاتفاق مع الخادمين في المدرسة، فإذا أوى القوم إلى مضاجعهم، خرجنا من المطبخ، وجاءت الفتاة من غرفة النوم، وستكون مركبة في انتظارنا بالباب، فنمضي بها مسرعين.»
وقال المستر بكوك: «ثم ماذا؟»
وأجاب تروتر: «لقد فكرت في طريقة، وهي أن تكون أنت يا سيدي في انتظار خروجنا مختبئا في الحديقة وحدك.»
وقال المستر بكوك: «ولماذا أكون وحدي؟»
وأجاب تروتر قائلا: «أعتقد أنه من الطبيعي جدا أن السيدة العجوز لا ترضى أن تحدث فضيحة أليمة كهذه أمام أشخاص أكثر مما ينبغي، ولا بد أيضا من مراعاة شعور الفتاة.»
وقال المستر بكوك: «أصبت، إن هذا التفكير يدل على رقة شعورك، امض في حديثك؛ فأنت مصيب كل الصواب.»
ومضى تروتر يقول: «لقد بدا لي كذلك يا سيدي أنك إذا انتظرت في الحديقة الخلفية وحدك، وجئت أنا فأدخلتك من الباب المفضي إليها من طرف الدهليز في تمام التاسعة والنصف، فسوف يكون دخولك على هذا النحو في الوقت المناسب لمعاونتي على إفساد خطة هذا الرجل الشرير الذي وقعت لسوء حظي في شركه.»
وهنا زفر المستر تروتر زفرة من الأعماق.
وقال المستر بكوك مواسيا: «لا تزعج خاطرك من هذه الناحية، فلو أنه أوتي ذرة واحدة من رقة الشعور التي امتزت بها، على ضعة شأنك، لكان في نفسي بعض الأمل في صلاح أمره.»
وهنا انحنى جوب تروتر انحناءة بالغة، ووثبت الدموع مرة أخرى إلى عينيه رغم احتجاج المستر ولر كما أسلفنا عليك.
وقال سام مرة أخرى: «لم أشهد في حياتي إنسانا كهذا، يلعنني الله في كل كتاب إذا لم يكن في راسه صنبور دموع لا ينقطع عن السيل.»
فانتهره المستر بكوك قائلا: «أمسك يا سام عليك لسانك.»
وأجاب المستر ولر: «سأفعل يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك يقول بعد تفكير طويل: «لست راضيا عن هذه الخطة، لماذا لا أتصل بأهل هذه الفتاة؟»
وأجاب تروتر قائلا: «لأن أهلها يقيمون على بعد مائة ميل من هذا الموضع يا سيدي.»
وقال المستر ولر في نفسه في ناحية: «جواب مسكت!»
وعاد المستر بكوك يقول: «وكيف يتواتى لي دخول تلك الحديقة؟»
وأجاب تروتر: «إن الجدار خفيض يا سيدي، وفي إمكان خادمك أن يعاونك على الصعود.»
وقال المستر بكوك يردد هذه العبارة بغير تفكير: «سيتمكن خادمي من معاونتي على الصعود، وهل أنت واثق أنك ستكون بقرب الباب الذي تحدثت عنه؟»
وأجاب تروتر: «لن تخطئ في الاهتداء إليه يا سيدي، فهو الباب الوحيد الذي يفتح على الحديقة، وما عليك إلا أن تطرقه طرقة خفيفة حين تسمع الساعة تدق، فأفتحه لك في الحال.»
وقال المستر بكوك: «لست عن هذه الخطة راضيا، ولكن ما دمنا لا نجد غيرها، وما دامت سعادة هذه الفتاة ومصير حياتها كله في خطر على هذا النحو، فلأتخذها، وسأكون حتما في ذلك المكان.»
وهكذا للمرة الثانية نرى طيبة المستر بكوك تورطه في مشروع، كان أحب إلى نفسه أن يكون بمنأى عنه.
قال: «وما اسم البيت؟»
وأجاب تروتر قائلا: «وستجيت هاوس يا سيدي، وما عليك إلا أن تنعطف يمنة عند خروجك من حدود البلدة، فتراه قائما بمعزل على قيد خطوات من الطريق العام، وتجد اسمه مكتوبا على لوح نحاسي فوق الباب.»
وقال المستر بكوك: «أعرفه، لقد رأيته مرة من قبل عندما كنت في هذه البلدة، لتثق إذن بي.»
وهنا انحنى المستر تروتر مرة أخرى، وتولى لينصرف، وإذا بالمستر بكوك يلقي جنيها من كفه قائلا: «إنك لإنسان بديع، وإني لمعجب بطيبة قلبك، لا شكر، تذكر الحادية عشرة.» وانصرف من الحجرة يتبعه سام.
وأجاب المستر تروتر: «لا خوف من أن أنساه يا سيدي.»
وقال هذا لصاحبه حين خرجا: «لم يكن بكاؤك فكرة سيئة، إني لمستعد أن أبكي سيلا كالمطر إذا كان هذا هو الشرط، كيف تيسر ذلك لك؟ قل لي بالله عليك.»
وأجاب جوب بلهجة الجد: «إنه ينبعث من القلب يا مستر ووكر، طاب صباحك يا سيدي.»
وقال سام في نفسه، عقب انصراف صاحبه: «أنت عميل لطيف، ولقد أخرجنا كل ما في صدرك على كل حال.»
وليس في إمكاننا أن نبين طبيعة الأفكار التي خطرت ببال المستر تروتر تماما؛ لأننا نعرف ما هي.
وانقضى النهار، وآذن المساء، وجاء سام ولر قبيل العاشرة ينبئ سيده أن المستر جنجل وجوب خرجا معا، وأنهما قد حزما أمتعتهما، وطلبا إعداد مركبة، وبدا أن الخطة أخذت تسير في دور التنفيذ كما قال المستر تروتر.
وبلغت الساعة العاشرة والنصف، وهو الموعد الذي اتفق على خروج المستر بكوك فيه لتنفيذ مهمته الدقيقة، وعرض عليه سام أن يرتدي معطفه الكبير، ولكنه لم يستجب لإلحاحه؛ حتى لا يعوقه عائق عن تسلق الجدار، وخرج يتبعه خادمه.
وكانت الليلة قمراء، ولكن ضياء القمر كان محتجبا خلف السحب، والليل صاف بديع، ولكن الظلام كان شديدا على غير المألوف، وقد غمرت الحلكة الدروب والسياج والحقول والدور، ولفتها جميعا في ظلل من فوقها ظلل، وكان الجو حارا يرهق الأنفاس، وبرق الصيف يرعش خافتا على حافة الأفق، وكان هو المشهد الوحيد الذي يتباين والوجوم البليد الذي يغمر كل شيء فيه، ولم يكن ثمة صوت ولا جرس، إلا صدى عواء كلب مستيقظ مسهد في حراسة بيت بعيد.
واهتديا إلى المبنى المنشود، وقرأ اللوح النحاسي، وسارا حول الجدار، ووقفا عند ذلك الجزء منه الذي يفصل بينهما وبين الحديقة من الخلف.
وقال المستر بكوك: «أما أنت، فتعود يا سام إلى الفندق بعد أن تعاونني على التسلق.» - «أمرك يا سيدي.» - «وتظل ساهرا حتى أعود.» - «بكل تأكيد يا سيدي.» - «خذ برجلي، وحين تسمعني أقول «فوق» فارفعني برفق.» - «سأفعل يا سيدي.»
ولما انتهى المستر بكوك من هذه المقدمات أمسك بقمة الجدار، وأعطى الأمر «فوق»، فنفذه سام بالحرف، وسواء كان جسم المستر بكوك قد شارك إلى حد ما عقله في مرونته، أو كانت فكرة المستر ولر عن «الدفع برفق» لم تخل نوعا ما من الخشونة، وتختلف قليلا مع الوصف الذي وصفه به المستر بكوك، فإن التأثير المباشر للمساعدة التي قدمها هو «تطويح» ذلك الرجل الخالد من فوق الجدار بجملته إلى الأرض المنبسطة وراءه، حيث حطم في نزلته السريعة ثلاث شجيرات من التوت، وشجرة ورد، وهو يسقط بطوله كله فوق الثرى آخر الأمر.
وقال سام في همس ظاهر، بعد أن أفاق من الدهشة التي تولته على أثر اختفاء سيده عن ناظره: «أرجو يا سيدي ألا تكون قد أصبت نفسك بأذى.»
وأجاب المستر بكوك من الجانب الآخر للجدار: «لم أصب نفسي بأذى يا سام طبعا، ولكني أعتقد أنك أنت الذي فعلتها.»
وقال سام: «أملي أن لا أكون يا سيدي.»
ونهض المستر بكوك من «الوقعة» وقال: «لا عليك لم يحدث غير بضعة خدوش، هيا انصرف وإلا سمعوا أصواتنا.» - «إلى اللقاء يا سيدي.» - «إلى اللقاء.»
وانصرف سام ولر مسترق الخطى تاركا المستر بكوك وحده في الحديقة.
وكانت الأنوار تبدو بين لحظة وأخرى من نوافذ البيت وشرفاته، إذ تنبعث من مدارج السلم، كأنما أوى القوم إلى المضاجع، ولم يشأ المستر بكوك أن يقترب كثيرا من الباب قبل أن يحين الموعد المضروب، فانزوى متسللا في ركن من الجدار، وانتظر اللحظة المعينة.
وكان من المحتمل أن يحدث موقف كهذا انقباضا في نفوس كثير من الناس، ولكن المستر بكوك لم يكن مع ذلك يشعر بأي انقباض أو «تطير»؛ فقد كان يعلم أن غرضه في الجملة طيب، وقد وضع كل ثقته في جوب الطيب الشعور، وليس من شك في أن الموقف كان ثقيلا، إن لم نقل «رهيبا»، ولكن في إمكان الرجل المفكر أن يتدبر الأمور في كل حين، فلا عجب إذا أسلمه التفكير إلى سرحة عابرة، لم يلبث نواقيس الكنيسة وهي تدق الحادية عشرة والنصف أن أيقظته منها، فاستوى على قدميه بحذر وهو يقول في نفسه: «هذا هو الموعد»، ورفع عينيه يتطلع إلى البيت، فإذا الأنوار قد انطفأت، وخشب النوافذ قد أغلق، فأدرك أن القوم بلا شك قد أووا إلى مراقدهم، فمشى على أطراف قدميه إلى الباب، فدقه دقة خفيفة، ومرت دقيقتان أو ثلاث دقائق ولم يتلق جوابا، فعاد يطرقه طرقة أوضح من تلك قليلا، ثم دقة ثالثة أكثر منها وضوحا.
وأخيرا سمع مواقع أقدام على السلم، وإذا ضياء شمعة ينبعث من ثقب مفتاح الباب، وطرق أذنه صوت سلاسل تفك، ومزلاج يرفع، وإذا الباب يفتح ببطء.
وكان فتح الباب إلى الخارج، وكلما اتسعت فتحته ازداد المستر بكوك تراجعا خلفه وانزواء، ولشد ما كانت دهشته حين أطل بعينه على سبيل الحذر والاحتياط؛ فتبين أن الشخص الذي فتحه لم يكن جوب تروتر، بل خادمة تحمل في يدها شمعة، فأرجع المستر بكوك رأسه إلى الوراء، بتلك السرعة البالغة التي عرفت عن ذلك الممثل البارع البديع «بنتش»، حين يقف مترصدا لذلك الممثل الهزلي المفرطح الرأس، الذي يحمل صندوقا من القصدير يحوي آلة موسيقية.
وقالت الفتاة تخاطب أخرى من داخل البيت: «لا بد من أن تكون القطة يا سارة.»
ولما لم تجد حيوانا مثلها يعبث بالباب، عادت في رفق تغلقه، وتعيد مزلاجه إلى موضعه، تاركة المستر بكوك لاصقا بالجدار.
وراح المستر بكوك يقول في نفسه: «هذا شيء غريب جدا، أحسبهن ساهرات إلى ما بعد الوقت المألوف، يا للخيبة المتناهية أن يخترن هذه الليلة دون سواها، وهي التي جئت فيها لتحقيق ذلك الهدف، حظ سيئ كل السوء!»
وعاد بكل حذر إلى الركن الذي كان من قبل مختبئا فيه، منتظرا ريثما يتبين أن لا خوف من تكرار الإشارة.
ولم تنقض خمس دقائق عليه في ذلك الموضع، حتى رأى برقا خاطفا يلتمع فجأة في الفضاء، ثم يعقبه قصف رعد شديد تتردد أصديته بعيدا، ويحدث تردادها صوتا مروعا، وإذا برق آخر ينبعث أبهر ضياء من الأول، ثم يتلوه رعد أشد قصفا من سابقه، وإذا المطر ينهمر بقوة مكتسحة كل شيء أمامها.
وكان المستر بكوك يعلم حق العلم أن من الخطر الاحتماء من الصواعق بجوار شجرة، وكانت عن يمينه واحدة، وعن شماله أخرى، وثالثة قائمة قبالته، ورابعة من خلفه، فإذا هو لبث في مكانه، فقد يقع ضحية حادث، ولو بدا في بهرة الحديقة، فقد يسلمونه إلى الشرطي، فراح يحاول مرة أو مرتين تسلق الجدار، ولكنه لم يجد في هذه المرة من سيقان ترفعه إلى أعلى غير الساقين اللتين أنعمت الطبيعة بهما عليه، ولا نتيجة لهذه المحاولة غير إصابته بسحجات أليمة في ركبتيه، وخدوش منوعة في قصبتيهما، وإجهاد قواه إلى حد جعل العرق يتصبب غزيرا من جميع أطراف بدنه.
وقال المستر بكوك لنفسه، وقد وقف ليمسح عرقه بعد ذلك المجهود: «يا له من موقف مروع!» وتطلع ببصره إلى البيت؛ فوجد الظلام يغمره من جميع أرجائه، فاعتقد أن القوم لا بد أن يكونوا قد عادوا إلى مضاجعهم، فليجرب الإشارة مرة أخرى.
ومضى على أطراف أصابع قدميه فوق الحصباء الندية وطرق الباب، وأمسك بأنفاسه، وأنصت إلى ثقب المفتاح، ولكنه لم يسمع جوابا، هذا أمر غريب كل الغرابة، ودق أخرى، ومضت ثانية، فبلغ سمعه همس خافت من الداخل، ثم صوت يصيح: «من هذا؟»
وقال المستر بكوك في نفسه: «ليس هذا صوت جوب.» وتراجع في الحال إلى الجدار، «هذا صوت امرأة!»
ولم يكد يصل بتفكيره إلى هذه النتيجة حتى انفتحت نافذة فوق السلم، ورددت ثلاث أو أربع نسوة السؤال عينه: «من هذا؟»
ولم يجرؤ المستر بكوك على تحريك يد أو قدم، فقد تبين له أن القوم جميعا قد هبوا من نومهم، فاعتزم البقاء في موضعه حتى يهدأ ذلك الفزع، ثم يحاول بجهد يفوق الطبيعة تسلق الجدار، أو يهلك دونه.
وكانت هذه العزيمة ككل عزمات المستر بكوك خير وسيلة تتخذ في هذا الموطن، ولكنها كانت لسوء الحظ مبنية على افتراض أن القوم لن يجرءوا على فتح الباب مرة أخرى، ولشد ما كانت حيرته حين سمع أصوات السلاسل والمزالج وهي ترفع، وشهد الباب ينفتح شيئا فشيئا، فتراجع إلى الركن خطوة فخطوة، ولكن جسمه - على كل حال - حال بين فتح الباب على سعته.
وتعالت أصوات عدة من السلم تقول: «من هناك؟»
وكانت هذه الصوات تتألف من أصوات السيدة العانس ربة البيت، وثلاث معلمات، وخمس خادمات، وثلاثين طالبة، وكلهن أنصاف عاريات، وفي غابة من الجدائل الملففة المعقوصة في قلانس من الورق.
وبالطبع لم يقل المستر بكوك من هو الذي كان هناك، وإذا نغمة الصيحات تتحول إلى نغمة جديدة، وهي: «رباه ... إنني خائفة!»
وصاحت الراهبة المديرة، وقد توخت الوقوف في أعلى السلم أو في المؤخرة: «أيها الطاهية! لماذا لا تدخلين الحديقة قليلا لكي تبحثي؟»
وأجابت الطاهية: «من فضلك يا سيدتي، لا أحب ذلك!»
وصاحت الطالبات الثلاثون قائلات: «يا إلهي، ما أغبى هذه الطاهية!»
وعادت الراهبة تقول بجد وجلال: «يا طاهية، لا تردي علي من فضلك، إني أصر على دخولك الحديقة في الحال لتبحثي عمن فيها.»
وهنا بدأت الطاهية تبكي، وقالت خادم البيت: «إن هذا لعار شديد تستحق عليه إنذار شهر في الحال.»
وقالت السيدة الراهبة وهي تضرب الأرض بقدميها نافدة الصبر: «هل سمعت يا طاهية؟»
وقالت المعلمات الثلاث: «ألا تسمعين كلام سيدتك أيتها الطاهية؟»
وصاحت الطالبات: «ما أوقح هذه الطاهية!»
وعندئذ لم يسع الطاهية المسكينة بعد كل هذا الإلحاح الشديد عليها إلا أن تتقدم خطوة أو خطوتين، وترفع شمعتها إلى وضع يحول بينها وبين رؤية شيء مطلقا، وقالت إنها لم تجد أحدا هناك، وإنه لا بد أن يكون ذلك الصوت الذي سمعته هبة الريح، وكاد الباب يغلق مرة أخرى، لولا أن طالبة فضولية كانت واقفة تنظر من خلال «مفصلات» الباب، أطلقت عندئذ صرخة مخيفة، عادت على أثرها الطاهية، والخادمة والطالبات الجريئات أكثر من أترابهن مبادرات إلى الموضع.
وصاحت السيدة الراهبة في اللحظة التي بدأت فيها الطالبة الصارخة تنطلق في نوبة تشنجية قوة أربع بنات: «ما الذي جرى لمسز سميذرز؟»
وصاحت الطالبات التسع والعشرون في نفس واحد: «رباه مسز سميذرز! يا ويلتاه!»
وصرخت مس سميذرز قائلة: «الرجل، الرجل الواقف خلف الباب!»
ولم تكد السيدة الراهبة تسمع هذه الصرخة المروعة حتى ارتدت عائدة إلى مخدعها، وأحكمت إغلاق الباب، وأغمي في هدوء عليها، كما تراجعت الطالبات والمعلمات والخادمات متدافعات إلى السلم متساقطات، وأخذن في صياح وإغماء، وتدافع لا مثيل له، وفي وسط هذه الضجة خرج المستر بكوك من مخبئه، ووقف بينهن، وهو يقول: «أيتها السيدات ... أيتها السيدات العزيزات!»
وقالت إحدى المعلمات، وهي أكبرهن سنا، وأكثرهن دمامة وقبحا: «إنه يدعوننا بالعزيزات، آه من الشقي!»
وصاح المستر بكوك مستيئسا من حرج موقفه: «أيتها السيدات، أصغين لقولي، أنا لست لصا، ولكني أريد أن أتحدث إلى ربة البيت.»
وصرخت معلمة أخرى قائلة: «أواه، يا له من وحش مفترس! يقول إنه يريد الكلام مع مس تومكنز!»
وهنا ارتفع صياح عام.
وصاحت عدة أصوات: «ليدق أحد جرس الخطر!»
وصرخ المستر بكوك قائلا: «لا تفعلن! لا تفعلن! انظرن إلي، هل أبدو كما يبدو اللص؟ يا سيداتي العزيزات، لكن في وسعكن أن تشددن وثاقي، أو تحبسنني في مكان ضيق، وإنما اسمعن لما أريد أن أقوله، اصغين لي.»
وقالت الخادمة متلعثمة: «كيف جئت إلى حديقتنا؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يجهد رئتيه إلى نهاية قواهما: «ادعين لي ربة البيت، وأنا سأحدثها عن كل شيء، كل شيء، نادينها، ولكن لا تصرخن، وستسمعن الحكاية كلها.»
وعندئذ بدأ فريق من العاقلات فيهن لا يتجاوز عددهن أربعا يثبن نوعا ما إلى الهدوء، وقد يكون مرد ذلك إلى مظهر المستر بكوك نفسه، أو إلى سلوكه الذي وصفناه، أو إلى اللهفة التي لا يستطيع عقل المرأة مغالبتها، ونعني بها الرغبة الشديدة في سماع شيء يبدو في تلك اللحظة سرا مرهوبا، ومضين يقترحن عليه، للتدليل على صدقه وإخلاصه، أن يذعن لما يطلبن إليه، ورضي ذلك السيد أن يعقد مؤتمرا مع مس تومكنز في داخل غرفة صغيرة اعتادت طالبات القسم النهاري أن يعلقن فيها قبعاتهن، وحقائب غذائهن، فتقدم في الحال إلى تلك الغرفة طائعا مختارا، وأغلق الباب عليه لتطمئن قلوبهن، وما لبث هذا التصرف أن أنزل السكينة على أفئدة الأخريات، وجيء بالسيدة الراهبة من مخدعها، وابتدأ المؤتمر.
وقالت مسز تومكنز بصوت خافت: «ماذا كنت تفعل في الحديقة أيها الرجل؟»
وأجاب المستر بكوك من جوف محبسه: «جئت لأنبهك يا سيدتي بأن إحدى البنات هنا ستختطف الليلة.»
وصرخت مس تومكنز، والمعلمات الثلاثون، والخادمات الخمس معا: «ستختطف! ومن الذي سيختطفها؟»
قال: «صديقك المستر شارلز فتز-مارشال.»
قالت: «صديقي! لا أعرف شخصا بهذا الاسم.»
قال: «إذن فلأدعه باسمه الآخر، المستر جنجل.»
قالت: «لم أسمع بهذا الاسم في حياتي.»
قال: «إذن لقد غرر بي، وخدعت وكنت ضحية مؤامرة دنيئة حقيرة، أرسلي أحدا إلى فندق «أنجل» يا سيدتي إذا لم تكوني مصدقتي، أرسلي إلى ذلك الفندق من يدعو خادم المستر بكوك، أتوسل إليك أن تفعلي يا سيدتي.»
وقالت مس تومكنز للمربية الكاتبة الحاسبة: «لا بد أن يكون رجلا محترما ما دام له خادم خاص.»
وأجابت المربية قائلة: «إن رأيي يا مس تومكنز هو أن خادمه هو الذي يحرسه، وأظن أنه مجنون يا مس تومكنز، والآخر حارسه!»
وأجابت مس تومكنز: «أحسبك على حق يا جوين، فلتذهب خادمتان إلى فندق «أنجل»، ولتبق الأخريات هنا لحمايتنا.»
وأوفدت خادمتان على عجل إلى الفندق للبحث عن صمويل ولر، وتخلفت الخادمات الثلاث لحماية تومكنز، والمعلمات الثلاث، والطالبات الثلاثين، بينما جلس المستر بكوك في الغرفة تحت حقائب الشطائر، ينتظر عودة الرسولين بكل ما استطاع أن يستجمع من الفلسفة والصبر والجلد لنجدته.
وعادتا بعد ساعة ونصف ساعة، وتبين بكوك عندئذ أن هناك إلى جانب صوت صمويل ولر صوتين آخرين، أحدهما مألوف لسمعه، ولكنه لا يدري لمن هو، ولا يذكر مطلقا صاحبه.
وجرى حديث موجز، وفتح الباب، وخرج بكوك من المحبس، فوجد نفسه في حضرة أهل البيت جميعا، وصمويل ولر، والسيد الكبير واردل، وخطيب ابنته العتيد تراندل.
وجرى المستر بكوك نحو واردل، فتناول يده مصافحا وهو يقول: «أهلا يا صديقي العزيز، بحق السماء اشرح لهذه السيدة الموقف السيئ الحرج الذي أنا فيه، فلا بد أنك قد سمعت به من خادمي، قل على كل حال يا عزيزي إنني لست لصا، ولا أنا بمجنون!»
وأجاب المستر واردل وهو يهز يد صديقه اليمنى، بينما راح المستر تراندل يهز اليسرى: «لقد قلت ذلك يا صديقي العزيز، قلته قبل الآن.»
وتدخل المستر ولر وهو يتقدم خطوة قائلا: «ومن يقول هذا أو قاله، فإنما يقول كذبا، ولا ينطق حقا، بل أبعد ما يكون من الحق ... بل العكس تماما ... وإن كان في هذا البناء رجال قالوا ذلك، مهما يكن عددهم، فإني ليسرني أن أقدم إليهم دليلا مقنعا كل الإقناع بأنهم مخطئون، هنا في هذه الغرفة ذاتها، إذا تكرمت السيدات المحترمات فانصرفن منها، وأمرن أولئك الرجال أن يأتوا إلي واحدا بعد الآخر.»
وبعد أن فرغ المستر ولر من إلقاء هذا التحدي بذلاقة بالغة، راح يضرب كفه المبسوطة بقبضة يده الأخرى، مؤكدا بهذه الحركة قوله، ويغمز بعينيه مسرورا مداعبا المس تومكنز التي لا يستطيع أحد وصف مدى رعبها؛ لظنه أنه من المحتمل أن يكون ثمة رجال في مدرستها المقصورة على البنات دون سواهن.
وانتهى المستر بكوك سريعا من شرح الحادث إلى حد ما، ولكنه في عودته إلى الفندق مع أصحابه، وجلوسه إلى نار مشبوبة، وعشاء هو أحوج ما يكون إليه، لم يقل شيئا، ولم تستطع ملاحظة واحدة من جانب أصحابه استخلاص قول منه، فقد بدا مذهولا سابح الخاطر شاردا، وإن التفت مرة أو مرتين إلى المستر واردل فقال: «كيف أتيت إلى هنا؟»
وأجاب واردل بقوله: «لقد أتينا أنا وتراندل إلى هنا طلبا للقنص، ووصلنا الليلة، ودهشنا عندما علمنا من خادمك أنك هنا أيضا.» وراح الشيخ يربت على ظهره وهو يقول: «وإني لمغتبط بلقائك، وسنستمتع برحلة بهيجة إلى الصيد في أول الموسم «سبتمبر»، ونهيئ لونكل فرصة أخرى، فما رأيك يا صاح؟»
فلم يحر المستر بكوك جوابا، بل لم يسأل عن أصدقائه في «دنجلي ديل»، ولم يلبث أن أوى إلى غرفته، وأمر سام بأن يحضر الشموع إذا هو دق الجرس له.
ودق الجرس في الوقت المناسب، ومثل المستر ولر في حضرة سيده.
وتطلع المستر بكوك إليه من تحت الأغطية قائلا: «يا سام.»
قال: «نعم يا سيدي.»
وسكت المستر بكوك لحظة، وأوقد المستر ولر الشمعة.
وعاد المستر بكوك ينادي قائلا: «يا سام.» كأنما يبذل مجهودا بالغا.
وأجاب المستر ولر مرة أخرى: «نعم يا سيدي.» - «أين هذا الرجل الذي يدعى تروتر؟» - «أتعني جوب يا سيدي؟» - «نعم.» - «ذهب يا سيدي.» - «أظن مع سيده؟» - «مع صاحبه أو سيده أو كائنا من يكون، لقد ذهب معه، لعنة الله عليهما معا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يكاد يختنق: «لقد فطن جنجل إلى خطتي، فدس عليك ذلك المخلوق، واخترع لك تلك القصة، هذا هو رأيي.»
وأجاب المستر ولر: «هو ذلك تماما يا سيدي.» - «وكان كل ذلك كذبا وبهتانا!» - «كله يا سيدي، حيلة مسبوكة يا سيدي، لهروب فني محبوك.»
وقال المستر بكوك: «لا أظنه سيهرب منا بهذه السهولة في المرة القادمة يا سام.» - «لا أظنه يا سيدي.»
ونهض المستر بكوك متحاملا في فراشه، وضرب وسادته بقبضة يده قائلا: «إذا قدر لي يوما أن ألتقي بهذا الرجل في أي مكان، فسأوقع عليه عقابا بدنيا إلى جانب الفضيحة التي يستأهلها إلى حد بعيد، سأفعلن، وإلا لما كنت أدعى بكوك!»
وقال سام: «وإذا أنا أمسكت بذلك المخلوق المكتئب الحزين الأسود الشعر، فلن أدعى ولر إن لم أجلب دموعا حقيقية إلى عينيه، ولو مرة في العمر، طاب ليلك يا سيدي.»
أي إن سيده مثله خالي الوفاض.
الفصل السابع عشر
يبين كيف تكون الإصابة «بالنقرس» في بعض الأحيان حافزا لعبقرية الابتكار والابتداع. ***
لم تكن بنية المستر بكوك - رغم مقدرتها على احتمال قدر كبير من الجهد والإعياء - منيعة ضد تلك الهجمات المجتمعة التي قاساها في تلك اللية المشهودة التي وصفناها في الفصل الماضي، فقد كان البلل الذي أصابه من تلك الليلة العاصفة المطيرة، والاحتجاز في غرفة ضيقة، خطرين كما هما فريدان في ذاتهما، فلا عجب إذا هو اعتكف في فراشه من وطأة النقرس.
ولكن إذا كانت القوى البدنية التي أوتيها ذلك الرجل العظيم قد تعرضت للتلف على هذا النحو، فقد ظلت قواه الذهنية محتفظة بشدة بأسها، ومرونتها الطبيعية؛ إذ كانت المرونة غالبة على قواه المعنوية، فلم يلبث أن استرد روحه الفكهة، حتى لقد توارى من خاطره ذلك الغيظ الذي أحسه عقب تلك المخاطرة الأخيرة التي أقدم عليها، فاستطاع أن يشارك في الضحك الصادق المنبعث من القلب، لكل تلميح أو إشارة تثيره في نفس صاحبه المستر واردل، دون غضب أو ارتباك، بل أكثر من هذا، أن سام ظل ملازما خدمته طيلة اليومين اللذين اعتكفهما في فراشه، فحاول في اليوم الأول الترويح عن سيده بالنوادر والأحاديث، ولكن المستر بكوك طلب في اليوم الثاني مسندا وقلما ودواة، ولبث طيلة اليوم منهمكا في الكتابة، وفي اليوم الثالث استطاع الجلوس في غرفته، وأوفد خادمه برسالة إلى المستر واردل والمستر تراندل يقول فيها: إنه ليسره السرور كله إذا تفضلا بتناول شرابهما في حجرته في ذلك المساء، وجاء الرد بقبول الدعوة مع أجزل الشكر، وما إن جلسا إلى النبيذ واطمأن بهما المجلس، حتى أخرج المستر بكوك على استحياء القصة الصغيرة التالية، قائلا إنه هو الذي أشرف على صياغتها وتحريرها بنفسه من واقع الملاحظات التي دونها لما سمعه من رواية المستر ولر بفطرته الساذجة، وسليقته البريئة.
قس الأبرشية «قصة حب صادق»
كان في سالف الدهر، وفي بلدة صغيرة بسواد الريف، تبعد كثيرا من لندن، رجل قصير القامة يدعى «نثنايل بيبكن» يشتغل في أبرشية البلدة، ويقيم في بيت صغير في شارعها المتواضع الذي لم يكن يبعد عن الكنيسة أكثر من مسيرة عشر دقائق، وكان أكثر نهاره - من التاسعة إلى الرابعة - يقوم بتعليم الأطفال الصغار شيئا من العلم، وكان نثنايل بيبكن هذا مخلوقا وديعا لا أذاة منه، ولا عدوان على أحد من جانبه، طيب القلب، سليم الطوية، له أنف مرتفع إلى أعلى، وساقان ملتويتان إلى الداخل، وفي عينيه حول، وفي مشيته عرج، وقد مضى يقسم وقته بين الكنيسة والمدرسة، معتقدا عن يقين أن ليس على وجه الأرض رجل في مثل براعة راعي الأبرشية وذكائه، ولا مكان أروع من قاعة الصلاة فيها، ولا مدرسة في مثل نظام مدرسته وحسن تنسيقها، ولم يكن «نثنايل بيبكن» بل كان الحدث الأوحد الذي أزعج تيار فقط، أسقفا حقيقيا في أردان خضر، وشعر مستعار، فقد شهده وهو يمشي، وسمعه وهو يتحدث في تثبيت العماد، حتى لقد استولى على نثنايل بيبكن في تلك المناسبة الجليلة، من فرط الرهبة والروع، حين ألقى الأسقف يده فوق رأسه، ما جعله يغمى في الحال عليه، فيحمله الشماس بين ذراعيه، ويخرج به من الكنيسة.
لقد كان ذلك حدثا عظيما، وعهدا مشهودا، في حياة «نثنايل بيبكن»، بل كان الحدث الأوحد الذي أزعج تيار حياته الهادئة، حتى حدث في ذات أصيل رائق أن حانت منه وهو شارد الخاطر نظرة، بينما كان مكبا على لوح «الإردواز» ليفكر في مسألة حسابية يعطيها لصبي عقابا له على خطأ ارتكبه، وإذا تلك النظرة تستقر فجأة على محيا فتاة صبيحة تدعى «مرايا لوبز»، وهي الابنة الوحيدة للشيخ لوبز صانع السروج الكبير الذي تقع داره في الناحية المقابلة، وكانت عينا المستر بيبكن كثيرا ما استقرتا من قبل، في الكنيسة وغيرها، على وجه مرايا المليح، ولكن عيني مرايا لوبز لم تبدوا قبل هذه المرة في مثل بهائهما وبريقهما، ولا لاح خداها يوما في مثل تلك الحمرة التي بدت بهما في تلك المرة بالذات؛ فلا عجب إذا لم يستطع نثنايل بيبكن أن يرد عينيه عنهما، ولا غرو إذا هي تراجعت عن النافذة التي كانت تطل منها، حين رأت شابا يطيل النظر إليها، وأغلقتها وأسدلت الستار، ولا غرابة أيضا إذا راح نثنايل بيبكن بعد ذلك مباشرة ينقض على ذلك الصبي الصغير المخطئ فيوسعه ضربا، ويمرغه تمريغا؛ شفاء لغليله، ولم يكن في ذلك كله من عجب، فقد كان شيئا طبيعيا جدا لا غرابة فيه.
ولكن العجب مع ذلك أن امرأ في مثل طبيعة المستر بيبكن وانزوائه، وعصبية مزاجه، وقلة موارده خاصة، بدأ من ذلك اليوم يجرؤ على التطلع إلى خطبة يد تلك الابنة الوحيدة التي رزق بها الشيخ لوبز الحاد الطباع، والطمع في كسب قلبها، وهي ابنة ذلك «السروجي» العظيم، الذي كان في وسعه أن يشتري القرية كلها بجرة قلمه دون أن يشعر بأنه أنفق شيئا، ذلك الشيخ «لوبز» الذي عرف عنه أنه يملك أموالا طائلة مودعة في المصرف القائم في «البندر» المجاور ... وذلك الشيخ الذي قيل أنه يختزن كنوزا لا تعد ولا تنفد، في تلك الخزانة الصغيرة ذات المفتاح الضخم، القائمة فوق «الطنف» في الحجرة الخلفية من البيت، ذلك الشيخ الذي تسامع الناس عن مآدبه وولائمه، وكيف كانت موائده تزدان بآنية شاي من الفضة الخالصة، وإبريق للقشدة، ووعاء للسكر، وكيف كان من عادته أن يفخر في زهوه وكبريائه بأن تلك «الفضيات» ستكون ملكا لابنته حين تجد الرجل الذي تختاره لفؤادها، بل إني لأكرر أنه من العجب العجاب حقا أن يجسر امرؤ مثل نثنايل بيبكن على مد عينيه إلى هذه الناحية، ولكن الحب أعمى، وفي عين نثنايل - كما علمت - «حول»، ولعل هذين العاملين مجتمعين هما اللذان «حالا» بينه وبين النظر إلى المسألة في ضوئها الصحيح.
ولو كان الشيخ لوبز قد خامرته أقل فكرة عن الحب الذي دب في قلب نثنايل بيبكن، لعمد إلى المدرسة فدكها دكا، وسواها بالتراب، أو لمحا معلمها من وجه الأرض، أو اقترف أمرا آخر لا يقل في نكره وبشاعته، وعنفه وقوته، عما وصفناه، فقد كان شيخا مرهوبا جبارا، إذا مس امرؤ كبرياءه، أو أثار غضبه، وأنه ليست الأخضرين ... حتى لتخرج ألفاظ السباب واللعنات والأيمان متدفقة منه مدوية قاصفة كالرعد في طريقها، حين يندد ببلادة صبيه المعروق، ذي السياقين النحيلتين، حتى ليزحف نثنايل بيبكن، ويسقط قلبه في حذائه من الرعب، ويقف شعر رءوس الأطفال الصغار في المدرسة من الفزع.
ومرت الأيام ... فكان نثنايل بيبكن بعد انتهاء الدروس، وانصراف التلاميذ، يجلس قبالة النافذة الأمامية، متظاهرا بأنه يقرأ في كتاب، وهو في الواقع يلقي نظرات جانبية على عدوة الطريق، باحثا بعينيه عن عيني مرايا لوبز البراقتين، ولم تنقض عدة أيام عليه وهو ملازم مجلسه هذا، حتى ظهرت هاتان العينان البراقتان في إحدى النوافذ العليا، وصاحبتهما تبدو منهمكة في القراءة أيضا، فكان ذلك باعث ابتهاجة وفرحة بالغة لقلبه، وكان حسب فؤاده أن يجلس على هذه الحال ساعات طوالا، وينظر إلى ذلك الوجه المليح، وإن ظلت عيناها رانيتين إلى الكتاب لا ترتفعان عنه، ولكن بدأت مرايا لوبز ترفعانهما عنه، وترسلان أشعتهما صوبه، فلم يلبث فرحه وإعجابه أن تجاوزا كل حد. وفي ذات يوم، حين عرف أن الشيخ لوبز لم يكن في البيت، تجرأ نثنايل بيبكن على تقبيل يده «لمرايا»، ولكنها في هذه المرة لم تغلق النافذة، ولم تسدل الستر، بل راحت تقبل «يدها» له وهي تبتسم ... فما أن رأى ذلك حتى صح منه العزم على أن يساير عاطفته بلا إبطاء، مهما تكن العاقبة.
ولعمري ما وطئت وجه الأرض قدم أجمل، ولا حوت الدنيا فؤادا أكثر مرحا، ولا محيا أوفر أحوالا وطوابع حسن، ولا قواما أهيف وأبدع، من قدم مرايا، وفؤادها، وطلعتها، وقوامها ... لقد كان في عينيها المتلألئتين رنوة ماكرة لكي تشق طريقها إلى صدور أقل حساسية من صدره، وفي ضحكتها المرحة وسوسة فرحة لا يسع أشد الناس سخطا على الحياة، وتبرما بالدنيا، إلا أن يبتسم لسماعها، بل إن الشيخ لوبز نفسه، وهو في قمة وحشيته وذروة حنقه، لا يستطيع أن يقاوم ملاعبة ابنته المليحة الحسناء، وكلما مضت هي وابنة عم لها تدعى «كيت» - وهي فتاة ذكية، جريئة، فاتنة، صغيرة البدن - تسألان الشيخ حاجة، وكثيرا ما تسألانه، لم يكن يستطيع أن يرفض لهما سؤالا، حتى ولو طلبتا إليه أن ينزل لهما عن جزء من كنوزه التي لا تعد ولا تنفد، والتي حجبها عن نور الشمس في تلك الخزانة الحديدية.
وجعل قلب نثنايل بيبكن يخفق في جوانحه حين شهد هاتين الساحرتين الصغيرتين على قيد بضع مئات من الياردات منه، في ذات مساء صائف في ذلك الحقل ذاته الذي طالما يجول في أرجائه إلى أوان الليل، وتمثل جمال «مرايا لوبز» في خاطره، وفكر في حسنها الفتان، ولكم فكر من قبل في التقدم بجرأة إليها، ومكاشفتها نجوى حبه، إذا تواتى له يوما لقاؤها، ولكنه شعر حين وجدها في ذلك الحقل فجأة ماثلة حياله، تصاعد الدم كله في شرايينه إلى وجهه، من فرط الخجل والارتباك، فتخاذلت ساقاه لحرمانهما من نصيبهما من دمه، ورجفتا من تحته.
ولما وقفتا تقطفان شيئا من الزهر، أو تستمعان إلى شدو طائر، وقف هو كذلك، وتظاهر بأنه مشغول بالتفكير، وإن كان ذلك هو الواقع؛ لأنه كان فعلا يفكر فيما ينبغي أن يفعله، إذا هما تولتا بظهريهما، وتلاقتا به وجها لوجه، وهو ما ستفعلانه حتما بعد لحظة، ولئن خشي أن يتقدم هو نحوهما، فلم يكن ليحتمل احتجابهما عن ناظره، وحرمان عينه من رؤيتهما، فلا عجب إذا أسرع في مشيته حين رآهما تسرعان، وتباطأ كلما تباطأتا، ووقف كلما وقفتا، وكان من المحتمل أن تظلا منطلقتين على هذا النحو، حتى تحول عتمة الليل دونهما، لو لم تلق «كيت» بمكر نظرة إلى الخلف، وتشير إشارة مشجعة إليه أن يتقدم، وكان في إشارتها شيء لم يستطع مغالبته، فاستجاب للدعوة، وبعد خجل شديد منه، وضحك كثير من تلك الصغيرة الماكرة، راح نثنايل بيبكن يجثو فوق الحشائش الندية، وأعلن أنه لن ينهض من جثوته تلك إلى الأبد، إلا إذا أذنت له مرايا لوبز بالنهوض حبيبا مقبولا منها، وعندئذ دوت ضحكات مرايا في أرجاء الفضاء، مبددة سكينة المساء، وإن لم تكدر صفاءه، أو تزعج هدأته؛ لفرط حلاوتها، وشدة عذوبتها، وانطلقت الصغيرة الماكرة تضحك أكثر من قبل، فازداد نثنايل بيبكن حياء وخجلا، وأخيرا، وبعد إلحاح شديد من هذا الرجل الصغير الذي أضواه الحب، أشاحت مرايا بوجهها وهمست لابنة عمها، أن تقول له ... وقد قالت كيت فعلا: «على كل حال - كما بدا لك - إنها تشعر بشرف بالغ مما عرضته عليها، وتحدثت به إليها، وإن يدها وفؤادها تحت تصرف أبيها، وإن لم تخف على أحد مواهب المستر بيبكن، ولا يستطيع إنسان أن ينكرها عليه.»
وقد جرى هذا الكلام كله بجد ظاهر، وانطلق نثنايل عائدا مع مرايا إلى البيت، وحاول جاهدا أن ينتزع من وجنتها قبلة قبل الوداع، فلا عجب إذا هو أوى إلى فراشه سعيدا قرير العين، وراح يحلم طيلة الليل أنه قد ذهب يترضى الشيخ لوبز، وينشد موافقته، ويفتح الخزانة، ويبني بمرايا، ويتم له الزفاف بها.
وفي اليوم التالي رأى نثنايل بيبكن الشيخ يخرج على مهره الأدهم، وبعد عدة إشارات من الصغيرة الماكرة، وهي واقفة في النافذة، وإن لم يستطع مطلقا فهم الغرض منها، ولا إدراك معانيها، جاءه الصبي المعروق ذو الساقين الناحلتين ليقول له: إن سيده سوف لا يئوب إلى البيت في تلك الليلة، وإن السيدتين تنتظرانه لتناول الشاي معهما في تمام السادسة، ولا يدري نثنايل بيبكن، ولا تلاميذه الصغار يدرون أكثر مما تدري أنت، كيف انقضت الدروس في ذلك النهار، سوى أنها انقضت، على أية صورة انقضت، ولم يكد الصبيان ينصرفون، حتى أنفق نثنايل بيبكن الوقت كله إلى السادسة في تجميل بزته، وتزيين سمته، إلى أن رضي عن شكله، وراقته صورته، ولم يكن كل ذلك الوقت الطويل قد ذهب في اختيار الثياب التي يحسن به أن يرتديها؛ إذ لم يكن لديه منها ما يتعب في اختياره، أو يحار كثيرا في اصطفائه، ولكنه انقضى في الارتداء ذاته، وعملية اللبس نفسها، وأحسن المظاهر المناسبة للاشتمال بها، فقد كان ذلك كله مهمة شاقة، وعملا خطيرا.
وكانت الحفلة صغيرة تتألف من مرايا لوبز، وابنة عمها كيت، وثلاث أو أربع بنات مرحات، فكهات، متوردات الخدود، وشاهد نثنايل بيبكن بعيني رأسه ما تحقق به أن ما يقال عن كنوز لوبز وأمواله المخبوءة لم يكن مبالغا فيه، فقد رأى حقا إناء الشاي، وإبريق القشدة، ووعاء السكر، وكلها من الفضة الخالصة، قوائم فوق المائدة، ورأى كذلك الملاعق، والصحاف التي وضعت فيها الفطائر، والخبز المحمر، من الفضة كذلك، وكان الشيء الوحيد الذي يؤذي العين ويقتحمه البصر، ابن عم آخر لمرايا، وأخ «لكيت» كانت مرايا تدعوه «هنري»، فقد راح يستحوذ على مرايا كلها لنفسه في ركن من الخوان، ومن الممتع للعين أن نشهد المحبة بادية في أفق العشيرة، ولكنها قد تغلو حتى تتجاوز الحد، ولم يسع نثنايل بيبكن إلا أن يعتقد أن مرايا لا بد أن تكون مولعة إلى حد بعيد بأهلها، وذوي قرباها؛ إذ كانت تبدي من العناية بهم قدر ما هي مبتديته نحو ابن عمها هذا.
وحدث أيضا بعد الفراغ من تناول الشاي أن اقترحت الصغيرة الماكرة على الجمع لعبة «الاستغماء»، فكان نثنايل بيبكن، وهو أبدا أعمى معصوب العينين، كلما ألقى يده على ذلك الفتى الصغير، وجد مرايا في كل مرة على مقربة منه، وعلى الرغم من أن تلك الماكرة الصغيرة والبنات الأخريات جعلن يعركنه، ويجذبن شعره، ويضعن المقاعد في طريقه، ويفعلن به ما شاء العبث لهن، بدا له أن مرايا لم تكن تدنو منه أبدا، وكان في وسعه أن يقسم في إحدى المرات أنه سمع صوت قبلة، ثم كلمة احتجاج من مرايا، فضحكات مكبوتة من البنات، وكان ذلك كله عجيبا، متناهيا في العجب، ولا ندري هل كان من الجائز أن يفعله نثنايل بيبكن في هذا الموقف لو لم تتجه أفكاره فجأة وجهة جديدة.
وكانت الظروف التي حملته على التفكير في ذلك الاتجاه الجديد هي صوت شديد بالباب، ولم يكن ذلك الطارق العنيف أحدا سوى الشيخ لوبز نفسه، فقد عاد فجأة، وانطلق يدق الباب كما يدق «حامل الموتى» بالمطرقة نعش ميت؛ لأنه كان يريد عشاءه، وما كاد صبي، وصانع السروج المعروق الناحل الساقين يحمل هذا النبأ المزعج، حتى بادرت البنات إلى الصعود إلى مخدع «مرايا لوبز»، وألقي ابن العم ونثنايل بيبكن في غرفتين حبيستين داخل قاعة الجلوس؛ إذ لم يكن في البيت كله مخبأ أصلح من ذلك لهما، وما إن انتهت مرايا لوبز وابنة عمها الصغيرة الماكرة من إخفائهما على تلك الصورة، وإصلاح ما اضطرب من أثاث الحجرة - حتى فتحتا الباب للشيخ، ولم يكن قد كف عن الطرق منذ بدأه.
وحدث لسوء الحظ أن الشيخ كان من الجوع في غضب موحش، فاستطاع نثنايل أن يسمع زمجرته كعواء كلب ضخم مبحوح الحنجرة، وكلما دخل الحجرة ذلك الصبي المعروق التعس ذو الساقين الناحلتين، هب فيه ذلك الشيخ سابا لاعنا، وهو في حنق شديد، لا لسبب ظاهر أو غرض غير التنفيس عن صدره بإطلاق بضع لعنات أخرى، وأخيرا وضع العشاء بعد تسخينه فوق المائدة، فأكب الشيخ عليه كدأبه، وما لبث أن أتى عليه كله، وقبل ابنته، وطلب قصبته.
وكانت الطبيعة قد ركبت ركبتي نثنايل بيبكن تركيبا جعلهما متقاربتين متلاصقتين، ولكنهما حين سمع الشيخ يطلب القصبة، اصطكتا، كأن كل ركلة منهما توشك أن تسحق الأخرى سحقا، فقد رأى في الغرفة ذاتها التي احتبس فيها قصبة سوداء الجذع، فضية التجويف، متدلية من خطافين، وكانت هي القصبة التي يراها في فم الشيخ كل أصيل ومساء خلال السنوات الخمس الماضية، ونزلت الفتاتان إلى الطبقة الأولى من البيت لإحضار القصبة، ثم صعدتا إلى الطبقة العليا، ثم ذهبتا تبحثان عنها في كل مكان، إلا المكان الذي تعرفان أن القصبة فيه، بينما لبث الشيخ يعصف ويقصف أعجب العصف والقصف، ولكنه تذكر أخيرا تلك الغرفة الصغيرة، فمشى إليها، ولم تكن ثمة جدوى من أن يحاول رجل صغير الجثة كنثنايل بيبكن سد الباب من الداخل، إذا كان الذي يشده من الخارج رجلا ضخما شديد البأس كالشيخ لوبز، فلم يحتج إلى أكثر من جذبة واحدة، وإذا بالباب ينفتح دفعة واحدة، وإذا نثنايل بيبكن واقف في الحجرة يرعش من الخوف، ويرجف من رأسه إلى أخمص قدميه. الرحمة يا رب! ما كان أبشع النظرة التي ألقاها الشيخ على المسكين، وهو يجره من رقبته جرا، ويوقفه على بعد الذراع منه.
وانثنى يصيح به قائلا بصوت مخيف: «أي شيطان جاء بك إلى هنا؟»
ولم يستطع نثنايل بيبكن أن يجيب، فجعل الشيخ يهزه إلى أمام، ويرده إلى خلف، دقيقتين أو ثلاثا كي يحمله على الكلام، والاهتداء إلى رأي أو حجة يعتذر بها.
وزأر لوبز قائلا: «ماذا تريد هنا؟ أحسبك جئت من أجل ابنتي!»
وكان الشيخ قد قال هذه العبارة سخرية منه، وازدراء به؛ لأنه لم يكن يعتقد أن مثل نثنايل بيبكن يمكن أن تسول له النفس الإقدام إلى هذا الحد.
ولشد ما كان حنقه حين راح ذلك المسكين يقول: «يا مستر لوبز، لقد جئت في طلب ابنتك، إنني أحبها يا مستر لوبز.»
وهنا زفر الشيخ، وكاد الفالج يقدح في ساقيه من نكر هذا الاعتراف، وصاح به قائلا: «ماذا تقول أيها الشقي، الماخط الأنف، المعوج الوجه، الناقص النمو؟ ماذا تعني بهذا؟ قل هذا في وجهي لكي أخنقك خنقا.»
وأكبر الظن أن الشيخ لوبز كان سيخرج ذلك الوعيد مخرج التنفيذ في فورة غضبه، لولا أن أمسك بذراعه شبح تراءى فجأة أمامه، ونعني به ابن عم مرايا ذاته، فقد خرج من محبسه، وتقدم نحو الشيخ قائلا: «لا أستطيع أن أسمح يا سيدي بأن تقع التبعة عن خطأ أنا الذي اقترفته - إن صح أن يدعى ما فعلته خطأ، وأنا على استعداد للاعتراف به - على هذا الشخص العاجز عن الأذى الذي دعي إلى هنا، بحيلة بريئة من حيل البنات، إنني أحب ابنتك يا سيدي، وأنا هنا لكي أجتمع بها.»
وفتح الشيخ لوبز عينيه على سعتهما حين سمع هذا القول، ولكن عيني نثنايل بيبكن كانتا أكثر سعة، وأرحب حدقا.
وقال الشيخ أخيرا حين تمالك أنفاسه اللاهثة: «أأنت الذي فعلت؟» - «نعم، أنا الذي فعلت.» - «بعد أن منعتك من دخول هذا البيت منذ زمن بعيد.» - «نعم، أنت منعتني، ولولا ذلك لما جئت إلى هنا سرا في هذه الليلة.»
وإني لآسف أن أقرر هنا أن الشيخ كان سيهم بالانقضاض على الفتى، لولا أن تعلقت ابنته الحسناء بذراعه، والدموع تنهمر من عينيها البراقتين.
وقال الفتي: «لا تمنعيه يا مرايا، فإن كان يريد أن يضربني فدعيه، فلن أمس شعرة واحدة من رأسه الذي علاه المشيب، ولو أوتيت ما في الأرض من ثراء.»
وأطرق الشيخ خجلا من هذا العتاب، والتقت عيناه بعيني ابنته، وقد ألمعت من قبل مرة أو مرتين إلى بريق هاتين العينين، ولكني هنا أقرر أن سلطانهما رغم اغروراقهما بالعبرات، لم يقل ولم ينقص شيئا، وأشاح الشيخ بوجهه، كأنما يتحامى من فتنتهما، وإذا هو بمحض المصادفة يلتقي بوجه تلك الصغيرة الماكرة، وكانت من خوفها على أخيها، وضحكها من نثنايل بيبكن قد أبدت من سحر محياها، وفتون مكرها، وحيائها كذلك، ما لا يقوى أي رجل - سواء أكان شيخا أم شابا - على مغالبته، وراحت تدخل في دلال ودعابة وإغراء ذراعها في ذراع الشيخ، وتهمس له كلاما في أذنه، فلم يسع لوبز - وهو حيالها العاجز المستكين - إلا أن ابتسم، وإن تسللت في الوقت ذاته دمعة إلى خده.
ولم تنقض دقائق حتى دعيت الفتيات من المخدع، فجئن في ضحك كثير واستحياء، وبينما كان الشباب في سرور وهناءة بالغين، تناول الشيخ لوبز القصبة، ومضى يدخن، وكان الظرف الذي أحاط بتلك القصبة دون سواها عجيبا، فلا عجب إذا هو شعر بأنها ألطف قصبة دخنها في حياته، وأكثر شيء إمتاعا وترفيها.
ورأى نثنايل أنه من الخير الرضى بما قسم له، والصبر على ما أصابه، فراح شيئا فشيئا يرتفع مكانه عند الشيخ لوبز، ويصيب حظوة متزايدة لديه، فجعل هذا يعلمه التدخين على الأيام، واعتادا الجلوس معا في الحديقة كلما راق المساء، عدة سنين، يدخنان ويتعاطيان الشراب في مجلس ممتع، وخلوة هنية.
ولم يلبث أن نقه من أثر الحب؛ إذ لا يزال اسمه مدونا في سجلات الأبرشية، شاهدا على زواج مرايا لوبز بابن عمها، والظاهر أيضا من الرجوع إلى وثائق أخرى أنه في ليلة الزفاف وضع في سجن القرية وهو في حالة سكر بين، وعربدة في الطريق العام، اشترك فيها معه وخفف من حدتها بجانبه، ذلك الصبي المعروق الناحل الساقين.
الفصل الثامن عشر
يبين بإيجاز مسألتين: الأولى قوة «التشنجات»، والأخرى قوة «الظروف». ***
وظل البكوكيون يومين عقب مأدبة الإفطار في دار مسز هنتر، مقيمين في إيتنزول، يرتقبون في قلق وصول أنباء من زعيمهم الموقر، وهكذا وجد المستر طبمن والمستر سنودجراس نفسيهما متبطلين يلهوان كما شاءا؛ لأن المستر ونكل لبث مقيما في دار المستر بت؛ تلبية لدعوة ملحة، مكرسا وقته لمرافقة السيدة المحببة، ولم يكن مجلسهما بين الفينة والفينة ينقصه حضور المستر بت نفسه، ليستكملا هناءتهما، ولئن كان في شغل شاغل أكثر وقته بالتفكير في الصالح العام، والقضاء على الصحيفة المعارضة «الإنديبندنت»، فلم تكن من عادة ذلك الرجل العظيم أن يهبط من أوجه الذهني إلى وهدة الأذهان العادية، ولكنه في هذه المناسبة بالذات، وعلى سبيل المجاملة المقصودة لأي مريد من من مريدي المستر بكوك، اضطر إلى التنزل من عليائه، والتسامح في كبريائه، والهبوط من قاعدة تمثاله للمشي على الأرض، والتعطف بالنزول بأفكاره وآرائه إلى مستوى إفهام القطيع العام، والتظاهر - شكلا لا حقيقة - بأنه واحد منه.
وإذا كان هذا هو مسلك ذلك الرجل الذائع الذكر إزاء المستر ونكل، فلا يصعب علينا أن نتصور مدى الدهشة البالغة التي ارتسمت على وجه ذلك السيد حين وجد يوما، وهو جالس وحده في قاعة الإفطار، الباب قد فتح بعجلة، ثم أغلق بمثلها، على دخول المستر بت، وهو يمشي متسللا إليه في جلال، ويلقى جانبا يد ونكل المبسوطة لتحيته، ويصرف بأسنانه، كأنما يحاول أن يخفف من حدة القول الذي يوشك أن يقوله، ويصيح به قائلا في صوت كالمنشار: «أيها الثعبان!»
وصاح المستر ونكل، وهو ينهض من مقعده: «سيدي!»
وعاد المستر بت وهو يرفع من صوته، ثم يغض منه: «ثعبان يا سيدي! قلت: ثعبانا يا سيدي، فلتفسر قولي كما شئت.»
وإذا أنت افترقت عن رجل في الثانية بعد نصف الليل على محض المودة، ثم جاءك في التاسعة والنصف من الصباح، وحياك بقوله لك: «إنك لثعبان»، فمن المعقول أن تستنتج من ذلك أن شيئا غير سار قد حدث في تلك الفترة، وهذا هو ما اعتقده المستر ونكل، وفكر فعلا فيه، فرد على نظرة المستر بت الجلمود القاسية بمثلها، وأخذ امتثالا لطلبه يفسر كلمة «الثعبان» كما يشاء، ولكنه لم يصل من التفسير إلى شيء إطلاقا؛ ولهذا مضى بعد صمت عميق استغرق بضع دقائق يقول : «ثعبان يا سيدي! ... ثعبان! ... يا مستر بت، ماذا يمكن أن تعني بهذا يا سيدي؟ هذا عبث!»
وصاح المستر بت بحركة من يده تنم عن رغبة شديدة في قذف رأس ضيفه بإناء الشاي المعدني الموضوع أمامه: «عبث يا سيدي! ... عبث! ... ولكن كلا ... سأظل هادئا ... سأظل هادئا يا سيدي.» وللتدليل على هدوئه راح يتهالك على مقعد، والزبد يخرج من فمه.
وتدخل المستر ونكل قائلا: «سيدي العزيز!»
وأجاب بت: «أتدعوني سيدي العزيز؟ كيف تجرؤ على مخاطبتي بقولك سيدي العزيز؟ وكيف تجرؤ على النظر إلي شذرا، والتفوه بهذا القول يا سيدي؟»
وقال المستر ونكل: «إذا جئت إلى هنا يا سيدي، فدعني أقل لك: كيف تجرؤ أنت على النظر إلي شذرا، وتدعوني ثعبانا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بت: «لأنك ثعبان.»
وقال المستر ونكل بحرارة: «أثبت ذلك يا سيدي ... أثبته.»
وهنا خطفت عبسة خبيثة على وجه رئيس التحرير، وهو يخرج من جيبه عدد الصباح من «الإنديبندنت»، ويضع إصبعه على فقرة معينة فيه، ويقذف بالجريدة من فوق المائدة إليه.
وتناول المستر ونكل الجريدة، فقرأ ما يلي:
إن زميلنا الخامل الذكر القذر، حاول في بعض ملاحظاته التي تتقزز منها النفوس على الانتخابات التي جرت أخيرا في الدائرة، أن ينتهك قدسية الحياة الخاصة، فأشار بشكل لا يمكن أن يساء فهمه إلى شئون مرشحنا الخاصة، بل دعنا نقول، رغم هزيمة مرشحنا بوسائل دنيئة، نائبنا العتيد، المستر فيزكن، فماذا يعني زميلنا النذل بهذا الذي كتبه، بل ماذا هو قائل إذا نحن فعلنا ما فعله، فلم نبال مثله بالأدب الاجتماعي، وحرمة الحياة الخاصة، وأزحنا الستار الذي يخفي لحسن الحظ حياته هو الخاصة عن السخرية العامة، إذا لم نقل عن اشمئزاز الناس واستنكارهم؟ بل ماذا تكون الحال إذا نحن أوضحنا وعقبنا على الوقائع والظروف التي افتضح أمرها، وشاهدها الناس جميعا إلا زميلنا المكفوف البصر؟ ماذا تكون الحال حقا، إذا نحن نشرنا الأبيات التالية التي تلقيناها ونحن نكتب هذه السطور من مواطن موهوب، ومراسل لنا؟ وهذه هي الأبيات:
نداء إلى «إبريق»
1
نحاسي
لو أنك يا بت عرفت
كيف ستروح على الدهر خائنتك
لفعلت يومئذ وأنت تسمع
نواقيس الزواج تدق وتجلجل
ما ليس في إمكانك اليوم أن تفعل
ولسلمتها طائعا مختارا إلى و...
وانثنى المستر بت يقول بصوت رهيب: «ماذا تكون القافية التي تستوجبها كلمة «تجلجل»، «وتفعل» يا شقي؟»
وقالت مسز بت، وكان دخولها في تلك اللحظة بمثابة الرد سلفا: «ما هي الكلمة أو القافية التي تتفق وكلمة «تجلجل» و«تفعل»؟ أظنها ونكل.» وراحت تبتسم ابتسامة عذبة للبكوكي المرتبك، وتمد إليه يدها، ولو أن بت لم يتدخل فيقول غاضبا: «كفى يا سيدتي، كفى، أتتناولين يده أمام وجهي؟» لقبلها الشاب المضطرب مدفوعا إلى ذلك باضطرابه.
وقالت السيدة مبهوتة: «يا مستر ب!»
وصاح بها زوجها قائلا: «اسمعي أيتها المرأة المنكودة، اسمعي يا سيدتي: نداء إلى «إبريق» نحاسي «بت» نحاسي، يعني أنا يا سيدتي، ولو عرفت أنها على الدهر، ستروح خائنتك، يعني أنت يا سيدتي، أنت!»
وبهذه الفورة الشديدة التي بدا بها غضبه، والتي اقترنت بشيء يشبه الارتجاف، مضى يقذف وجه امرأته بالجريدة، فسقط العدد عند قدميها.
وقالت مسز بت في دهشة، وانحنت فالتقطت الصحيفة: «بشرفي يا سيدي، بشرفي يا سيدي!»
وهنا استخذى المستر بت، وتراجع أمام النظرة المحتقرة التي حدجته بها زوجته، وغالب مغالبة مستيئسة لجمع شتات شجاعته، ولكن تلك الشجاعة لم تلبث أن تناثرت بددا.
وليس في تلك العبارة القصيرة «بشرفي يا سيدي!» شيء مرهوب أو خطير مطلقا، وأنت اللحظة تقرأها، ولكن اللهجة التي قيلت بها، والنظرة التي صحبتها، كانتا تنطويان على تلميح إلى عقاب سيقع على رأس بت فيما بعد، فلم تلبثا أن أحدثتا أثرهما فيه، حتى لم يكن ليغيب عن أقل الناس فطنة، إذا هو نظر إلى وجهه المضطرب، أنه لم يكن ليتردد في خلع حذائه الولنجتون إلى أي امرئ قدير، يرضى أن ينتعله في تلك اللحظة بدلا منه.
وقرأت مسز بت تلك الأبيات، وأطلقت صرخة عالية، وألقت بنفسها على البساط، ومددت قدميها صارخة، وضربت بكعب حذائها، وركلت بقدميها في صورة لم تدع ذرة من الشك في صدق ما كانت تحس به إزاء هذا الموقف.
وقال بت، وقد وقف جامدا في مكانه: «لم أقل يا عزيزتي أنني صدقت ذلك.» ولكن صوت المسكين قد غرق في صرخات شريكته.
وقال المستر ونكل: «دعيني يا مسز بت، أتوسل إليك يا سيدتي العزيزة أن تهدئي من روعك.» ولكن صرخاتها ودقات كعبها فوق البساط غطت على صوته، وكانت أكثر من قبل تتابعا.
وراح المستر بت يقول: «إنني جد آسف يا عزيزتي! وإذا لم تكفي مراعاة لصحتك، فراعي مركزي أنا يا عزيزتي؛ حتى لا يتجمهر الناس حول البيت.»
ولكن صرخاتها زادت اشتدادا وتتابعا كلما زاد المستر بت توسلا.
وكانت في البيت - لحسن الحظ - وصيفة خاصة لمسز بت، وهي شابة كان عملها في الظاهر الإشراف على زينة السيدة، وإن أدت إليها في الواقع خدمات كثيرة منوعة، وأهمها ما يتعلق بمساعدة سيدتها في تحقيق كل رغبة تتعارض مع رغبات بت التعس، فلم تلبث تلك الصرخات أن بلغت سمع تلك الوصيفة الشابة؛ فجاءت إلى الحجرة مهرولة، تكاد من سرعتها تفسد إلى حد كبير نظام شعرها، وعقصة جدائلها، ووضع قبعتها.
وراحت تصيح وهي تجثو مروعة بجانب مسز بت المنبطحة على البساط: «رباه! ... يا سيدتي العزيزة، ما الذي جرى يا سيدتي العزيزة؟»
وغمغمت المريضة: «سيدك المتوحش!»
وبدا على المستر بت الاستسلام والاستكانة، فلم يفه بقول.
وراحت الوصيفة تقول بلهجة التأنيب: «يا للعار! أنا عارفة أنه سيودي يوما بحياتك يا سيدتي، واها لك يا سيدتي المسكينة!»
فازداد بت استكانة واستسلاما، وتابعت زوجته الهجوم فقالت: «أواه ... لا تتركيني يا جودوين، لا تتركيني.» ومضت تتعلق بمعصم الوصيفة في هزة عصبية شديدة وهي تقول: «أنت الإنسان الوحيد الذي يحنو علي يا جودوين.»
ولم تكد جودوين تسمع هذا الاستنجاد المؤثر بها، حتى عمدت هي الأخرى إلى تمثيل مأساة خاصة، فراحت ترسل فيضا مدرارا من العبرات، وتقول: «لن أتركك أبدا يا سيدتي، أبدا. أواه يا سيدي، ينبغي أن تكون حريصا، ينبغي لك أن تحتاط يا سيدي؛ إنك لا تعرف أي أذى أنت محدثه للسيدة، وسوف تأسف في يوم من الأيام على ما فرطت فيه من قبل، وأنا بالأمر عارفة، ولطالما قلت ذلك قبل الآن.»
ولبث بت التعس ينظر خائفا متهيبا، ولا يقول شيئا.
وقالت مسز بت بصوت خافت: «جودوين!»
وأجابت هذه قائلة: «نعم يا سيدتي.» - «آه لو عرفت كيف أحببت هذا الرجل؟»
وقالت حارستها: «لا تحزني نفسك باستعادة الذكريات يا سيدتي.»
وبدا الخوف البالغ على بت، وحانت اللحظة الحاسمة للإجهاز عليه، فانطلقت مسز بت تقول وهي تنتحب: «والآن بعد كل ذلك يصبح جزائي عنده هذه المعاملة التي يعاملني بها، وتأنيبي وإهانتي في حضرة شخص ثالث، وهذا الشخص الثالث يكاد يكون غريبا!»
وسكنت لحظة، ثم واصلت الحديث وهي ترفع نفسها في أحضان وصيفتها: «ولكن لن أرتضي ذلك يا جودوين ولن أقبله، وسيتدخل شقيقي اللفتنانت، وسأنفصل يا جودوين!»
وقالت جودوين: «يستأهل يا سيدتي.»
ولم يجاهر بت بما دار في خاطره من الأفكار حين تلقى هذا التهديد بالانفصال، وإنما قنع بقوله في ذلة بالغة: «ألا تنصتين لي يا عزيزتي؟»
فكان جوابها الوحيد فيضا آخر من البكاء والنحيب، وازدادت بت عصبية وتشنجا، وراحت تتسائل: لماذا جاءت إلى هذه الدنيا، ولماذا تراها ولدت؟ وغير ذلك من الأسئلة المماثلة.
ومضى المستر بت يقول مترجيا مستعطفا: «لا تستسلمي يا عزيزتي لهذه المشاعر المؤثرة، فما اعتقدت يوما أن هذه الفقرة تقوم على أساس، هذا مستحيل يا عزيزتي، وكل غضبي يا عزيزتي، بل أقول كل هياجي وحنقي، إنما هو موجه إلى الإنديبندنت وكتابها لجرأتهم على نشرها، هذا هو كل ما هنالك.»
وألقى المستر بت نظرة متوسلة إلى من كان سببا فيما جرى، وهو البريء، كأنما يناشده ألا يذكر شيئا عن «الثعبان».
وانثنى المستر ونكل يقول، وقد استرد الشجاعة حين وجد بت قد فقدها: «وأي إجراء تنوي يا سيدي أن تتخذه للاقتصاص من هذا السوء الذي أحدثوه؟»
وقالت مسز بت: «أواه يا جودوين، هل ينوي أن يضرب رئيس التحرير بالسوط تأديبا له؟ هل ينوي ذلك يا جودوين؟»
وأجابتها حارستها: «اسكتي يا سيدتي، وهدئي من روعك، إني لأجرؤ على القول: إنه سيفعل ذلك إذا شئت يا سيدتي.»
وقال بت حين رأى زوجته تبدي أعراضا لمعاودة النوبة: «بلا ريب، سأفعل ذلك بالطبع.»
وعادت مسز بت تقول وهي لا تزال مترددة في معاودة التشنج: «ومتى يا جودوين متى؟»
وأجاب المستر بت قائلا: «في الحال طبعا، قبل أن ينقضي النهار.»
وقالت زوجته: «أواه، يا جودوين، هذه هي السبيل الوحيدة لتأديبه على هذه الوشاية، ورد كرامتي أمام الناس.»
وأجابت جودوين: «بلا شك يا سيدتي، وما من رجل يا سيدتي تطاوعه رجولته أن يرفض عملا كهذا.»
ورأى المستر بت أن نوبة التشنج لا تزال مرفرفة توشك أن تعود، فعاد يكرر أنه سيفعل ذلك، ولكن مسز بت من فرط تأثرها بفكرة الارتياب بها، ظلت مرارا على وشك الانهيار، وكانت بلا نزاع ستعود إليه، لولا الجهود الملحة التي بذلتها جودوين، ولولا التوسلات المتكررة من جانب بت المغلوب على أمره للعفو عنه، والصفح عما كان منه. وأخيرا، حين رأت مسز بت أن ذلك المسكين قد تملكه الروع، وأنزل من عليائه إلى المستوى اللائق به، عادت فثابت إلى نفسها، ونهض الجميع لتناول طعام الفطور.
وقالت مسز بت وهي تبتسم من خلال بقايا عبراتها: «لن تدع هذه الوشاية الحقيرة التي اخترعتها تلك الجريدة تقصر من مقامك هنا يا مستر ونكل!»
وقال المستر بت: «أرجو أن لا يكون ذلك.» وهو يود في أعماق نفسه لو اختنق ضيفه بتلك القطعة من الخبز اليابس الذي كان يهم برفعها إلى فمه في تلك اللحظة، وبذلك ينهي مقامه في داره فعلا.
وأجاب المستر ونكل قائلا: «إنك لكريم يا سيدي، ولكن وصل كتاب من المستر بكوك، كما علمت من رقعة بعث بها المستر طبمن، وسلمت إلي في غرفتي هذا الصباح، وعلمت أن المستر بكوك يرجو إلينا أن نوافيه في «بري» اليوم، وإننا معتزمون السفر بالمركبة الحافلة ظهرا.»
وقالت مسز بت: «ولكنك ستعود إلينا، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «أوه، بكل تأكيد.»
وعادت تقول وهي تسترق نظرة حنونا رقيقة إلى ضيفها: «هل أنت واثق حقا؟»
وأجاب المستر ونكل: «كل الثقة.»
وانتهى الإفطار في صمت؛ لأن كل إنسان منهم كان يفكر في أمره وهمه، فكانت مسز بت متأسفة على فراق حبيب، والمستر بت على تهوره في التعهد بضرب رئيس تحرير الإنديبندنت بالسوط، والمستر ونكل على وضع نفسه بسذاجة وسلامة نية في موطن حرج.
واقترب الظهر، وبعد عدة توديعات ووعود بالإياب، انفلت المستر ونكل لا يلوي على شيء.
وقال المستر بت في نفسه، وهو يدخل المكتب الصغير الذي يعد فيه «صواعقه»: «سأدس السم له لو رجع!»
وجعل المستر ونكل يقول وهو منطلق في طريقه إلى فندق «بيكوك»: «لو عدت واختلطت بهؤلاء القوم مرة أخرى، لكنت أنا المستحق أن أضرب بالسياط، هذا هو كل ما في الأمر.»
وكان صديقاه على الأهبة، وكانت المركبة تستعد هي أيضا، فلم يمض نصف ساعة حتى انطلقوا في رحلتهم على الطريق ذاته الذي اجتازه المستر بكوك وسام في سفرتهما الأخيرة، التي قلنا من قبل شيئا عنها، ونعتقد أننا مطالبون بأن نقتطف ذلك الوصف الشعري الجميل الذي وصفها به المستر سنودجراس في مذكراته.
وكان المستر ولر واقفا بباب فندق «أنجل» على استعداد لاستقبالهما، فلما وصلوا أدخلهم على المستر بكوك، ولشد ما كانت دهشة المستر ونكل والمستر سنودجراس، بل لشد ما كان ارتباك المستر طبمن حين وجدا المستر واردل والمستر تراندل معه.
وقال الشيخ وهو يتناول يد المستر طبمن: «كيف أنت؟ لا تتراجع، ولا تبد منفعلا مضطرب العاطفة على هذا النحو؛ فليس في ذلك الأمر حيلة يا صاح، لوددت من أجلها هي لو أنك ظفرت بها، ولكني مغتبط لأنك لم تظفر بها، وهذا خير لك، إن شابا مثلك واجد خيرا من ذلك في يوم من الأيام.»
وبهذه المواساة ألقى المستر واردل يده على ظهر المستر طبمن، وأرسل من أعماق صدره ضحكة مجلجلة.
وانثنى يهز يدي المستر ونكل والمستر سنودجراس معا مصافحا، وهو يقول: «والآن كيف أنتما أيها السيدان الظريفان؟ لقد كنت اللحظة أقول للمستر بكوك إننا لا بد أن نأخذكم جميعا عندنا في عيد الميلاد؛ لأننا مقدمون على زفاف.»
وقال المستر سنودجراس، وقد ارتد وجهه شاحبا: «زفاف! زفاف حقيقي في هذه المرة!»
وأجاب الشيخ الماجن: «آه! زفاف! ولكن لا ترتعب للنبأ؛ إنه زفاف تراندل وبللا.»
وقال المستر سنودجراس، وقد استراح من شك أليم كان قد ران على صدره: «أهذا كل ما في الأمر؟ مبارك يا سيدي، وكيف حال جو؟»
وأجاب السيد الكبير: «بخير، نعسان كعهدك به.»
قال: «ووالدتك، والقسيس، والأسرة جميعا؟»
وأجاب واردل: «بخير وعافية.»
وقال المستر طبمن، وهو يجاهد نفسه مجاهدة: «وأين ... أين هي يا سيدي؟»
وأشاح بوجهه، وحجب عينيه بيديه.
وقال الشيخ: «هي!» ثم هز رأسه هزة العليم، واستتلى قائلا: «هل تعني قريبتي العزبة؟»
وأومأ المستر طبمن إيماءة توحي بأن سؤاله يراد به «راشل» الخائبة الأمل.
ومضى الشيخ يقول: «أوه، لقد ذهبت، وهي اليوم تقيم عند قريب لها يقطن موضعا بعيدا؛ لأنها لم تطق لقاء ابنتي، فتركتها تذهب، ولكن تعال، ها هو ذا الغداء مهيأ، ولا بد من أن تكون جائعا، بعد ركبتك؛ فإني جائع ولم أركب مثلك، فهلموا بنا نجلس إلى الطعام.»
وأدوا للوجبة حقها، وحين جلسوا حول المائدة، بعد أن رفعت الصحاف عنها، راح المستر بكوك وسط حنق مريديه وشدة استبشاعهم، يقص عليهم الحادث الذي وقع له، والنجاح الذي كان حليفا لمكر جنجل الخبيث الرجيم، وأحابيله النكراء.
وختم المستر بكوك قصته قائلا: «وقد أحالني النقرس الذي أصابني في تلك الحديقة أعرج في هذه اللحظة لا أستطيع المسير.»
وقال المستر ونكل وهو يبتسم: «وأنا أيضا لي واقعة حال.» وانطلق تلبية لرجاء المستر بكوك يقص قصة القذف الشنيع الذي وجهته جريدة إيتنزول المستقلة، والهياج الذي انتاب صديقهم رئيس التحرير من جرائه.
وكان جبين المستر بكوك مقطبا خلال القصة، وأدرك أصحابه ذلك عليه، فلما انتهى المستر ونكل منها، وساد السكون، انطلق المستر بكوك يضرب المائدة بجمع كفه ويقول: «أليس من غرائب الظروف ألا ندخل بيت رجل إلا ورطناه إلى حد ما، وأوقعناه في محرجة؟ بل إني لأسأل: أليس هذا دليلا على نزق أصحابي، بل على ما هو شر من ذلك وأنكى، على سواد قلوبهم؟ فتحت كل سقف يقيمون، نراهم يزعجون سكينة أنثى وادعة مطمئنة، ويفقدونها سعادتها ورغدها، أقول: أليس ...»
وأكبر الظن أن المستر بكوك كان سينطلق في هذا القول ومثله، ويمعن طويلا، لولا أن دخل عندئذ سام يحمل كتابا، فقطع عليه بدخوله فيض بلاغته.
ومسح الرجل جبينه بمنديله، وخلع منظاره، فمسح زجاجته، ثم رده إلى عينيه، وقال وقد استرد رفق لهجته، وهدوء صوته: «ما هذا الذي جئت به يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «لقد عرجت على مكتب البريد منذ لحظة فوجدت هذا الكتاب، وقد لبث فيه يومين كاملين، وهو مختوم بخاتم رسمي، ومعنون بحروف مستديرة!»
وقال المستر بكوك وهو يفض الغلاف: «لا أعرف هذا الخط، يا لله! ما هذا؟ لا بد أن يكون هذا هزلا لا جدا، لا يمكن أن يكون هذا حقيقيا!»
وسأله الجميع: «ما الخطب؟»
وقال المستر ونكل وقد فزع من الرعب الذي بدا على وجه المستر بكوك: «أنعي أحد؟ هل مات إنسان؟»
فلم يحر المستر بكوك جوابا، بل طوح بالكتاب من فوق المائدة، طالبا إلى المستر طبمن قراءته بصوت مسموع، وتراجع في مقعده، وفي عينيه نظرة دهشة تخيف من يراها.
ومضى المستر طبمن بصوت راعش يقرأ الكتاب، وكان نصه كما يلي:
المستر صمويل بكوك
تحريرا في 28 أغسطس سنة 1830
محكمة فريمان في كورنهل
الدعوى المرفوعة من باردل على بكوك
سيدي:
بناء على طلب مسز مارتا باردل بشأن رفع دعوى عليك لنكثك بوعد الزواج بها، ومطالبتك بتعويض عما أصابها، تقدره المدعية بألف وخمسمائة جنيه، نرجو أن نحيطكم علما بأنه قد صدر الإذن بالخصومة في هذه القضية من محكمة الأحوال الشخصية، ونرجو أن تتكرموا بإخطارنا برجوع البريد باسم محاميكم في لندن، حتى يتيسر لنا الاتصال به.
وتفضلوا يا سيدي بقبول وافر الاحترام.
ددسن وفج
وكان في تلك الدهشة الصامتة التي أخذ كل منهم ينظر بها إلى الجالس بجواره، وراح الجميع بها ينظرون إلى المستر بكوك كذلك - شيء أبلغ من كل قول، حتى لكأن كل منهم خشي الكلام.
وأخيرا عمد المستر طبمن إلى تبديد ذلك الصمت المستطيل، فانثنى يكرر وهو لا يدري: «ددسن وفج!»
وقال المستر سنودجراس ساهما مفكرا: «باردل وبكوك!»
وغمغم المستر طبمن، وهو شارد الفكر: «يزعجون سكينة أنثى وادعة مطمئنة، ويفقدونها سعادتها ورغدها!»
وقال المستر بكوك وقد استرد أخيرا القدرة على النطق: «هذه مؤامرة، مؤامرة دنيئة دبرها هذان المحاميان العتيدان ددسن وفج؛ لأنه من المستحيل أن تفعل مسز باردل ذلك، ولا يطاوعها قلبها على فعله، وليست لها قضية ما حتى ترفعها، هذا شيء مضحك، شيء مضحك!»
وقال المستر واردل وهو يبتسم: «أما فيما يتعلق بقلبها، فأنت بلا شك خير من يحكم، ولست أريد أن أثبطك أو أخذلك، ولكني أريد أن أقول فيما يتعلق بقضيتها أن ددسن وفج هما خير من أي أحد فينا وأعرف بأسبابها ومبرراتها.»
وقال المستر بكوك: «هذه محاولة خبيثة لابتزاز المال.»
وأجاب المستر واردل بسعلة قصيرة جافة: «أرجو أن تكون كذلك.»
واسترسل المستر بكوك يقول في حدة بالغة: «من الذي سمعني يوما أتحدث إليها إلا كما يتحدث المستأجر إلى المالكة؟ ومن الذي رآني يوما معها؟ حتى من أحد أصدقائي هنا؟»
فقاطعه المستر طبمن قائلا: «إلا في مرة واحدة.»
وهنا امتقع وجه المستر بكوك، وانطلق المستر واردل يقول: «آه، هذا شيء مهم، ولكني أعتقد أنه لم يكن ثمة ما يريب!»
وهنا نظر المستر طبمن إلى زعيمه نظرة متهيبة وقال: «لم يكن ثمة ما يريب، ولكني لا أعرف كيف حدث ما حدث، فقد كانت بلا شك مرتمية في أحضانه.»
وصاح المستر بكوك، وقد داهمته ذكرى ذلك المشهد: «يا للعجب! ويا لصنع المقادير! ما أرهب قوة الظروف! نعم، لقد كانت كذلك، لقد كانت كذلك.»
وقال المستر ونكل في شيء من الخبث: «وكان صديقنا يواسيها في محنتها وآلامها.»
وقال المستر بكوك: «كذلك، لست أنكر، حقا لقد فعلت.»
وهنا صاح المستر واردل: «ها! في قضية ليس فيها ما يريب، إن هذا ليبدو غريبا، أليس كذلك يا بكوك؟ آه! أيها الماكر!»
وانطلق يقهقه حتى اهتزت الأقداح المصفوفة فوق المنضدة الجانبية من قصف قهقهته.
وصاح المستر بكوك وهو يضع ذقنه على كفيه: «ما أرهب اجتماع الظواهر يا ونكل! وأنت يا طبمن أستميحكما صفحا عن الملاحظات التي أبديتها منذ هنيهة، فنحن جميعا ضحايا الظروف، وأنا أكبركم لها فريسة.»
وبهذا الاعتذار مضى المستر بكوك يدفن رأسه في يديه، ويستسلم لتفكير طويل، بينما جعل واردل يرسم دوائر منتظمة من الإيماءات والغمزات لأفراد الجمع الآخرين.
ورفع المستر بكوك رأسه، ودق المائدة بيده قائلا: «سأشرح ذلك كله، وسأقابل ددسن وفج، سأذهب إلى لندن غدا.»
وقال واردل: «ليس غدا، إنك شديد العرج، فلا تقوى على السفر.»
قال: «ليكن إذن اليوم الذي بعده.»
وأجاب واردل: «سيكون أول سبتمبر، وقد تعهدت لي بالخروج معنا إلى الصيد في أرض السير جفري ماننج على أية حال، أو مقابلتنا على الغداء، إذا لم تشترك في الصيد معنا.»
وقال المستر بكوك: «ليكن إذن اليوم الذي سيليه، أي يوم الخميس ... يا سام!»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي.»
قال: «احجز لنا مقعدين في المركبة العامة المسافرة إلى لندن صباح يوم الخميس، لي ولك.»
قال: «ليكن ذلك يا سيدي.»
وانصرف المستر ولر، وذهب في بطء ليؤدي مهمته، وهو واضع يديه في جيبه، وعيناه مطرقتان إلى الأرض، وراح يقول وهو يمشي الهوينى في الطريق العام: «الإمبراطور، رجل بديع، تصور وقوعه مع مسز باردل هذه، وهي أم ولد صغير، هذه هي حال أولئك العجائز دائما، لا أعتقد أنه فعل ذلك، لا أعتقد أن مثله يفعلها.»
وانطلق المستر ولر في مناجاته الأخلاقية على هذا النحو، وهو في طريقه إلى مكتب حجز التذاكر في المركبة الحافلة.
تعني الكلمة بت
إبريق أو وعاء، وقد لعب الناظم بالألفاظ فجاء بها على سبيل التورية مع كلمة
اسم الرجل.
الفصل التاسع عشر
يوم سار، ونهاية غير سارة
كانت الطيور لحسن حظها، وسكينة خاطرها، وراحتها، وطمأنينة بالها - في جهل سعيد بأمر المعدات التي كانت تعد لمباغتتها في اليوم الأول من شهر سبتمبر، فلا غرو إذا هي رحبت بمقدمه، كأجمل يوم مر عليها في ذلك الموسم، فكم من «حجلة» فتية راحت تحجل راضية مغتبطة فوق أعقاب الحصاد، وتتخطر في زهو الشباب وخيلائه، وكم من بطة كبيرة مضت ترقب نزق تلك الصغيرة بعينها المستديرة، وتنظر إليها نظرة السخرية، وترنو نحوها رنوة الحكمة والخبرة، وإن كانت هي الأخرى في جهل بمصيرها المقترب، ونهايتها المحتومة، قد مضت «تتشمس» في أنسام الصباح العليلة، فرحة مبتهجة، ثم راحت بعد بضع ساعات ترف على الأرض بأجنحتها.
ولكنا قد أخذنا نتكلف، فلنعد إلى سياق الحديث.
لقد كان الصباح - بصريح القول، وحقيقة الواقع - رائعا، بلغ من إمتاعه أنك لا تكاد تصدق أن أشهر الصيف المألوف في إنجلترا - على قلتها - قد انقضت منذ وقت قريب، فقد بدت الأسوار المقامة من العوسج، والحقول والمروج والأشجار، والربى والمستنقعات، مرسلة ظلالها المنوعة، وأفياءها الوارفة، ونضرتها المورقة، كأن ورقة منها لم تسقط، ولا أثر لصفرة الذبول قد اختلط بألوان الصيف الزاهية، حتى لا تكاد تشعر بأن الخريف قد بدأ، فقد خلا أديم السماء من السحب، والشمس تسطع فتملأ الكون ضياء ودفئا، وشدو الطير وطنين الآلاف المؤلفة من حشرات الصيف، تفعم الهواء صدحا ولحنا، والبساتين المحيطة بالأكواخ مزدحمة بالأزاهر من كل لون بهيج، تتلألأ وتبرق في الندى الكثيف كأنها اللآلئ والجواهر المتألقة ... وكل شيء يومئذ يحمل طابع الصيف، ولا تزال كل ألوانه الجميلة زاهية لم تنصل بعد.
كذلك كان مشهد الصبح حين وقفت بباب على عدوة الطريق مركبة مكشوفة، تقل ثلاثة من البكوكيين - فقد آثر المستر سنودجراس البقاء في الفندق - والمستر واردل، والمستر تراندل، بينما اتخذ سام ولر مجلسه بجانب السائق، وكان بالباب حارس صيد فارع القامة معروق البدن، وغلام يكاد يكون منتعلا نصف انتعال، وقد لف بأغطية من الجلد ساقيه الصغيرتين، وقد حمل كل منهما حقيبة رحيبة الجوانب، ومعهما كلبان.
وهمس المستر ونكل لواردل، حين جاء الرجل فأنزل سلم المركبة لينزل الجمع منها: «هل تراهما يظنان أننا سنقتل من الطير ما يكفي ليملأا هاتين الحقيبتين؟»
فصاح الشيخ واردل قائلا: «يملأهما! أي نعم، بارك الله فيك، أنت تملأ واحدة، وأنا أملأ الأخرى، فإذا امتلأتا، فإن جيوب «السترة» تتسع لمزيد.»
ونزل المستر ونكل من المركبة دون أن يحير جوابا عن هذه الملاحظة، ولكنه مضى يحدث نفسه قائلا: إنه إذا بقيت الجماعة في الهواء الطلق حتى ينتهي هو من ملء إحدى الحقيبتين، فسوف لا ينجو القوم في الغالب من وعكة برد تصيب منهم الرءوس والصدور.
وانثنى واردل يلاطف الكلبين صائحا: «هي جونو، يا حبيبة، وأنت يا داف انزل، انزل.» ثم التفت إلى الحارس فقال: «لا يزال السير جفري في إسكوتلندا بالطبع يا مارتن، أليس كذلك؟»
فأجاب الحارس المديد القامة بالإيجاب، ومضى ينظر في شيء من الدهشة إلى المستر ونكل، وهو ممسك ببندقيته كأنه يتمنى لو أغنى جيب ردائه عنه مئونة جذب الزناد، ثم إلى المستر طبمن وهو ممسك ببندقيته هو الآخر كأنه منها الخائف المشفق، ولم يكن ثمة شك مطلقا في أنه كان فعلا كذلك.
ولاحظ المستر واردل نظرته فقال: «إن صديقي هذين لم يتقنا هذا النوع من الصيد بعد، وأنت تعرف المثل القائل: «من يعش ير»، وسوف يحسنان الرماية في يوم من الأيام، وأعتذر مع ذلك للمستر ونكل، فقد جرى له شيء من التمرين قبل الآن.»
فابتسم المستر ونكل ابتسامة خفيفة من فوق غطاء رقبته الأزرق اللون، ردا على هذه «التحية»، وارتبك في حمل بندقيته أشد الارتباك، من فرط حيائه، بحيث لو كانت محشوة لخر مجندلا منها لساعته.
وقال الحارس المديد القامة: «لا ينبغي لك أن تمسك البندقية بهذا الشكل، حين تكون محشوة يا سيدي، وإلا فاللعنة علي في كل كتاب إذا أنت لم تصنع لحما باردا من أحد منا هنا.»
وبادر المستر ونكل عقب هذه النصيحة إلى تغيير وضع البندقية، فجعل الماسورة بعد كل محاولة بذلها تكاد تمس رأس المستر ولر، فصاح هذا وهو يلتقط القبعة، وكانت قد انقلبت من فوق هامته، قائلا وهو يفرك صدغه: «ها! ها يا سيد، إذا أنت أدرتها إلى هذه الناحية، فستملأ إحدى هاتين الحقيبتين، وأكثر منها برصاصة واحدة!»
وضحك الغلام الملفف الساقين بالجلد ضحكة عالية مرحة، ثم تظاهر بأن أحدا سواه هو الذي ضحك، وعندئذ عبس المستر واردل عبسة ذات رهبة وجلال.
وانثنى يسأل الحارس: «أين قلت للغلام أن يقابلنا ومعه قليل من الطعام يا مارتن؟»
وأجاب الحارس: «بجانب «ون تري هل» (التل ذي الشجرة الواحدة) يا سيدي في الساعة الثانية عشرة.»
قال: «ليست هذه أرض السير جفري، أليس كذلك؟»
وأجاب الحارس: «بلى يا سيدي، ولكنها قريبة منها، إنها أرض الضابط بولدويج، ولكننا لن نجد أحدا يعترضنا، وهناك أيضا موضع معشب جميل.»
قال: «حسن جدا، والآن من الخير أن نبادر، ألا توافينا في الثانية عشرة إذن يا بكوك؟»
وكان المستر بكوك يشتهي فعلا مشاهدة الصيد، ولا سيما أنه كان يشعر بشيء من القلق على حياة المستر ونكل وأوصاله، وكان من المؤلم حقا، في صباح مغر كهذا شديد الفنتة، أن يرفض الدعوة، ويترك صديقيه يستمتعان وحدهما، ولهذا راح يجيب بلهجة جدية قائلا: «سأفعل حتما.»
وسأل الحارس: «أليس السيد صيادا يا سيدي؟»
وقال واردل: «كلا، ثم هو أعرج لا يقدر على الحركة.»
وقال المستر بكوك: «أود كثيرا أن أذهب معكم، كثيرا جدا.»
وساد السكون لحظة أسفا ورثاء للشيخ في ملمته.
وقال الغلام: «إن على الجانب الآخر من السور عربة تدفع باليد، فلو تيسر لخادم السيد أن يدفع بها على طول الدرب، لاستطاع البقاء منا على كثب، ونحن في إمكاننا أن نرفعها من فوق الحواجز وأمثالها.»
وقال المستر ولر بوصفه الشخص المقصود، ولرغبته الشديدة في مشاهدة الصيد: «هذا هو المطلوب تماما، وعين الجد، أحسنت يا ذا الخد الصغير، سأخرجها من مكانها في الحال، دقيقة واحدة.»
ولكن هنا ظهرت صعوبة، فإن ذلك الحارس المديد احتج بقوة على إشراك سيد محمول على عجلة يد في رحلة صيد، قائلا: «إن هذا عمل مخالف لجميع القواعد المرعية والسوابق الماضية، مخالفة صارخة!»
وكان هذا الاعتراض حائلا كبيرا، ولكن لم يكن بالمتعذر التغلب عليه، فإن الحارس بعد أن لوطف وأشبع، وأرضى خاطره أيضا بلكز الغلام المبتكر الذي اقترح الاستعانة بتلك الأداة، في رأسه عدة لكزات، لم يسعه سوى السكوت، فحمل المستر بكوك فوق العربة، وانطلق الجمع، وفي المقدمة واردل والحارس الطويل، وفي الساقة جلس المستر بكوك في المركبة، وتولى سام دفعها إلى الأمام.
ولم يكد الجميع يجتازون نصف الميدان الأول حتى صاح المستر بكوك قائلا: «قف يا سام!»
وقال واردل: «ماذا جرى؟»
فأجاب المستر بكوك بلهجة العزم الشديد: «لن أدع هذه العربة تتحرك خطوة واحدة، إذا لم يحمل ونكل بندقيته بشكل آخر.»
وقال ونكل المسكين: «بأي شكل أحملها؟»
وأجاب المستر بكوك: «احملها بحيث توجه فوهتها إلى الأرض.»
وقال ونكل: «ولكن حملها هكذا لا يتفق وقواعد الصيد!»
وأجاب المستر بكوك: «لا يهمني ألا يتفق مع قواعد الصيد أو يتفق معها، فلست أريد أن أصاب بالرصاص وأنا محمول في عربة يد مراعاة للمظاهر، وإرضاء لأحد.»
وقال الرجل الطويل مزمجرا: «أنا عارف أن هذا السيد سيطلق القذيفة على أحد منا قبل أن يدري ما هو صانع.»
وقال المستر ونكل، وهو يجعل فوهة البندقية إلى الأرض: «حسن، حسن، لا مانع!»
وقال المست ولر: «أي شيء يكفل لنا الأمان، فالحياة لا يستهان بها.»
وانطلقوا.
ولكنهم لم يسيروا غير بعيد حتى صاح المستر بكوك مرة أخرى: «قف!»
فقال واردل: «ما الذي جرى أيضا؟»
وأجاب المستر بكوك: «إن بندقية طبمن ليست في وضع سليم ... أعرف أنها ليست كذلك.»
وقال المستر طبمن في فزع شديد: «إيه؟ ماذا؟ ليست في وضع سليم؟»
وقال المستر بكوك: «ما دمت ممسكا بها على هذا النحو، إنني آسف على إثارة أية اعتراضات أخرى، ولكني لا أرضى أن نتابع المسير ما لم تجعلها كما حملها ونكل من قبلك.»
وقال الحارس المديد: «أظن يا سيدي من الخير أن تفعل؛ لأنه من المحتمل كثيرا أن تطلق الرصاصة على نفسك، أو على أحد سواك.»
وبادر المستر طبمن إلى النزول على الأمر، فوضع بندقيته على الصورة المطلوبة، وتابع الجمع المسير، وكان الصائدان «الهاويان» يمشيان منكسي السلاح، كجنديين بسيطين في جنازة ملكية.
وعندئذ وقف الكلبان فجأة لا يريدان تقدما، وتسلل القوم خطوة واحدة، ثم وقفوا هم كذلك.
وهمس المستر ونكل متسائلا: «ما الذي عرا سيقان الكلبين؟ وما هذه الوقفة الغريبة؟»
وأجاب واردل مخافتا: «صه! ألا تستطيع السكوت؟ ألا ترى كيف يشيران؟»
وقال المستر ونكل وهو يتلفت حوله كأنما كان يتوقع شيئا معينا، من جمال المشهد وروعته كان الكلبان الذكيان يسترعيان الأنظار إليه خاصة: «أتقول يشيران ... وإلى أي شيء يشيران؟»
وقال واردل غير ملق بالا إلى هذا السؤال في حماسة اللحظة: «افتح عينيك، والآن!»
وارتفعت عندئذ جلبة، وسمع رفيف طائر جعل المستر ونكل يتراجع كأنما قد أصابه الرصاص، وانبعث دوي طلقتين ... بانج! بانج! ... وانجاب الدخان سريعا مكتسحا الميدان، مقلوبا متجعدا في جوف الأفق.
وقال المستر ونكل في أشد الاضطراب، وهو يتلفت ويدور في كل ناحية: «أين هي؟ قولوا لي متى أطلق النار؟ أين هي؟ ... أين هي؟»
وقال واردل، وهو يتناول حجلتين وضعهما الكلبان عند قدميه: «ها هما!»
وقال ونكل في ذهلته: «كلا، كلا إنني أقصد الأخرى.»
وأجابه واردل ببرود وهو يعيد حشو البندقية: «طارت بعيدا، وأنت تسأل عنها.»
وقال الحارس الطويل: «أكبر ظني أننا سنلتقي بعد خمس دقائق بسرب آخر، فإذا بدأ السيد يطلق الآن، فلعله مستطيع أن يخرج الرصاصة من الأنبوبة عندما تتراءى الأطيار في الفضاء.»
وقهقه المستر ولر لهذه النكتة اللاذعة.
وقال المستر بكوك، في لهجة الرثاء لصاحبه في اضطرابه وارتباكه: «يا سام!» - «سيدي.» - «لا تضحك.» - «بلا شك يا سيدي.»
ومضى المستر ونكل على سبيل التعويض عن ارتباكه السابق، يقطب تقاطيع وجهه من خلف عربة السيد، والغلام ذو الأربطة فرح لاه بهذا المشهد وحده، ولكنه لم يتمالك من إطلاق ضحكة مدوية، فبادر الحارس الطويل إلى لكزه كأن هذا اللكز حجة أو شفيع يبرر استدارته إلى الوراء، ليخفي ضحكاته هو من ذلك المشهد العجيب.
وقال واردل للمستر طبمن: «مرحى يا صاح، لقد أطلقت النار في هذه المرة على كل حال.»
وأجاب المستر طبمن في زهو ظاهر: «أي نعم!»
وقال واردل: «أحسنت ، وستصيب شيئا في المرة التالية إذا انتبهت، سهل جدا، أليس كذلك؟»
فأجاب طبمن: «بلى ... سهل للغاية، وإن كانت موجعة للكف، لقد كادت تلقيني إلى الخلف، لم أكن أتصور أن هذه الأسلحة الصغيرة ترد المرء إلى الخلف على هذا النحو.»
وقال الشيخ مبتسما: «آه! ستعتادها مع الوقت، والآن هيا، كل شيء على استعداد، والعربة معدة هي الأخرى؟»
وقال المستر ولر: «معدة يا سيدي.» - «هلموا إذن.»
وقال سام وهو يرفع العربة: «امسك جيدا يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «إيه! إيه!»
وانطلقوا خفافا في طريقهم.
وصاح المستر واردل حين رفعت العربة من فوق أحد الأسوار! لتدخل ميدانا آخر، وعاد المستر بكوك فاستقر فوقها: «دعوا هذه العربة تقف الآن إلى الخلف.»
وكف المستر ولر عن دفعها وهو يقول: «سأفعل يا سيدي.»
والتفت الشيخ إلى ونكل فقال: «والآن يا ونكل، اتبعني متسللا، ولا تتأخر كثيرا في هذه المرة.»
وقال المستر ونكل: «لا تخف أبدا، هل هما يشيران؟»
وأجاب الشيخ: «كلا! كلا! ليس الآن! فلنسكت اللحظة، ولنهدأ قليلا.»
وتسللوا، وكانوا على وشك أن يتقدموا في هدوء وسكينة، لو لم يعبث المستر ونكل ببندقيته، ويأت ببعض الحركات المعقدة الدقيقة، فيطلق النار في أحرج لحظة، من فوق رأس الغلام القصير، في ذلك الموضع بالذات الذي كان رأس الحارس الطويل سيكون فيه، لو أنه كان واقفا في البقعة التي وقف الغلام فيها.
وصاح الشيخ واردل قائلا: «لماذا بالله فعلت هذا؟» وقد رأى الطير تفر آمنة ليس عليها من سوء.
وأجاب ونكل المسكين، وهو ينظر إلى قفل البندقية، كأن النظر إليها يجدي: «لم أر بندقية كهذه في حياتي، إن رصاصها ينطلق من تلقاء ذاته، وستفعل هذا حتما.»
وصاح واردل في شيء من القلق والهياج: «ستفعل هذا حتما! أتمنى لو أنها قتلت شيئا، ومن تلقاء ذاتها أيضا!»
وقال الحارس الطويل بصوت خفيض، ولهجة المتنبئ: «لن يمضي وقت طويل يا سيدي حتى تفعل هذا.»
وأجاب المستر ونكل بغضب: «ماذا تعني يا سيدي بهذه الملاحظة؟»
وقال الحارس: «لا بأس، يا سيدي، لا بأس ، أنا لست متزوجا ولا رب أسرة، وهذا الغلام الذي هنا ستأخذ أمه تعويضا حسنا من السير جفري إذا هو قتل في أرض صيده، أعد حشو بندقيتك يا سيدي، أعد حشوها.»
وصرخ المستر بكوك من جانب العربة، وقد ريع من تلميحات ذلك الحارس، وإشاراته المؤلمة: «خذوا منه هذه البندقية، ليأخذها منه أحد منكم، هل تسمعون ما أقول؟»
ولكن لم يتطوع أحد لتنفيذ أمره، وأما المستر ونكل فقد أرسل نظرة متمردة ثائرة إلى المستر بكوك، وأعاد حشو بندقيته، وانطلق مع الآخرين.
ونجد لزاما علينا أن نقول استنادا إلى مذكرات المستر بكوك، أن تقدم المستر طبمن مع الجمع كان أدنى إلى الحكمة والحذر والروية، من الطريقة التي اتبعها المستر ونكل، ولكن هذا لا ينقص بحال من فضل هذا السيد، وعلمه بكل ما يتصل بالصيد وفنونه، فقد رأينا - كما قال المستر بكوك فأحسن القول - أن خلقا كثيرا من أفضل الفلاسفة وأقدرهم، منذ أبعد القرون والأجيال، كانوا في زمانهم منارات عليا في العلم، من الناحية النظرية، ولكنهم عجزوا كل العجز عن تطبيق نظرياتهم من الوجهة العملية.
فقد كانت طريقة المستر طبمن متناهية في البساطة، كشأن كثير من أكبر المكتشفات، فقد أدرك في الحال بسرعة الرجل العبقري وحيطته أن أهم ما ينبغي تحقيقه من الأهداف في الصيد نقطتان: الأولى أن يطلق بندقيته بحيث لا يحدث أذى لنفسه، والثانية أن يطلقها بحيث لا يتعرض أحد من النظارة للخطر. ومن الجلي أن الوسيلة المثلى - بعد التغلب على صعوبة الإطلاق في ذاته - هي إغماض عينيه كل الإغماض، وإطلاق الرصاص في الفضاء.
وقد حدث في إحدى المرات، بعد أن أغمض المستر طبمن عينيه وأطلق النار، ثم فتحهما، أن أبصر بطة سمينة، وهي تسقط جريحة على الأرض، فهم بأن يهنئ المستر ونكل بنجاحه المطرد، ولولا أن رآه يتقدم نحوه، ويمسك يده بحرارة.
وقال الشيخ: «لقد سددت يا طبمن الرماية إلى تلك الحجلة بالذات!»
وأجاب المستر طبمن: «كلا! كلا!»
قال: «بل لقد فعلت، وقد رأيتك بعيني رأسي، ولاحظت أنك صوبت إليها دون سواها، لقد رأيت ذلك بنفسي، وشاهدتك وأنت ترفع البندقية لتسدد الرمية، وأريد أن أقول لك الحق: إن أبرع الرماة في العالم كله لم يكن في استطاعته أن يفعل أكثر مما فعلت، ولا أجمل رماية مما رميت، إنك لأبرع مما كنت أظن يا طبمن، هل سبقت لك في الصيد سابقة؟»
وقد حاول المستر طبمن الاحتجاج، وهو يبتسم ابتسامة الإيثار وإنكار الذات، ويقول: إنه لم يشترك في الصيد من قبل، فلم يجد الإنكار نفعا، بل لقد اتخذت تلك الابتسامة دليلا على العكس، ومن تلك اللحظة توطدت شهرته في عالم الصيد، ولم تكن تلك الشهرة هي الوحيدة التي نالها بهذه السهولة، ولا كانت الظروف السعيدة الموفقة مقتصرة على صيد البط دون سواه.
أما المستر ونكل فقد ظل يرسل الشهب والنيران والدخان، دون الوصول إلى أية نتائج مادية تستحق الذكر، بل راح أحيانا ينفق «الرش» في الفضاء، وأحيانا يطلقه ماسحا به سطح الأرض مسحا، يعرض حياة الكلبين لخطر بالغ، فكان إطلاق الرصاص على تلك الصورة منوعا كل التنويع، وغريبا كل الغرابة، إذا نظرنا إليه على أنه معرض لهو وعبث، ولكنه من ناحية الرماية إلى هدف معين، قد يكون في الجملة إخفاقا، ولا يخفى أن المثل السائر يقول: «لكل رصاصة مستقر»، فإن طبقناه على رصاصات المستر ونكل، بدا لنا أنها لم تكن سوى رصاصات «لقيطة» تعسة محرومة من حقوقها الطبيعية، ألقيت إلى هذا العالم إلقاء، فلم تجد مستقرا.
وتقدم المستر واردل إلى جانب المركبة، ومسح العرق المتصبب من وجهه الأحمر المرح، وهو يقول: «كيف الحال؟ إنه ليوم «صائف»، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك: «إنه لكذلك حقا، إن الشمس لحارة أشد ما تكون حرارتها، حتى بالنسبة لي، وأنا الجالس لا حراك بي، لست أدري كيف تشعر بها أنت؟»
وقال السيد الكبير: «حارة جدا، من غير شك، وقد تجاوزت الساعة اثنتي عشرة، أتبصر تلك الربوة الخضراء التي تلوح هنالك؟» - «بلا شك.» - «هذا هو الموضع الذي سنتناول فيه الغداء، يمين الله، ها هو ذا الغلام قد حضر بالسلة في الموعد المضروب، كأنه الساعة في دقتها.»
وتهللت أسارير المستر بكوك، ومضى يقول: «حقا إنه لكذلك، يا له من غلام طيب ... سأنفحه شلنا في الحال، يا سام، هيا، ادفع العربة.»
وقال المستر ولر، وقد جددت من قواه أخيلة الغداء، وقرب تناوله: «امسك جيدا يا سيدي، وأنت يا صاحب الأربطة، أفسح الطريق، ولا تقلبني إن كنت تقدر حياتي الغالية، كما قال ذلك السيد للسائق، وهم يسوقونه إلى طايبرن.»
1
وانطلق يسرع في خطوه، ويدفع عربة سيده بخفة نحو الربوة النضيرة، حتى وقف بها بجانب السلة تماما، وأقبل يخرج ألوان الطعام منها في سرعة فائقة، وجعل يناجي نفسه، وهو يصف الأطعمة فوق الحشائش: «فطير بلحم العجول، هذا صنف بديع جدا، حين تعرف السيدة التي طهته، وتتأكد أنه ليس لحم قطط، وماذا يهم إذا كان أقرب ما يكون شبها إلى لحم العجول، حتى لا يعرف صناع الفطائر أنفسهم الفرق بين اللحمين!»
وقال السيد بكوك: «أحقا لا يعرفون يا سام؟»
وأجاب المستر ولر، وهو يلمس قبعته: «كلا يا سيدي، لا يعرفون فعلا، فقد كنت في يوم ما أسكن مع صانع فطير في مسكن واحد يا سيدي، وكان الرجل لطيفا، ملء ثيابه لطافة، ورجلا مجتهدا منتظما في معيشته أيضا، يستطيع أن يصنع فطيرا من أي شيء كان، قلت له حين تأكدت الصداقة بيننا: كم من القطط تقتني يا مستر بردكس؟ قال: آه ... إني أقتني كثيرا منها. قلت: لا بد من أنك مولع جدا بالقطط. فغمز لي بعينه، وقال: كثير من الناس يربون قططا، ولكنهن لا موسم لهن متى ينقضي الشتاء. قلت: لا موسم لهن، كيف؟ قال: نعم، إن للفواكه موسما، ولكن القطط خارج الموسم! قلت: عجبا! ماذا تعني؟ قال: أعني! أعني أنني لن أتآمر مع الجزارين على تثبيت أسعار اللحوم! وراح يضغط بشدة، ويهمس لي في أذني قائلا: يا مستر ولر، أرجو ألا تذكر ما سمعته هنا أبدا، إن الموسم هو الذي له دخل في هذا كله، إن هذه الفطائر تصنع كلها من هذه الحيوانات النبيلة - ومضى يشير إلى قطة لطيفة صغيرة - وأنا أقدد لحومها لصنع شطائر محمرة من لحم العجول الكبيرة والكلى حسب الطلب، وفوق ذلك أستطيع أن أصنع من لحم العجول الصغير شطائر محمرة، أو من الشطائر «كلاوي»، أو من هذا أو ذاك لحم ضأن في دقيقة واحدة، حسب أحوال السوق والأذواق تختلف!
وقال المستر بكوك وهو يرتعش ارتعاشة خفيفة: «لا بد من أن هذا الرجل كان شابا بارعا ماهرا يا سام.»
ومضى المستر ولر يقول وهو ماض في تفريغ السلة: «فعلا يا سيدي، وكانت فطائره جميلة، ماذا أرى؟ لسانا، هذا صنف بديع، إذا لم يكن لسان امرأة، وهذا خبز، وهذا لحم خنزير مملح بديع، قطع صغيرة من اللحم البارد، مفتخر! وماذا في هذه القدور الفخارية يا هذا؟»
وأجاب الغلام وهو ينزل عن كتفه قدرين كبيرتين من الفخار، مربوطتين بسير من الجلد: «في هذه القدر «بيرة»، وفي الأخرى «بنتش» بارد.»
وقال المستر ولر وهو يستعرض ترتيب الأطعمة بسرور شديد: «إنه لغداء شهي في مجموعه، والآن أيها السادة اهجموا! اهجموا! كما قال الإنجليز للفرنسيين حين ثبتوا الحراب في البنادق.»
ولم يكن القوم بحاجة إلى دعوة ثانية ليؤدوا لهذه الوجبة حقها، ولم يكن المستر ولر، وذلك الحارس المارد، والغلامان الآخران ينتظرون من يدعوهم إلى الجلوس فوق العشب على مسافة قصيرة، والانقضاض على نصيب طيب من اللحوم، وكانت من فوقهم شجرة سرو كبيرة تغمرهم بظل وارف، ويحيط بهم مشهد ممتع تترامى فيه حيالهم المروج والحقول، وتتخلله أسوار وحواجز كثيرة من عوسج نضير.
وأنشأ المستر بكوك يقول، وقد أخذت بشرة وجهه البليغ في تعبيره تتقشر سريعا من أثر التعرض للهواء: «هذا مشهد بهيج! بهيج كل البهجة!»
وأجاب واردل: «هو كذلك، هو كذلك يا صاح، هيا، كأسا من بنتش؟»
2
وقال المستر بكوك: «بكل سرور.» وكان البشر الذي طفح على وجهه بعد تناول الشراب، دليلا على صدق جوابه، وانثنى يقول وهو يمسح بلسانه شفتيه: «بديع! ممتع للغاية! سأتناول كأسا أخرى، إنه لرطب، رطب جدا! هلموا يا سادة، لنشرب نخب أصدقائنا في دنجلي ديل.»
وراح يصب الشراب من القدر، وهو لا يفارقها.
وشرب النخب وسط صيحات عالية.
وقال المستر ونكل، وهو يأكل خبزا ولحم خنزير بمطواة جيب: «سأقول لكم: ماذا أنا صانع للعودة إلى الصيد، سأضع بطة محشوة فوق قمة أحد الأعمدة، وأتدرب على رميها، مبتدئا من مسافة قصيرة، ثم آخذ في إطالتها شيئا فشيئا، وأعتقد أن هذا تدريب بديع!»
وقال المستر ولر: «إنني أعرف سيدا فعل ذلك يا سيدي، مبتدئا بياردتين، ولكنه لم يعد إلى هذه التجربة أبدا؛ لأنه من الطلقة الأولى نسف الطائر نسفا، فلم ير أحد له ريشا بعد ذلك.»
وقال المستر بكوك: «يا سام!»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي.»
قال: «من فضلك احتفظ بنوادرك حتى يطلب إليك.» - «بلا شك يا سيدي.»
وهنا غمز المستر ولر بعينه غمزة لم يخفها وعاء الجعة الذي كان يرفعه إلى شفتيه بلذة متناهية، فلم يسع الغلامين غير الانطلاق معا في الضحك، كما تفضل الرجل الطويل فابتسم.
وقال المستر بكوك، وهو ينظر بجد إلى تلك القدر: «إن هذا البتش السائغ فاخر بلا شك، واليوم قائظ مفرط القيظ، وأنت يا طبمن يا صديقي العزيز، ألك في كأس أخرى منه؟»
وأجاب المستر طبمن: «بأعظم السرور.» وبعد أن شرب المستر بكوك الكأس تناول أخرى؛ لكي يتبين هل في «البنتش» قشر برتقال؛ لأن قشر البرتقال لا يوافق معدته دائما، ولما لم يجد فيه أثرا له، تناول كأسا أخرى في صحة صديقهم الغائب، ثم وجد نفسه مضطرا حتما إلى شرب نخب صانع البنتش، ومقطره «المجهول».
وما لبثت الكئوس المتوالية أن أحدثت أثرا كبيرا في نفس المستر بكوك؛ فطفح محياه بشرا ظاهرا، وابتساما كثيرا، وضحكا متتابعا حتى بدت نواجذه، ومرحا شديدا يبرق في عينيه، وأخذ يستسلم شيئا فشيئا لحميا الشراب، وبطشة الصهباء، وزاده اشتداد الهجير استسلاما، فأبدى رغبة قوية في تذكر أغنية كان قد سمعها في طفولته، ولكنه لم يستطع أن يتذكرها، فالتمس تنبيهها واحتثاثها بكئوس أخرى من «البنتش»، تبين أنها أحدثت عكس التأثير الذي كان يريده منها ، فبعد أن نسي كلمات تلك الأغنية، بدأ ينسى النطق بأي كلام إطلاقا، وأخيرا، وبعد أن تحامل على ساقيه ليخطب القوم، ويسمعهم كلاما بليغا، سقط في العربة، وراح في سبات عميق في اللحظة ذاتها.
وبعد أن أعيدت الصحاف إلى السلة، وتبين أنه من المتعذر تماما إيقاظ المستر بكوك من نعاسه الشديد، أخذ القوم يبحثون هل كان يحسن بالمستر ولر أن يدفع العربة التي تقل سيده لمواصلة المسير، أو أن من الأفضل أن يتركوه حيث هو، حتى يعودوا إليه، وتقرر أخيرا الأخذ بالخطة الثانية، ولم تكن بقية الرحلة لتتجاوز الساعة، وقد ألحف المستر ولر في مرافقة الجماعة، فصحت النية على ترك المستر بكوك نائما في العربة، والعودة إليه بعد الفراغ من الصيد، وانطلقوا بعد أن تركوه يغط هادئا مستريحا في الظل كما يشاء ويشاء له الغطيط.
والظاهر أن ليس ثمة سبب معقول للشك في أن المستر بكوك سيظل في غطيطه تحت الظلال حتى يئوب إليه أصحابه، أو حتى ترتمي ظلال المساء على المروج، إذا هم تخلفوا عن الأوبة إليه، ما دمنا نتصور أنه قد ترك في ذلك الموضع بأمان، ولكنه لم يترك في أمان فعلا، وإليك السبب.
كان الضابط بولدويج رجلا قصير القامة شديد البطش، يرتدي ثوبا سابغا أزرق اللون، وغطاء رقبة أسود، وإذا تنزل يوما من عليائه ليتجول في رحاب أرضه، حمل معه عصا غليظة من الخيزران ذات كعب من نحاس، واصطحب بستانيا، وصبي بستاني يبدو الحلم على وجهيهما، وتلوح الوداعة على سحنتيهما، وكان الضابط بولدويج يصدر إليهما - لا إلى العصا - الأوامر في عظمة وغلظة، وكانت داره مغنى جميلا، وأرضه بساتين وساحات صيد، وكل شيء حوله رفيع وجليل وعظيم.
ولم يقض المستر بكوك في ذلك السبات الذي استولى عليه غير نصف ساعة، حتى أقبل الضابط بولدويج يتبعه البستانيان، مسرعا على قدر ما يواتيه حجمه، ويليق بخطر شأنه، وحين اقترب من السروة الظليلة تمهل في مسيره، وأخذ نفسا مستطيلا، ونظر إلى ذلك المشهد، كأنما كان يعتقد أن المشهد ذاته أولى به أن يتشرف بأنه قد استرعى انتباهه، ثم راح يضرب بعصاه الأرض، وينادي البستاني قائلا: «هنط!»
وأجاب البستاني: «نعم يا سيدي.» - «حش هذا الموضع صباح غد، هل أنت سامع يا هنط؟» - «نعم يا سيدي.» - «واعتن بتنظيفه لي وتنظيمه، هل أنت سامع يا هنط؟» - «نعم يا سيدي.» - «وفكرني في صنع لافتة خشبية لتحذير العامة من دخول هذه الأرض، وطلب الصيد فيها، وما إلى ذلك، أأنت سامع؟ أأنت سامع؟» - «لن أنسى ذلك يا سيدي.»
وتقدم الآخر، ويده مرفوعة إلى قبعته فقال: «أستمحيك المعذرة يا سيدي.»
وقال الضابط بولدويج: «إيه يا ولكنز، ما حكايتك؟» - «أستميحك المعذرة يا سيدي، ولكني أعتقد أنه كان هنا اليوم متعدون يطلبون صيدا.»
وقال الضابط بولدويج مزمجرا، وهو يدير عينيه في المكان: «ها!» - «نعم يا سيدي، وأحسبهم تناولوا غداءهم هنا يا سيدي.»
وقال الضابط بولدويج، وقد وقعت عينه على الفتات والفضلات المتناثرة فوق الحشائش: «ما أوقحهم، وأشد جرأتهم! أحسبهم قد فعلوا، والواقع أنهم قد التهموا طعامهم هنا!»
ومضى يقول في حنق، وهو يشدد قبضته على عصاه الغليظة: «ليتني رأيت هؤلاء المتشردين هنا!»
وقال ولكنز: «عفوا يا سيدي ولكن ...»
وزأر الضابط قائلا: «ولكن ماذا؟»
وأتبع عينيه نظرات ولكنز الخائفة، فوقعتا على العربة والمستر بكوك.
وقال الضابط وهو يلكز المستر بكوك عدة لكزات بعصاه: «من تكون أيها الشقي؟ وما اسمك؟»
وغمغم المستر بكوك قائلا: «بنتش بارد!» وراح في النوم مرة أخرى.
وصاح الضابط بولدويج: «إيه؟»
ولكنه لم يتلق جوابا.
وسأل الضابط تابعيه: «ما هو الاسم الذي قاله؟»
وأجاب ولكنز: «أظنه قال بنتش يا سيدي.»
وقال الضابط بولدويج: «هذه وقاحته، هذه وقاحة اللعين، إنه يتظاهر الآن بالنوم، إنه سكران، رجل من السوقة طافح خمرا، ابعده بعربته يا ولكنز، أسرع بإبعاده من وجهي، هيا ادفعه.»
وقال ولكنز بخوف شديد: «إلى أين يا سيدي؟»
وأجاب الضابط بولدويج: «إلى الشيطان!»
وقال ولكنز: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وقال الضابط: «قف!»
فامتثل البستاني للأمر.
وقال الضابط: «ادفع به، ادفع به إلى الحظيرة، ودعنا نر هل سيدعو نفسه بنتش حين يفيق، لا أريد أن أتنكد بسببه، هيا، ادفع به.»
ودفع المستر بكوك امتثالا لهذا الأمر القاهر، وانطلق الضابط بولدويج الجبار في طريقه متورما منتفخا من سورة الغضب.
ولشد ما كانت دهشة الجماعة حين عادوا فلم يجدوا المستر بكوك في الموضع الذي تركوه فيه، وبدا لهم أنه أخذ العربة معه، فقد كان ذلك أغرب شيء سمع الناس به، وأشد شيء غموضا واستغلاقا على الأفهام، فإن نهوض رجل أعرج مستويا على ساقيه بلا سابق إنذار، وانصرافه من ذلك الموضع قد يكون حادثا خارقا للمألوف إلى أبعد الحدود، أما أن يتمكن من دفع عربة ثقيلة أمامه، على سبيل العبث والتسلية، فشيء يبلغ قطعا حد المعجزات.
ومضوا ينقبون في كل ركن، ويبحثون في كل زاوية، آحادا ومجتمعين، ويصيحون بأعلى أصواتهم، ويطلقون الصفير والضحكات، وينادون باسمه، ولكن كانت النتيجة واحدة، وهي الفشل في العثور عليه، وبعد بحث لا جدوى منه بضع ساعات انتهوا إلى قرار أليم، وهو أن يعودوا أدراجهم يائسين.
وكان المستر بكوك عندئذ قد نقل بعربته إلى الحظيرة، وترك في أمان، وهو لا يزال مستغرقا في النوم، ولشد ما كان فرح أولاد القرية، بل ما كان أشد سرور ثلاثة أرباع أهلها، وقد احتشدوا من حول الحظيرة؛ منتظرين حتى يروه صاحيا من النوم. وإذا كان مجرد رؤيتهم إياه وهو مدفوع إليها فوق العربة قد أثار في نفوسهم أشد السرور، فما بالك بفرحهم وابتهاجهم حين يشهدونه، بعد بضع نداءات غير واضحة: «يا سام!» قد استوى جالسا في العربة، وراح ينظر وهو في دهشة لا توصف إلى الوجوه المترائية لعينيه، لقد كان فرحهم في تلك اللحظة بلا شك أضعافا مضاعفة، وكانت الصيحة العامة بالطبع هي الإشارة بأنه قد صحا من النوم، وجاء تساؤله بالضرورة: «ما الخبر؟» فكان مدعاة إلى صيحة أشد من الأولى، إن أمكن أن يكون بعد الأولى ما هو أشد منها.
وصرخ النظارة: «ما أعجبه من منظر!»
وصاح المستر بكوك: «أين أنا؟»
وأجاب الغوغاء: «في الحظيرة.» - «كيف جئت إلى هنا؟ وماذا كنت أفعل؟ ومن أين جيء بي؟ ...»
فكان الرد الوحيد: «بولدويج ... الضابط بولدويج.»
وعاد المستر بكوك يصيح: «أخرجوني، أين خادمي؟ وأين أصحابي؟»
وصاح الناس به: «لا أصحاب لك، مرحى!»
وألقى بعضهم عليه لفتة، ورشقه آخرون بقطعة من البطاطس، وترامت إليه بيضة، وبضعة رموز أخرى، وأدلة على فرح القوم وانبعاثهم إلى المداعبة والعبث.
وليس في استطاعة أحد أن يقول إلى متى كان هذا المشهد سيطول، أو إلى أي حد كان المستر بكوك سيعاني من عبث العابثين، لو لم تقف فجأة عربة كانت مسرعة بقرب ذلك الموضع، وينزل منها الشيخ واردل وسام ولر، وينطلق أولهما مسرعا، فيصل إليه في أقل مما تستغرقه كتابة هذه السطور، إن لم نقل قراءتها، ويحمله إلى المركبة، بينما كان الآخر قد انتهى من الجولة الثالثة والأخيرة في معركة منفردة بينه وبين شماس القرية.
وصاحت عدة أصوات تقول: «نادوا المأمور!»
ووثب المستر ولر إلى مكانه بجانب السائق وهو يقول: «هلموا أسرعوا فنادوه، وأبلغوه تحياتي، تحيات المستر ولر، وقولوا له: إنني ضربت شماسكم، وإذا أرسل أحدا سواه فسأعود غدا، وأوسعه هو الآخر ضربا، هيا سق أيها الحوذي!»
وقال المستر بكوك حين خرجت المركبة من حدود القرية: «سأكلف أحدا برفع دعوى حجز بلا مبرر على الضابط بولدويج بمجرد وصولي إلى لندن.»
وقال واردل: «يظهر أننا تعدينا على أرضه.»
وعاد المستر بكوك يقول: «لا يهمني، سأرفع دعوى حتما.»
وقال واردل: «كلا، لن تفعل.»
وأجاب المستر بكوك منفعلا: «بل سأفعلن بحق.» وكاد يقسم لولا أن بدت أمارات المزاح على وجه واردل، فأمسك وقال: «ولم لا؟»
وأجاب الشيخ واردل، وهو يكاد يستلقي من الضحك: «لأنهم قد يقلبون الدفة على أحدنا، فيقولون: إنه كان قد أفرط كثيرا في شرب البنتش.»
فلم يتمالك المستر بكوك من إخفاء ابتسامة خطفت بوجهه، وما لبثت الابتسامة أن امتدت فكانت ضحكة، وتطورت الضحكة إلى قهقهة مدوية، والقهقهة إلى زأرة عامة، ولكي يظل مزاجهم صافيا، وقفوا عند أول حانة وجدوها على الطريق، وطلبوا «دورا» من البراندي والماء، وقدرا كبيرا من شراب شديد البطش للمستر ولر.
ساحة الإعدام.
نوع من المسكر.
الفصل العشرون
يبين كيف بدأ ددسن وفج من رجال الأعمال، وكيف كانت الكتبة أهل مجانة، وكيف جرى حديث مؤثر بين المستر ولر ووالده الغائب عنه من عهد طويل، ويصف أيضا صفوة «الزبائن» الذين يختلفون إلى حانة «ماجباي إصطمب»، وكيف يكون الفصل التالي ممتعا غاية الإمتاع ... ***
في الطابق الأرضي من واجهة بيت أغبر الطلاء، في الطرف الأقصى من محكمة «فريمان» في كورنهل، كان يجلس الكتبة الأربعة الذين يعملون في مكتب السيدين ددسن وفج، المحاميين أمام المحكمة العليا ومحكمة الأحوال الشخصية في وستمنستر والقضاء العالي، وهم لا يرون نورا ولا شمسا، إلا كما يرجو إنسان أن يرى لمحات منهما، وهو في قاع بئر عميقة، ولا يتاح لهم رؤية الكواكب في السماء إلا كما يتاح له في ذلك الموضع المنعزل.
وكان مكتبهم غرفة مظلمة عفنة رطبة، ذات حاجز يحجبهم عن الأنظار، ومن خلفه كرسيان قديمان من الخشب، وقد قامت فوق أحد جدرانها ساعة «دقاقة» شديدة الدق، و«تقويم» للأيام والشهور، ومشجب للمظلات، وآخران للقبعات، وبضعة أرفف وضعت فوقها عدة إضبارات، تتدلى منها قصاصات تحوي أرقامها وعناوينها، وملفات من أوراق قذرة، وصناديق قديمة من الخشب وسمت بعناوينها كذلك وبياناتها، وعدة زجاجات فخارية للمداد من مختلف الأشكال والأحجام، وفي الحجرة باب زجاجي يؤدي إلى دهليز يفضي إلى الفناء.
وإلى الجانب الخارجي من ذلك الباب الزجاجي تقدم المستر بكوك، يتبعه سام ولر، في صبيحة يوم الجمعة الذي تلا الحادث الذي رويناه بأمانة في الفصل السابق.
وصاح صوت من خلف الحاجز؛ ردا على طرقة خفيفة بالباب من كف المستر بكوك: «ادخل، ألا تستطيع أن تدخل؟»
ودخل على الصوت المستر بكوك وسام.
وتقدم المستر بكوك، والقبعة في يده، نحو الحاجز في رفق، وسأل قائلا: «هل المستر ددسن أو المستر فج هنا يا سيدي؟»
وأجاب الصوت قائلا: «المستر ددسن ليس هنا الآن، والمستر فج مشغول في هذه اللحظة.» وتطلع الرأس الذي انبعث هذا الصوت منه من فوق الحاجز، والقلم خلف أذنه، إلى المستر بكوك.
وكان رأسا رثا، تلوى شعره المصفر المفروق على جانب واحد منه، والمدهون ببعض الأدهنة العطرة ليستقر في موضعه، فبدا ذوائب شبه مستديرة حول وجه مسطوح ذي عينين ضيقتين، وقميص قذر، وربطة عنق سوداء ناحلة.
وعاد المستر بكوك يسأل: «ومتى ينتظر أن يعود المستر ددسن يا سيدي؟» - «لا أعرف.» - «وهل يطول انشغال المستر فج يا سيدي؟» - «لا أعرف.»
وشرع الرجل في إصلاح قلمه بكل تؤدة، بينما ضحك كاتب آخر ضحكة الموافقة على ما أجاب به زميله، وكان يذيب قدرا من مسحوق «السيدلتز» الملين، خلف غطاء مكتبه.
وقال المستر بكوك: «أظن أنه يحسن بي أن أنتظر.»
ولم يتلق جوابا، فجلس غير مأمور، وأصغى إلى دقات الساعة، وغمغمة الكتبة وهم يتجاذبون أطراف الحديث.
قال أحدهم - وهو في رداء رمادي، وأزرار نحاسية، وسراويل سود، وحذاء قصير - في ختام كلام له غير مسموع عن واقعة حال له: «في الليلة الماضية، لقد كانت ممتعة، أليس كذلك؟»
وقال الرجل الذي يمزج «السيدلتز»: «جد ممتعة، جد ممتعة.»
وقال ذو الرداء الرمادي: «وكان توم كومنز في كرسي الرياسة، وكان الوقت منتصف الخامسة حين وصلت إلى سمرز تاون، وكنت سكران ثملا، فلم أهتد إلى الثقب الذي يدخل فيه المفتاح، فاضطررت إلى دق الباب، وإيقاظ المرأة العجوز، ولست أدري ماذا سيقول العجوز فج إذا عرف الحادث؛ سيطردني من العمل، أليس كذلك؟»
وضحك الآخرون جميعا لهذه الفكرة اللطيفة.
وقال ذو الرداء الرمادي: «لقد حدث فصل بديع مع فج هنا في هذا الصباح، فبينما كان جاك في الدور العلوي يفرز الأوراق، وأنتما الاثنان قد خرجتما للذهاب إلى مكتب دفع الرسوم، جاء فج إلى هنا ليفتح البريد، وإذا الرجل الذي استصدرنا ضده أمر أداء في «كمبرول» كما تعرفون يفاجئنا، ما اسمه؟ فقد نسيت.»
وقال الكاتب الذي كان قد خاطب المستر بكوك: «اسمه رمزي.»
وقال: «آه! رمزي، وهو عميل طيب موعوك، ونظر إليه الشيخ فج بحدة شديدة، وقال: خير إن شاء الله - وأنتم تعرفون طريقته - هل جئت لتسوية المسألة؟ وأجاب رمزي وهو يدس يده في جيبه، ويخرج النقود: نعم يا سيدي، إن مقدار الدين جنيهان وعشرة شلنات، والنفقات ثلاثة جنيهات وخمسة شلنات، وها هي ذي يا سيدي. وزفر زفرة حارة، وهو يقدم النقود ملفوفة في ورقة «نشاف»؛ فنظر الشيخ فج أولا إلى المال، ثم إلى الرجل، ثم سعل سعلته المعهودة، وعندئذ عرفت أنه يضمر أمرا، قال: ألا تدري أن هناك إعلانا سيزيد جملة النفقات إلى حد كبير؟ فأجفل رمزي من هذا القول، وأجاب: لا تقل يا سيدي، إن الأمر وصل إلى علمي ليلة أمس فقط، يا سيدي. وأجاب فج: أقول هذا وأكرره، لقد ذهب كاتبي الساعة لتسجيله، ألم يذهب المستر جاكسون لتسجيل الإعلان في قلم الكتاب بشأن قضية «بولمان ورمزي» يا مستر وكس؟ فقلت: طبعا نعم. فسعل فج سعلة أخرى، ونظر إلى رمزي، وقال هذا: يا إلهي! وأنا الذي كدت أجن في سبيل جمع هذا المبلغ من هاهنا وهاهنا، ولم أحصل عليه إلا بشق الأنفس، ثم لا ينتهي الأمر إلى نتيجة. وقال فج بفتور: لا نتيجة مطلقا، فالأفضل أن تعود فتجمع مبلغا آخر، وتأتي به في الموعد المضروب. وأجاب رمزي وهو يضرب المكتب بقبضة يده: ولكني والله لا أستطيع. وقال فج وقد بدأ يغض تعمدا: لا تضايقني يا سيدي. وقال رمزي: لست أضايقك في شيء يا سيدي. وقال فج: بل أنت تضايقني فعلا، اخرج من المكتب يا سيدي، وارجع لي حين تعرف كيف تكون مؤدبا. وعندئذ حاول رمزي أن يتكلم، ولكن فج منعه، فرد المال إلى جيبه، وتسلل منصرفا.
وما كاد الباب يغلق حتى دار الشيخ فج نحوي، وعلى وجهه ابتسامة بديعة، وأخرج الإعلان من جيبه، وقال لي: اسمع يا وكس، خذ مركبة، واذهب إلى المحكمة بكل سرعة ممكنة، وسجل هذا الإعلان، إن المصاريف والأتعاب في أمان؛ لأنه رجل مستقيم، وله أسرة كبيرة، ومرتبه خمسة وعشرون شلنا في الأسبوع، وإذا أمكننا أن نحصل على حكم بالأداء، وهو ما أنا واثق به، فسوف ينقدنا الثمن أصحاب العمل الذين يستخدمونه، وهكذا يتسنى لنا أن نأخذ منه كل ما في إمكاننا أخذه، اسمع يا مستر وكس، إنه عمل لا يتنافى مع أحكام المسيحية وتعاليمها؛ لأنه سينصلح حاله بهذا الدرس النافع الذي سيعطى له، وهو رجل ذو أسرة كبيرة، ودخل صغير، حتى لا يعود إلى الاستدانة، ألا ترى ذلك يا مستر وكس؟ ألست معي في هذا؟ وابتسم ابتسامة مطمئنة رفيقة وانصرف، وكان منظره في تلك اللحظة ممتعا.»
وسكت المستر وكس لحظة، ثم عاد يقول بلهجة إعجاب شديد: «إنه رجل عمل بديع، بديع حقا، أليس كذلك؟»
وأمن الثلاثة الآخرون على قوله، وأحسوا بارتياح لا حد له لهذه القصة التي رويت لهم.
وهمس المستر ولر لسيده قائلا: «إنهم خلق ظرفاء أهل لطف يا سيدي!»
وأومأ المستر بكوك موافقا، وسعل ليجتذب أنظار السادة الجالسين خلف «الدريئة»، وكان هذا الحديث القصير الذي دار بينهم قد أراح خواطرهم، فتنازلوا إلى إظهار شيء من الاهتمام بذلك الغريب.
فقال جاكسن: «لست أدري هل انتهى فج من عمله الآن؟»
وقال وكس، وهو ينزل بكل رفق وتؤدة من فوق كرسيه الطويل: «سأرى أي اسم أحمله إلى المستر فج.»
وقال الرجل الذائع الصيت صاحب هذه المذكرات: «بكوك.»
وصعد المستر جكسن السلم ليؤدي هذه المهمة، وعاد على الأثر يقول: «إن المستر فج سيقابل المستر بكوك بعد خمس دقائق.» وعاد إلى مكتبه بعد أن نقل الرسالة التي جاء بها.
وهمس وكس: «ما هو الاسم الذي ذكر؟»
وأجاب جكسن: «بكوك، إنه الشخص المدعى عليه في قضية باردل وبكوك.»
وتعالت فجأة مواقع أقدام مختلطة بضحك مكبوت من خلف الحاجز.
وهمس المستر ولر قائلا: «إنهم يهزءون بك يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «يهزءون بي يا سام! ماذا تعني بقولك يهزءون؟»
وهنا أشار المستر ولر بإبهامه من فوق كتفه، فتطلع المستر بكوك ببصره، فتبين له أن وجوه الكتبة الأربعة جميعا تنم عن سرور بالغ، وأنهم يطلون برءوسهم من فوق الحاجز الخشبي، ويدققون البحث في شكل هذا العابث «المزعوم» بأفئدة النساء، والمكدر لصفاء عيشهن، وما إن تطلع ببصره حتى توارت تلك الرءوس فجأة، وتلا اختفاءها صرير الأقلام، وهي تمر على الورق بسرعة متناهية.
ودق الجرس في المكتب فجأة، طالبا حضور المستر جكسن إلى مكتب فج، فانصرف مسرعا، وعاد يقول: «إنه - أي فج - مستعد لمقابلة المستر بكوك، لو تكرم بالصعود إلى غرفته.»
وصعد المستر بكوك السلم، تاركا سام ولر في الطابق الأرضي، وكان مكتوبا على باب الغرفة «المستر فج» بحروف واضحة، وبعد أن طرق جكسن الباب، وقيل له: «ادخل.» تقدم ليعلن أن المستر بكوك قد حضر.
وسأل المستر فج الكاتب: «هل المستر ددسن هنا؟»
وأجاب جكسن: «لقد حضر اللحظة يا سيدي.» - «ادعه إلى الحضور.» - «نعم يا سيدي.»
وانصرف جكسن ... وانثنى المستر فج يقول للمستر بكوك: «تفضل بالجلوس يا سيدي، ها هو ذا الورق يا سيدي، وسيأتي شريكي في الحال، وعندئذ نستطيع أن نتحادث في هذه المسألة يا سيدي.»
وجلس المستر بكوك وتناول الورق، ولكنه لم يقرأه، بل مضى يطل من فوقه على الرجل الجالس أمامه، فإذا هو يبدو لعينه كهلا ذي وجه كثير البثور، يلوح كأنه من معاشر النباتيين وأكلة الخضر، في رداء أسود، وسراويل رمادية، وأغطية سيقان سود، وكأنه جزء لا يتجزأ من المكتب الذي جلس إليه، ويماثله تفكيرا وإحساسا.
وانقضت بضع لحظات في صمت، وعندئذ دخل المستر ددسن، فإذا هو رجل بدين، مهيب، عبوس، جهير الصوت.
وابتدأ الحديث.
قال فج: «ها هو المستر بكوك.»
وقال ددسن: «آه ... أأنت المدعى عليه في قضية باردل وبكوك، يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أنا يا سيدي.»
وقال ددسن: «حسنا يا سيدي، وماذا تقترح؟»
وتبعه فج فقال: «آه، ماذا تقترح يا مستر بكوك؟» ودس يديه في جيبي سراويله، وأسند ظهره إلى المقعد.
وقال ددسن: «صه يا فج، ودعني أسمع ماذا يريد المستر بكوك أن يقول.»
ونظر المستر بكوك بهدوء إلى الزميلين، وأنشأ يقول: «لقد جئت أيها السيدان إلى هنا لأبدي دهشتي حين تلقيت كتابكما منذ أيام، ولأسأل ما هي الأسباب التي ستستندون إليها في رفع الدعوى علي؟»
ولم يكد فج يقول: «الأسباب التي ...» حتى منعه ددسن من الكلام قائلا : «يا مستر فج، أنا سأتكلم.»
وقال فج: «معذرة يا مستر ددسن.»
ومضى ددسن في تعال وسمو يقول: «أما عن أسباب الدعوى، فهذه تسأل عنها محاميك، وتستطلع شعورك، أما نحن يا سيدي فليس أمامنا غير أقوال موكلتنا، وقد تكون أقوالها يا سيدي صحيحة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون مصدقة، وقد تكون بعيدة عن التصديق، ولكن إذا كانت صحيحة، ومصدقة، فلست أتردد في القول يا سيدي بأن حججنا في الدعوى قوية، لا يدحضها شيء، وقد تكون سيئ الحظ يا سيدي، وقد تكون عامدا، ولكن إذا أنا طلبت بوصفي محلفا مؤديا اليمين لإبداء رأيي في تصرفك، فلست أتردد في القول بأني لا أملك غير رأي واحد فيه.»
وهنا نصب المستر ددسن قامته، بلهجة المستاء من إنكار فضله، ونظر إلى فج، فما كان من هذا إلا أن غيب يديه في جيبه، وهز رأسه هزة الحكمة، وقال بلهجة الموافقة التامة: «بلا أدنى شك.»
وقال المستر بكوك، والألم الشديد مرتسم على وجهه: «اسمح لي يا سيدي أن أؤكد لك أنني في هذا الأمر سيئ الحظ إلى أبعد حد.»
وأجاب ددسن قائلا: «أرجو أن تكون كذلك يا سيدي، بل يقيني أنك كذلك يا سيدي، فإن كنت حقيقة بريئا مما اتهمت به، فأنت أسوأ حظا من أي إنسان يمكن أن يصاب بسوء الحظ، ما رأيك يا مستر فج؟»
وقال فج وهو يبتسم ابتسامة من لا يصدق ما سمع: «إنني أقول ما قلته تماما.»
ومضى ددسن: «إن الإذن الصادر برفع الدعوى صادر يا سيدي من الجهة التي تملك إصداره، يا مستر فج أين سجل صحف الدعوى؟»
وقال فج وهو يناول زميله سجلا مربع الشكل، ذا غلاف من الورق المقوى: «ها هو ذا.»
ومضى ددسن يقول: «ها هو ذا المدون في السجل «مدلسكس في قضية مارتا باردل ضد صمويل بكوك ... التعويض المطلوب عن الأضرار ألف وخمسمائة جنيه - الوكيل عن المدعية ددسن وفج - في 28 أغسطس عام 1830»، كل شيء قد تم وفقا للقانون يا سيدي.»
وسعل ددسن ونظر إلى فج، فقال هذا: «تماما.» وعادا ينظران معا إلى المستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «أفهم من هذا إذن أن في نيتكما فعلا المضي في الدعوى؟»
وأجاب ددسن بشيء أقرب إلى الابتسام بقدر ما يسمح له مركزه: «تفهم يا سيدي؟ لك أن تفهم هذا بلا ريب.»
وقال المستر بكوك: «وإن التعويض هو فعلا مقدر بألف وخمسمائة جنيه؟»
وأجاب ددسن: «وإلى هذا الفهم لك أن تضيف تأكيدي أننا لو أردنا أن نؤثر في موكلتنا، لجعلنا التعويض ثلاثة أضعاف هذا القدر يا سيدي.»
وقال فج، وهو ينظر إلى ددسن: «وأعتقد أن السيدة باردل قالت إنها لن ترضى بأقل من ذلك درهما واحدا.»
وأجاب ددسن بتجهم: «بلا نزاع؛ لأن الدعوى إنما بدأت الآن، ولا يجدي فيها قبول أي تراض من جانب المستر بكوك، حتى وإن أراد تراضيا.»
وانثنى إلى المستر بكوك فقال وهو يلوح بقصاصة من الورق في يمناه، ويقدم صورة منها بكل لطف إليه: «وما دمت لم تعرض شروطا يا سيدي، فمن الخير أن أقدم إليك نسخة من الإذن الصادر، وأحتفظ بالأصل، وهو في يميني كما ترى.»
ونهض المستر بكوك من مجلسه، ونهض معه غضبه في وقت واحد، وهو يقول: «حسن جدا، حسن جدا أيها السيدان، سيتصل بكما وكيلي.»
وقال فج وهو يفرك يديه: «سنكون سعيدين جدا إذا فعل.»
وقال ددسن وهو يفتح الباب: «جدا.»
وعلى رأس السلم وقف المستر بكوك الثائر، ثم استدار قائلا: «اسمحا لي أيها السيدان قبل انصرافي أن أقول: إنه ليس في جميع الإجراءات المعيبة الخبيثة ما هو ...»
وهنا قاطعه ددسن بأدب بالغ قائلا: «قف يا سيدي لا تذهب، يا مستر جسكز، يا مستر وكس!»
وأجاب الكاتبان، وقد ظهرا في أسفل السلم: «نعم يا سيدي.»
قال: «أريد منكما فقط أن تسمعا ما سيقوله السيد، من فضلك استمر يا سيدي، أظنك قلت: إنه ليس في جميع الإجراءات المعيبة الخبيثة ما هو ...»
وأجاب المستر بكوك وقد تملكه الغضب: «نعم، لقد قلت: إنه ليس في الإجراءات المعيبة الخبيثة التي ألتجئ إليها في يوم من الأيام ما هو أعيب من هذا الإجراء، ولا أخبث منه، وأنا الآن أكرر ما قلت يا سيدي.»
وقال ددسن: «هل سمعت يا مستر وكس؟»
وقال فج في إثره: «لا تنس هذه العبارات بالنص يا مستر جكسن.»
وقال ددسن: «ولعلك تحب يا سيدي أن تسمينا «نصابين»، فقلها من فضلك إذا شئت، هلم يا سيدي قلها من فضلك.»
وقال المستر بكوك: «فعلا أنتم نصابون!»
وقال ددسن: «جميل جدا، هل أنت سامع أيها الواقف في أسفل السلم، يا مستر وكس، أنت شاهد؟»
وأجاب وكس: «أي نعم يا سيدي.»
وأضاف فج قائلا: «يحسن أن تصعدا قليلا إذا لم تستطيعا سماع ما يقول، تفضل يا سيدي، استمر بالله عليك، الأفضل أن تسمينا لصوصا يا سيدي، أو لعلك تحب أن تتعدى على أحد منا، فافعل يا سيدي إذا شئت، فلن نبدي أقل مقاومة، تفضل أرجوك.»
وتقدم فج على سبيل الإغراء والتحريض، فوقف على منال قبضة المستر بكوك، وليس ثمة شك في أنه كان سيلبي ذلك الرجاء الملح، لولا تدخل سام في تلك اللحظة، وكان قد سمع ذلك الحوار، فخرج مسرعا من المكتب، وصعد السلم، وأمسك بذراع سيده، وهو يقول: «تعال، إن مشاهدة لعبة المضرب والكرة جميلة جدا، ولكنها بينك وبين اثنين من المحامين، وأنت لا بالكرة ولا هما بالمضرب، منظر لا يسر ... هيا بنا يا سيدي، وإذا أردت أن تريح خاطرك بضرب أحد، فتعال إلى الفناء واضربني أنا، ولكن الضرب هنا عملية غالية التكاليف.»
وراح المستر ولر دون أن يكلف نفسه شيئا ينزل سيده السلم، ويسير به إلى الفناء، حتى إذا استقر به في «كورنهل» واطمأن، عاد يمشي خلفه، تاركه يذهب به إلى أي مكان يشاء.
ومضى المستر بكوك مشدوها، شارد الخاطر، فاجتاز دار البلدية، وعطف على حي شيبصايد، وبدأ سام يعجب له أين تراه يريد الذهاب، وعندئذ دار سيده إليه فقال: «يا سام، سأذهب في الحال إلى مكتب المستر بركر.»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو المكان بالذات الذي كان أولى بك أن تذهب إليه في الليلة الماضية يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هذا صحيح يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «أنا أعرف أنه صحيح.»
ومضى سيده يقول: «حسن، حسن يا سام! فلنذهب إليه في الحال، ولكني أولا أراني معكر المزاج مما حدث، وأحب أن أتناول كأسا من البراندي بالماء الساخن يا سام، فأين تظنني أتناوله؟»
وكان علم المستر ولر بلندن واسع المدى عجيبا، فأجاب على الفور، وبلا أقل تفكير: «اتجه إلى اليمين، واقصد المحل الذي قبل الأخير، وعلى يمينك أيضا، وخذ المقصورة التي أمام أول موقدة؛ لأن المائدة التي فيها ليست لها رجل في الوسط، ولكن الموائد الأخرى لها أرجل وسطى، وهي متعبة جدا.»
واتبع المستر بكوك توجيهات خادمه بالحرف الواحد، وطلب إليه أن يتبعه، ودخل الحانة التي أشار سام إليها، ولم يلبث البراندي المزيج بالماء الساخن أن وضع أمامه، بينما جلس المستر ولر احتراما له على مسافة منه، إلى المائدة ذاتها، وسعى إليه الخادم بقدر طيب من النبيذ.
وكانت القاعة بسيطة كل البساطة، والظاهر أن حوذية المركبات الحافلة هم الذين يتولون أمر الإشراف عليها خاصة؛ لأن عددا كبيرا ممن تلوح عليهم مظاهر السائقين كانوا جلوسا في المقاصير يشربون ويدخنون.
وكان من بينهم رجل بدين، محمر الوجه، تجاوز حدود الكهولة، يجلس في المقصورة المقابلة، وقد جذب شكله اهتماما خاصا من المستر بكوك، فقد كان مفرطا في التدخين، وكان بين كل بضعة أنفاس من الدخان ينزع القصبة من فمه، وينظر أولا إلى المستر ولر، ثم إلى المستر بكوك، ثم يكب بعد ذلك على وعاء من الشراب، فيدخل فيه من وجهه ما يسمح حجم الوعاء بدخوله، ويعود فينظر إليهما، ثم يتناول بضعة أنفاس من الدخان، وهو مستغرق في التفكير، ويعاود إلقاء نظرة عليهما، وأخيرا راح يضع ساقيه على المقعد، ويسند ظهره إلى الجدار، ويعاود أخذ أنفاس مستطيلة من القصبة، وهو يحملق فيهما البصر من خلال ذوائب الدخان المتصاعدة منها، كأنما قد صحت منه النية على أن يشهد منهما أكبر قدر ممكن من المشاهدة.
وكانت حركات الرجل البدين قد غابت في أول الأمر عن نظر المستر ولر، ولكنه حين رأى عيني المستر بكوك تتجهان إليه بين لحظة وأخرى، بدأ شيئا فشيئا ينظر في اتجاه نظرات سيده، مظللا عينيه بكفه، كأنما قد عرف الرجل بعض المعرفة، ولكنه يريد أن يستوثق من شخصيته، غير أن شكوكه لم تلبث أن تبددت، فإن ذلك الرجل البدين راح ينفخ الدخان المتصاعد من قصبته، ويطلق من صوته الأجش، كأنه خارج من بطنه، ومنبعث من تحت اللفاعات الكثيفة التي تغطي حنجرته وصدره، هذا النداء البطيء النبرات: «وي، هذا سامي!»
وقال المستر بكوك: «من يكون هذا يا سام؟»
وأجاب المستر ولر، والدهشة بادية في عينيه: «ما كنت لأصدق عيني يا سيدي، إنه الرجل الكبير.»
وقال المستر بكوك: «الرجل الكبير! أي رجل كبير؟»
وأجاب المستر ولر: «والدي يا سيدي، كيف أنت يا أبي؟»
ومضى بهذا التعبير الجميل عن محبته البنوية يفسح مكانا فوق المقعد بجانبه، لجلوس الرجل البدين الذي تقدم والقصبة في فمه، ووعاء الشراب في كفه، للسلام عليه.
وقال الوالد: «وي يا سامي، لم تقع عيني عليك من عامين أو أكثر.»
وأجاب الابن: «وأكثر أيها الشيخ البخيل، وكيف حال امرأة أبي؟»
وقال المستر ولر الكبير في جد كثير: «وي يا سامي، اسمع مني، ليس في الدنيا أرملة ألطف ولا أظرف من هذه الزوجة الثانية التي تزوجتها، إنها مخلوقة لطيفة يا سامي، وكل ما أستطيع أن أقوله عنها الآن أنها امرأة لطيفة فوق العادة، ومن الأسف الشديد أنها غيرت أحوالها، إنها لا تؤدي وظيفة الزوجة يا سامي.»
وقال المستر ولر الصغير: «ألا تؤدي الوظيفة حقا؟»
وهز المستر ولر الكبير رأسه، وأجاب وهو يرسل زفرة: «لقد جربت كثيرا يا سامي، جربت أكثر من مرة، فاجعل والدك مثلا أمامك، وخذ العبرة منه، وكن في منتهى الحذر من الأرامل طيلة حياتك، وبالأخص إذا كن صاحبات حانات يا سامي.»
وبعد أن ألقى هذه النصيحة الأبوية بكل حماسة وعطف، عاد يملأ القصبة من علبة من القصدير كان يحملها في جيبه، ويشعل القصبة الجديدة من رماد القديمة، ويعاود التدخين بسرعة بالغة.
وواصل الحديث بعد لحظة طويلة، مخاطبا المستر بكوك: «أستميحك المعذرة يا سيدي، لا تؤاخذني، أرجو ألا تكون لديك أرملة يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك ضاحكا: «كلا.» وبينما كان يضحك، أقبل سام ولر يهمس لأبيه عن مدى العلاقة بينه وبين ذلك السيد.
وقال المستر ولر الكبير وهو يرفع قبعته: «لا تؤاخذني يا سيدي ... أرجو ألا يكون في نفسك شيء من جهة سامي إذا كان قد أخطأ، أو وجدت فيه عيبا.»
وأجاب المستر بكوك: «لا شيء على الإطلاق.»
وأجاب الشيخ: «الحمد لله، يسرني أن أسمع ذلك يا سيدي، فقد تعبت كثيرا في تربيته يا سيدي، وتركته يجري في الشوارع وهو صغير ويتولى بنفسه أموره، فإن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الولد ذكيا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «يخيل إلي أنها طريقة لا تخلو من خطر.»
وأردف المستر ولر الصغير قائلا: «وليست مضمونة أيضا، فقد خدعت منذ أيام.»
وقال والده: «لا تقل هذا!»
وأجاب ابنه: «بل حدث.»
ومضى يقص عليه بكل اختصار كيف غرر به جوب تروتر بدهائه ومكره.
وأصغى المستر ولر الكبير إلى القصة بأشد الاهتمام، ومضى يقول في نهايتها: «أليس هو رجلا طويلا نحيفا، مرسل الشعر، خفيف الحركة، سريع الجري؟»
ولم يفهم المستر بكوك تماما هذا الوصف الأخير، ولكنه فهم الأوصاف الأول؛ فقال على الفور: «نعم.»
ومضى المستر ولر الكبير فقال: «أما الآخر فشخص أسود الشعر في ثوب توتي اللون، ذو رأس كبير الحجم جدا.»
وقال المستر بكوك وسام بجد شديد: «نعم هو، هو.»
وقال المستر ولر: «إني أعرف أين هما الآن، هذا هو كل ما هنالك ... إنهما الآن في «أبسويتش» آمنين مطمئنين هما الاثنان.»
وقال المستر بكوك غير مصدق: «كلا!»
وأجاب المستر ولر: «بل هما كذلك، وسأقول لك كيف عرفت ذلك، إنني أشتغل من وقت إلى آخر على المركبة التي تسافر إلى «أبسويتش» بالنيابة عن صاحب لي، وكنت أعمل عليها في اليوم الذي تلا الليلة التي أصبت فيها بالنقرس، وقد أقللتهما إلى فندق «بلاك بوي» في تشلمر فورد، وهو الموضع الذي كانا شاخصين إليه، ومنه رأسا إلى «أبسويتش»؛ حيث كانا معتزمين المقام طويلا، كما علمت من الخادم التوتي اللون.»
وقال المستر بكوك: «سأتبعه، ويصح لنا أن نشهد أبسويتش كما نشهد أي موضع آخر، سأتبعه.»
وسأل المستر ولر الصغير أباه: «هل أنت متأكد أنهما هما بالذات يا معلم؟»
وأجاب الوالد: «كل التأكيد يا سامي، كل التأكيد؛ وذلك لغرابة شكلهما، وللألفة العجيبة التي بين السيد وخادمه، وفوق ذلك كله لأني سمعتهما وهما جالسان في المقدمة خلف مقعد السائق مباشرة يضحكان ويقولان: إنهما عرفا كيف يخدعان العجوز فيروركس.»
1
وقال المستر بكوك: «العجوز من ...؟»
وأجاب الوالد: «العجوز فيروركس يا سيدي، ولا شك في أنهما كانا يعنيانك يا سيدي.»
وليس في التسمية «بفيروركس» طبعا ما يؤذي الشعور، أو يستنكره الخاطر، وإن كان مع ذلك لا يزال خلوا من الاحترام، أو التنويه بالفضل، وكانت ذكرى الفصول التي مثلها جنجل قد ازدحمت في خاطر المستر بكوك، ولم تبق إلا ريشة فترجح كفة الميزان، فكانت تسميته «بالعجوز فيروركس» هي الريشة! فراح يضرب المائدة بجمع كفه وهو يقول: «سأتبعه.»
وهنا قال المستر ولر الكبير: «سأشتغل على المركبة المسافرة إلى أبسويتش بعد غد يا سيدي، من فندق «بول» في «هوايتشابل»، فإذا كنت تنوي الذهاب فعلا فالأفضل أن تذهب معي.»
وأجاب المستر بكوك: «هذا صحيح، وسأكتب إلى بيري حتى ينتظروني في أبسويتش، سنذهب معك، ولكن لا تنصرف هكذا مسرعا، ألا تأخذ شيئا؟»
وقال المستر ولر وقد وقف عن الحركة: «إنك لكريم جدا يا سيدي، كأس صغيرة من البراندي إذا كان ولا بد لأشرب في صحتك، ونجاح سامي وتوفيقه يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بلا شك، كأسا من البراندي هنا يا غلام!»
وجيء بالشراب، وبعد أن جذب المستر ولر شعره تحية للمستر بكوك، وأومأ برأسه لسام، راح يلقي بكل ما في الكأس في حلقه الرحيب، كأنه قمع خياطة صغير.
وقال سام: «مرحى! يا أبت، احذر يا صاح، وإلا عدت إلى سابق مرضك، وهو مرض المفاصل.»
وقال المستر ولر وهو يضع الكأس بعد اجتراعها: «لقد وجدت دواء ناجعا لعلاجه يا سامي.»
وقال المستر بكوك وهو يخرج بسرعة مذكراته: «أتقول إنك وجدت دواء ناجعا للنقرس؟ فما هو؟»
وأجاب المستر ولر: «إن هذا المرض يا سيدي ينشأ من الإفراط في الراحة والرفاهية، فإذا أصبت يوما به يا سيدي فتزوج أرملة ذات صوت صاخب، وتعرف تماما كيف تستخدمه، وأنت لن يصيبك هذا المرض بعد ذلك، هذه وصفة بديعة يا سيدي، وأنا مداوم عليها، وأنا ضامن أنها تطرد أي علة يكون سببها الإكثار من اللهو والمرح.»
وبعد أن باح بهذا السر العظيم، أفرغ ما في الكأس مرة أخرى، وغمز غمزة متقنة، وزفر زفرة حارة، وانصرف في رفق.
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «ما رأيك فيما قاله أبوك يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «رأيي؟ رأيي أنه ضحية للزوجية، كما قال القسيس عن بلوبيرد وهو يرسل دمعة عليه حين تولى دفنه.»
ولكن المستر بكوك لم يجب عن هذا الاستنتاج الحكيم كل الحكمة، بل مضى بعد أن دفع الحساب، يواصل المسير إلى فندق «جراي»، ولكنه ما كاد يصل إلى غياضه المنعزلة، حتى دقت الثامنة، فبدا له من ذلك السيل المستفيض من الناس الذين يتجهون صوب الشوارع المختلفة في الحي، وهم في أحذيتهم الموحلة، وقبعاتهم البيضاء الملطخة، وثيابهم المغبرة - أن أكثر المكاتب أغلقت أبوابها، وانتهت مواعيد العمل فيها.
وبعد أن صعد المدارج تبين له أن ما توقعه كان صحيحا، فقد رأى الباب الخارجي في مكتب المستر بركر مغلقا، وظهر من السكون التام الذي تلا ركلات المستر ولر الباب بقدميه، أن الموظفين انصرفوا عن العمل لدخول الليل.
فقال المستر بكوك: «هذا فصل غير سار يا سام؛ إذ لا ينبغي أن تضيع ساعة واحدة مني دون لقائه، ولن يغمض لي جفن الليلة إذا لم يهدأ بالي، وأكل الأمر إلى أحد أرباب المهنة.»
وأجاب المستر ولر: «ها هي ذي سيدة عجوز صاعدة السلم يا سيدي، لعلها تعرف أين يتيسر لنا الاهتداء إلى أحد ... يا سيدتي الكبيرة ... أين رجال المستر بركر؟»
وقالت عجوز نحيفة بائسة، وقد وقفت لتتمالك أنفاسها بعد صعود السلم: «لقد انصرفوا وأنا آتية لتنظيف المكتب.»
وسألها المستر بكوك: «هل أنت خادم المستر بركر؟»
وأجابت العجوز قائلة: «بل أنا غسالة المستر بركر.»
وقال المستر بكوك في ناحية لسام: «آه ... إنه لشيء غريب يا سام، إنهم في هذه الفنادق يسمون العجائز جميعا غسالات، أعجب لهم لماذا يسمونهن كذلك!»
وأجاب المستر ولر: «أظن يا سيدي أن هذا يرجع إلى كراهيتهن الشديدة لغسل أي شيء يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى العجوز، ويتأمل شكلها، وحالة المكتب الذي كانت في تلك اللحظة قد فتحته، وما يدلان عليه من الكراهية المتأصلة لاستخدام الصابون والماء: «لست أعجب.» ومضى يسأل العجوز: «هل تعرفين أين أستطيع أن أجد المستر بركر أيتها المرأة الكريمة؟»
وقالت العجوز بخشونة: «كلا! لا أعرف! إنه الآن خارج المدينة.»
وقال المستر بكوك: «هذا حظ سيئ. وأين كاتبه؟ هل تعرفين؟»
وأجابت الغسالة: «نعم أعرف أين هو، ولكنه لن يشكرني على تعريفك به.»
وقال المستر بكوك: «إن لدي عملا خاصا معه.»
قالت: «ألا يمكن إرجاؤه إلى الصباح؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا أظن.»
قالت: «إذا كان الأمر كذلك، وكان المفروض أن أقول أين هو، فلا بأس إذن من قولي لك عنه، إذا ذهبت إلى حانة ماجباي واصطمب، وسألت في مكان الشراب عن المستر لوتن، فسوف يدلونك عليه، فهو كاتب المستر بركر.»
ولم يكد المستر بكوك وسام يتلقيان هذا التوجيه، ويعرفان أيضا أن تلك الحانة تقع في أحد الأفنية، وأنها لحسن الحظ أيضا بقرب «كلير ماركت»، وبجوار الجدار الخلفي لفندق «نيو إن» - حتى راحا يهبطان السلم المتداعي بسلام، وينطلقان صوب حانة ماجباي واصطمب.
وكانت تلك الحانة - المفضلة عند المستر لاوتن وزملائه، لقضاء الليل في القصف واللهو والشراب - هي ما يعده عامة الناس محلا عاما، وكان الدليل الكافي على أن صاحبها رجل مولع بجمع المال، وجود فراغ صغير تحت حافة نافذة قاعة الشراب، لا يتجاوز موضع كرسي كبير، مؤجر لإسكاف يرقع الأحذية، كما يقوم الدليل على حبه للخير وانبعاثه إلى البر في سماحته لبائع فطير ببيع أطعمته الشهية على عتبة الحانة، بلا خوف من اعتراض أحد عليه، وفي الشرفات الخفيضة المزدانة بأستار صفراء اللون تتدلى بطاقتان أو ثلاث بطاقات للإعلان عن ديفونشير سايدر، وتنوب دانتزج الفضي،
2
ولافتة كبيرة سوداء الطلاء، كتب عليها: «ليكن معلوما لدى الجمهور المستنير أن في أقبية المحل نصف مليون برميل من جعة الإستاوت الجيدة»، وهي لافتة تدع الخاطر في شك لا بأس منه من ناحية المدى الذي يظن أن هذه الحانة الضخمة تشغله في بطن الأرض، وإذا نحن أضفنا إلى هذا أن اللافتة التي ضربتها الشمس، ومحت التقلبات الجوية نصف معالم صورة طائر يدعى العقعق، وهو يحدق البصر في «عرق» أعوج أسود الطلاء، تعلم الجيران منذ طفولتهم أن يسموه «القرمة»، أو «العقب»، فقد قلنا كل ما نحتاج إلى قوله في وصف ذلك البناء من الخارج.
3
وتقدم المستر بكوك إلى محل الشراب، فخرجت إليه امرأة كبيرة السن من خلف حاجز فيه.
قال: «هل المستر لوتن هنا يا سيدتي؟»
وأجابت ربة الحان: «هنا يا سيدي، يا شارلي، خذ السيد إلى المستر لوتن.»
وقال غلام أحمر الشعر يحجل في مشيته، ويسعى بأباريق الشراب على الزبائن: «لا يستطيع السيد أن يدخل اللحظة عليه، فإن المستر لوتن يغني الآن أغنية هزلية، فإذا دخل عليه غضب، ولكنه سينتهي فورا يا سيدي.»
وما كاد الغلام الأحمر الرأس يتم قوله هذا، حتى تعالى دق إجماعي على الموائد، وقرع كئوس؛ مما يوحي بأن الأغنية قد انتهت في تلك اللحظة ذاتها.
وبعد أن طلب المستر بكوك إلى سام الترويح عن نفسه في القاعة العامة، ترك الغلام يذهب به إلى المستر لوتن.
وما إن قال الغلام: «إن سيدا يطلب التحدث إليك يا سيدي.» حتى انبرى رجل منتفخ في نضارة العمر، يشغل المقعد القائم في رأس المائدة، فتطلع ببصره في دهشة صوب الجهة التي انبعث منها الصوت، ولم تقل دهشته حين استقرت عيناه على شخص لم يره من قبل .
وأنشأ المستر بكوك يقول: «أستميحك عفوا يا سيدي، بل أنا آسف كل الأسف على تعكير صفو السادة الآخرين، ولكني قادم لأمر خاص، فلو سمحت لي باحتجازك في الطرف الأقصى من هذه الحجرة خمس دقائق، لكنت لك من الشاكرين.»
ونهض الرجل المنتفخ الأوداج من مجلسه، وقرب كرسيا من مقعد المستر بكوك في ركن مظلم من الحجرة، وأصغى بانتباه إلى محنة المستر بكوك، والخطب الذي ألم به.
وقال عقب فراغ المستر بكوك من قصته: «آه، ددسن وفج؟ أولئك قوم ماهرون في عملهم، رجال أعمال مجدون، ددسن وفج يا سيدي.»
وأمن المستر بكوك على وصف الرجل لعملهما، بينما مضى هذا يقول: «إن المستر بركر ليس الآن في المدينة، ولا ينتظر أن يعود إليها قبل نهاية الأسبوع القادم، ولكن إذا أردت اتخاذ إجراءات الدفاع ومطالبه، وتركت لي صورة الإعلان، استطعت أن أنجز كل ما هو مطلوب ريثما يعود.»
وقال المستر بكوك وهو يسلم النسخة إليه: «هذا هو عين ما جئت من أجله، وإذا حدث شيء مهم، ففي وسعك أن تكتب إلي خطابا في «شباك البريد» في أبسويتش.»
وأجاب كاتب المستر بركر: «هذا حسن!»، وعندئذ رأى عين المستر بكوك حائمة بفضول حول المائدة، فأضاف قائلا: «هلا انضممت إلينا فقضيت معنا نصف ساعة أو نحوه؟ نحن هنا في مجلس أنس بديع، وقعدة بديعة معنا، فهذا وكيل مكتب سامكن وجرين، وهذا وكيل سميذر وبرايس، أما كاتب بمكن وتومس فهو خارج المنزل، وهو مغن بديع، ومعنا أيضا جاك بمبر، وكثيرون غيرهم، أحسبك قادما من الريف، فهل تحب أن تجلس معنا؟»
فلم يستطع المستر بكوك أن يغالب فرصة مغرية كهذه لدراسة الطبيعة البشرية، فترك الرجل يمشي به إلى المائدة، وبعد أن قدمه إلى الجمع بكل المراسيم المألوفة، اتخذ مجلسه بقرب الرئيس، ونادى الغلام فطلب كأسا من الشراب الأثير لديه.
وأعقب ذلك سكون عميق لم يكن المستر بكوك يتوقعه مطلقا.
وقال جاره الجالس عن يمينه، وهو رجل في قميص مرتوق، وأزرار من الفسيفساء، ولفافة طويلة في فمه: «أرجو يا سيدي ألا يكون هذا الشيء مزعجا لك.»
وأجاب المستر بكوك: «لا، مطلقا، إني أحبه كثيرا، وإن كنت أنا نفسي لا أدخن.»
وتدخل سيد آخر في الجهة المقابلة من المائدة فقال: «إنني آسف كل الأسف أن أقول: إنني أدخن، إن التدخين عندي هو الأكل والمسكن.»
ونظر المستر بكوك إلى ذلك المتحدث، فقال في نفسه: «لو كان الاستحمام أيضا لكان أفضل وأجدى.»
وساد السكون مرة أخرى.
فقد كان المستر بكوك غريبا، والظاهر أن قدومه عليهم أثقل على نفوسهم شيئا ما.
وقال الرئيس: «إن المستر جرندي معتزم أن يشنف الأسماع بأغنية.»
وقال المستر جرندي «كلا، ليس معتزما.»
وعاد الرئيس يقول: «ولم لا؟»
وقال المستر جرندي: «لأنه لا يستطيع.»
وأجاب الرئيس قائلا: «بل الأفضل أن نقول: إنه لا يريد.»
وأجاب المستر جرندي: «حسن، إنه لا يريد.»
وانتهى رفض المستر جرندي القاطع لتشنيف أسماع القوم إلى سكون آخر.
وقال الرئيس بحزن: «ألا يريد أحد أن يطربنا؟»
وانبرى شاب ذو شاربين، وحول في عينيه، وقميص مفتوح بطوق قذر، من أقصى المائدة، فقال: «لماذا لا تطربنا أنت أيها الرئيس؟»
وقال السيد المدخن الذي يلبس المجوهرات الفسيفسائية: «استمعوا! استمعوا!»
وأجاب الرئيس: «لأني لا أعرف إلا أغنية واحدة، وقد غنيتها قبل الآن، وتكرار أغنية بعينها في ليلة واحدة يقتضي غرامة طلب دور من البراندي لجميع الجالسين.»
ولم يجب أحد، وساد السكون مرة أخرى.
وأراد المستر بكوك أن يخلق موضوعا يتيسر للقوم الاشتراك في مناقشته فقال: «لقد كنت الليلة أيها السادة في مكان لا أشك في أنكم جميعا تعرفونه حق المعرفة، وإن لم أذهب إليه منذ بضع سنين، ولا أعرف عنه إلا القليل، إنني أقصد أيها السادة فندق جراي، إن هذه الفنادق القديمة هي في مدينة كبيرة كلندن زوايا غريبة، وأركان عجيبة.»
وهمس الرئيس من فوق المائدة للمستر بكوك قائلا: «والله لقد وقعت على موضوع يستطيع واحد منا على الأقل أن يتحدث عنه طوال العمر، ولا ينتهي، لقد أخرجت الشيخ جاك بمبر من مخبئه، فما شوهد يوما يتكلم عن شيء غير الفنادق، فقد عاش وحده فيها حتى كاد يذهب لبه.»
وكان الرجل الذي أشار لوتن إليه بهذا القول قصير القامة، أصفر اللون، مرتفع الكتفين، ذا وجه لم يفطن إليه المستر بكوك من قبل؛ لاعتياده الانحناء إلى الأمام، كلما لزم الصمت، ولهذا عجب حين راى الرجل يرفع وجهه المغضن، وتستقر عيناه الرماديتان على وجهه في نظرة حادة متسائلة: كيف غاب من قبل عن نظره ذلك الوجه العجيب؟
وتبين له أن على سحنة الرجل ابتسامة مستقرة ثابتة لا تفارقه، وأنه قد أسند ذقنه إلى يد طويلة معروقة، استطالت أظافرها إلى حد غير مألوف، وأمال رأسه إلى ناحية، وراح يرسل نظرات حادة من تحت حاجبين أشيبين متعرجين، حتى ليبدو على ابتسامته شيء من مكر موحش تنبو الأنظار عنه.
ذلكم هو الرجل الذي أقبل يطلق فيضا زاخرا من الكلام، ولكني أرى هذا الفصل قد طال، وذلك الرجل الكبير السن شخصية غريبة، فأولى به وأحق، كما هو أنسب لنا وأوفق، أن ندعه يتحدث عن نفسه في فصل قائم بذاته.
كناية استعملت للمستر بكوك تهكما، ومعناها الصواريخ أو الألعاب النارية.
شجر يشبه الصنوبر.
هذا هو تفسير اسم الفندق ماجباي واصطمب، فإن الكلمة الأولى معناها اسم هذا الطائر، والأخرى القرمة.
الفصل الحادي والعشرون
وفيه ينطلق ذلك الشيخ متحدثا عن الموضوع الأثير لديه ويروي قصته عن عميل غريب. ***
وقال الشيخ الذي وصفناه لك بإيجاز في الفصل السابق: «أها ... من ذا الذي كان يتحدث اللحظة عن الفنادق؟»
فأجاب المستر بكوك: «أنا يا سيدي، وقد قلت إنها أماكن قديمة فريدة في نوعها.»
وقال الشيخ بسخرية: «أنت؟ وماذا تعرف أنت عن ذلك الزمان الذي كان الشباب فيه يحبسون أنفسهم في تلك الحجرات الموحشة، ويكبون على القراءة ساعة بعد أخرى، وليلة بعد ليلة، حتى تضل عقولهم من طول دراساتهم حتى منتصف الليل، وحتى تعيا قواهم العقلية وتضمحل، وحتى يطلع النهار فلا يوافيهم بتجدد ولا انتعاش، ولا صحة ولا عافية، بل يغرقون في ذلك التوفر غير الطبيعي على كتبهم الجافة القديمة، ويفنون فيها شبابهم ؟ وإذا نحن انتقلنا من ذلك العهد الغابر إلى عهد أقرب منه إلينا، وزمان مختلف عنه كل الاختلاف، فماذا تعرف أنت عن الرزوح البطيء تحت مرض الصدر، أو الذبول السريع من الحمى، أو تلك النتائج العظيمة الملازمة للحياة والإسراف على النفس، التي عاناها الناس في تلك الحجرات ذاتها؟ وكم من طلاب رحمة تظن أنهم عادوا كسيري القلوب من مكتب أحد المحامين ليجدوا موضع راحة أبدية في أمواه التاميز، أو ملاذا لهم في جوف المحابس وغيابة السجون؟ إن تلك الدور ليست عادية فما من لوح زجاجي في جدار قديم لو أوتي قوة النطق وملكة الذاكرة، لما تردد في الخروج من مكانه ذاك في الجدار؛ ليروي حديث ما شاهد من شقاء وعذاب وألم، إنها قصة الحياة يا سيدي، قصة الحياة، وقد تبدو تلك الأماكن اليوم عادية، ولكني أقول لك: إنها أماكن أثرية غريبة، وإني لأوثر أن أسمع أساطير وقصصا مروعة رهيبة ذات أوصاف وأسماء مخيفة، على سماع التاريخ الحقيقي لحجرة من تلك الحجرات التي تتألف الفنادق العتيقة منها.»
وكان في حماسة الشيخ على هذه الصورة الفجائية شيء غريب، وفي الموضوع الذي أثاره على هذا النحو عجب بالغ لم يكن المستر بكوك يتوقعه حتى يهيئ الجواب عنه، فانثنى الشيخ، وقد كبح من جماح حدته، وعاد إلى غمزاته، بعد أن اختفت حماسته السابقة، يقول: «انظر إليها من ناحية أخرى ... أو قل: من أقل نواحيها غرابة، وأبعدها من الطرافة، ما أبدعها من أماكن للتعذيب البطيء! تصور ذلك البائس الفقير الذي أنفق كل ما كان لديه، حتى بات متسولا، ومضى يسرق من صحابه، وذهب يدخل مهنة لن تأتيه بكسرة من الخبز. تصور اللهفة، والأمل، والخيبة، والخوف، والبؤس، والفاقة، وذبول الأماني، ونهاية المصير من انتحار أو حياة سكير في خرق بالية وأسمال ونعل مخصوف، ألست على حق فيما أتحدث به عنهم؟»
ومضى الشيخ يفرك يديه، ويغمز كدأبه من السرور لاهتدائه إلى وجهة نظر أخرى تتصل بالموضع الأثير لديه.
ونظر المستر بكوك إلى الرجل بدهشة بالغة وابتسم القوم ونظروا في صمت لا ينبسون.
وواصل الشيخ الحديث قائلا: «فلتتحدثوا عن جامعاتكم الألمانية ما شئتم. يا للضلالة! إن في بلادكم من الطرافة وروعة الخيال ما يكفي، بل ما يغني عن الخروج منها ولو نصف ميل، ولكن الناس لا يفكرون أبدا.»
قال المستر بكوك ضاحكا: «الواقع أنني لم أفكر قبل الآن في طرافة هذا الموضوع بالذات.»
وأجاب الشيخ قائلا: «بالطبع لم تفكر، بلا شك لم تفعل، كما اعتاد صديق لي أن يقول: ماذا في حجرات الفنادق من غريب؟ فكنت أقول: إنها أماكن قديمة غريبة، فكان يقول: كلا! وكنت أقول: «مهجورة»، وكان يرد قائلا: ليست في شيء من هذا بتاتا، ومات في ذات صباح بالسكتة وهو يهم بفتح باب بيته الخارجي، فسقط رأسه في صندوق الخطابات حيث لبث ثمانية عشر شهرا، وظن الناس جميعا أنه قد سافر من المدينة.»
وسأل المستر بكوك: «وكيف وجدوه في النهاية؟»
وأجاب الشيخ قائلا: «لقد أصر القضاة على كسر بابه وفتحه؛ لأنه لم يكن قد دفع الأجرة منذ عامين، ففعلوا، وكسروا القفل عنوة، وعندئذ سقط هيكل عظمي علاه الغبار الكثيف، وهو في سترة زرقاء وسراويل سود إلى الركبة، بين ذراعي البواب الذي فتح الباب، أليس هذا غريبا؟ ربما كان كذلك.»
وراح الشيخ يميل برأسه إلى ناحية أكثر من قبل ويفرك كفيه بفرح لا يوصف.
ومضى يقول: حين أخذت نواجذه وقسمات وجهه تهبط قليلا: «وأعرف حادثة أخرى جرت في فندق كليفورد، وهي أن نزيلا سيئ السيرة حبس نفسه في مخدعه وتناول جرعة من الزرنيخ، وظن كبير الخدم أن الرجل قد هرب، ففتح الباب، وعلق إعلانا به، وجاء نزيل آخر، فاستأجر الغرب وفرشها وانتقل للمقام فيها، ولكنه لم يجد النوم مطاوعا، فلبث يتقلب في فراشه قلقا متعبا، وانثنى يقول لنفسه: هذا شيء غريب، سأجعل الغرفة الأخرى منامة لي، وأتخذ هذه غرفة جلوس، وفعلا أحدث هذا التغيير، وطاب له النوم ليلا، ولكنه في المساء، وجد نفسه قلقا هائج الأعصاب لا يستطيع القراءة، ولا يكف عن إصلاح ذبالة الشموع وإجالة البصر فيما حوله، وقال لنفسه ذات ليلة حين عاد من مشاهدة التمثيل وأخذ يرشف كأسا من الخمرة، وهو مول ظهره إلى الجدار حتى لا يتمكن الوهم منه فيتصور أحدا من خلفه: لست أدري ما السر في هذا القلق الذي ينتابني. وفي تلك اللحظة استقرت عيناه على الغرفة الضيقة التي ظلت مقفلة وإذا رعدة تسرى في كيانه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فقال في نفسه: لقد أحسست هذا الإحساس الغريب من قبل، ولا أتمالك الشعور بأن شيئا غامضا يحيط بتلك الغرفة. وجمع شتات شجاعته، وضرب قفل الباب ضربة أو اثنتين بمحرك النار في المدفأة، ففتح الباب، وإذا هو يبصر حياله المستأجر الأخير واقفا منتصب القامة في الركن ممسكا قارورة في يده، ووجهه، نعم أما وجهه ...»
وما كاد الشيخ يبلغ من قصته هذا الحد حتى تمهل وأجال البصر في وجوه سامعيه المبهوتين، وهو يبتسم ابتسامة سرور رهيب.
وقال المستر بكوك وهو يتفرس في وجه الشيخ مستعينا بمنظاره: «ما أغرب هذه الحكايات التي ترويها لنا يا سيدي!»
وقال الشيخ: «أتقول: أغرب؟! ... كلام هراء، إنك تظنها غريبة؛ لأنك لا تعرف عنها شيئا، إنها مضحكة، ولكنها ليست مستغربة.»
وقال المستر بكوك رغم إرادته: «مضحكة!»
وأجاب الشيخ بضحكة إبليسية: «نعم، مضحكة، أليست كذلك؟»
ومضى دون أن ينتظر الجواب فقال: «وقد عرفت رجلا آخر، دعني أتذكر، عرفته منذ أربعين عاما، كان قد استأجر بضع غرف قديمة رطبة عفنة في فندق من أقدم الفنادق ظل مقفلا وخاليا عدة سنين قبل أن يأتي الرجل فيستأجر تلك الغرف فيه، وكانت تحيط بذلك المكان حكايات ونوادر كثيرة عن العجائز، والواقع أن المكان كان أبعد ما يكون من البهجة والإيناس، ولكنه كان فقيرا والأجر رخيصا، وكان رخص إيجارها سببا كافيا للرضاء بها لو أنها كانت أسوأ من حقيقتها عشرة أمثال أو تزيد، وقد اضطر إلى الاستغناء عن بعض الأشياء المركبة فيها، ومن بينها خزانة كبيرة للأوراق مصنوعة من الخشب البسيط ذات أبواب من الزجاج، ولها ستار أخضر من الداخل، وهي شيء لا نفع له منه إطلاقا؛ إذ لم تكن لديه أوراق حتى يحفظها فيها. أما ثيابه فقد كان يحملها معه، ولم يكن حملها عبئا كبيرا يقتضي مجهودا، وقصارى القول أنه نقل إلى تلك الغرف كل متاعه، ولم يكن أكثر مما تتسع حقيبة كبيرة له، وراح يخرج الأمتعة منها وينثرها في أرجاء الغرفة نثرا، حتى يجعل المقاعد الأربعة التي فيها تبدو كأنها من الكثرة اثني عشر مقعدا أو تزيد، وإنه لجالس ذات ليلة أمام الموقدة، يشرب أول كأس من جالونين من الويسكي طلبهما بالدين مسائلا نفسه: هل سيتاح له يوما أداء ثمنهما، وإذا صح ذلك، فعلى مدى كم من السنين، وإذا عيناه تلتقيان بتلك الأبواب الزجاجية لهذه الخزانة الخشبية فقال في نفسه: «لو لم أكن مضطرا إلى أخذ هذه الخزانة القبيحة الشكل بالسعر الذي قدره لها الدلال لاستطعت شراء شيء مربح بالمال الذي أديته»، وراح يخاطب الخزانة بصوت مسموع؛ لأنه لم يجد أحدا آخر يخاطبه: «اسمع يا صاح! لو لم يكن تحطيم جثتك العجوز أكثر نفقة من ثمنك بعد ذلك، لجعلتك في أسرع وقت طعاما للنار.»
ولكنه ما كاد يفوه بهذه الكلمات حتى سمع صوتا كأنه الأنين الخافت ينبعث من جوفها، فأجفل في بداية الأمر، ولكنه ظن بعد التفكير في الأمر لحظة أنه لا بد أن يكون صادرا من شاب في الحجرة المجاورة، كان يتغدى في الخارج، فوضع قدميه على سياج المدفأة ورفع محرك النار ليقلب به جذواتها، وإذا ذلك الصوت يتكرر، وأحد الأبواب الزجاجية ينفتح ببطء، فيكشف عن شبح شاحب اللون ناحل البدن في ثياب قذرة خلق منتصبا في جوف الخزانة، وكان ذلك الشيخ مديد القامة نحيفا، تلوح على وجهه سمات الهم والشجن، ولكن في لون بشرته، وجملة مظهره الهزيل الغريب عن هذه الأرض شيئا لم ير أحد من أهل هذا العالم يبدو يوما في مثله، فارتد المستأجر الجديد ممتقع اللون كثيرا، وقد وقف المحرك في كفه، وصاح به قائلا: من أنت؟ وراح يسدد المحرك إلى وجه ذلك الشيخ الرهيب، وإذا هو يجيب قائلا: «لا تقذفني بهذا المحرك؛ لأنك مهما تحسن تسديده، فسينفذ في هيكلي بلا مقاومة وتتبدد قوته في الخشب القائم من خلفي، إنني روح.»
وتلعثم المستأجر وهو يسأله قائلا: ولكن ماذا بالله عليك تريد هنا؟ وأجاب الشبح قائلا: في هذه الحجرة تم دماري حين احتوتني الحياة الدنيا، حتى تسولنا أنا وأولادي وسألنا الناس إحسانا، وقد أودعت هذه الخزانة كل أوراقي التي أنفقت السنين الطوال في جمعها، وهي في ثوب طويل سابغ، وفي هذه الحجرة، حين مت من فرط الحزن، وخيبة الأمل على مر الزمن، راح بخيلان ماكران يقسمان بينهما الثروة التي كنت أجاهد في سبيل الظفر بها طيلة حياتي التعسة، والتي لم يبق أخيرا منها درهم واحد لذريتي الشقية المنكودة الطالع، حتى لقد روعت أفرادها، وتركتهم يذهبون عني هائمين مشردين، ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أكف في الليل - وهو الفترة الوحيدة التي أستطيع أن أرف على الأرض، وأزور الدنيا - عن الهيام والحومان حول موضع شقتي القديمة، ومكان بأسائي التي طال عليها العهد، إن هذه الغرف غرفاتي، فاتركها لي.
وأجاب المستأجر وكان قد تواتى له جمع شتات خاطره خلال حديث الروح وكلامه: إذا كنت مصرا على الحضور هنا، نزلت لك عن ملكيتي بكل سرور، ولكني أحب أن أسألك سؤالا واحدا إذا أذنت لي. وقال الشبح عابسا: سل ما شئت. قال: لست أعنيك شخصيا بما أنا قائله؛ لأنه ينطبق بالسواء على أكثر الأشباح التي سمعت عنها، وهو أنه ليبدو لي عجيبا أنكم كلما واتتكم الفرصة لزيارة أجمل بقاع الأرض - لأني أظن الفضاء ليس شيئا بالنسبة لكم - لا تعودون إلا إلى البقاع التي عانيتم فيها أشد البؤس، ولا تزورون إلا الأماكن التي قاسيتم فيها أشد الشقاء، عجبي لكم كيف تفعلون! وأجاب الشبح قائلا: يا لله! إن هذا صحيح، ولم يخطر ببالي من قبل. ومضى المستأجر قائلا: ومن هذا ترى يا سيدي أن هذه الغرفة غير مريحة بتاتا، ومن شكل هذه الخزانة أراني أميل إلى القول بأنها ليست خالية من «البق» وأعتقد أنك واجد مكانا أفضل كثيرا منها وأوفر راحة، ولست أحب أن أقول شيئا عن جو لندن الكريه للغاية حتى لا يطيب المقام فيه. وأجاب الشبح بأدب قائلا: أنت على حق يا سيدي، ولم يدر هذا بخلدي قبل الآن، وسأحاول تبديل الهواء وشيكا. والواقع أنه أخذ يتوارى وهو يتكلم؛ فقد اختفت ساقاه كل الاختفاء، وراح المستأجر يناديه قائلا: وإذا تكرمت يا سيدي أن تقترح على السيدات والسادات الآخرين الذين هم اليوم في شغل بزيارة البيوت القديمة الخالية أن يلتمسوا سواها مزارا لهم، أوفر راحة وأهنأ مجالا؛ أديت للمجتمع الإنساني صنيعا كبيرا. وأجاب الشبح قائلا: سأفعل، نحن بلا شك أغبياء، أغبياء فعلا، ولست أستطيع أن أتصور كيف بلغ بنا الغباء هذا المدى. ولم يكد الشبح ينتهي من هذه الكلمات حتى اختفى.
وهنا أضاف الشبح قائلا وهو يلقي نظرة ماكرة حول المائدة: «ومن العجيب أنه لم يعد إلى ذلك المكان أبدا.»
وقال ذو الأزرار الفسيفسائية وهو يشعل لفافة كبيرة أخرى: «هذه قصة لا بأس بها إذا كانت صحيحة.»
وصاح الشبح قائلا وهو ينظر نظرة سخرية بالغة: «أتقول: إذا؟» وأردف يقول وهو يدير عينه إلى لوتن: «أحسبه قائلا بعد «إذا» هذه: إن قصتي عن العميل الغريب الذي جاءنا وأنا أشتغل في مكتب محام ليست صحيحة هي الأخرى، ولكني لست أعجب ...»
وقال ذو الأزرار الفسيفسائية: «لا أريد أن أقول شيئا عنها إطلاقا؛ لأني لم أسمعها قبل الآن.»
وقال المستر بكوك: «أتمنى لو أعدتها يا سيدي.»
وقال لوتن: «قلها؛ لأنه لم يسمعها أحد سواي، وقد كدت أنساها.»
وأجال الشيخ بصره فيمن حوله، وغمر غمرة أشد من قبل نكرا، كأنما قد انتصر بمشهد ذلك الاهتمام البادي على الوجوه كلها، ثم عرك ذقنه بكفه، وتطلع ببصره إلى السقف كأنما يحاول أن يستعيد الحادث إلى ذاكرته، ثم بدأ يقص القصة التالية:
قصة الشيخ الكبير عن العميل الغريب
قال الشيخ: لا يهم من الأمر أن أحدثكم متى وكيف وقع لي العلم بهذه القصة القصيرة، وإذا أنا رويتها لكم بالترتيب الذي وصلت إلي به ، وجب أن أبدأ من الوسط، حتى إذا بلغت ختامها، عدت أدراجي إلى البداية، وحسبي أن أقول: إن بعض حوادثها جرى أمام عيني، وأما الباقي فأعلم أنه حدث فعلا، وإن هناك أشخاصا لا يزالون أحياء ويذكرونها كل التذكر.
في حي «هاي ستريت» بقرب كنيسة القديس جورج، وعلى الجانب ذاته الذي تقع فيه يقوم - كما يعرف أكثر الناس - سجن «مارشالسي» وهو أصغر سجوننا التي يحبس فيها المدينون الذين لا يوفون بديونهم، وإذ كان ذلك السجن قد أصبح فيما بعد مكانا آخر يختلف كل الاختلاف عن ذلك المكان المليء بالأقذار الذي كان من قبل؛ فإن التحسن الذي طرأ عليه لا يغري كثيرا المسرف المتلاف، ولا عزاء فيه للعاجز عن الوفاء؛ فإن المحكوم عليه بالحبس يجد في سجن «نيوجيت» ما هو واجده المفلس المدين في سجن «مارشالسي» من الرياضة والمشي واستنشاق الهواء.
1
ولكن هذا القسم من لندن موضع لست أطيقه، وقد يكون ذلك وهما في نفسي، أو لعل مرد نفوري منه إلى عجزي عن فصله من الذكريات القديمة المتصلة به؛ فإن الشارع عريض، والحوانيت رحيبة الجوانب، وأصوات المركبات الرائحة والغادية فيه، ومواقع أقوام السابلة الذين لا ينقطع سيلهم، وجلبة الحركة والمرور فيه، تتردد أصديتها في فضائه من مطلع النهار إلى منتصف الليل، ولكن الشوارع المحيطة به حقيرة وضيقة، والفاقة والفجور يتفشيان في أزقتها المزدحمة، والعوز والبؤس معتقلان في سجنه الضيق لا يفارقانه، حتى لتبدو الكآبة والوحشة - في عيني على الأقل - محيطتين بذلك المشهد، مضفيتين عليه لونا من الوجس والذبول والمرض.
وكم من أعين قد أغمضت أجفانها من عهد طويل في القبور، كانت فيما مضى تدير بصرها في ذلك المشهد، وتلم به إلمامة عابرة، وهي تجتاز باب سجن «مارشالسي» القديم لأول عهدها به؛ فإن اليأس قلما يأتي مع أول صدمة أليمة من صدمات البؤس، وللمرء أبدا ثقة بأصحابه الذين لم يجرب مروءتهم من قبل، وإنه ليذكر المرات الكثيرة التي عرض فيها أصحابه الأولياء عليه صنائعهم في أوقات لم يكن فيها محتاجا إليها، فهو أبدا يراوده الأمل، نعم الأمل فيمن لم يجرب بعد ولم يختبر، ومهما يرزح تحت الصدمة الأولى، فلا يني ذلك الأمل أن ينهض في صدره، وينتعش من جديد إلى حين، حتى يسقط صريعا تحت وطأة الخيبة والإخفاق والإهمال، وسرعان ما تذهب تلك الأعين ذاتها الغائرة في رءوسها، ترسل نظرات شاردة من وجوه ذبلت من الجوع، واصفرت من الحبس، في تلك الأيام التي ليس من باب التشبيه والمجاز أن نقول في وصفها: إن أولئك المدينين المحبوسين ريثما يؤدون ديونهم، مضوا يقضونها في غيابة المحبس يائسين، لا يرجون إفراجا، ولا أمل لهم في حرية ولا خلاص! هنالك لا تعود لشناعة الحياة بكل مداها وجود تام، وإن بقي منها شيء يكفي لإتيان أفعال واقتراف جرائم تحيل القلب داميا.
منذ عشرين عاما، ألفت أم وطفلها الذهاب مع كل صباح إلى باب السجن، حتى لقد نحل أديم الإفريز من مواقع قدميها، وكم ذهبت مع مطالع النهار إليه بعد ليلة مؤرقة ألح عليها السهد فيها والبؤس والحسرات فجاءت باكرة إليه ساعة أو قرابتها، ثم لا تلبث الأم أن تتولى منصرفة في قنوط ويأس، ممسكة بيد طفلها، ذاهبة صوب الجسر القديم، فإذا بلغته رفعت الطفل بين ذراعيها لكي تريه الأمواه المتلألئة بضياء شمس الصباح، والحركة البادية على صفحة النهر؛ استعدادا للعمل والمتعة التي يكفلها للناس في تلك الساعات الباكرة من النهار، ولتحاول اجتذاب عينيه إلى الأشياء المترامية أمامه، ولكنها لا تلبث أن تنزله من أحضانها، وتخفي وجهها في لفاعتها، وتطلق العنان للعبرات التي ملأت عينيها؛ فقد بدا لها أن لا أثر لاهتمام ولا ابتهاج في وجهه الذليل النحيل؛ فقد كان الطفل لا يذكر شيئا كثيرا مما وقع له، ولكن القليل الذي ظل له ذاكرا كان متشابها، أو من نوع واحد، وهو فاقة أبويه وبؤسهما، ولكم قضى الساعات جالسا فوق ركبة أمه، يرقب في عطف صبياني الدموع التي كانت تتسلل إلى وجهها، ثم ينطلق في هدوء إلى ركن مظلم؛ لينام في إجهاش ونحيب. لقد عادت تلك الحقائق الأليمة، حقائق الحياة القاسية ، وكل ما اقترن بها من حرمان وجوع وظمأ وبرد وعوز تقفز إلى ذاكرته مع بواكر الفهم، ومطالع التفكير، ولئن كانت الطفولة ماثلة فيه فقد غابت عنها، بفرحها وترحها، وعينيها المتلألئتين.
وكان الأب والأم يريان ذلك ويتبادلان النظر، وفي خاطر كل منهما تصورات أليمة لا يجرؤ على تصويرها كلاما، والإفصاح عنها منطقا، وكان ذلك الرجل السليم البنية القوي البأس، الذي كان في إمكانه أن يتحمل أية مجهدة، ويضطلع بأشق عمل، قد راح يذوي في أفق المحبس المكتظ بالسجناء وجوه الموبوء، بينما أخذت المرأة النحيفة الواهنة ترزح تحت وطأة عللها الجثمانية، ومرضها النفسي، وكان فؤاد الصبي كسيرا تحطمه الأيام.
وهل الشتاء، وجاءت في أثره أسابيع من برد شديد، ومطر غزير، فانتقلت المرأة المسكينة إلى حجرات صغيرة قريبة من الموضع الذي يقوم فيه السجن الذي احتبس زوجها فيه، ولئن كانت هذه النقلة قد جاءت ضرورة اقتضاها اشتداد فاقتها؛ فقد كانت نفسها أسعد حالا من قبل لمقامها بقربه، وظلت شهرين ترقب في كل يوم هي ورفيقها الصغير الموعد الذي يفتح فيه باب السجن عادة، ولكنها في ذات يوم لم تأت إليه، ولم تكن من قبل تتخلف يوما عنه، وجاءت في صبح يوم آخر وحدها؛ فقد مات الطفل!
وما درى الذين كانوا يقولون بكل هدوء إن ثكل الرجل كان نهاية سعيدة لذلك الطفل الراحل، وخلاصا من آلامه، ورحمة بالغة بالأم التي بقيت في قيد الحياة؛ لأنها تخلصت من النفقة عليه. أقول: ما درى أولئك القائلون مبلغ عذاب الثكل، إن نظرة حب وإعزاز صامتة، حين تتولى الأعين الأخرى مشيحة بأنظارها، والشعور بأن لنا عند مخلوق واحد من العطف والحنان ما ليس لنا عند الآخرين حتى يتخلون عنا، ولا يشعرون مطلقا بنا، هما سلوة وعون وسند، في خطوبنا وويلاتنا، ولا يكفله الثراء، ولا يشتريه بالمال، ولا يؤتيه سلطان في الأرض، وكان الطفل يجلس الساعات الطوال عند قدمي أبويه، ويداه الصغيرتان متشابكتان لا تنفصلان، ووجهه النحيل يتطلع إليهما، وقد شاهداه وهو يذوي على الأيام، ولئن لم تكن حياته القصيرة سوى وجود لا فرح ولا ابتهاج فيه، وقد انتقل عندئذ إلى ذلك الهدوء المقيم الذي لم يعرفه في هذا العالم الذي جاءه عابرا؛ فقد كانا أبويه، وجاء ثكلهما له مصابا أليما يحز منهما في شغاف الروح.
وكان جليا لأعين الذين كانوا ينظرون إلى التحول البادي على وجه تلك الأم الثكلى أن موتها لن يلبث أن يختم حياة البؤس الذي كانت تعانيه ويريحها من المحنة التي كانت تقاسيها، وكان زملاء زوجها في المحبس يخشون أن يتحدثوا إليه في أمر أحزانه وبلاياه، وتركوا له وحده الغرفة الصغيرة التي كان من قبل يشغلها مع رفيقين منهم، فجاءت زوجه تقاسمه تلك الغرفة، وتقيم معه صبورا على الألم، ولكن بلا أمل، بينما ذهبت حياتها تذوي وتضمحل على الأيام.
وغلبتها الغشية في ذات مساء وهي بين ذراعي زوجها، فاحتملها إلى النافذة المفتوحة لينشقها الهواء، وإذا هو يبصر على ضوء القمر المشع على وجهها تغيرا شديدا في قسماته، جعله يتراجع مترنحا تحت وطأة ثقلها كطفل لا حول له ولا قوة.
وقالت مخافتة: أنزلني يا جورج عن ذراعيك. فأجلسها وجلس هو بجانبها، ودفن وجهه في راحيته، وأجهش بالعبرات.
قالت: إنه لجد أليم أن أفارقك، ولكن تلك مشيئة الله، فلتحتمل الخطب مرضاة لي. أواه! كم أنا حامدة لله أخذه طفلنا إلى جواره، إنه الآن سعيد في مقامه عند خالق السموات، ماذا كان صانعا هنا، وأمه ذاهبة؟
وقال الرجل وهو ينهض من مجلسه: «لن تموتي يا ماري.» وذهب مسرعا يروح ويغدو في المحبس، ضاربا رأسه بقبضتيه، ثم عاد إلى مجلسه بجانبها، واحتواها بين ذارعيه، وأضاف في سكينة قائلا: «تماسكي أيتها المرأة العزيزة، أتضرع إليك أن تتجلدي، إنك ستحيين.»
وقالت المرأة المحضورة: «لن أحيا بعد اليوم يا جورج، فدعهم يوسدوني بجانب طفلي المسكين، ولكن عدني أنك إذا غادرت يوما هذا المكان المخيف وأصبحت غنيا أخا ثراء، فسوف تنقلنا إلى مقبرة هادئة في سواد الريف بعيدة من هنا، نائية نستطيع أن نرقد فيها بسلام! أي جورج العزيز، عدني أنك فاعل.»
وقال الرجل وهو يجثو ثائر العاطفة عند قدميها: «إني لفاعل، تكلمي يا ماري! كلمة واحدة، أو نظرة واحدة.»
وأمسك عن الكلام؛ إذ شعر بأن الذراع التي كانت مطوقة عنقه بدأت تتخشب وتثقل، وانبعثت زفرة عميقة من ذلك الهيكل الذاوي الماثل حياله، واختلجت الشفتان، وخطفت ابتسامة على ذلك الوجه المصفر، ولكن لم تلبث الشفتان أن سكنتا، وتلك الابتسامة أن استحالت إلى حملقة رهيبة، لقد أمسى وحيدا في هذا العالم.
وفي تلك الليلة، ووسط الصمت والوحشة المخيمين على غرفته الحقيرة، كان الرجل المحزون التعس جاثيا بجانب جثة امرأته، مشهدا الله على موقفه أن يكرس حياته من تلك الساعة للثأر لموتها، وموت طفله، وأن يوجه آخر رمق في حياته إلى تحقيق هذا الهدف، وأن يجعل انتقامه طويل الأمد رهيبا، وأن يبقى حقده حيا لا يعاجله موت، ولا ينطفئ له سعير، وأن يطارد خصمه في أرجاء الدنيا، ومختلف بقاع الأرض.
وقد أحال اليأس الشديد، والعاطفة الثائرة إلى حد يجاوز الطبيعة البشرية، وجه ذلك الرجل الحاقد الثائر، في ليلة واحدة، إلى صورة وحشية رهيبة جعلت رفقاءه في السجن ينزوون منه رعبا كلما مر عليه ملأ منهم؛ فقد بدت عيناه متقدتين تقدحان شررا ووجهه شاحبا كوجوه الموتى، وبدنه منحنيا مقوسا كأنه ارتد شيخا كبيرا، وقد عض بنواجذه شفته السفلى حتى نفذت في لحمها، من شدة عذاب نفسه، ومضض روحه، وتساقطت منها قطرات الدم على ذقنه فلطخت بحمرتها قميصه وغطاء رقبته، دون أن تفلت دمعة من عينه، أو زفرة من صدره، ولكن النظرة القلقة الخلاجة، وتلك العجلة المضطربة التي مضى يقطع بها الفناء ذهوبا وجيئة، كانتا دليلا ظاهرا على شدة الحمى التي كانت تستعر في أنحائه.
وكان لزاما عليه أن ينقل رفات امرأته من السجن بلا إبطاء، وتلقى النبأ بهدوء تام، ووافق على النقل واحتشد أكثر السجناء لحضور نقل جثمانها، وأفسحوا الطريق وقوفا على الجانبين، حين أقبل الزوج المحزون وهو يتقدم بخطى سراع، فيقف وحيدا في داخل فضاء مسور عن كثب من باب السجن، بينما ابتعد الناس عن الموضع، بدافع إحساس غريزي استولى عليهم من دقة الموقف وحرجه، وحمل النعش البسيط الذي وضع الرفات فيه برفق على أكتاف الرجال، وساد الناس سكون رهيب، لا يبدده غير عويل النساء، ومواقع أقدام حملة النعش على الإفريز، ووصلوا إلى البقعة التي وقف فيها الزوج المحزون، فوضع يده فوق النعش وراح يسوي - وهو لا يشعر - الغطاء المنشور عليه، وأشار إليهم بمتابعة المسير، ورفع الحراس الوقوف عند الباب قبعاتهم للنعش حين مر بهم، ولم تمض لحظة أخرى حتى أغلق الباب الضخم دونه، فأرسل الرجل نظرة فازعة إلى الجمع الحاشد قبالته، وخر مغشيا عليه.
ولبث عدة أسابيع رهن حمى شديدة، وهذيان رهيب، تحت رقابة الأساة ليل نهار، لا يفارقه لحظة الشعور بمصابه، ولا ذكرى العهد الذي عاهده، وتغيرت المشاهد على عينيه، وجعلت الأماكن والبقاع تتوالى على خاطره، والأحداث تتتابع في مخيلته، في عجلة الهذيان، ولكنها جميعا كانت متصلة في صورة غريبة بذلك الهدف العظيم الماثل في ذهنه، وكان يخيل إليه أنه قد ركب البحر مارقا على زورق في لج متقاذف، ويم لا ساحل له، وتحت سماء حمراء بلون الدم، والأمواه الغاضبة الثائرة، تغلي وتتدفق في كل ناحية من حوله، وأمامه مركب آخر يغالب اللج ويصارع الأمواج، ويناضل حيال العاصفة المزمجرة، وقد راحت الرياح الهوج تعبث بأشرعته القائمة فوق السارية، وازدحم سطحها بأشباح تهتز وتتدافع إلى الجانبين، حين انطلقت الأمواج المتقاذفة تنفجر بين لحظة وأخرى، وترمي ببعض تلك الأشباح المناضلة إلى جوف البحر المزبد، ولكن المركبين ظلا يسيران وسط تلك الكتل الزائرة المزمجرة من الماء، بسرعة وقوة لا يقف شيء في طريقهما، ولا يحول دونهما حائل، حتى استطاعت الجارية المطاردة أن تلحق بالجارية المتقدمة فتضرب سكانها وتحطمه تحطيما، ومن تلك الدوامة الضخمة التي أحدثتها الجارية المغرقة انبعثت صرخة عالية مدوية، هي صيحات الموت من أفواه عشرات الغرقى، اجتمعت كلها في صرخة موحشة واحدة، تعالت حتى غطت على صيحة الحرب التي أطلقتها عناصر الطبيعة الهائجة المحنقة، ولبثت تتردد حتى ليخيل إليك أنها مضت تشق الفضاء والسماء والأوقيانوس، ولكن ما هذا؟ ما هذا الرأس الأشيب الذي طفا فوق أديم الماء، ومضى في نظرات عذاب أليم، وصيحات استغاثة، يصطرع مع الأمواج؟ لقد ألقى نظرة واحدة، ثم قفز من جانب الجارية، وانثنى يضرب الماء بذراعيه ضربات قوية سابحا نحوه، حتى بلغه وأطبق عليه، لقد كانت تلك الملامح ملامحه هو وتلك القسمات قسماته، ورآه ذلك الشيخ دانيا منه، فحاول عبثا الإفلات من قبضته، ولكنه أمسك به بقوة وجره معه تحت اليم هابطا به الأعماق، منحدرا به إلى أبعد الأغوار، حتى غلبه الوهن من طول الصراع، فلم يلبث أن كف عن المغالبة، وسكنت نأمته بعد النضال، لقد مات، وهو الذي قتله، ووفى بالعهد الذي عاهده.
وتراءى له بعد ذلك أنه راح يشق طريقه فوق رمال محرقة في صحراء شاسعة، حافي القدمين وحيدا، والرمال تخنقه وتعميه، وتنفذ حباتها الدقاق في جميع مسام بشرته، وتكاد من إلحاحها عليه تفقده لبه، وتذهب بصوابه، وكانت كتل ضخمة منها، تحملها الرياح السافيات، وتكسوها أشعة الشمس المحرقة من وهجها وبريقها، فتبدو له من بعيد كأعمدة من نار حية متأججة، وقد تناثرت عند قدميه عظام الذين بادوا في تلك المهامه القفر، وكأن ضياء رهيبا قد أشع على كل شيء حوله، وإلى آخر مدى البصر لا يبصر غير أشباح من هول ورعب مواثل أمامه، وعبثا حاول أن يطلق صرخة فزع ورعب؛ فإن لسانه قد جف حتى لصق بحلقه، فانطلق في طريقه كمن هو في جنة، كأنما أوتي قوة خارقة للطبيعة، فمضى يشق الرمال لا يلوي على شيء، حتى أعياه المسير وبلغ منه التعب كل مبلغ، فخر مغشيا عليه. ولكن ما هذه الأنسام الندية العطرة التي أنعشته، وما هذا الصوت الثجاج الذي طرق أذنيه؟ أماء يبصر؟ أي والله هذا ينبوع يبدو لعينيه، وهذا جدول فضفاض رائق الأمواه يجرى عند قدميه. لقد مضى يعب منه وينهل، ويمد أوصاله الموجعة على ضفافه، ويهبط في أعماق غيبوبة لذة عذبة ... وأفاق على وقع أقدام تدنو منه، وإذا شيخ أشيب يخطو خطى وئيدة؛ ليطفئ ظمأه المحرق. لقد رآه مرة أخرى فأسرع إليه وطوقه بذارعيه ورده عن الورود، فطفق الشيخ الأشيب يناضل ويصرخ؛ طلبا للماء، ويلتمس قطرة واحدة منه لإنقاذ حياته، ولكنه أمسك بالرجل وحال بينه وبين الينبوع، وهو يتأمل مبلغ العذاب الماثل في عينيه الظامئتين الملهوفتين، حتى إذا هوى رأسه فوق صدره، انثنى يركل جثته بقدميه بعيدا عنه.
ولما تركته الحمى وثاب إلى نفسه، صحا فوجد نفسه غنيا وحرا طليقا، وعلم أن أباه الذي رضي له الموت في السجن، نعم «رضي» له الممات سجينا، ذلك الأب الذي هان عليه أن يدع من هم أعز عليه من حياته يموتون من الجوع والمرض الذي يعجز الطب عن علاجه، قد وجد ميتا على فراشه الوثير ووسادته الناعمة، لقد رضي قلبه أن يترك ابنه يعيش من بعده متسولا مستجديا، واعتز بصحته وقوته، فأرجأ ذلك حتى دهمه الموت، ولعله الآن يصرف بأسنانه ويحرق الأرم في العالم الآخر؛ غيظا وحنقا من تصور ثرائه الذي تركه له بإهماله وتقصيره. لقد صحا لهذا ولأكثر منه، صحا ليذكر الهدف الذي كان يعيش من أجله، ويدرك أن عدوه هو الذي كان يعيش من أجله، ويدرك أن عدوه هو حموه، ذلك الرجل الذي زج به في غيابة السجن، ذلك الرجل الذي ذهبت إليه ابنته تحمل طفلها فجثت عند قدميه تسأله الرحمة، فطردهما من بيته، أواه! كم راح يلعن ذلك الضعف الذي منعه من النهوض والحركة لينفذ انتقامه الرهيب!
وتركهم يحملونه من مشهد مصابه وبأسائه إلى دار هادئة على ساحل البحر، لا أملا في استعادة سكينة نفسه ورغده؛ فقد تخليا عنه إلى الأبد، بل لاسترداد قواه الذابلة، والتفكير في هدفه العزيز عليه، وفي تلك الدار، أتاحت له روح شريرة الفرصة لتحقيق انتقامه الرهيب.
وكان الوقت صيفا، فكان يخرج من البيت ساهما مستغرقا في تفكيره الكئيب، على مطالع المساء، فيهيم على وجهه في درب ضيق تحت صخور البحر إلى بقعة قفراء منعزلة راقه الاختلاف إليها في هيمانه وتجواله فيقتعد لديها حجرا سقط من صخرة، ويمكث الساعات عندها دافنا رأسه بين يديه، حتى لقد يطول به الجلوس أحيانا، إلى غمرة الظلام، حين ترسل ظلال الصخور العابسة فوق رأسه حلكة كثيفة على كل شيء حوله.
وإنه لجالس ذات مساء هادئ في ذلك الموضع الذي اعتاده، رافعا بين لحظة وأخرى رأسه ليرقب رفيف غر فوق صفحة البحر، أو يجيل العين في ذلك الدرب المستطيل على حمرة الشفق الرائع المشهد وهو يبدأ من بهرة الأوقيانوس، ثم يمتد كأنه مؤد إلى الحافة ذاتها التي تغيب الشمس عندها، وإنه لجالس في تلك البقعة؛ إذ تبدد ذلك السكون العميق الذي يغمر موضعه على انطلاق استغاثة تشق عنان السماء، فأرهف سمعه، وهو في شك من الأمر، فإذا الصرخة تتكرر وتشتد، فاستوى على قدميه، وبادر إلى البقعة التي انبعث منها، وإذا هو يبصر مشهدا بليغا في ذاته، يقص قصته؛ فقد رأى ثيابا متناثرة على الرمال، ورأسا بشريا يطفو فوق الموج، على مسافة قليلة من الشاطئ، وشيخا يقلب كفيه من فرط الألم، يعدو فوقه ذهوبا وجيئة، صارخا يطلب الغوث، فلم يكن من ذلك المريض الذي كان قد استرد يومئذ قدرا كافيا من قواه، إلا أن خلع رداءه، واندفع إلى البحر، معتزما الوثوب إلى أمواهه، وجر الغريب إلى البر، وإذا الرجل الكبير السن يبادره في لوعة حرى، وهو متقدم إلى لقائه صارخا: «باسم الله يا سيدي، الغوث، الغوث، البدار يا سيدي بحق السموات، إنه ابني يا سيدي، إنه ولدي الوحيد، وهو يموت أمام عيني أبيه!»
ولم يكد الغريب يسمع الكلمة الأولى من فم الشيخ حتى جمد في مكانه، ووقف مشتبك الذارعين، لا يعير حراكا.
وإذا الشيخ يتراجع صائحا في دهشة بالغة: «رباه! من أرى؟ هيلنج!»
فابتسم الغريب، ولبث صامتا.
وصاح الشيخ قائلا في ثورة عاطفته: «هيلنج! ولدي يا هيلنج! ولدي العزيز! انظر، انظر!»
وراح الشيخ المسكين المتقطع الأنفاس يشير إلى البقعة التي كان الفتى يناضل فيها ويصارع للنجاة بحياته.
وقال الشيخ: «اسمع! إنه يصرخ مرة أخرى. إنه لا يزال حيا، أي هيلنج! ناشدتك الله إلا ما أنقذته!»
ولكن الغريب عاد يبتسم، ولبث جامدا في مكانه.
وصاح الشيخ وهو يجثو على ركبتيه ويشبك يديه: «لقد ظلمتك فخذ بثأرك مني، خذ كل ما ملكت يميني، خذ كل شيء، خذ حياتي، وألق بي في اليم عند قدميك، وإذا جاز للطبيعة البشرية أن تكبت صراعا، وتمسك عن نضال، فسأموت دون أن أحرك يدا ولا قدما، ألا أنقذه يا هيلنج! افعل ناشدتك، أنقذ ولدي، إنه صغير يا هيلنج، لا ينبغي له أن يموت.»
وأجاب الغريب وهو يمسك الشيخ بوحشية من معصمه: «اسمتع لي، النفس بالنفس، والحياة بالحياة، وهذه واحدة، لقد مات طفلي أمام عيني أبيه، ميتة أشد عذابا وألما من هذه الميتة التي يلقاها اللحظة ذلك الفتى الواشي في حق أخته وفضلها، وقد ضحكت أنت في وجه ابنتك، حين كان الموت قد ألقى كفه على آلامنا وعذابنا، فماذا بقي في خاطرك عنهما الآن؟ انظر هناك، انظر هناك!»
وأشار الغريب إلى البحر، وإذا صرخة خافتة تتلاشى على أديمه، وإذا نهاية ذلك الصراع العنيف من ذلك الفتى الصغير المحضور تهيج الأمواج المتدفقة بضع ثوان، وإذا البقعة التي هوى عندها إلى قبره الباكر لم تعد تفترق في شيء عن الأمواه المحيطة بها.
وانفرطت ثلاثة أعوام.
ووقفت ذات يوم مركبة خاصة بباب محام في لندن اشتهر يومئذ بأنه ليس على شيء كثير من النزاهة والأمانة في مهنته، ونزل منها سيد لا يلوح عليه أن جاوز ربيع الحياة، وإن بدا شاحبا، ناحلا، مهموما، فلا يحتاج رجل الأعمال فطنة حادة ليتبين بنظرة واحدة أن المرض أو الألم كان أفعل أثرا في هذا التغير الذي طرأ على مظهره مما كان في إمكان الزمن أن يحدثه في ضعفي الفترة كلها التي انقضت من حياته.
وقال ذلك الغريب: «أريد أن تتولى عملا قضائيا لي.»
وانحنى المحامي انحناءة أدب بالغ، ورمق ببصره إضمامة كبيرة من الأوراق كان الغريب يحملها في يده، ولاحظ الزائر نظرته تلك فمضى يقول: «ليس العمل الذي أريد أن أكله إليك عاديا، ولا هذه الأوارق وصلت إلى يدي هينة سهلة، بل جاءت بعد تعب شديد ونفقة باهظة.»
فعاد المحامي يلقي نظرة أكثر لهفة وفضولا إلى تلك الرزمة، وأخذ الزائر يفك الخيط الذي ربطت به، ويخرج قدرا من الأوارق والتعهدات وصورا من عقود ووثائق أخرى.
ومضى العميل يقول: «إن الرجل الذي تحوي هذه الأوراق اسمه - كما سترى - استطاع أن يجمع مالا طائلا منذ بضع سنين، وكان بينه وبين الذين وقعوا من بداية الأمر في يديه - والذين استطعت أن أشتري منهم شيئا فشيئا الأوراق لقاء ثلاثة أو أربعة أمثال قيمتها الاسمية - تفاهم واتفاق على وجوب تجديد هذه القروض من وقت إلى آخر، خلال فترة معينة من الزمن ثم لا تتجدد بعد ذلك أبدا، ولكن هذا التفاهم لا يبدو له أثر في هذه الأوراق مطلقا، وقد تعرض منذ عهد قريب لعدة خسائر، وإذا تراكمت عليه هذه الالتزامات مرة واحدة حطمته حتما وأسقطته.»
وقال المحامي وهو مكب على الأوراق: «إن جملة المال تصل إلى عدة آلاف من الجنيهات.»
وأجاب العميل: «هذا صحيح.»
وقال المحامي: «فماذا نحن صانعون؟»
وأجاب «العميل» بانفعال فجائي: «صانعون؟ نستعدي كل أداة في القانون القائم، وكل حيلة في وسع البراعة أن تتفتق عنها، وكل خدعة تعمد إليها النذالة، مع كل المهارة التي أوتيها أبرع المحامين، إنني أريد له موتا أليما بطيئا شديد العذاب، أريد أن أخرب بيته تخريبا، وأحجز وأبيع كل أراضيه وأملاكه ومتاعه، أريد أن أشرده من بيت إلى بيت، وأنهي حياته متسولا في شيخوخته، وأتركه يموت في السجن.»
وأجاب المحامي، بعد أن أفاق من دهشته العابرة: «ولكن النفقات يا سيدي العزيز، وتكاليف هذا كله، فإذا كان المدعى عليه فقيرا مسكينا فمن الذي سيؤدي النفقات يا سيدي؟»
وقال الغريب ويده ترعش بشدة من فرط الحماسة، حتى لا يكاد يقوى على الإمساك بالقلم الذي تناوله في يده وهو ماض في قوله: «قل ما شئت، وعين المال الذي تريد، يكن لك، لا تخش أن تعينه يا رجل، فلن أحسبه باهظا إذا تحقق به هدفي.»
وعين المحامي قدرا كبيرا من المال خبط عشواء، عربونا أو «مقدم أتعاب»؛ ليضمن به حقه إزاء احتمال الفشل، وجواز الإخفاق، بل فوق ذلك كله، ليعرف إلى أي مدى يعتزم عميله الذهاب، أكثر من التفكير من مبلغ تنفيذه لما يطلبه. ولكن الغريب كتب بالمال المطلوب صكا على البنك الذي يتعامل معه، وانصرف.
وصرف المال في حينه، ووجد المحامي أن عميله الغريب يصح الاعتماد عليه، فشرع في العمل بجد، ولبث المستر هايلنج أكثر من عامين بعد ذلك يجلس الساعات الطوال في المكتب مكبا على الأوراق ويعيد القراءة مرارا وتكرارا، وعيناه تبرقان فرحا واغتباطا، في كتب الاحتجاج، والتماسات التأجيل ولو إلى فترة قصيرة، وصور الدمار الذي سيحيق بالمدين، ويتابع القضايا واحدة بعد أخرى، والدعوى تلو الدعوى في فيض غير منقطع، فوجد عن كل التماس يرجو به الشيخ مهلة قصيرة جوابا واحدا، وهو «لا بد من الوفاء»، وتبين له أن الأرض والعقار والأثاث كانت جميعا تنتقل إلى حوزته؛ تنفيذا لعديد الأحكام الصادرة بوجوب الاستيلاء عليها، حتى أمسى الشيخ نفسه مهددا بالزج في السجن لولا أنه تمكن من الإفلات من رقابة الشرطة ولاذ بأذيال الفرار.
ولم يكن نجاح هذه المطاردة الملحة في إشباع كراهية هايلنج للشيخ، وإطفاء نار حقده عليه، بل زاده الدمار الذي أنزله به حقدا وغلا، واشتد به الحنق حين علم بنبأ فراره، فجعل يصرف بأسنانه من الغضب، ويقطع شعر رأسه تقطيعا، ويهاجم بالسب واللعن الذين عهد إليهم بأمر القبض عليه فتركوه يفلت منهم، ولم يكن يسترد بعض الهدوء إلا بتكرار التوكيد له أن الاهتداء إلى مخبأ ذلك الهارب محقق، حتى لقد أوفد رسلا للبحث عنه في كل مكان، واتخذ كل حيلة لمعرفة الموضع الذي أوى إليه، ولكن الجهود التي بذلت في هذه السبيل ذهبت جميعا أدراج الرياح، وانفرط نصف عام ولا يزال الشيخ مختفيا لا يعرف أحد أين تراه ذهب.
ففي ذات مساء، ظهر هايلنج بعد غيبة عدة أسابيع عن مكتب محاميه، ودق باب البيت الذي يقيم وكيله فيه، وبعث إليه بمن ينبئه أن سيدا يريد لقاءه في الحال، وقبل أن يتمكن المحامي - حين عرفه من صوته فوق السلم - من إصدار أمره إلى الخادم بدخوله عليه، كان هايلنج قد دخل حجرة الاستقبال شاحب اللون لاهث الأنفاس، وتقدم إلى الباب فأوصده حتى لا يسترق أحد السمع عليهما، وتهالك على مقعد وأنشأ يقول بصوت خافت: «لقد وجدته أخيرا.»
وقال المحامي: «أحق هو؟ لقد أحسنت يا سيدي العزيز، لقد أحسنت.»
وأجاب هايلنج إنه الساعة يقيم في بيت حقير في «كامدن» ولعلنا قد أخفقنا في اكتشاف مقره؛ لأنه يعيش في ذلك البيت وحيدا يقاسي أشنع البؤس طيلة الأيام وهو فقير، يعاني فاقة شديدة.»
وقال المحامي: «حسن جدا، وسنستصدر بالطبع أمرا بالقبض عليه.»
وأجاب هايلنج: «نعم، بل تمهل! كلا، بل في اليوم التالي له! وأراك في دهشة من رغبتي في التأجيل»، ومضى يبتسم ابتسامة منكرة ويردف قائلا: «لقد نسيت بادي الرأي؛ فإن بعد غد ذكرى مشهودة في حياته، فليكن اعتقاله بمناسبتها.»
وقال المحامي: «حسن جدا! ألا تكتب للضابط في هذا الشأن؟»
قال: «كلا، دعه يجتمع بي هنا في الثامنة من المساء فأصحبه بنفسي إلى مخبئه.»
واجتمعا في الموعد المضروب، فاستأجرا مركبة وأمرا سائقها أن يقف بهما في طريق «بانكراس» عند الموضع الذي يقوم فيه مصنع «الأبرشية»، وكان الظلام قد حل حين نزلا من المركبة في ذلك الموضع، فسارا حذاء الجدار القائم قبالة المستشفى البيطري، وعطفا هنالك على زقاق كان يدعى يومئذ «شارع الكلية الصغيرة» وكان في تلك الأيام - وإن لم ندر ماذا صنع الله به اليوم - مكانا مهجورا، لا يحيط به غير الحقول والخنادق.
وأرخى هايلنج قبعته التي تلازمه في الأسفار على عينيه، وتزمل بقبائه، ووقف أمام أحقر بيت في ذلك الزقاق ودق الباب برفق، فجاءت في الحال امرأة ففتحته وانحنت انحناءة تنم عن المعرفة، فهمس هايلنج للشرطي أن يبقى حيث هو، وتسلل وحده إلى الطبقة العليا من البيت، وفتح باب الحجرة الأمامية، ودخل في الحال.
وكان الشيخ قد أمسى مقعدا، وهو يجلس أمام منضدة خشبية عارية، من فوقها شمعة ضئيلة، فلم يكد يرى الغريب داخلا عليه، حتى نهض متحاملا على قدميه.
وقال الشيخ: «ماذا تريد الآن؟ أي بلاء جديد هذا؟ ماذا تريد هنا؟»
وأجاب هايلنج: «كلمة معك!»
وراح يجلس في الطرف الآخر من المنضدة ويخلع عنه قباءه وقبعته، ويكشف عن وجهه.
وإذا الشيخ يفقد في التو واللحظة قوة النطق ويسقط في مقعده ويشبك يديه ويرمق الشبح القائم حياله بنظرة امتزج فيها المقت بالخوف.
وأنشأ هايلنج يقول: «في مثل هذا اليوم من ستة أعوام خلت، طالبت بحياة طفلي التي كنت مدينا بها لي، وقد أقسمت بجانب ابنتك وهي تجود بأنفاسها الأخيرة أن أحيا حياة ثأر وانتقام، ومنذ ذلك اليوم لم أنحرف لحظة واحدة عن هدفي، ولو انحرفت، لكان في ذكري الآلام التي صبرت عليها غير شاكية، ونظراتها الأليمة وهي تذبل رويدا وتذوي، أو وجه طفلنا الساغب، ما يكفي حافزا لي على تحقيق غايتي، ولعلك ذاكر أول ما بدا من انتقامي، وهذا اليوم هو الانتقام الأخير.»
وارتعد الشيخ وتخاذلت ذراعاه إلى جنبيه.
وتمهل هايلنج لحظة ثم مضى يقول: «إنني تارك هذه البلاد غدا، والليلة أنا مسلمك إلى الموت الحي الذي أسلمتها إليه، إلى سجن أبدي لا أمل في الخروج منه.»
ورفع عينيه إلى وجه الشيخ وتمهل قليلا، ثم قرب النور منه، ورده إلى موضعه في رفق، وغادر الغرفة.
وقال للمرأة وهو يفتح الباب: «يحسن بك أن تعني بأمر الشيخ، فإني أحسبه مريضا»، وأشار إلى الشرطي أن يتبعه، وأغلقت المرأة الباب.
وصعدت في عجلة إلى الشيخ، فوجدته قد فارق الحياة.
وتحت أطباق الثرى، في جدث بسيط المظهر، في بقعة من أجمل البقاع، وفي المقابر المنعزلة، في إقليم «كنت»؛ حيث الأزاهر البرية مختلطات بأنضر الحشائش ويبدو المشهد المحيط بالموضع أبدع البقاع في البلاد كلها، ترقد عظام تلك الأم الشابة وطفلها البديع، ولكن رفات الأب لم يختلط بتلك العظام، ومنذ تلك الليلة لم يظفر المحامي بأي نبأ عما كان من أمر ذلك العميل الغريب.»
وما كاد الشيخ يختم قصته، حتى تقدم إلى مشجب في ركن من الحجرة، فتناول منه رداءه وقبعته فلبسهما بتأن بالغ، وانصرف دون أن ينبس بكلمة واحدة.
وكان السيد ذو الأزرار الفسيفسائية قد استولى النعاس عليه، وراح أكثر أفراد الجمع في شغل شاغل بمداعبته ووضع دهن الشمع المذاب في كأسه، فانتهز المستر بكوك هذه الفرصة وانصرف دون أن يلحظ أحد منهم انصرافه، وبعد أن أدى حساب شرابه وشراب المستر ولر انطلقا معا من حانة «العقعق والقرمة».
هذا السجن لم يعد له وجود (المترجم).
الفصل الثاني والعشرون
رحلة المستر بكوك إلى إبسويتش وواقعة حال له مع امرأة نصف ملففة جدائلها في ورق أصفر. ***
وسأل المستر ولر الكبير فتاه الودود سامي وهو يدخل فناء فندق «بل» في هوايتشابل يحمل حقيبة سفر وحقيبة صغيرة: «أهذا متاع المعلم يا بني؟»
وأجاب المستر ولر الصغير وهو يحط عنه العبء الذي كان يحمله على أرض الفناء ويجلس فوقه: «لقد كان أولى بك يا صاح أن تحدس حدسا أسوأ من هذا، إن المعلم نفسه قادم إلى هنا اللحظة.»
قال الوالد: «أحسبه آتيا في مركبة.»
وأجاب الابن: «أي نعم، سيركب مسافة لا تزيد على ميلين، نظير ثمانية بنسات، كيف حال امرأة أبي اليوم؟»
وأجاب المستر ولر الكبير بجد بالغ: «عجيب! يا سامي، عجيب والله. لقد بدأت تدخل في جماعة المثوديين منذ أيام يا سامي، والمؤكد أنها امرأة تقية فوق ما يجب وأنا لا أستأهل مثلها، وأعتقد أنني غير جدير بها.»
وقال المستر صمويل: «آه، هذا إنكار ذات منك.»
وأجاب الأب بزفرة: «جدا، لقد توصلت إلى اختراع شيء يجعل الكبار يولدون من جديد يا سامي، وهذا الاختراع يسمى على ما أظن: «المولد الجديد» إنني أحب أن أرى هذا الاختراع في دور التنفيذ، وأود كثيرا أن أرى امرأة أبيك مولودة من جديد؛ لكي أسلمها لمرضعة تتعهد بها يا سامي.»
ومضى المستر ولر بعد سكوت قصير جعل خلاله يضرب أنفه بأصبعه بضع مرات يقول: «ماذا تظن أولئك النساء قد فعلن من يومين يا سامي؟»
وأجاب سامي: «لا أدري، ماذا فعلن؟»
قال: أقمن حفلة شاي لرجل يسمينه «الراعي» وكنت واقفا أنظر إلى الصور في الحانوت الذي في حينا فقرأت إعلانا مكتوبا فيه «التذكرة بنصف كراون، جميع الطلبات تقدم إلى اللجنة، الأمينة المسز ولر» ولما رجعت إلى البيت وجدت اللجنة مجتمعة في غرفة الجلوس عندنا، وكان عددهن أربع عشرة امرأة، كنت أتمنى لو سمعتهن يا سامي بنفسك، لقد كن يتخذن قرارا، ويأخذن الأصوات، ويقمن بأعمال من هذا القبيل، وبعد إلحاح من امرأة أبيك علي في الذهاب لحضور الحفلة وشوق مني لرؤية مناظر غريبة إذا ذهبت، استخرت الله وكتبت اسمي طالبا تذكرة، وكان الموعد الساعة السادسة من مساء يوم الجمعة، فلبست وتزينت أحسن زينة، وذهبت مع المرأة العجوز، ودخلنا قاعة واسعة وضعت فيها أدوات الشاي لثلاثين شخصا، فرأيت النساء يبدأن في التهامس مع بعضهن البعض، ثم ينظرن إلي، كأنهن لم يرين في حياتهن رجلا بدينا في الثامنة والخمسين من العمر، وبعد لحظة سمعنا حركة شديدة على السلم، وإذا شخص طويل نحيل الجسم أحمر الأنف في غطاء رقبة أبيض، فصاح قائلا: «لقد أتى الراعي ليزور قطيعه الوفي الأمين» وإذا رجل سمين في ثوب أسود وله وجه ضخم أبيض، وهو يبتسم ابتسامة عريضة كالساعة الدقاقة ... هذا والله ما حصل يا سامي! وقال الراعي: «قبلة السلام!» ومضى الراعي يقبل النساء، ولما انتهى، بدأ الرجل الأحمر الأنف، وعندئذ بدأت أنا الآخر أفكر هل يحسن بي أنا أيضا أن أبتدئ، لا سيما أن سيدة جميلة لطيفة جدا كانت جالسة بجانبي، وإذا الشاي يأتي، وامرأة أبيك معه؛ لأنها كانت في الطابق الأسفل تقوم بغليه ... فانهالوا جميعا عليه بأسنانهم وأظافرهم، وكان الترتيل يا سامي عاليا جميلا، عندما كان الشاي يغلي ويدور الأكل والشرب! كنت أتمنى أن ترى الراعي وهو يهجم على اللحوم والفطائر، فوالله ما رأيت في حياتي إنسانا يأكل ويشرب مثله، والرجل الأحمر الأنف، لا أظنك ترضى أن تتعهد لإنسان كهذا بتقديم الأغذية والمأكولات، ولكنه أين يروح بجانب ذلك الراعي ... ما علينا. وبعد الانتهاء من الشاي بدأوا في ترتيلة أخرى، وبعدها بدأ الراعي يعظ، وقد أتقن الوعظ فعلا، وهو عجيب، لم يكن منتظرا منه إذا تذكرنا أن هذه الفطائر الدسمة لا بد من أنها أثقلت على صدره، وكتمت أنفاسه، وإذا هو فجأة يقف عن الوعظ، ويصيح قائلا: «أين المذنب؟ أين المذنب الأثيم؟» وفي الحال رأيت النساء جميعا ينظرن نحوي، وبدأن يتأوهن كأنهن سيمتن، وكان هذا المنظر غريبا ولكني سكت ولم أقل شيئا، وعاد الراعي مرة أخرى يقول وهو ينظر إلي نظرة قاسية: أين المذنب؟ أين المذنب المنكود؟ وعاد النساء يتأوهن عشرة أضعاف تأوهاتهن الأولى، الحق أقول لك: إني غضبت وتهيجت، وخطوت خطوة أو اثنتين إلى الأمام، وقلت له: هل وجهت لي يا صاح هذا السؤال الذي سألته؟ ولكنه بدلا من أن يعتذر لي ويرضي خاطري بكلمتين لطيفتين أخذ يسب لي «الأخضرين» ويشتمني، ويقول عني يا سامي إنني «أجوف تافه» وشتائم أخرى من كل لون. أقول لك الحق: إن دمي أخذ يغلي في عروقي، فلكمته هو أولا لكمتين أو ثلاث لكمات، ومثلها أو أكثر ليسلمها إلى الرجل الأحمر الأنف، وانصرفت، أتمنى لو أنك سمعت صراخ النساء في تلك اللحظة يا سامي وهن يخرجن الراعي من تحت المائدة ... ها! ها هو المعلم قد جاء ... «قدر الدنيا!»
وفيما كان المستر ولر ماضيا في حديثه هذا نزل المستر بكوك من المركبة ودخل الفناء.
وبادر المستر ولر الكبير قائلا: «صباح بديع يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بديع. فعلا!»
وردد هذا القول بالذات رجل أحمر الشعر ذو أنف فضولي ومنظار أزرق، كان قد نزل في اللحظة ذاتها من مركبة أخرى، والتفت إلى المستر بكوك قائلا: «أذاهب إلى إبسويتش يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم.» - «اتفاق عجيب، أنا أيضا ذاهب إليها.»
فأومأ المستر بكوك إليه.
وقال ذو الشعر الأحمر: «وستركب خارج الحافلة؟»
وعاد المستر بكوك يومئ مرة أخرى.
وقال ذو الشعر الأحمر: «ما أعجب وما أغرب! أنا أيضا سأركب خارج الحافلة، نحن إذن مسافران معا.»
وكان الرجل تبدو عليه الأبهة، حاد الأنف، غريب الكلام، اعتاد أن يحدث هزة برأسه كلما قال شيئا، كما تفعل العصافير، ومضى يبتسم كأنه قد وقع على أغرب اكتشاف تواتى يوما للحكمة البشرية.
وقال المستر بكوك: إنني لسعيد برفقتك في السفر يا سيدي.
وأجاب الرجل الغريب: «آه، إنه من حسن حظنا معا، أليس الأمر كذلك؟ الرفقة - كما ترى - إنها شيء مختلف جدا عن العزلة أليس الأمر كذلك؟»
وقال المستر ولر، وهو ينضم إلى الحديث بابتسامة لطيفة: «لا نكران لهذه الحقيقة، هذا ما أسميه كلاما واضحا لا يحتاج إلى دليل، كما قال بائع لحم الكلاب حين قالت له ربة البيت: إنه ليس رجلا مهذبا.»
وقال ذو الشعر الأحمر وهو يجيل البصر في المستر ولر من فرعه إلى قدمه بنظرة استنكار وأنفة: «آه، أهذا صديق لك يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك مخافتا بصوته: «ليس صديقا بالضبط، ولكنه في الواقع خادمي، وأنا معطيه قدرا كبيرا من الحرية؛ لأنني - بيني وبينك - أعتقد أنه فريد في نوعه، فذ، وإني به لمعتز.»
وقال الرجل ذو الشعر الأحمر: «آه، هذه مسألة ذوق، وأنا لا أحب الإنسان الفذ ولا أميل إليه ولا أرى ضرورة تدعو إليه، ما اسمك يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك قائلا، وقد سرته كثيرا مباغتته بهذا السؤال، كما راقته غرابة أطوار الرجل: «ها هي ذي بطاقتي يا سيدي.»
وقال ذو الشعر الأحمر وهو يضع البطاقة في جيبه: «آه! بكوك، جميل جدا، إنني أحب أن أعرف أسماء الناس؛ لأنها تغني المرء عن تعب كثير، ها هي ذي بطاقتي يا سيدي، تتبين منها أنني أدعى ماجنس يا سيدي، اسمي ماجنس، أعتقد أنه اسم حسن يا سيدي، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يكاد يملك كبت ابتسامة: «إنه اسم حسن جدا فعلا.»
ومضى المستر ماجنس يقول: «نعم أعتقد أنه كذلك، إن هناك اسما آخر قبله كما تلاحظ، اسمح لي يا سيدي، أرجوك أن تمسك بالبطاقة مائلة قليلا، حتى لا يقع الضوء على الحروف من فوق، ها هو ذا بيتر ماجنس، أظن النغمة عند النطق به جميلة، أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك: «جدا.»
ومضى المستر ماجنس يقول: «إن الحرفين الأولين من هذين الاسمين يقترنان بظرف غريب، لعلك تلاحظ يا سيدي أنهما «ب، م» - بوست مريديان
1 - حتى إنني أحيانا أوقع الرقاع المستعجلة التي أكتبها إلى أصدقائي الحميمين بهذه الإمضاءة «بعد الظهر»، وقد سرت أصدقائي كثيرا يا مستر بكوك.»
وأجاب المستر بكوك وهو في أعماق نفسه يعجب لهذه السهولة التي يسر أصدقاء المستر ماجنس بها، قائلا: «إنني مدرك أيضا أنها مدعاة سرور بالغ لهم.»
وجاء رب الفندق يقول: «والآن، أيها السيدان، المركبة على استعداد؛ إذا تفضلتما بالركوب.»
وسأله المستر ماجنس: «هل نقلتم إليها كل أمتعتي؟» - «كلها يا سيدي.» - «والحقيبة الحمراء؟» - «كل شيء يا سيدي.» - «والحقيبة ذات الأربطة؟» - «في خزانة العربة الأمامية يا سيدي.» - «والحزمة الملففة في الورق الأسمر؟» - «تحت المقعد يا سيدي.» - «وصندوق القبعة الجلد؟» - «كله في المركبة يا سيدي.»
وهنا قال المستر بكوك: «والآن ألا تصعد؟!»
وأجاب المستر ماجنس وهو واقف على العجلة: «معذرة يا مستر بكوك، لا يمكن أن أوافق على الصعود وأنا في هذه الحالة من الشك، إنني مقتنع كل الاقتناع من طريقة هذا الرجل في ردوده بأن علبة القبعة لم توضع في المركبة.»
ولم تجد توكيدات رب الفندق وأقسامه المقدسة نفعا في إقناع هذا السيد الغريب، وأصر على أن يبحث عنها حتى عثر عليها في قاع «خزانة» المركبة، فاطمأن إلى وجودها في أمان، ولكنه أحس بهاتف يوحي إليه أولا أن الحقيبة الحمراء لم توضع كما يجب، وثانيا أن الحقيبة ذات الأربطة سرقت، وأخيرا أن الحزمة الملففة في الورق قد تفككت، وبعد أن تحقق بعينيه أن كل هذه الشكوك لم تكن في محلها وافق على الصعود فوق سقف المركبة قائلا: إنه الآن قد أزال كل ما كان يخالج نفسه من ريبة، وإنه مستريح سعيد.
وقال المستر ولر الكبير وهو ينظر إليه بطرف عينه حين صعد إلى موضعه: «إنك عصبي، ألست كذلك يا سيدي؟!»
وأجاب الغريب: «بلى، إنني أكاد أكون كذلك في هذه المسائل الصغيرة ونحوها، ولكني الآن بخير تام، بخير تام.»
وقال المستر ولر: «الحمد لله، وأنت يا سامي، أعن سيدك على الصعود، الرجل الأخرى يا سيدي، هكذا، أعطنا يدك يا سيدي، هيا! لقد كنت بلا شك أخف وزنا وأنت صغير يا سيدي منك الآن!»
وأجاب المستر بكوك بلطف وهو لاهث الأنفاس، حين اتخذ مجلسه فوق الأريكة إلى جانبه: «هذا صحيح يا مستر ولر.»
وقال المستر ولر: «اقفز إلى الأمام يا سامي، والآن أطلق الخيل يا وليم ... احترسوا أيها السادة من الباب الكبير، طأطئوا رءوسكم! حسبك هذا يا وليم، دعهم وشأنهم.»
وانطلقت المركبة صعدا في طريق هوايتشابل وسط إعجاب جميع سكان تلك المنطقة المزدحمة بالقاطنين.
وقال سام وهو يلمس قبعته بكفه، كما ألف أن يفعل كلما دخل في حديث مع سيده: «إن هذا الحي يا سيدي ليس لطيفا.»
وأجاب المستر بكوك وهو يتأمل الشارع المزدحم القذر الذي يمرون منه: «فعلا يا سام.»
وواصل سام قوله: «إنه لظرف عجيب جدا يا سيدي أن الفقر وحيوان الأصداف البحرية لا يفترقان.»
وقال المستر بكوك: «لست أفهم مرادك يا سام!»
وأجاب سام: «إن ما أعنيه يا سيدي هو أنه كلما اشتد الفقر بمكان ما اشتد الإقبال فيه على الأصداف البحرية، انظر يا سيدي تر محلا لبيع هذه الأصداف لكل ستة من البيوت، وتشهد الشارع ممتلئا على الصفين بحوانيت بيع هذا المحار، وأعتقد أنه كلما ألح الفقر على أحد من الناس هنا اندفع من مسكنه ليأكل هذه الأصداف من شدة اليأس من الحياة.»
وقال المستر ولر الكبير: «بلا شك، وهذا هو الحال أيضا بالنسبة للسلمون المملح!»
وقال المستر بكوك: «هاتان حقيقتان بارزتان لم تخطرا ببالي قبل الآن، وسأدونهما في مذكراتي عند أول موضع نقف فيه.»
وكانوا حينئذ قد وصلوا إلى «نقطة العوايد» - المكوس - في «مايل إند»، وساد السكون، حتى قطعوا ميلين أو ثلاثة أميال أخرى، وعندئذ التفت المستر ولر فجأة إلى المستر بكوك وأنشأ يقول: «إن حياة «حارس النقطة» حياة غريبة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «حارس ماذا؟» - «حارس النقطة.»
وسأل المستر ماجنس: «ماذا تعني بحارس النقطة؟»
وتدخل المستر صمويل ولر لشرح مراد الوالد فقال: «إن الرجل العجوز يعني حارس باب العوائد، وهذا هو قصده.»
فقال المستر بكوك: «آه، فهمت، نعم، إنها لحياة غريبة جدا، ومتعبة للغاية.»
وعاد المستر ولر الكبير يقول: «إن هؤلاء القوم أناس لاقوا في حياتهم تعاسة وخيبة رجاء.»
وقال المستر بكوك: «ماذا؟»
وأجاب المستر ولر الكبير: «أي نعم، ولهذا السبب تراهم يتركون العالم ويحبسون أنفسهم في هذه النقط، أولا: لكي يعيشوا وحيدين، وثانيا: لينتقموا من الناس بمقاضاة المكوس.»
وقال المستر بكوك: «يا عجبا! ما كنت أعرف هذا قبل الآن.»
وأجاب المستر ولر: «هذه حقيقة يا سيدي، ولو كانوا قوما متعلمين لسميتهم الناقمين الساخطين على البشر، أما وهم ليسوا كذلك فكل ما يقال عنهم: إنهم حراس على المكوس فقط.»
وعلى هذا النحو مضى المستر ولر ينفي عن الرحلة سآمتها بمثل هذا الحديث الذي يجمع بين فتنة الدعابة وفائدة المعرفة، حتى مضى أكثر النهار فيه، فلم تعوزهم الموضوعات مطلقا، ولا نقصتهم أفانين القول، وكلما تخللت ثرثرة المستر ولر وقفات أو فراغ، راح المستر بيتر ماجنس يسده بالرغبة في معرفة أحوال رفقائه في السفر، وسماع قصة حياتهم واحدا واحدا، وإظهار قلقه في كل مرحلة عي سلامة الحقيبتين وعلبة القبعة والحزمة الملففة بالورق!
وفي شارع إبسويتش الرئيسي، وعلى الجانب الأيسر من الطريق، بعد مسافة قصيرة من الأرض الفضاء الممتدة أمام دار البلدية، يقوم فندق اشتهر عند القاصي والداني باسم «الحصان الأبيض الكبير» يزيده ظهورا للعين ووضوحا تمثال حجري لحيوان غريب ذي معرفة غزيرة وذيل طويل يشبه من بعيد حصان مركبة نقل، يبدو الجنون عليه، وقد نصب هذا التمثال فوق الباب الكبير، واشتهر فندق «الحصان الأبيض الكبير» في تلك الجهة شهرة ثور فحل، أو لفتة نادرة رددت الصحف ذكرها أو حلوف بدين ... أي إنه عرف بضخامة حجمه، فلم يعرف يوما فندق بكثرة دهاليزه المتشبعة المكسوة بالبسط كأنها تيه يضل المرء في شعابه ومنعطفاته، ولا كثرة حجراته الرطبة العفنة الضئيلة النور ووفرة عدد المغارات أو الكهوف الصغيرة المعدة لتناول الطعام أو النوم، كما عرف ذلك الفندق بكثرتها العجيبة تحت سقف واحد، تضمها الجدران الأربعة التي تحيط به.
وكانت المركبة القادمة من لندن تقف بباب ذلك الفندق المفرط في الضخامة في ساعة معينة من كل مساء، وفي ذلك المساء بالذات الذي نتحدث عنه في هذا الفصل، وقفت ونزل منها المستر بكوك وسام ولر والمستر بيتر ماجنس.
وأنشأ الأخير يقول بعد أن رأى الحقيبة ذات الأربطة، والحقيبة الحمراء، والحزمة الملففة، وعلبة القبعات قد استقرت جميعا في الردهة: «أنازل هنا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أي نعم!»
وقال المستر ماجنس: «عجيب! ما عرفت يوما شيئا يشبه هذه المصادفة غير المألوفة، إنني أيضا نازل هنا، أرجو أن نتعشى معا؟»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور، ولست متأكدا كل التأكد هل وصل أصحابي أو لم يصلوا، يا غلام! هل هنا سيد يدعى المستر طبمن؟»
وإذا رجل بدين يحمل فوطة مكثت معه أسبوعين، تحت ذراعه، ويلبس جوربا مماثلا للفوطة في قدم العهد، وطول المكث، ينثني في بطء عن الانشغال بالنظر إلى الشارع عند توجيه هذا السؤال، ومضى يجيب بلهجة قاطعة، بعد أن لبث يدقق البصر في وجه السائل ويتفحصه من فرعه إلى قدمه: «كلا.» - «ولا أحد باسم سنودجراس؟» - «كلا.» - «ولا ونكل؟!» - «كلا.»
وانثنى المستر بكوك يقول للمستر ماجنس: «لم يصل أصحابي اليوم يا سيدي، سنتعشى وحدنا إذن، يا غلام! أرنا غرفة خاصة.»
وتواضع الخادم البدين إزاء هذا الرجاء فأمر الخدم بنقل أمتعة السيدين وتقدمهما في دهليز طويل مظلم، إلى غرفة واسعة رديئة الأثاث، ذات مدفأة قذرة تحوي نارا قليلة تحاول يائسة أن تبدو بهيجة مشرقة، ولكنها توشك سريعا على الانطفاء من وخامة جو المكان الذي يحتويها، وبعد ساعة جاء الخدم إلى السيدين بقطعة صغيرة من السمك ومثلها من اللحم، وما إن رفع الطعام حتى قرب المستر بكوك والمستر بيتر ماجنس مقعديهما من النار وأمرا بزجاجة من أردأ نبيذ ممكن، وأفحش ثمن محتمل، لا لغرض إلا إفادة الفندق، واكتفيا باحتساء البراندي المشعشع بالماء لمصلحتهما هما ومزاجهما.
وكان المستر بيتر ماجنس بطبيعته رجلا كثير الكلام، وما لبث البراندي المزيج بالماء أن أحدث أثرا عجيبا في إخراج أعمق الأسرار المختبئة في صدره، فطفق يتحدث عن نفسه، وعلاقاته، وأصحابه، ونكاته، وأعماله، وأخواته - وعند أكثر الثرثارين كلام كثير يقولونه عن إخوتهم - ثم مضى ينظر عدة دقائق إلى المستر بكوك نظرة زرقاء من خلف منظاره الملون، وقال على استحياء: «وماذا تظن، ماذا تظن يا مستر بكوك السبب الذي حدا بي إلى المجيء إلى هنا؟»
وأجاب المستر بكوك: «يمين الله؛ لا أستطيع مطلقا التكهن، ربما جئت لعمل!»
وقال المستر بيتر ماجنس: «هذا صحيح إلى حد ما يا سيدي، وخطأ إلى حد ما أيضا، حاول مرة أخرى يا مستر بكوك.»
وقال هذا: «في الواقع؛ إنني أناشدك الرحمة أن تنبئني بالحقيقة أو تكتمها عني كما يتراءى لك؛ لأنني لا أحسن التخمين، وإن حاولته الليل كله.»
وقال المستر ماجنس بضحكة مستحيية: «إذن، هيه، هيه، هيه، ما رأيك يا مستر بكوك إذا كنت قد جئت إلى هنا لأخطب يا سيدي، هيه، هيه، هيه!»
وأجاب المستر بكوك بإحدى ابتساماته اللامعة المشرقة: «رأيي! أنك على أكثر الرجحان ستنجح.»
وقال المستر ماجنس: «آه! هل تظن هذا حقا يا مستر بكوك ... هل تظن؟»
وأجاب المستر بكوك: «بلا ريب.» - «كلا! أنت تمزح.» - «لا، لست مازحا!»
وقال المستر ماجنس: «اذن لا أخفي عنك سرا صغيرا، هذا هو فكري أنا أيضا، ولا بأس من أن أنبئك يا مستر بكوك، وإن كنت بطبعي غيورا إلى حد شنيع، إن السيدة التي عليها العين هنا في هذا الفندق!»
وخلع المستر ماجنس منظاره؛ لكي يغمز بعينه، ثم أعاده إلى موضعه.
وقال المستر بكوك مداعبا: «أهذا هو سر خروجك من الحجرة مسرعا قبل العشاء أكثر من مرة؟!»
قال: «صه، نعم، أنت على حق، ولكني من غباوتي لم أرها مع ذلك.» - «أتقول جد.» - «نعم، لا يكفي مجرد رؤيتها عقب الوصول من السفر، بل من رأيي أن أنتظر إلى الغد يا سيدي، فتكون الفرصة عندئذ مضاعفة، يا مستر بكوك، إن في تلك الحقيبة طاقما من الثياب يا سيدي، وفي هذه العلبة قبعة وأنتظر أن يكون للثوب والقبعة تأثير لا شك في عظم قيمته بالنسبة لي يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «فعلا.» - «نعم، ولا بد من أنك قد لاحظت مبلغ قلقي عليهما اليوم، ولست أعتقد أن في الإمكان شراء مثل هذه الثياب، ومثل هذه القبعة بالمال يا مستر بكوك.»
وهنأ المستر بكوك هذا المالك الموفق السعيد بهذه الثياب التي لا تنافس ولا تغالب باقتنائها، وظل المستر بيتر ماجنس بضع لحظات مستغرقا في التأمل.
وأخيرا قال: «إنها مخلوقة بديعة!»
وقال المستر بكوك: «أهي كذلك؟»
وأجاب المستر ماجنس: «جدا، جدا، وهي تقيم على مبعدة عشرين ميلا من هذا الموضع يا مستر بكوك، وقد سمعت أنها ستكون هنا الليلة، وستمكث إلى ضحى الغد فجئت لأنتهز الفرصة، وأعتقد أن الفندق مكان طيب لعرض فكرة الزواج على امرأة عزباء فيه يا مستر بكوك؛ إذ أكبر ظني أنا ستشعر بوحشة حياتها ووحدتها في السفر والغربة، أكثر مما تحسهما في بيتها، فما رأيك يا مستر بكوك؟»
وأجاب هذا السيد قائلا: «مرجح جدا.»
وعاد المستر بيتر ماجنس يقول: «عفوا يا مستر بكوك إذا رأيتني بطبيعتي فضوليا ... ما الذي جاء بك أنت إلى هنا؟»
وأجاب المستر بكوك وقد أخذ الدم يتصاعد إلى وجهه من مجرد الذكرى: «جئت في مهمة أقل لذة بكثير من مهمتك، لقد جئت إلى هنا يا سيدي لأكشف عن خيانة إنسان وغدره وكذبه، وكان من قبل موضع ثقتي، وكنت معتمدا على وفائه وشرفه وأمانته.»
وقال المستر ماجنس: «ويحي! هذه مهمة سيئة جدا، أحسب الأمر يتصل بسيدة. آه ... ما أشد مكرك يا مستر بكوك! ما أشد مكرك! ولكني يا سيدي لا أريد مطلقا أن ألتمس معرفة حقيقة مشاعرك - حاشا لله - هذه مسائل مؤلمة يا سيدي، مؤلمة جدا، فلا تؤاخذني يا مستر بكوك إذا أنت أردت أن تطلق العنان لمشاعرك؛ لأني أعرف يا سيدي مبلغ ألم النفس من التعرض للخيانة والخداع؛ فقد جربت هذا الشيء ثلاث مرات أو أربعا.»
وقال المستر بكوك وهو يملأ ساعته ويضعها فوق المائدة: «إني لشاكر لك مراعاتك لما تظنه واقعة حال محزنة، ولكن ...»
وعاجله المستر بيتر ماجنس قائلا: «كلا! كلا! ولا كلمة أخرى، إنه لموضوع أليم، أنا أفهم، أنا أفهم، كم الساعة الآن يا مستر بكوك؟» - «جاوزت الثانية عشرة.» - «ويحي لقد حان الذهاب إلى الفراش؛ فإن الجلوس هنا لا يجدي، أخشى أن أكون شاحبا غدا يا مستر بكوك.»
وما إن تصور المستر بيتر ماجنس أنه سيصبح مصفرا شاحب الوجه، حتى دق الجرس للخادم الموكلة بترتيب الغرف، وبعد أن نقلت الحقيبة ذات الأربطة والحقيبة الحمراء، وعلبة القبعات، والحزمة الملففة، إلى غرفة نومه، أوى إليها، يحمل خادم في أثره «ماثلة» يابانية بينما سيق المستر بكوك مع «ماثلة» أخرى، من خلال منعرجات كثيرة، ومنعطفات لا آخر لها، إلى غرفة أخرى.
وقالت الفتاة الموكلة بالغرف: «هذه هي غرفتك يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يدير عينيه حوله: «حسن جدا.»
وكانت الغرفة واسعة إلى حد لا يطاق، وذات سريرين ونار مشبوبة في الموقدة، وهي في الجملة أوفر راحة مما كان المستر بكوك يتوقع، بعد الذي شاهده في تلك الفترة القصيرة من غرف الفندق وحجراته.
وسأل المضيفة قائلا: «لا ينام أحد في السرير الآخر بالطبع.»
قالت: «كلا يا سيدي.»
قال: «حسن جدا، أبلغي خادمي أن يحضر إلي قليلا من الماء الساخن في الثامنة والنصف صباحا، وأنني لست الليلة بحاجة إليه.»
قالت: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وبعد أن حيت المستر بكوك انصرفت وتركته وحده، وجلس السيد الكبير في مقعد قريب من الموقدة، وسرح به الخاطر في فيض زاخر من الأفكار، فذكر أولا أصحابه، وتساءل متى يوافونه، ثم عاد به الخاطر إلى السيدة مارتا باردل، ومن تلك السيدة بطبيعة الحال إلى مكتب ددسن وفج في تلك الدار القاتمة، ثم طار به الفكر رأسا إلى صميم قصة «العميل الغريب» ومنها عاد أدراجه إلى فندق «الحصان الأبيض الكبير» في إبسويتش، في وضوح كاف لإقناعه بأن النعاس قد استولى عليه، فعمد إلى تنبيه نفسه وأخذ يخلع ثيابه، وإذا هو يتذكر فجأة أنه قد ترك ساعته فوق المنضدة في الطبقة الأولى من الفندق.
وكانت هذه الساعة أثيرة لديه؛ فقد ظلت معه، ملازمة مكانها تحت ظل صداره، أعواما أطول مما يطلب منا أن نعين في هذه اللحظة، ولم يكن قد خطر بباله احتمال الذهاب إلى الفراش دون أن يسمع دقها الرفيق تحت وسادته أو في كيسها الموضوع فوق رأسه، ولكن الوقت كان متأخرا، فلم يشأ أن يدق الجرس في تلك الساعة الموهنة من الليل، فارتدى سترته في عجلة، وكان قد خلعها منذ لحظة، وحمل «الماثلة» بيده، وراح في رفق يهبط السلم.
وكلما هبط منها مدارج، تبين له أن هناك أخرى أكثر منها تقتضيه الهبوط، وكذلك ظل ينزل، ويهبط، حتى أسلمته تلك المدارج بعد لأي إلى دهليز ضيق، فبدأ يهنئ نفسه بتوفيقه في الوصول إلى الدور الأرضي، ولكن سلما آخر لاح عندئذ لعينيه المذهولتين، وأخيرا بلغ قاعة تذكر أنه رآها عند دخول الفندق، وما زال يتنقل من دهليز إلى آخر، ويجتاز حجرة إثر حجرة، حتى كاد ينثني عن البحث من اليأس، ففتح في النهاية بابا وجده، وإذا هو في القاعة ذاتها التي قضى المساء فيها، ورأى الساعة التي جاء يبحث عنها موضوعة في مكانها فوق المنضدة.
وتناولها المستر بكوك فرحا فرحة المنتصر، وانثنى يعود أدراجه إلى غرفته، ولئن كان نزوله إلى الدور الأرضي قد حف بمكاره، وصادفته فيه صعاب ومشاق، وأحاطت به خلاله شكوك وحيرة؛ فقد كانت عودته أكثر مشقة، وأشد ارتباكا؛ فقد طالعته صفوف من الأبواب، تزينها أحذية من كل شكل وطراز وحجم، وتتفرع في كل ناحية، حتى لكم أدار في رفق مقبض أبواب عدة منها بدت له كباب غرفته، ولكم سمع من صوت خشن يصيح من جوفها: من أنت؟ أو ماذا تريد هنا؟ فكان يتسلل منصرفا على أصابع قدميه بخفة مدهشة، حتى إذا كاد ييأس، لاح له باب اجتذب خاطره، فأطل ببصره، لقد اهتدى بعد لأي! فها هما ذان السريران، في الموضع ذاته الذي تذكره تماما، ولا تزال النار في الغرفة مشبوبة، ولم تكن الشمعة طويلة حين تسلمها، فلم تلبث بعد طول خفقان ضيائها مع هبات الهواء في الدهاليز والردهات التي اجتازها أن هوت في ثقبها، وهو يغلق الباب في أثره فقال لنفسه: «لا بأس، سأخلع ثيابي على ضوء النار في الموقدة.»
وكان كل سرير منهما قائما على جانب من الباب وعلى الجانب الداخلي منه ممر صغير ينتهي إلى مقعد من القش، يكاد يتسع لدخول المرء إلى السرير أو نزوله منه، إذا أراد النزول أو الصعود من هذا الجانب.
فتقدم المستر بكوك إلى ذلك المقعد فجلس ليخلع في هدوء حذاءه وغطاء ساقيه، ثم نضا عنه سترته وصداره وقميصه، وتناول برفق طاقية النوم فأثبتها في رأسه بربط خيطها تحت ذقنه.
وفي تلك اللحظة فقط خطر له سخف هذه الطوفة المحيرة التي طافها في نواحي الفندق ودهاليزه، فأسند ظهره إلى مسند الكرسي القش، وانطلق يضحك من صميم قلبه، حتى لو شهده إنسان ثابت العقل ورأى الابتسامات التي امتدت إلى سائر تقاطيع وجهه، وهي منطلقة متهللة من تحت طاقية النوم، لوجد في هذا المنظر سرورا بالغا، ومتعة متناهية.
ومضى المستر بكوك يحدث النفس، وهو يبتسم حتى ليكاد يفك خيط الطاقية الذي تحت ذقنه، فقال: «إن ضلتي في هذا المكان، وتيهي في هذه المدارج الكثيرة؛ لأبدع فكرة سمعت بها في حياتي، إنه لشيء مضحك، مضحك حقا»، وابتسم ابتسامة أعرض من الأولى، وهم بأن يواصل خلع ثيابه، وهو في أتم الابتهاج وصفاء الخاطر، لولا أن قطع عليه فجأة شيء لم يكن في حسبانه، فوقف عن استكمال خلعها، وذلك أن دخل الحجرة شخص يحمل شمعة، وأغلق الباب بالقفل في أثره، وتقدم إلى منضدة الزينة، فوضع النور عليها، فلم تلبث الابتسامة التي خطفت على وجهه أن تلاشت في نظرة دهشة لا حد لها، وعجب بالغ، وكان دخول ذلك الشخص كائنا من يكون فجائيا، هادئا، إلى حد لم يتسع معه الوقت للمستر بكوك فينادي أو يعارض دخوله، فمن تراه هذا الطارئ عليه في فحمة الليل؟ أهو لص؟ أرجل سوء رآه وهو يصعد السلم وفي يده ساعة جميلة؟ ماذا هو صانع في هذا الموقف؟
وكانت السبيل الوحيدة التي تذلل للمستر بكوك الظفر بلمحة من وجه هذا الزائر الغريب دون التعرض لخطر الانكشاف لعينيه، هو الزحف والتسلل إلى السرير والإطلال من خلال أستاره على الجانب المقابل، فعمد إلى هذه الحيلة، وأبقى الأستار مغلقة بعناية وحرص بيده، فلا يمكن أن يتراءى منه أكثر من وجهه وطاقيته، وراح يضع منظاره على عينيه، ويجمع شتات شجاعته وينظر من خلال الستر المسدل.
وكاد المستر بكوك يغشى عليه من الرعب والفزع؛ فقد رأى أمام المرآة سيدة نصفا ملففة جدائلها في ورق أصفر، وهي في شغل بتسريح ما تسميه النساء شعرهن الخلفي، وعقصه فوق هامتها، وتبين للمستر بكوك من وقوف السيدة على هذا النحو وهي لا تدري شيئا عن وجوده أنها تنوي المبيت في الحجرة إلى الصبح؛ فقد أحضرت معها سراجا ذا مظلة فوضعته في حوض على أديم الغرفة، احتياطا حكيما من الحريق، حيث ظل يضيء كمنار ضخم في مساحة محدودة من الماء.
وقال المستر بكوك محدثا نفسه: «رباه ما أشنع هذا الموقف وما أشد حرجه!»
وهمهمت السيدة فبادر المستر بكوك إلى إدخال رأسه خلف الستر بحركة آلية سريعة.
ومضى المستر بكوك المسكين يقول لنفسه والعرق يتصبب قطرات على طاقيته: «لم يقع لي في حياتي كلها شيء مرعب كهذا، أبدا، إنه لموقف مخيف.»
وكان من المستحيل عليه أن يغالب الرغبة الملحة في مشاهدة ما هو حادث، فأخرج رأسه من خلف الأستار مرة أخرى، فإذا المشهد شر من قبل وأدهى؛ فقد أتمت السيدة عقص شعرها، وغطته بطاقية حريرية في عناية بالغة، وراحت تنظر مفكرة إلى النار.
واستتلى المستر بكوك في حديث نفسه يقول: «إن الأمر أخذ يتفاقم ويتحرج، ولست أرضى أن تسير الأمور على هذا النحو، ويبدو لي من هدوء هذه السيدة أنه لا بد من أنني دخلت حجرة غير حجرتي، وإذا أنا ناديت فسوف تصرخ وتوقظ الفندق كله ولكني إذا بقيت في موضعي هذا فسوف تكون النتائج أرهب وأبشع .»
ولسنا بحاجة إلى قول بأن المستر بكوك من أشد الناس حياء وأرقهم ذهنا وأدقهم إحساسا، فلم تلبث فكرة الظهور بطاقية النوم أمام سيدة أن تغلبت عليه، وتملكت خاطره، ولكنه كان قد ربط تلك الخيوط اللعينة ربطة معقدة، وحاول فك العقدة بكل قواه فلم يستطع، وكان الموقف يحتم ظهوره من مخبئه، فما العمل؟ لم يكن أمامه غير سبيل أخرى، فانزوى خلف الأستار وراح يرفع الصوت مناديا: «ها، هيم!»
وبدا على السيدة أنها أجفلت على ذلك الصوت غير المنتظر؛ إذ اصطدمت بمظلة السراج الذي جاءت به كما كان جليا أنها مضت تقنع نفسها بأن ما سمعته لم يكن شيئا آخر غير مجرد خيال أو وهم؛ لأنها عادت تنظر إلى النار مفكرة ساهمة، بينما كان المستر بكوك يحسبها قد أغمي عليها من فرط الرعب.
وعاد ينظر من خلال الستر وهو يقول في نفسه: «هذه أنثى خارقة للمألوف، ها! هيم!»
وكانت هذه الأصوات الأخيرة أشبه ما تكون بما تحدثنا عنه الأساطير والقصص الخرافية عن العملاق المتوحش بلندربور واعتياده التعبير بها عن رأيه في أنه قد حان الوقت لنشر الغطاء فوق المائدة، وكانت في هذه المرة مسموعة واضحة لا ينتظر أن يخطئ أحد في فهمها فيحسبها من فعل الخيال أو الوهم، فلا عجب إذا راحت السيدة النصف تقول: «يا إلهي! ما هذا؟»
وقال المستر بكوك من خلف الستر: «إنه ليس إلا سيدا يا سيدتي!»
وقالت السيدة بصرخة مروعة: «سيد!»
وقال المستر بكوك في نفسه: «لقد وقع المصاب!»
وصرخت السيدة قائلة: «رجل غريب في الحجرة! فلم تبق إلا لحظة واحدة ويهب الفندق كله فزعا.»
وأحدث ثوبها حفيفا وهي تسرع نحو الباب.
وصاح المستر بكوك، مخرجا رأسه بسرعة من فرط اليأس الذي استولى عليه: «سيدتي! سيدتي!»
ولم يكن للمستر بكوك من إخراج رأسه هدف معين، ولكن هذه الحركة أحدثت في الحال أثرا حسنا؛ فقد كانت السيدة عندئذ - كما قلنا - قريبة من الباب، ولا بد لها من اجتيازه؛ لتصل إلى السلم، ولم يكن ثمة أدنى شك في أنها كانت موشكة أن تفعل في تلك اللحظة لولا أن ظهرت فجأة «طاقية» المستر بكوك فجعلتها تتراجع إلى أقصى ركن من الحجرة حيث وقفت تحملق فيه البصر مروعة شاردة اللب، بينما لبث هو يحملق فيها البصر كذلك.
وقالت السيدة وهي تخفي عينيها وراء يديها: «أيها الشقي! ماذا تريد هنا؟»
وأجاب المستر بكوك بجد بالغ: «لا شيء يا سيدتي، لا شيء مطلقا.»
قالت وهي تتطلع ببصرها: «لا شيء!»
قال وهو يومئ برأسه بكل قوة حتى جعل زر طاقيته يتراقص مع إيماءته: «لا شيء سيدتي، أقسم لك بشرفي إنني أكاد أذوب يا سيدتي حياء وارتباكا من مخاطبة سيدة وأنا في طاقية النوم.» (وهنا بادرت السيدة إلى انتزاع طاقيتها عن رأسها) «ولكني لا أستطيع رفعها يا سيدتي.» (وهنا راح يشدها شدة قوية للتدليل على صدق قوله) «لقد وضح لي الآن يا سيدتي أنني أخطأت فظننت أن هذا السرير هو سريري، ولم تكن قد انقضت علي هنا غير خمس دقائق قبل دخولك فجأة هذه الغرفة.»
وقالت وهي تجهش بالعبرات: «إذا كانت هذه القصة غير المرجحة صحيحة، فلتغادر الغرفة في الحال!»
وأجاب المستر بكوك: «سأفعل يا سيدتي، بكل سرور.»
وعادت السيدة تقول: «حالا يا سيدي.»
وعاجلها المستر بكوك قائلا: «بلا شك، بلا شك يا سيدتي ... إني آسف أشد الأسف يا سيدتي.»
ونزل من السرير وهو يقول: «إني آسف على أنني كنت سببا في هذا الفزع والانفعال يا سيدتي. آسف جد الأسف يا سيدتي.»
فأشارت السيدة إلى الباب، وفي تلك اللحظة تجلت إحدى سجايا المستر بكوك بأبهى مظاهرها، حين تحيط به أحرج الظروف؛ فقد راح يضع بسرعة قبعته فوق طاقية النوم، كما يفعل حارس الليل في طوفه، ويحمل حذاءه وغطاء ساقيه في يده، وسترته وصداره على ذراعه، ولم يثنه شيء عن إظهار أدبه الجم فمضى يقول وهو ينحني انحناءة بالغة: «إنني لشديد الأسف يا سيدتي.»
قالت: «إذا كانت حقا يا سيدي فاترك الغرفة في الحال.»
وقال المستر بكوك وهو يفتح الباب، ومن فرط اضطرابه سقط الحذاء منه على الأرض: «حالا يا سيدتي، في التو واللحظة يا سيدتي.»
وجمع المستر بكوك فردتي حذائه، ودار بعينيه لينحني مرة أخرى ومضى يقول: «أرجو يا سيدتي أن تشفع لي أخلاقي التي لا شائبة تشوبها، والاحترام البالغ الذي أكنه لجنسك، وتقوم عني عذرا يسيرا عما ...»، ولكن السيدة عاجلته قبل أن يتم كلماته بدفعه نحو الدهليز وإقفال الباب بالرتاج في أثره.
ومهما ذهب المستر بكوك يهنئ نفسه بفراره من هذا المأزق، ونجاته في هدوء من هذا الموطن الدقيق؛ فإن موقفه الحالي كان في الحق موقفا لا يحسد عليه؛ فقد وجد نفسه وحده في دهليز مكشوف، بفندق غريب، وفي موهن من الليل، وفي نصف ثيابه، ولم يكن محتملا أن يهتدي إلى طريقه وسط ظلام دامس إلى غرفة عجز كل العجز من قبل عن اكتشافها وهو يحمل «الماثلة»، وإذا هو أحدث أقل ضوضاء في محاولته البحث عنها بلا جدوى فلا يبعد مطلقا أن يطلق الرصاص عليه نزيل مسهد يقظان أو قد يقتله، فلا حيلة إذن أمامه غير البقاء حيث هو حتى تبدو مطالع النهار، ومضى يتلمس طريقه بضع خطوات في ذلك الدهليز، ولشد ما كان فزعه حين تعثر فوق عدة أحذية وهو يتحسس السبيل، حتى انزوى في ركن صغير من الجدار، يرتقب مطلع الصبح بكل صبر الفلاسفة.
ولكنه تعذر عليه مع ذلك مقاساة هذه التجربة الإضافية لقوى صبره؛ إذ لم يلبث في مخبئه ذاك فترة قصيرة حتى فزع فزعا لا يوصف؛ إذ رأى رجلا يحمل نورا في نهاية الدهليز، ولكن فزعه استحال بغتة إلى فرح شديد حين تبين أن ذلك الرجل هو خادمه الأمين.
لقد كان القادم فعلا المستر صمويل ولر؛ فقد أطال السهر في الحديث مع ماسح الأحذية الذي كان سهران يرتقب وصول البريد، وجاء في تلك اللحظة ليأوي إلى فراشه.
ويتراءى المستر بكوك فجأة لخادمه وهو يناديه: «يا سام، أين غرفتي؟»
ونظر سام إلى سيده في دهشة متناهية، ولم يستطع أن يواجه المستر بكوك إلا بعد أن كرر هذا السؤال عدة مرات، وتقدم إلى الحجرة التي طال البحث عنها.
وقال المستر ولر بكل برود: «يمكن أن تكون هذه، يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «ولكني معتزم يا سام عزما أكيدا أن لا أسير في هذا الفندق وحدي مرة أخرى ولو أقمت فيه ستة أشهر سويا.»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو أحكم قرار تتخذه يا سيدي، فإنك بحاجة إلى إنسان يلاحظك حين يفارقك العقل ويذهب للزيارة.»
وقال المستر بكوك: «ماذا تعني بهذا يا سام؟» واستوى في فراشه ومد يده كأنما يهم بأن يقول شيئا آخر، ولكنه أمسك فجأة، واستدار وهو يقول لخادمه: «طاب ليلك.»
وأجاب المستر ولر: «طاب ليلك يا سيدي»، ووقف حين جاوز الباب، وهز رأسه، ومشى قليلا، ثم وقف ورفع فتيلة الشمعة، وهز رأسه مرة أخرى، وانطلق في خطى بطيئة إلى غرفته، وهو يبدو مستغرقا في أعمق الأفكار والتأملات.
اصطلاح في تحديد الوقت معناه بعد الزوال أو بعد الظهر.
الفصل الثالث والعشرون
وفيه يبدأ المستر صمويل ولر يحصر كل قواه في تصفية الحساب بينه وبين المستر تروتر. ***
في غرفة صغيرة بجوار فناء الإسطبل، وفي بكرة الصباح الذي جرت فيه واقعة الحال بين المستر بكوك والسيدة النصف الملففة الجدائل في الورق الأصفر، جلس المستر ولر الكبير يعد العدة للرجوع إلى لندن، وكان يجلس أبدع جلسة مناسبة لرسم صورته.
ومن الجائز كثيرا أنه كان في دور من أدوار حياته الماضية يلوح مرهف القوام ممشوقا، ولكن وجهه تعرض وتضخم من الإسراف على نفسه في الشراب والغداء، وأثر النزوع الظاهر إلى الاستسلام للأقدار، حتى لقد امتدت لياته اللحمية المترهلة فتجاوزت الحدود التي كانت من قبل مخصصة لها، فإذا لم تستطع أن تلم بسحنته كل الإلمام من الأمام، فلن يتوانى لك أن تميز منها شيئا أكثر من أقصى طرف لأنف يضرب لونه إلى الحمرة، وقد اكتسبت ذقنه لهذه الأسباب والمؤثرات ذاتها ذلك الشكل الجسيم البارز الذي يوصف عادة بزيادة كلمة «مزدوج» على اسم هذا الجزء المعبر من الوجه، كما تنم ملامحه عن مجموعة مبقعة غريبة من الألوان لا تشاهد إلا عند الذين يشتغلون بمهمته، وإلا على لحم العجول المشوي نصف شواء، وكان يتلفع حول عنقه بلفاعة للسفر قرمزية اللون، تندمج في ذقنه بتدرج لا يكاد يبين، حتى ليشق عليك أن تميز بين طيات رقبته، وطيات لفاعته، ومن فوقه ارتدى صدارا طويلا من طراز عريض مخطط قرنفلي اللون، ومن فوق هذا أيضا سترة خضراء فضفاضة تزدان بأزرار نحاسية ضخمة كان الزران اللذان يزينان الصدار منها منفصلين متباعدين لا نحسب أحدا استطاع يوما أن يبصرهما معا في وقت واحد، وكان شعره قصيرا، ناحلا، فاحما، لا يكاد يرى، من تحت حاشية عريضة لقبعة رمادية قصيرة، وقد وضع ساقيه في سراويل إلى الركبة وانتعل حذاء طويلا، ولبس ساعة ذات سلسلة من نحاس تنتهي بخاتم ومفتاح متدليين من صداره الرحيب.
وقد أسلفنا عليك أن المستر ولر كان منهمكا بإعداد العدة للسفر إلى لندن، والواقع أنه كان يأكل ويتغذى؛ فقد صفت على المائدة القائمة أمامه جرة من جعة، وشريحة من اللحم، ورغيف محترم، وراح يوزع رضاه وحظوته وعطفه على كل منها بالتناوب، في نزاهة مطلقة، وإنصاف تام لا يعرف التحيز، وكان قد قطع كسرة ضخمة من الرغيف، وإذا هو يسمع مواقع قدم إنسان يدخل الحجرة فرفع بصره فوجد ابنه أمامه.
قال: «صباح الخير يا سامي.»
ومشى الابن إلى جرة الجعة، وأومأ لأبيه إيماءة ذات مغزى، وانثنى يتناول عبة كبيرة منها على سبيل الجواب.
وقال المستر ولر الكبير وهو ينظر في جوف الجرة حين ردها ابنه إلى مكانها وقد عب منها النصف: «هذا نفس طويل في الشراب يا سامي، مرحى! لقد كنت تصبح «صدفية» غير عادية يا سامي لو أنك ولدت في الماء مع السمك والمحار.»
وأجاب سام، وهو ينقض على اللحم البارد بقوة: «أي نعم، وكنت أعرف كيف ألقط غذاء محترما.»
وقال المستر ولر الكبير وهو يهز الجعة بإحداث دوائر صغيرة بالجرة؛ تمهيدا للشرب: «إنني آسف جدا يا سامي لسماعي من شفتيك أنك تركت ذلك الرجل التوتي اللون يخدعك، لقد كنت أعتقد قبل ثلاثة أيام فقط أن اسم ولر والدجل لا يجتمعان أبدا ولا يتفقان.»
وقال سام: «إلا فيما يتصل بالأرملة طبعا.»
وأجاب المستر ولر وقد تغير لونه قليلا: «إن الأرامل يا سامي استثناء من كل قاعدة، لقد سمعت قوما يقولون: إن الأرملة في قوة تغلبها على الرجل تعادل خمسا وعشرين امرأة من العاديات، ولكني أظنها تعادل أكثر من ذلك، وان لم أكن متأكدا.»
وقال سام: «هذا كلام طيب.»
ومضى الوالد يقول غير ملق بالا إلى هذا الاعتراض: «وهناك أيضا شيء آخر يختلف عن هذا كثيرا، ألا تعرف يا سامي ماذا قاله المحامي في الدفاع عن رجل اتهم بضرب زوجته بمحراك النار في الموقدة، كلما كان سكران: «وكل ما في الأمر يا سعادة القاضي، هذه نقطة ضعف لطيفة.» وهذا هو ما أقوله يا سامي عن الأرمل، وما سوف تقوله أنت حين تكبر مثلي وتصل إلى سنى.»
وقال سام: «كان أولى لي أن أعرف خيرا من ذلك.»
وأجاب المستر ولر وهو يضرب المائدة بقبضة يده: «كان أولى لك أن تعرف أكثر! ما هذا الكلام؟ اإنني أعرف شابا لم يصل إلى نصف تعليمك ولا ربعه، ولا دار في الحياة مثل ما درت، ولا حتى ستة أشهر، رفض أن يكون له بالأرامل صلة مطلقا، وهزأ بالفكرة أشد الهزء.»
ودق الجرس من ألم الذكرى التي هاجها ابنه في نفسه وطلب قدرا آخر من الجعة.
وقال سام: «لا فائدة من تقليب الكلام الآن؛ فقد انتهى الأمر، ولا حيلة فيه، وهذا هو بعض العزاء، كما يقولون دائما في تركيا حين يقطعون رأس رجل خطأ مكان رأس سواه، المسألة يا معلم أنني أنا الذي عليه الدور، وبمجرد إمساكي بتروتر سأعرف ماذا أفعل به.»
وأجاب الوالد: «أرجو ذلك يا سامي، أرجو ذلك، في صحتك يا سامي، وإن شاء الله تمحو بسرعة هذا العار الذي جلبته على اسم الأسرة.»
وإكراما لهذا النخب راح المستر ولر يعب من الجعة عبة لا تقل عن ثلثي القدر الجديد الذي طلبه، وسلم الجرة إلى ابنه ليأتي على الباقي، فبادر هذا إلى الإتيان عليه.
وقال المستر ولر وهو ينظر إلى ساعته الكبيرة الفضية ذات الوجهين المعلقة بطرف سلسلتها النحاسية: «والآن يا سامي لقد حان أن أذهب إلى المكتب لأتلقى التعليمات في الطريق وأطمئن على حشو المركبة؛ لأن المركبات يا سامي كالبنادق، تحتاج إلى التعمير بعناية فائقة قبل انطلاقها.»
وابتسم المستر ولر الصغير لهذه النكتة «الأبوية» المأخوذة من «المهنة» ابتسامة «بنوية»، بينما انطلق الوالد المحترم يقول بلهجة جد رهيبة: «إنني تاركك يا صمويل يا ولدي، ولا أدري متى أراك مرة أخرى فقد تريني امرأة أبيك الويل، أو قد تحدث حوادث في الأيام القادمة قبل أن تسمع أخبارا عن المستر ولر الذائع الصيت في «بل سفدج» كلها، إن اسم الأسرة يتوقف كثيرا جدا عليك يا صمويل، وأرجو أن ترعاه، وتحسن إليه، وتصونه، وأنا عارف من ناحية التربية، والنشأة والأصل، أن في إمكاني أن أعتمد عليك، كما أعتمد على نفسي تماما، فليس عندي غير نصيحة صغيرة أقدمها، وهى إذا كتب لك أن تعيش فوق الخمسين، وتشعر برغبة الزواج بأي امرأة كائنة من تكون، فاحبس نفسك في غرفتك - إن كانت لك غرفة - واشرب سما في الحال، سمم نفسك يا صمويل يا بني، فسوف تسر بعد ذلك وتبتهج وتستريح ...»
وبهذه الكلمات المؤثرة راح المستر ولر يطيل النظر إلى ابنه، ثم دار في رفق على عقبيه، واختفى عن بصره.
وغادر المستر صمويل ولر الفندق وهو ساهم مفكر في تلك الكلمات التي سمعها من والده، قبل انصرافه، متجها صوب كنيسة القديس كليمنت، محاولا التسرية عن صدره بالطواف بين آثارها ومعالمها القديمة، ولم يكد يسير غير بعيد حتى وجد نفسه في بقعة منعزلة، تبدو أشبه بفناء مهيب المنظر، تبين أن ليس له منفذ غير الرجوع من حيث أتى، فهم بأن يعود أدراجه، ولكنه فجأة وقف عن المسير كأنما قد سمر في مكانه؛ فقد شاهد شكلا عجيبا بوغت به، شكلا نحن قاصوه اللحظة عليك.
كان المستر صمويل ولر يتطلع ببصره إلى البيت القديم المشيد من الآجر بين لحظة وأخرى، وهو في شرود شديد، وذهول بالغ، ويغمز بطرف عينه إلى خادمة مليحة بضة، وهى ترفع ستارا، أو تفتح نافذة مخدع، وإذا باب الحديقة في أقصى طرف الفناء، وهو باب ينفتح ويخرج منه رجل فيغلقه بحرص بالغ في أثره، وينطلق مسرعا إلى البقعة التي كان المستر ولر واقفا فيها.
وإذا نحن نظرنا إلى هذا الأمر على أنه حادث منفصل لا صلة له بشيء آخر، ولا يقترن بأي ظرف من الظروف، بدا لنا مألوفا لا غرابة فيه، فإن الناس في كل الدنيا يخرجون من الحدائق، ويغلقون أبوابها الخضر في أثرهم، وينصرفون في طريقهم مسرعين، دون أن يلفتوا نظر أحد، فلا غرو إذا قلنا: إنه لا بد من أن يكون ثمة شيء في ذلك الرجل أو سلوكه أو فيهما معا، اجتذب نظر المستر ولر خاصة إليه، وسواء كان هذا أو ذاك فنحن تاركون للقارئ أن يقرر، حين ننتهي من تسجيل تصرفات ذلك الرجل الذي نتحدث عنه.
وما إن أغلق الرجل الباب الأخضر في أثره، حتى انطلق كما أسلفنا عليك مرتين، في خطو منفرج، يقطع الفناء، ولكنه ما كاد يلمح المستر ولر، حتى ترنح قليلا ووقف، كأنه في شك لا يدري أي طريق يتخذ، وكان الباب الأخضر قد أغلق فلم يعد أمامه غير أن يسير قدما في وجهه، ولكنه أدرك في الحال أنه لا بد من أن يمر بالمستر ولر؛ لينطلق في طريقه، فواصل خطوه السريع وتقدم مرسلا نظره إلى الأمام، وكان أغرب شيء يبدو على ذلك الرجل تقليص معارف وجهه في أغرب الحركات وأقبحها صورة، وما نحسب خلق الطبيعة أخفى يوما بمثل ما حاول الرجل إخفاء وجهه في لحظة واحدة بذلك التقليص المصطنع الغريب.
وقال المستر ولر في نفسه وقد رأى الرجل يقترب: «عجبا! إن هذا لجد غريب! إني أقسم إنه هو ...»
وجاء الرجل، فاشتد قبح وجهه وازداد تقلصا، وهو يدنو رويدا.
وقال المستر ولر في نفسه مرة أخرى: «أقسم إنه هو؛ من شعره الأسود وثيابه التوتية اللون، ولكني لم أشهد في حياتي وجها كهذا الوجه.»
وما كاد المستر ولر يفوه بهذه الكلمات، حتى اتخذت معارف وجه الرجل صورة غير آدمية، وشكلا قبيحا مستكمل الدمامة، تام القبح، ولكنه كان مع هذا مضطرا إلى المرور بقرب سام، فاستطاع هذا بنظراته المتفحصة أن يكتشف من خلف هذه الحركات المخيفة والتقلصات المفزعة، شيئا أقرب ما يكون شبها إلى عيني المستر جب ترتر الصغيرتين، حتى لا يكاد يخطئهما.
وصاح سام بحدة بالغة: «ها، أنت يا سيدي!»
فوقف الغريب.
وعاد سام يقول بلهجة أشد حدة: «ها!»
ووقف الرجل ذو الوجه البشع يرسل بصره في أشد الدهشة مخترقا الفناء، روحة وغدوة، ثم إلى نوافذ البيوت، وفي كل ناحية إلا ناحية سام ولر، وخطا خطوة أخرى إلى الأمام، ولكنه وقف عن الخطو بصرخة أخرى تهيب به: «ها! أنت يا سيدي»، وكانت تلك هي الصرخة الثالثة.
ولم يبق أمام الغريب من سبيل للتظاهر بأنه لا يدري من أين انبعث ذلك الصوت، فلم يسعه أخيرا إلا أن ينظر إلى سام ولر وجها لوجه.
وقال سام: «لا فائدة يا جوب تروتر، أقبل ... هذا كلام فارغ، لست جميلا جدا حين يمكن أن تستغني عن كثير من ملامحك الحسنة. هيا، أعد عينيك إلى أصلهما وإلا أخرجتهما من وجهك، هل أنت سامع؟»
وبدا على المستر ولر أنه على استعداد تام لتنفيذ هذا القول نصا وروحا، فأخذ المستر تروتر يرد وجهه شيئا فشيئا إلى شكله الطبيعي، ثم أبدى حركة سرور شديد، فصاح: «من هذا الذي أرى؟ المستر ووكر!»
وأجاب سام: «نعم، إنك لمسرور جدا لرؤيتي، ألست كذلك؟»
وقال جوب تروتر مسرورا: «آه يا مستر ووكر، لو عرفت كم أنا مشتاق إلى رؤيتك! إنه لشوق مبرح يا مستر ووكر فلا أكاد أطيقه، حقا، لا أكاد أصطبر عليه»، وراح يجهش بالعبرات، ويطوق المستر ولر بذراعيه ويحتضنه ويعانقه من فرط السرور.»
وصاح سام غاضبا من هذه الحركات، ومحاولا عبثا التخلص من قبضة هذا الصديق المتحمس: «ابعد عني، ابعد عني، ما الذي يبكيك علي هكذا أيها اللغز العجيب؟!»
وأجاب جوب تروتر وهو يرخي ذراعيه رويدا من احتضانته للمستر ولر، حين اختفت بوادر غضبه وإقدامه على الشر والعدوان: «لأنني مسرور بلقائك، آه يا مستر ووكر، هذا كثير.»
وردد سام قوله: «كثير! كثير جدا على ما أظن، والآن ماذا عندك لتقوله لي؟»
ولكن المستر تروتر لم يجب؛ لأن المنديل الوردي الصغير كان مؤديا عمله إلى آخره.
وراح المستر ولر يكرر سؤاله بلهجة التهديد: «ماذا عندك لتقوله لي قبل أن أطيح برأسك؟»
وقال المستر تروتر بنظرة دهشة بريئة: «آه؟»
قال: «وماذا عندك لتقوله؟» - «أنا يا مستر ووكر؟» - «لا تنادي ووكر، أنا اسمي ولر، وأنت تعرف ذلك حق المعرفة، والآن ما قولك؟» - «ويحي يا مستر ووكر، لا تؤاخذني، أقصد ولر، عندي كلام كثير أقوله لو قصدنا إلى أي مكان آخر يتيسر لنا أن نتكلم فيه على مهل، آه لو كنت تعلم كم كان شوقي إليك يا مستر ولر!»
وقال سام بجفوة: «شديد جدا على ما أظن.»
وأجاب المستر تروتر دون أن يحرك عضلة واحدة من عضلات وجهه: «جدا، جدا، يا سيدي، هات يدك لنتصافح يا مستر ولر.»
وحدج سام رفيقه بنظره بضع ثوان، واستجاب لسؤاله، كأنما حفزه دافع فجائي إلى موافقته.
وأنشأ المستر تروتر يقول وهما منطلقان: «وكيف حال سيدك العزيز الكريم؟ آه، إنه رجل فاضل حقا يا مستر ولر، أرجو أن لا يكون قد أصابه برد في تلك الليلة المخيفة يا سيدي.»
وبدت في عينيه وهو يقول ذلك نظرة مكر خاطفة أثارت رجفة في قبضة يد المستر ولر، وهو يحترق رغبة في كسر أضلاعه، ولكن سام كتم مع ذلك حنقه وأجاب بأن سيده في أتم خير وعافية.
وأجاب المستر تروتر: «هذا شيء يسرني كل السرور، أهو هنا؟»
وقال سام مجيبا عن سؤاله: «وهل سيدك هنا؟»
وأجاب المستر تروتر قائلا: «آه، نعم هنا، ويحزنني أن أقول يا مستر ولر: إنه أسوأ حالا من قبل.»
وقال سام: «آه! آه!»
وعاد المستر تروتر يقول: «آه، مفزع، مخيف!»
وقال سام: «أفي مدرسة داخلية؟»
وأجاب المستر تروتر بتلك النظرة الماكرة التي لاحظها سام قبل الآن: «كلا، ليس في مدرسة داخلية.»
ونظر سام إليه مليا وهو يقول: «في البيت ذي الباب الأخضر؟»
وأجاب جوب بسرعة غير مألوفة منه: «لا، لا، ليس هناك، ليس هناك.»
قال بنظرة حادة: «ماذا كنت تفعل أنت هناك؟ هل دخلته قضاء وقدرا؟ ربما.»
وأجاب جوب: «اسمع يا مستر ولر، إنني لا أجد بأسا في مكاشفتك بأسراري الصغيرة؛ لأننا كما تعلم تحاببنا، ومال كل منا إلى صاحبه حين التقينا أول مرة، هل تتذكر كيف كان سرورنا في ذلك الصباح؟»
وقال سام وهو نافد الصبر: «أي نعم، أتذكر، ثم ماذا؟»
وأجاب جوب بدقة بالغة وصوت رجل يبوح بسر خطير: «في هذا البيت ذي الباب الأخضر يا مستر ولر يستخدم أهله خدما كثيرين جدا.»
وقاطعه سام قائلا: «هذا ما أعتقده، من مجرد شكله.»
وواصل المستر تروتر حديثه قائلا: «نعم، ومن أولئك الخدم طاهية تدخر قدرا يسيرا من المال يا مستر ولر وتريد إذا أمكنها أن تستقر بها الحياة، وتفتح حانوتا صغيرا للبقالة، هل فهمت؟» - «نعم.» - «نعم يا مستر ولر ... نعم يا سيدي، وقد التقيت بها في كنيسة اعتدت أن أذهب إليها، كنيسة نظيفة جدا في هذه البلدة يا مستر ولر؛ حيث يرتلون المجموعة الرابعة من المزامير التي اعتدت أن أحملها معي في كتاب صغير، لعلك رأيته قبل الآن في يدي، فعرفتها يا مستر ولر وتوثقت بيننا المعرفة إلى حد ما، ثم أصبحت بسرعة صداقة، ولا أكتمك يا مستر ولر أنني سأكون ... البقال!»
وقال سام وهو ينظر إلى جوب نظرة جانبية مليئة بكره شديد: «وأي بقال ظريف بديع ستكونه.»
وأردف جوب يقول، وعيناه مغرورقتان بالدموع: «إن المزية الكبرى من هذا يا مستر ولر هي أنني سأتمكن من ترك خدمتي المعيبة التي أنا فيها مع ذلك الرجل السيئ، وأستطيع أن أعيش عيشة أفضل وأحسن، عيشة كالتي نشأت عليها من الصغر يا مستر ولر.»
وقال سام: «لا بد من أنك نشأت نشأة طيبة جدا.»
وأجاب جوب: «جدا يا مستر ولر . جدا.»
وعلى ذكرى طهارة أيام شبابه وحسن نشأته جذب المنديل الوردي من جيبه واستغرق في بكاء شديد.
وقال سام: «لا بد أنك كنت صبيا بديعا على غير العادة يطيب للمرء أن يذهب معه إلى المدرسة.»
وأجاب جوب بزفرة حارة: «إي والله، لقد كنت معبود المدرسة.»
وقال سام: «لا عجب! ولكم كنت لأمك المباركة نعمة ورجاء!»
وراح المستر جوب تروتر على سماع هذه الكلمات يدخل طرف المنديل الوردي في ركن كل عين من عينيه، واحدة تلو الأخرى، ويبكي بدموع غزار.
وقال سام وهو مغيظ: «ما قصتك يا رجل؟ إن مشروعات المياه في تشلزي ليست شيئا إذا قورنت بك، ما الذي يذيبك الآن؟ أشعورك بآثامك وغدرك؟»
وأجاب جوب بعد أن سكت لحظة: «لست أملك حبس شعوري يا مستر ولر، حين أتذكر أن سيدي خامره الشك من الحديث الذي جرى بيني وبينك، فأسرع بي إلى مركبة بعد أن أقنع تلك السيدة الحلوة الشابة بأن تقول إنها لا تعرف عنه شيئا، وبعد أن تمكن من رشو ناظرة المدرسة لكي تزعم ذلك عينه، ترك الفتاة على أمل الفوز بشيء أحسن، آه! يا مستر ولر إنني كلما تصورت ذلك شعرت بقشعريرة تسري في أنحاء بدني.»
وقال المستر ولر: «أهذه هي القصة؟»
وأجاب جوب: «بكل تأكيد.»
وكانا قد ألما عندئذ على الفندق، فقال سام: «والآن اسمع يا جوب، إنني أريد حديثا صغيرا معك؛ فإن لم يكن لديك عمل معين، فإني أود أن أراك الليلة في فندق الحصان الأبيض الكبير، حوالي الثامنة.»
وأجاب جوب: «سآتي بلا شك، كن مطمئنا.»
وقال سام وهو ينظر إليه نظرة لها دلالتها: «الأفضل لك، وإلا فسوف أذهب أسأل عنك في الجانب الآخر من الباب الأخضر، وعندئذ قد أستطيع أن أهدم كل ما بنيت، كما تعلم.»
قال: «تأكد أنني سأكون لديك يا سيدي.»
وهز يد سام بحرارة متناهية، ثم انصرف.
وقال سام وهو يرسل عينه في أثره: «حذار يا جوب تروتر، وإلا فسوف تراني في هذه المرة أشد منك دهاء وأقوى مكرا، سأكون كذلك فعلا!»
وقال ذلك نجوى بينه وبين نفسه، ولبث يتبع جوب بنظره حتى اختفى.
وبادر سام إلى حجرة سيده.
قال: «الأمور تسير حسنة يا سيدي.»
فسأله المستر بكوك قائلا: «أي أمور يا سام؟»
قال: «لقد وجدتهما يا سيدي.» - «من هما اللذان وجدتهما؟» - «صاحبنا العجيب، وذلك الشخص الكثير البكاء ذو الشعر الأسود.»
وقال المستر بكوك بأشد الحماسة: «مستحيل يا سام! أين هما يا سام؟ أين هما؟»
وأجاب المستر ولر قائلا: «صه، صه! سأشرح لك الخبر.»
وانطلق وهو يعين سيده على ارتداء ثيابه يقص عليه بالتفصيل الخطة التي رسمها للعمل.
وسأله المستر بكوك قائلا: «ولكن متى سيكون التنفيذ يا سام؟»
وأجاب سام: «كل شيء في حينه يا سيدي.»
أما هل نفذ حقا أم لم ينفذ، فسوف نقصه عليك فيما يلي.
الفصل الرابع والعشرون
وفيه تشتد الغيرة بالمستر بيتر ماجنس، وتعرف السيدة النصف فتوجس، وينتهي الأمر بوقوع البكوكيين في قبضة القانون. ***
ولما نزل المستر بكوك إلى القاعة التي قضى فيها المساء السابق مع المستر بيتر ماجنس، وجده قد لبس وتجمل بأغلب الحلل والأشياء الأخرى التي كانت في الحقيبتين، وعلبة القبعات، والرزمة الملففة، بادية عليه بكل ما فيها من روعة وجمال، بينما كان هو يذرع القاعة رواحا وغدوا في أشد القلق والاضطراب.
واستقبله المستر ماجنس قائلا: «طاب صباحك يا سيدي ما رأيك في هذا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يتأمل ثيابه ويبتسم ابتسامة طيبة: «مؤثر جدا.»
وقال المستر ماجنس: «أي نعم، أظن هذا يكفي، لقد أرسلت بطاقتي إليها يا مستر بكوك.»
قال: «هل فعلت حقا؟»
قال: «وقد عاد الغلام يقول إنها ستقابلني في الحادية عشرة، في الحادية عشرة يا سيدي، أي لم يبق على الموعد غير ربع ساعة.»
وقال المستر بكوك: «لقد اقترب الموعد كثيرا.»
وأجاب المستر ماجنس: «أي نعم، اقترب جدا حتى كاد المرء يضطرب منه. آه! يا مستر بكوك!»
وقال المستر بكوك: «إن الطمأنينة مهمة في هذه المواقف ولها أثر بالغ.»
وأجاب المستر ماجنس: «أعتقد أنها كذلك يا سيدي، وإني لجد مطمئن يا سيدي، وفي الحق لست أدري لماذا يتوجس المرء خيفة من موقف كهذا يا سيدي، فلعمري ما هو؟ إنه شيء لا يستحيى منه ولا يخاف، إنه مسألة تبادل عواطف لا أكثر ولا أقل، زوج في جانب، وزوجة في الجانب الآخر، هذا هو رأيي في الموضوع يا مستر بكوك.»
وأجاب المستر بكوك: «هذا رأي فلسفي جدا، ولكن الفطور ينتظر يا مستر ماجنس، فهلم إليه.»
وجلسا لتناوله، ولكن على الرغم من ادعاء المستر بيتر ماجنس الثقة بنفسه، والطمأنينة إلى موقفه، بدا جليا عليه أنه كان رهن اضطراب عصبي شديد كان من أوضح أعراضه فقدانه شهوة الطعام، ونزوعه إلى قلب أواني الشاي، ومحاولته الظهور بمظهر المرح والمجانة، وميله الذي لا يغالب إلى النظر في الساعة بين ثانية وأخرى.
وضحك المستر ماجنس مترائيا بالابتهاج وهو يلهث من فرط الاضطراب: «هيه، هيه، هيه، لم يبق من الزمن إلا دقيقتان يا مستر بكوك، أتراني مصفر الوجه يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «ليس كثيرا.»
وساد السكون لحظة.
وعاد المستر ماجنس يقول: «عفوا يا مستر بكوك إذا أنا سألتك: هل جربت شيئا من هذا القبيل في زمانك؟»
وقال المستر بكوك: «أتقصد الخطبة؟» - «نعم.»
وأجاب المستر بكوك بكل قوة: «أبدا، أبدا.»
وقال المستر ماجنس: «ليس لديك إذن فكرة عما يحسن أن نبدأ الكلام به.»
وأجاب المستر بكوك: «لعلي قد كونت بعض الأفكار في هذا الشأن، ولكني لم أعرضها يوما معرض الاختبار والتجربة؛ ولهذا يؤسفني إذا أنت استهديت بها في اتخاذ تدابيرك ووضع خطتك.»
وقال المستر ماجنس وهو يلقي نظرة أخرى على الساعة وكان عقربها قد اقترب من الدقيقة الخامسة بعد الحادية عشرة: «أكون شاكرا لك يا سيدي إذا أنت أسديت إلي أية نصيحة في هذه المسألة.»
وأنشأ المستر بكوك يقول بجد بالغ اعتاد ذلك الرجل العظيم الالتجاء إليه كلما أراد أن يجعل لملاحظاته قوة وأثرا فعالا في النفوس: «إذن استمع لي يا سيدي، لو أني كنت مكانك لكان أول شيء أبدأه أن أنوه بجمال السيدة وأشيد بسجاياها الحسان، ثم أعطف من ذلك التنويه والإشادة إلى الكلام عن نفسك والحديث عن قلة جدارتك ونقص فضلك.»
وقال المستر ماجنس: «حسن جدا، ثم ماذا؟»
ومضى المستر بكوك يقول: «قلة جدارتك بها، تذكر هذا ولا تنسه، ولو كنت في مكانك لأثبت لها أنني لست مجردا من الفضل جملة، ولمضيت أشرح لها خلاصة من ماضي حياتي وشيئا موجزا عن حاضري، ولقلت على سبيل التمثيل والاستشهاد: إنني لا بد من أن أكون في عين إنسانة سواها موضع رغبة صادقة، ثم أذهب بعد ذلك أصف مبلغ حرارة حبي وعمق ولائي، وصدق إخلاصي، ولعلي بعدئذ مجترئ على محاولة الإمساك بيدها.»
وقال المستر ماجنس: «أي نعم، فهمت ما تقول، هذه نقطة عظيمة جدا.»
واستتلى المستر بكوك يقول وقد بدأت حماسته تزداد؛ لظهور الموضوع في ألوان زاهية لعينيه: «وعندئذ أهجم يا سيدي عليها بسؤال واضح بسيط وهو قولك: «فهل ترتضينني؟» وأحسبني معذورا إذا افترضت أنها عند سماعها هذا السؤال ستشيح بوجهها.»
وقال المستر ماجنس: «أتظن أن هذا سيؤخذ قضية مسلما بها؟ لأن الأمر سينتهي بارتباك إذا هي لم تفعل ذلك في الموضع المناسب.»
وأجاب المستر بكوك: «أعتقد أنها ستفعل ذلك وعندئذ يا سيدي اضغط يدها، وأظن، أظن يا مستر ماجنس أنه لن يكون رفض ما بعد ذلك، ثم أزيح في رفق المنديل الذي يحملني علمي اليسير بالطبيعة البشرية على الاعتقاد بأن السيدة ستدنيه من عينيها في تلك اللحظة، وأختلس منها قبلة محترمة، أعتقد يا مستر ماجنس أن لا بد من تقبيلها، وأنا في هذا النقطة أقرر جازما أنها ستغمغم في أذني كلمة قبول في استحياء، إذا كانت فعلا مقبلة على الرضا بي، جانحة إلى قبولي.»
وراح المستر ماجنس ينظر مليا في وجه المستر بكوك الذكي، وهو في صمت، لحظة قصيرة، وكان عقرب الساعة قد وصل إلى الدقيقة العاشرة بعد الحادية عشرة، فصافحه بحرارة، وانطلق مستيئسا من الغرفة لا يلوي على شيء.
وانثنى المستر بكوك يذرع القاعة في رفق، وكانت الساعة قد حذت حذوه، فبلغت النصف، وإذا الباب يفتح فجاة ، فاستدار ليرى المستر بيتر ماجنس عائدا، ولكنه أبصر حياله وجها متهللا، وهو وجه المستر طبمن، وطلعة هادئة ساجية، وتلك طلعة المستر ونكل، وصفحة تتجلى فيها مخايل الذكاء، وتلك صفحة المستر سنودجراس.
وبينما كان المستر بكوك يحييهم ويسلم عليهم؛ إذ دخل المستر بيتر ماجنس مهرولا، فقال المستر بكوك: «ها هو ذا السيد الذي كنت أتحدث إليكم عنه، وهؤلاء أصحابي يا مستر ماجنس.»
وقال المستر ماجنس، في حالة ظاهرة من الحماسة والاضطراب: «خادمكم أيها السادة، اسمح لي يا مستر بكوك بالكلام معك لحظة واحدة يا سيدي.»
ومضى يدخل سبابته في عروة رداء المستر بكوك ويحذبه إلى نافذة في ركن من القاعة.
قال: «هنئني يا مستر بكوك، لقد اتبعت نصيحتك بالحرف الواحد.»
وسأله المستر بكوك: «وجاءت النتيجة على ما يرام، أليس كذلك؟»
قال: «كذلك، ولم يكن في الإمكان أحسن مما كان، لقد أصبحت لي يا مستر بكوك.»
وأجاب المستر بكوك متحمسا وهو يشد كف صاحبه الجديد: «أهنئك من صميم قلبي.»
وقال المستر ماجنس: «لا بد من أن تراها يا سيدي، من هنا إذا تكرمت، اسمحوا لنا بدقيقة واحدة أيها السادة.»
وفي هذه العجلة مشى المستر ماجنس بالمستر بكوك منصرفين من الحجرة، ووقف بالباب التالي في الدهليز، وطرق الباب برفق.
وانبعث صوت نسوي يقول: «ادخل.» «فدخلا.»
وقال المستر ماجنس: «يا آنسة وذرفيلد اسمحي لي أن أقدم إليك صديقي الحميم المستر بكوك، ويا مستر بكوك أقدم إليك الآنسة وذرفيلد.»
وكانت السيدة واقفة في الطرف الأقصى من الحجرة، فلما انحنى المستر بكوك لها في أدب، أخرج منظاره من جيب صداره فوضعه فوق عينيه، ولم يكد يفعل حتى أفلتت منه صيحة دهشة، وتراجع عدة خطوات، بينما مضت السيدة ترسل صرخة مكتومة، وتخفي وجهها بيديها، وتتهالك على مقعد، ووقف المستر ماجنس جامدا في مكانه، ينقل عينه بينهما، وقد بدت على وجهه أبلغ علامات الاستنكار والذهول.
وكان هذا المشهد في ظاهره تصرفا غامضا بلا شك، ولكن الواقع أن المستر بكوك ما كاد يضع المنظار على عينيه حتى عرف في الحال أن عروس المستر ماجنس ليست سوى السيدة التي دخل عليها الحجرة غير مأذون في الليلة الماضية، ولم يكد المنظار يستقر فوق أنفه، حتى عرفت السيدة في التو واللحظة ذلك الوجه الذي شهدته بالأمس محاطا بكل شنائع «طاقية النوم»، فكان ذلك سر صرختها، وباعث صيحته.
وصاح المستر ماجنس وقد تملكته الدهشة: «يا مستر بكوك، ما معنى هذا يا سيدي؟ وما مراده؟»
وأضاف تلك الكلمة الأخيرة في لهجة وعيد وبصوت مرتفع.
وأجاب المستر بكوك في شيء من الغضب لهذا التغير الفجائي في لهجة المستر ماجنس وتحوله إلى صيغة الأمر: «سيدي، إنني أرفض الإجابة عن هذا السؤال.»
وقال المستر ماجنس: «أترفض يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم يا سيدي، إنني أمتنع عن قول شيء قد يحرج هذه السيدة أو يثير في نفسها ذكريات أليمة، دون موافقتها وإذنها.»
وقال المستر بيتر ماجنس: «يا آنسة وذرفيلد أتعرفين هذا الشخص؟»
وأجابت السيدة النصف: «أعرفه.» ولبثت مترددة لا تزيد شيئا.
وأجاب المستر ماجنس بحدة: «نعم، هل تعرفينه يا سيدتي؟ لقد سألتك هل تعرفينه؟»
قالت: «لقد رأيته من قبل.»
قال: «أين؟ أين؟»
ونهضت السيدة من مقعدها وأشاحت بوجهها قائلة: «هذا ما أرفض أن أبوح به مهما كلفني الرفض!»
وقال المستر بكوك: «إنني مدرك ما تعنين يا سيدتي، وأحترم هذا الإحساس الرقيق الذي أبديته، وثقي بأنني أيضا لن أبوح آخر الدهر به.»
وقال المستر ماجنس: «يمين الله يا سيدتي إنك بهذا القول، وبالنظر إلى المركز الذي أصبح لي عندك، تريدين أن تخفي هذه المسألة بهدوء ظاهر، واستخفاف واضح يا سيدتي.»
قالت: «إنك لقاس يا مستر ماجنس.»
وهنا راحت السيدة تبكي بدمع سخين.
وتدخل المستر بكوك قائلا: «لتوجه ملاحظاتك إلي أنا يا سيدي، إن كانت ثمة لائمة فأنا وحدي الملوم.»
وقال المستر ماجنس: «أأنت وحدك الملوم يا سيدي؟ فهمت إذن، إنك نادم على ما كنت معتزما أن تفعله، أنادم أنت؟»
وقال المستر بكوك بدهشة: «على ما كنت معتزما؟!»
وأجاب المستر ماجنس: «نعم يا سيدي، لا تنظر إلي هكذا يا سيدي، لقد تذكرت كلامك لي في الليلة الماضية، لقد قلت إنك جئت إلى هنا يا سيدي لتكشف خيانة شخص وتفضح غدره، وكان صدقه ووفاؤه من قبل موضع ثقتك التامة، إنه ...»
وهنا راح المستر ماجنس يطيل إليه نظرة هزء وازدراء، وينزع عن عينيه منظاره الأخضر اللون ويديرهما في كل ناحية، بشكل مخيف، وصورة مروعة.
وعاد يقول: «آه» ويكرر نظرته الهازئة المزدرية بحركة متزايدة «ولكنك ستجيب يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «عم أجيب؟»
وقال المستر ماجنس، وهو يمشي في الحجرة ذهابا وجيئة: «لا بأس يا سيدي، لا بأس!»
وأكبر ظننا أن في قول الناس: «لا بأس» معنى جامعا متواضعا عليه، فلا نذكر أننا شاهدنا شجارا في الطريق، ولا مشادة في الملهى، ولا نزاعا في محل عام، أو مكان سواه، إلا كان الجواب فيه عن كل سؤال يوجهه الخصم إلى خصمه، هو هذه العبارة بالذات «لا بأس» أو «حسن»، فيقول أحدهما للآخر: «هل تسمي نفسك إنسانا مهذبا يا سيدي؟» ويجيب هذا بقوله: «لا بأس»، ويقول بعضهم: «هل رأيتني أقول شيئا للشابة يا سيدي؟» ويجيب الآخر قائلا: «حسن»، أو ينثني أحد الناس يقول: «هل تريد أن أحطم لك رأسك في هذا الجدار يا سيدي؟» ويرد الآخر قائلا: «لا بأس يا سيدي»، ويلاحظ أيضا أن هذه العبارة بالذات تنطوي على شيء من التقريع يثير في صدر الشخص الذي توجه إليه غضبا أشد مما يثيره أفحش المثالب والسباب.
ولسنا نقصد بهذا أن نقول: إن توجيه هذه العبارة إلى المستر بكوك أثار في صدره ذلك الغضب الذي تثيره أبدا في صدور الناس عامة، وإنما نريد أن نسجل ما حدث فعلا في تلك اللحظة؛ فقد تقدم المستر بكوك نحو الباب ففتحه وراح ينادي قائلا: «يا مستر طبمن تعال إلينا.»
وفي الحال جاء المستر طبمن، وهو مبهوت في دهشة بالغة.
وابتدره المستر بكوك قائلا: «أي طبمن، إن سرا ينطوي على شيء من الحرج ويتصل بهذه السيدة كان اللحظة سببا لخلاف بيني وبين هذا السيد، فإذا أنا أكدت له بحضورك أن لا صلة لهذا السر به، ولا علاقة له مطلقا بشئونه، فلا أراني بحاجة إلى إحاطتك علما بأنه إذا استمر في مناقشتي في صحته، فمعنى ذلك أنه يشك في صدقي، وهو شك سأعده مهينا لي أبلغ الإهانة.»
وما كاد ينتهي من قوله هذا حتى نظر إلى المستر بيتر ماجنس نظرة شاملة محيطة، وكانت صراحته وحفاظه، وقوة منطقه، وبداهة حجته - وهي جميعا أبرز مزاياه - كفيلة بإقناع أي إنسان أوتي مسكة من العقل، ولكن عقل المستر بيتر ماجنس - في تلك اللحظة بالذات - لم يكن ساكنا في رأسه، ولا مستقرا في تفكيره، وبدلا من أن يتلقى شرح المستر بكوك كما كان ينبغي له أن يتلقاه، راح يستسلم لانفعال شديد محرق ثائر يتملكه من جميع نواحيه، ويتحدث عما يجب في حق إحساسه، ويقول كلاما من هذا القبيل ونحوه، ويشد شعره، ويأتي بحركات مضحكة ويروح ويغدو في الحجرة مهددا بقبضة يده في وجه المستر بكوك المفعم برا وعطفا.
وكان المستر بكوك نفسه - وهو عالم ببراءته - واثقا من صدقه ونزاهته، هائج الخاطر؛ لإحراج السيدة وإشراكها لسوء الحظ في هذه المسألة الكريهة، قد فقد سكينته المألوفة وهدوء نفسه المعروف، فكانت النتيجة أن الكلام طال، والنقاش احتد، والأصوات ازدادت ارتفاعا، وانتهى الأمر بأن قال المستر ماجنس للمستر بكوك أنه سيرسل إليه من يبلغه مشيئته، فكان جواب المستر بكوك بأدب جدير بالثناء أنه من الخير أن يعجل، وعندئذ اندفعت السيدة مروعة من الحجرة، وجر المستر طبمن صديقه تاركين المستر بيتر ماجنس وحده لتفكيره.
ولو أن تلك السيدة النصف كانت من النساء اللاتي اختلطن كثيرا بالناس، وعرفن شئون الدنيا، أو أفدن بعادات الذين يضعون فيها القوانين، وآداب الذين ينشئون فيها العرف والأخلاق، لعرفت أن هذا النوع من العنف والحدة هو أبعد الأشياء من الأذى، وأخلاها من الضرر، في الطبيعة، ولكنها عاشت أكثر حياتها في الريف ولم تقرأ في يوم من الأيام محاضر المناقشات التي تدور في البرلمان، ولم تدرك غير طرف يسير من هذه المسائل الدقيقة التي تتصل بالحياة المتحضرة ودنيا السادات والمهذبين، فلا عجب إذا هي أوصدت على نفسها الباب، حين هرعت إلى غرفتها، وأخذت تفكر في ذلك المشهد الذي جرى أمامها، وتصور لخاطرها صورا مروعة للقتل والدمار وسفك الدماء، وتتمثل من بينها صورة كاملة للمستر بيتر ماجنس محمولا من بين أربعة رجال، مزدانا بخزنة كاملة من الرصاص في جنبه الأيسر، وكلما فكرت في ذلك كله، ازدادت رعبا، وامتلأت خيفة، وانتهى بها التفكير إلى تقرير الذهاب إلى دار العمدة؛ لتطلب إليه البدار إلى اعتقال المستر بكوك والمستر طبمن بغير إبطاء.
وقد ألجأتها إلى إتخاذ هذا القرار عدة اعتبارات؛ أهمها: إقامة الدليل الذي لا نزاع فيه، والبرهان الذي سيتوافر به، على إخلاصها للمستر بيتر ماجنس، وقلقها على سلامته، وكانت تعرف حق المعرفة شدة غيرته، وسرعة تأويله الخاطئ لسبب اضطرابها عند رؤية المستر بكوك، وكانت واثقة كذلك من نفوذها وقوة سلطانها على ذلك الرجل الصغير الجثة ومقدرتها على إطفاء نار غيرته المتأججة، إذا تواتى لها إزالة المستر بكوك من الطريق، ومنع الاشتباك بين الرجلين.
واستولت هذه الأفكار عليها، فلبست قبعتها وأخذت ملفعتها وقصدت إلى دار العمدة في الحال.
وكان المستر جورج نبكنز - عمدة البلدة الذي أسلفنا ذكره - أكبر شخصية يستطيع أسرع «مشاء» أن يهتدي إليه، بين مشرق الشمس ودلوكها، في الحادي والعشرين من شهر يونية الذي تتحدث التقاويم عنه بأنه أطول يوم في العام كله، ويتسع فيه للباحث عنه بالطبع أكبر وقت للاهتداء إلى مكانه.
وكان المستر نبكنز في صباح ذلك اليوم بالذات في أشد حالات الاضطراب والهياج لقيام اضطرابات ومشاغبات في البلدة؛ فقد تآمر طلبة المدارس النهارية، في أكبر مدرسة لهذا النوع من التعليم على تحطيم واجهة حانوت بائع تفاح ممقوت، بعد أن جروا في أثر شماس الكنيسة وأوسعوه صفيرا وسخرية وازدراء، ورشقوا دار الشرطة بالأحجار.
وكان الشرطي فيها رجلا مكتهلا في حذاء طويل، لبث في عمله المتصل بحفظ النظام منذ فتائه، أي من نصف قرن على أقل تقدير.
وكان المستر نبكنز جالسا في مقعده الرحيب مقطبا في جلال، يغلي من الغضب، حين قيل له: إن سيدة تريد الدخول عليه لأمر عاجل وشأن خاص، فبدا عليه الغيظ المكتوم، وأمر بأن يسمح لها بالمثول، فأطيع ذلك الأمر في الحال، ككل أمر يصدره ممثلو الملوك والأباطرة والقضاة والحكام الكبار في الأرض.
ودخلت الآنسة وذرفيلد مضطربة مرتبكة.
وقال العمدة: «يا مزل.»
وكان «مزل» هذا حاجبا طويل البدن، قصير الساقين. - «يا مزل.» - «نعم يا سيدي.»
وانثنى إلى السيدة فقال: «والآن يا سيدتي قصي ما الخبر؟»
وأجابت الآنسة وذرفيلد: «إنه لأمر أليم يا سيدي.»
قال: «مرجح جدا يا سيدتي، هدئي روعك»، وهنا بدا المستر نبكبز رحيما رفيقا، «فإذا هدأت فنبئيني ما الذي أقدمك علينا يا سيدتي؟»
وهنا استطاع القاضي أن ينتصر على الإنسان، فعاد ينظر بتجهم وعبوس.
وقالت الآنسة وذرفيلد: «إنه لجد أليم لنفسي يا سيدي أن أفصح عن باعث قدومي، ولكني أخشى أن تحدث مبارزة هنا.»
وقال العمدة: «أتقولين هنا؟ أين يا سيدتي؟»
قالت: «في إبسويتش.»
قال وقد روعته الفكرة كل الترويع: «في إبسويتش يا سيدتي! مبارزة في إبسويتش! هذا مستحيل يا سيدتي، إنني مقتنع أن لا شيء من هذا القبيل يمكن التفكير فيه هنا في هذه البلدة، سبحان الله يا سيدتي! أتعرفين مدى نشاط الموكلين فيها بحفظ النظام، وسلامة الأمن؟ ألم يبلغك يوما يا سيدتي أنني بادرت إلى حلقة مباراة في الرابع من شهر مايو الماضي، ولم يكن معي غير ستين شرطيا خاصا، معرضا نفسي للوقوع فريسة غضب جمهور محنق وهياجه، فمنعت مباراة في الملاكمة بين الملاكم ضمبلنج الذي ينتمي إلى ولاية مدلسكس وبين الملاكم بانتام من ولاية سافوك. مبارزة في إبسويتش يا سيدتي؟! لا أظن، لا أظن، وهنا مضى ذلك الرجل القائم على صون النظام بقوة السلطان يتحدث إلى نفسه: «لا أظن أن رجلين يجرؤان على تدبير شيء كهذا مخل بالنظام في هذا البلد.»
وقالت السيدة النصف: «إن علمي بالأمر للأسف جد صحيح؛ فقد كنت حاضرة المشاجرة.»
وقال العمدة وهو مبهوت: «هذا شيء خارق للمألوف يا مزل!»
وأجاب الحاجب: «نعم يا سيدي .»
قال: «ادع المستر جنكس إلى الحضور هنا فورا، في هذه اللحظة.»
وأجاب الحاجب: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وانصرف الحاجب، ودخل الحجرة كاتب في منتصف العمر أصفر اللون حاد الأنف، يبدو عليه السغب ونقص التغذية، وتلوح على زيه وثوبه رقة الحال.
وناداه العمدة قائلا: «يا مستر جنكس، يا مستر جنكس.»
قال: «نعم يا سيدي.»
ومضى العمدة يقول: «إن هذه السيدة قد جاءت تبلغنا نبأ اعتزام رجلين المبارزة في هذه البلدة.»
ولم يدر المستر جنكس ماذا هو صانع، فابتسم ابتسامة الحائر المرتبك.
فانتهره العمدة قائلا: «مم تضحك يا مستر جنكس؟»
وعندئذ بادر المستر جنكس إلى اتخاذ سمات الجد في الحال.
وقال العمدة: «يا مستر جنكس، إنك أحمق.»
فنظر المستر جنكس نظرة ذلة وانكسار إلى الرجل العظيم وعض طرف قلمه.
ومضى العمدة قائلا: «قد تجد شيئا مضحكا في هذا البلاغ يا سيدي، ولكن في وسعي أن أقول لك هذا يا مستر جنكس، وهو أن ليس ثمة شيء يضحكك.»
وتنهد جنكس المسكين الساغب، كأنما أدرك أنه لا يوجد في الواقع شيء يدعو إلى الضحك، ولم يكد يؤمر بأن يأخذ أقوال السيدة، حتى دلف إلى مقعد وبدأ يكتب البلاغ.
ولما انتهى من تدوين المحضر، انثنى العمدة يقول: «أفهم من هذا أن الرجل الذي يدعى بكوك هو أصل البلاء.»
وأجابت السيدة: «نعم هو.»
وقال العمدة: «والمشاغب الآخر، ماذا يدعى يا مستر جنكس؟»
قال: «طبمن يا سيدي.» - «هل طبمن هو الثاني؟» - «نعم.» - «هل قلت يا سيدتي إن الأول اختفى؟»
وأجابت الآنسة وذرفيلد بسعلة قصيرة: «نعم.»
قال: «حسن جدا، إن أمامنا إذن رجلين من السفاحين جاءا من لندن إلى هنا للقضاء على أرواح رعايا جلالة الملك؛ ظنا منهما أن يد القانون عاجزة شلاء ما دامت هذه البلدة بعيدة من العاصمة، لسوف نجعلهما عبرة لمن يعتبر، أعد الأمر بالقبض عليهما يا مستر جنكس، يا مزل.»
وقال الحاجب: «نعم يا سيدي.»
قال: «هل جرمر في الطابق الأول؟» - «نعم يا سيدى.» - «ادعه إلينا.»
وانصرف مزل الممتثل الخاضع، ولم يلبث أن عاد ومعه السيد المكتهل الذي ينتعل حذاء طويلا والذي اشتهر بضخامة أنفه كأنه الزجاجة، وخشونة الصوت، وردائه الذي يضرب إلى لون «السعوط» وعينه الحوامة لا تستقر على شيء.
وقال العمدة: «جرمر.»
وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.» - «هل المدينة هادئة الآن؟» - «في خير حال يا سيدي، لقد هدأ الشعور العام إلى حد ما، بعد أن تفرق الغلمان وذهبوا إلى الكريكت.»
وقال العمدة في لهجة العزم والحزم: «لا شيء يجدي في هذه الأيام غير التدابير الشديدة يا جرمر، فإذا استهتر أحد بسلطة رجال الملك وأجناده فليس أمامنا إلا أن نقرأ عليه قانون التجمهر والاجتماعات، وإذا عجزت السلطات المدنية عن حماية هذه النوافذ يا جرمر، فمن واجب السلطات العسكرية أن تحمي السلطات المدنية والنوافذ كذلك، وأعتقد أن هذا هو حكم الدستور يا مستر جنكس أليس الأمر كذلك؟»
وقال: «هذا بلا شك يا سيدي.»
قال وهو يوقع الأمر: «حسن جدا، اذهب يا جرمر فأحضر هذين الشخصين أمامي في هذا الأصيل، ستجدهما في فندق «الحصان الأبيض الكبير» هل تتذكر حادث الملاكمين ضمبلنج وبانتام يا جرمر؟»
وأشار المستر جرمر بهزة من رأسه إشارة توحي بأنه لن ينساه أبدا وليس من المرجح في الواقع أن ينساه، ما دام القول فيه، أو الحديث عنه، يذكر في كل يوم ويتكرر الاستشهاد به.
وواصل ممثل السلطة التنفيذية حديثه قائلا: «ولكن حادث اليوم أكثر مخالفة لأحكام الدستور، وأشد إخلالا بالنظام، وانتهاكا لحقوق صاحب الجلالة ... لأنني أعتقد أن المبارزة من حقوق جلالته التي لا نزاع فيها، أليس الأمر كذلك يا مستر جنكس؟»
وأجاب هذا قائلا: «لقد نص عليها صراحة في «الماجنا كارتا» - «العهد الأعظم» - يا سيدي.»
وقال العمدة: «وهي درة من أسطع الدرر في التاج البريطاني، انتزعها الأعيان من جلالته انتزاعا، أليس هذا صحيحا يا مستر جنكس؟»
وأجاب جنكس: «أي نعم يا سيدي.»
واشرأب العمدة بعنقه كبرياء وزهوا وقال: «حسن جدا، فلن تنتهك هذه الوثيقة في هذا الجزء من المملكة. يا جرمر، خذ معك أعوانا، ونفذ هذا الأمر بلا إبطاء. يا مزل.»
وقال الحاجب: «نعم يا سيدي.» - «تقدم السيدة إلى الخارج.»
وخرجت الآنسة وذرفيلد متأثرة بالغ التأثر بسعة علم العمدة ودراساته، وانصرف المستر نبكنز لتناول الغداء، وأوى المستر جنكس إلى نفسه وانطوى عليها، وكان ذلك هو الملاذ الوحيد لديه، إذا استثنينا المتكأ الذي اتخذ منه فراشا في الغرفة الصغيرة التي اعتادت أسرة صاحبة البيت أن تقضي فيها ساعات النهار، وانصرف المستر جرمر أيضا؛ لكي يمحو - بطريقته الخاصة في تنفيذ المهمة التي عهد بها إليه - الإهانة التي لحقت به وبغيره من ممثلي حضرة صاحب الجلالة - ونعني به حضرة الشماس - في صبيحة ذلك النهار.
وبينما كانت هذه التدابير الحاسمة تتخذ لصيانة الأمن وحفظ النظام، كان المستر بكوك وأصحابه - وهم أخلياء الأذهان من الأحداث العظيمة التي توشك على الوقوع - جالسين في هدوء إلى طعام الغداء، يتجاذبون أطراف الأحاديث، كأحسن ما يكون الصحب والخلطاء، وكان المستر بكوك يقص عليهم واقعة الحال التي جرت له في الليلة الماضية، وهم بسماعها فاكهون، وبخاصة المستر طبمن، وإذا الباب يفتح ووجه تقتحمه الأبصار يطل عليهم منه، وإذا ذلك الوجه المنفر ينظر باهتمام بالغ إلى المستر بكوك عدة ثوان، وقد بدا عليه أنه قد اقتنع بنتيجة بحثه؛ فقد تقدم إلى الحجرة، يمشي في حذاء طويل، ولكيلا نطيل على القارئ انتظار معرفة شخص ذلك الطارئ على المستر بكوك وصحبه، نقول: إن هاتين العينين الخلاجتين الحوامتين اللتين أطلتا عليهم من الباب، هما عينا المستر جرمر، وإن الشخص الذي تقدم نحوهم هو شخص ذلك السيد ذاته.
وكانت طريقة المستر جرمر في الإجراءات «فنية» ولكنها خاصة لا يجرى فيها على طرائق سواه؛ فقد كان أول عمل أتاه أنه أقفل الباب من الداخل، وكان الإجراء الثاني أنه راح يمسح رأسه ووجهه بكل عناية بمنديل من القطن أخرجه من جيبه، والثالث أنه وضع القبعة والمنديل في جوفها على أقرب كرسي منه، والرابع أنه أطلع من جيب الصدر في سترته هراوة قصيرة يعلوها تاج نحاسي، فأشار به إلى المستر بكوك بشكل جدي رهيب كأنه شبح من الأشباح.
وكان المستر سنودجراس أول من قطع السكون الذي ساد القوم من الدهشة؛ إذ مضى يطيل النظر إلى المستر جرمر لحظة، ثم انثنى يقول بلهجة التوكيد: «إن هذه غرفة خاصة يا سيدي ... غرفة خاصة!»
فهز المستر جرمر رأسه وأجاب قائلا: «ليس هناك غرفة خاصة في نظر صاحب الجلالة، متى اجتيز الباب المؤدي إلى الشارع العام، هذا هو القانون، إن بعض الناس يقولون: إن مسكن الإنجليزي هو حصنه المنيع. هذا كلام فارغ.»
وهنا تبادل البكوكيون النظر في دهشة وعجب.
وقال المستر جرمر: «أيكم يدعى المستر طبمن؟»
وكان قد عرف المستر بكوك بالبداهة، وأدرك أنه هو في الحال.
وقال المستر طبمن: «أنا؟»
وأجاب المستر جرمر: «وأنا أدعى القانون!»
قال: «ماذا؟»
وأجاب المستر جرمر: «القانون! السلطة المدنية والتنفيذية، هذه هي ألقابي، وهذه هي سلطتي، طبمن الاسم الأول على بياض، وبكوك شرحه، الإخلال بالنظام في أراضي مولانا الملك. وقد أخذت الأقوال المتعلقة بهذه القضية، وتمت الإجراءات التي ينص عليها القانون، ولهذا ألقي القبض عليك يا بكوك وأنت يا طبمن، السالفي الذكر.»
ونهض المستر طبمن من مجلسه قائلا: «ماذا تعني بهذه القحة؟! اخرج من الحجرة.»
وقال المستر جرمر وهو يتراجع بسرعة إلى الباب «يا من هنا!» ثم يفتح منه قدر بوصة أو بوصتين، وينادي: «يا ضبلي ...!»
وانبعث صوت أجش من الدهليز قائلا: «نعم.»
قال: «تقدم يا ضبلي.»
وجاء على هذا الأمر رجل قذر السحنة عملاق ضخم البدن فحشر نفسه حشرا من خلال الفتحة الصغيرة حتى احمر وجهه من هذا الجهد الذي بذله في الدخول.
وقال المستر جرمر: «هل الشرطيون الآخرون وقوف في الخارج يا ضبلي؟»
وأجاب الرجل، وكان من عادته الإيجاز وقلة الكلام، بإيماءة من رأسه.
وقال المستر جرمر: «مر القسم الذي أنت موكل به يا ضبلي بالدخول.»
ففلى ضبلي ما طلب إليه، وإذا ستة رجال يحمل كل منهم هراوة قصيرة ذات تاج من نحاس، يتدفقون على الحجرة، ورد المستر جرمر هراوته إلى مكانها ونظر إلى المستر ضبلي، وأعاد هذا هراوته إلى موضعها ونظر إلى رجاله، ورد هؤلاء هراواتهم إلى أماكنها، ونظروا إلى المستر طبمن والمستر بكوك ونهض المستر بكوك وأصحابه نهضة رجل واحد.
وقال أولهم: «ما معنى هذا التهجم المنكر على حياتي الخاصة؟»
وقال المستر طبمن: «من الذي يجرؤ على اعتقالي؟»
وقال سنودجراس: «ماذا تريدون هنا أيها الأشقياء؟»
ولم يقل المستر ونكل شيئا، ولكنه رمق جرمر بعينيه، ونظر إليه نظرة لو كان لديه أي خالجة من الشعور لنفذت في رأسه، ولكنها والحالة هذه لم تحدث فيه أثرا ظاهرا.
ولما تبين ممثلو السلطة التفيذية أن المستر بكوك وأصحابه يهمون بمقاومة سلطة القانون، شمروا عن أذرعهم كأنهم مقدمون على جندلتهم في الحال، واستياقهم بعد ذلك، وهو إجراء عادي تقتضيه المهنة، وينفذ بمجرد التفكير فيه دون تردد، وقد فطن المستر بكوك لتلك الحركة في الحال، فأخذ المستر طبمن في ناحية وتحدث إليه بضع لحظات، وأبدى استعداده للذهاب إلى دار العمدة مكتفيا بتوجيه أنظار الحاضرين إلى أن في نيته فعلا أن يحتج على هذا التهجم البشع على حقوقه بوصفه مواطنا عقب الإفراج عنه مباشرة، فضحك الحاضرون لهذا القول ساخرين، خلا المستر جرمر الذي كان يعد أي شك ولو يسير في حقوق السلطة التنفيذية المقدسة تجديفا لا يغتفر.
ولكن عندما أبدى المستر بكوك استعداده للانحناء أمام قوانين بلاده، وعندما رأى الخدم والغلمان والوصيفات وصبيان المرابط والمركبات العامة الذين كانوا يتوقعون أن يشهدوا منظرا لطيفا، على إثر عناده وتهديده، أنه قد امتثل للأمر، انصرفوا خائبي الأمل مشمئزين، وعندئذ قامت صعوبة لم يكن أحد قد توقعها؛ وذلك أن المستر بكوك مع احترامه التام للسلطات الدستورية، امتنع أشد الامتناع عن الظهور في الشوارع العامة محاطا بالشرطة والحراس كما يحاط بالمجرمين العاديين، كما امتنع المستر جرمر، بالنظر إلى حالة الاضطراب، وهياج الشعور العام؛ فقد كان اليوم نصف عطلة، وصبية المدارس لم يعودوا بعد إلى دورهم، وأبى كل الإباء أن يستغني عن حراسة المقبوض عليهما، ويسير في الجهة الأخرى من الطريق، ويقبل من المستر بكوك التعهد بشرفه أن يسير رأسا إلى مقر العمدة، بل لقد رفض المستر بكوك والمستر طبمن أيضا أن يتحملا أجرة مركبة نقلهما إليه، وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة المحترمة التي يتسنى في هذا الموقف الحصول عليها، وهكذا اشتد الخلاف وطال أمد المأزق، وبينما كان ممثلو السلطة التنفيذية يوشكون أن يتغلبوا على اعتراض المستر بكوك على السير مشيا إلى دار العمدة، بحمله عنوة؛ إذ خطر بالبال أن في فناء الفندق مقعدا قديما كالهودج كان قد صنع في الأصل لحمل سيد غني كان يشكو داء المفاصل، وهو يتسع للمستر بكوك والمستر طبمن بلا عناء، ويشبه على الأقل عجلة أو مركبة صغيرة، فاستؤجر وأحضر إلى بهو الفندق وراح المستر بكوك وصاحبه طبمن ينحشران فيه ويرخيان أستاره، وجيء في الحال برجلين يحملان الهودج بينهما وخرج الموكب في مظهر فخم، ونظام بديع، وأحاط الأشراط بالمركبة، بينما تقدمها المستر جرمر والمستر ضبلي يمشيان في الطليعة مشية المنتصرين، وجاء المستر سنودجراس والمستر ونكل في الساقة يسيران ذراعا لذراع، وغوغاء إبسويتش الذين لا يعرفون للصابون قيمة ولا قدرا يؤلفون المؤخرة.
ولم يكن أصحاب الحوانيت في البلدة قد عرفوا جلية الأمر، ولا حقيقة التهمة، ولكن هذا المشهد كان كافيا لتلقينهم وإفهامهم مدى سطوة القانون، وإدخال الارتياح والطمأنينة على نفوسهم؛ فقد رأوا بأعينهم يد القانون الشديدة البأس، مسلطة في العشرين رجلا من سدنته وحراسه، يستاقون جانيين من أهل العاصمة ذاتها، وينفذون سلطان القانون بأمر عمدة البلدة التي يعيشون فيها، ويعتقلون الجانيين الأثيمين بكل تلك الجهود المشتركة التي تعاونت عليها أدوات القانون ودواليبه، في ذلك المحيط الضيق، وهما داخل هودج واحد، وقد تجلت مظاهر السرور والإعجاب بأجلى آياتها في تحية المستر جرمر وهو على رأس هذا الموكب، والهراوة في يده، فكانت هتافات الغوغاء القذرين مدوية. وانطلق الموكب الهوينا في وسط هذه المظاهر المجتمعة التي تدل على الارتياح العام، وراح يشق الطريق في هيبة وجلال.
وكان المستر ولر مرتديا سترة الصباح ذات الأردان المصنوعة من البفتة السوداء، وعائدا في حزن وخيبة أمل من بحث غير موفق حول البيت الغريب ذي الباب الأخضر، وإذا هو يرفع عينيه فيبصر زحاما في الطريق، محيطا بشيء قريب الشبه بهودج، فأراد أن يصرف عن خاطره كل تفكير في خيبة مشروعه، فوقف في ناحية يشهد الموكب وهو يمر ووجد الناس يهتفون، فرحين راضين، فبدأ على سبيل التسرية عن نفسه، ونفى الهم عن صدره، يهتف بكل قواه مع الهاتفين.
ومر المستر جرمر، ومر المستر ضبلي في أثره، واجتاز الهودج، واجتاز الحراس، وظل سام مستجيبا لحماسة الناس، مشتركا في هتاف الغوغاء، وملوحا بقبعته في الفضاء كأنه في أقصى حدود الابتهاج والإشراق - وإن لم تكن لديه بالطبع أقل فكرة عن الموضوع - ولكنه لم يلبث أن وقف عن حركاته تلك وحماسته، حين ظهر لعينيه فجأة المستر ونكل والمستر سنودجراس.
فصاح سام: «ما الخبر أيها السيدان؟ ومن تراهم يحملون في هذه المحفة المحزنة؟»
ورد السيدان عليه معا، ولكن كلامهما ضاع في وسط الجلبة الصاخبة.
فعاد يصيح قائلا: «من قلتما؟»
وجاءه الرد المشترك مرة أخرى، ولكنه لم يسمعه، وإن كان قد أدرك من حركة شفاههما أنهما قد نطقا بتلك الكلمة الساحرة «بكوك.»
وكان هذا حسبه، فلم تنقض دقيقة واحدة، حتى شق طريقه في غمار الزحام، وأوقف الحمالين اللذين يحملان الهودج بينهما، وواجه جرمر ذا الصولة والصولجان.
قال: «ما هذا أيها السيد الكبير؟ من هذا الذي تحمله في هذه النقالة؟»
وقال المستر جرمر: «ابعد يا هذا.»
وكان هذا الإعجاب الذي بدا له من جانب الجمهور قد زاد في هيبته، كغيره من الناس، ورفع من مكانته وأبهته.
وقال المستر ضبلى: «اطرحوه أرضا إذا لم يمتثل.»
وأجاب سام قائلا: «أشكرك كثيرا أيها السيد الكبير لعنايتك براحتي، وأشكر أيضا السيد الآخر الذي يبدو كأنه قد فر لساعته وتوه من قافلة عملاق على اقتراحه الجميل، ولكني أفضل أن تعطيني جوابا عن سؤالي، وإذا لم يكن في ذلك بأس لديك. كيف أنت يا سيدي؟» وكان هذا السؤال الأخير موجها بلهجة عطف ورعاية إلى المستر بكوك، وكان هذا قد أطل من خلال النافذة الأمامية.
وعندئذ أخرج المستر جرمر - وهو لا يكاد يقوى على النطق من شدة الغيظ - الهراوة ذات التاج النحاسي من الجيب الخاص بها ورفعها أمام عيني سام.
وقال: «هذا آه، إنها لعصا مليحة جدا، وبالأخص تاجها الذي يشبه التاج الحقيقي الآخر إلى حد بعيد.»
وصاح المستر جرمر في غضب: «إلى الوراء.» وعلى سبيل زيادة الأمر الصادر منه قوة، راح يدفع الشارة النحاسية رمز التاج الملكي في طوق سام بإحدى يديه، ويمسكه من رقبته بالأخرى، وهى تحية رد عليها المستر ولر بدفعة ألقته على الأرض، وكان قد سبقها - رعاية واحتراما له - بجندلة أحد الحمالين، لكي يسقط المستر جرمر فوقه، ويجد فراشا يستلقي عليه.
ولسنا متأكدين هل كانت نوبة جنون التي استولت عندئذ على المستر ونكل بسبب التأذي من هذا المشهد، والاستياء من رؤيته، أو كان سببها التأثر بتلك الشهامة التي أبداها المستر ولر؟ ولكن المؤكد أنه لم يكد يرى المستر جرمر يسقط على الأرض، حتى هجم هجمة مروعة على غلام صغير كان واقفا بجانبه، بينما راح المستر سنودجراس - بروح مسيحية صادقة، وحتى لا يأخذ أحد من الناس على غرة - يعلن بصوت مرتفع أنه سيبدأ القتال، وأنشأ يخلع سترته بمنتهى التأني والتؤدة، ولكن الشرطة بادروا إليه فحاصروه وأمسكوا به، ومن الإنصاف له وللمستر ونك أن نقول: إنهما لم يحاولا أقل محاولة لإنقاذ نفسيهما أو إنقاذ المستر ولر الذي قاوم أشد المقاومة، ولكن الكثرة تغلبت على الشجاعة فأحيط به.
وعاد الموكب إلى نظامه ورفع الحمالان جملهما وتابع القوم المسير.
وكان غضب المستر بكوك خلال هذا الحادث من بدايته إلى نهايته قد جاوز الحدود؛ فقد رأى سام وهو يجندل الأشراط ويكر ويفر في كل ناحية، ولم يستطع أن يرى أكثر من ذلك؛ لأن باب الهودج استعصى عليه، والأستار أبت أن ترتفع، وأخيرا - وبمعاونة المستر طبمن - تمكن من فتح السقف، والصعود فوق المسند، والتوازن على قدميه ما أمكن، بوضع يده فوق كتف صاحبه، وراح يخطب في الجماهير متحدثا عن الطريقة الجائرة التي عومل بها، ومناشدتهم الشهادة بأن الشرطة هم البادئون بمهاجمة خادمه.
وعلى هذا النحو وصل الموكب إلى دار العدالة، الحمالان يسيران بالمحفة جنبا، والسجينان يتبعانهما والمستر بكوك يخطب، والغوغاء يتصايحون ...
الفصل الخامس والعشرون
يصف - فيما يصف من مواقف سارة وحوادث فكهة - مدى هيبة المستر نبكنز ونزاهته، وكيف استطاع المستر ولر أن يرد على خدعة المستر جوب تروتر بلعبة أبرع منها، ومسألة أخرى سيجدها القارئ في موضعها. ***
كان غضب المستر ولر شديدا وهو يحمل حملا، فكثرت غمزاته ونكاته على أشكال المستر جرمر وزملائه، كما بدا جريئا في تحديه لأي شخص من أولئك الجنود الستة، وإعلان تذمره واستيائه بينما مضى المستر سنودجراس والمستر ونكل يصغيان باحترام صامت إلى فيض البلاغة المتدفقة من المستر بكوك زعيمهما وهو فوق منبر «الهودج»، تلك البلاغة الزاخرة التي لم يستطع المستر طبمن أن يوقف تيارها المتقاذف لحظة واحدة، بكل ما حاوله وتقدم به من توسلات إليه أن يغلق غطاء المركبة، وينثني عن خطبته، ولكن غضب المستر ولر لم يلبث أن استحال إلى فضول، حين رأى الموكب قد انعطف نحو ذلك الفناء ذاته الذي التقى فيه بالهارب جوب تروتر، وما لبث هذا الفضول أن انقلب إلى دهشة سارة، وعجب عاجب، حين شهد المستر جرمر بجلالة قدره يأمر الحمالين بالوقوف ويتقدم بخطوات جليلة، وفي مشية أبهة وسلطان، نحو ذلك الباب الأخضر الذي خرج منه جوب تروتر، ويدق الجرس بجذبة قوية، وإذا خادمة رشيقة مليحة المحيا، تأتي فتفتح الباب، وما كادت ترى السجناء على تلك الصورة الثائرة، وتسمع كلمات المستر بكوك الجياشة الغاضبة، حتى رفعت يديها من فرط الدهشة، ونادت المستر مزل مستنجدة، وجاء هذا ففتح نصف الباب الذي تدخل المركبات منه؛ لكي يتسع لدخول «الهودج» والسجناء والأشراط، وبادر إلى إغلاقه بعنف في وجوه الغوغاء، فغضب هؤلاء من صدهم عن الدخول، ومضوا في سبيل تحقيق لهفتهم على مشاهدة ما سيجري داخل الدار، وإرضاء مشاعرهم، يركلون الباب بأرجلهم، ويدقون الجرس بأيديهم ساعة أو ساعتين متعاقبتين على هذا العبث بالدور، خلا ثلاثة أو أربعة منهم حالفهم التوفيق فاكتشفوا ثغرة في الباب لا تشرف على شيء فاكتفوا بالحملقة والنظر من خلالها بتلك المثابرة الملحة التي لا تعرف التعب، ولا يغالبها الضجر، تلك المثابرة التي تبدو من الناس في أكثر هذه المشاهد، فيزدحمون بباب صيدلية، ويضعون أنوفهم في واجهاتها الأمامية إذا دهمت مركبة أحد السكارى في الطريق، فحمل إلى الصيدلية لإجراء جراحة له في الغرفة الخلفية منها.
وأوقف الهودج عند المنحنى الأول من مدارج سلم مؤد إلى باب البيت، وقد وضعت على كلا جانبيه «صبارة» من «الصبار» الأمريكي في حوض أخضر اللون، وسيق بالمستر بكوك وأصحابه إلى البهو حيث كان «مزل» قد أعلن من قبل حضورهم، وأمر المستر نبكنز بدخولهم، فأدخلوا في حضرة ذلك السيد صاحب السلطان الحريص على سلطته.
وكان المشهد رائعا يهز النفوس، وعلى هذا النحو دبر وروعي في تدبيره أن يقذب الرعب في قلوب الجناة، ويقنعهم بهيبة القانون وسلطانه؛ فقد جلس المستر نبكنز أمام مكتبة ضخمة، في مقعد كبير، خلف مكتب كبير، وأمامه مجلد ضخم، وبدا أكبر حجما من أي شيء فيها، على ضخامتها، وقد ازدانت المنضدة بأكداس من الأوراق، وفي الطرف الأقصى منها ظهر رأس المستر جنكس وكتفاه، وكان منشغلا كل الانشغال بالتظاهر بأنه مشغول ما أمكن.
وبعد أن دخل الجميع، تقدم مزل فأغلق الباب بعناية واتخذ موقفه خلف مقعد مولاه؛ انتظارا لأوامره.
واستلقى المستر نبكنز في مقعده بهيبة تسري لها رعدة في النفوس، وراح يتفحص وجوه الزائرين الذين جاءوا كارهين.
وأنشأ المستر نبكنز يقول: «والآن يا جرمر، من هذا الشخص؟»
وأشار إلى المستر بكوك وكان هذا قد وقف موقف المتحدث عن صحابه، والقبعة في يده، وهو ينحني بكل أدب واحترام.
وأجاب جرمر: «هذا هو بكوك يا حضرة العمدة.»
وهنا تدخل المستر ولر، وتقدم يدفع الآخرين بمرفقه؛ ليقف في المقدمة، وقال: «دعك من هذا كله أيها العجوز الشبيه بالشيخ القائل: «أشعل لي لفافة» عفوا يا سيدي، ولكن ضابطك هذا ذا القبعة الحمراء البرتقالية اللون الذي لا يمكن أن يكسب قوته يوما مديرا للمراسيم، في أي مكان كان، هذا السيد يا سيدي.» قال هذا وهو يدفع جرمر في ناحية ويخاطب العمدة بغير كلفة إطلاقا: «هذا السيد هو الوجيه الكبير س. بكوك وهذا المستر طبمن، وهذا المستر سنودجراس والآخر القريب منه في الناحية الأخرى هو المستر ونكل، كلهم سادات لطاف ظراف يسعدك يا سيدي أن تعرفهم، وكلما عجلت بإرسال ضباطك هؤلاء إلى الهراسة
1
مدة شهر أو شهرين، كان ذلك خيرا لنا ولك، لكي نصبح أحباء ونتفاهم، على أحسن ما يكون التفاهم، العمل أولا، واللهو بعد ذلك، كما قال الملك رتشارد الثالث حين طعن بالخنجر الملك الآخر في البرج، قبل أن يخنق الولدان في المهد.»
وما كاد المستر ولر ينتهي من هذه الخطبة حتى أخذ يمسح قبعته بمرفقه الأيمن، ويومئ بشفقة لجنكس الذي لبث مصغيا إليه طيلة الوقت الذي استغرقه في الخطبة برهبة لا توصف.
وقال العمدة: «من يكون هذا الرجل يا جرمر؟»
وأجاب المستر جرمر قائلا: «شخص متهور جدا يا حضرة العمدة؛ فقد حاول إنقاذ السجناء وتهجم على الشرطة فتحفظنا عليه وأحضرناه إلى هنا.»
وأجاب العمدة: «لقد أحسنت صنعا، الظاهر أنه من الأوشاب المتهورين.»
وقال المستر بكوك بغضب: «إنه خادمي يا سيدي.»
وقال المستر نبكنز: «إنه خادمك، هذه إذن مؤامرة لإحباط أغراض العدالة وقتل الموكلين بها، إنه خادم بكوك، اكتب هذا يا سيد جنكس.»
وفعل جنكس ما أمر به.
وصاح المستر نبكنز قاصفا كالرعد: «ما اسمك يا هذا؟»
وأجاب سام: «ولر.»
وقال المستر نبكنز: «اسم يصلح للنشر في تقويم السجون.»
وكانت هذه نكتة؛ فلا غرو إذا انتابت جنكس، وجرمر، وضبلي، والشرطيين الستة، ومزل نوبة ضحك استمرت خمس دقائق.
وقال العمدة: «قيد اسمه عندك يا مستر جنكس.»
وقال سام: «بلامين، لا لام واحدة يا أخ!»
وهنا ضحك ثانية شرطي سيئ الحظ، فبادر العمدة إلى تهديده بالعقاب في الحال؛ لأنه من الخطر البالغ الضحك ممن لا ينبغي الضحك منه في هذه الأحوال.
وقال العمدة: «وأين تقيم؟»
وأجاب سام: «في أي مكان أستطيع.»
وقال العمدة، وقد بدأ الغضب يبدو عليه: «اكتب هذا يا مستر جنكس.»
وقال سام: «وتحته خط.»
وقال العمدة : «إنه متشرد يا مستر جنكس، متشرد باعترافه، أليس كذلك يا مستر جنكس؟» - «بلا شك يا سيدي.»
وقال المستر نبكنز: «سأحكم عليه بهذه الصفة.»
وقال سام: «هذا البلد معروف بالعدالة والنزاهة في القضاء، وليس فيه قاض إلا حكم على نفسه مرتين قبل أن يحكم على الناس.»
وضحك شرطي آخر لهذا التهجم، ثم حاول أن يتراءى ساكنا جادا أكثر مما في مقدوره، فاكتشفه العمدة في الحال وصاح وهو محمر الوجه من الغضب: «جرمر، كيف سولت لك النفس اختيار شخص عديم الكفاءة سيئ السمعة كهذا الرجل ليكون شرطيا ممتازا، كيف اجترأت على عمل كهذا؟»
وأجاب جرمر متلعثما: «إنني آسف أشد الأسف يا حضرة العمدة.»
وقال العمدة المحنق: «آسف جدا، إنك ستندم على هذا الإهمال في واجبك يا مستر جرمر، وستجعل عبرة لأمثالك، اسحب من هذا المخلوق هراوته، فهو سكران، أنت سكران يا هذا.»
وقال الرجل: «أنا لست سكران يا حضرة العمدة.»
ورد العمدة قائلا: «بل أنت سكران فعلا، كيف تجرؤ على تكذيب قولي إنك سكران، حين أقول إنك كذلك؟! ألا تعبق رائحة الخمر منه يا جرمر؟!»
وأجاب جرمر: «بشكل بشع يا حضرة العمدة.»
وكان جرمر قد شعر برائحة «الروم» تنبعث من ناحية ما، ولم يكن متأكدا أنها منبعثة من ذلك الشرطي بالذات.
وقال المستر نبكنز: «إنني متأكد أنه سكران، وقد فطنت إلى سكره لأول وهلة حين دخل الحجرة، من عينه المهتاجة، هل لاحظت عينه المهتاجة يا مستر جنكس؟» - «بلا شك يا سيدي.»
وقال الرجل، وكان مفيقا صاحيا لنفسه ليس به سكر: «إنني لم أذق قطرة من الخمر في هذا الصباح.»
وقال المستر نبكنز: «كيف تجترئ على الكذب أمامي، أليس هو سكران في هذه اللحظة يا مستر جنكس؟»
وأجاب جنكس: «بلا شك سيدي.»
وقال القاضي: «إنني يا مستر جنكس أتهم هذا الرجل بإهانة المحكمة ... أعد ورقة الاتهام يا مستر جنكس.»
وكان الشرطي سيحكم بلا شك عليه، لولا أن جنكس الذي يتولى عمل «المستشار» لحضرة العمدة؛ لأنه سبق له التدرب على إجراءات القضاء ثلاثة أعوام في مكتب أحد المحامين في الريف، أقبل يهمس للقاضي قائلا: «إن هذا الإجراء لا يجدي، ولا غناء فيه»، فما كان منه إلا أن ألقى خطابا قال فيه: إنه بالنظر إلى أن الرجل رب أسرة، سيكتفي بتوبيخه وفصله من الخدمة، وتم فعلا تأنيبه بشدة زهاء ربع ساعة، وأطلق سبيله وراح جرمر وضبلي ومزل وسائر الأجناد الآخرين يغمغمون بإعجابهم بعظمة المستر نبكنز ورفعة إحساسه.
وانثنى المستر نبكنز يقول: «والآن يا مستر جنكس، حلف جرمر اليمين!»
وأدى جرمر اليمين في الحال، ولكنه أطال في شهادته، وشرد كثيرا في أقواله، وكان غداء العمدة قد أوشك أن يهيأ له، فلم تكن ثمة حيلة أمامه غير الاختصار، بتوجيه أسئلة معينة لجرمر، ورد هذا عليها في الغالب بالإيجاب.
وهكذا مضى الاستجواب هينا لينا، وثبت منه أن المستر ولر تعدى مرتين على الشرطة، كما ثبت التهديد على المستر ونكل، والتعدي بالإشارة على المستر سنودجراس.
ولما انتهى ذلك كله على ما يروم المستر نبكنز، أخذ في المداولة مع المستر جنكس همسا ومخافتة.
ولم تستمر المداولة أكثر من خمس عشرة دقيقة، فعاد المستر جنكس إلى مجلسه في طرف المنضدة، واستوى العمدة في مقعده، وأرسل سعلة ونحنحة على سبيل التمهيد، وشرع في النطق بالأحكام، وإذا المستر بكوك يقاطعه قائلا: «عفوا يا سيدي عن مقاطعتك، ولكن قبل أن تشرع في إصدار القرار الذي قد تكون بنيته على أساس الأقوال التي أدلي بها هنا، أرى لزاما أن أطالب بحقي في سماع أقوالي، فيما يتعلق شخصيا بي.»
وقال القاضي بلهجة قاطعة: «أمسك عليك لسانك يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أنا مضطر إلى الإذعان لأمرك يا سيدي.»
وعاد القاضي يقول: «أمسك عليك لسانك يا سيدي، وإلا أمرت ضابطا بإخراجك.»
وقال المستر بكوك: «لك أن تأمر ضباطك وأشراطك أن يفعلوا ما تشاء يا سيدي فلا شك عندي بعد الذي رأيته من الخضوع الغالب عليهم، أنك مهما تأمرهم يفعلوا يا سيدي، ولكني أصارحك يا سيدي بأني لا أزال متمسكا بحقي في سماع أقوالي، ما لم أخرج من هنا بالقوة.»
وهنا صاح المستر ولر بصوت مسموع: «بكوك والمبادئ!»
فانتهره المستر بكوك قائلا: «سام، اسكت أنت.»
وأجاب الخادم: «كسكوت طبلة مثقوبة يا سيدي.»
ونظر المستر نبكنز إلى المستر بكوك في دهشة بالغة من هذا التهور الذي لم يألفه من أحد قبله، وهم بأن يرد عليه ردا عنيفا كل العنف لولا أن جذبه المستر جنكس من كمه وهمس شيئا في أذنه فلم يسع القاضي إلا أن يرد ردا هادئا لا يكاد يبلغ الأسماع، وتجدد التهامس، والظاهر أن جنكس كان يعارض العمدة ويستنكر إجراءه.
وأخيرا التفت العمدة إلى المستر بكوك بعد أن ابتلع على كره هذا الاعتراض على الامتناع عن سماع أقواله فقال بحدة: «ماذا تريد أن تقول؟»
وأجاب المستر بكوك، بعد أن أرسل من خلال منظاره نظرة جعلت نبكنز نفسه يعرق منها وتخور عزيمته: «أريد أولا أن أعرف السبب الذي دعا إلى استياقي أنا وصاحبي إلى هنا.»
وهمس القاضي لجنكس: «هل يتحتم أن أنبئه؟»
وهمس هذا له: «أظن أنه يحسن أن تفعل يا سيدي.»
وقال القاضي: «لقد أبلغني شخص بعد حلفه اليمين أنه علم أنك عازم على مبارزة، وأن الرجل الآخر طبمن هو مساعدك فيها ومحرضك، ولهذا، آه يا مستر جنكس؟» - «بلا شك يا سيدي.» - «ولهذا أدعوكما، أظن أن هذا هو الإجراء الصحيح يا مستر جنكس؟» - «بلا شك يا سيدي.» - «ولهذا ماذا؟ يا مستر جنكس؟» - «أن يقدم ضمانا يا سيدي.» - «نعم، ولهذا أطلب إليكما - كما كنت أريد أن أقول لولا أن قاطعني كاتبي - أن تقدما ضمانا.»
وهمس المستر جنكس في أذنه: «ضمانا مقبولا.»
وقال العمدة: «ضمانا مقبولا.»
وعاد الكاتب يهمس له: «من أشخاص مقيمين في البلدة.»
وقال العمدة: «من أشخاص في البلدة.»
وهمس المستر جنكس: «خمسين جنيها عن كل واحد، ويتعين أن يكون الضامن من أرباب الأملاك طبعا.»
وقال العمدة بصوت جهير وفي اعتزاز بالغ: «إنني أطلب ضمانتين، كل منهما بخمسين جنيها، ويجب أن يكون الضامن طبعا من ذوي الأملاك.»
وقال المستر بكوك، وكان هو والمستر طبمن قد استولت عليهما الدهشة وتملكهما الغضب: «يا سبحان الله يا سيدي. إننا هنا غريبان عن البلدة وأهلها، ولا أعرف فيها أحدا من ذوي الأملاك، كما لا أعرف شيئا عن اعتزامي مبارزة أحد من خلق الله.»
وأجاب العمدة: «أريد أن أقول، أريد أن أقول، أليس كذلك يا مستر جنكس؟» - «بلا شك يا سيدي.»
وسأل العمدة المتهم: «ألديك شيء آخر تقوله؟»
وكان لدى المستر بكوك شيء كثير يقوله، وكان بلا شك قائله، وإن لم يكن في صالحه، ولا ينتظر أن يرتاح العمدة له، لو لم يجذبه المستر ولر من كمه، على إثر انتهائه من كلامه، ويدور بينهما في الحال حديث جدي سريع، جعله يغض عن السؤال الأخير الذي وجهه العمدة إليه، ولم يكن المستر نبكنز بالرجل الذي يسأل السؤال مرتين؛ ولهذا راح بعد نحنحة أخرى ووسط صمت الهيبة والرهبة والإعجاب البادية على الشرطة، ينطق بالأحكام.
وكان الحكم على المستر ولر بجنيهين غرامة من التهمة الأولى، وثلاثة جنيهات عن التهمة الثانية، وعلى المستر ونكل بجنيهين، وعلى سنودجراس بجنيه واحد مع مطالبتهما في الوقت ذاته بألا يتعرضا لأحد من رعايا حضرة صاحب الجلالة، وأن يحرصا على إقرار الوئام بينهم، وبخاصة مع خادم جلالته دانيال جرمر.
أما بكوك وطبمن فقد سبق له الحكم عليهما بكفالة.
وما كاد القاضي ينتهي من الكلام حتى تقدم المستر بكوك، وقد بدت ابتسامة على وجهه الذي استعاد تهلله وإشراقه، فقال: «أستميح حضرة العمدة عفوا، هل يأذن لي في حديث خاص معه بضع دقائق في أمر هام يتعلق بشخصه؟»
وقال العمدة: «ماذا؟»
وأعاد المستر بكوك السؤال.
وقال العمدة: «هذا الطلب مخالف للمألوف كل المخالفة، حديث خاص؟»
وأجاب المستر بكوك بثبات: «نعم، حديث خاص يتصل ببعض المعلومات التي أريد الإفضاء بها، والتي استقيتها من خادمي، ولهذا أريد أن يحضر هذا الحديث.»
ونظر العمدة إلى المستر جنكس، ونظر المستر جنكس إلى العمدة، ونظر الشرطة بعضهم إلى بعض في دهشة ظاهرة، وبدا المستر نبكنز فجأة شاحب اللون، هل ترى ذلك الرجل الذي يدعى ولر في لحظة ندامة وتأنيب ضمير قد أفضى بنبأ مؤامرة سرية على اغتياله؟ لقد خطرت له هذه الفكرة المروعة، إنه موظف عمومي، واشتد وجهه شحوبا؛ إذ تمثل له يوليوس قيصر، وتصور ما جرى للمستر برسيفال.
2
وعاد العمدة ينظر إلى المستر بكوك، ثم أشار إلى المستر جنكس.
وغمغم يقول: «ما رأيك في هذا الطلب يا مستر جنكس؟»
ولم يكن المستر جنكس يدري ما رأيه فيه، كما خشي أن يقع في خطأ، فلم يزد على ابتسامة واهية حائرة وزم ركني فمه، وهز رأسه ببطء من جانب إلى آخر.
وقال العمدة بجد: «يا مستر جنكس، إنك لحمار!»
وابتسم المستر جنكس مرة أخرى لهذا التعبير عن رأيه فيه، ابتسامة أوهى من الأولى، ولبث يتزحزح شيئا فشيئا حتى عاد إلى ركنه.
وخلا المستر نبكنز للمداولة مع نفسه بضع ثوان ثم نهض من مقعده، وطلب إلى المستر بكوك وسام أن يتبعاه، وتقدمهما إلى غرفة صغيرة تفتح على ساحة القضاء وطلب إلى المستر بكوك التقدم إلى أقصى الغرفة، وألقى يده على الباب الذي تركه مفتوحا نصف فتحة حتى يتهيأ له السبيل إلى الفرار إذا لمح أقل بادرة تنم عن الرغبة في العدوان عليه، ثم أبدى استعداده لسماع تلك المعلومات مهما يكن موضوعها.
وأنشأ المستر بكوك يقول: «سأدخل في صميم الموضوع في الحال بغير مقدمات يا سيدي، إنه أمر يتعلق بشخصك ويمس سمعتك إلى حد كبير، إن لدي من الأسباب يا سيدي ما يحملني على الاعتقاد أنك تؤوي في بيتك نصابا كبيرا، ومحتالا داهية.»
وقاطعه سام قائلا: «بل اثنين لا واحدا، هل نسيت يا سيدي الشخص التوتي الغزير الدموع، المطبوع على الخسة والتضليل؟»
وقال المستر بكوك: «اسمع يا سام، إذا كنت تريد أن يكون حديثي مع هذا السيد واضحا جليا، فإني مضطر إلى أن أرجوك أن تضبط شعورك.»
وأجاب مستر ولر: «متأسف جدا يا سيدي، ولكني كلما أتذكر جوب هذا لا أتمالك نفسي من فتح الصمام قليلا.»
وعاد المستر بكوك يقول: «وفي كلمة واحدة يا سيدي هل خادمي على حق في قوله : إن شخصا يدعى الضابط فتز-مارشال اعتاد التردد على هذا البيت؟»
ورأى المستر بكوك أن المستر نبكنز يوشك أن يعترض على كلامه في غضب فأردف قائلا: «لأنه إذا صح ذلك فإني أعرف أن ذلك الشخص ...»
وقال المستر نبكنز وهو يغلق الباب: «اغضض من صوتك، تعرف عنه ماذا يا سيدي؟»
قال في حنق: «أعرفه أفاقا لا يرعى عهدا ولا ذمة، أعرفه شخصا معيبا غير شريف، مخلوقا مفترسا ينهش الناس ويتخذ من السليمي النية منهم مطايا لأغراضه، وهم ضحاياه الحمقى البله المساكين.»
وقال المستر نبكنز وقد احمر وجهه وتغير مسلكه كل التغير: «يا الله! يا للعجب يا مستر ...»
وقال سام: «بكوك.»
وعاد العمدة يقول: «يا عجبا! يا مستر بكوك! تفضل اجلس، هل تعني حقا ما تقول؟ هل الضابط فتز-مارشال فعلا ...؟»
وعاجله سام قائلا: «لا تسمه ضابطا ولا فتز-مارشال؛ لأنه لا هذا ولا ذاك، إنه ممثل متجول يدعى «جنجل» وإذا جاز أن ترى ذئبا في زى توتي اللون؛ فإن جوب تروتر هو ذلك الذئب.»
وقال المستر بكوك ردا على نظرة الدهشة التي بدت على وجه العمدة: «هذه هي الحقيقة يا سيدي، إن كل مهمتي في هذه البلدة هي أن أفضح خافية هذا الشخص الذي نتحدث اللحظة عنه.»
وانطلق المستر بكوك يسكب في أذن المستر نبكنز المروع المبهوت قصة موجزة عن جرائم المستر جنجل وفظائعه، فروى كيف كان أول عهده بلقائه، وكيف هرب مع الآنسة واردل، وكيف فرح واغتبط بالتخلي عنها لقاء شيء من المال، وكيف وقع في شرك نصبه له بدخول مدرسة للبنات في منتصف الليل، وكيف يشعر الآن - أي المستر بكوك نفسه - أن واجبه يقتضيه فضح حقيقة اسمه الحالي ورتبته العسكرية.
وكان دم المستر نبكنز خلال سماع هذه القصة يغلي في عروقه، ويرسل حمرته في كل أنحائه، حتى أرنبة أذنه؛ فقد التقط ذلك الضابط المزعوم في سباق للخيل غير بعيد من الموضع، وما لبثت زوجته وابنته أن فتنتا الضابط فتز-مارشال بكثرة أسماء معارف فتز-مارشال من العلية، وعديد رحلات فيتز-مارشال وأسفاره، وحسن صيت فيتز-مارشال، وجمال بزته، فجعلتا تقدمانه إلى الناس، وتنقلان طرائف أقواله وتحلانه مكان الصدارة من الصفوة المختارة من أصحابهما ومعارفهما، حتى كادت صديقتهم الحميمة السيدة بوركنهام وابنتها الآنسة بوركنهام وزوجها المستر سدني بوركنهام يتميزون من الغيظ والكمد، وشدة الغيرة! ثم هو الآن، بعد كل ذلك، يسمع أنه أفاق صعلوك، وممثل جوالة، وإذا لم نقل نصاب فشيء أقرب شبها إليه، حتى ليصعب التفريق بينهما! يا للسموات! ماذا عسى آل بوركنهام يقولون؟ وأي انتصار سيحرزه المستر سدني بوركنهام حين يتبين أن كل كلامه المؤدب، وخطبه الرقيقة أغض عنها، وامتهنت إيثارا لذلك المزاحم المنافس عليه، وكيف سيواجه هو - أي المستر نبكنز - عين الشيخ بوركنهام حين يلتقيان في الدورة القادمة التي تنعقد مرة كل ثلاثة أشهر، وأي فرصة سوف تسنح للمعارضة في عمديته إذا تسامع الناس بهذه القصة؟
وانثنى المستر نبكنز وقد أشرق وجهه لحظة، بعد صمت طويل، قائلا: «ولكن بعد هذا كله لا تزال هذه القصة مجرد كلام يقال، إن الضابط فتز-مارشال رجل جم الأدب جذاب، بل يصح لي أن أقول: إن له خصوما وأعداء كثيرين، فأي دليل لديك على صدق ما رويت؟»
وأجاب المستر بكوك: «واجهني به، هذا هو كل ما أسأل، وغاية ما أرجو، واجهني به أنا وأصحابي هنا، وعندئذ لن نحتاج إلى برهان جديد.»
وقال المستر نبكنز: «ولم لا؟ إن هذا أمر سهل جدا، فسيأتي إلى هنا الليلة، فلا تبقى ثمة فرصة لكشف الأمر أمام الناس؛ مراعاة على الأقل لذلك الشاب، وأحب أن أستشير السيدة نبكنز في مدى وجاهة هذا التصرف قبل أن نفعل شيئا، وعلى كل حال يا مستر بكوك لا بد لنا من صرف هذه القضية قبل أن نقدم على أي عمل، فتفضل بنا إلى القاعة المجاورة.»
وذهبا إلى القاعة.
وصاح العمدة بصوت مروع: «جرمر.»
وأجاب هذا بابتسامة رجل يعتقد أنه موضع حظوة لدى العمدة واحتساب: «نعم يا سيدي.»
وقال العمدة عابسا: «دع عنك هذا يا سيدي، ولا ترني هذا الاستخفاف منك هنا؛ لأنه تصرف غير لائق مطلقا، وإني أؤكد لك أن لا شيء يدعوك إلى الابتسام ... هل الأقوال التي أبديتها هنا منذ لحظة صحيحة تماما؟ الآن احتط فيما تقول ولا تسرع يا سيدي.»
وقال جرمر متلعثما: «إنني يا سيدي ...»
وصاح العمدة به: «أنت مرتبك، ألست مرتبكا يا مستر؟»
وأجاب جنكس: «بلا شك يا سيدي.»
جنكس: «ألا ترى هذا الارتباك البادي عليه؟»
وقال العمدة: «والآن أعد أقوالك يا جرمر، وأعود فأحذرك مرة أخرى أن تحتاط. يا مستر جنكس، اكتب ما هو قائل.»
وأخذ جرمر المسكين في سرد شكواه من جديد، ولكن بين تأثير مشهد المستر جنكس وهو يقيد كل حرف، ويسجل كل كلمة، وبين ترديد العمدة لكل لفظة تخرج من فمه، لم تلبث نزعته الطبيعية إلى الشرود وارتباكه المتناهي، أن جعلاه يتورط بعد ثلاث دقائق في كلام متناقض، وقول معقد، إلى حد دفع بالمستر نبكنز إلى مصارحته بأنه لا يصدق ما قال، ولا يسلم بصحة شهادته، ويضطره إلى إلغاء الحكم بالغرامات التي نطق بها من قبل بها، ولم يستغرق المستر جنكس وقتا في الاهتداء إلى الكفالة المحكوم بها على المستر بكوك وصاحبه، وبعد أن انتهت كل تلك الإجراءات الجدية على ما يرام، أمر العمدة بإخراج المستر جرمر من القاعة فكان ذلك مثلا من الأمثال على أن «العظمة البشرية لا تستقر على حال، وأن الحظوة لدى العظماء لا تدوم.»
وكانت السيدة نبكنز امرأة ذات جلال تضع فوق رأسها عمامة ذات لون وردي من «الشاش» وضفائر بنية اللون غير قاتمة من الشعر المستعار وكانت الآنسة نبكنز تشبه أمها في كل كبريائها وزهوها، إلا العمامة، وتحكيها في كل طبيعتها الخشنة، إلا الضفيرة، ولئن جرت هاتان الصفتان البديعتان الأم والفتاة إلى الوقوع في ورطات سيئة - كما كان يحدث غالبا - فلا تزالان متفقتين دائما في إلقاء اللائمة على عاتق المستر نبكنز، فلا عجب حين قصد المستر نبكنز إلى زوجته وقص عليها الرواية التي سمعها من المستر بكوك، إذا هي تذكرت فجأة أنها كانت تتوقع دائما حدوث شيء من هذا القبيل، وأنها كانت أبدا تقول إن ذلك سوف يقع حتما، وإن نصيحتها لم يؤخذ بها مطلقا، وإنها لا تعرف حقا ماذا يظن المستر بكوك بها، وأي رأي يراه فيها، وكلاما طويلا من هذا النوع ونحوه.
وانثنت الآنسة نبكنز وهى ترغم دمعة صغيرة على الظهور في ركني عينيها: «تصوري أيضا كيف خدعت وكيف استغفلت استغفالا!»
وأجابت أمها قائلة: «آه ... اشكري بابا يا عزيزتي، لكم توسلت ورجوت هذا الرجل أن يسأل عن هذا الضابط وروابطه «العائلية»، وكم ألححت وتضرعت إليه أن يتخذ خطوة قاطعة، وإجراء إيجابيا، إنني واثقة أن أحدا لن يصدق كلامي هذا مطلقا.»
وقال المستر نبكنز: «ولكن يا عزيزتي.»
وقالت امرأته: «ليس لك كلام معي، أيها المستخف بالأمور حتى تتفاقم، لا تكلمني.»
وقال المستر نبكنز: «يا حبيبتي، أنت بنفسك اعترفت بميلك وولوعك بالضابط فتز-مارشال وأنت التي لم تكفي عن دعوته إلى بيتنا يا عزيزتي، ولم تدعي فرصة تسنح إلا انتهزتيها لتقديمه إلى الناس في بيوتهم!»
وصاحت السيدة نبكنز لاجئة إلى ابنتها في صورة المرأة التي أسيء كثيرا إليها: «ألم أقل ذلك يا هنرييتا؟ ألم أقل: إن «بابا» سينقلب على عقبيه ويلقي بكل اللائمة على عتبتي أنا؟ ألم أقل ذلك؟»
وأجهشت بالبكاء.
وصاحت ابنتها محتجة: «أوه ... با ...»
وانتحبت هي الأخرى.
وعادت مسز نبكنز تقول باكية: «هذا كثير! كثير جدا، أن يكون هو الذي جلب كل هذا العار والشنار علينا، ثم يجرحني بزعمه أنني أنا السبب.»
وقال ابنتها: «كيف يمكننا الظهور في المجتمع؟»
وصاحت أمها: «وكيف يمكن أن نري وجوهنا لآل بوركنهام؟!»
وتبعتها ابنتها قائلة: «وآل جريجز؟!»
وقالت مسز نبكنز: «أو آل سلمنتوكنز؟!»
ولكن: «ماذا يهم بابا، وما شأنه هو؟»
وعند هذه الذكرى المروعة راحت مسز نبكنز تبكي بحرقة نفسية، وتبعتها ابنتها بكاء ونحيبا.
وكذلك ظلت عبرات السيدة نبكنز متدفقة، حتى اتسع لها الوقت للتفكير في الأمر، وتقليب وجوه الرأي فيه، والقطع بأن الوسيلة المثلى هي دعوة المستر بكوك وأصحابه إلى البقاء لديهم حتى يأتي الضابط وعندئذ يعطى المستر بكوك الفرصة التي يطلبها، فإذا تبين أنه قد قال حقا، تيسر طرد الضابط من البيت في هدوء حتى لا ينتشر النبأ بين الناس، ومن السهل عليهم عندئذ تعليل اختفائه عند آل بوركنهام بأنه قد عين بفضل نفوذ أهله في البلاط حاكما عاما في مستعمرة «سيراليوني» أو «سورجور بوبنت» أو أي منطقة من تلك المناطق الطيبة الهواء التي تفتن ألباب الأوروبيين بسحرها، فإذا نزلوا يوما بها وأقاموا، فقلما يتسنى لهم إقناع أنفسهم بالعودة منها.
ولما كفكفت السيدة نبكنز عبراتها، وجففت ابنتها دموعها، وأبدى المستر نبكنز ارتياحه لتسوية المسألة كما اقترحت زوجته، وانتهى المستر بكوك وأصحابه من إزالة كل أثر لما حدث لهم، قدموا إلى السيدتين، وما لبثوا أن دعوا إلى تناول الغداء، وأما المستر ولر الذي اكتشف العمدة بذكائه الغريب وفطانته الثاقبة، في نصف ساعة، أنه من أظرف الأحياء؛ فقد سلم إلى المستر مزل ليوليه عنايته، ويكرم مثواه.
وقال المستر مزل للمستر ولر وهو يتقدمه إلى السلم المؤدي إلى المطبخ: «كيف أنت يا سيدي؟»
وأجاب سام: «لم تتغير حالي كثيرا مذ رأيتك واقفا خلف مقعد مولاك في القاعة منذ لحظة قصيرة.»
وقال المستر مزل: «اعذرني إذا لم أتنبه إليك كثيرا في ذلك الوقت؛ لأن سيدي كما ترى لم يعرفنا بعضنا ببعض، بالله كم هو مولع بك يا مستر ولر، تأكد أنه يحبك كثيرا.»
وقال المستر سام: «آه ... إنه شخص لطيف.»
وأجاب مزل: «أليس هو كذلك حقا؟»
وقال سام: «وابن نكتة.»
وقال مزل: «وفياض في الكلام، انظر كيف تتدفق الآراء منه، وتفيض الأفكار، ما رأيك؟»
وأجاب سام: «بديع، إنها لتتدفق، ويضرب بعضها رءوس البعض الآخر بسرعة شديدة، حتى ليخيل إليك أنها تتضارب ويغمى عليها، فلا يعرف الإنسان ماذا يريد أن يقول ... بالله عليك هل تفهم منها شيئا؟»
وقال المستر مزل: «هذه هي أكبر مزية لأسلوبه في الكلام، تنبه إلى الدرجة الأخيرة من السلم يا مستر ولر، هل تحب أن تغسل يديك يا سيدي قبل أن تجلس إلى السيدات؟ هذا هو حوض فيه ماء يا سيدي وفوطة نظيفة معلقة خلف الباب.»
وقال المستر ولر وهو يضع قدرا كبيرا من صابون أصفر في الفوطة: «يحسن بي أن أنظف نفسي» وراح يحك بالصابون وجهه حتى عاد يبرق، وهو يقول: «كم سيدة عندكم؟»
وأجاب مستر مزل: «اثنتان فقط في مطبخنا: الطاهية والوصيفة، وعندنا صبي يشتغل مساعدا وبنت تعاونه ولكنهما يأكلان في غرفة الغسيل.»
وقال المستر ولر: «آه، يأكلان في غرفة الغسيل، هل تقول جدا؟»
وأجاب المستر مزل: «نعم، لقد جربنا أكلهما معنا على المائدة حين قدما للعمل في البيت، ولكننا لم نستطع أن نبقيهما معنا؛ لأن تصرفات البنت سوقية بشكل بشع، والغلام يتنفس بصعوبة شديدة وهو يأكل، حتى وجدنا أنه من المستحيل علينا أن نجلس معه إلى مائدة واحدة.»
وقال المستر ولر: «يا له من درفيل صغير!»
واسترسل المستر مزل يقول: «مرعب! ولكن هذا هو أسوأ ما في خدمة الريف يا مستر ولر. الصغار دائما متوحشون، من هنا يا سيدي، من فضلك، الطريق من هنا.»
وتقدم المستر مزل بسام في أدب بالغ إلى المطبخ، وقال: «يا ماري» مناديا الخادمة المليحة: «هذا هو المستر ولر، سيد أرسله مولانا لإكرامه ما استطعنا.»
وقال المستر ولر وهو ينظر نظرة إعجاب إليها: «وإن سيدكم لفهيم ذكي، عرف كيف يرسلني إلى مكان طيب ولو كنت رب هذا البيت لوجدت كل أسباب الراحة متوافرة حيث تكون ماري.»
وقالت ماري بخجل: «يا له من كلام، يا مستر ولر!»
وهنا تكلمت الطاهية فقالت: «أما أنا فلا أجدها أبدا.»
وبادر المستر مزل يقول: «يا للداهية! لقد نسيتك. يا مستر ولر دعني أعرفك بها.»
وقال المستر ولر: «كيف أنت يا سيدتي؟ إنني لفي سرور شديد لرؤيتك، وأرجو أن تكون معرفتي بك طويلة الأمد، كما قال أحدهم لورقة من فئة الخمسة الجنيهات.»
ولما انتهت حفلة التعارف على هذه الصورة، توارت ماري والطاهية في الغرفة الخلفية من المطبخ لتضحكا ملء أشداقهما، وعادتا بعد عشر دقائق باسمتين خجلاوين، فجلستا إلى المائدة.
وكان لظروف المستر ولر وسماحة أخلاقه وبراعة حديثه أثر لا يقاوم في نفوس أصحابه الجدد فلم تلبث الألفة أن سادت الجميع، وتوثقت بينهم المودة، وعرفوا تفاصيل جرائم جوب تروتر ودقائق قصته.
وقالت ماري: «لم أكن أطيق أبدا هذا الجوب.»
وأجاب المستر ولر: «ولا يصح لك أن تطيقيه يوما ما يا عزيزتي.»
وسألته ماري قائلة: «ولم لا؟»
وأجاب المستر ولر: «لأن القبح والنصب لا يأتلفان والرشاقة والفضيلة أبدا، أليس كذلك يا مستر مزل؟»
وأجاب هذا السيد: «مطلقا.»
وهنا ضحكت ماري، وقالت: إن الطاهية هي التي جعلتها كذلك. وضحكت الطاهية قائلة: إنها لم تفعل.
وقالت ماري: «ليست لي كأس.»
وقال المستر ولر: «اشربي معي يا عزيزتي، ضعي شفتيك على حافة كأسي، فتكون قبلتي لك بالواسطة.»
وقالت ماري: «عيب يا مستر ولر.»
قال: «ما هو العيب يا عزيزتي؟!»
قالت: «الكلام بهذه الطريقة.»
قال: «كلام فارغ، هذا شيء لا بأس منه. إنه الطبيعة، أليس كذلك يا طاهية؟»
وأجابت الطاهية وهي في سرور شديد: «لا تسألني في كلام معيب.»
وضحكت ماري والطاهية مرة أخرى، وما لبثت البيرة واللحم البارد، والضحك المقترن بهما أن جعلت الطاهية توشك على الاختناق، فكانت أزمة مزعجة لم تزل عنها إلا بخبطات رفيقة على ظهرها، ومحاولات أخرى ضرورية تولى المستر صمويل ولر بذلها بمنتهى الدقة واللطف.
وفي وسط هذا المرح والقصف سمعوا جرس الباب الخارجي يدق عاليا، فبادر الغلام الذي يتناول طعامه في غرفة الغسيل إلى الذهاب لفتحه، وكان المستر ولر في أوج غزله وتلطفاته للخادمة الحسناء، والمستر مزل منشغلا بإعطاء الطعام حقه من الإنصاف والاهتمام، بينما كفت عنه الطاهية لحظة لتضحك، وهي ترفع قطعة كبيرة من الطعام إلى شفتيها، وإذا باب المطبخ يفتح ويدخل منه المستر جوب تروتر.
وقد قلنا «يدخل» ولكن هذا التعبير يغاير ما ألفناه من الدقة في التزام الحقيقة، ووصف الواقع، والصحيح أن الباب فتح، وأن المستر جوب تروتر بدا لديه، وكان سيدخل، بل هم فعلا بالدخول، لولا أن لمح المستر ولر فتراجع مرغما خطوة أو خطوتين ووقف يرمق هذا المشهد القائم حياله ولم يكن يتوقعه مطلقا، وجمد في مكانه تماما، من فرط الذهول والرعب.
ونهض سام وهو في أشد الفرح قائلا: «ها هو ذا. لقد كنا في سيرتك اللحظة بالذات، كيف الحال؟ وأين كنت؟ تعال، ادخل.»
وألقى يده على طوق جوب التوتي وهو لا يحاول مقاومته، وجره إلى المطبخ وأغلق الباب، وسلم المفتاح إلى المستر مزل فأخذه بكل هدوء ووضعه في أحد جيوبه الجانبية وأحكم الزرار عليه.
وصاح سام: «هذه لعبة بحق. تصور أن سيدي سيحظى بلقاء سيدك في الطابق الأعلى، وتصور سروري الشديد بلقائك في الطابق الأسفل، كيف أحوالك، وكيف حالة البقالة التي تنوي فتحها؟ أنعم بك وأكرم! إنني لفي فرح بالغ برؤيتك، إنك تبدو سعيدا راضيا، إن مقابلتنا هنا لحظ جميل، أليس كذلك يا مستر مزل؟»
وقال هذا: «إنه لكذلك.»
وقال سام: «انظر كيف هو مشرق متهلل!»
وقال مزل: «ومنشرح النفس كل الانشراح.»
وقال سام: «لأنه حظي بمقابلتنا؛ فإن اجتماعنا يجعله مبتهجا كل الابتهاج. اجلس، اجلس.»
واضطر المستر تروتر إلى الجلوس في مقعد بجانب المدفأة، وألقى نظرة من عينيه الضيقتين على وجه المستر ولر أولا، ثم على المستر مزل ثانيا ولم يقل شيئا.
وقال سام: «والآن أمام هاتين السيدتين أحب أن أسألك، من باب الفضول، ألا تعد نفسك لطيفا مهذبا كأي شاب بديع، يضع منديلا ورديا في جيب ردائه.»
وقالت الطاهية بغضب: «كمن يريد الزواج بطاهية، آه يا مجرم!»
وقالت الوصيفة في أثرها: «ويترك ماضيه السيئ ويفتح بقالة بعد ذلك.»
وقال المستر مزل، بلهجة جد شديدة، وغيظ من العبارتين الأخيرتين: «والآن اسمع أيها الشاب هذا الذي سأقوله لك: إن هذه السيدة - مشيرا إلى الطاهية - هي صديقتي أنا، وحين تتكلم يا سيدي عن عزمك على الاتجار بالبقالة معها، تجرحني في أدق النقط التي يجرح فيها الرجل رجلا آخر. هل فهمتني يا سيدي؟»
وسكت المستر مزل مرتقبا الجواب، في اعتزاز ببلاغته التي يقلد فيها سيده.
ولكن المستر تروتر لم يحر جوابا.
وعندئذ استرسل المسر مزل يقول بجد ظاهر: «من الجائز جدا يا سيدي أنك لن تدعى إلى الطبقة العليا من البيت قبل عدة دقائق؛ لأن سيدي منشغل في هذه اللحظة خاصة بعقاب سيدك وقطع دابره، فالوقت إذن متسع لخلوة بيني وبينك وكلام خاص، هل فهمتني يا سيدي؟»
وسكت المستر مزل ثانية ليرتقب ردا، ولكن المستر تروتر خيب ظنه.
فمضى يقول: «حسن، إنني لشديد الأسف لاضطراري إلى الكلام أمام السيدتين وشرح قصدي، ولكن عذري أن المسألة عاجلة لا تسمح بالتأجيل. إن غرفة المطبخ الخلفية خالية ليس فيها أحد يا سيدي، فإذا تكرمت بدخولها يا سيدي، وليكن المستر ولر شاهدنا، واستطعنا أن نرضي كرامتنا، قبل أن يدق الجرس، فاتبعني يا سيدي.»
وما إن فاه المستر مزل بهذه الكلمات، حتى خطا خطوة أو خطوتين صوب الباب، وبدأ لكسب الوقت يخلع سترته وهو متقدم إلى الغرفة الأخرى.
ولكن الطاهية لم تكد تسمع هذه الألفاظ، وتدرك معنى التحدي الشديد الذي تنطوي عليه، وتشهد المستر مزل يهم بالتنفيذ، حتى أطلقت صرخة مدوية واندفعت نحو المستر جوب تروتر، فنهض من مقعده في الحال، وانقضت هي عليه تخدش وتقطع وجهه الضخم المسطوح بأظافرها بتلك النوبة التي تنتاب النساء إذا غضبن وخرجن عن طورهن، ومضت تغيب يديها في شعره الأسود الطويل، وتقتلع منه شعرات غزارا تكفي لتكوين عدة خواتيم حداد، وما إن أتمت هذه الفعلة بتلك الحمية التي أوحى بها حبها الصادق للمستر مزل، حتى تراجعت خطوات فسقطت فوق الطنف، وهي مغمى عليها، من رقة إحساسها، وسرعة تأثرها وهياج عاطفتها.
وفي تلك اللحظة دق الجرس.
وقال سام: «هذا الجرس لك يا جوب تروتر.» وقبل أن يتمكن هذا من الاحتجاج أو الرد، بل قبل أن يتسع له الوقت لوقف النزيف من جروحه التي أحدثتها السيدة الغضبى في معالم سحنته، أمسك سام بإحدى ذراعيه وتناول المستر مزل الأخرى، وجره أحدهما من أمام، ودفعه الآخر من خلف، فاحتملاه إلى مدارج السلم وساقا به إلى قاعة الجلوس.
وكانت صورتهم على هذا النحو «لوحة» مؤثرة كل التأثير، وكان السيد المحترم الفرد جنجل، الشهير بالضابط فتز-مارشال واقفا بقرب الباب، حاملا قبعته بيده، وعلى وجهه ابتسامة، وهو هادئ لم يتأثر إطلاقا بحرج موقفه، وكان المستر بكوك واقفا قبالته والظاهر أنه كان يلقي عليه درسا في الأخلاق ومكارمها؛ لأن يده اليسرى كانت تحت ذيل ردائه، واليمنى مبسوطة أمامه في الفضاء، كديدنه حين ينطلق في خطبة مؤثرة، وعلى قيد خطوات منه وقف المستر طبمن، والغضب باد على وجهه، كلما هم بالوثوب على غريمه أمسكه صديقاه الآخران، وهما حريصان على منعه، بينما وقف في أقصى القاعة المستر نبكنز وزوجته وابنته في جلال يشوبه اكتئاب، وغيظ شديد لا يستطيعون مغالبته.
وقال المستر نبكنز في وقار وجلال، حين سيق بجوب إلى القاعة: «ما الذي يمنعني من احتجاز هذين الرجلين بوصفهما مجرمين أفاقين؟ إنها الرحمة البلهاء. ما الذي يمنعني؟»
وأجاب جنجل وهو هادئ: «الكبرياء أيها الشيخ، الكبرياء، لا فائدة من الاحتجاز، لقد قبضنا على الضابط، أه، ها، ها، حسن جدا، كان سيصبح زوجا للابنة، هل نفضح أنفسنا أمام الناس؟ هذا مستحيل، لنبدو بلها مغفلين جدا!»
وقالت مسز نبكنز: «أيها الوغد، إننا لنسخر من تلميحاتك الحقيرة هذه.»
وأضافت هنرييتا قائلة: «لقد كنت أبدا أمقته!»
وقال جنجل: «طبعا، شاب ممشوق القد، حبيب قديم، سدني بوركنهام! غني، جميل، وإن لم يكن في مثل غنى الضابط، أبعدوه، أنقذوني منه. لا أحد أحسن من الضابط! لا إنسان مثل الضابط في كل مكان، وكل البنات به مجنونات! آه يا جوب؟»
وهنا ضحك جنجل ملء فمه، وراح جوب يفرك يديه من الفرح، وانطلق أول صوت خرج من فمه منذ دخل البيت، وكان ذلك الصوت ضحكة خافتة توحي بأنه يجد لذة بالغة في ضحكته تلك حتى لا يريد أن يترك لها صوتا مسموعا؛ لينفرد هو بلذتها.
وقالت الأم: «يا مستر نبكنز، إن هذا الحديث لا يصح أمام الخدم ليسمعوه، أخرج هذين الوغدين من هنا.»
وقال المستر نبكنز: «بلا شك يا عزيزتي، يا مزل.» - «نعم يا سيدي.» - «افتح الباب الخارجي.» - «نعم يا سيدي.»
وقال المستر نبكنز، وهو يلوح بيده تلويحة قاطعة: «اخرج من البيت .»
وابتسم جنجل ومشى إلى الباب.
وصاح المستر بكوك به: «قف.»
ووقف جنجل ...
وقال المستر بكوك: «كان في إمكاني أن أجعل ثأري منك أشد من هذا بكثير لقاء ما عانيته على يديك، وعلى يدي صاحبك المنافق هذا.»
وانحنى جوب تروتر بكل أدب ووضع يده على قلبه.
وعاد المستر بكوك يقول، وقد بدأ الغضب يتملكه رويدا: «أقول كان في إمكاني أن أجعل ثأري أشد وأقسى، ولكني مكتف بفضح سرك، وكشف حقيقتك للناس؛ لأنني أعد ذلك واجبا علي نحو المجتمع، إن هذه لسماحة يا سيدي أرجو أن تتذكرها.»
وعندما وصل المستر بكوك إلى هذه النقطة رفع جوب تروتر يده إلى أذنه بجد يشوبه الهزل، كأنما لا يريد أن تفوته كلمة واحدة من قول المستر بكوك.
ومضى هذا قائلا وقد تملكه الغضب فعلا: «وليس عندي ما أضيفه يا سيدي إلا أن أقول لك: إنك مجرم وشقي، وشر من رأيت من خلق الله أو سمعت، خلا هذا التقي الورع المتشرد في ثوبه التوتي اللون.»
وضحك جنجل قائلا: «ها، ها، رجل طيب بكوك، قلب كريم، شيخ بدين! ولكن لا ينبغي لك أن تستسلم للغضب والاحتداد، شيء غير مستحب، جدا، وداعا، سأراك يوما ما، خل عنك، عد إلى مرحك، والآن جوب تروت.»
3
وراح المستر جنجل بعد هذه الكلمات يحشر قبعته في رأسه على عادته، وانصرف من الحجرة بينما تمهل جوب تروتر وأجال البصر حوله وابتسم ثم انحنى بجد مزيج بسخرية للمستر بكوك، حين رأى المستر ولر ينصرف خلفه، كل وصف، وانطلق في أثر سيده المؤمل أبدا الذي لا يعروه يأس.
وقال المستر بكوك حين رأى المستر ولر ينصرف خلفه: «سام!» - «سيدي.» - «ابق هنا.»
وبدا المستر ولر مترددا.
وعاد المستر بكوك يكرر الأمر.
وقال المستر ولر: «ألا تسمح لي بتوديع جوب وتنفيض فروته في الحديقة؟»
وأجاب المستر بكوك: «كلا، قطعا.»
قال: «أو أركله عند الباب يا سيدي على الأقل؟»
وأجابه سيده: «كلا، إطلاقا.»
وبدا المستر ولر لأول مرة منذ دخل في خدمة سيده مستاء متألما لحظة ما، ولكن لم يلبث أن تهللت أساريره؛ لأن المستر مزل الماكر، كان قد اختبأ خلف الباب الخارجي، ثم اندفع في اللحظة المناسبة ببراعة فائقة وأخذ في وجهه كلا من المستر جنجل وخادمه، وهما ينزلان السلم، فسقطا فوق حوضي «الصبار» القائمين في أسفله.
وانثنى المستر بكوك فقال مخاطبا المستر نبكنز: «والآن يا سيدي وقد أديت واجبي، أودعك أنا وأصحابي، شاكرين لك حسن ضيافتك لنا، واسمح لي عن نفسي، وبالنيابة عن صحبي أن أؤكد لك أننا ما قبلنا دعوتك، ولا رضينا أن نخرج على هذه الصورة من المأزق الذي وجدنا أنفسنا فيه، لولا شعورنا بالواجب واحتراما له، ونحن عائدون إلى لندن غدا، فاطمئن إلى سرك عندنا، إنه في الحفظ والصون.»
وهكذا! انحنى المستر بكوك بأدب بالغ للسيدتين، بعد أن سجل احتجاجه على المعاملة التي لقوها في الصباح، وغادر الحجرة مع أصدقائه، رغم تشدد الأسرة في رجائهم البقاء.
وقال المستر المستر بكوك: «أحضر قبعتك يا سام.»
وأجاب سام: «إنها في الطابق الأسفل يا سيدي.»
وانطلق لإحضارها.
ولم يكن أحد في المطبخ غير الخادمة الحسناء، وكانت قبعة سام قد اختفت في مكان ما، فاضطر إلى البحث عنها، وجاءت المليحة بالمصباح لتنير له المكان وتعاونه، فراحا يبحثان وينقبان، وفي لهفتها على الاهتداء إليها، جثت على ركبتيها، ومضت تقلب كل الأشياء المتراكمة في ركن صغير بجانب الباب، وكان هذا الركن محرجا؛ لأنك لا تستطيع الوصول إليه إلا إذا أوصدت الباب أولا.
وصاحت المليحة قائلة: «ها هي ذي! ها هي ذي، أليست هذه؟»
قال: «دعيني أنظر إليها.»
فوضعت الحسناء الشمعة على أرض الغرفة، وكان ضوؤها بصيصا لا يكاد يضيء، فاضطر سام إلى الزحف على ركبتيه ليتبين هل هي حقا أو لا، وكان ذلك الركن ضيقا، فلم يكن الذنب على أحد غير البناء الذي شيد ذلك البيت في التصاق سام بالجارية الحسناء بحكم الضرورة وضيق المكان.
وقال سام: «هي قبعتي بلا شك، وداعا إذن.»
قالت: «وداعا.»
وفيما كان يقول الوداع، سقطت القبعة من يده بعد كل ذلك العناء الذي لقياه في الاهتداء إليها.
قالت: «ما أغرب تصرفاتك، إنك ستفقدها مرة أخرى إذا لم تحرص عليها.»
ولكي تمنعه من إضاعتها وقفت تضعها فوق رأسه.
ولا يزال الشك قائما إلى اليوم هل بدا وجه تلك الخادمة المليحة أملح وأفتن حين رفعته نحو وجهه، أو كان مجرد نتيجة عرضية لتقاربهما وتلاصقهما، ولكن الثابت أنه قبلها.
وقالت المليحة: «أظنك لا تعني أن تقول إنك فعلت هذا قاصدا.»
قال: «كلا! لم أقصد، ولكني سأقصد الآن.»
وقبلها مرة أخرى.
وسمع صوت سيده ينادي من السلم: «يا سام!»
واندفع يصعد المدارج قائلا: «نعم، أنا آت يا سيدي.»
وقال سيده: «لقد أطلت الغياب.»
قال: «لقد كان شيء خلف الباب يا سيدي منعنا من فتحه مدة طويلة.»
وكانت هذه هي المرحلة الأولى التي اجتازها المستر ولر إلى أول عهده بالحب.
آلة من آلات التعذيب تدار بالأقدام؛ لحمل المتهمين على الاعتراف؛ ولتأديب الجناة.
من رجال السياسة في عهد دكنز واغتيل في أروقة مجلس العموم عام 1812.
دكنز يلعب هنا بلفظة «تروتر» ومعناها في الإنجليزية «الذي يسير خببا» وفعلها «تروت» أي «سر خببا» أو انطلق.
الفصل السادس والعشرون
وصف موجز لما جرى في قضية باردل ضد بكوك
وكذلك بعد أن تم للمستر بكوك تحقيق هدفه الأكبر، بفضح جنجل، وكشف ستره، اعتزم البدار إلى العودة إلى لندن؛ ليعرف مدى الإجراءات التي اتخذها ضده في تلك الفترة المحاميان ددسن وفج، وتنفيذا لهذا العزم بكل النشاط والحزم المعروفين عنه، صعد إلى المقعد الخلفي في أول مركبة غادرت إبسويتش في صبيحة اليوم التالي للحوادث التي فصلناها في الفصلين السابقين، فوصل هو وأصحابه الثلاثة، والمستر صمويل ولر تابعه إلى العاصمة في صحة تامة وأمان في مساء اليوم ذاته.
وهنا تفرق الصحاب إلى حين، فذهب ثلاثتهم إلى بيوتهم؛ ليعدوا العدة المطلوبة لزيارتهم القادمة لمزرعة دنجلي ديل، واتخذ المستر بكوك وسام مسكنا مؤقتا لهما في حي قديم، وفندق مريح، ونعني به فندق «جورج وحانة الرخم»، في جورج يارد بشارع لومبارد.
وتناول المستر بكوك العشاء، وانتهى من الزجاجة الثانية من النبيذ الأثير لديه، وأرخى منديله الحريري فوق رأسه، ومد ساقيه إلى سياج الموقدة، واستلقى في مقعد رحيب، ولم ينتبه من غفوته إلا على دخول المستر ولر يحمل حقيبته المصنوعة من القماش.
قال: «سام!»
وأجاب هذا: «سيدي!»
قال: «لقد دار بخلدي الساعة يا سام أنني تركت عدة أشياء عند السيدة باردل في شارع جوزول، فينبغي أن أتدبر أمر استردادها قبل أن أغادر المدينة مرة أخرى.»
وأجاب المستر ولر: «لا بأس، شيء جميل!»
واستتلى المستر بكوك يقول: «ويمكن أن أرسل هذه الأمتعة إلى بيت المستر طبمن؛ لتبقى عنده حتى حين، ولكن يتعين البحث عنها وجمعها وحزمها، وأود منك أن تذهب يا سام إلى شارع «جوزول»، وتؤدي هذا العمل بنفسك.»
وسأل المستر ولر: «هل تريد مني أن أذهب في الحال يا سيدي؟»
وقال سيده: «نعم في الحال، ولكن انتظر يا سام - وراح يخرج كيس نقوده - إن علي لها أجرة لا بد من أدائها، ولكن هذا الأجر لا يستحق إلا في عيد الميلاد، ولكن هذا لا يهم، فأده إليها، لننتهي منه، ولا بد قبل انتهاء العقد من شهر إنذار، فها هو ذا الإنذار مكتوب، فأعطها إياه، وقل لها أن تكتب إيصالا، في أي وقت تشاء.»
وقال المستر ولر: «جميل جدا يا سيدي، هل من شيء آخر؟» - «لا شيء غير هذا يا سام.»
ومشى المستر ولر ببطء إلى الباب كأنما يتوقع شيئا آخر، وفتحه برفق كذلك، وخرج منه ببطء أيضا، وأغلقه بكل تؤدة تاركا فتحة صغيرة، وإذا المستر بكوك ينادي: «سام!»
قال وهو يعود أدراجه مسرعا ويغلق الباب وراءه: «نعم يا سيدي.»
قال: «لا مانع عندي يا سام من أن تحاول التثبت من شعور السيدة باردل ذاتها نحوي، وهل من المرجح فعلا أن هذه القضية الباطلة الجائرة ستستمر إلى النهاية، أقول: إنني لا أمانع في هذا إذا رغبت أنت فيه يا سام، وراقك أن تفعله.»
وأومأ سام إيماءة قصيرة توحي بأنه قد فهم المراد ووعاه، وانصرف.
ووضع المستر بكوك منديله الحريري مرة أخرى فوق رأسه ، وتهيأ للإغفاء.
وبادر المستر ولر من ساعته إلى تأدية المهمة التي وكلت إليه.
وكانت الساعة قد قاربت التاسعة حين وصل إلى شارع جوزول، فلمح شمعتين تضيئان في الغرفة الصغيرة المطلة على الباب، وعلى زجاج النافذة قد انعكست صورة قبعتين، فأدرك أن عند السيدة باردل ضيوفا.
ودق الباب، وبعد فترة طويلة، قضاها الواقف خارج الباب في الصفير ببعض النغمات، واستغرقها في الداخل إنسان يحاول جاهدا إضاءة شمعة تأبى أن تضيء، وإذا مواقع حذاء صغير فوق البساط تتقدم إلى الباب، وإذا باردل الصغير يظهر أمام مستر ولر.
وقال هذا: «أهلا يا نطاط! كيف حال أمك؟»
وأجاب باردل الصغير: «في أتم الخير، وأنا أيضا.»
وقال سام: «هذه مرحمة، قل لها: إنني أريد أن أكلمها أيها الصبي الفذ بين الصبيان.»
ووضع باردل الصغير الشمعة على أول درجة من السلم وتوارى منصرفا إلى الحجرة يحمل رسالته.
وكانت القبعتان اللتان انعكست صورتهما على ستار النافذة قبعتي صديقتين للسيدة باردل جاءتا منذ لحظة؛ لتتناولا فنجانا من الشاي في جلسة هادئة وعشاء بسيطا شهيا من البطاطس وقليل من الجبن المحمر.
وكان الجبن يجبش ويحمر ويطش طشا بهيجا مفرحا في فرن «هولندي» صغير أمام النار، وقطع البطاطس تنضج في مقلاة صغيرة من القصدير على جانب الموقدة، في منظر شهي للطاعمين، كما كانت السيدة باردل وصاحبتاها ناعمات بحيث ممتع هادئ، عن صواحبهن ومعارفهن، حين أقبل باردل الصغير من الاستجابة إلى جرس الباب، ليؤدي الرسالة التي حملها من قبل المستر صمويل ولر.
وقالت السيدة باردل وقد ارتد وجهها شاحبا: «خادم المستر بكوك؟!»
وقالت السيدة كلبنز: «يا عجبا!»
وقالت السيدة ساندرز: «ما كنت في الحقيقة مصدقة لو لم أكن حاضرة الساعة.»
وكانت السيدة كلبنز امرأة نحيلة خفيفة جمة النشاط، وكانت السيدة ساندرز بدينة متخمة ثقيلة الوجه.
وشعرت السيدة باردل بأنه من الكياسة أن تتراءى مرتبكة مضطربة، ولم تكن الثلاث يعرفن على اليقين هل ينبغي في هذه الظروف أن يكون الاتصال بخادم المستر بكوك من طريق المحاميين ددسن وفج، ولا بأس من الاتصال المباشر به، فلا غرو إذا جاء هذا النبأ مفاجئا لهن، وكان أول شيء يفعل طبعا في هذا التردد الذي استولى عليهن، هو ضرب الغلام؛ لأنه وجد المستر ولر بالباب، فضربته أمه ولكزته فراح يصرخ بأنغام وألحان شجية.
وصاحت به أمه قائلة: «اخرس أيها المخلوق الشرير!»
وقالت السيدة ساندرز: «نعم، لا تزعج أمك المسكينة.»
وقالت السيدة كلبنز باستسلام ورثاء: «كفاها هما فلا تزدها أنت هموما.»
وقالت السيدة ساندرز: «آه! ما أسوأه من حظ أيها الحمل المسكين!»
وكان باردل الصغير يزداد صراخا على هذه الأقوال والكلمات الراثية المواسية.
والتفتت السيدة باردل إلى صديقتها السيدة كلبنز قائلة: «والآن ماذا أفعل؟!»
وأجابت السيدة كلبنز قائلة: «من رأيي أنا أنه يجب أن تقابليه، ولكن لا يمكن أن يتم ذلك مهما يكن الأمر إلا بحضور شاهد.»
وقالت السيدة ساندرز، وكانت هي الأخرى في أشد اللهفة والفضول لمعرفة جلية الأمر: «ومن رأيي أن حضور شاهدين أكثر تطبيقا للقانون.»
وقالت السيدة باردل: «أظن أنه يحسن أن يأتي إلى هنا.»
وأجابت السيدة كلبنز في لهفة متشبثة بهذه الفكرة: «بلا شك. ادخل أيها الشاب، وأغلق باب الشارع أولا من فضلك.»
وبادر المستر ولر إلى تنفيذ الطلب، ودخل حجرة الجلوس، وأخذ يشرح مهمته للسيدة باردل قائلا: «إنني آسف كثيرا على إحداث أي إزعاج شخصي لك يا سيدتي، كما قال اللص الذي تسلل إلى البيت للسيدة العجوز عندما ألقاها فوق النار، ولكن الواقع أنني وسيدي لم نعد إلى المدينة إلا منذ لحظة، ونحن مسافران بعد قليل، فلا مفر من حضوري كما ترين ولا حيلة.»
وقالت السيدة كلبنز وقد أعجبها شكل المستر ولر وكلامه: «إن الشاب لا حيلة له في أغلاط سيده ولا ذنب بالطبع.»
وتبعتها السيدة ساندرز قائلة: «بلا شك.»
وكان يبدو من نظراتها المتلهفة إلى المقلاة الصغيرة أنها في شغل شاغل بتقدير ما فيها من البطاطس إذا دعي سام إلى البقاء لتناول العشاء.
واسترسل سام غير ملق بالا إلى هذه المقاطعة: «وكل ما أتيت من أجله هو هذا؛ أولا: أن أقدم إنذارا من سيدي، وها هو ذا. وثانيا: أن أدفع الأجرة، وها هي ذي. وثالثا: أن أجمع كل الأشياء التي تركها هنا وأتركها لكي تعطى لأي رسول نرسله لأخذها. ورابعا: أن أبلغك أن تؤجري المحل في أقرب وقت تشائين، هذا هو كل ما في الأمر.»
وقالت السيدة باردل: «لقد طالما قلت من قبل ولا أزال أقول، على الرغم مما حدث: إن المستر بكوك تصرف في كل شيء - إلا شيئا واحدا - تصرفات سيد مهذب تماما، وإن النقود لديه كأنها في المصرف سواء بسواء.»
وأدنت منديلها وهى تقول ذلك من عينيها وانصرفت من الحجرة لتأتي بالإيصال.
وأدرك سام حق الإدراك أنه من المتعين عليه أن يظل هادئا، وأن هاتين المرأتين ستتكلمان حتما، فراح ينظر تارة إلى المقلاة والجبن المحمر وتارة أخرى إلى الجدار والسقف، وهو في صمت شديد.
وأنشأت السيدة كلبنز تقول: «مسكينة حقا.»
وأجابتها السيدة ساندرز: «مسكينة هي!»
ولم يقل سام شيئا؛ فقد تبين له أنهما ستدخلان في الموضوع.
وعادت السيدة كلبنز تقول: «إنني في الواقع لا أتمالك نفسي من الغضب كلما فكرت في هذه الخيانة، ولست أريد أن أقول شيئا يؤلمك أيها الشاب، ولكن الواقع أن سيدك حيوان بهيم، وكنت أحب أن أراه هنا لأقول ذلك له.»
وقال سام: «ليت لهذا حدث.»
ومضت السيدة كلبنز وهي ترنو إلى المقلاة والفرن الهولندي: «وحتى يرى بعينيه كيف تعيش في شدة الحزن، ولا تجد في شيء سلوة إلا حين تزورها صواحبها؛ لمجرد العطف والرثاء، ليجلسن معها ويواسينها ... شيء فظيع!»
وقالت السيدة ساندرز في أثرها: «وحشي!»
واستتلت السيدة كلبنز قائلة: «وسيدك أيها الشاب، سيد ذو مال لا تضنيه النفقة على زوجة، ولا على شيء آخر، ليس له ولا ظل عذر يشفع لتصرفه، لماذا لا يتزوجها؟»
وقال سام: «آه! هذا هو السؤال.»
وأجابته السيدة كلبنز: «فعلا، هذا هو السؤال الذي كان يجب أن توجهه إليه إذا كانت لديها جرأتي ونفسيتي، ولكن هناك القانون يحمينا - نحن النساء - ما دام الرجال يفعلون بنا ما يشاءون وسوف يعلم ذلك سيدك أيها الشاب، وسيؤدي نفقات هذا العلم، قبل أن يزداد عمره ستة أشهر.»
وعند هذه الفكرة المواسية، سكتت السيدة كلبنز وابتسمت للسيدة ساندرز، فردت هذه عليها بابتسامة مماثلة.
وقال سام في نفسه: «القضية سائرة إذن دون شك.»
وفي تلك اللحظة عادت السيدة باردل تحمل الإيصال.
قالت: «ها هو ذا الإيصال وباقي النقود، وأرجو أن تتناول شيئا من الشراب يدفع البرد عنك، ولو على ذكر المعرفة القديمة يا مستر ولر.»
ورأى المستر ولر الفرصة مواتية فرضي في الحال واستجاب، ومضت السيدة باردل فأخرجت من غرفة صغيرة زجاجة سوداء اللون وقدحا من الأقداح التي يشرب فيها النبيذ، وكانت شاردة البال، مستغرقة في تفكيرها الأليم، حتى لقد ملأت القدح للمستر ولر، وعادت فجاءت بثلاثة أقداح أخرى فملأتها كذلك.
وقالت السيدة كلبنز: «انظري يا سيدة باردل ماذا فعلت.»
وقالت السيدة ساندرز: «لا بأس! لا بأس!»
وصاحت السيدة باردل وهي تبتسم ابتسامة باهتة: «آه! أين عقلي ... يظهر أنه طار.»
وفهم سام ذلك كله طبعا فقال في الحال: إنه لا يمكن أن يشرب أبدا قبل العشاء إلا إذا شربت سيدة معه.
واشترك الجمع في الضحك مستطيل، وتطوعت السيدة ساندرز لمفاكهته فتناولت رشفة قليلة من كأسها، وعندئذ اقترح سام أن يفعل الجميع ذلك، فتناولوا رشفة قليلة من كئوسهم، وانثنت السيدة كلبنز تقترح شرب نخب نجاح قضية باردل ضد بكوك، فأفرغت النسوة كئوسهن في أجوافهن؛ تعبيرا عن شعورهن، ولم يلبثن أن دخلن في ثرثرة بالغة.
وقالت السيدة باردل: «أظنك قد سمعت بما جرى يا مستر ولر؟»
وأجاب سام قائلا: «سمعت شيئا وغابت عني أشياء.»
ومضت السيدة باردل تقول: «إنه لجد أليم يا مستر ولر أن يجرر الإنسان على هذه الصورة أمام الناس، ولكني أدركت الآن أن هذا هو الشيء الوحيد الذي ينبغي أن أفعله، وقد أنبأني محامياي المستر ددسن والمستر فج أننا حتما سننجح من أقوال الشهود الذين سنطلب سماعهم، ولست أدري يا مستر ولر ماذا أنا فاعلة إذا لم يجر الأمر على هذه الصورة.»
وتأثرت السيدة ساندرز بمجرد تصور خسارة السيدة باردل لقضيتها، إلى حد اضطرها إلى ملء كأسها واجتراعها في الحال، وقالت بعد ذلك: إنها لو لم يسعفها حضور ذهنها فتبادر إلى شرب كأسها لخيل إليها أنها ستسقط مغشيا عليها.
وقال سام: «ومتى ينتظر أن تعرض القضية؟»
وأجابت السيدة باردل: «في شهر فبراير أو مارس.»
وقالت السيدة كلبنز: «ما أكثر عدد الشهود الذين سيحضرون! أليس كذلك؟»
وتبعتها السيدة ساندرز قائلة: «آه! يا لكثرتهم!»
واستتلت الأخرى تقول: «أولن يكون ددسن وفج في هياج وحنق شديد إذا لم تكسب المدعية قضيتها، وهما قد أخذاها جزافا، على المكسب والخسارة؟»
وقالت السيدة ساندرز: «ألا يكونان كذلك حقا؟»
وعادت السيدة كلبنز تقول: «ولكنها ستكسبها حتما.»
وقالت السيدة باردل: «ليت ذلك يحدث!»
وتبعتها السيدة ساندرز قائلة: «لا شك في ذلك.»
وهنا نهض سام ووضع الكأس وهو يقول: «والآن كل ما في إمكاني أن أقوله هو أنني أتمنى لك أن تكسبيها.»
وأجابت السيدة باردل بحرارة: «شكرا لك يا مستر ولر.»
ومضى سام يقول: «وأما عن ددسن وفج اللذين يتناولان القضايا التي من هذا النوع على سبيل الكسب والخسارة، كما يفعل الآخرون، والنوع الآخر من أصحاب المكارم في المهنة ذاتها الذين يمسكون الناس من آذانهم، لوجه الله وبلا مقابل، ويرسلون كتبتهم للبحث عن منازعات صغيرة بين جيرانهم ومعارفهم ممن يريدون فضها من طريق القضايا، فكل ما في إمكاني أن أقول عنهم: إنني أود أن ينالوا الجزاء الذي يستحقونه عندي.»
وقالت السيدة باردل في سرور: «آه! أود أن ينالوا الجزاء الذي يود كل ذي قلب رءوف كريم أن ينالوه.»
وأجاب سام: «آمين! وإن شاء الله! ليتخموا ويشبعوا، ويجمعوا الأموال الطائلة، طاب ليلكن يا سيدات.»
وحمدت السيدة ساندرز الله على أن مضيفتهما أذنت لسام في الانصراف دون أن تدعوه إلى الاشتراك في البطاطس والجبن المحمر، فلم يكد يخرج حتى أقبل ثلاثتهن، وباردل الصغير بكل ما في وسعه من المساعدة التي تتيسر للغلام المنهوم بالطعام، على تأدية ما للبطاطس والجبن من حق عليهم، فلم يلبث هذان الصنفان أن تواريا إزاء جهودهم البالغة.
وانطلق المستر ولر عائدا إلى الفندق فنقل إلى سيده الحديث بأمانة، وكل ما استطاع أن يلتقطه من الكلام في زيارته للسيدة باردل عن أساليب ددسن وفج الخادعة الماكرة في تناول القضايا.
وجاء الحديث الذي دار بين المستر بكوك والمستر بركر المحامي في اليوم التالي فكان أكثر من مؤيد لما قاله المستر ولر ورواه، فبادر المستر بكوك في إعداد العدة لزيارة مزرعة «دنجلي ديل» في عيد الميلاد، مؤملا فرج الله بعد شهرين أو ثلاثة أشهر، حين يحل موعد نظر قضية التعويض المرفوعة عليه بدعوى الإخلال بتعهده بالزواج، وهي القضية التي توافرت فيها للمدعية كل ما يمكن أن يتوافر من المزايا، لا من قوة الظروف ومنطقها فحسب، بل أيضا من أساليب ددسن وفج، ووسائلهما الخادعة الماكرة.
الفصل السابع والعشرون
عن زيارة المستر ولر لامرأة أبيه في دوركنج
وكان قد بقي يومان على الموعد الذي تم الاتفاق عليه بين المستر بكوك وصحبه للرحيل إلى «دنجلي ديل»، فجلس المستر ولر في غرفة خلفية بفندق «جورج والرخم» يفكر بعد تناول عشاء مبكر، في أحسن الوسائل لقضاء الوقت، وكان اليوم صافيا بديعا، فلم تنقض عشر دقائق في تقليب وجوه الرأي في هذا الأمر حتى أحس فجأة حنينا إلى والده، شوقا زائدا إلى لقائه، ورؤية امرأة أبيه، وكان هذا الشعور قويا مباغتا، تركه في دهشة من هذا النسيان الطويل للتفكير في تأدية هذا الواجب المقدس للوالدين، وشعر برغبة شديدة إلى التكفير عن هذا العقوق بغير إبطاء، فنهض لتوه من مجلسه فصعد السلم إلى غرفة المستر بكوك، والتمس الإذن له في الغياب لتحقيق هذه الغاية المحمودة.
وقال المستر بكوك حين عرف مراده، وبرقت عيناه سرورا لهذا الشعور البنوي الكريم الذي تملك خادمه: «بلا شك يا سام، بلا شك.»
وانحنى المستر ولر شاكرا.
وقال المستر بكوك: «إنه ليسرني كل السرور أن يكون لديك هذا الشعور بالواجب نحو أبيك يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «إن هذا الشعور عندي من زمان بعيد يا سيدي.»
وقال المستر بكوك معجبا: «هذا إحساس كريم جدا يا سام.»
وأجاب سام قائلا: «جدا يا سيدي، فكلما أردت شيئا من والدي، طلبته إليه بكل احترام وأدب، فإذا لم يجبني إليه، أخذته منه؛ خوفا من أن أندفع إلى إتيان عمل سيئ؛ لأنني لم آخذه، وبهذه الطريقة يا سيدي وفرت عليه متاعب كثيرة.»
وقال المستر بكوك وهو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة خفيفة: «ليس هذا ما أعنيه تماما يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «هذا شعور كرم كله يا سيدي وحسن قصد، وسلامة نية كما قال أحدهم حين هرب من زوجته: لأنها لم تكن سعيدة في حياتها معه.»
وقال المستر بكوك: «لك أن تذهب.»
وأجاب المستر ولر: «شكرا لك يا سيدي.»
وانحنى أحسن ما استطاع الانحناء، وذهب فارتدى أحسن ما لديه من الثياب، واتخذ مجلسه فوق سطح المركبة الحافلة الشاخصة إلى «دوركنج».
وكانت حانة «مركيز جرانبي» على عهد السيدة ولر - امرأة أبيه - نموذج حانة على جانب الطريق العام من الطراز الممتاز، أوتيت من السعة ما يكفي لراحة الرواد، ومن الضيق بحيث يكفي لأن تبدو دفئة، وقد علقت على العدوة الأخرى من الطريق «لافتة» كبيرة فوق عمود طويل تمثل رأس سيد وكتفيه، وفيها يبدو وجهه مصابا «بالفالج»، ويرتدي سترة حمراء ذات ظهارة زرقاء قاتمة، وقبعة مثلثة الأركان من فوقها فراغ صافي الزرقة يمثل صورة السماء، ومن فوق هذه السماء أيضا علمان، وتحت آخر زرار في السترة مدفعان ... كل ذلك تصوير معبر بلا شك عن شكل مركيز جرانبي الذي خلدت الدنيا ذكره على السنين.
وتبدو في واجهة مكان الشراب مجموعة مختارة من نبات إبرة الراعي وصف نظيف خال من الغبار يتألف من قنينات الكحول، وعلى مصاريع النوافذ نقوش ذهبية مختلفة، تنوه بما يحوي المحل من سرر طيبة، وأشربة وأنبذة نظيفة، وقد جلس نخبة مختارة من القرويين وأصحاب المركبات والخيول حول باب مربط الخيل ومسقى الجياد، فكان مشهدهم على تلك الصورة برهانا ظاهرا على جودة الجعة والأشربة التي تباع في الحانة.
ووقف سام ولر عند نزوله من المركبة؛ ليتأمل كل هذه الأدلة والشواهد على رواج المحل ونجاحه، بعين الجوالة المجرب الذي حنكته كثرة الأسفار.
وما كاد ينتهي من هذه الملاحظات حتى دخل الحانة في الحال، راضيا كل الرضا عما لاحظه، مغتبطا كل الاغتباط بما رآه.
وقالت امرأة ذات صوت صافر في اللحظة التي ظهر رأسه فيها لدى الباب: «ماذا تريد أيها الشاب؟»
نظر سام حوله في ذلك الاتجاه الذي انبعث هذا الصوت منه، فتبين له أنه صادر من سيدة تميل إلى البدانة وتلوح عليها سمات الرفاهة، وهي جالسة بجانب الموقدة في مكان الشراب تنفخ في النار لتغلي الشاي، ولم تكن وحدها؛ فقد جلس على الجانب الآخر من الموقدة رجل مستوي القامة في مقعد مرتفع المسند، يرتدي ثيابا سودا رثة، وظهره يكاد يشبه المقعد في طول ظهره وتخشبه، فلم يكد سام يراه حتى اجتذب أنظاره، وأثار اهتمامه.
وكان الرجل جامد السحنة، أحمر الأنف، طويل الوجه ناحله، وله عينان كأعين الأفاعي، حادتان وإن كانتا قطعا شريرتين، وقد ارتدى سروالا قصيرا وجوربا أسود من القطن، باليين رثين كسائر ثيابه، وكانت نظراته «منشاة»، ولكن قميصه كان يعوزه «النشاء»، فبدت حواشيه الطول تصطرع فوق صداره المزرر في صورة أبعد ما تكون من النظافة، وأخلى ما تكون من الرونق، وقد وضح بجانبه قفازا عتيقا باليا من جلد القندس، وقبعة عريضة الحاشية، ومظلة خضراء ناحلة اللون، لصقت بقاعها كمية غزيرة من عظام الحوت، لتتوازن مع جزئها الأعلى الخالي من المقبض، وهى موضوعة في شكل مستقر يوحى بأن الرجل ذا الأنف الأحمر أيا كان هو لا ينوي الانصراف مسرعا.
ولكي ننصف ذلك الرجل الأحمر الأنف نقول: إنه لو أن نية كهذه قامت في خاطره، لكان أبعد الناس وأخلاهم من الفطانة والحكمة؛ لأن كل الظواهر تدل على أنه إذا توقع بحق أن يجد في مكان آخر راحة أوفر أسبابا مما هو واجد في تلك الحانة فلا بد أن يكون لديه حلقة بديعة من المعارف، وكانت النار تتأجج وتتوهج، من أثر المنفاخ الذي ينفخ به فيها؛ لتزداد اشتعالا، بينما راح الإبريق يغني فرحا من أثرهما معا - النار والمنفاخ - وقد صفت أواني الشاي فوق صينية صغيرة على المائدة وصحفة من الخبز الساخن المدهون بالزبد تنضج بقرب النار، بينما كان الرجل ذو الأنف الأحمر نفسه منهمكا في تحويل قطعة كبيرة من الخبز الطري إلى خبز محمر من النوع ذاته، مستعينا بشوكة تحمير طويلة من النحاس، وبجانبه كأس من الروم الساخن المستخلص من «الأناناس» والممزوج بالماء، وفي جوفه قطعة من الليمون، وكلما تمهل الرجل ذو الأنف الأحمر ليقرب الرغيف المستدير من عينه ليستوثق من نضجه على النار، رشف رشفة أو رشفتين من الروم وابتسم للسيدة البدينة وهى تنفخ في النار.
وكان سام مستغرق الذهن في تأمل هذا المشهد الممتع، فلم يرع للسؤال الأول الذي وجهته إليه السيدة البدينة وتركه يمر بلا جواب، فكررته مرة أخرى وفي كل مرة بصوت أكثر صفيرا، حتى أحس أخيرا أن تصرفه هذا غير لائق، فأجاب قائلا: «هل المعلم هنا؟»
فأجابت السيدة ولر - لأن تلك السيدة البدينة لم تكن سوى أرملة المرحوم المستر كلارك ووريثته الوحيدة التي آلت إليها تركته: «كلا، ليس هنا، ولست انتظر عودته أيضا.»
وقال سام: «أحسبه يسوق المركبة، اليوم.»
وأجابت السيدة ولر: «يجوز، ولا يجوز، من يدري؟!»
وانثنت عنه لتضع الزبد على الرغيف المحمر الذي انتهى الرجل الأحمر الأنف من تحميره، ثم واصلت قولها: «لا أعرف، بل أكثر من ذلك، لا يهمني، قل بسم الله يا مستر ستيجنز!»
واستجاب الرجل الأحمر الأنف لما طلبت وأقبل على الخبز المحمر يلتهمه التهام المفترس.
وكان ظهور هذا الرجل قد حمل سام لأول وهلة على شيء أكثر من مجرد الاشتباه في أنه لا بد من أن يكون نائب «الراعي» الذي حدثه والده المحترم عنه؛ لأنه لم يكد يراه وهو يأكل حتى زال كل شك أو شبهة من نفسه، وبدا له في الحال أنه إذا أراد أن يتخذ له مقاما إلى حين في تلك الحانة، فليثبت قدمه في الموضع بلا إبطاء، وبدأ الإجراءات اللازمة لتحقيق هذه الغاية بإلقاء ذراعه على باب الحانة ففتحه بكل هدوء ودخل بكل رفق غير مكترث ولا حافل.
قال: «يا امرأة أبي، كيف الأحوال؟»
وقالت السيدة ولر وهي ترفع عينيها إلى وجهه، غير مبدية سرورا ظاهرا بمحضره: «أعتقد أنه من آل ولر.»
وقال سام وهو لا يزال متشبثا بهدوئه: «أظن ذلك، وأرجو أن يعذرني هذا السيد المحترم، إنني أتمنى لو أكون ولر الذي يمتلكك يا امرأة أبي!»
وكانت هذه العبارة تحية ذات خزنتين كبعض أنواع البنادق، أو تحمل معنيين، أولهما: أن السيدة ولر امرأة جميلة محببة. والآخر: أن المستر ستيجنز كان عليه مظهر رجال الدين. وقد أحدثت كلمته في الحال أثرا ظاهرا، واستغل سام الفرصة فراح يقبل امرأة أبيه.
ودفعته السيدة ولر عنها وهى تقول: «ابعد عني.»
وقال الرجل ذو الأنف الأحمر: «عيب يا فتى!»
وأجاب سام قائلا: «لا مؤاخذة يا سيدي، لا مؤاخذة، لك حق، ولكن لا ضير ولا بأس، حين تكون زوجات الآباء شابات جميلات الوجوه يا سيدي، أليس كذلك؟»
وقال المستر ستيجنز: «ذلك كله غرور.»
وقالت السيدة ولر وهي تصلح قبعتها: «هو كذلك.»
وكان رأي سام كذلك أيضا ولكنه أمسك عن الكلام.
وبدا على «نائب الراعي» أنه لم يرتح لقدوم سام وعندما هدأت الفورة الأولى التي أحدثتها تلك التحية بدا على السيدة ولر أيضا أنها كانت تتمنى التخلص منه دون أن يؤثر ذلك في نفسها إطلاقا، ولكنه لبث في مكان الشراب لا يبدي رغبة في الانصراف، ولما كان طرده أو صرفه بالإكراه أمرا لا يليق، فلا حيلة إذن في الصبر عليه، وهكذا جلس الثلاثة لتناول الشاي.
وقال سام: «وكيف حال والدي؟»
ورفعت السيدة ولر يديها عند سماع هذا السؤال، وصعدت بصرها تصعيدا كأنها ترى السؤال مؤلما أو لا يسرها فتح الكلام فيه.
وتبرم المستر ستيجنز وزام.
وقال سام: «ما قصة هذا السيد وما سبب تذمره؟»
وأجابت السيدة ولر: «إنه مشمئز من تصرف أبيك وسلوكه.»
وقال سام: «أهو حقا؟»
وقالت السيدة ولر بجد: «وله حق.»
وتناول المستر ستيجنز قطعة أخرى من الخبز المحمر بالزبد وراح يزمجر.
وقالت السيدة ولر: «إنه لمذنب أثيم.»
وصاح المستر ستيجنز: «رجل شر وغضب»، وتناول قضمة كبيرة شبه مستديرة من الخبز وعاد يزفر مرة أخرى.
وأحس سام رغبة قوية تتنازعه في إعطاء المستر ستيجنز شيئا يستحق أن يئن منه ويزفر، ولكنه كبت رغبته، واكتفى بقوله: «وما الذي يفعله والدنا الآن؟ ماذا وراءه؟»
وقالت السيدة ولر: «أتسألني ما الذي يفعله؟ إن له قلبا غليظا قاسيا، إن هذا الرجل البديع - لا تعبس، يا مستر ستيجنز، إني أكرر قولي: إنك رجل بديع - يأتي ليلة بعد ليلة فيجلس هنا ساعات طويلة فلا يحدث ذلك أدنى تأثير فيه.»
وقال سام: «هذا غريب فعلا، لو كنت أنا في مركزه لأحدث ذلك تأثيرا كبيرا في نفسي، أنا عارف هذا.»
وقال المستر ستيجنز بلهجة جد بالغ: «الواقع يا صديقي الشاب أنه قد أوتي قلبا متحجرا، أوه، يا صديقي الشاب، من كان يستطيع أن يقاوم توسلات ست عشرة من إخواننا، ويرفض نداءاتهن إلى وجوب الاكتتاب لجمعيتنا السامية الأهداف حتى يتيسر لها أن تمد أطفال الزنوج في جزر الهند الغربية بالصديريات الصوف ومناديل اليد المرشدة؟
وقال سام: «وما هي المناديل المرشدة؟ لم أر في حياتي شيئا كهذه المناديل التي تتحدث عنها.»
وأجاب المستر ستيجنز: «إنها مناديل تجمع بين المتعة والمنفعة يا صديقي الشاب، كما تقرن القصص المختارة بالصور والرسوم التي تساعد على فهمها.»
وقال سام: «آه، فهمت، كالتي يعلقها بائعو الخردوات على دكاكينهم مع عرائض المتسولين ودعواتهم وما أشبه ذلك.»
وبدأ المستر ستيجنز الرغيف الثالث وهو يهز رأسه هزة الموافقة.
وقال سام: «لا يقتنع بكلام السيدات، أحقا لا يقتنع؟»
وقالت السيدة ولر: «كلا، بل يجلس ويدخن في قصبته ويقول: إن الأطفال الزنوج هم ... ماذا يقول عنهم، هل تذكر؟»
وقال المستر ستيجنز: «نصابون صغار.»
ومضت السيدة ولر تقول: «وهكذا يسميهم.»
وراحت هي والمستر ستيجنز يزفران ويئنان من تصرفاته المتكررة.
وكان من المحتمل أن يسترسلا في سرد مزيد من هذه التصرفات وأشباهها، لولا أن الخبز المحمر كان قد أتى عليه كله ، والشاي أمسى ضعيفا لا يشرب، وسام لا يبدي بوادر توحي بقرب انصرافه، وعندئذ تذكر المستر ستيجنز فجأة أن لديه موعدا عاجلا جدا مع الراعي فغادر المكان على الأثر.
وما كادت أواني الشاي ترفع، والمجلس حول الموقدة ينظف، حتى وقفت المركبة القادمة من لندن ونزل منها المستر ولر أمام الباب، وساقته قدماه إلى مكان الشراب وأرته عيناه ولده.
وصاح الوالد: «من أرى؟ سامي!»
وصاح الولد: «من أشهد؟ والدنا المحترم!»
وتصافحا بحرارة وحماسة.
وقال المستر ولر الكبير: «إن سروري لشديد برؤيتك يا سامي، وإن كانت معرفتك كيف تسلك مع امرأة أبيك سرا لا أعرفه، وكل ما أريده منك أن تكتب لي وصف الطريقة لكي أسير عليها، هذا كل ما أطلبه.»
وقال سام: «صه إنها هنا يا شيخ!»
وأجاب المستر ولر: «إنها ليست قريبة منا حتى تسمع؛ لأن من عادتها أن تذهب إلى الطابق الأسفل فتمكث ساعتين بعد الشاي في لعن وسخط؛ فهي إذن فرصة أمامنا يا سامي لأستمتع فيها بشرب كأسين.»
وراح يمزج قدحين من الشراب بالماء، ويخرج قصبتي تدخين، وجلس الأب والابن على مقعدين متقابلين، واتخذ سام المقعد العالي المسند على جانب الموقدة واقتعد المستر ولر الكرسي الآخر، مستلقيا فيه كابنه، وشرعا يستمتعان بالشراب والتدخين بكل الوقار الواجب لمجلسهما.
وقال الأب لابنه بفتور بعد صمت مستطيل: «هل كان أحد هنا يا سامي؟»
فهز سام رأسه هزة إيجاب.
وعاد المستر ولر يسأل: «الشخص الأحمر الأنف؟»
وهز سام رأسه مرة أخرى.
وشد المستر ولر أنفاسا قوية من القبة وهو يقول: «رجل ظريف، أليس كذلك يا سامي؟»
وقال سام: «يلوح أنه كذلك.»
وقال المستر ولر: «وبارع في الحساب.»
وقال سام: «أهو حقا؟»
وأجاب الوالد قائلا: «يقترض منك ثمانية عشر بنسا يوم الاثنين، ويأتي يوم الثلاثاء يطلب شلنا؛ ليكون مجموع السلفة نصف «كراون»، ثم يزورك يوم الأربعاء طالبا «نصف كراون»، حتى تكون الجملة خمسة شلنات، وهكذا يضاعف الرقم حتى يصل به إلى خمسة جنيهات في وقت قصير، كالأرقام التي في كتاب الحساب عن المسامير التي في حذاء الحصان تماما يا سامي.»
وهز سام رأسه؛ إشارة إلى أنه قد تذكر المسألة الحسابية التي عناها والده.
وعاد سام بعد فترة انشغال بالتدخين مرة أخرى فقال: «أحقا أنك لا تريد أن تكتتب لشراء الصديريات الصوف؟»
وأجاب المستر ولر: «طبعا، ما فائدة الصديريات الصوف لأولئك الصغار في الخارج؟»
وراح يغض من صوته قائلا وهو ينحني إلى الأمام ليسمعه: «هل تريد أن تعرف حقيقة رأيي في هذا الموضوع؟ أنا لا أتردد في التبرع بسخاء لشراء «صديريات» لبعض قومنا هنا في بلادنا.»
وما كاد ينتهي من هذا القول حتى عاد إلى جلسته الأولى، وغمز بعينه إلى ولده البكر غمزة بليغة المدلول.
وقال سام: «الحقيقة أن هذا العمل غريب، إرسال مناديل يد إلى أناس لا يعرفون كيف يستخدمونها، شيء عجيب حقا!»
وأجابه الوالد قائلا: «إنهم لا يكفون أبدا عن هذا الدجل وأشباهه، ففي يوم الأحد الماضي كنت سائرا في الطريق، فمن تتصور أنني شاهدت؟ لا أحد غير امرأة أبيك واقفة بباب كنيسة صغيرة ممسكة بوعاء حساء، أزرق اللون، وأعتقد جازما أن فيه نقودا يبلغ مجموعها جنيهين، وكلها من أنصاف البنسات وكلما خرج الناس من الكنيسة ألقوا بنساتهم فيها موسوسة مجلجلة، حتى ليخيل إليك أن البشر لم يستطيعوا يوما صنع طبق كهذا يقوى على حمل هذه النقود ووسوستها المستمرة، فماذا تظن سر هذه التبرعات، ولمن تحسبها تجمع؟»
وقال سام: «يمكن لإقامة حفلة شاي أخرى كالتي سمعت عنها منك؟!»
وأجاب الوالد: «أبدا، ولكن لدفع حساب المياه المطلوب من الراعي يا سامي.»
وقال سام مبهوتا: «حساب المياه!»
وأجاب المستر ولر: «إي والله، لقد طولب الراعي بحساب ثلاثة شهور لم يوفها، بل لم يوف منها درهما واحدا. وهل مثله يوفي بما عليه؟ أو ربما لأن الماء لا نفع له منه؛ لأنه لا يشرب من الصنبور إلا قليلا يا سامي، إنه يعرف لعبة تساوي ستة أمثال أجرة المياه، ولهذا لم يؤد الثمن وقطع الماء عنه، وذهب الراعي إلى الكنيسة وقال لمريديه: إنه مظلوم مضطهد كما ظلم القديسون من قبله واضطهدوا، وإنه يرجو أن يلين قلب الذي قطع عنه الماء، فيدير المحبس في الاتجاه الآخر فيفتحه، ولكنه يعتقد أن القوم يأتمرون به، ويريدون مضايقته واضطهاده، فلا تلبث النساء أن تنادي بوجوب عقد اجتماع، فيجتمعن ويرتلن التراتيل وينتخبن امرأة أبيك رئيسة، فتتطوع لجمع التبرعات في يوم الأحد التالي، وتسلم النقود كلها للراعي، وإذا لم يحصل منها يا سامي على ما يجعله خالصا من حساب شركة المياه طول العمر، فأنا فاسد وأنت فاسد آخر ... وعلى الدنيا السلام.»
ولبث المستر ولر يدخن بضع دقائق في صمت ثم مضى قائلا: «إن المصيبة أن هؤلاء الرعاة يا ولدي يؤثرون في أدمغة النساء ويتلفون عقولهن، وهن من طيبة قلوبهن يتصورن أنهم على حق ولا يعرفن الحقيقة، إنهن يا صمويل ضحايا الدجل، إي والله ضحايا الدجل.»
وقال سام: «أظنهن كذلك.»
ومضى المستر ولر يقول وهو يهز رأسه بجد: «نعم، ولا شيء سواه، وكل ما يحزنني يا صمويل أن أراهن يضيعن أوقاتهن ومجهودهن في صنع ملابس لأناس من ذوي الألوان النحاسية لا يحتاجون إليها، ولا يأبهن بأبناء المسيحية ومساكينها البيض مثلهن، ولو استطعت يا صمويل أن أفعل ما بدا لي لربطت بعض هؤلاء الرعاة الكسالى خلف مركبة ثقيلة من مركبات النقل وجعلتهم يجرون بها رواحا وغدوا طول اليوم، حتى يخرج هذا الكلام الفارغ من أدمغتهم، لو أن ذلك كان ميسورا.»
وما إن فرغ المستر ولر من شرح هذه الطريقة البديعة بكل قوة وتوكيد، مع ما يناسبها من الإيماءات بالرأس، والغمزات بالعين، حتى ارتشف الكأس مرة واحدة ونفض الرماد من القصبة، بكل رزانة ووقار.
وإذا صوت صافر ينبعث من جانب الردهة.
فقال المستر ولر: «هذا صوت قريبتك العزيزة يا سامي.»
ودخلت السيدة ولر الحجرة مسرعة.
قالت: «لقد عدت إذن.»
قال: «نعم يا عزيزتي.»
وملأ قصبة أخرى.
قالت: «وهل رجع المستر ستيجنز؟»
قال: «كلا يا عزيزتي، لم يرجع.»
ومضى يشعل التبغ بطريقة بارعة، وهي أن يمسك بملقط النار جذوة ويدنيها من القصبة، ويقول: «وأكثر من ذلك يا عزيزتي أنني سأحاول إحياء النار إذا لم يرجع أبدا.»
وقالت السيدة ولر: «وي أيها الخبيث!»
قال: «شكرا يا حبيبتي.»
وقال سام: «كفى، لا ضرورة لهذا الغزل أمام الغرباء، ها هو ذا السيد المحترم قد جاء.»
وهنا أسرعت السيدة ولر فكفكفت الدموع التي كانت قد همت بإذرافها إكراها، وبادر المستر ولر إلى تقريب مقعده من الركن عابسا مقطبا.
ونوشد المستر ستيجنز إلا ما تناول كأسا أخرى من الروم، وما كان بحاجة إلى مناشدة، ثم ثانية، فثالثة، وإنعاش نفسه بعشاء خفيف، قبل المعاودة من جديد.
وكان يجلس على الجانب الذي جلس عنده المستر ولر، فجعل هذا كلما استطاع - في خفية عن امرأته - يبث ولده أشجانه، ويكشف عما يكنه في أعماق صدره، بهز قبضة يده فوق رأس «نائب الراعي»، فكانت هذه الحركة مدعاة فرح بالغ وارتياح متناه لنفس ولده، وبخاصة كلما رأى المستر ستيجنز مستمرا في اجتراع كئوس الروم تباعا، وهو لا يدري مما يدور قريبا منه شيئا.
وكان أكثر الحديث مقصورا على مسز ولر والأب ستيجنز، والموضوعات لا تتعدى في الغالب الإشادة بفضائل الراعي، وصلاح قطيعه، وذنوب الآخرين وآثامهم المنكرة، وهو حديث جعل المستر ولر الكبير بين لحظة وأخرى يقاطعه بكلمات وإشارات خفيفة إلى سيد يدعى «ووكر» وتعليقات أخرى سائرة وتعقيبات عابرة من هذا القبيل.
وأخيرا تناول المستر ستيجنز قبعته، واستأذن، بعد أن ظهرت عليه من الأعراض الواضحة ما يدل على أنه قد تناول كل ما في إمكان بطنه أن يتناول من الروم الممزوج بالماء ولم يلبث المستر ولر أن مشى بولده إلى فراشه؛ ليريه موضعه، وراح الأب الفاضل يهز يده بحماسة بالغة وقد بدا عليه الانبعاث إلى توجيه بعض الملاحظات إليه، ولكنه رأى مسز ولر تتقدم نحوه فعدل عن نيته واكتفى بأن حياه في اقتضاب تحية المساء.
وبكر سام في النهوض من فراشه صباح اليوم التالي فتناول فطورا عاجلا واستعد للعودة إلى لندن، وما كادت قدمه تحمله خارج البيت، حتى وجد أباه واقفا حياله.
وقال المستر ولر: «أذاهب أنت يا سامي؟»
وأجاب قائلا: «في الحال.»
قال: «لوددت لو أنك كممت هذا «الاستيجنز» وأخذته معك.»
وقال سام معاتبا: «إنني مستنكر تصرفك، لماذا تسمح له أن يدخل بأنفه الأحمر في حانة مركيز جرانبي؟»
وأطال المستر ولر النظر إلى ولده ثم أجاب قائلا: «لأنني رجل متزوج يا صمويل؛ لأنني رجل متزوج، ويوم تصبح كذلك يا صمويل ستفهم أشياء كثيرة لا تفهمها الآن. ولكن البحث في مدى الفائدة من معاناة الكثير لمجرد فهم القليل - كما قال الصبي الذي تصدقوا عليه بالتعليم، عندما وصل إلى نهاية ألف باء - مسألة تختلف فيها الأذواق، وإن كان رأيي أنا أنها لا تستأهل كل ذلك العناء.»
وقال سام: «حسن، وداعا.»
وأجاب المستر ولر: «أهكذا يا سامي؟»
ووقف سام عن المسير قائلا: «ليس عندي ما أقوله إلا هذا: لو كنت أنا صاحب حانة مركيز جرانبي وجاء ستيجنز هذا فحمر خبزا في محل البار الذي أملكه ل ...»
وقاطعه المستر ولر بلهفة بالغة: «ل ... ماذا؟»
قال: «لوضعت له السم في الروم والماء.»
وهز المستر ولر يد ابنه بحرارة وهو يقول: «كلا، أحقا تفعل يا صمويل؟ أحقا؟»
وقال سام: «نعم، وإن كنت في أول الأمر لا أشتد في القسوة عليه، بل أكتفي عندئذ بإسقاطه في حوض الماء ووضع الغطاء عليه، فإذا رأيت أنه لا يقدر معنى الكرم والعطف والبر به، جربت الطريقة الأخرى التي قلت لك عنها.»
وعندئذ ألقى المستر ولر الكبير نظرة إعجاب بالغ لا تعبر الألفاظ عنه، على ولده، وعاد يتناول يده، وينصرف في بطء، مقلبا في خاطره عديد الأفكار التي أثارتها نصيحة ابنه في نفسه.
وأرسل سام نظرة في أثر أبيه، حتى رآه ينعطف نحو ركن في الطريق، فانطلق في سبيله، وجعل يفكر أولا فيما قد تؤدي إليه نصيحته لأبيه من العواقب، ومبلغ رجحان الأخذ بها، أو بعد احتماله، ولكنه ما لبث أن طرد هذا الموضوع من خاطره متعزيا بفكرة واحدة، وهي أن الزمن وحده هو الذي سيرينا ما سوف يحدث، وتلك هي الفكرة التي نلح على القارئ في قبولها.
الفصل الثامن والعشرون
فصل فكه عن عيد الميلاد، يصف حفلة عرس، وبعض ضروب أخرى من اللهو، لا تقل من حيث العادات الحسنة والتقاليد الطيبة عن الزواج روعة وشأنا، ولكنها لم تعد مرعية من الناحية الدينية في هذا الزمن الذي تدهورت فيه الأخلاق. ***
في مثل نشاط النحل، إن لم نقل في مثل خفة الجنيات، اجتمع البكوكيون الأربعة، في صبيحة الثاني والعشرين من شهر ديسمبر من العام الذي حدثت فيه هذه الرحلات، التي دوناها بأمانة في هذا الكتاب، وكان عيد الميلاد على الأبواب، بكل ما يحويه من خدع كواذب، وطهارة قلوب، موسم الكرم والجود، وأمام المرح، وتفتح الأفئدة، والعام القديم يستعد فيه كدأب الفلاسفة والحكماء الأقدمين، لدعوة أصحابه إلى الجلوس من حوله، لكي ينطلق في رفق منصرفا، وليرحل في هدوء، وسط القصف، وضوضاء العيد.
كان الموسم موسم فرح ومرح، وكانت أربعة قلوب من عديد القلوب التي فرحت بمقدمه على الأقل فرحة مرحة كذلك، وفي الحق كم من أفئدة يسوق عيد الميلاد إليها فترة قصيرة من السعادة، ويجلب إليها شيئا عابرا من المتاع، وكم من عشائر تفرق أهلها أيدي سبا، وتشتت أفرادها في كل مكان، في سبيل الصراع على الحياة، ومعركة العيش التي لا تخمد، عادت فالتأم شملها، وضفت عليها متعة الرفقة، وتبادل الأماني، وهي مصدر فرح صادق نقي لا تشوبه شائبة، حتى ليعدها الإيمان بالأديان في أكثر العالم حضارة، وأشد أصقاعها همجية، سواء بسواء، من بين بواكير النعماء التي سيجنيها البشر في الحياة الأخرى التي أعدت للسعداء والفائزين، وكم من ذكريات هاجعات، وأحاسيس هادئة ساكنة، يأتي عيد الميلاد فيثيرها من مراقدها، ويوقظها من السبات.
وإنا نكتب هذه السطور الآن، ونحن على عدة الأميال من البقعة التي تلاقينا فيها، عاما بعد عام، في هذا اليوم بالذات، وانتظمتنا فيه حلقة من المفاريح والسعداء، وكم من قلوب كانت تخفق يومئذ فرحا وابتهاجا، كفت عن الخفقان، وكم من النظرات التي كانت تلتمع قد ذهب ضياؤها، وكم من الأيدي التي تناولناها في أكفنا ارتدت اليوم باردة هامدة، وكم من الأعين التي كنا نتلمس التطلع إليها، توارى ضياؤها البراق في ظلمة القبور، ولكن لا يزال البيت العتيق، والحجرة القديمة، والأصوات المرحة، والوجوه البسامة، والأمازيج والضحكات، وأتفه النوادر، وأدق الظروف المتصلة بتلك اللقاءات الهنية، تزدحم على أخلادنا، كلما دار العام دورته، كأن آخر اجتماع لنا لم يكن إلا أمس الدابر! أيها العيد السعيد، الذي يستطيع وحده أن يردنا إلى أوهام طفولتنا الأولى، ويعيد إلى خاطر الشيخ لذات شبابه، ويحمل الملاح والمسافر معا، وهما على آلاف الأميال، إلى موقدة داره، وجو بيته الساكن الساجي.
ولكنا قد استفضنا في حديث عيد الميلاد المقدس، وانشغلنا بتعداد مزاياه الحسان، حتى تركنا المستر بكوك وصحابه منتظرين في العراء البارد خارج المركبة الشاخصة إلى «ماجلتون»، التي وصلوا إليها منذ هنيهة مشتملين بمعاطفهم ولفاعاتهم، بينما حملت الحقائب والجعب القطنية في خزانة المركبة، وراح المستر ولر والحارس يحاولان أن يدخلا في الخزانة الأمامية سمكة ضخمة من نوع «الحوت» لا تتسع الخزانة لمثلها، وهى راقدة في «سفط» أسمر مستطيل، من فوقها طبقة من القش، وقد ظلت متروكة إلى النهاية، حتى يتيسر إرقادها في أمان فوق ستة دنان من الأصداف الحية، جاء بها المستر بكوك نفسه، وصفت بنظام في قاع الخزانة، وكان الاهتمام البادي على وجهه شديدا وهو يرقب المستر ولر والحارس حين مضيا يحاولان حشر تلك السمكة الضخمة فيها، مدخلين رأسها أولا، ثم ذيلها أولا، ثم جزأها الأعلى إلى أعلى، ثم ظهرها إلى أعلى، ثم على جنبها وبعد ذلك بطولها، وهي مع كل هذه المحاولات تتأبى على الدخول، حتى لقد ضربها الحارس عرضا في وسط السلة فإذا هي تتوارى فجأة في جوف الخزانة، وإذا رأس الحارس نفسه وكتفاه تختفي معها؛ لأنه لم يحسب حسابا لكفها الفجائي عن المقاومة السلبية، فتولته دهشة بالغة لم تكن في حسبانه؛ مما جعل جميع الحمالين والنظارة يضحكون ولا يستطيعون كتمان ضحكاتهم لهذا المشهد الفكه، كما ابتسم المستر بكوك مسرورا وأطلع شلنا من جيب صداره، راجيا إلى الحارس - وهو يخرج نفسه من جوف الخزانة - أن يشرب به في صحته كأسا من البراندي والماء، فابتسم الحارس أيضا وتبعه السادة سنودجراس وونكل وطبمن فضحكوا معا مبتهجين، واختفى الحارس والمستر ولر خمس دقائق، وأغلب الظن أنهما ذهبا ليتناولا البراندي والماء؛ لأن رائحتهما كانت تعبق بالخمير حين عادا إلى الظهور. وعندئذ يصعد السائق إلى مكانه في المركبة ويثب المستر ولر من خلفه، ويلف البكوكيون بمعاطفهم سوقهم، ولفاعاتهم حول أنوفهم، ويتقدم أعوان السائس فينزعون الأغطية من فوق ظهور الخيل، ويصيح السائق صيحة الفرح: «كل شيء على ما يرام» وينطلق السفر ذاهبين.
وتجري بهم المركبة رجراجة خلال الشوارع، وتتخطى في طريقها الأحجار، حتى تخرج أخيرا إلى الأرض الفضاء، والريف المترامي في كل ناحية، والعجلات مارقات فوق أديم الأرض الصلبة المغطاة بالجليد، والخيل مندفعة إلى السير خببا على تلويح السوط في يد السائق وقعقعته في الهواء، كأن الحمل الذي تحمله المركبة والركب والحوت ودنان الأصداف الحية وكل شيء آخر لم يكن سوى ريشة في أعقابها، ومضت تهبط منحدرا رفيقا إلى مستوى من الأرض صلب الأديم كأنه كتلة واحدة من الرخام امتدت ميلين طولا، ثم قعقعة أخرى من السوط، فإذا هي مسرعة، مغذية المسير، متوثبة، مطوحة برءوسها، محدثة وسوسة وأصواتا مختلفة بسروجها وأعنتها ولجمها، كأنها جميعا من فرح مسرعة المسير، بينما أمسك السائق السوط والأعنة بإحدى يديه، وخلع بالأخرى قبعته فألقاها فوق ركبتيه، ونزع منديله من جيبه، ومسح به جبهته؛ وذلك لأنه اعتاد أن يفعل ذلك، ولأنه رأى من المناسب أن يري الركاب أيضا مبلغ هدوئه، ويبين لهم أنه من السهل أن يسوق المرء وهذه الأربعة كلها في يديه، إذا توافر له من الخبرة مثل ما توافر له، وبعد أن فرغ من ذلك جميعا في يسر ظاهر، وإلا أضاع التأثير الذي كان يتوخاه منه، راح يرد المنديل إلى جيبه، ويعيد القبعة إلى رأسه، ويصلح من قفازه، ويسوي بين مرفقيه، ويلوح بالسوط في الهواء مرة أخرى، فتنطلق الخيل عاديات وهي أشد فرحا مما كانت وأكثر ابتهاجا.
ولاحت للأعين بضع دور صغيرة متناثرة على جانبي الطريق ، موحية بأن المركبة موشكة على دخول بلدة أو قرية، وإذا نغمات بوق «الحارس» تموج وتسري في أطباق الفضاء الصافي الشديد البرد، فتوقظ الشيخ القائم في داخل المركبة فينزل مصراع النافذة الخشبي بعناية إلى نصفه، ويطل منه ليتبين معالم الطريق، ثم ينثني فيرفعه بالعناية ذاتها، ويبلغ الآخر الذي في جوف المركبة أنهم لن يلبثوا أن يغيروا الخيل في المحطة القادمة، فيستيقظ زميله هذا، ويعتزم تأجيل إغفاءته إلى ما بعد الوقوف، وعندئذ ترتفع نغمات البوق في الفضاء فتصحو عليها زوجة صاحب الكوخ وأطفالها، فيطلون من باب الدار، ويظلون يرقبون المركبة حتى تنعطف على ركن من الطريق، فيعودون إلى الجلوس القرفصاء حول النار المشبوبة في البيت، ويلقون إليها حطبا آخر ليجد رب الأسرة الدفء موفورا حين يعود، بينما كان هو على مبعدة ميل كامل منهم قد تبادل هزة من رأسه مع السائق، في تحية ودية، ووقف يتأمل المركبة وهي مبتعدة مسرعة.
ولا يزال البوق يرسل أنغامه في الفضاء والمركبة منطلقة في جلجلتها فوق الطريق غير المعبد خلال دروب البلدة الصغيرة التي دخلتها، والسائق قد فك الحزام الذي يمسك وشاحه؛ استعدادا لإلقائه عنه في اللحظة التي تقف فيها المركبة.
وعندئذ يخرج المستر بكوك رأسه من رقبة معطفه ويدير عينه فيما حوله بدهشة بالغة، وفضول شديد، ويلمح السائق ذلك منه فينبئه باسم البلدة، ويقول: إن يوم سوقها كان بالأمس. فينقل المستر بكوك هذه المعلومات إلى أصحابه، فيخرجون من رقاب معاطفهم كذلك ويتلفتون حولهم، ويكاد المستر ونكل الجالس على الحافة تاركا إحدى ساقيه متدلية في الفضاء يسقط إلى الطريق، حين أخذت المركبة تنعرج بهم في زاوية حادة بقرب حانوت بائع الجبن، ثم تعطف على السوق، وتقف في فناء الفندق فجأة قبل أن يفيق المستر سنودجراس الجالس لصقه من فزعه، وكانت الخيل الأخرى وعليها الأغطية واقفة ترتقب المركبة، فلا يني السائق في إلقاء الأعنة من يده والنزول منها، ويتبعه الركاب الجلوس في خارجها فينزلون هم كذلك، فلا يبقى غير الذين لا يطمئنون كثيرا إلى مقدرتهم على الصعود مرة أخرى، ويؤثرون البقاء حيث هم، ويدقون المركبة بأرجلهم لتدفئتها رانين بأعين متلهفة وأنوف محمرة إلى النار المشبوبة في مكان الشراب بالفندق، وأغصان شجرة عيد الميلاد، والتوت الأحمر الذي ازدانت الشرفة به.
وكان الحارس قد سلم إلى حانوت تاجر الغلال الحزمة الملففة في الورق الأسمر التي أخرجها من المحفظة الصغيرة المعلقة فوق كتفه بسير من الجلد، وأشرف على شد الخيل إلى المركبة، وألقى على الإفريز السرج الذي أحضر من لندن فوق سطح المركبة. واشترك في المؤتمر الذي عقده السائق والسائس للحديث عن الفرس السوداء التي جرحت ساقها الأمامية اليمنى في يوم الثلاثاء الماضي. واستقر الحارس والمستر ولر خلف المركبة واستوى السائق في مجلسه أمامها، وعاد الحارس الموكل بداخلها يرفع النافذة بعد أن كان قد أنزلها قليلا خلال فترة الراحة، ونزع السائس الأغطية عن ظهور الخيل، واستعد الجميع للمسير، إلا «السيدين البدينين» اللذين مضى السائق يسأل عنهما وهو قلق نافذ الصبر، وإذا هو والحارس وسام ولر، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس، والسواس جميعا، وكل فرد من المتسكعين في الموضع والمتبطلين، وهم أكثر من الآخرين مجتمعين عددا، إذا بهم جميعا يتصايحون بأعلى الأصوات؛ بحثا عن السيدين الغائبين، وإذا صوت من بعيد ينبعث من جانب أنامل المستر بكوك قد جمدت من البرد حتى إنه ظل خمس دقائق يحاول إخراج ستة بنسات؛ ليدفع ثمن شرابهما.
وعندئذ صاح السائق منبها: «والآن أيها السادة»، ورددها الحارس، وكان من رأي الشيخ الذي يتولى الحراسة في الداخل أنه من الشذوذ الصارخ أن ينزل الناس من المركبة وهم يعرفون أن الوقت ضيق لا يتسع للنزول والصعود، ويحاول المستر بكوك التسلق من جانب، والمستر طبمن من الآخر، ويصيح المستر ونكل: «كل شيء على ما يرام.» فتنطلق المركبة، وترفع اللفاعات، وتعاد أطواق المعاطف إلى مواضعها من الأعناق، وتنقطع أصوات العجلات على الأفاريز الحجرية وتتوارى الأكواخ والدور، وتعود المركبة مارقة في طريق مكشوف، وهبات الهواء الصافي النقي تهب على الوجوه، وتدخل الفرح على النفوس، وتشيع الغبطة في الجوانح والأفئدة.
كذلك كان سفر المستر بكوك وأصحابه في المركبة إلى «دنجلي ديل»، وما إن بلغت الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم، حتى كانوا جميعا وقوفا على سلم فندق «الأسد الأزرق»، فرحين سالمين، آمنين معافين؛ فقد تناولوا على الطريق قدرا من الجعة والبراندي يكفي ليتحدوا به الصقيع الذي قيد الأرض بأصفاد من حديد، وراح يضفي نسيجه البديع على الشجر، ويلقي شباكه البيضاء على الأسوار المقامة من العوسج، وكان المستر بكوك منهمكا عندئذ في عد دنان أصداف البحر الحية، والإشراف على إخراج الحوت، وإذا هو يشعر بيد تجتذب في رفق حاشية معطفه، فاستدار ليرى من هذا الذي لجأ إلى هذه الطريقة في استرعاء أنظاره، فإذا هو يتبين أنه لم يكن سوى الوصيف الأثير عند المستر واردل الذي عرفه قراء هذه القصة الخلية من التزويق باسم اشتهر به وامتاز، وهو «الغلام البدين».
فصاح المستر بكوك: «آها.»
وقال الغلام البدين: «أها!»
وانثنى يرمق بنظره الحوت، وأصداف البحر الحية، ضاحكا من فرح واغتباط، وقد بدا أسمن وأكثر بدانة من قبل.
وقال المستر بكوك: «حسن! إنك لتبدو متوردا يا صديقي الصغير.»
وأجاب الغلام البدين قائلا: «لقد كنت نائما أمام النار المشبوبة في غرفة الخدم هنا.»
وكان قد استدفأ بحرها حتى استحال لونه إلى لون قمة مدخنة جديدة.
ومضى يقول: «لقد أوفدني سيدي مع عربة النقل لحمل أمتعتكم إلى البيت، وكان يريد أن يرسل بعض الخيل المسرجة، ولكنه اعتقد أنكم ستؤثرون المشي على الأقدام؛ لأن اليوم شديد القر.»
ليلة عيد الميلاد في منزل مستر واردل.
وقال المستر بكوك في عجلة: «أي نعم، أي نعم.» فقد تذكر كيف قطعوا المسافة ذاتها سيرا على الأقدام في مناسبة سابقة، «نعم، إننا لنفضل المشي يا سام.»
وقال المستر ولر: «نعم!»
قال: «أعن خادم المستر واردل على نقل الأمتعة إلى العربة واركب معه؛ لأننا سنذهب مشاة في الحال.»
وبعد أن فرغ المستر بكوك من هذه التوجيهات ودفع حساب السائق، انطلق مع صحابه الثلاثة في الدرب المعد لسير المشاة وسط الحقول، وهم خفاف سراع، تاركين المستر ولر يواجه الغلام البدين لأول مرة، فلا عجب إذا انثنى سام ينظر إلى الغلام في دهشة بالغة دون أن يقول كلمة واحدة، وأخذ يربط الأمتعة في سرعة فوق العجلة، بينما وقف الغلام البدين في ناحية هادئا وكأنما يحسب منظر المستر ولر وهو يشتغل بمفرده مشهدا يسر الخاطر كل السرور.
وألقى سام الحقيبة القطنية الأخيرة فوق العربة قائلا: «ها نحن أولاء قد انتهينا، كل الأمتعة قد شحنت على العربة.»
وقال الغلام البدين بارتياح بالغ: «نعم، كلها.»
وقال سام: «والآن أيها الفتى ذو العشرين ستونا،
1
إنك لنموذج بديع للغلمان رابحي الجوائز.»
2
وأجاب الغلام البدين: «شكرا.»
وسأله سام قائلا: «أليس في ذهنك شيء يشغل بالك، ويضني خاطرك يا أخي؟»
قال: «لا أدري.»
ومضى سام يقول: «لقد كنت عند النظر إليك أتصور أنك تعاني تباريح حب موفق لبعض النساء أو الفتيات.»
وهز الغلام البدين رأسه.
وقال سام: «حسن، إني لمسرور أن أسمع ذلك، ألا تشرب شيئا؟»
وأجاب الغلام: «بل أحب الأكل أكثر.»
وصاح سام قائلا: «آه، لقد كان أولى بي أن أظن ذلك، ولكن ما أقصده هو هل تحب أن تتناول قطرة من شراب تدفئك؟ ولكني أظنك لا تشعر يوما ببرد بهذا النسيج اللدن الذي عليك
3
هل تشعر ببرد أحيانا؟»
وأجاب الغلام: «أحيانا، وعندئذ أحب أن أشرب قليلا، إذا كان الصنف جيدا.»
وقال سام: «آه، تشرب! قل لي هكذا، تعال معي إذن، من هنا.»
ولم يلبثنا أن وصلا إلى غرفة الشراب المخصصة بالخدم في فندق «الأسد الأزرق» وابتلع الغلام البدين كأسا من الخمر مرة واحدة، ولم تطرف عيناه، وهى حركة رفعت مركزه كثيرا في تقدير المستر ولر وحسن ظنه، ولم يكد هذا يفرغ من شرب كأس مماثلة، حتى نهضا وركبا العربة، وقال الغلام البدين: «هل تعرف كيف تسوق؟»
وأجاب سام: «أظن ذلك.»
ووضع الغلام البدين العنان في يده وقال: «هاك إذن.» وأشار إلى درب هناك قائلا: إنه طريق مستقيم تسير فيه ولا تخطئ.
ومضى الغلام البدين يجلس بجانب السمكة الضخمة متوددا متلطفا، ووضع دنا من دنان الأصداف الحية تحت رأسه كما يضع الوسادة، ولم يلبث إلا لحظة حتى استولى النعاس عليه، وقال سام: «والله إني لم أر في الغلمان الهادئين الفاترين الذين وقعت عيني عليهم في حياتي مثل هذا الغلام فتورا وبرودا. هذا، اصح، أفق يا ذا البطن الرحيب!»
ولكن لم تبد على ذي البطن الرحيب أية أعراض توحي بأنه سيفيق من النوم، وجلس سام ولر في مقدمة العربة، وأهاب بالحصان العجوز بهزة من السرج فانطلق بهما صوب «ضيعة مانور».
وكان المستر بكوك وأصحابه في الوقت ذاته قد استطاعوا بالمشي تجديد دورتهم الدموية وتنشيطها وهم ماضون في طريقهم خفافا فرحين، وكانت الدروب وعرة، والحشائش هشة يعلوها الصقيع، وللهواء برودة جميلة جافة منعشة، وجعلتهم سرعة اقتراب الشفق الأشهب، أو الأردوازي اللون - فذلك وصف أفضل وأدق للشفق في الجو الصقيع - يتطلعون مشرقين متلهفين على المناعم التي تنتظرهم في دار مضيفهم الجواد الكريم، وكان ذلك الأصيل أدعى ما يكون إلى إثارة الرغبة في نفسي رجلين مكتهلين، في ساحة منعزلة، أو ميدان مهجور، إلى خلع معطفيهما؛ ليلهوا بلعبة «قفزة الضفادع» في انشراح الصدر، ومرح صادق، حتى لنعتقد جازمين أنه لو كان المستر طبمن عرض في تلك اللحظة على صديقه أن يكون «ظهرا» ليقفز المستر بكوك من فوقه، لقبل هذا الاقتراح بمنتهى الارتياح والسرور.
ولكن المستر طبمن لم يتطوع، ولم يعرض، فانطلق الصحاب في طريقهم يتحدثون حديثا فكها مرحا، وما إن عطفوا على زقاق كان لا بد لهم من اجتيازه، حتى ترامت إلى آذانهم أصوات كثيرة، وقبل أن يتسع الوقت للحدس ومن عسى أن يكون أصحابها، وجدوا أنفسهم في وسط الجمع الذين كانوا يرتقبون وصولهم، وكان أول ما بدا لهم من تلك الأصوات صيحة مدوية من شفتي المستر واردل، حين بدوا للأبصار، من مكان قريب، وكانت تلك الصيحة «مرحبا».
وكان أول من رأوه واردل نفسه، وقد بدا أكثر مرحا من قبل، إن أمكن يكون في طبيعته المرحة مزيد. ثم رأوا بعدئذ بللا وصاحبها الوفي الأمين «تراندل»، وأخيرا لمحوا «إميلي» وثماني شابات أو عشرا، جئن جميعا لحضور الزفاف في اليوم التالي، وقد بدون سعيدات متدللات كما تبدو الفتيات عادة في هذه المناسبات المشهودة، وهن جميعا يملأن آفاق الحقول والدروب القريبة والبعيدة، بضوضاء ألعابهن ومراتعهن وضحكاتهن.
ولم تلبث مراسيم التعارف في أمثال هذه الظروف ونحوها أن تمت، أو بعبارة أصح، لم يلبث التعارف أن تم بغير مراسيم ولا كلفة إطلاقا، فلم تنقض دقيقتان حتى كان المستر بكوك يمزح مع الفتيات اللاتي أبين أن يتخطين الحاجز الخشبي، وهو إليهن ناظر، وآثرن لجمال أقدامهن وكعوبهن الوقوف عدة دقائق لا يبغين تحركا من مواقفهن، بل ذهب يداعبهن بكل بساطة وبلا أدنى تحفظ أو احتياط، كأنه يعرفهن طول العمر. ومما يجدر بنا ذكره أيضا أن المستر سنودجراس راح يعرض على إميلي من المساعدة على تخطي ذلك الحاجز أكثر مما يحتاج الأمر إليه، أو يقتضيه الخوف المطلق منه، وإن كان ثلاث أقدام ارتفاعا، ولم يكن هناك غير حجرين اثنين للوقوف فوقهما، والوثوب منهما لتخطيه، بينما جعلت فتاة سوداء العينين في حذاء صغير جميل ذي فروة فوق مقدمه، ترسل صرخات مدوية، حتى تقدم المستر ونكل ليساعدها على الوثوب.
كان ذلك كله بهيجا، يدخل السرور على النفوس، وحين تم التغلب على الصعاب في سبيل تخطي ذلك الحاجز، ووجد القوم أنفسهم في الأرض الفضاء، والحقول المترامية، أنشأ الشيخ واردل ينبئ المستر بكوك أنهم كانوا قد جاءوا بجمعهم لمعاينة الرياش والجهاز الذي أعد للبيت الذي سيقيم فيه العروسان، بعد عطلة الميلاد، وعندئذ علت حمرة الخجل وجهي «بللا» و«تراندل»، واحمرت خدودهما احمرار وجه الغلام البدين عقب جلسته قبالة الموقدة في غرقة الخدم، وهمست الفتاة ذات العينين السوداوين والحذاء المكسو بالفراء بكلام في أذن «إميلي» ثم نظرت بمكر إلى المستر سنودجراس، فأجابتها إميلي أنها فتاة حمقاء، وإن كانت قد توردت حياء، واصطبغ خدها بلون الأرجوان، كما شعر المستر سنودجراس - وهو شديد الحياء ككل العباقرة عادة - بحمرة الخجل تتصاعد إلى وجهه، وتبلغ قمة رأسه، وود من صميم قلبه لو أن هذه الفتاة ذات العينين السوداوين والحذاء الصغير المكسو بالفرو، لزمت دارها في الريف القريب، ولم تكن حاضرة معهم.
ولكن إذا كان القوم قد بدوا على تلك الصورة من الألفة والهناءة والمرح، فماذا عسى أن يكون مدى المودة والترحاب والإيناس الذي سيستقبلون به عند وصولهم إلى الضيعة؟
لقد راح الخدم أنفسهم يبتسمون سرورا لمشهد المستر بكوك عند وصوله، بل إن «إما» نفسها انثنت تخلع على المستر طبمن نظرة جمعت بين الحشمة والجرأة، وتوافرت فيها كل الملاحة، حتى لتكفي لأن تجعل تمثال بونابرت القائم في الردهة، ينشر ذراعيه، ويطويهما عليها محتضنا معانقا.
وكانت السيدة العجوز جالسة في أبهتها المألوفة في القاعة الأمامية وإن بدت غضبى؛ ومن ثم أشد ما تكون صمما، ولم تكن من عادتها يوما أن تخرج، وكانت ككثير من مثيلاتها من السيدات العجائز اللاتي من طرازها، ترى أن من الإجرام واقتراف «الخيانة العظمى» في البيت، أن يتقدم أحد من أفراده فيفعل شيئا لا تستطيع هي أن تفعله، فلا عجب إذا هي جلست في مقعدها الرحيب تنظر عابسة متجهمة ما استطاعت، وإن كان ذلك كله منها على كل حال تكرما وبرا وتعطفا.
وقال واردل لأمه: «أماه، المستر بكوك، ألا تتذكرينه؟»
وأجابت العجوز في وقار بالغ: «لا بأس، فلا تزعج المستر بكوك بشأن مخلوقة عجوز مثلي، فلم يعد أحد يعنى بي الآن، وهو شيء طبيعي.»
وطوحت السيدة العجوز برأسها ومرت بيديها الراعشتين على ثوبها الحريري الأزرق الفاتح؛ لتصلح من ثناياه.
وقال المستر بكوك: «لا تقولي هذا يا سيدتي، فلن أدعك تواصلين جفوة صديق قديم بهذا الشكل؛ فقد جئت خصيصا لأستمتع بحديث طويل معك، ولعب دور ورق، لكي نري هؤلاء الأولاد والبنات كيف يكون الرقص على أنغام الموسيقى قبل أن تنقضي ثمان وأربعون ساعة أخرى من أعمارهم.»
وبدا على السيدة العجوز أنها بدأت وشيكا ترضى، ولكنها لم تشأ أن تظهر ذلك مرة واحدة، فانثنت تقول: «آه، لا أستطيع سماع ما يقول.»
وقال واردل: «هراء يا أم، دعي الغضب جانبا، وأشرقي بوجهك علينا، تذكري زفاف بللا، أدخلي السرور على نفسها، أفرحي البنت المسكينة.»
وسمعت السيدة العجوز هذا كله؛ لأن شفتيها ارتجفتا حين قال ابنها ما قاله، ولكن للكبر ضيق أخلاقه، وللشيخوخة مساوئها، ولم تكن قد ثابت بعد إلى نفسها، فعادت تصلح من ثنايا ثوبها الأزرق وتلتفت إلى المستر بكوك قائلة: «آه، يا مستر بكوك، لقد كان الناس في زمانك مختلفين كل الاختلاف عن أهل هذا الزمان عندما كنت فتاة صغيرة.»
وقال المستر بكوك: «لا شك في هذا يا سيدتي بل هذا هو السبب الذي ترينني من أجله أوثر كثيرا البقية الباقية من السلف الصالح.»
وراح يجذب بللا إليه برفق ويقبل جبينها ويأمرها بالجلوس فوق المسند الصغير الموضوع عند قدمي السيدة العجوز، وسواء كان التعبير الذي بدا على وجه الفتاة «وهي ترفع بصرها إلى وجه جدتها، قد أثار في نفسها ذكريات تلك الأيام الخالية، أو كانت طيبة قلب المستر بكوك ولطفه قد أحدثا أثرهما في نفسها، أو مهما يكن من الأمر؛ فإن السيدة العجوز لم تلبث أن هدأت وذاب غضبها، فأهوت على عنق حفيدتها معانقة، ولم يلبث ذلك العبوس أن تبخر، وترك فيضا يتدفق من دموع صامتة.
وكان القوم في تلك الليلة حلقة من المفاريح، وندوة مرح، وكانت عشرات الأدوار التي لعبها المستر بكوك والسيدة العجوز بالورق، يسودها الهدوء، وتغمرها السكينة، وكان المرح حول المنضدة المستديرة صاخبا يملأ الأفق ضحكا وجلبة، وطاف السقاة - بعد انصراف السيدات بوقت طويل - بأكواب النبيذ الساخن المعتق، المشعشع بالبراندي والبهار، مرة، فأخرى، فثلاثا، وكان النوم بعد السهرة القاصفة عميقا، وما كان أحلى الأحلام التي طافت بالعقول بعدئذ. إن أحلام المستر سنودجراس ظلت حائمة حول إميلي واردل، وإن المائل في أحلام المستر ونكل كان يبدو في صورة فتاة ذات عينين سوداوين، وابتسامة ماكرة فاتنة، وحذاء بديع يكسو الفراء جزأه الأعلى.
واستيقظ المستر بكوك في بكرة الصبح على طنين من الأصوات، ووقع أقدام تكفي لإيقاظ الغلام البدين نفسه من سباته العميق، فاستوى جالسا في فراشه وأصغى إلى هذه الضوضاء، فبدا له أن الخادمات والسيدات اللاتي ينزلن في ضيافة البيت جعلن يعدون رائحات غاديات، في عجلة ظاهرة، وتعالت الأصوات طالبة ماء ساخنا، وتكررت الصيحات في طلب إبر وخيط، وتوسلات كثيرة يحاول صاحبها كبتها وهو ينادي: «أواه! هلموا إلي لتشدوا أربطتي، ناشدتكم الله»، حتى لقد بدأ المستر بكوك في سلامة نيته، وطيب سريرته، يتصور أنه لا بد من أن حادثا مروعا قد وقع، فأخذ يفيق من النوم ويتذكر حفلة الزفاف، ولم يسعه عند تذكر هذه المناسبة الكبيرة الشأن إلا أن يتجمل بأحسن ثيابه، ويعنى ببزته، ينزل إلى قاع الإفطار.
ووجد الخادمات جميعا في ثياب قشيبة، وجلابيب من الحرير القرنفلي اللون، وأقواس وعقد بيضاء اللون، تزدان بها قبعاتهن، وهن يجلن في أنحاء البيت في حال من الاضطراب والهياج تعز على الوصف، وكانت السيدة العجوز في ثوب مزركش لم يشهد النور منذ عشرين سنة، إلا ما كان ينفذ إليه من شوارد الأشعة، وخيوط الضياء المتراخية التي كانت تتسلل من ثقوب الصندوق الذي لبث راقدا فيه طيلة تلك السنين.
وكان المستر تراندل بادي الإشراق، حسن الهندام، وإن لاح «عصبيا» إلى حد ما، وكان عميد العشيرة الطيب القلب يحاول أن يبدو بالغ الفرح، خالي البال، ولكن المحاولة لم تكن ناجحة، وكانت الفتيات جميعا في دموع، وثياب من حرير أبيض، إلا اثنتين منهن حظين بمتعة مشاهدة العروسين في الطبقة العليا من البيت.
وكان البكوكيون جميعا في أجمل مظهر، وأحسن سمت، وقد ارتفعت الأصوات الصاخبة من جانب البقعة الناضرة الممتدة أمام البيت؛ حيث اجتمع الرجال والفتيان والأيفاع والمراهقون الملحقون بخدمة المزرعة، وقد وضع كل منهم «عقدة» بيضاء في عروة ثوبه، وهم يهتفون بكل قواهم مقتدين بالمستر ونكل الذي عرف فعلا كيف يكسب محبتهم، وترتفع مكانته في قلوبهم، بتصرفاته وحسن أسوته فيهم، كأنه واحد منهم، وابن جلدتهم، وكأنه قد ولد في أرضهم.
ولا يخفى أن الزفاف مسألة يترخص فيها المزاح وتباح فيها الدعابة، وإن كان في الواقع أمرا لا مزاح فيها مطلقا، وإنما نحن نعني ما يكون من المزاح والتنكيت على حفلاته، ونرجو أن يفهم عنا بجلاء أننا لا نضمر سخرية خفية من الحياة الزوجية، أو نتخذها هزؤا؛ فإن أفراحها ومسراتها لا تزال مختلطة بأسف وحسرات على مغادرة البيت الذي كانت النشأة فيه، والعش الذي درجت الأقدام الصغيرة في أرجائه، وتلك العبرات التي يذرفها الآباء والبنون والبنات عند الوداع، والشعور بأن العروس موشكة أن تفارق أعز الصحاب وأحنى الخلطاء في أسعد أدوار العمر، وأصفى أيام الحياة؛ لمواجهة هموم لم تجرب من قبل، وملاقاة متاعب لم تختبر كثيرا ولم تعرف، وغير ذلك من المشاعر والأحاسيس الطبيعية التي لا نحب أن نصفضها حتى لا نجعل هذا الفصل من الكتاب محزنا، والتي لا نزال نرجو ألا يظن بنا أننا منها ساخرون.
فلنقل في إيجاز إذن إن الاحتفال بالزفاف تم على يد القسيس الشيخ في كنيسة «دنجلي ديل» وإن المستر بكوك دون في سجلاتها، ولا يزال محفوظا في خزانتها إلى اليوم، وإن الفتاة ذات العينين السوداوين وقعت اسمها بأحرف راعشة مهزوزة، وخط مرتجف، وإن توقيع إميلي، بوصفها الوصيفة الأخرى للعروس، كاد يبدو مطموسا لا يقرأ، وإن الاحتفال تم بجملته على وجه يستحق الإعجاب، وإن الفتيات عامة رأين أنه ليس مروعا بالصورة التي كن يتوقعنها، وإذا كانت ذات العينين السوداوين والابتسامة الفاتنة قد راحت تقول للمستر ونكل: إنها متأكدة من أنها لن ترتضي الاستسلام لشيء مروع مخيف كهذا، فلا يزال لدينا من الأسباب القوية ما يحملنا على الاعتقاد أنها كانت على خطأ، كما يصح لنا أن نضيف إلى ذلك كله أن المستر بكوك كان أول من حيا العروس وهنأها، وأحاط جيدها وهو يحييها بسلسلة وساعة من الذهب لم تشهدهما عين بشر من قبل غير عين الصائغ الذي صاغهما، وعندئذ دقت أجراس الكنيسة أبدع دقات وأمرحها أصدية، فعاد الجميع إلى تناول طعام الفطور.
وقال المستر ولر للغلام البدين، وهو يساعد في صف ألوان من الطعام لم تصف على الموائد كما يجب في الليلة الماضية: «وأين نضع «الكفتة» يا صاحبي الصغير آكل الأفيون؟»
4
وأشار الغلام البدين إلى الموضع الذي يجب أن توضع «الكفتة» فيه.
وقال سام: «جميل جدا، ضع شيئا من عيد الميلاد فيها، والطبق الثاني يوضع مقابلا للأول، والآن كل شيء يبدو منسقا ومريحا، كما قال الأب لابنه حين قطع رأسه؛ ليعالج الحول الذي في عينه!»
ولم يكد المستر ولر ينتهي من هذه المقارنة التي ذكرها حتى تراجع خطوة أو خطوتين ليعطيها كل التأثير المطلوب، ويتفقد المعدات والتنسيقات وهو في أتم الارتياح.
وقال المستر بكوك، حين جلس الجميع إلى المائدة: «يا واردل، علي بكأس من النبيذ تحية لهذا الحدث السعيد.»
وقال المستر واردل: «بكل سرور يا بني. يا جو، لعنة الله على هذا الغلام، لقد عاد إلى النوم.»
وأجاب الغلام البدين، وهو ينهض مسرعا من ركن قصي: «كلا يا سيدي؛ لست نائما.»
وكان الغلام في ذلك الركن المنزوي يلتهم فطيرة من فطائر عيد الميلاد كما يفعل القديس الذي يرعى الغلمان السمان والذي يدعى هورنر الخالد، وإن لم يكن تناوله الفطير بذلك الهدوء والتأني المعروفين عن ذلك السيد الصغير.
5
وقال المستر واردل: «املأ كأسا للمستر بكوك.»
قال: «سمعا يا سيدي.»
وملأ الكأس ثم تراجع فوقف خلف مقعد سيده، ومضى يرقب من مرصده هذا حركة السكاكين والشوك وسير اللقم المختارة من الصحاف إلى الأفواه، بشيء من الفرح المكتئب الواجم الذي يحدث في النفس أبلغ الأثر ...
وقال المستر بكوك: «بارك الله لك يا صديقي العزيز.»
وأجاب واردل: «ولك يا بني.»
وتقارعا الكأسين محبة ووفاء.
وانثنى المستر بكوك يقول للسيدة العجوز: «يا مسز واردل نحن معاشر الكبار لا مفر لنا من أن نشرب كأسا من النبيذ معا؛ تكريما لهذا الحفل البهيج.»
وكانت السيدة العجوز في تلك اللحظة جالسة جلسة العظمة والجلال، ومتخذة مكان الصدار من المائدة، في ثوبها المزركش، وعن أحد جنبيها حفيدتها العروس، وعن الآخر المستر بكوك؛ ليتولى تقطيع «الأطعمة»، ولم يكن قد رفع صوته وهو يقترح عليها شرب كأس؛ ليبلغ سمعها، ولكنها أدركت في الحال مراده، فارتشفت كأسا ممتلئة من النبيذ، في صحته، وسعادته، وأقبلت تقص في دقة وتفصيل قصة زفافها، وتتحدث عن طراز زمانها، وهو لبس الأحذية العالية الكعب، وتروي روايات معينة عن حياة سيدة راحلة، من غادات عصرها، تدعى الليدي تولنجلوار، وهي بين ذلك كله تضحك من أعماق قلبها، ويشاركها في الضحك الغيد الأخريات متسائلات، فيما بينهن أي شيء في الأرض ترى الجدة العجوز تتحدث عنه، وكلما ضحكن، ضحكت هي من قلبها عشرة أمثال ضحكهن وقالت: إن هذه القصص التي روتها كانت أبدا تعد من أبدع القصص؛ مما جعلهن يعاودن الضحك، ويزدن السيدة العجوز انتعاشا ومجانة.
وهنا قطعت «الكعكة»، وطيف بها على الحلقة وادخرت الفتيات قطعا منها ليضعنها تحت وساداتهن فيحلمن بالعرسان، فكان ذلك مثار خجل كثير، ومرح طويل.
وقال المستر بكوك لصديقه القديم، ذلك السيد العنيد ذي «الرأس» الجامد: «ألك في كأس من النبيذ يا مستر ولر؟»
وأجابه هذا بجد ووقار: «بكل ارتياح يا مستر بكوك.»
وقال القسيس البر الكريم: «ألا تشركاني معكما؟»
وتبعته زوجته قائلة: «وأنا؟»
وقال آخران من أقارب الأسرة الفقراء كانا جالسين في أقصى طرف من المائدة، وكانا قد أكلا وشربا كثيرا، وضحكا من كل شيء: «وأنا. وأنا.»
وأبدى المستر بكوك اغتباطا صادقا بكل الطلبات الإضافية، وعيناه تبرقان فرحا وحبورا.
وإذا هو ينهض فجأة قائلا: «أيتها السيدات، أيها السادة.»
وصاح المستر ولر: «اسمعوا، أنصتوا، اسمعوا.» وقد بلغت حماسته الذروة.
وارتفع صوت المستر واردل قائلا: «ليدخل الخدم جميعا.»
وقد خشي أن يوجه المستر بكوك بعض اللوم أمام الناس إلى خادمه، فبادر بدعوة الخدم؛ لكي يمنعه من تأنيب كان بلا شك سيوجهه إليه.
وعاد المستر واردل يصيح قائلا: «وأعطوا كل واحد منهم كأسا ليشربوا النخب، والآن يا بكوك.»
وفي وسط صمت ساد القوم، وتهامس الخادمات، وارتباك الخدم فيما بينهم، بدأ المستر بكوك يلقي خطابا.
قال: «أيتها السيدات، أيها السادة! كلا، لا أريد أن أقول سيدات وسادة، سأناديكم يا أصدقائي، يا أصدقائي الأعزاء، إذا سمحت السيدات لي بأن أستبيح هذا لنفسي.»
وهنا قوطع المستر بكوك بتصفيق عاصف من السيدات وردده السادات في أثرهن، سمع خلاله صوت ذات العينين السوداوين تقول : إنها لو استطاعت لقبلت هذا المستر بكوك العزيز، وهنا سألها المستر ونكل بجرأة: «ألا يمكن أن يتم ذلك من طريق الإنابة؟» فكان جواب ذات العينين أن قالت: «امش من هنا.» وإن شفعت الأمر بنظرة بليغة ما أمكن، تقول له: «إن استطعت.»
وواصل المستر بكوك الخطبة فقال: «أصدقائي الأعزاء! إنني أقترح شرب نخب العروسين بارك الله حولهما (هتاف ودموع)، وأنت يا صديقي الشاب «تراندل» أعتقد أنك فتى لا مثيل لك في أخلاقك وشهامتك ورجولتك، وأعرف عن العروس أنها فتاة محببة ظريفة لطيفة كل الظرف واللطف وأنها أهل لأن تنقل إلى أفق جديد تلك السعادة التي ظلت عشرين عاما تضفيها على كل من حولها في بيت أبيها.»
وهنا اندفع الغلام البدين في إجهاش شديد فبادر إليه المستر ولر فجذبه من طوقه فأخرجه. «وإني لأتمنى لو أني رددت إلى عهد النضارة والشباب؛ لكي أكون لأختها بعلا (هتاف) أما وليس هذا في الإمكان فإني لسعيد أن أكون في سن أبيها، حتى لا تذهب الظنون إلى أني أضمر نيات أخرى، إذا أنا قلت: إنني معجب بالأختين معا، محب لهما، مقدر مكانتهما خير تقدير. (هتافات وانتحابات) إن أبا العروس، صديقنا الكريم هذا، إنسان نبيل، وإني بمعرفته لفخور (هتاف شديد) فهو رجل حدب، بديع مستقل الرأي، كريم القلب، مضياف، سمح، فياض الندى (صيحات من الأقارب الرقيقي الحال لكل نعت على حدته من كل تلك النعوت، ولا سيما النعتين الأخيرين) ويقيني أن أمنيتنا جميعا أن تستمتع ابنته بكل السعادة التي يرجوها لها، وأن يجد في تمني الهناءة لها رضى النفس، وسكينة الخاطر، وطمأنينة الروح، التي هو بها جدير كل الجدارة، فلنشرب في صحتهم، ولنرجو لهم طول العمر وفيض النعم والبركات.»
وانتهى المستر بكوك من خطبته وسط عاصفة من التصفيق، وعادت رئات الخدم وحناجرهم - تحت إمرة المستر ولر - ترسل أشد الهتافات وأبلغ الصيحات، وأقبل المستر واردل يشرب في صحة المستر بكوك، واقترح هذا أن يشرب نخب السيدة العجوز، وجاء المستر سنودجراس فطلب أن يشرب في صحة المستر واردل، وطلب هذا أن يشرب نخبه، واقترح أحد الأقارب الفقراء أن يشارب المستر طبمن، وأقبل الآخرون منهم يقترحون الشرب في صحة المستر ونكل.
وغمرت السعادة القوم جميعا، وضفا الفرح والمرح على الحلقة كلها، حتى فطنوا إلى اختفاء قريبين من الرقيقي الحال فجأة تحت المائدة، فأدركوا أنه قد حان الانصراف.
وعلى العشاء عادوا إلى الاجتماع، بعد الأوبة من رياضة على الأقدام اقترحها المستر واردل، مسافة خمسة وعشرين ميلا، قام بها الرجال، لإزالة أثر الشراب الذي عاقروه على الفطور، وكان القريبان الفقيران اللذان سقطا تحت المائدة قد لزما فراشهما اليوم طوله؛ استعدادا لمتعة المساء، ولكنهما لم يوفقا، فظلا معتكفين فيه، وكانت مجانة المستر ولر قد أبقت الخدم جميعا في مرح مستطيل، ومجانة غير منقطعة، بينما راح الفتى البدين يقسم وقته حصصا قصيرة يتناوب فيها الأكل والنوم.
وكان العشاء في مثل المرح الذي غمر الفطور، والضوضاء التي تخللته، دون العبرات، وخلا البكاء والدموع، وجاء دور النقل والفاكهة، ثم المزيد من الأنخاب، وجاءت القهوة والشاي، وابتدأ الرقص.
وكانت أحسن قاعة للجلوس في الدار حجرة فسيحة مستطيلة قاتمة الزجاج، ذات مدفأة عالية، ومدخنة رحيبة، تتسع لدخول مركبة من الطراز الجديد بكل أجزائها وعجلاتها، وفي أقصى الحجرة جلس في مقصورة ظليلة تحيط بها شجرات عيد الميلاد والأعواد الناضرة، عازفان على «الكمان» من صفوة العازفين البارعين، والموسيقي الضارب على القيثار الأوحد في بلدة «ماجلتون» كلها، وفي كل ركن وجنب وزاوية قامت «ماثلات» ضخمة من الفضة، لكل واحدة منها أربعة فروع، وطوي البساط، وأنيرت الشموع، وتأججت النار في الموقدة وأزت أزيزها، ودوت أرجاء القاعة بالأصوات المرحة والضحكات المدوية، ولو أن قوما من السراة القدامى في هذه البلاد ارتدوا عند الممات حورا وجانا، لكان هذا الموضع هو المكان الذي يختارونه لمجانتهم وقصفهم.
ولو أن شيئا جاء نافلة بديعة لتزيد في جمال هذا المشهد وفتنته وبهائه، لكان ظهور المستر بكوك خالعا غطاء ساقية لأول مرة في ذاكرات أقدم أصدقائه، هو هذه النافلة.
وسأله واردل قائلا: «هل تنوي أن ترقص؟»
وأجاب المستر بكوك : «طبعا، بلا شك، ألا تراني قد تهيأت لهذا الغرض؟»
وأشار إلى جوربه الحريري المخطط، وحذاء الرقص المحبوك الأربطة في قدميه.
وصاح المستر طبمن مازحا: «أأنت تلبس جوربا من حرير؟»
ودار المستر بكوك بحماسة إليه فقال: «ولم لا؟ يا سيدي ما المانع؟»
وأجاب المستر طبمن: «لا سبب طبعا يمنعك من لبسه.»
وقال المستر بكوك بلهجة قاطعة: «لا أتصور يا سيدي، لا أتصور.»
وكان المستر طبمن يهم بأن يضحك، ولكنه وجد أن المسألة جد، فأمسك، وبدا عليه الهدوء، فقال: «إنه لجورب من طراز جميل.»
وأجاب المستر بكوك وقد استقرت عيناه على وجه صاحبه: «أرجو أن يكون كذلك، وأعتقد يا سيدي أنك لا ترى شيئا غير مألوف من هذا الجورب، بوصفه جوربا!»
وقال المستر طبمن: «لا شيء، دون شك، لا شيء»، ومشى مبتعدا، ولم يلبث وجه المستر بكوك أن استعاد سماته الحنون المألوفة.
وصاح قائلا، وهو واقف مع السيدة العجوز على حافة الحلبة، ومن فرط حماسته وشدة رغبته في الإقبال على الرقص، أخطأ أربع مرات في التقدم إلى الحلبة قبل أن يعزف العازفون: «إننا جميعا على أتم الأهبة.»
وقال المستر واردل: «فلتبدأوا إذن في الحال، والآن.»
وبدأ العازفان يعزفان، وبدأ صاحب القيثار توقيعه، وانطلق المستر بكوك يدخل الحلبة، وإذا الأيدي تصفق والأصوات تصيح: «قف! قف!»
وقال المستر بكوك: «ما الذي جرى؟» وقد أمسك عن الرقص، حين سكنت أنغام الكمان والقيثار، ولولا ذلك لما استطاعت قوة في الأرض أن تمسكه عن المضي في الرقص، حتى ولو شب في الدار حريق.
وصاحت الأصوات منادية: «أين أرابللا ألن؟»
وقال المستر طبمن: «وأين ونكل؟»
وإذا صوت المستر ونكل يصيح: «ها نحن أولاء.» وهو يخرج مع رفيقته الحسناء من الركن، ولم يكن من السهل، وهما خارجان من مخبئهما، معرفة أيهما كان وجهه أشد حمرة من صاحبه، أهو أم ذات العينين السوداوين؟
وقال المستر بكوك في شيء من الغضب: «شيء غريب يا ونكل، ألا تأخذ مكانك قبل الآن.»
وأجاب المستر ونكل: «لا غرابة مطلقا.»
وقال المستر بكوك بابتسامة ذات دلالة بالغة، حين استقرت عيناه على «أرابللا»: «لم أكن أعرف أبدا أنه شيء غريب.»
ولم تكن ثمة فسحة من الوقت للبحث في الأمر أكثر من ذلك؛ لأن الموسيقى بدأت بقوة، وانطلق المستر بكوك شابكا يديه إلى وسط الحلبة ثم إلى نهاية الحجرة، فنصف المسافة إلى المدفأة، فعائدا أدراجه إلى الباب، فالتفافة بالأيدي مشتبكة، فضربة الأرض بالقدم، ثم استعداد للرقصة التالية، قم رقصة أخرى، وضربة بالقدم لوزن الخطوة، وهكذا دواليك، رقصة بعد رقصة، في خفة لا مثيل لها. وأخيرا، بعد أربع عشرة رقصة، استعفت العجوز من عدد منها، وخرجت من الحلبة في إعياء، فحلت محلها زوجة القسيس، ثم أمسكت، ومضى المستر بكوك مواصلا الرقص وحده، حين كف الآخرون عنه، لمجرد متابعة أنغام الموسيقى وعزفها، وهو بين ذلك كله يبتسم لمراقصته ابتسامة أنس لا يوصف.
وكان العروسان قبل أن يكل المستر بكوك من الرقص بوقت طويل قد انصرفا من هذا المشهد، وكان ثمة عشاء فاخر قد تهيأ في الطبقة الأولى من البيت وأعقبه مجلس أنس طيب وسمر، وعندما استيقظ المستر بكوك متأخرا في صباح اليوم التالي، تذكر في صورة مرتبكة، أنه دعا نحو خمسة وأربعين شخصا للعشاء معه في فندق «الحصان الأبيض الكبير» في أول مرة يأتون فيها إلى لندن، ولكن هذه الفكرة التي تخيلها عند يقظته من النوم كانت دليلا واضحا على أنه تناول شيئا آخر غير الرياضة والرقص، في الليلة الماضية.
وقال سام لإما: «وهكذا تقيمون ألعابا في المطبخ الليلة يا عزيزتي؟»
قالت: «نعم يا مستر ولر، كذلك جرت عادتنا في ليلة عيد الميلاد وسيدي لا ينثني عن إقامتها لأي سبب من الأسباب.»
وقال المستر ولر: «إن سيدك لا ينسى في المكارم شيئا يا عزيزتي، لم أر في حياتي رجلا مثله في رقة شعوره ولا شاهدت سيدا منظما بهذا الشكل.»
وقال الغلام البدين مشتركا في الحديث: «إنه فعلا كذلك، ألا تراه يربي خنازير جميلة؟» ونظر الغلام البدين إلى المستر ولر نظرة أدنى إلى نظرات أكلة اللحوم البشرية، وقد تخيل الأفخاذ المشوية والمرق، وقال سام: «أوه، هل صحوت أخيرا؟»
وأومأ الغلام برأسه.
ومضى سام يقول له: «استمع لكلامي أيها التنين الصغير، إذا لم تقلل من نومك، وتزد من رياضتك فسوف تصبح حين تبلغ شأو الرجال عرضة لمتاعب بدنية كالتي عاناها الرجل ذو الضفيرة الطويلة!»
وقال الغلام البدين بصوت مضطرب: «وماذا صنعوا به؟!»
وأجاب المستر ولر: «سأقول لك، لقد كان من أضخم خلق الله، كان رجلا لحيما شحيما لبث خمسا وأربعين سنة لا تستطيع عينه أن ترى حذاءه.»
وصاحت إما قائلة: «يا ساتر يا رب!»
وواصل المستر ولر حديثه قائلا: «نعم، يا عزيزتي، لم يكن نظره يصل يوما إلى حذائه، ولو أنك وضعت نموذجا تاما لساقيه على مائدة الطعام التي أمامه لما عرفهما، وكان من عادته أن يذهب إلى مكتبه تاركا سلسلة ساعة ذهبية جميلة متدلية نحو قدم وربع قدم، أما الساعة ذاتها فمن الذهب أيضا وهي موضوعة في جيبه الصغير، وهي تساوي ... إنني أخشى أن أقول كم تساوي، ولكنها كانت تساوي ما يمكن أن تساويه ساعة ضخمة ثقيلة الوزن، مستديرة الشكل، ساعة «سمينة» تناسب الرجل السمين نفسه، ولها ميناء ضخم كوجهه سواء بسواء، وقال له أصدقاؤه يوما: يحسن بك ألا تلبس هذه الساعة؛ لأنها ستغري اللصوص بسرقتك. قال: أحقا؟ وأجابوا قائلين: نعم. قال: فليكن، إني أود أن أرى ذلك اللص الذي يستطيع أن ينتزع هذه الساعة من مكانها؛ لأني في الواقع لن أراه، لأنها مربوطة مثبتة، وكلما أردت أن أعرف الوقت، تطلعت بعيني إلى حوانيت الخبازين. وكان يضحك من قلبه حتى ليخيل إلى الناظر أنه سيتفكك أجزاء ثم يعاود المسير برأسه الأشيب وضفيرته المستطيلة، متدحرجا في شارع «ستراند» وسلسلته الذهبية متدلية أكثر من قبل، والساعة الضخمة تكاد تبرز من خلال صداره الرمادي الصوف، ولم يبق في طول لندن وعرضها نشال لم يجرب جذب تلك السلسلة من مكانها، ولكنها تأبت عليهم أجمعين، والساعة أيضا لم تنزع يوما من موضعها، حتى سئموا أخيرا اقتفاء خطى ذلك الشيخ الضخم الجسم في الشوارع، وعلى الأفاريز ، فكان يعود إلى بيته فيضحك منهم حتى لتهتز ضفيرته اهتزاز رقاص ساعة جدار هولندية. وفي ذات يوم، بينما كان الشيخ سائرا يتدحرج في طريقه، رأى «نشالا» قادما نحوه وكان يعرف النشالين جميعا بمجرد النظر إليهم، وهو مشتبك الذراع بذراع صبي صغير ذي رأس ضخم، فقال في نفسه: هذه لعبة أخرى، أنهما سيحاولان من جديد ولكن الحيلة لن تجوز. وانطلق يضحك ملء فيه، وإذا الصبي يترك ذراع النشال، ويندفع برأسه نحو بطن الشيخ، فانحنى هذا لحظة من فرط الألم، وهو يصيح قائلا: «هذه جريمة قتل!» وهمس النشال في أذنه: «لا بأس يا سيدي.» وحين استقام الشيخ ورفع قامته كانت الساعة والسلسلة قد ذهبتا، وأدهى من ذلك وأنكى أن عملية الهضم اختلت لديه إلى آخر يوم في حياته. فانتبه أيها الفتى إذن لنفسك، واحرص على ألا تزداد بعد اليوم بدانة ويتراكم الشحم عليك.»
وبعد أن ختم المستر ولر هذه القصة البليغة المغزى، التي أحدثت أثرا كبيرا في نفس الغلام البدين انطلقوا إلى المطبخ الكبير حيث كان الخدم قد اجتمعوا جريا على عادتهم السنوية، ليلة عيد الميلاد، وتبعا للتقاليد التي كان آباء واردل وأسلافه يرعونها كابرا عن كابر من قديم الزمان.
وكان المستر واردل قد عمد إلى تعليق فرع كبير من شجرة عيد الميلاد بيديه، من وسط سقف المطبخ، فلم يلبث هذا الفرع الكبير أن أثار مشهدا من الاضطراب العام الباعث على الاغتباط والانشراح، وفي وسط هذا الهرج والمرج عمد المستر بكوك بتلك الشهامة الرائعة التي تشرف سليلة من سليلات الليدي تولنجلور ذاتها، إلى تناول يد السيدة العجوز ومشى بها حتى أوقفها تحت ذلك الفرع القدسي وأدى لها التحية بكل ما استوجبت من أدب واحتفال ومراسيم.
واستسلمت السيدة العجوز لهذا النوع العملي من الأدب بكل الوقار الذي يناسب هذا التصرف الجليل الرهيب، ولكن الفتيات اللاتي لم يستكملن التشرب بهذا التوقير القديم للعادات، أو اللاتي تصورن أن قيمة القبلة تغلو كثيرا وتزداد، إذا اقتضى الظفر بها بعض التعب، رحن يتصايحن ويتدافعن ويختفين في الزوايا والأركان، مهددات ومحتجات، وأتين كل ما في وسعهن أن يأتين، إلا الانصراف من الحجرة، حتى رأين بعض الذين كانوا أقل من المستر بكوك، جرأة وإقداما يوشكون أن يعدلوا عن فعل ما فعله، فوجدن جميعا - وفي الحال - أن لا فائدة من التأبي، ولا نفع من المقاومة، فرضين أن تطبع القبلات على وجوههن بغير اعتراض، فقبل المستر ونكل خد ذات العينين السوداوين وقبل المستر سنودجراس وجنة إميلي، وأما المستر ولر فلم يدقق كثيرا في وجوب الوقوف تحت الشجرة فراح يقبل «إما» والخادمات الأخريات حيث وجدهن أو حيث أمسك بهن، وأما القريبان الفقيران فذهبا يقبلان كل النساء، غير مستثنيين الدميمات من الأضياف ولا القبيحات اللاتي من فرط ارتباكهن أسرعن فوقفن تحت الشجرة بمجرد تعليقها، وهن غير شاعرات بما هن فاعلات! بينما وقف «واردل» موليا ظهره للموقدة، يشهد هذا المنظر بارتياح تام، وانتهز الغلام البدين الفرصة للاستمتاع بما يشتهي، فراح يلتهم بلا استئذان ولا تردد فطيرة كانت موضوعة بعناية في مكان قريب منه ليتناولها إنسان سواه.
وسكن الصياح وبدت الوجوه متوهجة من حمرة القبل، والجدائل مضطربات، وكان المستر بكوك بعد أن قبل السيدة العجوز على النحو الذي وصفنا، واقفا تحت الشجرة ينظر بسرور ظاهر على وجهه إلى كل ما كان يجري من حوله، وإذا ذات العينين السوداوين بعد همس قليل للفتيات الأخريات، تندفع فجأة فتطوق عنق المستر بكوك بذراعها، وتقبله بحنان بالغ على خده الأيسر، وقبل أن يعرف ما الخبر، أحاطت به الغيد جميعا، فقبلنه واحدة بعد أخرى.
وما كان أبدعه من مشهد، وأنت ترى المستر بكوك في وسط هذا السرب من الغيد، وهو يجذب من هاهنا، ويشد من هاهنا، ويقبل مرة من ذقنه وثانية قبلة على أنفه، وأخرى على منظاره، وتسمع قصف الضحكات التي دوت من كل مكان، ولكن أبدع من ذلك أيضا أن نشهد المستر بكوك وقد عصبوا عينيه بعد قليل بمنديل حريري، وهو يجري في أرجاء الحجرة، فيصطدم مرة بالجدار، ويتعثر أخرى بالأركان، ويمر من خلال جميع مفارقات لعبة «الاستغماء» وحركاتها المضحكة، وهو في حماسة الاستمتاع بها، ثم ينتهي أخيرا بإمساك أحد القريبين الفقيرين، فيضطر إلى رفع العصابة عن عينيه بخفة متناهية أثارت إعجاب النظارة، وتصفيق المشاهدين. وأما القريبان الرقيقا الحال فقد ذهبا يمسكان بالذين يظنان أنهم يحبون أن يمسكوا، ولما فترت حماسة اللعبة وهدأت، وقعا في قبضة الآخرين.
وحين أحس القوم جميعا التعب من هذه اللعبة، أقبلوا على لعبة أخرى تقتضي التقاط الزبيب من وعاء يحوي شرابا ساخنا، وحين تم التهاب الأنامل من الالتقاط، وفرغ الوعاء من الزبيب كله، جلسوا بقرب الموقدة الكبيرة التي تتأجج فيها النار إلى عشاء شهي، وإناء ضخم أصغر قليلا من «طشت» الغسيل، كان التفاح السخن يئز في جوفه ويتوثب بشكل جميل، وصوت بهيج، لا تستطيع النفس مقاومة إغرائه.
وأنشأ المستر بكوك يقول وهو يدير عينه فيما حوله: «هذه حقا هي الرفاهية.»
وأجاب المستر واردل: إن عادتنا التي لا تتغير أن يجلس كل إنسان معنا في ليلة العيد، سادات وخدما على السواء، كما ترى، وننتظر حتى تدق الساعة اثنتي عشرة، معلنة حلول العيد، ونتسلى بعقد الرهان، وقص القصص. تراندل، حرك النار يا بني.
وتطاير الشرر الوهاج الوثاب عشرات ومئات، حين حركت عيدان الحطب في الموقدة، وأرسل اللهيب الأحمر وهجا مشرقا نفذ إلى أقصى أركان القاعة، وألقى ظله البهيج على الوجوه والطلعات.
وانثنى واردل يقول: «هيا، أغنية، أغنية العيد، سأغنيكم واحدة، ما دمت لا أجد أفضل منها.»
وصاح المستر بكوك: «مرحى!»
وعاد واردل يصيح: «املأ الكئوس، فلن يتوانى لك أن ترى قاع الإناء من خلال لون هذا الشراب البديع، قبل انقضاء ساعتين من الزمن، هيا، اترعوا الكئوس وطوفوا علينا بها، والآن فلتسمعوا الأغنية.»
وشرع الشيخ المرح بلا مقدمات، ولا كلام، وفي صوت حسن، قوي النبرات، يغني الأغنية التالية:
أغنية عيد الميلاد
لست بالربيع حافلا، فليحمل على جناحه المتردد
الأزاهر وأكمام الورد، في المهد
إنه ليستهويها وشيكا بمطره الغادر
ثم ينثرها قبل أن يتنفس الصبح
إنه لعفريت متقلب الأهواء، لا يعرف نفسه من الغباء
ولا يتبين عقله المتغير ساعة من الزمن
يبتسم لك في وجهك، ثم إذا هو بعبسة ملتوية
يذبل أصغر أزاهيرك
ودع شمس الصيف تذهب مسرعة إلى كنها الشاهق
فلن ألتمسها أبدا
وحين يحجبها الغمام، ألاقيها بضحك عال
ولا أحفل منها بعبوس، وليس لغضبها عندي اهتمام
لأن الجنون الهارف، هو وليدها العزيز عليها
الذي يأتي في ذيل الحمى حين تسيطر على المحموم المدنف
وحين يشتد الحب ويتطرف، لا يبقى طويلا
وكم من عاشق عرف ذلك، فتعذب وتألم
إن ليلة حصاد زاهية، بجانب أضواء هادئة
من أشعة قمر حيي رقيق الحاشية
لأعذب عندي - أقسم جهدي - من ظهيرة بادية
وهاجرة لفاحة غير مستحيية
ولكن كل ورقة ذاوية تثير أساي
حين ترقد تحت الدوحة الضاحية
فليفعل الخريف بجوه ما يشاء فلست عنه راضيا
ولكن غنائي وإنشادي، لعيد الميلاد
المتفتح لفؤادي الصادق الميعاد، الجريء، فأشرب
له من القدح المترع الرانوان
وأهتف له ثلاثا بكل قواي وإيماني
ونعلن مقدمه في ضجة وطنين
يبهج صدره المرح بأطيب الأماني، ونكرمه بكل ما
أوتينا من صنوف طعام وألوان
وننصرف أحبابا في أمان
وفي أصدق خيلائه، وأبدع كبريائه، يأبى الكتمان
فلا يخفي ذرة من قروحه، في قر الشتاء وشدة رياحه
لأنها ليست عابا ولا ذاما، ما دام أمثالها ندوبا
باديات على وجه أكبر الشجعان
دعوني له أغن، حتى يتردد غنائي بين السقوف
والجدران
دعوني أشد بألحاني لهذا الشجاع
لأنه ملك الفصول جميعا على الزمان
وكان التصفيق لهذه الأغنية صاخبا مدويا؛ لأن اجتماع الأصحاب والخدم والحشم في صعيد واحد من أروع المجامع للسامعين، وكان القريبان الفقيران خاصة في حال متناهية من اللذة والطرب، وأعيد ملء الإناء الضخم، وطيف مرة أخرى بالكئوس المترعة.
وقال أحدهم مخافتا بصوته: «يا لله! إن الجليد يسقط غزيرا.»
وقال واردل: «الجليد يسقط! حقا؟»
وأجاب الرجل قائلا: «ليلة مقرورة قاسية يا سيدي، وقد هبت ريح عاتية فدفعت بالجليد في الحقول في سحابة كثيفة بيضاء.»
وقالت السيدة العجوز متسائلة: «ماذا يقول جم؟ هل من حادث جرى؟»
وأجابها واردل قائلا: «كلا، كلا، يا أماه! إنه يقول إن الجليد شديد، والريح نفاذة، وهو ما أشعر به فعلا، من زفيفها الظاهر في جوف المدخنة.»
وقالت السيدة العجوز: «آه! لقد كانت الريح كذلك، والجليد كذلك، طوال السنين الخاليات، وإني لأذكر ذلك قبل وفاة أبيك المسكين بخمس سنين، وكانت ليلة عيد الميلاد أيضا، فراح يقص علينا قصة العفاريت الذين اختطفوا العجوز جبريل جرب.»
وقال المستر بكوك: «قصة ماذا؟»
وأجاب واردل: «لا شيء، لا شيء، هي قصة عن سادن كنيسة، يظن السذج هنا أن العفاريت اختطفوه.»
وصاحت السيدة العجوز: «أتقول يظن! هل ثمة إنسان يجرؤ على تكذيبها؟ يظن! ألم تسمع منذ طفولتك أن العفاريت اختطفوه؟ أولا تعلم أنهم فعلوا ذلك حقا؟»
قال ضاحكا: «ليكن يا أماه إذا شئت، لقد اختطفه العفاريت فعلا يا بكوك، وبهذا ينتهي الأمر.»
وقال المستر بكوك: «كلا، كلا، لا تقل ينتهي؛ لأني أريد أن أعرف كيف ولماذا اختطفوه، واسمع القصة بحذافيرها حتما؟»
وابتسم واردل، حين رأى القوم جميعا مقبلين برءوسهم، مرهفي الأسماع، فملأ كأسا من الإناء وأومأ برأسه في صحة المستر بكوك، وبدأ يقص القصة التالية.
ولكن ويحنا! لقد استهوانا الحديث فمضينا في فصل طويل ناسين كل ما في قيود الرواية من فصول، وكل ما نرى لزاما علينا أن نراعيه من تنسيق وتبويب، فلنختم هنا هذا الفصل، لنبدأ قصة العفريت في فصل جديد.
أيتها السيدات، أيها السادة، منظر جديد، ولكن من فضلكم لا تنظروا بعين الحظوة إلى العفاريت.
لقد عبر سام عن وزن الغلام البدين بقوله: «عشرين ستون»، والستون
STONE
وزن إنجليزي يعادل 14 رطلا إنجليزيا؛ أي إن وزنه يبلغ 280 رطلا.
يقصد رابحي الجوائز في البدانة.
يقصد الشحم واللحم.
أو «أبو النوم»؛ لكثرة نومه، واستغراقه في سباته.
يشير المؤلف هنا إلى أغنية الأطفال القديمة المعروفة عند الإنجليز
LITTLE JACK HORNER SATIN A CORNER EATING HIS CHRISTMAS PIE, ETC .
الفصل التاسع والعشرون
قصة العفريت الذي اختطف سادنا
كان في غابر الزمان، وسالف العصر والأوان، في هذا الجزء من البلاد والأوطان، ومن عهد بعيد في مطاوي الدهر، بعد أن يجعل القصة حقيقية؛ لأن أجدادنا الأولين كانوا مؤمنين بها كل الإيمان. كان يعيش رجل يدعى «جبريل جرب» يشتغل في كنيسة البلدة القديمة سادنا وحفار قبور، ولا يستتبع قيام امرئ بسدانة الكنيسة، والعيش أبدا في وسط معالم الموت وشاراته ورموزه، أن يكون إنسانا حزينا، مربدا، كئيبا؛ فإن معاشر حفاري القبور هم أكثر أهل الدنيا مرحا، وقد كان لي يوما شرف العلاقة الوثيقة برجل صموت، معقود اللسان، ولكنه إذا عاد من عمله، وخلا إلى حياته الخاصة، كان الفكه والمرح والممارح، كأي عابث هازل لا يقيم للدنيا وزنا ولا يحمل للحياة هما، ويغني ما شاء أن يغني، حافظا أغنية، لا يتطرق إلى ذاكرته نسيان، ويشتف الكأس المترعة مرة واحدة دون أن يتمهل ليتمالك أنفاسه.
ولكن رغم هذه السوابق المدللة على العكس، كان «جبريل جرب» رجلا سيئ الحال، عبوسا مربدا، منطويا على نفسه، لا أنيس له غير زجاجة قديمة ذات غطاء من ورق الصفصاف المجدول قد أثبتها في جيب صداره الرحيب، وهو ينظر إلى كل وجه متهلل مشرق يمر به نظرة حقد وشر، حتى ليصعب عليك أن تلقاه ولا تحس أن لقاءه معقب أمرا غير محمود.
ففي ليلة عيد الميلاد، في ذات سنة من السنين، تنكب جبريل جرب فأسه، قبل الشفق بقليل، وأشعل مصباحه، وانطلق صوب المقبرة القديمة؛ فقد كان عليه أن يمهد قبرا لميت سيدفن في الصباح، وكان يشعر بضيق صدر، فظن أن الإقبال على العمل في الحال قد يذهب بضجره، ويصلح مزاجه، وفيما كان منطلقا في وجهه، مخترقا ذلك الدرب القديم، إذ أبصر وهج النيران المستعرة في المواقد، من خلال نوافذ الدور وشرفاتها، وسمع ضحكات الذين اجتمعوا فجلسوا من حولها، وبلغت أذنه صيحاتهم المرحة في مجالسهم منها، ولمح الاستعدادات القائمة في ضجيج وصخب لمباهج اليوم التالي، وهبت على أنفه روائح الأطعمة الشهية، وهى تتصاعد كالسحب من نوافذ المطابخ وتتعالى ذوائبها كالغمام.
كان ذلك كله قرحة في صدره، وغمة في نفسه، وحين شاهد جموعا من الولدان يخرجون من البيوت متوثبين طافرين، وينطلقون في الطريق قافزين؛ ليعبروه إلى العدوة الأخرى، فإذا هم قبل أن يبلغوها ليطرقوا الأبواب، يلتقون ببضعة صبيان جعد الرءوس، أشقياء، يبادرونهم، ويزدحمون من حولهم، وهم صاعدون بهم إلى الدور لقضاء المساء في ألعاب العيد، راح جبريل يكشر عن ابتسامة مخيفة، ويمسك بمقبض فأسه إمساكة قوية، وقد تخيل عندئذ الحصبة، والحمى القرمزية، والقلاع، والسعال الديكي، وجملة أخرى غيرها من وسائل العزاء له والترويح.
وفي هذه الحالة النفسية السعيدة، انطلق جبريل في سبيله، يرد بزمجرة قصيرة متجهمة، على تحيات الجيران الذين كانوا يمرون عليه من لحظة إلى أخرى، حتى عطف على الزقاق المعتم المؤدي إلى المقبرة، وكان يتطلع إلى بلوغ الزقاق المظلم؛ لأنه موضع لطيف قاتم محزن، لا يأنس الناس إلى غشيانه إلا في رابعة النهار، ومشرق الشمس، فلا عجب إذا هو تذمر وغضب؛ إذ سمع صبيا يرفع الصوت بأغنية لطيفة من أغاني عيد الميلاد، في ذلك الموضع الرهيب الذي كان يدعى «زقاق النعوش» منذ أيام الكنيسة القديمة، وعهد الرهبان الحليقي الرءوس.
وكلما تقدم جبريل في طريقه وبدا الصوت أقرب إليه شيئا فشيئا، تبين له أنه منبعث من غلام صغير كان يسير مسرعا ليوافي جموعا من الغلمان في الشارع القديم، فأراد أن يستأنس بصوته من ناحية، وأن يعد نفسه لهذه المناسبة المرتقبة، بإطلاق صوته بتلك الأغنية قدر ما وسعت رئتاه.
وانتظر جبريل حتى رأى الغلام مقتربا، فاختفى في ركن، ثم وثب عليه من مكمنه، فضربه بمصباحه خمس ضربات أو ستا فوق أم ناصيته؛ ليعلمه درسا في الغض من صوته، وبينما انطلق الغلام مسرعا ويده فوق رأسه يغني لحنا مختلفا عن غنائه السابق، راح جبريل يضحك مسرورا، ويدخل المقبرة، ويغلق بابها في أثره.
ونضا عنه رداءه، ووضع مصباحه، وأقبل على الجدث الذي لم يستكمل، فانكمش في تمهيده ساعة أو نحوها، وهو مستروح إلى العمل ناشط، ولكن الأرض كانت صلبة من أثر الجليد، فلم يكن شقها بالعمل الهين، ولا إزالة ترابها بالأمر اليسير، وكان القمر بازغا، ولكنه كان في أوائله، فكان الضياء الذي يرسله على القبر ضعيفا؛ فقد كان اللحد في ظل جدار الكنيسة، وكانت هذه العوائق في أي وقت آخر من شأنها أن تتعبه وتفسد عليه مزاجه، ولكنه كان في تلك اللحظة مسرورا لأنه أوقف الغلام الصغير عن الغناء، فلم يكترث كثيرا ببطء عمله، وانثنى ينظر في جوف اللحد حين اكتفى بذلك القدر من العمل تلك الليلة، وهو في اغتباط بشع مغمغما وهو يجمع أدواته.
مثوى كريم لابن آدم
حين تنتهي الحياة في هذا العالم
بضع أقدام في الثرى البارد
وحجر تحت رأسه ليتوسد
وآخر عند قدميه ليستند
وطعام شهي عصير للدود
وعشب كثيف من فوقه مقام
وصلصال رطب من حوله ركام
مثوى كريم في الأرض الحرام!
ومضى جبريل جرب يضحك، وهو يقتعد جندلا من جنادل القبور كان مستقره المحبوب، كلما أراح من العمل، وأخرج من جيبه الزجاجة الملففة بعيدان الصفصاف المجدول، وهو يقول: نعش في عيد الميلاد، وصندوق رفات، هوه! هوه! هوه!
وإذا صوت ينبعث من خلفه مرددا: هوه! هوه! هوه! وتمهل جبريل في شيء من الفزع، وهو يرفع الزجاجة إلى شفتيه، وتلفت حوله، فوجد أن جوف أقدم قبر من القبور المحيطة به لا يقل هدوءا وسكونا عن فناء المقبرة كلها في ضياء القمر الشاحب، ورأى الجليد يبرق فوق اللحود، ويتلألأ كصفوف من الدرر، بين النقوش الحجرية في فناء الكنيسة القديمة، والثلوج راقدة صلبة، جعدة، مجدولة، فوق أديم الثرى، أو منتشرة فوق أكوام التراب المجترف من الحفر، بيضا نواصع كالأغطية، حتى لكأن جثث الموتى رواقد عندها، وتلك الأغطية هي أكفانها، فلا حفيف يمكن أن يسمع من خلال ذلك السكون العميق الذي يغمر هذا المشهد الرهيب، كأن الأصوات ذاتها قد تجمدت فيه، فكل شيء ثم متجمد بارد صامت لا نأمة فيه.
فعاد جبريل يرفع الزجاجة إلى شفتيه وهو قائل لنفسه: «لقد كان ذلك الصوت بلا شك رجع الصدى.»
وقال صوت أجش: «كلا، لم يكن كذلك.»
وهنا أجفل جبريل، ووقف جامدا في مكانه من فرط الدهشة والروع؛ فقد استقرت عيناه على شبح جعل الدم يجمد في عروقه.
لقد رأى على جندل قائم غير بعيد منه، شبحا غريبا عن أشباح هذه الدنيا، وقد جلس فوق الجندل، ولم يدع ساقيه الطويلتين الغريبتين تصلان إلى الأرض، بل طواهما من تحته، طية عجيبة متناهية في العجب، وكانت ذراعاه المفتولتان عاريتين، ويداه مستقرتين فوق ركبتيه، وعلى بدنه القصير المستدير غطاء محبوك مزدان بزخارف صغيرة، وقباء قصير متدل خلف ظهره، وقد قسم طوق رقبته قمما غرائب تقوم مقام الطوق المغضن ذي الثنايا المتعددة، وحذاؤه مرتفع إلى أعلى عند أصابع قدميه، كأطراف محددة، وفوق رأسه قبعة عريضة الحاشية، تزينها ريشة واحدة، وقد كساها الجليد بياضا، وكأنما قد جلس فوق ذلك الجندل بالذات مستريحا منذ مائتي عام أو ثلاثمائة، ساكن الأوصال في أتم الهدوء، يمد لسانه مدة السخرية، ويبتسم لجبريل جرب ابتسامة لا يتواتى مثلها إلا لعفريت.
وقال العفريت: «لم يكن رجع الصدى.»
وكأنما أصاب الفالج ذلك اللحاد، فوقف لا يحير جوابا.
وقال العفريت عابسا: «ماذا تفعل هنا في ليلة عيد الميلاد؟»
وقال جبريل جرب بصوت متلعثم: «جئت أحفر قبرا يا سيدي.»
وصاح العفريت به: «أي إنسان هذا الذي يهيم بين القبور والأجداث في ليلة كهذه؟»
وإذا أصوات موحشة ترتفع صائحة: «جبريل جرب! جبريل جرب!» حتى ملأ عزيفها جوانب المقبرة كلها، ووقف جبريل يتلفت من خيفة حوله، ولكنه لم يبصر شيئا!
وقال العفريت: «وأي شراب تحوي هذه الزجاجة؟»
وأجاب سادن الكنيسة وهو أشد ارتجافا من قبل: «إنه شراب الهولاندز يا سيدي.»
وكان اشتداد رعبه لأنه اشترى ذلك الشراب من المهربين فخشي أن يكون هذا السائل من موظفي الجمارك في دنيا العفاريت!
وقال العفريت: «ومن هذا الذي يشرب الهولاندز وحده، ويعاقره في مقبرة، ويتعاطاه في ليلة كهذه؟»
وعادت الأصوات تتصايح: «جبريل جرب! جبريل جرب!»
ونظر العفريت نظرة خبث إلى السادن المروع، ثم رفع صوته قائلا: «ومن هو إذن غنيمتنا العادلة؟»
وعن هذا السؤال انبعثت الأصوات الخفية تجيب: «جبريل جرب! جبريل جرب!» كأنها فرقة من المنشدين يغنون على أنغام الأرغن في صحن الكنيسة لحنا خيل إليه أن ريحا هوجاء قد حملته إلى أذنيه، ثم تلاشت، وهي في طريقها عابرة.
وابتسم العفريت ابتسامة أعرض من الأولى وهو يقول: «ما قولك في هذا يا جبريل؟»
ولهث اللحاد مختنق الأنفاس.
وعاد العفريت يقول: «ما رأيك في هذا جبريل؟» وراح يركل الهواء بقدميه على جانبي الجندل، وينظر إلى الأطراف المحددة من نعليه راضيا مغتبطا، كأنه يتأمل أحدث طراز من أحذية الولنجتون في حوانيت شارع بوند.
وأجاب السادن وهو يكاد يموت رعبا: «إن هذا لغريب جدا يا سيدي، وجميل جدا، ولكني أظن أنه يحسن بي أن أعود إلى العمل لكي أتمه، من فضلك يا سيدي.»
وقال العفريت: «إلى العمل؟ أي عمل؟!»
وتلعثم اللحاد قائلا: «القبر يا سيدي، تمهيد القبر.»
وقال العفريت: «أوه! القبر! ولكن من الذي يصنع القبور في وقت يفرح فيه الناس جميعا ويلهون، ويجد في حفرها لذة وسرورا؟»
وعندئذ ارتفعت تلك الأصوات المجهولة صائحة: «جبريل جرب. جبريل جرب.»
وقال العفريت، وهو يمد لسانه ساخرا أكثر من قبل - ويا له من لسان متناهي العجب: «أخشى أن يكون أصحابي يريدونك يا جبريل.»
وأجاب السادن المفزوع المروع: «بعد إذنكم يا سيدي، لا أظنهم يستطيعون يا سيدي؛ لأنهم لا يعرفونني، ولا أحسب هؤلاء السادات قد رأوني في حياتهم يا سيدي.»
وقال العفريت: «أوه، بل لقد رأوك، إننا نعرف الرجل الكاشر العابث المزمجر الذي جاء يجتاز الطريق العام في هذه الليلة، وهو ينظر نظرات سوء وشر إلى الصبيان والولدان، ويشدد قبضة يده على فأسه الذي يحفر القبور به للموتى الذاهبين. إننا نعرف الرجل الذي ضرب الغلام، والحقد منه يأكل قلبه، لا لذنب جناه غير شعوره بالفرح، وهو لا يشعر بشيء منه، إننا نعرفه، إننا نعرفه.»
وأرسل العفريت عندئذ ضحكة عالية صافرة رددتها الأصدية عشرين ضعفا، وراح يلقي بساقيه في الهواء، ويقف فوق هامته، أو بعبارة أصح، على طرف قبعته العريضة الحاشية كأنها بلاطة سكر، وفوق حافة الجندل الضيقة، وانطلق في انقلابة عجيبة، متناهية في خفة الحركة، ثم هوى منها عند قدمي اللحاد فاستقر متخذا ذلك الموضع الذي يتخذه معاشر الحائكين عامة فوق دكة الحانوت.
وقال السادن، وهو يحاول أن يتحرك من مكانه: «أخشى يا سيدي أن أكون مضطرا إلى تركك.»
وقال العفريت: «آه! هذا شراب مدفئ حقا، هاتوا منه ها! ها! ها!»
وفيما كان العفريت مسترسلا في هذا الضحك، لمح السادن ضياء باهرا ينبعث لحظة واحدة من نوافذ الكنيسة كأن البناء كله قد أضاء، ثم توارى ذلك الضوء، وطرق سمعه أنغام من الأرغن، وإذا صفوف من العفاريت تشبه جميعا هذا العفريت الذي رآه أول مرة، وهي تتدفق على الفناء، وتلعب لعبة «الضفادع القافزة» مع جنادل القبور وأحجارها، لا تقف لحظة حتى تتمالك أنفاسها، بل «قافزة» فوق ظهور أشدها طولا واحدا بعد الآخر ببراعة متناهية.
وكان العفريت الأول أعجب قافز، ولم يكن أحد من العفاريت الآخرين يجرؤ على الدنو منه، واستطاع اللحاد على فرط ما استولى عليه من الرعب والرهبة أن يتبين أن العفاريت الآخرين لبثوا قانعين بالقفز فوق القبور العامة المألوفة الأحجام، بينما ذهب العفريت الأول يقفز فوق القبور الوجيهة ذات القبقاب، وفوق السقوف الحديدية، وغيرها بكل سهولة، كأنها أعمدة المصابيح في الشوارع العامة.
وأخيرا بلغت هذه اللعبة ذروة الحماسة، وأخذ الأرغن يسرع في عزفه، وتتعالى أنغامه، والعفاريت مقبلة ترقص أشد من قبل وتقفز وتنقلب رءوسا على الأعقاب فوق أديم الأرض، ثم تثب فوق جنادل القبور كالكرات، فكان عقل اللحاد يدور معها في مثل سرعة حركاتها، وساقاه ترعشان من تحته، كلما رأى الأرواح تطير أمام عينيه، وإذا الملك العفريت يندفع فجأة نحوه ويلقي يده على طوق رقبته، ثم يهبط به إلى أعماق الأرض.
وعندما وجد جبريل جرب فسحة من الوقت ليسترد أنفاسه التي ذهبت بها هبطته السريعة، تبين له أنه في مكان أشبه بكهف رحيب تحيط به من كل جانب جموع من العفاريت قباح الخلقة رهيبي السمات، ورأى في بهرة القاعة، على منصة مرتفعة، صديقه الذي شهده في فناء المقبرة، وقد وقف هو نفسه بجانبه لا يعير حراكا.
وقال ملك العفاريت: «البرد شديد الليلة، آتونا بكأس من شراب دفئ.»
وما إن صدر هذا الأمر، حتى انبرى ستة من العفاريت لا يفتر الابتسام عن وجوههم، وقد بدا لخاطر جبريل أنهم رجال بلاط ذلك الملك، فانصرفوا مسرعين، ثم ما لبثوا أن عادوا بقدح كبير يحوي شرابا كالنار فتقدموا به إلى الملك.
وقال العفريت: «آه! هذا شراب مدفئ حقا، هاتوا زجاجة للمستر جرب.»
وكان خداه ونحره شفافين حين تناول الكأس فألقى بذلك اللهب في جوفه.
وقد حاول السادن التعس عبثا أن يحتج بأنه ليس من عادته أن يتناول شيئا دفئا في الليل؛ فقد تقدم منه عفريت فأمسك به، بينما مضى آخر يسكب الشراب الناري الملتهب في حلقه، ووقف العفاريت الآخرون يضحكون منه وهو يسعل ويختنق ويكفكف الدموع الغزار التي فاضت من عينيه على أثر ابتلاع ذلك الشراب المحرق.
وقال الملك وهو يحرك بشكل غريب ركن قبعته العريضة الحاشية في عين السادن، ويحدث له بتلك الحركة أشد الألم: «والآن، أروا هذا الرجل أخا البؤس والعبوس والوجوم بعض الصور التي في مستودعنا الكبير.»
وما كاد العفريت يقول ذلك حتى انجابت سحابة كثيفة كانت تحجب الركن القصي من الكهف، فكشفت شيئا فشيئا - على مسافة بعيدة - عن غرفة صغيرة قليلة الأثاث، ولكنها نظيفة منسقة، وإذا مشهد جمع من الولدان قد احتشدوا حول نار وهاجة، متعلقين بثياب أمهاتهم، راقصين طافرين حول كرسيها، وكانت الأم تقوم من مجلسها بين لحظة وأخرى وتزيح الستار عن النافذة، كأنما ترتقب شيئا معينا، وكان على المائدة طعام يسير مهيأ للآكلين، وبجانب النار مقعد ذو مساند، وارتفع عندئذ دق الباب، فتقدمت الأم ففتحته، والولدان من حولها محيطون، وهم يصفقون فرحا، حين رأوا أباهم عليهم مقبلا، وهو مبلل الثياب، بادي اللغوب، ينفض الثلج عن ردائه، والولدان حوله يمسكون بقبائه، وقبعته، وعصاه وقفازه، بحماسة بالغة، وما إن جلس إلى طعامه قبالة النار، حتى تقدم الأولاد فتسلقوا ركبتيه، بينما جلست الأم بجانبه وقد غمرتهم جميعا السعادة، وسادهم الرغد.
ولكن لم يلبث هذا المشهد أن تغير، بشكل لا يكاد يحس، فإذا هو يتحول إلى مخدع صغير، حيث كان أجمل طفل فيهم وأصغرهم سنا قد رقد في سكرات الموت محضورا، ذهبت حمرة الورد من خديه، وضياء البصر من عينيه، وإذا هو يلفظ النفس الأخير، في اللحظة ذاتها التي راح اللحاد ينظر فيها إليه، باهتمام لم يشعر بمثله في يوم من الأيام ولا عرف كنهه مرة في حياته، وإذا إخوته وأخواته الصغار يزدحمون حول فراشه الصغير، ويمسكون بيده الدقيقة، المتبردة، المتراخية، ولكنهم يتراجعون منزوين من لمستها، ناظرين إلى وجهه المستدق نظرات رهبة وخوف؛ فقد أدركوا أنه قد مات، وإن كان يبدو هادئا ساكنا كعهدهم به، ويلوح نائما في سلام نومة الطفل الجميل، وعرفوا أنه ملك من السماء المليئة بالنور والسعادة والنعيم، يطل عليهم، ويحفهم ببركته.
وعادت السحابة الكثيفة تتلاشى رويدا، وتكشف عن صورة أخرى، صورة بدا فيها الأبوان وقد أدركهما الكبر، وأصبحا عاجزين لا حول لهما ولا قوة، وقد نقص عدد الذين يحيطون بهما إلى أكثر من النصف وإن تجلى الرضى والبشر على كل وجه، وبرقا في كل عين، وهم حاشدون حول الموقدة، يسمعون أو يقصون قصصا قديمة عن أيامهم الخالية، وما لبث الأب أن توارى في قبره، وتبعته شريكته في جملة همومه، وسائر متاعبه، وجاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، وهم قليل، فجثوا عند قبرهما، ورووا العشب الأخضر الذي يكسوه بدموعهم، ثم نهضوا منصرفين في حزن وأسى، لا في ولولة مريرة، ولا إعوال يائس؛ لأنهم عرفوا أنهم سيلتقون بهما في يوم من الأيام، وانطلقوا في غمار هذا العالم الصاخب مستعيدين قناعتهم، مستردين رضاهم وهناءتهم وبشرهم، ولم تلبث السحابة أن استقرت على الصورة لتحجبها عن عين اللحاد.
وقال العفريت وهو يدير وجهه العريض إليه: «ما رأيك في هذا؟»
فغمغم جبريل شيئا يوحي بأنه يريد أن يقول إنه جميل، وقد بدا خجلان مستحييا، حين رأى العفريت يرقد بعينيه المتقدتين.
ومضى العفريت يقول في لهجة احتقار شديد: «أيها الإنسان التعس، أنت يا هذا!» وبدا أنه يريد أن يزيد، ولكن الغضب الشديد خنق صوته فلم ينطق بل رفع إحدى ساقيه اللدنتين، فوق رأس السادن قليلا؛ ليستوثق من تسديدها، وراح يركله ركلة قوية متقنة، ولم يلبث العفاريت جميعا على أثرها أن أحاطوا به ومضوا يركلونه ركلا، بلا رحمة، كما يفعل عادة رجال بلاط الملوك في هذه الأرض، يركلون من يركله الملوك، ويعانقون من يعانقونهم.
وقال الملك لأتباعه: «أروه مزيدا.»
وانجابت السحابة مرة أخرى، كاشفة عن مشهد أرض جميلة، لا يزال مثلها إلى اليوم، على مبعدة نصف ميل من كنيسة تلك القرية القديمة، وإذا الشمس في كبد السماء الصافية الزرقاء الأديم ساطعة، والماء على ضيائها متلألئ الصفحة، والشجر يلوح أكثر نضرة، والأزاهر أوفر جمالا، من أشعتها المحيية الباهرة، وخرير الجداول عذب الوقع في السمع، وللشجر حفيف رفيق على هبة الأنسام التي راحت تغمغم بين الأوراق والأفنان، والطير شادية فوق الأغصان، والقنبرة ترسل من أجواز الفضاء تحية الصباح. إي والله، لقد كان يوم صبح يوم صيف ساطع الأنوار، عباق الشذى، تدب الحياة منه في كل عود، وتتجلى على كل فنن، والنمل متسلل إلى جهد يومه، والفراشة ترفرف بجناحيها وتستدفئ بأشعة الشمس الضاحية، وملايين الحشرات تنشر أجنحتها الشفافة، وتمرح بحياتها الهنية على قصر آجالها، والإنسان يمشي في مناكبها، متألق النفس من جمال مشاهدها، والسعادة والروعة غامرتان لكل مكان.
وعاد ملك العفاريت يقول بلهجة احتقار أشد من الأولى: «إنك لإنسان حقير!» وطوح بساقه في الفضاء وأهوى بها فوق كتفيه، واحتذى الأتباع حذوه.
وطفقت السحابة تنجاب وتنكشف، وتعددت الدروس التي لقنت لجبريل جرب وتوالت، وكانت كتفاه في ألم شديد من توالي أقدام العفاريت، ولكنه مع ذلك ينظر مشدوها مشوقا إلى مزيد، وما عتم أن رأى الناس دائبين على العمل، قانعين بالخبز القليل الذي يكسبونه من الجد والكد، سعداء فرحين، وبدا له أن وجه الطبيعة الجميل العذب البديع كان لأشدهم جهالة مصدرا لمرح لا ينضب، وفرح لا ينفد معينه، ووجد الذين قلت تغذيتهم، ورقت حالهم، فرحين مع الحرمان، متغلبين على صنوف من الآلام كانت أدعى إلى أن تهد قوى أناس أشد منهم بأسا، وأصلب منهم عيدانا، لا لشيء سوى أن صدورهم ملأى بكل مطالب السعادة والقناعة والرضا بالحياة، ورأى النساء - وهن أرق مخلوقات الله كلها كيانا، وأهشها وأضعفها بنيانا - أسمى ما يكن في الغالب صبرا على الحزن، وأقوى ما يكن على احتمال المحن وملاقاة الخطوب؛ لأن في أعماق أفئدتهن ينابيع ثجاجة من الحب والتفاني والإيثار، وفوق هذا وذاك لقد تبين أن أمثاله الذين ينظرون نظر الحقد إلى مرح الآخرين، هم أخبث الأعشاب على وجه الأرض، وانتهى به التفكير في خير الحياة وشرها، إلى القطع بأن حياتنا الدنيا هي بعد ذلك كله حياة طيبة تستحق الرضا بها، وتقتضي منا احترامها وإكبار شأنها، ولكنه ما كاد يخلص إلى هذا الرأي، حتى خيل إليه أن تلك السحابة التي أطبقت على المشهد الأخير، ترامت إليه فاستقرت على مشاعره، وأسلمته إلى نوم عميق، وأخذ العفاريت يتوارون واحدا بعد واحد من عينيه، وأنه ما كاد آخر عفريت منهم يختفي عن ناظره، حتى هبط في سبات شديد.
وكان النهار قد طلع حين صحا جبريل جرب من نومه فوجد نفسه مستلقيا على حجارة القبر في فناء المقبرة والزجاجة فارغة بجانبه، ورداءه وفأسه ومصباحه قد ارتدت بيضاء من جليد الليلة الماضية المتناثر فوق أديم الثرى حوله، ورأى الحجر الذي كان العفريت الأول يقتعده، قائما على حاله كما كان من قبل، واللحد الذي كان يعمل على إعداده، لا يزال في موضعه غير بعيد منه، فبدأ يشك في حقيقة ما وقع له، ولكن حدة الألم الذي كان يشعر به في كتفيه، حين هم بالنهوض من موضعه، أكدت له أن ركل العفاريت لم يكن في الحق من نسج الخيال ولكنه عاد يستريب ويتشكك حين لم ير آثارا لمواقع أقدام على الجليد الذي كان العفاريت يلعبون فوقه لعبة «الضفادع القافزة»، وإذا هو لا يلبث أن يرد السبب إلى ما تذكره وسمع من قبل به، وهو أن العفاريت «أرواح، لا تترك آثارا ظاهرة خلفها».
وكذلك استوى جبريل على ساقيه قدر استطاعته؛ لما كان يحسه من الألم في ظهره، ونثر الثلوج المتراكمة عن ردائه، فلبسه، وولى وجهه شطر القرية .
ولكنه عاد خلقا جديدا، وإنسانا آخر لا صلة له بماضيه، ولم يطق فكرة العودة إلى موضع لا تقابل فيه ندامته إلا بالسخرية، ولا صلاح أمره إلا بالتكذيب، فوقف بضع لحظات مترددا، ثم انطلق هائما على وجهه، ويلتمس خبزه أينما وجد إليه سبيلا.
وعثر الناس في ذلك اليوم بالمصباح والفأس والزجاجة في فناء المقبرة، وتضاربت الآراء كثيرا فيما عسى أن يكون قد جرى لذلك السادن، ولكن لم يلبث القوم أن قطعوا بأن العفاريت اختطفوه اختطافا، ولم يعدموا خلقا منهم تقدموا للشهادة بأنهم رأوه رأي العين وهو مارق في أجواز الفضاء فوق صهوة حصان أعور كستنائي اللون، قائمتاه الخلفيتان ساقا ليث، وذيله ذنب دب، فصدقوا الرواية في النهاية، وآمنوا بها إيمانا، واعتاد السادن الجديد أن يعرض على الفضوليين لقاء أجر زهيد قطعة كبيرة من دوارة الرياح، قال: إن الحصان أطارها عرضا من مكانها بركلة من قدمه، وهو طائر في الفضاء، فالتقطها من أرض المقبرة بعد عام أو عامين من ذلك الحادث.
وللأسف لم تلبث هذه الأقاصيص أن اضطربت قليلا بعودة جبريل جرب نفسه إلى الظهور، بعد أن ذهب أمره نسيا منسيا، عقب انفراط عشر سنين، عاد شيخا مهلهلا قانعا يشكو النقرس، فقص ما جرى له للقسيس، وللعمدة أيضا، ولكن القصة بدأت على مر الزمان تروى للتاريخ في تلك الصورة ذاتها التي ظلت تتردد إلى يومنا هذا، وأما المؤمنون بقصة «دوارة الرياح، التي أطارها الحصان من مكانها؛ فقد خالجهم الشك مرة في صحتها، ولكن تبين أنه لم يكن من السهل إقناعهم بالعدول عن شكهم، فراحوا يتراءون عقلاء ما استطاعوا، ويهزون أكتافهم، ويتحسسون بأيديهم جباههم، ويغمغمون بكلام يوحي بأن جبريل جرب شرب الزجاجة كلها، فاستولى النوم عليه فوق الحجر، ومضوا يعللون روايته لمشهد العفاريت في الكهف بقولهم: إنه رأى الدنيا وخبرها، وعرف خيرها وشرها. فاستقام، ورجع عما كان منه في ماضيه، ولكن هذا الرأي لم يجد يوما مصدقين له أو مؤيدين، فلم تلبث الأصوات أن طوته. ومهما يكن من الأمر، فقد ظل جبريل جرب يشكو النقرس إلى نهاية أيامه، وبقيت هذه القصة منطوية على مغزى واحد، إن لم تكن فيها عبرة أبلغ، ودرس أصلح دلالة، وهذا المغزى هو أنه إذا بدا امرؤ في عيد الميلاد عبوسا متجهما، منفردا عن الناس بشرابه، فليعلم أي منقلب سينقلب، مهما كانت الأرواح صالحة طيبة، أو كانت أبعد كثيرا من قيام الدليل على ظهورها، كتلك التي شاهدها جبريل جرب في كهف العفاريت.
الفصل الثلاثون
كيف تم التعارف بين البكوكيين وبين شابين ينتميان إلى إحدى المهن الحرة وتوثق رباط المعرفة بينهما؟ وكيف سلكوا في رياضة الانزلاق على الجليد؟ وكيف انتهت زيارتهما الأولى؟ ***
وقال المستر بكوك لخادمه ذي الحظوة لديه حين دخل عليه حجرة نومه بالماء الدفئ في صباح يوم عيد الميلاد: «إيه يا سام؟ ألا يزال الجو صقيعا؟»
وأجاب سام قائلا: «إن الماء في الحوض المعد لغسل اليدين مغطى فاستحال لكتلة من الجليد يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «إنه لجو قاس يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «بديع لمن يحسنون التوقي منه بسميك الثياب، كما قال دب القطب لنفسه وهو يتدرب على الانزلاق.»
وقال المستر بكوك وهو يفك خيط طاقية النوم: «سأنزل بعد ربع ساعة يا سام.»
وأجاب سام: «حسن جدا يا سيدي، إن في الطبقة الدنيا من البيت منشاري عظام.»
وقال المستر بكوك، وهو يستوي جالسا في فراشه: «منشاري ماذا؟!»
وأجاب سام: «منشاري عظام.»
وسأله المستر بكوك وهو غير واثق هل تراه يعني حيوانا حيا أو شيئا يؤكل: «وما هو منشار العظام؟»
وقال المستر ولر: «ماذا أسمع؟ ألا تعرف منشار العظام يا سيدي؟ لقد كنت أظن أن كل إنسان يعرف أن منشار العظام هو الجراح.»
وابتسم المستر بكوك وقال: «إنه الجراح؟»
وقال سام: «إنه هو، وإن كان الشابان اللذان يجلسان في الطابق الأول ليسا منشارين منتظمين مستكملين؛ لأنهما لا يزالان تحت التمرين.»
وقال المستر بكوك: «أو بعبارة أخرى: إنهما طالبا طب، أظن أن هذا هو ما تقصد؟»
فأومأ المستر ولر إيماءة الإيجاب.
ومضى المستر بكوك يقول، وهو يلقي بطاقيته بقوة فوق ملاءة الفرش: «إن هذا ليسرني؛ فإن طلبة الطب قوم ظرفاء للغاية، ولهم أحكام وآراء في الأمور ناضجة بفضل الملاحظة وطول الأناة والتفكير، كما أن لهم أذواقا صقلتها القراءة، وهذبتها الدراسة ... إني لفي غاية السرور.»
وقال سام: «إنهما يدخنان لفافات كبيرة بجانب موقدة المطبخ.»
وقال المستر بكوك، وهو يفرك يديه: «آه إنهما ليفيضان رقة وحيوية، وهو ما أحب أن أشهده بعيني.»
وانطلق سام يقول دون أن يلاحظ مقاطعة سيده: «وقد جلس أحدهما واضعا ساقيه فوق المائدة وراح يشرب البراندي صرفا، بينما تناول الآخر المشغول بالمحار برميلا من القواقع البحرية الحية بين ركبتيه وجعل يفتحها بسرعة البخار، أو بالسرعة ذاتها التي يأكلها بها، ويقذف بالمحارات على الغلام السمين الذي يغط في النوم في ركن المطبخ.
وقال المستر بكوك: «هذا شذوذ العبقرية يا سام، لك أن تنصرف.»
وانصرف سام كما أمر، وبعد ربع ساعة نزل المستر بكوك لتناول طعام الفطور.
وصاح المستر واردل قائلا: «ها هو ذا أخيرا! يا مستر بكوك أعرفك بالمستر بنجمن ألن، شقيق مس ألن، ونحن ندعوه «بن»، ولك أن تدعوه كذلك إذا شئت، أما هذا السيد فهو صديقه المستر ...»
وعاجله المستر بنجمن ألن قائلا: «المستر بب سوير.»
وضحك المستر بب سوير والمستر بنجمن ألن في نفس واحد.
وانحنى المستر بكوك لبب سوير، وانحنى بب سوير للمستر بكوك، وانصرف بب وصديقه الحميم بعد ذلك إلى الهجوم على الأطعمة المصفوفة أمامهما في حماسة بالغة، وتواتى للمستر بكوك إلقاء نظرة عاجلة عليهما معا.
وكان المستر بنجمن ألن شابا عبلا ضخما مفتولا ذا شعر أسود قصير إلى حد ما، ووجه أبيض طويل نوعا، وقد تجمل بمنظار، ومنديل رقبة ناصع اللون، وقد بدت من تحت ردائه الأسود المسبغ المزرر إلى ذقنه ساقاه الشبيهتان بلون الفلفل الخليط بالملح، والمنتهيتان بحذاء منطفئ البريق يعوزه الصقل واللمعان.
وكانت سترته قصيرة الردنين، ولكنهما على قصرهما لا يكشفان عن أثر لكم قميص، وكان وجهه من الحجم بحيث لا يضيق عن توافر طوق للقميص ولكنه لم يتجمل بأقل شيء يمكن أن يشبه هذه الزائدة، وإن بدت بزته في الجملة عفنة الرائحة من طول العهد، ودبيب البلى، ويعبق منه شذى التبغ من فرط تدخينه.
وأما المستر بب سوير فقد كان مرتديا سترة خشنة، زرقاء اللون، لا هي بالمعطف، ولا بالرداء المسبغ، ولكنها تشترك في طبيعتيهما، وصفاتهما معا، كما تلوح عليه «الرشاقة» المرسلة بغير عناية، ولا احتفال بالهندام، وتبدو على مشيته التهادي من الخيلاء، وهو نزوع يغلب على الفتيان الذين يدخنون في الشوارع نهارا، ويصرخون ويصيحون فيها ليلا، وينادون غلمان «المشارب» بأسمائهم الأولى، بغير كلفة، ويأتون أفعالا وحركات مماثلة من التبذل والمجانة، وكان يرتدي سراويل مخططة، وصدارا رحيبا ذا شقين، وإذا خرج إلى الطريق حمل عصا غليظة ذات رأس كبير، ويلبس قفازا، ويبدو في الجملة مخلوقا يشبه بوجه عام ربنصن كروزو فاجرا.
كذلك كان هذان الشابان اللذان قدم المستر بكوك إليهما للتعارف، عندما اتخذ مجلسه إلى مائدة الفطور في صبيحة يوم عيد الميلاد.
وقال المستر بكوك: «صباح رائع أيها السادة.»
وأومأ المستر بب سوير إيماءة خفيفة بالموافقة وطلب إلى المستر بنجمن ألن، أن يقرب منه وعاء الخردل.
وانبرى المستر بكوك يسألهما: «هل جئتما في هذا الصباح من مكان بعيد أيها السيدان؟»
وأجاب المستر ألن بإيجاز: «من فندق الأسد الأزرق في ماجلتون.»
وقال المستر بكوك: «كان أولى لكما أن تكونا معنا الليلة البارحة.»
وأجاب بب سوير قائلا: «كان يصح، ولكن البراندي كان من فرط الجودة بحيث لا ينبغي أن نتركه في عجلة، ألم يكن كذلك يا بن؟»
وقال المستر بنجمن ألن: «بلا شك، واللفافات الكبيرة لم تكن رديئة، وشرائح الخنزير أيضا، أليس كذلك يا بب؟»
وأجاب بب: «لم تكن رديئة دون شك.»
وعاد الصديقان الحميمان يهجمان على الفطور أشد فتكا من قبل، كأن ذكرى عشاء الليلة الماضية قد أضفت على طعام الصبح شهية جديدة.
وقال المستر ألن لصاحبه مشجعا: «امض في الأكل يا بب.»
وأجاب هذا قائلا: «هأنذا.»
وفي الحق كان كذلك، وانثنى يقول وهو يرسل عينيه حول المائدة: «لا شيء أفتح للشهية من التشريح.»
وشعر المستر بكوك من هذا القول برعدة خفيفة.
وقال المستر ألن: «والشيء بالشيء يذكر يا بب، هل انتهيت من تلك الساق؟»
قال: «كدت ... إنها ساق مفتولة العضلات لا يكون مثلها لطفل.»
وراح يلتهم نصف دجاجة وهو منطلق في حديثه.
وسأله المستر ألن بغير اكتراث: «أهي حقا كذلك؟»
قال وفمه بالطعام ممتلئ: «جدا.»
وعاد المستر ألن يقول لصاحبه: «لقد كتبت اسمي طالبا ذراعا ترسل إلينا في مسكننا، ونحن جميعا باحثون عن موضوع ندرسه، أو مادة نتناولها بالبحث، حتى كادت قائمة الأسماء تمتلئ، ولكننا لا نستطيع أن نهتدي إلى أحد يريد رأسا، أود لو أنك أخذت هذا الموضوع لنفسك.»
وأجاب بب سوير قائلا: «كلا، لا أملك الإنفاق على الكماليات الكثيرة النفقة.»
وقال ألن: «هراء.»
وعاد بب سوير يقول: «لا أملك فعلا، لا بأس عندي من أخذ المخ أما الرأس كله فليس في إمكاني أن أكفل نفقاته.»
وقال المستر بكوك: «صه، صه، أيها السيدان، إني أسمع وقع أقدام السيدات وهن يقتربن منا.»
وبينما كان المستر بكوك يقول ذلك عادت السيدات في حراسة السادة سنودجراس وونكل وطبمن من نزهة باكرة.
وقالت أرابلا بلهجة أقرب إلى الدهشة منها إلى السرور برؤية أخيها: «أأنت هنا يا بن؟!»
وأجاب بنجمن: «لقد جئت لأعود بك غدا إلى البيت.»
وارتد وجه ونكل شاحبا.
وقال المستر بنجمن ألن لأخته في لهجة قريبة من العتاب: «ألا ترين بب سوير يا أرابلا؟»
فمدت أرابلا برقة بالغة يدها إلى بب سوير؛ إقرارا بوجوده، ولم يلبث قلب المستر ونكل أن أحس رعشة الكراهية، حين رأى بب سوير يضغط اليد المبسوطة إليه ضغطة ظاهرة.
وقالت أرابلا وقد احمر وجهها حياء: «يا عزيزي بن هل عرفوك بالمستر ونكل؟»
وأجابها شقيقها بلهجة الجد: «لم يعرفوني به، ولكني سأكون في غاية السعادة إذا تعارفنا يا أرابلا.»
وهنا انحنى المستر ألن للمستر ونكل، بينما راح المستر ونكل والمستر بب سوير ينظران نظرة ريبة متبادلة من طرفي عينيهما.
وكان من شأن مقدم هذين الزائرين الجديدين، وما أحدثه من رد فعل للمستر ونكل والشابة ذات الفراء المركب فوق حذائها، أن يكونا بلا ريب عائقا غير سار يحول دون مرح القوم وابتهاجهم لولا لطف المستر بكوك وإيناسه، ولولا مجانة رب الدار ودعابته، وإقبالهما بكليتهما على المجون لإمتاع القوم وإدخال السرور على نفوسهم، وما لبث المستر ونكل أن سكن رويدا إلى تحيات المستر بنجمن ألن وتلطفاته بل إنه راح يشترك في حديث ودي مع المستر بب سوير، وكان هذا من أثر البراندي ومتعة الفطور، ولذة الحديث، قد أوغل في المرح، وتناهى في المجانة، ومضى بفرح شديد يقص حكاية لطيفة تتصل بعملية إزالة خراج من رأس أحد الناس، وجعل يصوره للجمع بمحارة وكسرة من رغيف، وسر الجمع من ذلك سرورا كبيرا.
وخرج القوم جميعا بعد ذلك ليذهبوا إلى الكنيسة؛ حيث لم يلبث المستر بنجمن ألن أن استولى عليه النعاس وانثنى المستر بب سوير يجرد نفسه من التفكير في أمور الدنيا ومشاغلها، من طريق نقش اسمه بمطواة على المقعد الذي اتخذه في صحن الكنيسة بأحرف ضخمة لا تقل عن أربع بوصات طولا.
وانبرى المستر واردل يقول، عقب غداء دسم واحتساء قدر وفير من الجعة القوية والبراندي المصنوع من الكرز: «والآن ما قولكم في قضاء ساعة فوق الجليد؟ إن أمامنا فسحة كبيرة من الوقت.»
وقال المستر بنجمن ألن: «فكرة بديعة.»
وصاح المستر بب سوير: «من الطراز الأول.»
وقال المستر واردل: «إنك تحسن الانزلاق بالطبع يا ونكل؟»
وأجاب المستر ونكل مضطربا: «أي نعم! أي نعم، ولكني تركت التمرين من وقت طويل.»
وقالت أرابلا: «بالله يا مستر ونكل انزلق! إنني أحب كثيرا أن أراك تنزلق.»
وقالت شابة أخرى: «إنه لمشهد جميل جدا.»
وقالت ثالثة: «إنه لبديع.» وقالت رابعة: «إنه لأشبه بسبح البجع.»
وقال المستر ونكل، وقد احمر وجهه: «يسعدني الانزلاق بلا شك، ولكن ليس عندي قبقاب.»
ولكن هذا الاعتراض أزيل في الحال؛ فقد كان تراندل يملك قبقابا إضافيا، وقال الغلام البدين: إن لديهم في المخزن ستة أو نحوها من القباقيب، فلم يسع المستر ونكل إلا أن يبدي أشد السرور، وإن بدا عليه أشد الارتباك.
وانطلق الشيخ واردل يهم، وهو في الطليعة، إلى صفحة رحيبة من الجليد، وشرع الغلام البدين والمستر ولر يجرفان الثلج الذي تساقط عليهما الليلة الماضية، وأقبل المستر بب سوير على لبس قبقابه ببراعة بدت لعين المستر ونكل عجيبة كل العجب، بينما انثنى بب يرسم دوائر بساقه اليسرى وينقش أرقاما تشبه الثمانية على صفحة الجليد، دون أن يقف لحظة ليتمالك أنفاسه، ويؤدي عدة ألعاب وحركات أخرى بديعة طريفة، لقيت ارتياحا متناهيا من المستر بكوك والمستر طبمن والسيدات، وهو ارتياح بلغ ذروة الحماسة، حين راح الشيخ واردل، وبنجامين ألن، بمعاونة بب، يؤديان معه بعض الألعاب الغريبة، والتشكيلات المبتكرة، التي يسمونها اللف والدوران.
وكان المستر ونكل طيلة ذلك الوقت، وقد ارتد وجهه ويداه مزرقة من البرد، يحاول جاهدا إدخال مثقب في مشطي رجليه، ولبس القبقاب مقلوبا، وجعل الأربطة في حالة تعقد واشتباك شديدين، وذلك بمساعدة المستر سنودجراس، وهو أجهل بالقباقيب من الهندي نفسه، وأخيرا، وبعد معاونة المستر ولر، تيسر للقبقاب السيئ الحظ أن يثبت في مكانه ويتم ربطه وعندئذ رفع المستر ونكل من موضعه ليقف بالمزلاق على قدميه.
وقال سام مشجعا: «والآن هيا يا سيدي انطلق لتريهم براعتك.»
وصاح المستر ونكل وهو يرتعش بشدة ويمسك بذراعي سام إمساكة الغريق: «قف يا سام، قف! إنه لمنزلق خطر يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «هذا شيء مألوف على الجليد يا سيدي، تماسك يا سيدي واثبت.»
وكانت هذه الملاحظة الأخيرة التي أبداها المستر ولر تشير إلى حركة بدت في تلك اللحظة من المستر ونكل، توحي برغبة جنونية في رفع قدميه في الفضاء وضرب رأسه فوق الجليد.
وقال المستر ونكل وهو يترنح ولا يكاد يستوي على ساقيه: «هذه قباقيب سمجة، أليست كذلك يا سام؟»
وأجاب سام قائلا: «أخشى يا سيدي أن يكون السمج هو السيد الذي يقف عليها.»
وهنا صاح المستر بكوك وهو لا يدري أن هناك حرجا: «والآن يا ونكل، هيا، إن السيدات جميعا في لهفة بالغة وصبر نافد .»
وقال المستر ونكل بابتسامة مروعة: «نعم، نعم، أنا قادم.»
وانثنى سام يقول وهو يحاول أن يتخلص من إمساكته به: «إنه سيبدأ اللحظة، والآن، هيا يا سيدي، انطلق.»
وقال المستر ونكل في جزع وهو يتشبث بالمستر ولر ويحتضنه احتضانة المتوسل المشتاق: «قف لحظة يا سام، لقد تذكرت أن لدي في البيت سترتين لست بحاجة إليهما، فلتكونا لك يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «شكرا لك يا سيدي.»
وقال المستر ونكل في عجلة: «لا داعي لرفع يدك إلى قبعتك يا سام، حتى لا تنتزعها مني، لقد كنت أريد في هذا الصباح أن أنفحك بخمسة شلنات بمناسبة العيد، ولكني سأقدمها إليك في الأصيل يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «إنك كريم جدا يا سيدي.»
قال: «أمسك بي أولا يا سام، أرجوك، أي نعم، هكذا، وسأعتاد الوقوف قريبا، لا تسرع هكذا يا سام، رفقا، رفقا.»
وانحنى المستر ونكل إلى الأمام، تاركا جسمه في نصف قوس، بينما مضى المستر ولر يعاونه على الانزلاق بشكل غريب أبعد ما يكون عن سبح البجع، وإذا المستر بكوك، وهو خالي الذهن تماما، يصيح من العدوة المقابلة: «يا سام؟»
وأجاب هذا قائلا: «نعم يا سيدي.»
قال: «تعال هنا، إني بحاجة إليك.»
وقال سام للمستر ونكل: «اتركني يا سيدي، ألا تسمع السيد يناديني؟ اتركني من فضلك.»
وانثنى المستر ولر بجذبة شديدة يتخلص من هذا البكوكي المعذب، فكانت تلك الجذبة بمثابة دافع شديد للمستر ونكل المسكين، فانطلق هذا السيد السيئ الحظ، بدقة لا تكفلها البراعة بأي شكل من أشكالها، ولا المرانة في أية صورة من صورها، إلى وسط الحلقة، في اللحظة ذاتها التي كان المستر بب سوير فيها يؤدي حركة جميلة بارعة لا مثيل لها، فاصطدم به صدمة عنيفة فسقطا معا سقطة شديدة ذات صوت مدو، جعلت المستر بكوك يعدو صوب الموضع، وإذا بب سوير ينهض على قدميه، ولكن ونكل كان أحكم وأعقل من أن يحاول شيئا كهذا وهو في القبقاب، فلبث جالسا فوق الثلج يحاول جاهدا أن يبتسم، وإن ارتسم الألم البالغ على معارف وجهه، وسائر معالم صفحته.
وسأله المستر بنجمن ألن في قلق شديد: «هل أصابك أذى؟»
وأجاب المستر ونكل وهو يدعك ظهره دعكا شديدا: «ليس بأذى كثير.»
وقال المستر بنجمن بلهفة بالغة: «أود لو سمحت لي بفصدك.»
وأجاب المستر ونكل بعجلة: «لا، شكرا لك.»
وقال ألن: «أظن حقا أن في ذلك خيرا لك.»
وأجابه ونكل: «شكرا لك، أفضل ألا أفصد.»
وسأل بب سوير المستر بكوك قائلا: «ما رأيك أنت يا مستر بكوك؟»
وكان المستر بكوك هائجا محنقا، فأشار إلى المستر ولر وهو يقول بصوت غاضب: «انزع القبقاب من رجليه.»
واحتج المستر ونكل قائلا: «كلا، ولكني لم أكد أبدأ الانزلاق.»
وكرر المستر بكوك الأمر بلهجة التوكيد: «قلت لك انزع المزلاق من قدميه.»
ولم يكن ثمة مفر من إطاعة هذا الأمر، فترك المستر ونكل لسام الامتثال له، وهو صامت لا ينبس.
وعاد المستر بكوك يقول: «والآن ارفعه.»
وأعانه سام على النهوض.
وابتعد المستر بكوك بضع خطوات من أعين النظارة، وأشار إلى صديقه بأن يقترب منه، وألقى عليه نظرة فاحصة، وقال مخافتا بصوته، وإن كان قوله واضحا قويا، تلك الألفاظ العجيبة: «أنت مخادع يا سيدى.»
وأجفل المستر ونكل وقال: «أنا ماذا؟»
قال: «مخادع يا سيدى، وإن شئت قولا أصرح فأنت مدع يا سيدى.»
فلما قال مستر بكوك هذا استدار ببطء وعاد إلى أصدقائه.
وبينما كان المستر بكوك يصارح صديقه بهذا الشعور الذي وصفناه، كان المستر ولر والغلام البدين يشتركان في الانزلاق، ويؤديان معا حركات بارعة وألعابا باهرة، ولا سيما سام ولر؛ فقد انطلق في انزلاقات جميلة بارعة كان يطلق يومئذ عليها قولهم: «دق باب الإسكاف»، وهي حركة تقتضي الانزلاق على أديم الجليد بقدم واحدة، ثم دقه من حين إلى حين بالقدم الأخرى، كما يدقه ساعي البريد، وهي انزلاقة طويلة متقنة، لم يسع المستر بكوك إلا أن يحسده عليها، وهو يرتعش بردا من طول وقفته وجمود حركته.
وانثنى يقول للشيخ واردل، حين رآه متقطع الأنفاس لاهثا من تلك الحركات المستمرة التي أحالت ساقيه إلى شيء أشبه «بفرجار»، ومن رسم مسائل معقدة على الجليد: «إن هذه الألعاب تبدو رياضة مدفئة، أليست كذلك؟»
وأجاب واردل: «إنها لكذلك حقا، هل تنزلق؟»
قال: «كنت أفعل ذلك في الشوارع على أغطية البالوعات وأنا صبي صغير.»
قال واردل: «جربه الآن.»
وصاحت السيدات جميعا قائلات: «هلا جربت الانزلاق يا مستر بكوك؟»
قال مستر بكوك: «يسعدني أن أفعل أي شيء لإرضائكن، ولكني لم أفعل هذا أو نحوه منذ ثلاثين عاما.»
وقال واردل وهو يخلع قبقاب الانزلاق من قدميه، منطلقا بذلك التهور المعهود منه في كل عمل يأتيه: «هراء. هيا بنا، سأسايرك في الانزلاق، هلم بنا.» ومضى الشيخ اللطيف المرح على مزلاقه مندفعا بسرعة لم يلبث أن أطبق بها على المستر ولر والغلام البدين، وبزهما في البراعة وفاقهما إلى حد بعيد.
وتمهل المستر بكوك، وفكر مليا، ثم نزع القفازين من يديه ووضعهما في القبعة، وراح يجري جريتين أو ثلاثا قصيرات، ثم تردد طويلا، ولكنه عاد أخيرا يجري مرة أخرى، ثم يبطئ محتشما متزنا على «مزلاقه»، فارجا قدميه كثيرا، في وسط حماسة النظارة وصرخات ارتياحهم وصيحات السرور المنبعثة من أفواههم.
وقال سام: «خل القدر تغلي يا سيدي»،
1
وانبعث واردل يعدو، ومن ورائه المستر بكوك، ثم سام، ومن خلفه جاء ونكل، ثم المستر بب سوير، فالغلام البدين، فالمستر سنودجراس، وهم متتابعون متلاحقون بلهفة حارة كأن مصائرهم في الحياة مرتهنة بتلك الرحلة العجلى على الجليد.
وكان أشد شيء إمتاعا للعين رؤية المستر بكوك وهو يؤدي حركاته، ويقاسم اللاعبين ألعابهم، ومراقبة مدى القلق الشديد الذي كان ينظر به إلى اللاعب القادم في أثره، وهو يلاحقه فيعرضه لخطر وطئه بقدمه، ومشاهدته وهو يبذل تدريجا جهده الأليم الذي أبداه في بداية الأمر، ثم ينعطف في رفق حول الحلقة، موليا وجهه شطر البقعة التي بدأ منها، وتأمله وهو يبتسم تلك الابتسامة المرحة التي كانت تغمر محياه، كلما أتم اللف، وتلك اللهفة التي كان يدور بها كلما أتمها، ثم يعدو في أثر المتقدم عنه، وغطاء ساقيه وهو يهتز اهتزازة بديعة خلال الثلج ، وعيناه تشعان ببريق البشر والفرح من وراء منظاره، وكلما سقط - وهو ما كان يحدث غالبا بعد كل ثلاث دورات - كان منظره أعجب ما يكون مشهدا، وهو يتناول قبعته وقفازه ومنديله بسرور طافح على محياه، ويعاود اتخاذ مكانه من الحلقة بحماسة ولهفة لا ينال شيء منهما إطلاقا.
وكان الانزلاق على أشده، وأسرع مداه، والضحك في أوج شدته، حين بلغ الأسماع صوت قعقعة حادة، وتلاه اندفاع سريع نحو الحافة، وصيحة مدوية من أفواه النساء، وصرخة من المستر طبمن، وتبين عندئذ أن كتلة ضخمة من الجليد توارت عن الأبصار، وأن الماء راح يحدث فقاقيع فوقها، وقبعة المستر بكوك وقفازه ومنديله طافية على أديمها، فلم يستطع أحد أن يشهد منه غير هذه الأشياء طافية.
وارتسم الذعر على الوجوه كلها، وشحبت وجوه الرجال، وأغمي على النساء، وتماسك المستر سنودجراس والمستر ونكل باليدين، وراحا ينظران إلى تلك بقعة التي هوى عندها زعيمهما بلهفة ورعب بالغين، بينما مضى المستر طبمن في سبيل البدار إلى المعونة، وإبلاغ الأمر إلى مسامع الذين يحتمل أن يكونوا قريبين من الموضع لتصوير مدى الكارثة التي وقعت في تلك اللحظة، يعدو بأشد سرعة ممكنة صارخا «حريق!» بكل قوته.
وفي تلك اللحظة كان الشيخ واردل وسام ولر يدنوان من الثغرة التي انفتحت في الثلوج بخطى محاذرة بينما كان المستر بنجمن ألن يعقد مع المستر بب سوير مؤتمرا عاجلا بشأن إجراء «حجامة» للقوم كلهم، على سبيل التمرين قليلا على المهنة وعملياتها، في تلك اللحظة ذاتها ظهر وجه، ورأس، وكتف من تحت الماء، فكشفت عن معالم سحنة المستر بكوك ومنظاره.
وصاح المستر سنودجراس قائلا: «اثبت فوق الجليد لحظة، لحظة واحدة.»
وصرخ المستر ونكل وهو في أشد التأثر: «أتضرع إليك أن تثبت لحظة واحدة؛ إكراما لي.»
ولكن لم تكن ثمة حاجة إلى التوسل، وأكبر ظننا أنه إذا كان المستر بكوك قد رفض أن يثبت ويتماسك لحظة واحدة من أجل خاطر إنسان سواه؛ فقد كان أولى به وأدعى أن يتماسك ويثبت، من أجل نفسه هو ونجاته.
وقال واردل : «هل تحس القاع وأنت في مكانك هذا يا صاح؟»
وأجاب المستر بكوك وهو ينثر الماء عن رأسه ووجه، ويحاول استرداد أنفاسه: «نعم بلا شك فقد سقطت على ظهري، ولم أستطع في بداية الأمر أن أنهض على قدمي.»
وكان الطين الذي يلطخ الجزء الذي ظل فوق الماء من سترته دليلا على صدق قوله، ومما زاد في طمأنينة القوم أيضا تذكر الغلام البدين فجأة أن الماء لا يتجاوز عمقه في أي موضع خمس أقدام، وحينئذ بذلت جهود تدل على البسالة لانتشاله، وأخيرا بعد قدر كبير من النضال والصراع والجهاد العنيف، تيسر إخراج المستر بكوك من هذا الموضع الخطر، وعاد يقف على اليبس.
وصاحت إميلي قائلة: «أخشى عليه من فتكة البرد.»
وقالت أرابلا: «واها له، دعني ألفك بهذه اللفاعة يا مستر بكوك.»
وقال واردل: «هذا خير ما تفعلينه، فإذا تلفعت يا صاح به فانطلق إلى البيت بأسرع ما تستطيع ساقاك أن تحملاك واقفز إلى السرير في الحال.»
وعرضت عليه في تلك اللحظة عدة لفاعات، وتم اختيار ثلاث أو أربع من أكثفها وبرا فلفف المستر بكوك فيها، وانطلق في حراسة المستر ولر، وقد بدا شكله فريدا، في صورة شيخ يقطر البلل منه، حاسر الرأس، لاصق الذراعين بجنبيه، طافرا فوق أديم الأرض، على غير هدى منه، وبسرعة يبلغ معدلها ستة أميال في الساعة.
ولكن المستر بكوك لم يحفل بالمظاهر وهو في هذه الحال الشاذة، فظل على احتثاث المستر ولر له مسرعا في مسيره، حتى وصل إلى باب «الضيعة»، وكان المستر طبمن قد وصل إليها قبله بخمس دقائق، وأثار الرعب في نفس السيدة العجوز، حتى جعل قلبها يخفق خفقانا شديدا؛ إذ حملها على الاقتناع الثابت بأن الحريق قد شب في مدخنة المطبخ، وهي كارثة كانت تتمثل دائما لخاطرها، في أوضح صورة، كلما أبدى أحد ممن حولها أقل هياج أو أدنى اضطراب.
ولم يتمهل المستر بكوك لحظة ولم يهدأ له بال حتى رقد في سريره، وأحس الدفء تحت الأغطية؛ فقد انطلق سام ولر يوقد في الحجرة نارا ذات لهب، ويحضر له الغداء، ثم قارورة من البنتش بعده، وأقيم سمر ممتع؛ احتفالا بنجاته، ولم يقبل الشيخ واردل منه النهوض من فراشه، فجعلوا من السرير مقعد الرياسة، وتولى المستر بكوك رعاية الحفل منه، وطلبت قارورة أخرى فثالثة وعندما استيقظ المستر بكوك في صباح اليوم التالي لم يكن ثمة أثر فيه لوعكة برد، أو أعراض نقرس، وهو كما قال المستر بب سوير بحق دليل على أنه ليس هناك علاج أنجع في هذه الحالات ولا دواء أصلح من البنتش الساخن، وأنه إذا جاز يوما ألا ينجع هذا الدواء، أو يمنع الإصابة بالداء، فلا يرجع الأمر إلا إلى وقوع المريض في ذلك الخطأ السوقي وهو عدم تناول كمية كافية منه.
وانفرط عقد الجمع المرح في غداة اليوم التالي، وانفضاض الجماعات أمر بديع في أيام الدراسة، ولكنه في الحياة أليم، وإن الموت والبحث عن المصلحة الخاصة، وصروف الحظ وتقلباته، لا تزال في كل يوم مفرقة للجماعات السعيدة، مشتتة الأحباب، ذاهبة بهم شرقا ومغربا، مفرقة بين الفتيان والفتيات فراقا لا أوبة منه، ولسنا نريد بهذا أن نقول: إن هذه هي الحال، في هذه المناسبات بالذات، وإنما كل ما نريد أن يفهم القارئ لا يتجاوز القول: إن أفراد هذا الجمع قد انصرف كل منهم إلى موطنه، وإن المستر بكوك وصحبه عادوا يشغلون مقاعدهم فوق سطح المركبة الشاخصة من «ماجلتون»، وإن أرابلا انصرفت إلى المكان الذي كانت تقصده - أنى يكون هذا المكان - ولسنا نخشى أن نقول: إن المستر ونكل يعرف أين هو، وقد ذهبت في رعاية أخيها بنجمن وصديقه الولي الحميم المستر بب سوير.
ولكن هذا السيد والمستر بنجمن ألن، انتحيا قبل الرحيل بالمستر بكوك ناحية، بشكل غريب، وراح المستر بب سوير يدفع بسبابته بين ضلعين من أضلاع المستر بكوك، مبديا بهذه الحركة مبلغ مجانته ونزوعه إلى المزاح، ومدى علمه في الوقت نفسه بالتشريح ومعرفة دقائق الجسم البشري ومختلف أجزائه، ومضى يسأله: «قل لي يا صاح: أين تقيم؟»
وأجاب المستر بكوك بأنه في الوقت الحاضر يقيم في فندق جورج والرخم.
وقال بب سوير: «أحب أن تجيء لتراني.»
وأجاب المستر بكوك: «لا شيء أحب إلى نفسي من ذلك.»
وأخرج المستر بب سوير بطاقته وقال: «هذا عنوان مقري، شارع لانت، قصبة لندن، بقرب مستشفى جاي؛ لأنه قريب من محل عملي كما ترى، ولا يبعد كثيرا بعد أن تجتاز كنيسة القديس جورج، وتنعطف من شارع هاي ستريت يمنة.»
وقال المستر بكوك: «سأعرف كيف أهتدي إليه.»
وقال بب سوير: «تعال يوم الخميس بعد أسبوعين واصطحب الرفاق معك؛ فإني معتزم دعوة فريق من زملائي المنتمين إلى مهنة الطب في تلك الليلة.»
وأبدى المستر بكوك سروره للقائهم، وبعد أن حدثه المستر بب سوير بأن الاجتماع سوف يكون ممتعا وأن صديقه «بن» سيحضره، تصافحا، ثم افترقا.
وفي هذا المقام نشعر بأن رب سائل سيسألنا: هل كان المستر ونكل خلال هذا الحديث القصير يهمس لأرابلا ألن؟ وما الذي كان يهمس به لها؟ وهل كان المستر سنودجراس أيضا يحادث على انفراد إميلي واردل؟ وما الذي قال هو لها؟ وجوابنا أنه مهما يكن الحديث الذي دار بينهما وبين الفتاتين، فإنهما لم يقولا عنه شيئا للمستر بكوك ولا للمستر طبمن، طيلة الرحلة إلى المدينة، وهي مسافة ثمانية وعشرين ميلا، بل راحا يتنهدان ويزفران بين الفينة والفينة، ويرفضان تناول شيء من الجعة أو البراندي ولبثا واجمين مكتئبين، فإن استطاعت سيداتي القارئات القويات الملاحظة استخلاص شيء من هذه الوقائع فليفعلن غير مأمورات.
أي: استمر؛ لا تطفئ حرارة اللعب.
الفصل الحادي والثلاثون
كله حول القانون وبعض أساطين رجاله
تقوم في مختلف أزقة دار القضاء، وعديد زواياه، حجرات مظلمة قذرة، متناثرة يدخلها ويخرج منها، في كل صباح، خلال أيام العطلة القضائية، وزلفا من الليل، في موسم العمل، فيض لا ينقطع من كتبة المحامين، وهم في عجلة ظاهرة، متأبطون ملفات من الأوراق، أو داسون شيئا منها في جيوبهم، حتى لتبدو منها أطراف لها وذيول.
ويختلف معاشر كتبة المحامين مراتب، ويتباينون درجات؛ فمنهم الكاتب الذي اجتاز الامتحان، ودفع القسط،
1
وقد يصبح محاميا على مر الأيام، وله «حائك» ثياب يدفع إليه قائمة الحساب، ويتلقى دعوات إلى المآدب، ويعرف أسرة من الأسر التي تقيم في شارع جوار، وأخرى في ميدان تافستوك، ويبارح المدينة كل إجازة طويلة فيزور أباه الذي يقتني عددا كبيرا من الجياد أو هو باختصار الأرستقراطي بين معاشر كتبة المحامين.
ومنهم الكاتب بمرتب، سواء كان عمله داخل المكتب أو خارجه، وهو الذي ينفق الشطر الأكبر من الثلاثين شلنا التي يتقاضاها في الأسبوع على ملذاته الخاصة وزينته الشخصية، ويختلف بنصف الأجور إلى مسرح أدلفي ثلاث مرات على الأقل في كل أسبوع، ثم يقضي بقية الليل بعد ذلك في القصف والشراب في الحانات والأقبية، وقصارى القول فيه إنه صورة قذرة هزلية للطراز الذي انتهى من ستة شهور.
وهناك أيضا الكاتب النساخ الذي بلغ منتصف العمر، وله أسرة كبيرة، ولا يبدو في ثوب رث، وأكثر ما يلوح سكران منزوفا من الشراب.
ويلي هؤلاء صبيان الكتبة الحديثو العهد بارتداء السترة المسبغة، والذين يشعرون بالسخرية من الأولاد الذين لا يزالون يتعلمون في المدارس، ويعودون ليلا إلى بيوتهم للاستمتاع بأكل اللحم وشرب النبيذ، ويظنون أن لا شيء في العالم غير لذة «الحياة» وأن هناك من الأنواع والصنوف ما لا يتسع المجال لتلخيصه وشرحه، ولكنهم جميعا على كثرة ضروبهم ومراتبهم يشاهدون في ساعات العمل ومواقيته رائحين غادين في عجلة بين تلك الأماكن التي أسلفنا ذكرها.
وهذه الزوايا المنعزلة هي المكاتب التي تتخذ فيها الإجراءات القضائية ومنها تصدر إعلانات الحضور، وتوقع فيها الأحكام، وتقيد فيها التعهدات، وما إليها من عديد الإجراءات والتصرفات التي يراد تنفيذها لتعذيب رعايا صاحب الجلالة المخلصين وتوفير المتعة والأجور للمشتغلين بالقانون، وهى حجرات في الأغلب الأعم ذوات سقوف خفيضة، وغرف رطبة عفنة؛ حيث تنبعث من ملفات القضايا والأوراق التي ظلت تتصبب عرقا في خفية طيلة القرن الماضي روائح مستطابة تختلط في النهار بشذى العفونة الجافة، وتمتزج ليلا بريح العباءات المشربة بالرطوبة، والمظلات العباقة بالعفن، ومن أخشن شموع الدهن.
وقد حدث حوالي السابعة والنصف من المساء، بعد عشرة أيام أو قرابة أسبوعين من عودة المستر بكوك وأصحابه إلى لندن، أن خرج رجل من أحد تلك المكاتب مهرولا في سترة سمراء ذات أزرار نحاسية، وقد حرص على أن يلوي شعره الطويل حول حافة قبعته الملساء، وقد لصقت سراويله البالية الملطخة فوق حذائه القصير، حتى لتكاد ركبتاه تهددان بين لحظة وأخرى بالخروج من مخبئهما، وراح يخرج من جيب سترته وثيقة طويلة ضيقة العرض، كان الموظف المختص قد ختمها بخاتم أسود غير مقروء، ثم أخرج بعد ذلك أربع ورقات من الحجم ذاته، كل ورقة منها تحوي نسخة مطبوعة من الوثيقة عينها وفراغا لكتابة الأسماء فيها، وبعد أن ملأ ذلك الفراغ في الصور الأربع، دسها هي والوثيقة الأصلية في جيبه وانطلق مهرولا في سبيله.
ولم يكن ذلك الرجل صاحب السترة البنية اللون والذي يحمل تلك الأوراق النكراء في جيبه سوى صاحبنا القديم المستر جاكسن الذي يشتغل في مكتب المحاميين ددسن وفج في محكمة فريمن بكورنهل، ولكنه بدلا من أن يقفل راجعا إلى المكتب الذي جاء منه، انحرف متجها صوب صن كورت وأخذ سمته رأسا إلى فندق «جورج والرخم» وسأل هل في داخل المكان رجل يدعى المستر بكوك.
وقالت المرأة الموكلة بمكان الشراب: «ادع يا تم خادم المستر بكوك.»
وقال المستر جاكسن: «لا تتعب نفسك، إنني قادم في مهمة، فإذا أريتني غرفته صعدت بنفسي إليها.»
وقال غلام الفندق: «وما الاسم يا سيدي؟»
وأجاب الكاتب: «جاكسن.»
وصعد الغلام لبعلن قدوم المستر جاكسن، ولكن هذا أغنى عنه مئونة الدخول، بالمشي في أثره ودخول الحجرة قبل أن يتمكن الخادم من النطق بحرف واحد، وكان مستر بكوك قد دعا أصدقاءه الثلاثة للعشاء، وكانوا كلهم جلوسا حول المدفأة يحتسون النبيذ حين دخل عليهم مستر جاكسن بالصورة التي وصفناها من قبل، وقال وهو ينحني بالتحية للمستر بكوك: «كيف الحال يا سيدي؟»
وانحنى المستر بكوك ردا على التحية، وبدا عليه شيء من الدهشة؛ لأن سحنة المستر جاكسن لم تكن عالقة بخاطره.
وقال المستر جاكسن بلهجة الشرح والبيان: «إنني قادم يا سيدي من قبل ددسن وفج.»
وانتبه المستر بكوك على سماع هذين الاسمين من سكينته فقال: «إنني أحيلك على وكيلي يا سيدي المستر بركر في فندق جريز ... يا غلام أر الطريق لهذا السيد.»
وقال المستر جاكسن وهو يضع قبعته بتؤدة فوق أديم الحجرة، ويخرج من جيبه الوثيقة: «أستميحك معذرة يا مستر بكوك، ولكن الخدمة الشخصية، سواء من جانب كاتب أو وكيل، في هذه الأحوال يا مستر بكوك، ليس ثمة شيء أحكم من الحيطة يا سيدي في جميع الإجراءات والشكليات القانونية.»
وألقى المستر جاكسن نظرة على الوثيقة، واعتمد على المائدة بكفه، وأجال عينه فيما حوله بابتسامة جذابة مغرية مقنعة، وانثنى يقول: «والآن لا داعي لأن نتبادل أي كلام في مسألة صغيرة كهذه. من منكم أيها السادة يدعى سنودجراس؟»
وعلى أثر هذا السؤال أبدى المستر سنودجراس حركة ظاهرة جلية لم تعد بعدها حاجة إلى جواب.
وانطلق المستر جاكسن يقول وهو أشد رقة من قبل: «لقد كنت أظن ذلك، إن لدي شيئا يسيرا قد يزعجك يا سيدي.»
وصاح المستر سنودجراس مبهوتا: «أنا؟»
وأجاب جاكسن، وهو يختار إحدى الورقات ويخرج شلنا من جيب صداره: «إنه لا يعدو إعلانك بالحضور في قضية باردل وبكوك بناء على طلب المدعية بجلسة ينتظر أن تعقد عقب انتهاء العطلة وينتظر أن تكون في الرابع عشر من شهر فبراير، وقد طلبنا أن تكون قضية خاصة أمام المحلفين، ودورها هو العاشر، وهذه هي الصورة الخاصة بك يا مستر سنودجراس.»
ووضع المستر جاكسن الإعلان أمام عيني المستر سنودجراس ثم ألقى الصورة هي والشلن في راحة كفه.
وظل المستر طبمن يشهد هذه العملية في صمت ودهشة، وإذا المستر جاكسن يدور نحوه فجأة قائلا: «لا أظنني مخطئا في قولي: إن اسمك طبمن، وهل تراني قد أخطأت؟»
فنظر المستر طبمن إلى المستر بكوك ولكنه لم ير تشجيعا في عينيه الواسعتين المتفتحتين على إنكار اسمه فلم يسعه إلا أن يجيب قائلا: «نعم أنا أدعى طبمن يا سيدي.»
وقال المستر جاكسن: «وأظن أن هذا السيد الآخر هو المستر ونكل؟»
وأجاب المستر ونكل متلعثما بالإيجاب، وبادر المستر جاكسن فسلم السيدين صورتين من الإعلان، وأعطى كلا منهما شلنا، وانثنى يقول: «والآن أخشى أن تظنوا أني شخص متعب، ولكني أطلب شخصا آخر غيركم إذا لم يكن في ذلك متعبة لكم، إن أمامي اسم صمويل ولر هنا في الأوراق يا مستر بكوك.»
وقال هذا للغلام: «ادع خادمي إلى هنا.»
وانصرف الغلام وهو في دهشة بالغة وأشار المستر بكوك للمستر جاكسن بالجلوس.
وساد صمت أليم، لم يلبث أن بدده المدعى عليه البريء بقوله: «أظن يا سيدي أن في نية مخدوميك محاولة إدانتي؛ استنادا إلى أقوال أصحابي وشهادتهم؟»
وراح المستر جاكسن يضرب الجانب الأيسر من أنفه بسبابته عدة مرات، موحيا بهذه الحركة أنه لم يأت ليكشف أسرار القضايا، ويقول بمكر ودعابة: «لا أعرف، لا أستطيع أن أقول.»
وعاد المستر بكوك يقول: «ولأي سبب آخر يا سيدي يعلن أصحابي على هذا النحو إن لم يكن لهذا السبب بالذات؟» وأجاب جاكسن قائلا وهو يهز في بطء رأسه: «فكرة حسنة جدا يا مستر بكوك، ولكنها لا تكفي، ولا ضرر من محاولتها، ولكن لا شيء عندي يمكن أن تعرفه مني.»
وعاد المستر جاكسن يبتسم للقوم، ويرفع إبهام يده اليسرى إلى طرف أنفه ويدير طاحونة بن وهمية بيمناه، مؤديا بعض الإشارات البارعة على سبيل التمثيل «الصامت» الذي كان شائعا في تلك الأيام ولكنه لسوء الحظ يكاد اليوم يصبح أثرا بعد عين، وكانت تلك الحركة التي أتى بها المستر جاكسن تدعى عند الناس عادة «طحن البن».
2
وعاد المستر جاكسن يقول في ختام حديثه: «كلا، كلا يا مستر بكوك؛ إن رجال المستر بركر سوف يحزرون حتما ما هو الغرض الذي نرمي إليه من هذه الإعلانات، لإحضار الشهود؛ فإن لم يستطيعوا فلا معدى لهم عن الانتظار حتى يحل موعد نظر القضية فيعرفوا الهدف.»
وألقى المستر بكوك نظرة اشمئزاز متناه على الزائر الثقيل، وأكبر الظن أنه كان يهم بأن يصب جام غضبه فوق رأسي ددسن وفج ويسلقهما بلسان حاد، لولا أن قطع عليه القول دخول سام في تلك اللحظة بالذات.
وقال المستر جاكسن مستوضحا: «أهذا هو سام ولر؟» وأجاب سام بكل هدوء: «كلمة صدق لم تقل مثلها من سنين طوال.»
وقال جاكسن: «هذا إعلان حضور لك يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «وما معنى هذا باللغة الإنجليزية؟»
وقال جاكسن رافضا شرح المعنى: «ها هي ذي الصورة الأصلية.»
وقال سام: «أين هي؟»
وأجاب جاكسن وهو يهز الوثيقة: «هذه.»
وقال سام: «آه، أهذا هي الأصل، إنني في غاية السرور لرؤية الأصل؛ لأنه شيء يسر حقيقة ويريح البال كثيرا جدا.»
وقال جاكسن: «وها هو ذا الشلن، من ددسن وفج.»
وقال سام: «إنه لكرم غير مألوف أن يأتي ددسن وفج وهما لا يعرفان عني شيئا، فيقدما إلي هدية، إنني لأشعر بأن هذه تحية بالغة يا سيدي، وشيء يشرفهما كثيرا؛ لأنه يدل على أنهما يعرفان كيف يقدران المواهب حق قدرها، أينما وجداها، وهو أيضا عمل يؤثر في شعور الإنسان وإحساسه.»
وانثنى يمسح جفن عينه اليمنى بكم ثوبه كما يفعل الممثلون وهم يمثلون موقفا يثير العواطف.
وبدت على المستر جاكسن الحيرة من حركات سام وتصرفاته، ولكنه رأى أنه قد أدى مهمته، وهي تسليم «الإعلانات»، وانتهى من تنفيذ ما جاء من أجله فلا حاجة إلى مزيد من القول، فتظاهر بأنه يضع القفاز المفرد الذي اعتاد أن يحمله بإحدى يديه، لمجرد التظاهر ليس أكثر، وعاد أدراجه إلى المكتب لابلاغ مخدوميه تفصيل ما جرى.
ولم يذق المستر بكوك النوم إلا غرارا في تلك الليلة؛ فقد تلقت ذاكرته ما أعاد إليها موضوع قضية مسز باردل، وتناول طعام الفطور مبكرا في صبيحة اليوم التالي، وطلب إلى سام أن يصحبه وانطلق يريد ميدان فندق جريز.
وجال ببصره حين وصل إلى نهاية شارع تشيبسايد ونادى قائلا: «يا سام.»
وأسرع الخادم إليه فحاذاه وقال: «نعم يا سيدي.»
قال: «من أين نعطف؟»
قال: «إلى شارع نيوجيت.»
ولكن المستر بكوك لم يعطف مباشرة وإنما راح ينظر إلى وجه سام شارد البصر لحظة ثم يطلق زفرة عميقة من صدره.
وقال سام : «ما الخبر يا سيدي؟!»
وأجاب المستر بكوك: «هذه القضية يا سام ينتظر أن يحل موعدها في الرابع عشر من الشهر القادم.»
وأجاب سام: «مصادفة عجيبة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «ولم تقول: عجيبة؟!»
وأجاب سام: «لأن هذا اليوم يوافق عيد «فالنتين» يا سيدي، فهو يوم لائق للمحاكمة في قضية تتصل بخيانة العهد
3
والتنصل من الوعد بالزواج.»
ولكن الابتسامة التي بدت على فم المستر ولر وهو يقول هذه العبارة لم تثر شيئا من المرح في وجه المستر بكوك، بل استدار الرجل حوله فجأة وانطلق في طريقه صامتا.
وما إن سارا غير بعيد، ولا يزال المستر بكوك سائرا بخطى سريعة كما كان من قبل، وهو ساهم غارق في لجة من التفكير، ومن خلفه يمشي سام وعلى وجهه أبلغ أمارات التحدي وقلة المبالاة بكل شيء، حتى أسرع الأخير في خطوه، كما كان أبدا دأبه كلما أراد أن يفضي إلى سيده بشيء خاص يعرفه، وقال حين لحق به وهو يشير إلى بيت مرا به: «هذا دكان لحم خنازير، بديع يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «يبدو لي أنه كذلك.»
وعاد سام يقول: «هذا مصنع لحوم باردة ذائع الصيت.»
وقال المستر بكوك: «أهو حقا؟»
وأجاب سام في شيء من الغيظ: «هو كذلك فعلا أو هذا هو ما أعتقد، يا للعجب يا سيدي، سلامة نظرك، إن هذا هو الدكان الذي اختفى منه صاحبه منذ أربع سنوات، وكان اختفاؤه سرا غامضا.»
وتلفت المستر بكوك في عجلة قائلا: «هل تعني يا سام أنه قتل خنقا؟»
وأجاب المستر ولر قائلا: «كلا، ليس هذا ما أعنيه يا سيدي، ليت الأمر كان كذلك، ولكنه في الواقع أسوأ من ذلك وأدهى. لقد كان الرجل صاحب هذا الحانوت يا سيدي ومخترع الآلة البخرية التي تقطع اللحم شرائح ودوائر والتي تستطيع أن تبتلع البلاط لو وضعته بقربها فتطحنه شرائح وقطعا صغيرة بكل سهولة ويسر كأنها تطحن ولدانا صغارا في المهد، وكان الرجل معتزا بها كما هو طبيعي، وكان يقف في المخزن السفلي ينظر إليها وهي دائرة بأقصى سرعتها حتى ليستولي الفرح عليه، ويكاد منه يذرف الدمع، وكان من حق الرجل أن يكون سعيدا جدا يا سيدي وهو يرقب بعينيه سير تلك الآلة، وبجانبه ولدان جميلان له، لولا زوجته؛ فقد كانت امرأة شكسة سليطة اللسان لا تكف عن تأنيبه، والطنين في أذنيه، حتى لم يعد يطيق عليها صبرا، فقال لها في ذات يوم: «اسمعي يا عزيزتي، إذا أبيت إلا المضي في هذا النوع من المزاح، فسوف أذهب إلى أمريكا، وينتهي الأمر.» فأجابته قائلة: «إنك لرجل بليد متعطل، وإني لأود لأمريكا أن تفرح وتغتبط بهذه الصفقة!» ولبثت على هذه الصورة نصف ساعة تسبه وتشتمه، ثم انطلقت إلى الغرفة الصغيرة القائمة خلف الحانوت، وظلت تصرخ وتتشنج قائلة: إنه سيزهق روحها بهذا السلوك الذي يسلكه معها، حتى أغمي عليها وظلت النوبة مستولية عليها ثلاث ساعات سويا، وكانت نوبة من تلك النوبات التي لا تنقطع خلالها عن الصياح والركل بالقدمين، وفي صباح اليوم التالي اختفى الزوج وتبين أنه لم يأخذ درهما واحدا من الصندوق، بل لم يرتد أيضا معطفه، مما يثبت أنه لم يذهب إلى أمريكا، وانقضى اليوم التالي ولم يعد، وحل الأسبوع التالي، وهو لا يزال غائبا، وكتبت السيدة إعلانا تقول فيه: إنه إذا عاد فسوف تغتفر له كل شيء. وهو كرم منها وسماحة؛ لأنه في الواقع لم يأت شيئا حتى يقتضي الغفران منها، وبحث عنه في القنوات طيلة شهرين كاملين، وكلما وجدت جثة حملت رأسا إلى حانوت اللحوم، ولكن ظهر في كل مرة أن الجثة لم تكن جثته، ولهذا ذهبت الظنون إلى القول بأنه قد هرب، وظلت المرأة تتولى بنفسها العمل في الحانوت، ففي ذات مساء، وكان اليوم سبتا أقبل شيخ ناحل على المتجر وانثنى يقول في حدة وغضب: «هل أنت ربة هذا الحانوت؟» قالت نعم! قال: «لقد أتيت يا سيدتي لكي أقول: إنني أنا وأفراد بيتي لا نريد أن نختنق بلا ذنب جنيناه، بل أكثر من هذا يا سيدتي لي أن ألاحظ أنك لا تستخدمين الأجزاء الممتازة من اللحم في صنع الشرائح، وإنك لهذا السبب تجدين أن اللحم يكاد يكون في مثل رخص ثمن الأزرار.» وقالت السيدة: «الأزرار يا سيدي؟!» وأجاب الشيخ، وهو ينشر قطعة مطوية من الورق ويخرج منها عشرين أو ثلاثين من أنصاف الأزرار وهو يقول: «أزرار، نعم أزرار يا سيدتي، لإعطاء اللحم طعما جميلا يا سيدتي، أزرار السراويل يا سيدتي.» فكادت المرأة يغمى عليها، وهي تقول: «هذه أزرار زوجي!» وقال الشيخ وقد ارتد شاحبا: ماذا تقولين؟! وأجابت الأرملة قائلة: «لقد فهمت كل ما جرى، إن زوجي في نوبة جنون عارض انطلق يحول نفسه إلى شرائح من اللحم!»
وعقب المستر ولر على القصة وهو يطيل النظر إلى وجه المستر بكوك الذي شاع فيه الاستنكار والذعر، بقوله: «هذا هو حقا ما فعله يا سيدي، أو أن الآلة قد اجتذبته إليها، وسواء كان هذا أو ذاك؛ فقد اندفع ذلك الشيخ الذي كان يحب الشرائح حبا جما طول حياته، من جوف الحانوت إلى الطريق وهو في هياج شديد، ولم يسمع أحد بعد ذلك شيئا عنه.»
وأوصلت رواية هذه الحادثة المؤثرة المتصلة بالحياة الخاصة السيد والخادم إلى مكتب المستر بركر المحامي، وكان لوتن ممسكا بالباب وقد فتحه نصف فتحة وراح يتحدث إلى رجل رث الثياب بائس في حذاء بلا أصابع، وقفاز بلا أنامل، وقد بدت عليه من الفاقة والبأساء آثار ومعالم، بل لاح اليأس كذلك على مظهره، وسحنته المصفرة المكفهرة الواجمة، وكان يشعر بفاقته؛ لأنه وقف منزويا في الجانب المظلم من السلم، حين وصل المستر بكوك.
وقال الرجل الغريب وهو يرسل زفرة: «هذا حظ سيئ جدا.»
وقال لوتن وهو يكتب اسمه على عمود الباب بقلمه، ثم يمحوه بالريشة المثبتة في مؤخره: «جدا، هلا تركت رسالة إليه؟»
وسأل الغريب: «ومتى تظن أنه سيعود؟»
وأجاب لوتن قائلا وهو يغمز بعينه للمستر بكوك، حين رأى الرجل الغريب مطأطئ الرأس ناظرا إلى الأرض: «إن موعد عودته غير معروف على اليقين.»
وقال الغريب وهو يلقي نظرة إلى المكتب بلهفة: «ألا تظن أن هناك فائدة من انتظاري رجوعه؟»
وأجاب لوتن، وهو يتحرك قليلا صوب وسط المدخل: «كلا، إنني واثق أن لا فائدة؛ لأن من المؤكد أنه لن يعود في هذا الأسبوع، ومن يدري هل تراه سيغيب الأسبوع القادم أيضا؛ لأن بركر إذا غادر العاصمة لا يتعجل أبدا العودة إليها.»
وقال المستر بكوك: «أتقول إذا غادر العاصمة؟ يا لسوء الحظ!»
وقال لوتن: «لا تنصرف يا مستر بكوك فإن لدي خطابا إليك.»
وبدا التردد على الرجل الغريب فعاد ينظر إلى الأرض وراح الكاتب يغمز للمستر بكوك غمزة مكر كأنما يوحي بأن هناك فصلا لطيفا أو نكتة رائقة، ستبدو له، وإن كان المستر بكوك لا يدري ما هو ذلك الفصل اللطيف ولا ما هي تلك النكتة الرائقة!
وقال لوتن: «تفضل ادخل يا مستر بكوك، ألا تترك رسالة يا مستر وطي أو تنوي أن تعود مرة أخرى؟»
وقال الرجل: «هلا سألته أن يتفضل فيترك لي خبرا عما فعل في قضيتي، ناشدتك الله يا مستر لوتن لا تهمل هذا الرجاء.»
وأجاب الكاتب: «كلا، كلا، لن أنسى، تفضل ادخل يا مستر بكوك، طاب صباحك يا مستر وطي؛ إنه ليوم جميل يستحب المشي فيه، أليس كذلك؟»
وحين رأى الغريب لا يزال متلكئا، أشار إلى سام بأن يتبع سيده وأغلق الباب في وجهه.
وقال لوتن وهو يلقي القلم من يده، في حركة امرئ أصيب بإهانة أو أذى: «لم يشهد العالم مفلسا ملحا مملا كهذا منذ بدء الخليقة! إن قضيته أمام المحكمة منذ أربع سنوات، وهو لا يكف عن التردد علينا مرتين في كل أسبوع، تقدم من هنا يا مستر بكوك، إن بركر هنا وأنا عارف أنه سيقابلك.» ومضى يقول باستياء: «البرد شديد وأنا واقف بالباب مضيع وقتي مع هؤلاء السوقة الثقلاء!» وبعد أن حرك بشدة جذوات نار كبيرة إلى حد غريب، بمحراك صغير إلى حد غريب مثلها مضى يسير أمام المستر بكوك إلى غرفة المحامي الخاصة ويعلن قدومه.
وبادر المستر بركر القزم إلى النهوض بخفة من مقعده قائلا: «آه يا سيدي العزيز! ماذا لديك من الأنباء عن قضيتك؟» هل من جديد عن أصدقائنا في محكمة فريمن؟ إني أعرف أنهم لم يكونوا نياما كل هذا الوقت، إنهم قوم مجدون لا تفتر لهم همة فعلا.»
وما كاد الرجل القزم ينتهي من هذا القول حتى تناول قدرا طيبا من عطوسه؛ اعترافا منه بهمة الأستاذين ددسن وفج ونشاطهما المتقد.
وقال المستر بكوك: «إنهما لوغدان كبيران.»
وأجاب المستر بركر: «وي، وي! هذه مسألة تختلف فيها الآراء كما تعلم، فمن الخير ألا نتناقش أو نختلف في العبارات والألفاظ؛ لأنه لا ينتظر منك بالطبع أن تنظر إلى هذه الأمور بعين رجل من أرباب المهنة، لقد فعلنا كل ما ينبغي أن نفعله، وقد اتفقت أيضا مع المحامي اسنبن.»
وقال المستر بكوك: «أهو رجل طيب؟»
وأجاب بركر: «أتسألني هل هو رجل طيب؟ سبحان الله يا سيدي العزيز، إن المحامي اسنبن في ذروة المهنة، ولديه من القضايا ثلاثة أمثال ما لدى أي إنسان أمام المحاكم، وهو يوكل في جميع أنواع القضايا، وأقول لك شيئا لا أحب أن تذكره في الخارج، وهو أننا قد اعتدنا نحن أرباب المهنة أن نقول: إن المحامي اسنبن يقود المحكمة من خطامها.»
وتناول الرجل القزم قدرا آخر من السعوط وهو يفضي بهذا السر ويهز رأسه هزة غريبة للمستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «لقد دعوا أصدقائي الثلاثة إلى الحضور شهودا في القضية.»
وأجاب بركر: «آه، بالطبع، إنهم شهود على جانب كبير من الأهمية؛ لأنهم رأوك في موقف دقيق.»
وقال المستر بكوك: «ولكنها أغمي عليها من تلقاء ذاتها، وارتمت في أحضاني.»
وأجاب بركر: «محتمل جدا يا سيدي العزيز، محتمل جدا، وطبيعي جدا، ولا شيء أكثر من ذلك احتمالا ولا طبيعة، ولكن من الذي يثبت ذلك؟»
وقال المستر بكوك متهربا من هذه النقطة؛ لأن سؤال المستر بركر أزعجه: «وقد أعلنوا خادمي أيضا شاهدا.»
وقال بركر: «أتعني سام؟»
وأجاب المستر بكوك: «أي نعم.»
ومضى المحامي يقول: «بالطبع يا سيدي العزيز بالطبع (وابتسم الكاتب واستنشق العطوس بلذة تجمع بين الولوع به، ومتعة الرسوم) لقد كنت أعرف أنهم سيفعلون ذلك، وكان في إمكاني أن أنبئك أنت به منذ شهر مضى، وأنت تعلم يا سيدي العزيز أنك إذا أردت أن تتولى بنفسك شئونك بعد أن عهدت بها إلى وكيلك، فلا مندوحة لك عن تحمل النتائج.»
وهنا نصب المستر بركر قامته باعتزاز واعتداد، ونفض ذرات ضالة من السعوط عن طرف قميصه.
وقال المستر بكوك بعد أن لزم الصمت دقيقة أو دقيقتين: «وماذا يريدون منه أن يثبت؟»
وأجاب بركر: «إنك أوفدته إلى بيت المدعية؛ لتعرض عليها بعض الترضية، على ما أظن، وإن كان هذا لا يهم كثيرا، ولكني لا أظن أن كثيرا من المحامين يستطيعون أن يستخلصوا شيئا كثيرا من خادمك لفطانته.»
وقال المستر بكوك مبتسما لفكرة دعوة سام إلى الحضور شاهدا، رغم ما كان فيه من غضب: «لا أظنهم قادرين، ولكن أي طريق ترانا سنسلك؟»
وأجاب المستر بركر: «إن أمامنا طريقا واحدا يا سيدي العزيز، وهو أن نستجوب الشهود، فاعتمد على بلاغة اسنبن من هذه الناحية، إنه سيذر الرماد في عين القاضي، ونحن سنرمي أنفسنا على المحلفين.»
وقال المستر بكوك: «ولكن افرض أن حكم علي؟»
فابتسم المستر بركر وتناول قدرا كبيرا من السعوط، وحرك النار، وهز كتفيه، وظل صامتا ذلك الصمت البليغ المغني عن الكلام.
وقال المستر بكوك بعد أن راقب هذا الرد البرقي بعبوس شديد: «هل تعني أنه من المحتم علي في هذه الحالة أن أدفع التعويض المطلوب؟»
وراح المستر بركر يحرك النار مرة أخرى بلا ضرورة وأجاب قائلا: «أخشى أن يكون الأمر كذلك.»
وقال المستر بكوك بلهجة توكيد قاطع: «فلتعلم إذن أنني عزمت عزمة لن أنثني عنها، وهي ألا أدفع تعويضا ما، لن أدفع يا بركر، ولن يجد جنيه واحد ولا بنس واحد طريقه إلى جيب ددسن وفج، هذه هي عزيمتي التي لا رجوع عنها، ولا تبديل لها.»
وراح المستر بكوك يضرب المنضدة التي أمامه بجمع كفه؛ توكيدا لهذا العزم الوطيد.
وقال بركر: «حسن جدا يا سيدي العزيز، حسن جدا، وأنت أعرف بمصلحتك بالطبع من أي أحد سواك.»
وقال المستر بكوك في عجلة: «بالطبع، أين يقيم المحامي اسنبن؟»
وأجاب بركر: «في ميدان لنكولن إن القديم.»
وقال المستر بكوك: «أحب أن أراه.»
وأجاب بركر في دهشة بالغة: «ترى المحامي اسنبن؟ يا سيدي العزيز، ويحي! هذا مستحيل يا سيدي العزيز، ترى المحامي اسنبن! بارك الله فيك يا سيدي العزيز، إن شيئا كهذا لم يسمع يوما بمثله دون دفع أجر عن الاستشارة، وبلا تحديد موعد سابق لها، هذا لا يمكن يا سيدي العزيز، لا يمكن!»
ولكن المستر بكوك قد أجمع النية على ألا يجعل ذلك ممكنا فحسب، بل واجبا محتوما أيضا، وكانت النتيجة أن وكيله لم يلبث بعد عشر دقائق من التوكيد له باستحالة المقابلة أن صحبه إلى مكتب المحامي اسنبن نفسه.
وكانت حجرة المكتب حجرة جرداء من البسط، لا بأس بمساحتها، ذات منضد كبير بقرب الموقدة فقد كساؤه من عهد بعيد كل حق في أنه كان في الأصل أخضر اللون؛ لأنه استحال شيئا فشيئا إلى لون رمادي من كثرة التراب وطول العمر، إلا من آثار عليه محي الأخضر منها محوا بلطخات المداد، ومن فوق المنضد أكداس كثيرة من الأوراق مربوطة بأشرطة حمر، وقد جلس من خلفها كاتب يدنو من حدود الكهولة وتوحي نعومة مظهره والسلسلة الذهبية الضخمة المتدلية من جيبه بمدى رواج مكتب المحامي اسنبن ووفرة أرباحه.
وقال المستر بركر وهو يعرض حق سعوطه بكل أدب ممكن: «هل المحامي في حجرته يا مستر مالارد؟»
فكان الجواب: «نعم، ولكنه مشغول جدا، اسمع مني، إنه لم يعط رأيا إلى الآن في أي قضية من هذه القضايا مع أن رسوم الاستشارة العاجلة قد دفعت عنها جميعا.»
وقال بركر: «هذا عمل فيما يظهر.»
وأجاب كاتب المحامي وهو يخرج حق سعوطه ويعرضه على المستر بركر بكل لطف وأدب: «نعم، وأبدع شيء في هذا الأمر أنه ليس في الدنيا أحد سواي يعرف كيف يقرأ خط المحامي، وهذا يقتضي الانتظار ريثما يعطي الرأي، وأتولى بنفسي نسخه، ها، ها، ها!»
وقال بركر: «ولمصلحة من غير المحامي كل هذا الانتظار، ومن الذي سيقتضي مالا أكثر من الزبائن؟ ها، ها، ها!»
وعاد الكاتب يضحك من هذا السؤال أيضا، ولكن ضحكاته لم تكن صخابة، بل صامتة هادئة لم يستلطف المستر بكوك سماعها وهي تتحشرج في صدر الكاتب، أو تنحبس في جوفه؛ ذلك أنه حين ينزف إنسان نزيفا باطنيا، يقتصر الخطر من النزيف عليه وحده، ولكنه إذا ضحك ضحكة «باطنية» أو «من الداخل»؛ فإن ذلك لا يبشر الآخرين بخير، ولا يبعث على الطمأنينة.
وقال بركر: «أراك لم تضع لي ذلك البيان الصغير الذي طلبت إليك إعداده عن الرسوم التي أنا مدين بها لكم؟»
وأجاب الكاتب قائلا: «كلا، لم أفعل إلى الآن.»
وقال بركر: «أرجوك أن تعده، وترسله إلي لأبعث إليك بصك على المصرف، ولكني أحسبك في شغل شاغل بتسلم المال النقد، والقبض العاجل الفوري عن التفكير في المدينين بهذه الرسوم، آه؟ ها، ها، ها!»
والظاهر أن هذه الغمزة كانت إشارة شديدة الأثر في نفس الكاتب، حتى لقد عاد إلى ضحكه الهادئ الباطني من جديد.
ولكن بركر مضى يقول وقد استرد وقاره فجأة، وجذب الكاتب العظيم الذي يشتغل في مكتب المحامي العظيم من طرف ثوبه، إلى ركن في الحجرة: «ولكن يا مستر مالارد، يا صديقي العزيز، يجب أن تقنع المحامي بمقابلتي أنا وعميلي هذا.»
وأجاب الكاتب: «هذا شيء آخر ليس سيئا، تقابل المحامي! هذا أمر غير معقول!» ولكن على الرغم من استبعاده أو استحالته، ترك الكاتب نفسه يجتذب برفق إلى مكان بعيد عن سمع المستر بكوك، وبعد تبادل الهمس، والمخافتة لحظة قصيرة انطلق برفق في دهليز مظلم صغير ودخل ذلك الحرم القضائي المقدس، ولم يلبث أن عاد منه على أطراف قدميه وأبلغ المستر بركر والمستر بكوك أنه قد وفق في إقناع المحامي بمقابلتهما في الحال، مخالفا بذلك كل القواعد المقررة والتقاليد المرعية.
وكان وجه المحامي اسنبن يشبه الفانوس، ويبدو الشحوب على قسماته، وهو في قرابة الخامسة والأربعين، أو كما يقال في القصص والروايات: يحتمل أن يكون فلى الخمسين. وله تلك العين البليدة المعتمة التي تشاهد غالبا في رءوس الذين انهمكوا عدة سنين في جهد الدراسة، وكانت تلك العين وحدها كافية بغير حاجة إلى منظار إضافي يتدلى من شريط أسود عريض حول عنقه، للإيحاء إلى نفس الغريب عنه بأنه قصير النظر، وكان شعره قليلا ضعيفا؛ لأنه أولا لم يفض في يوم ما لتنظيمه وتهذيبه، ولأنه ثانيا يلبس «الجمة» المستعارة التي يلبسها المحامون فوق رءوسهم؛ فقد لبث يضعها خمسا وعشرين سنة فوق هامته، وكانت في تلك اللحظة معلقة بجانب مكتبه وتوحي آثار المسحوق الذي يوضع على الشعر، في طوق سترته، واللفافة البيضاء غير المتقنة الغسل ولا محكمة الربط حول رقبته، بأنه لم يجد فراغا من وقته منذ انصرف من المحكمة لإحداث أي تغيير في لباسه، كما يؤخذ من الإهمال البادي على بقية ثيابه الأخرى أنه لو كان قد وجد فسحة لتغييرها لما ظهرت بزته أحسن من ذلك ولا ألطف شكلا، وقد انتثرت على مكتبه كتب القانون، وأكوام الورق والخطابات المفضوضة الغلف، بلا أدنى محاولة في سبيل تنظيمها أو تنسيقها، كما بدا أثاث الحجرة قديما وأرجل المقاعد مكسورة أو مهزوزة، وأبواب مكتبه متعفنة المفاصل، والغبار يتطاير من البساط في سحب صغيرة، عند كل خطوة قدم فوقه، والأستار صفراء من القدم والاتساخ، ويدل كل شيء في الغرفة بوضوح ظاهر أن المستر اسنبن المحامي أشد انشغالا بعمله من أن يلقي بالا إلى وسائل راحته وأسباب رفاهيته.
وكان المحامي اسنبن يكتب حين دخل العميلان عليه، فانحنى وهو ذاهل عندما تقدم المحامي لتعريفه بالمستر بكوك، ثم أشار إليهما بالجلوس، ووضع القلم من يده في الدواة بعناية بالغة، وربت بكفه على ساقه اليسرى، وانتظر سماع قولهما.
وأنشأ بركر يقول: «إن المستر بكوك هو المدعى عليه في قضية باردل يا أستاذ اسنبن.»
وقال الأستاذ: «وهل وكلت في هذه القضية؟»
وأجاب بركر: «نعم يا سيدي.»
فأومأ برأسه، وانتظر سماع شيء آخر.
ومضى بركر يقول: «لقد كان المستر بكوك في لهفة على مقابلتك يا أستاذ اسنبن لكي يشرح لك قبل أن تدخل في القضية أنه لا سبب ولا شبه سبب لإقامة هذه الدعوى عليه، وأنه إذا لم يخرج نظيف اليدين مقتنعا كل الاقتناع من ناحية ضميره وذمته بأنه محق في معارضته طلبات المدعية، فلن يحضر المحاكمة أبدا، وأعتقد أنني قد شرحت له رأيك تماما، ألم أفعل يا سيدي العزيز؟» قال ذلك وهو يلتفت إلى المستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «هذا صحيح.»
ونشر الأستاذ اسنبن منظاره وكان مطويا، ورفعه إلى عينيه، وبعد أن نظر إلى المستر بكوك بضع ثوان نظرات فاحصة، انثنى إلى المستر بركر فقال وهو يبتسم قليلا: «هل لدى المستر بكوك أسباب وحجج قوية؟»
فهز بركر كتفيه. - «وهل في نيتك دعوة شهود؟» - «كلا.»
ولم تلبث الابتسامة البادية على وجه الأستاذ اسنبن أن لاحت أكثر وضوحا وجلاء، ومضى يهز ساقه بحركة متزايدة، ثم ألقى ظهره إلى مسند مقعده الرحيب، وسعل سعلة المتشكك.
ولم تغب هذه الحركات النامة عن رأي الأستاذ في الموضوع، عن نظر المستر بكوك، على الرغم من خفة تلك الحركات وضآلتها، فمد يده إلى المنظار الذي كان يتأمل من خلفه تلك الحركات التي بدت من المحامي، أو سمح لنفسه بإظهارها، فأثبته فوق أنفه، وقال بلهجة قوية غير مبال مطلقا بغمزات المستر بركر وعبساته ونذره: «لست أشك في أن رغبتي في مقابلتك لغرض كهذا يا سيدي ستبدو لعين سيد مثلك طال عهده بتناول هذه المسائل ونحوها، ظرفا خارقا للمألوف كثيرا.»
وحاول الأستاذ أن ينظر بجد إلى النار، ولكن الابتسامة عاودت سحنته.
واستتلى المستر بكوك قائلا: «إن السادات الذين يشتغلون بمهنتكم يا سيدي ليرون أسوأ نواحي الطبيعة البشرية، وإن كل ما فيها من منازعات، وشرور وسوء نيات، لتنهض أمام أبصاركم وتتكشف عن حقائقها لأعينكم، وإنكم لتعرفون من تجاريبكم مع المحلفين - ولست أقصد الانتقاص من أقدارهم أو أقداركم - مبلغ النتائج التي قد تترتب على مدى التأثير فيهم، وقد تعزون إلى الغير الرغبة، من أجل محاولة التضليل أو كسب مصلحة شخصية، في استخدام الأسلحة ذاتها التي تعرفون من طول عهدكم باستخدامها، والدأب على الاستعانة بها، مبلغ قيمتها وقدرها حق المعرفة، وأنتم إنما تلجأون إليها من أجل نقاء ذممكم، وشرف غايتكم وقصدكم، ومحمود رغبتكم في بذل أقصى الجهود لمصلحة موكلكم. وإني لأعتقد صادقا أن هذا هو الباعث الذي يدعو الناس عامة إلى الظن الحقير بأنكم بوصفكم طائفة قوم ظنانون، لا تطمئنون إلى أحد، ومغالون في الحيطة، ولست أجهل يا سيدي ضرر هذا الرأي الذي أصارحكم به، في هذه الظروف، ولكني لا أكتمكم أنني ما جئت إلى هنا إلا لأني أود مخلصا أن تفهموا أنني - كما قال صديقي المستر بركر في هذه اللحظة - بريء من هذه الفرية التي اتهمت بها، ولئن كنت مدركا حق الإدراك قيمة معونتكم التي لا تقدر يا سيدي، فلا أجد مندوحة من أن أضيف أنني إذا لم تعتقدوا أنني بريء اعتقادا صحيحا صادقا، أوثر أن أحرم من عون مواهبكم، وفضل نبوغكم، عن الانتفاع بها.»
وقبل أن ينتهي المستر بكوك من هذه الخطبة التي نجد لزاما علينا أن نقول: إنها كانت مملة له ثقيلة، كان الأستاذ اسنبن قد عاد من وقت طويل إلى الشرود وذهول الخاطر. على أنه لم يلبث بعد بضع دقائق أمسك فيها مرة أخرى قلمه أن عاد إلى الشعور بوجود عميليه، فرفع بصره عن الورق وقال في شيء من الحدة: «من المحامي الذي معي في هذه القضية؟»
وأجاب بركر: «المستر فنكي يا أستاذ اسنبن.»
وقال الأستاذ: «فنكي، فنكي، لم أسمع بهذا الاسم مطلقا قبل الآن، لا بد من أن يكون شابا صغيرا؟»
وأجاب بركر: «نعم شاب صغير جدا، ولم نفاتحه في الأمر إلا من يومين، دعني أتذكر، إنه لم يمض في الترافع أمام القضاء أكثر من ثمانية أعوام.»
وقال الأستاذ بتلك اللهجة الراثية المشفقة التي اعتاد الناس أن يتكلموا بها عن طفل صغير لا حول له ولا قوة: «آه! لم أكن أظن ذلك، يا مستر مالارد أرسل في طلب المستر ... المستر ...»
فعاجله بركر قائلا: «فنكي، في هولبورن كورت بفندق جريز - وقد أصبح هولبورن كورت اليوم يدعى الميدان الجنوبي - وليقل الرسول إليه: إنني أحب أن يأتي لحظة إلى هنا.»
وانصرف المستر مالارد لتنفيذ المهمة، وعاد الأستاذ اسنبن إلى الذهول حتى قدم المستر فنكي.
وكان هذا رجلا كامل النماء، وإن كان محاميا صغيرا، وهو يلوح عصبيا، متلعثما في منطقه إلى حد مؤلم، ولم يكن تلعثمه هذا عيبا طبيعيا فيه، ولكن الظاهر أن مرده إلى التهيب من أثر الشعور بقلة المال، أو النفوذ، أو الاتصالات، أو الجرأة، وكان في رعب بالغ من الأستاذ اسنبن، ومؤدبا غاية الأدب في حضرته.
وقال الأستاذ اسنبن بتنازل من عليائه وأوج موضعه: «لم أسعد قبل الآن برؤيتك يا مستر فنكي.»
فانحنى المستر فنكي، وكان قد أتيح له هو السرور برؤية الأستاذ اسنبن، والشعور بالحسد له أيضا، بكل ما في صدر الرجل الفقير من الحسد، ثمانية أعوام وربع عام.
وقال الأستاذ اسنبن: «لقد علمت أنك معي في هذه القضية.»
ولو كان المستر فنكي رجلا غنيا، لبعث في الحال إلى كاتبه لكي يذكره هل الأمر كذلك، ولو كان حكيما لرفع سبابته إلى جبهته، وحاول أن يتذكر هل تراه من زحمة الأعمال عليه قد ارتبط بالمرافعة في هذه القضية أو لم يرتبط، ولكنه لم يكن بالغني ولا بالحكيم في هذا المعنى على كل حال، فاحمر وجهه وانحنى لسائله.
وقال الأستاذ اسنبن: «وهل قرأت أوراق القضية يا مستر فنكي؟»
وهنا أيضا كان ينبغي للمستر فنكي أن يقر بأنه قد نسي كل ما يتصل بهذه القضية، أما وقد قرأ كل ما عرض عليه من الأوراق في خلال سير الدعوى، ولم يفكر في شيء عداها، لا في يقظته ولا في نومه، خلال الشهرين اللذين تولاها فيهما تحت يد الأستاذ اسنبن؛ فقد زاد احمرار وجهه، وانحنى مرة ثانية.
وقال الأستاذ اسنبن وهو يشير بقلمه إلى الناحية التي كان المستر بكوك واقفا فيها: «ها هو ذا المستر بكوك.»
وانحنى المستر فنكي للمستر بكوك بذلك الاحترام الذي يثيره حتما أول زبون، ثم عاد يميل رأسه صوب مرشده.
وقال الأستاذ: «لا بأس أن تأخذ معك المستر بكوك ، و... و... و... وتسمع منه ما يجب أن يقوله، وطبعا سنجتمع للمشاورة.»
وبهذه العبارة أراد الأستاذ اسنبن أن يلمح بأنهم قد استنفدوا جزءا كبيرا من وقته، وقد بدا أكثر شرودا من قبل، ورفع منظاره إلى عينيه لحظة وانحنى انحناءة خفيفة لمن حوله، وراح ينشغل كل الانشغال بالقضية التي أمامه، والتي تفرعت عن دعوى طويلة لا تنتهي، بسبب تصرف شخص توفي منذ قرن مضى أو نحوه، وكان قد سد طريقا يؤدي من مكان لم يأت إنسان منه في يوم من الأيام إلى مكان آخر لم يذهب إنسان إليه يوما ما.
ولم يقبل المستر فنكي أن يجتاز الباب حتى يجتازه المستر بكوك ووكيله قبله، فانقضت فترة من الوقت ريثما وصلوا إلى الميدان، وراحوا يمشون ذهابا وجيئة فيه، وراحوا يتحدثون حديثا طويلا كانت نتيجته أنه من العسير للغاية القطع بنوع الحكم المنتظر في القضية، وأنه لا يستطيع امرؤ أن يعرف نهاية أية قضية معرفة اليقين، وأنه كان من حسن الحظ للغاية أنهم وفقوا إلى منع الخصوم من توكيل الأستاذ اسنبن عنهم، إلى غير ذلك من موضوعات تناولت التشكك في نتيجة القضية والعزاء عنها كما هو مألوف في هذه الأحوال.
وأيقظ المستر بكوك خادمه المستر ولر من نوم لذيذ استغرق ساعة كاملة، وودع لوتن وعادا إلى المدينة.
قسط معين من المال ينقده للمحامي الذي يتمرن لديه.
لعلها إشارة سخرية تشبه ما عندنا حين نتحدث عن «طحن البن»؛ وهو تحريك قبضة اليمنى فوق راحة اليسرى، والمعنى هنا أنه لا مفر من التسليم بالعقوبة.
الرابع عشر من فبراير هو عيد القديس «فالنتين»، وهو اليوم الذي قطع فيه رأسه، والذي يقال: إن الطيور فيه تتساند، ويختار فيه الرجل حبيبته.
الفصل الثاني والثلاثون
وصف مأدبة أعزب أقامها المستر بب سوير في مسكنه بالضاحية، وصفا أوفى من أي مندوب قضائي في إحدى الصحف السيارة. ***
يسود شارع «لانت ستريت» في الضاحية هدوء شامل يسكب على النفس كآبة رقيقة، ويضفي على الخاطر سكينة محزنة، ولا يخلو الشارع أبدا من عدة منازل للإيجار وهو شارع جانبي أيضا، والكآبة الضافية على أفقه مهدئة، ولا يعد البيت القائم في هذا الشارع في مصاف البيوت التي من «الطراز الأول» فالمعنى الدقيق الذي يفهم من هذا التعبير، وإن كان موضعا مرغوبا فيه إلى أبعد حد. فإن شاء أحد أن يجرد نفسه من شئون هذه الدنيا، ويظل بمنأى عن المغريات، واحتمال قيام دافع يحمله على أن يطل من النافذة، فليسكن في ذلك الشارع بالذات.
وفي هذا المنعزل السعيد تقوم بضعة حوانيت للكوائين، وأخرى لمجلدي الكتب المتجولين، ودكان أو دكانان للوكلاء المختصين بمحكمة التفاليس، وعدة منازل صغيرة يقطنها المشتغلون في أرصفة الميناء والأحواض، وحفنة من حائكات المعاطف التي ترتديها النساء، وفئة قليلة من الخياطين بالقطعة، بينما توجه جمهرة سكانه نشاطها إلى تأجير الغرف المفروشة أو تتوفر على جندرة الملابس، وهي صنعة تكسب أصحابها الصحة والقوة والبأس، وأبرز المعالم في حياة هذا الشارع الهادئ المصاريع الخضر، والإعلانات عن مساكن للإيجار، واللافتات النحاسية لأسماء السكان المعلقة على الأبواب، ومقابض الأجراس، وأغلب مظاهر النشاط البشري فيه تتجلى في الغلام الذي يغسل الأواني، والشاب الذي يبيع الفطير، والرجل الذي يعرض البطاطس المسلوق، وسكان الحي المولعين بالهجرة الذين يختفون عادة قبل انتهاء مدة الإيجار، وهي في الغالب تدفع كل ثلاثة شهور، ويكون اختفاؤهم في الجملة ليلا، حتى لقلما تجبى العوائد والضرائب المطلوبة لحضرة صاحب الجلالة من هذا الحي السعيد، ولا يزال دفع الإيجار مشكوكا فيه، وكثيرا ما يقطع الماء عن سكانه.
وكان المستر بب سوير جالسا بجانب النار في مسكنه في الطابق الأول، مساء اليوم الذي دعا فيه المستر بكوك، بينما جلس المستر بنجمن ألن في الجانب الآخر منها، وكانت الاستعدادات لاستقبال الأضياف تلوح مستكملة؛ فقد كومت المظلات التي في الردهة في ركن صغير خارج باب الغرفة الخلفية، وأزيلت قبعة خادمة ربة البيت ولفاعتها من فوق السلم ولم يبق غير نعلين خشبيين (قبقابين) على ممسحة الأرجل الموضوعة فوق عتبة الباب الخارجي، وفي المطبخ شمعة طويلة الذبالة تضيء على بسطة شباك السلم، وكان المستر بب سوير قد ذهب فاشترى الأشربة الكحولية من بعض المخازن وأقبية الخمور في شارع «هاي ستريت» وعاد إلى البيت قبل وصول حاملها، حتى يمنع احتمال تسليمها إلى بيت آخر خطأ، وكان «البنتش» جاهزا في قدر حمراء اللون في غرفة النوم، واستعيرت منضدة صغيرة ذات غطاء أخضر من حجرة الجلوس للعب الورق عليها، وصفت فوق «صينية» كل الأقداح والأكواب التي يحويها البيت، والتي استعير بعضها كذلك من الحانة المجاورة لهذه المناسبة، ووضعت الصينية على البسطة خارج البيت.
ورغم كل هذا التدبير الداعي إلى الارتياح البالغ، كان وجه المستر بب سوير وهو جالس بجوار الموقدة، مكفهرا ترهقه قترة، كما بدت على وجه المستر بنجمن ألن أمارات العطف على صاحبه، وهو جالس يطيل النظر إلى الجذوات المتقدة فيها، ومضى يقول بلهجة محزنة، بعد صمت طويل: «إنه لمن سوء الحظ حقا أن يخطر ببالها أن تنقلب غضبى ثائرة في هذه المناسبة بالذات، لقد كان أولى بها على الأقل أن تنتظر إلى الغد.»
وأجاب المستر بب سوير بحدة: «إنه لحقد وغل منها، حقد وغل، إنها تقول: إني إذا كنت قد استطعت أن أقيم مأدبة؛ فقد كان أولى بي أن أدفع لها المبلغ الصغير المستحق لها.»
وقال المستر بن ألن: «ومنذ كم من الوقت لم يدفع هذا الحساب اليسير؟»
وعلى ذكر الحساب نقول: إن قائمة الحساب أعجب آلة محركة استطاعت عبقرية البشر ابتكارها، حتى لتظل سائرة جارية طول العمر مهما مد في الأجل، وتراخى الزمن به، دون أن تقف يوما من تلقاء ذاتها.
وأجاب المستر بب سوير: «منذ ربع سنة وشهر أو نحوه.»
وسعل بن ألن سعلة من لا حيلة له، وألقى نظرة فاحصة بين القضيبين العلويين من قضبان الموقدة.
وقال أخيرا: «إن الأمر ليكون بالغ الإساءة لو خطر لها أن تأتي مطالبة بالأجرة، وهؤلاء الناس هنا، أليس كذلك؟»
وأجاب بب سوير: «إذن لكان ذلك رهيبا أشد الرهبة.»
وسمعا دقا خفيفا بباب الحجرة، ونظر المستر بب سوير نظرة بليغة التعبير إلى صديقه، وطلب إلى الطارق أن يدخل، فإذا القادم فتاة قذرة رثة في جورب أسود من القطن، قد يظن أنها ابنة كناس متقاعد في فاقة بالغة.
وقالت الفتاة وهي تطل برأسها من الباب: «يا مستر سوير، اسمع من فضلك، إن مسز رادل تريد أن تتكلم معك.»
وقبل أن يتمكن المستر بب سوير من الرد، اختفت الفتاة فجأة، بهزة ظاهرة، كأن أحدا قد جذبها جذبة عنيفة من خلفها، وما كادت الفتاة تنصرف على هذه الصورة الغريبة، حتى دق الباب مرة أخرى، دقة ظاهرة حادة، كأنما تقول: «هأنذي! إنني آتية.»
ونظر المستر بب سوير إلى صديقه نظرة خوف شديد وصاح مرة أخرى: «ادخل.»
ولم يكن هذا الإذن ضروريا مطلقا؛ فقد اندفعت امرأة صغيرة البدن مفترسة إلى الغرفة، قبل أن ينطق بب سوير بهذه الكلمات، وهي ترعش من الغضب، ويصفر وجهها من الحنق، وقالت المرأة الثائرة، وهي تحاول التظاهر بأتم الهدوء: «اسمع يا مستر سوير إذا تكرمت بسداد هذا الحساب اليسير، كنت لك شاكرة؛ لأن علي أن أدفع أجرة البيت بعد ظهر اليوم والمالك منتظر في الطبقة الدنيا.» وفركت المرأة القصيرة يديها وألقت نظرة مستطيلة من فوق رأس المستر بب سوير على الجدار القائم خلفه.
وقال المستر بب سوير بكل احترام: «إنني آسف أشد الأسف؛ إذ أكون سببا في إزعاجك يا مسز رادل ولكن ...»
وقالت المرأة القصيرة وهي تطلق ضحكة صافرة: «ليست المسألة مسألة إزعاج أو تعب، إنني لم أطلبها إلحافا قبل اليوم على الأقل، ولكنها ستذهب إلى المالك مباشرة، فكان يحسن بك أن تحافظ على الموعد منذ وعدتني الدفع يا مستر بب سوير بعد الظهر، وكل سيد سكن من قبلك هنا كان حريصا على كلمته يا سيدي كشيمة كل إنسان يدعو نفسه رجلا مهذبا.»
وطوحت مسز رادل برأسها، وعضت شفتيها، وعركت يديها أشد من قبل، ونظرت إلى الجدار نظرة أطول وأثبت من سالفتها، وكان من الواضح - كما قال المستر بب سوير بعد هذه وبأسلوب الشرقيين في التشبيه والاستعارة - «أن المرأة أخذ بخارها يتصاعد».
ومضى المستر بب سوير يقول بكل ذلة يمكن تصورها: «إنني آسف أشد الأسف يا مسز رادل، ولكن الواقع أنني عدت بخفي حنين من المدينة اليوم. يا للمدينة من مكان غريب! إن عددا مدهشا من الناس يعودون منها خائبي الرجاء في كل وقت.»
وقالت مسز رادل وهي مثبتة قدميها فوق صورة قرنبيطة زرقاء مرسومة على بساط في الغرفة: «ولكن يا مستر سوير ما شأني أنا وهذا؟!»
وقال المستر بب سوير مغضيا عن هذا السؤال: «لست أشك يا مسز رادل في أننا سنستطيع قبل منتصف الأسبوع القادم أن نسوي هذه المسألة بيننا، ثم نسير بعدئذ على نظام أحسن من النظام الذي نسير عليه الآن.»
وكان هذا هو كل ما تبغيه؛ فقد صعدت إلى غرفة المستر بب سوير التعس وهي عازمة على تمثيل الانفعال، والتظاهر بالغضب أكثر من أي شيء آخر، حتى ليغلب علي الظن أن أداء الأجر كان أدعى إلى تخييب رجائها، أكثر من العجز عنه، وكانت على استعداد تام لرياضة خاطرها قليلا بهذا النوع من الانفعال، بعد أن تبادلت بضع شتائم وزوجها المستر رادل في المطبخ توطئة لهذا الفصل الذي جاءت لتمثيله.
قالت وقد أخذت ترفع صوتها حتى يسمعه الجيران: «هل تظن يا مستر سوير أنني سأظل يوما بعد آخر تاركة إنسانا يشغل مسكني ولا يفكر في أداء الأجر ولا حتى ثمن الزبد الطازج والسكر اللذين يقدمان إليه في الفطور، ولا ثمن اللبن الذي يشترى من عند باب البيت؟ وهل تظن أن امرأة دءوبا أقامت في هذا الشارع عشرين سنة، عشرا منها في مسكن آخر فيه، وتسعا وثلاثة أرباع في هذا البيت بالذات، لا عمل لها غير الكد الشديد من أجل حفنة من الكسالى المتعطلين الذين لا ينقطعون عن التدخين والشراب والضحك، وكان أجدر بهم أن يجدوا لأنفسهم عملا يساعدهم على أداء ما عليهم من حساب؟ وهل تظن ...؟»
وقال المستر بنجمن ألن مقاطعا على سبيل تهدئة خاطرها: «يا سيدتي الكريمة ...»
وعاجلته مسز رادل، وقد قطعت فجأة تيار كلامها السريع الجارف، ووجهت الخطاب إلى هذا الشخص الثالث قائلة بتؤدة بالغة وجد ظاهر: «من فضلك احتفظ بملاحظاتك لنفسك يا سيدي؛ لأنني لا أرى لك أي حق في توجيه كلامك إلي، ولا أعتقد أنني أجرت هذه الغرف لك يا سيدي.»
وقال المستر بنجمن ألن: «طبعا، لم تؤجريها لي.»
وأجابت مسز رادل بأدب فائق: «حسن جدا يا سيدي، ويكفيك أن تقتصر على بتر أذرع المساكين وسيقانهم في المستشفيات، لا تتعد شأنك يا سيدي، وإلا فإن هنا من يستطيع أن يرغمك على ذلك إرغاما.»
وقال المستر بنجمن ألن محتجا متذمرا: «ولكنك امرأة غير معقولة إلى حد بالغ.»
وقالت مسز رادل وهي تتصبب عرقا باردا من الغضب: «هل تتكرم أيها الشاب بأن تدعوني كذلك مرة أخرى؟»
وأجاب المستر بنجمن ألن وهو قلق مرتبك إلى حد ما: «إنني لم أقصد معنى سيئا من هذه الكلمة يا سيدتي.»
وعادت مسز رادل تقول بصوت أجهر من قبل وأشد تحكما: «أرجوك أيها الشاب، من هي التي تسميها امرأة؟ هل وجهت هذه الملاحظة إلي يا سيدي؟»
وقال المستر بنجمن ألن: «رحمتك يا رب.»
ولكنها قاطعته قائلة بشدة متناهية، وهي تفتح الباب على مصراعيه: «هل وجهت هذا الكلام إلي، إنني أسألك هذا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بنجمن ألن: «نعم، بالطبع.»
وقالت مسز رادل وهي تتراجع شيئا فشيئا إلى الباب وترفع صوتها إلى أعلى حدوده، لكي يسمعه المستر رادل زوجها الجالس في المطبخ: «نعم، بالطبع وجهته إلي. نعم، وجهته إلي بالطبع، حتى أصبح كل إنسان يعرف أنه من الجائز أن يشتمني وهو آمن مطمئن في بيتي بينما يجلس زوجي في الدور الأول نائما غير آبه ولا مكترث كأنني كلبة في الشارع. لقد كان أولى به أن يستحيي ويخجل من نفسه (وهنا انتحبت وأجهشت بالبكاء) إذ يترك زوجته تعامل بهذا الشكل من حفنة من الشبان قطاعي أجسام البشر وباتري الأذرع والسيقان، وهم سبة في هذا المسكن (وعادت هنا إلى النحيب) ويدعها معرضة لجميع صور الإهانات والسباب. إنه لنذل، جبان، رعديد، يخشى الصعود إلى هنا ومواجهة هؤلاء القساة، إنه خائف من الحضور ... خائف!»
وتمهلت مسز رادل لتصغي وتتبين هل أثار تكرار هذا الاستفزاز «نصفها الأفضل» أو لم يثر، وحين وجدت أنه لم ينجح في إثارته، أخذت تهبط الدرج مرسلة انتحابات لا عداد لها، وفي تلك اللحظة دق الباب دقتين شديدتين، فانفجرت في نوبة تشنجية من النحيب مقترنة بأنين أليم استطال حتى تكرر الدق ست مرات، فإذا هي في نوبة أخرى لا تستطيع مغالبتها تلقي بكل المظلات على الأرض وتتوارى في الغرفة الخلفية مغلقة الباب في أثرها بعنف شديد.
وقال المستر بكوك حين فتح الباب: «هل يقيم المستر سوير هنا؟»
وأجابت الفتاة: «نعم في الدور الأول، ستجد الباب أمامك مباشرة حين تصعد السلم.»
وما كادت الخادم تنتهي من إعطاء هذه المعلومات - وهي خادم نشأت في وسط السكان الأصليين في ساوثوارك - حتى توارت وهي تحمل الشمعة في يدها، هابطة سلم المطبخ، مقتنعة كل الاقتناع بأنها قد أدت كل ما هو مطلوب منها في هذه الظروف.
وكان المستر سنودجراس آخر من دخل، فأغلق الباب المؤدي إلى الشارع بعد عدة جهود ومحاولات عقيمة، بجذب السلسلة الحديدية، وراح الأصدقاء يصعدون السلم متعثرين، حيث استقبلهم المستر بب سوير؛ فقد كان خائفا من النزول؛ لئلا تمسك به صاحبة البيت.
وقال الطالب المرتبك: «كيف الحال؟ إني لمسرور بلقائكم. التفت إلى الأقداح!» وكان هذا التحذير موجها إلى المستر بكوك؛ لأنه راح يضع قبعته فوق الصينية.
وقال المستر بكوك: «رباه! أرجو المعذرة.»
وأجاب المستر بب سوير: «العفو، العفو، إن المكان ضيق كما ترى، ولا مفر من التسامح حين يأتي امرؤ لزيارة شاب أعزب، تفضل بالدخول. أحسبك قد رأيت هذا السيد من قبل؟»
وصافح المستر بكوك المستر بن ألن، وفعل أصحابه كذلك، وما كادوا يتخذون مجالسهم، حتى سمعوا دقا متكررا بالباب.
وقال المستر بب سوير: «أرجو أن يكون الطارق جاك هبكنز. صه، نعم هو، اصعد يا جاك، اصعد.»
وسمع وقع أقدام ثقال فوق مدارج السلم وبدا جاك هبكنز للأعين وهو يرتدي صدارا أسود من المخمل ذا أزرار من الرعد والبرق وقميصا أزرق مخططا ذا طوق أبيض مستعار.
وقال المستر بنجمن ألن: «لقد تأخرت يا جاك!»
وأجاب هبكنز: «لقد حجزني العمل في مستشفى برثولميو.» - «هل من جديد؟» - «كلا، لا جديد بالذات، مجرد حادثة طبية في عنبر الحوادث.»
وسأل المستر بكوك قائلا: «وما هي هذه الحادثة يا سيدي؟»
قال: «حادثة لا تعدو سقوط رجل من شباك سلم ذي ثماني درجات، ولكنها حادثة متوسطة للغاية، حادثة متوسطة جدا، لا بأس بها.»
وقال المستر بكوك: «هل تقصد أن المريض في طريقه العاجل إلى الشفاء؟»
وأجاب هبكنز بغير اكتراث: «كلا، بل أعتقد أنه لن يتماثل إليه؛ إذ لا بد من إجراء عملية بديعة له غدا، وستكون العملية مشهدا رائعا إذا تولاها سلاشر!»
وعاد المستر بكوك يسأل قائلا: «وهل تعد المستر سلاشر جراحا بارعا؟»
وأجاب هبكنز: «أحسن الجراحين الأحياء، لقد انتزع ساق غلام من المفصل في الأسبوع الماضي، فلم تمض دقيقتان على العملية حتى كان الغلام يأكل خمس تفاحات ورغيفا من الخبز الخليط، وقال الغلام: إنه لن يظل راقدا في موضعه ليلهى به على هذه الصورة، وإنه سيقول لأمه إذا لم يبدءوا.»
وقال المستر بكوك وهو مبهوت: «يا عجبا!»
وقال جاك هبكنز: «وهل هذا شيء يهم؟ هل هو كذلك يا بب؟!»
وأجاب بب سوير: «كلا، أبدا.»
ومضى هبكنز يقول، وهو ينظر إلى الانتباه البادي على وجه المستر بكوك نظرة لا تكاد تبين: «والشيء بالشيء يذكر يا بب، لقد جاءتنا حادثة غريبة في الليلة الماضية؛ فقد جيء بطفل ابتلع عقدا.»
وقاطعه المستر بكوك قائلا: «ابتلع ماذا؟ أي شيء يا سيدي؟!»
وأجاب جاك هبكنز: «ابتلع عقدا، ولكنه لم يبتلعه مرة واحدة كما لا يخفى؛ لأن ذلك كثير جدا، لا تستطيع أنت أن تبتلعه، لو أن الطفل استطاع، يا مستر بكوك، ها، ها.»
وكان المستر هبكنز يلوح مسرورا كل السرور بنكتته هذه، وقد استرسل يقول: «كلا، ولكن الذي حدث هو أن أبويه فقيران يسكنان في فناء وأن أخته الكبيرة اشترت عقدا، عقدا عاديا من الخرز الأسود الكبير المصنوع من الخشب، وكان الطفل مولعا باللعب فاسترق العقد، وأخفاه، ولعب به، وقطع خيطه، وابتلع خرزة من خرزاته وهو يحسب ذلك لهوا بديعا، وتسلية جميلة، فذهب من غداته فابتلع خرزة أخرى!»
وقال المستر بكوك: «بالله، ما أبشع هذا! معذرة، أرجوك يا سيدي أن تستمر.»
ومضى هبكنز يقول: «وفي اليوم التالي ابتلع الطفل خرزتين، وبعد ذلك بيوم تناول ثلاثا، وهكذا دواليك؛ فلم ينقض أسبوع حتى أتى على خرزات العقد كلها، وهي خمس وعشرون خرزة، فما كان من أخته وهي صبية دءوب قلما تنعم بشيء من الكماليات، أو تجد بعض المتع والترف، إلا أن راحت تبكي وتتشنج لضياع عقدها، وتبحث عنه في كل مكان، ولكنها طبعا لم تجده، وبينما كانت الأسرة بعد أيام جالسة إلى الغداء، وقد أعدت كتفا من لحم الضأن من تحته البطاطس، ولم يكن الطفل جائعا فراح يلعب في أرجاء الحجرة؛ إذ سمعت فجأة صوتا أشبه برخة صرد، فقال الأب: لا تفعل هذا يا بني. وأجاب الطفل: لم أفعل شيئا. وقال الأب: لا تفعل ذلك مرة أخرى. وبعد صمت قصير عاد ذلك الصوت ثانية أشد من قبل، وصاح الأب بالطفل قائلا: إذا لم تطع ما أقول يا بني فستجد نفسك في فراشك في أقل من همسة خنزير. وهز الطفل ليحمله على إطاعة أمره، فإذا صوت ينبعث أشبه بالكركبة لم يسمع أحد مثله، وصاح الأب قائلا: يا للعجب! إن هذا الصوت منبعث من جوف الولد، ولا بد من أنه قد أصيب بذبحة الزور في موضع غير موضعها من جسمه. وقال الطفل وقد بدأ يبكي: كلا يا أبت، إنه العقد، لقد بلعته يا أبي، وبادر الأب فاحتمله وجرى به إلى المستشفى، وظلت الخرزات التي في جوفه تجلجل طيلة الطريق من أثر الاهتزاز، وراح الناس يصعدون أنظارهم إلى الفضاء، وينظرون من تحتهم إلى الأقبية؛ ليروا من أين ينبعث هذا الصوت الغريب على أسماعهم.»
واستتلى جاك هبكنز يقول: «وهو الآن في المستشفى، يحدث كلما مشى في أرجائه صوتا عجيبا، اقتضى لفه في معطف أحد الحراس مخافة أن يوقظ المرضى!»
وقال المستر بكوك وهو يضرب المائدة بقبضته مؤكدا قوله: «هذه أغرب حادثة سمعت بها في حياتي.»
وقال جاك هبكنز: «إنها لا شيء! أليس كذلك يا بب؟»
وأجاب المستر بب سوير: «بلا شك!»
وعاد هبكنز يقول: «أؤكد لك يا سيدي أن هناك أشياء غريبة جدا تقع في مهنتنا.»
وأجاب المستر بكوك: «هذا ما يجعلني أتصور ذلك.»
ودق الباب مرة أخرى.
وكان القادم شابا كبير الرأس ذا ضفيرة سوداء مستعارة يصحب فتى تتساقط «الهنبرية»
1
من شعر رأسه، وهو يضع غطاء مستطيلا حول عنقه، وكان القادم التالي سيدا في قميص مرصع بأزرار وردية تشبه «المراسي» وتبعه على الأثر فتى شاحب الوجه يعلق ساعته بسلسلة مفضضة، وكان قدوم ضيف آخر أنيق في قميص نظيف وحذاء من القماش، فسحبت المائدة الصغيرة ذات الغطاء الأخضر إلى الخارج، وأحضرت الدفعة الأولى من البنتش في قدر بيضاء، وانقضت الساعات الثلاث التاليات في لعبة من ألعاب الميسر تدعى لعبة «واحد وعشرين» كل اثنتي عشرة «فيشة» فيها بستة بنسات، ولم ينقطع اللعب خلالها إلا مرة واحدة عندما قام نزاع يسير بين الشاب ذي الهبرية المتساقطة من شعره، وبين السيد ذي الأزرار الوردية، أبدى فيه ذلك الشاب رغبة شديدة في جذب السيد صاحب الأزرار من أنفه، الأزرار التي يعدها بشائر الأمل، ورد عليها هذا الأخير بإظهار رفضه القاطع لقبول أي سخرية بلا موجب، لا من الشاب السريع الانفعال، الذي يتساقط «القشر» من شعر رأسه، ولا من أي مخلوق آخر كائنا من كان.
وعندما أعلن أن لعبة «الواحد والعشرين» قد انتهت وتمت تسوية حساب المكسب والخسارة من «الفيشات» والبنسات الستة، وانتهى الموقف برضى الجميع وارتياحهم، دق المستر بب سوير الجرس لإحضار العشاء، وحشر الأضياف أنفسهم في الأركان والزوايا ريثما يتم إعداده.
ولم يكن إعداد الطعام سهلا إلى الحد الذي قد يتصوره بعض الناس؛ فقد كان لا بد أولا من إيقاظ الفتاة، وكان النعاس قد استولى عليها فألقت بوجهها فوق منضدة المطبخ، وقد استغرق إيقاظها بعض الوقت، وحين ردت على الجرس ضاع ربع ساعة آخر في محاولات عقيمة لتنبيهها من ذهولها، وتصحيتها ولو قليلا لكي تفهم المراد، وكان الرجل الذي كلف بتقديم الأصداف البحرية الحية قد جاء بها مغلقة؛ لأن أحدا لم يطلب إليه فتحها ومن المشقة البالغة معالجة فتحها بسكين أو شوكة ذات إصبعين، ولذلك لم تتناول الجماعة الشيء الكثير منها، ولم يكن لحم العجول قد قطع أيضا، ولحم الخنزير الذي اشتري كذلك من دكان الألماني بائع اللحوم الباردة القائم على ناصية الشارع قد ترك في حال مماثلة لم يعالجه أحد ولكن كان ثمة قدر وفير من «الجعة» في آنية من القصدير، وكفى الجبن الجميع؛ لأن كلا منهم قنع منه بقطعة صغيرة لشدة مذاقه، وجملة القول أن العشاء كان لا بأس به كما يكون العشاء عادة في هذه الأحوال ونحوها.
وبعد أن فرغ القوم منه أحضرت قدر أخرى من «البنتش» فوضعت فوق الخوان، وإلى جانبها صندوق من لفافات التبغ الكبيرة، وزجاجتان من الكحول.
وانقضت فترة سكون رهيبة، أدى إليها حادث مألوف كل الإيلاف في هذا النوع من المساكن، وإن كان مع ذلك حادثا يثير أشد الارتباك، وهو أن الفتاة كانت تغسل الأقداح، وكان منها أربعة في البيت، ولسنا هنا في معرض الانتقاص من مسكن مسز رادل؛ فلم يكن في المساكن المعدة للإيجار مسكن لا يعاني عجزا في الأقداح أو أزمة في الأكواب! وكانت أقداحها من النوع الرفيع المفرطح، بينما كانت الأقداح المستعارة من الحانة القريبة رقيقة الجدران رحيبة الجوف منتفخة الشكل، يقوم كل قدح منها فوق ساق ضخمة عرجاء غير ثابتة كأنها تشكو النقرس، وكان هذا وحده كافيا لإفهام الأضياف حقيقة الحال، ولكن الخادم التي تتولى كل عمل في البيت حالت بينهم وبين احتمال هذا التصور، أو تسرب فكرة كهذه إلى أخلادهم؛ فقد انثنت تأخذ كل قدح من أمام كل ضيف منهم قبل أن يفرغ ما فيه من الجعة، وهي تقول بصوت مسموع رغم غمزات المستر بب سوير ومقاطعاته: إنها ستحمله إلى الطبقة الدنيا من المسكن لغسله في الحال.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فقد كان الرجل الأنيق الذي ينتعل حذاء من القماش قد حاول عبثا أن يلقي «بنكتة» طيلة الوقت الذي استغرقته المأدبة، ولكنه وجد عندئذ الفرصة سانحة له فانتهزها، فلم تكد الأقداح ترفع وتختفي من المائدة حتى شرع يروي حكاية طويلة تدور حول رجل ذي مكانة كبيرة نسي اسمه، رد ردا بديعا على ذي شخصية أخرى عظيمة مشهورة لم يستطع أيضا أن يتذكر اسمه، ومضى يطنب إلى حد ما في الدقائق والجزئيات بسبيل عدة مواقف وظروف بعيدة الصلة بالحكاية التي يرويها، وعندئذ عجز كل العجز عن تذكر الحكاية ذاتها، وإن اعتاد أن يقصها خلال السنوات العشر الأخيرة ويظفر بدوي من التصفيق والهتاف عند انتهائه منها.
وقال الرجل الأنيق ذو الحذاء المصنوع من القماش: «رباه، إن هذا لشيء عجاب!»
وانثنى المستر بب سوير وهو ينظر بلهفة إلى الباب متصورا أنه سمع صوت الأكواب تقرع: «إنني آسف؛ لأنك قد نسيتها، آسف جدا.»
وأجاب الرجل الأنيق: «وأنا كذلك؛ لأني أعرف أنها كانت تسليكم كل التسلية، ولكن لا بأس، أظن أني سأستطيع أن أتذكرها في خلال نصف ساعة أو نحوه.»
وما إن بلغ الرجل الأنيق هذا المدى من قوله حتى أعيدت الأقداح، وقال المستر بب سوير الذي كان مستغرقا طيلة الوقت في التفكير: إنه يود كثيرا أن يسمع هذه الحكاية إلى نهايتها؛ لأنها أحسن حكاية سمعها في حياته بغير استثناء.
ولكن صوت الأقداح أعاد بب سوير إلى شيء من الهدوء والاتزان اللذين فقدهما من أثر حديثه مع صاحبة البيت، فلم يلبث وجهه أن تهلل وبدا يلوح مرحا منتشيا.
وأنشأ يقول برقة بالغة، وهو في الوقت ذاته يوزع الأكواب التي أعادتها الخادم ووضعتها في وسط المائدة: «والآن يا بتسي، علينا بالماء الدافئ، هيا أيتها الفتاة النشيطة، أسرعي.»
وأجابت بتسي قائلة: «لا سبيل إلى ماء دافئ.»
وصاح المستر بب سوير مبهوتا: «وكيف ذلك؟! ألا سبيل إلى ماء دافئ؟!»
وقالت الفتاة بهزة من رأسها أبلغ نفيا من أي تعبير يتواتى لأي لغة من لغات الناس: «كلا؛ فقد قالت مسز رادل: إنك لا تعطى منه شيئا.»
ورأى رب الدار الدهشة المرتسمة على وجوه أضيافه فألهمته شجاعة جديدة، فقال بعبوس شديد: «أحضري الماء الدافئ في الحال. هيا، في الحال.»
وأجابت الفتاة قائلة: «كلا، لا أقدر؛ فقد أطفأت مسز رادل النار التي كانت موقدة في المطبخ قبل أن تأوي إلى فراشها وأقفلت على الوعاء.»
وقال المستر بكوك وقد فطن إلى انفعال بب سوير المرتسم على سحنته: «لا بأس، لا بأس، أرجوك ألا تنزعج من هذا الأمر التافه، الماء البارد يغني كل الغناء.»
وقال المستر بنجمن ألن: «إن فيه الغناء الذي لا نرجو خيرا منه.»
وقال بب سوير وهو يبتسم ابتسامة قاتمة مكفهرة: «إن صاحبة البيت تنتابها أحيانا نوبات خفيفة من الجنون، وأراني مضطرا أن أعطيها إنذارا!»
وقال بن ألن: «كلا، لا تفعل!»
وقال بب سوير بلهجة الإصرار والبطولة: «أخشى أن أكون مضطرا، سأؤدي لها حسابها وأنذرها صباح غد.»
يا للمسكين! لكم تمنى مخلصا أنه على ما يقول قدير.
وكانت محاولات المستر بب سوير الأليمة في سبيل التماسك والثبات تحت وطأة هذه الصدمة الأخيرة قد أحدثت أثرا غير مشجع في نفوس الأضياف، فراح أكثرهم يجتهدون في تنشيطها بإظهار حماسة فائقة في الإقبال على شرب البراندي بالماء البارد، وكانت الآثار الأولى الظاهرة لهذا الإقبال تجدد الخصومة بين الشاب الذي تتساقط الهبرية من شعره وبين الشاب الذي يرتدي القميص، ومضى المتخاصمان يبديان احتقارهما المتبادل فترة من الوقت في عدة أنواع من التجهمات والزرايات، حتى رأى الشاب الأول أنه لا مفر من الوصول إلى تفاهم ووئام ظاهر، فجرى الحديث التالي:
قال الشاب: «اسمع يا سوير.»
وأجاب المستر بب سوير: «نعم يا ندي.»
وقال المستر ندي: «يؤسفني جدا الأسف يا سوير أن أكون سببا في إحداث أية مضايقة على مائدة صديق، ومن باب أولى على مائدتك أنت يا سوير، ولكن لا مندوحة لي عن انتهاز هذه الفرصة لأقول للمستر جنتر: إنه ليس سيدا مهذبا.»
وقال المستر جنتر: «ويؤسفني أنا كذلك كل الأسف أن أثير أي إزعاج في الشارع الذي تسكنه، ولكني أخشى أن أكون مضطرا إلى إزعاج الجيران بإلقاء الشخص الذي تكلم اللحظة من النافذة.»
وقال المستر ندي: «ماذا تقصد بهذا يا سيدي؟»
وأجاب المستر جنتر: «أقصد ما أقوله يا سيدي.»
وقال المستر ندي: «أحب أن أراك تفعل ذلك يا سيدي.»
وأجاب المستر جنتر: «ستشعر بأنني فاعله قبل أن يمضي نصف دقيقة يا سيدي.»
وقال المستر ندي: «أرجو أن تتكرم علي ببطاقتك يا سيدي.»
وأجاب المستر جنتر: «لن أفعل شيئا من هذا القبيل يا سيدي.»
وقال المستر ندي: «ولم لا تفعله يا سيدي؟!»
وأجاب المستر جنتر: «لأنك ستلصقها فوق طنف مدفأتك وتوهم زائريك كذبا أن سيدا مهذبا جاء لزيارتك يا سيدي.»
وقال المستر ندي: «سيدي، سأوفد إليك في الصباح صديقا من أصدقائي.»
وأجاب المستر جنتر: «سيدي، إنني شاكر له هذا التحذير كل الشكر وسأترك لخادمي تعليمات صريحة بأن يضع الملاعق في صوانها ويغلقه بالمفتاح والقفل.»
ولما بلغ التشاتم هذا الحد تدخل الضيوف واحتجوا مستنكرين عليهما هذا التصرف غير اللائق بهما، فطلب المستر ندي أن يقول: إن والده لا يقل مركزا ولا احتراما عن والد المستر جنتر. وأجاب هذا أن والده هو الآخر محترم كل الاحترام كوالد المستر ندي، وأن ابن والده ليس دون المستر ندي شأنا ولا قدرا في أي يوم من الأيام! وكان هذا القول يبدو مقدمة لعودة النزاع من جديد، فعاد القوم إلى التدخل، وتلا تدخلهم كلام كثير وصياح شديد، ترك المستر ندي خلالهما شعوره يتغلب عليه شيئا فشيئا، ويعترف بأنه يشعر دائما بعلاقة ودية خاصة نحو المستر جنتر، وأجاب هذا بقوله: إنه - على العموم - يؤثر المستر ندي على أخيه. فلم يكد الأخير يسمع هذا الاعتراف حتى نهض بشهامة وعظمة من مقعده ومد يده إلى المستر جنتر، فشدها هذا بحماسة ظاهرة، وقال الجميع: إن المسألة كلها جرت بصورة مشرفة لهما كل التشريف.
وعندئذ انثنى جاك هبكنز يقول: «والآن لا أرى بأسا من أن أغني أغنية تعيدنا إلى سابق نشاطنا .» وانطلق من أثر التصفيق الصاخب الذي قوبل به اقتراحه يغني في الحال أغنية «الملك بارك الله له» رافعا بها صوته إلى قمته، ومندفعا في نغمة تتألف من أغنيتي «خليج فسقونية» و«يود لو كان ضفدعة»، وهي أغنية قوتها وروحها في مذهبها الذي راح الجميع يشتركون في ترديده، فذهب كل منهم يغنيه بالنغمة التي يعرفها أكثر من غيرها، فكان التأثير عجيبا كل العجب.
وفي نهاية إنشاد الجمع البيت الأول من الأغنية رفع المستر بكوك يده كمن يصغي إلى صوت منبعث من الخارج، وأنشأ يقول حين ساد الصمت: «صه! أرجوكم، أحسبني سمعت أحدا ينادي من الطابق العلوي.»
وإذا القوم ينصتون مرهفي الأسماع، ولوحظ الشحوب على وجه المستر بب سوير.
وقال المستر بكوك: «أظن أني أسمع الصوت الآن، تكرموا بفتح الباب.»
وما كاد الباب ينفتح حتى زال كل الشك في الأمر؛ فقد سمعوا صوتا من البسطة يصيح: «يا مستر سوير! يا مستر سوير!»
وقال بب سوير وهو يلتفت حوله في جزع بالغ: «هذه صاحبة البيت. نعم يا مسز رادل.»
وأجاب الصوت قائلا بصفير شديد ومنطق سريع: «ماذا تعني بهذا يا مستر سوير، ألا يكفي النصب علينا في أجرة الشقة، والمال الذي نعيره لك من جيوبنا أيضا، حتى نهان ويساء إلينا من أصحابك الذين يدعون أنهم رجال، ويملأون البيت ضجيجا يكفي لإحضار رجال المطافئ إلى هنا في الثانية صباحا؟ أخرج هؤلاء المناكيد في الحال.»
وقال صوت المستر رادل الذي بدا كأنما قد انبعث من تحت غطاء الفرش: «أولى بكم أن تستحيوا من أنفسكم.»
وقالت مسز رادل: «يستحيون من أنفسهم! لماذا لا تنزل إليهم وتلقي بكل واحد منهم من السلم، لو كنت رجلا لفعلت؟!»
وأجاب المستر رادل: «لقد كنت أفعل لو أنني كنت اثني عشر رجلا يا عزيزتي، ولكنهم متفوقون علي في كثرة العدد يا عزيزتي.»
وأجابته مسز رادل باحتقار متناه: «ويحك أيها الجبان! وأنت يا مستر سوير أتريد أن تطرد هؤلاء الأوغاد أم لا؟»
وقال المسكين بب: «إنهم منصرفون يا مسز رادل، إنهم منصرفون ، وانثنى إلى أصحابه فقال: أخشى أن أقول إنه يحسن بكم الانصراف، لقد كان رأيي أنكم أحدثتم فعلا ضجة أكثر مما ينبغي.»
وقال الرجل الأنيق: «هذا شيء يؤسف له كثيرا أن يحدث ونحن نوشك أن نمضي في سمر بديع»، وكان قد بدأ يتذكر الحكاية التي نسيها.
وقال وهو يتلفت حوله: «هذا شيء لا يطاق، شيء لا يطاق، أليس كذلك؟»
وأجاب جاك هبكنز: «ولا يحتمل، لنغن البيت الثاني يا بب، هيا بنا.»
ولكن بب سوير عاجله قائلا: «كلا، كلا، يا جاك، إنها أغنية بديعة بلا شك، ولكني أرى أنه يحسن ألا نغني البيت التالي؛ إن أهل البيت قوم غلاظ جدا.»
وقال هبكنز: «هل تريد أن أصعد السلم إليهم، وأكبس لك صاحب البيت، أو أظل أدق الجرس، أو أذهب إلى السلم فأجعر جعيرا؟! مرني يا بب أصدع بما تأمر.»
وقال المستر بب سوير التعس: «إني لمدين لك كثيرا بصداقتك وطيبتك يا هبكنز، ولكني أظن أن الخطة المثلى لتجنب أي نزاع آخر أن ينفض اجتماعنا في الحال.»
وارتفع صوت مسز رادل الصافر قائلا: «والآن يا مستر سوير! أليس هؤلاء البهائم منصرفين؟»
وقال بب: «إنهم يبحثون عن قبعاتهم وهم منصرفون في الحال.»
وقالت مسز رادل، وهي تقذف بطاقية نومها من فوق الدرابزين في اللحظة ذاتها التي كان المستر بكوك وفي أثره المستر طبمن يخرجان فيها من غرفة الجلوس: «منصرفون! ولأي داع جاءوا؟!»
وقال المستر بكوك محتجا وهو يرفع بصره: «يا سيدتي العزيزة.»
وأجابته مسز رادل في عجلة وهي تسترد طاقيتها: «اغرب من هنا أيها الشقي العجوز، إنك في سن جده أيها الوغد، وإنك لشرهم جميعا.»
ووجد المستر بكوك أن لا فائدة من الدفاع عن نفسه، وإظهار براءته، فهرول مسرعا إلى الشارع يتبعه المستر طبمن على الأثر والمستر ونكل والمستر سنودجراس وصحبهم المستر بن ألن، إلى جسر لندن، وكان الكحول والاضطراب قد استوليا عليه وأثرا في نفسه تأثيرا محزنا، وانثنى في الطريق يسر إلى المستر ونكل - وهو خير من يكاشف بالسر - أنه معتزم أن يقطع رقبة أي إنسان يتطلع إلى حب أخته أرابلا، غير المستر بب سوير، وما كاد يبدي عزمه على تأدية هذا الواجب الأليم الذي لا مندوحة لأخ عن تأديته، بكل العزم الواجب، حتى أجهش بالبكاء، وأرخى قبعته على عينيه، وانطلق عائدا أدراجه، فدق دقتين بباب مكتب السوق في القصبة، وأغفى إغفاءة قصيرة على كل درجة من درجات السلم، حتى مطلع الفجر، معتقدا أنه يقيم في ذلك المسكن وأنه قد نسي المفتاح.
ولما انصرف الضيوف جميعا؛ تنفيذا لإلحاح مسز رادل، وجد المستر بب سوير المنحوس نفسه وحده، فمضى يفكر فيما عسى أن يأتي به الغد، وفي المسرات التي شهدها المساء.
القشر الذي يتساقط من شعر الرأس.
الفصل الثالث والثلاثون
وفيه يشرح المستر ولر الكبير بعض الانتقادات على الإنشاء الأدبي، ويشترك مع ابنه صمويل في شيء من التشفي والثأر من السيد المحترم ذي الأنف الأحمر. ***
كان صباح اليوم الثالث عشر من شهر فبراير الذي يعرف قراء هذه القصة المروية عن مصادرها الصحيحة، كما نعرف نحن أنه اليوم السابق لموعد النظر في قضية مسز باردل، كان هذا الصباح كثير العمل للمستر صمويل ولر؛ فقد انشغل فيه بالرواح إلى مكتب المستر بركر من فندق «جورج والرخم» والغدو منه، بين التاسعة صباحا والثانية بعد الظهر بما في ذلك هاتين الساعتين، لا لشيء يقتضي عمله، ولا لإجراء يراد اتخاذه؛ فقد تمت الاستشارات، وتقررت خطة العمل، ولكن المستر بكوك كان في أشد حالات القلق والاضطراب فمضى يرسل رقاعا صغيرة غير منقطعة إلى محاميه لا تحوي سوى سؤال واحد، وهو: «عزيزي بركر ... هل كل شيء على ما يرام؟» وكانت ردود المستر بركر عليها لا تزيد على قوله: «عزيزي بكوك، كل شيء حسن ما أمكن.» والواقع كما أسلفنا أنه لم يكن ثمة شيء حسن أو سيئ، ولا أي إجراء يصح أن يتخذ، ريثما تنعقد المحكمة في صباح اليوم التالي.
ولكن الذين يذهبون طائعين إلى القضاء أو يساقون إلى ساحته كرها، يعانون - ولهم العذر - بعض الاضطراب والقلق فترة من الوقت، فلا عجب إذا كان سام قد راعى هذا الضعف في الطبيعة البشرية، فامتثل لكل أوامر سيده وإشاراته، بذلك الهدوء التام الذي لا يزعجه شيء، وتلك السكينة الوادعة التي لا تعرف التأبي والكنود، وهي إحدى مزايا خليقته المحببة العجيبة.
ومضى سام يعزي نفسه بغداء شهي، قليل، وكان منتظرا في محل الشراب حتى تقدم إليه كأس من الشراب الدفئ التي طلب إليه المستر بكوك أن يتعاطاها ليذهب عنه متاعب الصباح ورسالاته، وإذا هو يبصر غلاما يبلغ طول قامته نحو ثلاث أقدام ويضع على رأسه قبعة كثيرة الشعر ويرتدي ثوبا سابغا من القطن الغزير الوبر، يوحي بأنه يتطلع إلى الارتقاء على الأيام إلى صنعة سائس خيل، وهو يدخل ردهة الفندق، ويرفع بصره أولا نحو السلم، ثم يجيله في الردهة، ثم يرنو إلى مكان الشراب كمن يبحث عن إنسان قد حمل رسالة إليه، وإذا الساقية المكلفة بالخدمة في مكان الشراب يذهب بها الظن إلى أن المهمة التي جاء الغلام من أجلها قد تكون ذات صلة بملاعق الشاي أو الطعام في الفندق، فراحت تخاطبه قائلة: «ماذا تريد أيها الشاب؟»
وقال الغلام بصوت جهير كأعلى الأنغام في الموسيقى: «هل هنا شخص يدعى سام؟»
واستدار سام ولر قائلا: «وما الاسم الآخر؟»
وأجاب الغلام ذو القنسوة الكثيرة الشعر في عجلة: «ومن أين لي أن أعرف؟!»
وقال المستر ولر: «إنك لغلام حاد فطن، ولكني لو كنت في مركزك لما أظهرت هذه الحدة كثيرا، حتى لا ينزعها أحد منك. ماذا تقصد من المجيء إلى فندق والسؤال عن سام بهذا الأدب الجم الذي لا يكون إلا من رجل هندي؟»
وأجاب الغلام: «لأن سيدا متقدما في السن طلب إلي ذلك.»
وقال سام باحتقار بالغ: «أي سيد كبير في السن؟»
وأجاب الغلام: «إنه سائق المركبة الحافلة التي تسافر إلى إبسويتش، ويستخدم غرفتنا؛ فقد قال لي صباح أمس: اذهب إلى فندق جورج والرخم بعد ظهر اليوم واسأل عن سام.»
وقال المستر ولر وهو يلتفت إلى الساقية شارحا مفسرا: «هذا والدي يا عزيزتي، وأعتقد أنه لا يعرف اسمي الآخر، والآن أيها الفرخ ماذا وراءك؟»
وقال الغلام: «لقد طلب إلي أن أبلغك أنه يريد أن تذهب في الساعة السادسة لمقابلته في فندقنا «الخنزير البري الأزرق» بسوق لدنهول، فهل أبلغه أنك آت؟»
وأجاب سام: «لك أن تقول له ذلك يا سيدي.»
وانصرف الغلام بعد أن تلقى هذا التفويض، وهو يملأ الشارع أصدية لصفير متكرر متردد يقلد به في إتقان تام صوت راعي الغنم بنغمات شجية قوية، وصوت ممتلئ.
واستأذن المستر ولر في الغياب من المستر بكوك، وكان هذا في حال من القلق وانشغال البال، فلم يسؤه أن يبقى وحده، وانطلق قبل الموعد المضروب بوقت طويل، ووجد أمامه فسحة فيه فذهب يمشي الهوينا حتى بلغ دار المحافظة؛ حيث وقف يتأمل - وقد بدا على وجه الهدوء التام، بسمات الفلاسفة - جموع السفلة وسائقي المركبات الذين يتجمعون عادة حول تلك الدار المشهورة، ويروعون النساء العجائز من سكان ذلك الحي. ولما قضى في ذلك الموضع نصف ساعة أو نحوه متجولا متسكعا، استدار ليأخذ الطريق إلى سوق لدنهول متسللا من شوارع خلفية وأفنية، وفيما كان ذلك؛ إذ وقف ليشاهد كل ما يأخذ عينه، فلا عجب إذا هو وقف حيال واجهة حانوت صغير لبيع الأدوات الكتابية والورق، ولكن العجب الذي يحتاج إلى تفسير أنه ما كادت عيناه تستقران على صور معروضة للبيع في ذلك المتجر حتى أخذته رعدة فجائية، وضرب ساقه اليمنى بعنف شديد وصاح بحماسة: «لولا هذا لنسيت كل شيء، وتأخرت أكثر مما ينبغي.»
وكانت الصورة التي استقرت عليها عيناه وهو يقول هذه الكلمات صورة بالألوان تمثل قلبين بشريين يمسكهما معا سهم نافذ، وهما يطهوان الطعام أمام نار بهيجة مفرحة، بينما يقترب منهما رجل وامرأة من أكلة اللحوم البشرية في زي حديث؛ فقد كان السيد مرتديا ثوبا أزرق وسراويل بيضاء والمرأة في ثوب أحمر، ومظلة من اللون ذاته، وكانا ينظران إلى الطعام بأعين جائعة، وهما قادمان من منعطف مفروش بالحصباء يؤدي إلى ذلك الموضع، وقد بدا في الصورة فتى خشن جريء ليس عليه غير جناحين خفاقين ، يشرف على طهو الطعام، ولاحت صورة قبة الكنيسة القائمة في ميدان لانجام في لندن من بعيد، والصورة في جملتها رسالة حب كما تقول لافتة صغيرة في واجهة المتجر، وتعلن عن وفرة أنواع كثيرة منها فيه، ويقرر التاجر أنه على استعداد لبيعها لمواطنيه عامة بسعر مخفض لا يتجاوز شلنا وستة بنسات لكل واحدة.
وقال سام لنفسه: «لقد كنت سأنسى ذلك بلا شك، كنت سأنساه!» واندفع في الحال إلى المتجر وطلب ورقا من أحسن أنواع الورق الذي تكتب الخطابات عليه ويزدان بحواشيه المذهبة، وقلما صلب السن مضمون ألا ينثر المداد على الصفحة، ولما فرغ من اقتناء الورق والقلم انطلق رأسا صوب سوق لدنهول منفرج الخطى بعد ذلك التسكع الذي كان منه، وأجال البصر حوله فرأى لافتة صور عليها الرسام شيئا بعيد الشبه بفيل أزرق شديد الزرقة ذي أنف أقنى، بدلا من الخرطوم، فذهب به الظن إلى أن هذا هو الخنزير البري الأزرق ذاته وكان الظن صادقا، فدخل الفندق وسأل عن أبيه.
وأجابت الفتاة التي تشرف على المحل: «لا ينتظر أن يأتي قبل ثلاثة أرباع أو أكثر.»
وقال سام: «حسن جدا يا عزيزتي، هلا تكرمت يا آنسة علي بما يساوي بنسات من البراندي والماء الدفئ ودواة؟»
وحمل الشراب والدواة إلى الغرفة الصغيرة المعدة للجلوس، وراحت الفتاة بعناية ظاهرة تسوي الجذوات التي في الموقد؛ لتمنعها من التأجج، وحملت معها «المحراك» حتى لا يبقى ثمة احتمال لتحريكها قبل استئذان الخنزير البري الأزرق، والحصول على موافقته.
وجلس سام ولر في مقصورة بقرب الموقدة وأخرج الخطاب المذهب الحواشي والقلم الصلب السن ونظر مليا إليه حتى يستوثق من أنه خال من أية شعرة أو نحوها، ونفض المائدة نفضا، حتى لا يبقى فتات من الخبز تحت الخطاب، وشمر عن ساعديه وأسند مرفقيه، واستعد للكتابة.
ولا يخفى أن الذين لم يألفوا التوفر فعلا على علم الكتابة، وحرفة القلم، لا يجدون تحرير خطاب مهمة سهلة يسيرة عليهم.
والمشاهد عامة أن الكاتب يجد أن لا مندوحة له في هذه الحال عن إسناد رأسه إلى ذراعه اليسرى حتى يضع عينيه أقرب ما تكونان من مستوى الورق، وإلقاء النظر جانبيا إلى الحروف التي يبنيها بالقلم ويؤلف بلسانه حروفا تصويرية تقابلها، وهي جميعا حركات تساعد بلا نزاع على الإنشاء أكبر المساعدة، ولكنها تؤخر الكاتب كثيرا وتأخذ إلى حد ما من وقته، فلا عجب إذا قضى سام وهو لا يدري ساعة ونصف ساعة يكتب كلمات قليلة العدد، ويمحو حروفا جاءت خطأ منه بخنصره، ويستعيض عنها حروفا أخرى اقتضت منه العودة غالبا إليها؛ ليجعلها ظاهرة للعين من خلال البقع القديمة، وإنه لكذلك مستغرق في تحرير الخطاب؛ إذ وجد الباب قد فتح، وإذا أبوه يدخل عليه.
وقال الوالد: «أهلا سامي!»
وأجاب الابن وقد وضع القلم من يمينه: «أهلا بك أيها الأزرق البروسي،
1
ما هي آخر نشرة طبية عن صحة امرأة أبينا؟»
وأجاب المستر ولر الكبير وهو يفك لفاعته: «قضت مسز ولر ليلة طيبة جدا ولكنها بدت على غير العادة في هذا الصباح هائجة حادة المزاج ... التوقيع طبق الأصل. السيد س. ولر الكبير.» هذه هي النشرة الأخيرة التي صدرت يا سامي.
وسأل سام قائلا: «ألم تتحسن إلى الآن؟»
وأجاب المستر ولر وهو يهز رأسه: «بالعكس، لقد اشتدت الأعراض كلها وتفاقمت، ولكن ما هذا الذي تفعله؟ أتتابع العلم في ظروف شاقة؟»
وقال سام في شيء من الارتباك: «لقد انتهيت الآن، لقد كنت أكتب.»
وأجاب المستر ولر: «يظهر أن الأمر كذلك، ولكن أرجو ألا يكون ما تكتبه مرسلا إلى إحدى الشابات يا سامي.»
وقال سام: «لا فائدة من الإنكار، إنها رسالة غرامية.»
وصاح المستر ولر وقد بدا مروعا من هذه الكلمة: «ماذا تقول؟!»
وأجاب سام: «رسالة غرام.»
وقال المستر ولر بلهجة العتاب: «صمويل، صمويل، ما كنت أعتقد أنك تفعل شيئا كهذا، بعد الإنذار الذي تلقيته من أبيك ونزعاته السيئة التي جلبت عليه الشر والضر، وبعد كل الذي قلته في هذه المسألة بالذات، وبعد كل ما رأيته وقاسيته من امرأة أبيك، وكنت أعتقد أنه درس أخلاقي لا يمكن أن ينساه أحد إلى يوم مماته، ما كنت أعتقد يا سامي أنك ستفعل ذلك.»
وكانت هذه الأفكار شديدة الأثر في نفس الشيخ الطيب فرفع كأس سام إلى شفتيه وشرب كل ما فيها.
وقال سام: «وما القصة الآن؟»
وأجاب المستر ولر: «لا بأس يا سامي، إنها ستكون محنة أليمة في هذه السن، ولكني لا أزال شديد البأس، وهذا بعض العزاء كما قال الديك الرومي العجوز حين سمع المزارع يقول: إنه يخشى أن يكون مضطرا إلى ذبحه لبيعه في سوق لندن.»
وقال سام: «وما وجه المحنة التي تتكلم عنها؟!»
وأجاب والدي: «أن أراك تتزوج يا سامي، وأن أشهدك ضحية الأوهام، تظن في سذاجتك أن الزواج شيء بديع، إنها ستكون تجربة فظيعة لشعور الوالد الذي يجلس أمامك يا سامي.»
وقال سام: «هراء، من قال: إنني قادم على الزواج؟! لا تشغل بالك وتتكدر هذا الكدر كله من هذه المسألة. إنني عارف أنك خير من يحكم في هذه المسائل ونحوها، اطلب قصبتك، وأنا سأقرأ الخطاب عليك، اسمع يا سيدي.»
وليس في إمكاننا القول هل كان ارتقاب الاستمتاع بالقصبة أو التعزي بالاعتقاد أنه قد كتب في خطة الأقدار أن الزواج متوارث في الأسرة فلا حيلة في رده، هو الذي هدأ من ثائرة المستر ولر وخفف من حزنه، ولكنا نميل إلى القول بأن النتيجة تحققت باقتران هذين السببين معا؛ لأنه مضى يردد السبب الثاني بصوت خافت، ويكثر في الوقت ذاته من دق الجرس ليطلب الأول، وهو «القصبة»، ثم راح يخلع عنه رداءه، ويشعل القصبة، ويتخذ مجلسه قبالة النار المشبوبة موليا إليها ظهره حتى يحس أوارها كاملا، ويعتمد بمرفقه على سجافه المصطلى، ويدير وجهه إلى سام، وقد خفف تأثير التبغ كثيرا من انقباض سحنته، وطلب إليه أن يبدأ القراءة.
وغمس سام القلم في المداد؛ استعدادا لأي تصحيح، وبدأ بلهجة مسرحية يقرأ: «أيتها المخلوقة الجميلة.»
وصاح المستر ولر وهو يدق الجرس: «قف ... كأس مزدوجة من الصنف الذي لا يتغير أبدا، يا عزيزتي.»
وأجابت الفتاة التي ظهرت بسرعة بالغة وتوارت، فعادت، ثم اختفت: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وقال سام: «يظهر أنهم عارفون هنا بأحوالك.»
وأجاب الوالد: «أي نعم، لقد كنت هنا من زمان بعيد! استمر يا سامي.»
وعاد سام يكرر الديباجة: «أيتها المخلوقة الجميلة.»
ولكن الوالد قاطعه قائلا: «ليس هذا بالشعر يا سام، أهو كذلك؟»
وأجاب سام قائلا: «كلا، كلا.»
وقال المستر ولر: «يسرني أن أسمع ذلك، إن الشعر شيء غير طبيعي، ولم أر في حياتي أحدا يتكلم بالشعر إلا الشماس، في يوم الإحسان، الذي يتلو عيد الميلاد، أو الإعلانات عن ورنيش وارن رولاند أو بعض أولئك الأراذل، فأنصح لك يا بني أن لا تنساق إلى الكلام بالشعر، ابدأ من الأول يا سامي.»
وواصل المستر ولر الاستمتاع بقصبته بادي الجد، متحفزا للنقد، وعاد سام يقرأ ما يلي: «أيتها المخلوقة الجميلة، إنني لأشعر بأنني ملعون ...»
وأخرج المستر ولر القصبة من فمه وقال: «هذا كلام لا يناسب.»
ولكن سام مضى يقول، وهو يمسك الورقة أمام النور: «لا، ليست الكلمة ملعون؛ فإن هنا بقعة حبر سقطت على الكلمة فطمستها، إنها لا بد من أن تكون «خجلان»، والصحيح إذن هو: إني لأشعر بأنني خجلان.»
وقال المستر ولر: «حسن جدا، استمر.»
واستتلى سام، وهو يهرأ رأسه بالقلم محاولا عبثا أن يتذكر الكلمة التالية: «وإنني من جميع الجهات محا ...»
وقال الوالد: «لماذا لا تنظر إليها؟»
وأجاب سام: «هذا ما أنا مجتهد فيه، ولكن هنا بقعه حبر أخرى، ولا أرى من حروف الكلمة غير الحاء والصاد والراء.»
وقال المستر ولر مقترحا: «ألا يجوز أن تكون محاطا؟»
وأجاب سام: «لا، ليست هذه هي الكلمة؛ إنها محاصر، هي حقيقة.»
وقال المستر ولر بكل جد: «هذه ليست الكلمة المناسبة، إنها ليست لفظة جيدة كقولك: محاط، يا سامي.»
وقال سام: «ألا تظنها؟»
وأجاب الوالد: «لا، ليست مثلها بحال.»
وسأل سام والده: «ولكن ألا ترى أن كلمة محاصر أكثر معنى؟»
وقال المستر ولر بعد تفكير قصير: «يمكن أن تكون ألطف وأرق، استمر يا سامي.» «أشعر بأنني خجلان ومن جميع الجهات محاصر في الكتابة إليك؛ لأنك فتاة لطيفة، ولا شيء غير لطيفة.»
وقال المستر ولر الكبير، وهو يزيل القصبة من فمه ليبدي رأيه: «هذا شعور جميل جدا.»
وأجاب سام وقد تأثر كثيرا بهذا الثناء: «نعم أعتقد أن هذا الكلام جميل فعلا.»
وقال المستر ولر: «إن ما أستلطفه من هذا الأسلوب في الكتابة هو أنك لا تدخل فيه أوصافا ولا أسماء، كقولهم فينوس ولا شيئا من هذا القبيل، ما الفائدة من تسمية بنت أو فتاة جميلة بأنها فينوس أو ملاك يا سامي؟»
وأجاب سام: «آه، صحيح ما الفائدة؟»
ومضى الوالد يقول: «لماذا لا يقال لها الجريفون،
2
أو يا ذات القرن، أو باختصار يا متحف الحيوانات الخرافية؟»
وأجاب سام: «فعلا.»
وقال الوالد: «استمر يا سامي.»
واستجاب سام للأمر ومضى يقرأ، وظل أبوه يدخن، وقد بدت عليه سمات الحكمة المقترنة بالارتياح والرضى، وهي في ذاتها وترفع الروح المعنوية وتعزز قواها: «وقد كنت قبل أن أراك أحسب النساء جميعا متشابهات.»
وقال المستر ولر على سبيل الاعتراض: «وإنهن فعلا كذلك.»
وواصل سام القراءة: «ولكني أشعر الآن بأني كنت فيما أحسبه خفيف العقل حتما وغرا لا يتصوره أحد؛ لأنه ليس فيهن واحدة مثلك وإن كنت أحبك أكثر من أي شيء آخر.»
وهنا رفع سام بصره عن الكتاب وقال: «لقد كنت أظن أن هذه النقطة يجب أن تكون أقوى من هذا.»
وأومأ المستر ولر إيماءة الموافقة، وواصل سام القراءة: «ولهذا أنتهز مناسبة اليوم يا عزيزتي ماري، كما فعل السيد التعبان المرتبك، حين خرج في يوم أحد، فأقول لك: إن جمالك في المرة الأولى والأخيرة التي رأيتك فيها، استولى على فؤادي بأسرع وأجمل ألوانا من أي جمال تلتقطه آلة تصوير كالتي يحتمل أن تكوني قد سمعت بها يا عزيزتي ماري، وإن كانت هذه الآلة تنتهي من أخذ الصورة وتضعها في الإطار وعليها لوح الزجاج، ومعها خطاف لتعليقها فوق الجدار، في دقيقتين وربع دقيقة.»
وقال المستر ولر متشككا: «أخشى أن يكون هذا الكلام يقترب من حدود الشعر يا سامي.»
وأجاب سام وهو يقرأ بسرعة بالغة؛ تجنبا للمناقشة في هذه النقطة: «كلا، لا تخف. فأرجو منك يا عزيزتي ماري أن تقبليني متيما بك، وتتدبري ما قلته، والسلام ختام. هذا هو ما في الخطاب.»
وقال المستر ولر: «ألا تظن يا سامي أن هذا الختام جاء مفاجئا ومبتورا؟»
وقال سام: «لا شيء من هذا، إنها ستتمنى لو كان في الخطاب كلام آخر، وهذا هو الفن العظيم، فن كتابة الرسائل.»
وأجاب المستر ولر: «إن في ما تقوله شيئا من الصواب، وكنت أتمنى لو أن امرأة أبيك تراعي في كلامها هذا المبدأ اللطيف، ألا تنوي أن تمضي الخطاب؟»
وقال سام: «هذه هي الصعوبة؛ لأني لا أعرف بماذا أمضيه؟»
وقال أكبر من يحمل هذا الاسم من الأحياء: «امض ولر.»
وقال سام: «هذا لا يليق؛ لأن العادة ألا يمضي أحد رسالة غرام في هذه المناسبة المعروفة باسمه الحقيقي.»
وقال المستر ولر: «أقول لك: امضه بكوك فهو اسم حسن جدا، وسهل في الهجاء أيضا.»
وقال سام: «هذه أحسن فكرة، وفي إمكاني أن أختم ببيت من الشعر، فما رأيك؟»
وأجاب المستر ولر: «أنا لا أحب الشعر يا سام، ولم أر في حياتي سائقا محترما يكتبه، اللهم إلا واحدا، اقتبس أبياتا منه في الليلة السابقة لتنفيذ حكم الشنق فيه، ولكنه لم يكن سوى سائق من كامبرويل، وحتى هذا لا يعد قاعدة.»
ولكن هذا الاعتراض لم يستطع أن يحمل سام على الامتناع عن الفكرة الشعرية التي خطرت له، فراح يمضي الخطاب بالتوقيع التالي: «الولهان المرتبك، بكوك».
وطوى الكتاب، بشكل معقد كل التعقيد وأنشأ يكتب العنوان في خط منحدر في زاوية من الغلاف هكذا: «إلى ماري الوصيفة في دار المستر نبكن عمدة إبسويتش بولاية سافوك»، ودس الخطاب في جيبه بعد تغليفه؛ استعدادا لإلقائه في صندوق البريد.
وبعد أن انتهت هذه العملية الخطيرة بدأ المستر ولر الكبير يفتح باب الكلام في المسألة التي دعا ابنه من أجلها.
قال: «المسألة الأولى تتصل «بمعلمك» يا سامي، إنه سيحاكم غدا، أليس كذلك؟»
وأجاب سام: «إن الجلسة ستعقد فعلا.»
ومضى المستر ولر: «وأظن أنه سيحتاج إلى استدعاء شهود نفي لإثبات حسن سلوكه وأخلاقه، أو ربما لكي يثبتوا أنه لم يكن في محل الواقعة عند حدوثها، وقد فكرت في هذه المسألة كثيرا، فليطمئن يا سامي وليهدأ باله؛ فإن لدي أصدقاء يستطيعون أن يؤدوا أية واحدة منهما، ولكن نصيحتي هي أن لا ضرورة لشهود أخلاق، والتمسك بالطريقة الثانية، فليس هناك شيء يعادلها يا سامي في القوة والتأثير.»
وبدا على المستر ولر التفكير العميق وهو يلقي بهذا الرأي القانوني، وراح يدفن أنفه في الكأس ويغمز بطرف عينه من فوق حافتها لوالده المندهش منه.
وقال سام: «وماذا تقصد بهذا؟ ألا تظن أنه سيحاكم أمام الأولد بيلي.»
3
وأجاب المستر ولر: «لا دخل لهذا يا سامي في هذا الرأي الذي عرضته الآن، فمهما تكن المحكمة التي سيحاكم أمامها؛ فإن هذا الإثبات الذي شرحته لك، وهو عدم وجوده وقتئذ في مكان الواقعة، هو الوسيلة الوحيدة لإخراجه من هذه القضية؛ فقد استطعنا في قضية توم فيلد سبارك الذي كان متهما بجناية قتل إخراجه منها بإثبات غيابه، مع أن كل كبار المحامين أجمعوا على أنه لن ينقذه شيء، وأنا من رأيي يا سامي أنه إذا لم يتقدم معلمك بهذا الدليل، فسوف ينتهي إلى ما يقوله الإيطاليون، وهو أنه سيكبس كبسة لا خروج له منها، هذا هو كل ما في الموضوع.»
وكان المستر ولر مقتنعا اقتناعا جازما لا حول عنه، بأن «الأولد بيلي» هي المحكمة العليا في البلاد، وأن إجراءاتها بمختلف أنواعها وأشكالها هي التي تنظم إجراءات سائر المحاكم الأخرى مهما يختلف اختصاصها، فلا عجب إذا هو لم يعبأ مطلقا بحجج ابنه وتوكيداته أن التذرع بعدم وجود سيده في مكان الحادث غير مقبول ولا جائز، وأصر على الاحتجاج بأن المستر بكوك وقع «ضحية»، ولا نجاة له منها إلا بهذا الدليل، ورأى أن لا فائدة من مطال الجدل في هذه المسألة، فغير الموضوع وسأل عن المسألة الثانية التي طلب الوالد المحترم إليه الحضور للاستئناس فيها برأيه.
وأجاب المستر ولر: «أما المسألة الثانية فهي شيء يتعلق بالسياسة المنزلية يا سامي؛ فإن ذلك المدعو ستيجنز ...»
وسأل سام قائلا: «أتقصد الرجل ذا الأنف الأحمر؟»
وأجاب الوالد: «هو بعينه، إن هذا الرجل ذا الأنف الأحمر يا سامي مستمر على زيارة امرأة أبيك بعطف وموالاة لم أر مثلهما في حياتي، فهو صديق للأسرة إلى حد لا يستريح له خاطر كلما غاب عنا، حتى يعرض له شيء فيتذكرنا به.»
وقاطعه سام بقوله: «لو كنت في مكانك لناولته شيئا يكفي لإحراق ذاكرته بالنفط لعشر سنين قادمة أو نحوها.»
وقال المستر ولر: «قف لحظة. لقد هممت بأن أقول: إنه اعتاد الآن أن يحضر معه زجاجة مفرطحة تسع فنتا ونصف فنت
4
أو نحوها فيملأها «بالروم» المقطر من عصير الأناناس قبل انصرافه.»
وقام سام: «وأحسبه يفرغها قبل أن يعود مرة أخرى؟»
وأجاب المستر ولر: «ولا يبقشي على قطرة واحدة منها، فلا يدع شيئا غير الغطاء والرائحة، تأكد ذلك يا سامي، هذا شيء مضمون. والآن يا بني، إن هؤلاء الناس سيعقدون الليلة الاجتماع الشهري لشعبة بريك لين التابعة لاتحاد جمعيات منع المسكرات في إبنزر، وكانت امرأة أبيك تنوي حضوره، ولكنها تشكو أوجاع النقرس فلا تستطيع، وأنا يا سامي عندي بطاقتا الدعوة اللتان أرسلتا إليها.»
وكان المستر ولر يكاشف ابنه بهذا السر وهو في سرور بالغ، ولا يكف عن الغمز خلال حديثه وبعده، حتى بدأ سام يظن أنه لا بد قد أصيب بتشنج في جفن عينه اليسرى.
وقال سام: «وماذا بعد؟»
وأجاب الوالد وهو يتلفت في حذر شديد: «وماذا بعد؟ سنذهب أنا وأنت في الموعد المضروب، وأما نائب الراعي يا سامي فلن يذهب، لن يذهب نائب الراعي.»
وانتابته عندئذ نوبة ضحك، انتهت شيئا فشيئا إلى شبه اختناق قلما يحتمله رجل كبير في السن، أو يسلم من شره.
وصاح سام قائلا وهو يضرب الشيخ على ظهره ليزيل منه هذا الاختناق بقوة التدليك والاحتكاك: «والله لم أشهد في حياتي كلها عفريتا عجوزا بهذا الشكل! ما الذي يضحكك أيها البدين؟!»
وقال المستر ولر مخافتا وهو يتلفت حوله في مزيد من الحذر والإحتياط: «صه، يا سامي، إن لي صديقين يشتغلان على طريق أوكسفورد، ولا يترددان في الإقدام على أي عمل كان، وقد عرفا نائب الراعي وظلا يقطرانه يا سامي ويقتفيان أثره، وحين يحضر اجتماع الشعبة في ملتقى إبنزر؛ لأنه حتما سيذهب، وسيتبعانه حتى الباب، بل سيدفعانه إلى الداخل إذا احتاج الأمر، وسيكون عندئذ قد عب من الروم والماء مثل ما اعتاد أن يعب في حانة المركيز جرانبي في دوركنج، وهو قول لا يغض من مقدار شربه على كل حال.»
وعاد المستر ولر إلى نوبة الضحك الشديد، واستولت عليه حالة الاختناق الجزئي بسببها، ولم يكن ثمة شيء أكثر إرضاء لمشاعر سام من هذا المشروع الذي يرمي إلى فضح ذلك الرجل ذي الأنف الأحمر وكشف حقيقته وجملة عيوبه ومساوئه، وكان الوقت قد حان لحضور الاجتماع؛ فاتخذ الأب وابنه طريقهما في الحال إلى حي بريك لين، ولم ينس سام في الطريق أن يلقي خطابه في صندوق البريد.
وكان اجتماع شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات يقام مرة كل شهر في قاعة رحيبة الجوانب تقع في نهاية سلم مريح، وموضع لطيف تهب عليه الأنسام، وكان رئيس الشعبة هو المستر أنتوني هم المستوي القامة في مشيته، وهو رجل كان يشتغل من قبل في المطافئ، ثم أصبح ناظر مدرسة، وبين الفينة والفينة واعظا متنقلا، وكان أمينها المستر جوناس مج، وهو صاحب متجر للشمع متحمس للفكرة خلي من المآرب الذاتية، اعتاد أن يبيع الشاي للأعضاء.
وكانت السيدات في هذا الاجتماع بالذات قد شربن من فوق الدكك ومضين يتناولن الشاي فترة من الوقت إلى أن رأين أنه قد حان لهن أن يمتنعن عنه، فجيء عندئذ بصندوق خشبي كبير لجمع التبرعات فيه فوضع في مكان ظاهر فوق الغطاء الأخضر الذي يكسو المنضدة المقامة فوق المنصة، والتي وقف خلفها الأمين وجعل يبتسم ابتسامة المتفضل لكل مبلغ يضاف إلى ما حوى جوف الصندوق من نقود نحاسية كثيرة.
وكانت السيدات في هذا الاجتماع بالذات قد شربن من الشاي قدرا يدعو إلى أشد الفزع، حتى لقد هال مشهدهن على هذا النحو المستر ولر الكبير الذي لم يبال قط بكل وكزات سام له بمرفقه وجعل يتلفت حوله في كل ناحية بدهشة ظاهرة لا تخفى على أحد، وراح يهمس قائلا: «اسمع يا سامي، إذا لم يحتج بعض هؤلاء الذين هنا صباح غد إلى ملين فما أنا أبوك، هذه هي الحقيقة، ألا ترى هذه العجوز الجالسة بجانبي، إنها أغرقت نفسها في موجة من الشاي.»
وغمغم سام قائلا: «اسكت، ألا يمكن أن تسكت؟!»
وعاد المستر ولر بعد لحظة أخرى يخافت بصوته قائلا في هياج بالغ: «اسمع كلامي يا بني، إذا استمر هذا الأمين خمس دقائق أخرى فسينفجر من كثرة الخبز الحميص والماء اللذين يسكبهما في جوفه.»
وأجاب سام: «لينفجر إذا شاء، هذا ليس من شأنك.»
وعاد المستر ولر يقول بصوته المخافت ذاته: «إذا استمرت الحال على هذا المنوال فسأشعر أنه من واجبي بوصفي إنسانا أن أنهض وأتكلم، إن في الصف التالي بعد صفين اثنين شابة شربت تسعة فناجين ونصف فنجان إلى الآن، حتى أخذت تتورم ويرتفع كرشها أمام عيني اللتين في رأسي.»
ولا شك في أن المستر ولر كان سيعمد في الحال إلى تنفيذ هذه النية التي بعثها في نفسه حبه للخير، لو لم تقم لحسن الحظ ضجة بسبب حركة رفع الفناجين والأقداح؛ إيذانا بانتهاء القوم من تناول الشاي، وما كادت الأوعية والصحاف تزال حتى نقلت المنضدة ذات الكساء الأخضر إلى وسط القاعة، وابتدأ الاجتماع بقيام رجل قصير القامة أصلع في سراويل قصيرة خلقة، وانطلق فجأة يصعد السلم، حتى ليكاد يتعرض من سرعته لخطر كسر ساقيه القصيرتين المحتجبتين في جوف تلك السراويل وأنشأ يقول: «أيتها السيدات، أيها السادة: إنني أدعو أخانا الرجل الممتاز المستر أنتوني هم إلى اتخاذ مقعد الرياسة.»
فلم يكن من السيدات إلا أن لوحن في الفضاء بمجموعة مختارة من مناديل الجيب؛ ارتياحا لهذا الاقتراح، وانثنى ذلك الرجل القصير المتهور يجر المستر هم جرا إلى كرسي الرياسة؛ فقد أخذه من كتفيه ودفع به إلى مقعد من خشب المجنة، كان يوما ما جزءا من ذلك الأثاث، وتجدد التلويح بالمناديل، فلم يسع المستر هم - وهو رجل هادئ أبيض الوجه، لا ينقطع عن التصبب عرقا - إلا أن ينحني انحناءة وادعة، اسستثارت إعجاب السيدات الشديد، واتخذ مجلس الصدارة، وعندئذ طلب الرجل القصير الإخلاد إلى السكون، ونهض المستر هم فقال إنه بعد استئذان الإخوان والأخوات أعضاء شعبة بريك لين المجتمعين، سيقرأ أمين الاجتماع عليهم التقرير الذي وضعته لجنة الشعبة، وقد قوبل هذا الاقتراح أيضا بتلويح المناديل.
وبعد أن عطس السكرتير عطسة شديدة أخاذة، وعقب السعال الذي لا يفتأ ينتاب كل اجتماع قبيل حدوث شيء ذي بال، بدأ أمين الجلسة يتلو التقرير التالي:
تقرير لجنة شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات في ملتقى إبنزر
واصلت لجنتكم جهودها المشكورة خلال الشهر الماضي، ويسرها أشد السرور أن ترفع إليكم تقريرا عن الأعضاء الجدد الذين امتنعوا عن المسكرات. (1)
ه. ووكر حائك وله زوجة وولدان: لقد اعترف هذا الحائك حين تحسنت ظروفه بأنه كان من مدمني شرب الجعة بنوعيها القوية والخفيفة، ويقول إنه ليس متأكدا هل كان يذوق مرتين في الأسبوع «أنف الكلب» خلال العشرين السنة الماضية، وقد تحرت لجنتكم عن هذا الشراب فعلمت أنه صنف من الأشربة مركب من النبيذ الدفئ والسكر المبلول والجن وجوزة الطيب (أنين، وصوت يقول: «هو كذلك فعلا» من جانب سيدة متقدمة في السن) وهو الآن خال من العمل، لا يملك درهما، ويظن أنه لا بد من أن يكون مرد ذلك إلى النبيذ (هتاف) أو فقدان حركة يده اليمنى، وإن لم يكن متأكدا أيهما أصح، ولكنه يرجح أنه لو كان قد قضى الحياة كلها يشرب الماء القراح لما استطاع زميل له في العمل أن يدخل إبرة صدئة في جسمه، ولما أحدث له هذه الإصابة (هتاف شديد)، وهو الآن لا يجد ما يشربه غير الماء البارد، ولا يحس يوما عطشا.» (تصفيق حاد). (2)
بتسي مارتن: أرملة ولها ولد واحد وعين واحدة، تقضي نهارها في غسل الثياب والخدمة اليومية في البيوت ، ولم يكن لها في يوم من الأيام غير هذه العين الواحدة، ولكنها تعرف أن أمها كانت تشرب الجعة السوداء المعبأة في الزجاجات، ولا تعجب إذا كان مصابها بالعور مرجعه إلى هذا السبب (هتاف بالغ)، وتعتقد أنه لم يكن من المتعذر أن تكون لها الآن عينان اثنتان لو أنها كانت ممتنعة عن تعاطي الكحول، (تصفيق مدو) وكانت في كل مكان تذهب إليه تتناول عادة ثمانية عشر بنسا في اليوم، وفنتا من الجعة، وزجاجة من الخمر الشديدة الكحول. ولكنها منذ أصبحت عضوا في شعبة بريك لين جعلت تطالب دائما بثلاثة شلنات وستة بنسات بدلا من أجرها القديم.» (وقد قوبل إعلان هذا النبأ البالغ الأهمية بحماسة تصم الآذان). (3)
هنري بلر: وهو رجل ظل عدة سنين مشرفا على تقديم الأنجاب في عدة مآدب للجمعيات والشركات المتحدة، وكان خلال هذه الفترة يكثر من تعاطي النبيذ الأجنبي، ولعله كان أحيانا يحمل زجاجة أو زجاجتين منه وهو عائد إلى بيته، وليس هو على يقين تام، وإن كان متأكدا من أنه إذا فعل كان يشرب كل ما فيهما، ويشعر بهبوط نفسي شديد واكتئاب، وحمى بالغة، ويحس في أعماقه بعطش مستمر، ويظن أن هذا الظمأ راجع بلا شك إلى النبيذ الذي كان يعاقره (هتاف) وهو الآن خال من العمل ولا يتناول إطلاقا قطرة من النبيذ الأجنبي بحال من الأحوال (تصفيق شديد). (4)
تومس بيرتون: متعهد توريد لحوم القطط للعمدة والأعيان وعدة أعضاء في مجلس العموم (وقد قوبل إعلان اسم هذا السيد بحماسة تلهث منها الأنفاس) وله ساق خشبية، ويقول: إن تركيبها باهظ النفقات. وهو يمشي فوق الحجارة، وقد اعتاد أن يتخذ سيقانا خشبية مستعملة، ويشرب كأسا من الجن الساخن الممزوج بالماء بانتظام كل ليلة، وأحيانا كأسين (تنهدات من أعماق الصدور)، ولكنه تبين أن السيقان الخشبية المستعملة تتشقق بسرعة وتتعفن، ويعتقد اعتقادا جازما أن ذلك يرجع إلى تعاطي «الجن» الممزوج بالماء (هتاف مستطيل) وهو الآن يشتري سيقانا خشبية جديدة ولا يشرب غير الماء القراح والشاي الخفيف، ويعتقد أن السيقان الجديدة تعيش ضعفي ما تعيشه الأخرى، ويرد ذلك إلى سبب واحد؛ وهو امتناعه عن المسكرات (هتافات مدوية).
وما كادت تنتهي تلاوة التقرير حتى اقترح أنتوني هم على المجتمعين إنشاد أغنية مناسبة وقال: إن الأخ «موردلن» قد تكرم في سبيل إطراب الأعضاء بأغنية تتفق مع العقل والخلق باقتباس الكلمات الجميلة التي جاءت في صلب أغنية «من الذي لم يسمع بالسقاء الشاب البديع؟» وتلحينها على نغمة «أولد هندردث»
5
وهو يتقدم إليهم بالرجاء أن يشاركوه في غنائها (هتاف شديد) وقال إنه ينتهز هذه الفرصة لإبداء رأيه الجازم في أن المرحوم المستر دبدن رأى التكفير عن مساوئه والأغلاط التي ارتكبها في ماضي حياته فكتب هذه الأغنية؛ ليدلل على مزايا الامتناع عن المسكرات. فهي في الواقع أغنية تقع في هذا الباب (هتافات مدوية)، وإن أناقة ثياب هذا الشاب وحسن سمته، ونفسيته التي يحسد عليها والتي أعانته على حد تعبير الشاعر «على الانطلاق بزورقه في اليم غير عابئ بشيء» كل أولئك مجتمعة تدل دلالة قاطعة على أنه كان بلا شك طيلة العمر من شاربي الماء القراح، (هتاف شديد) بالله أي ابتهاج بريء ابتهاجه، وأي مرح فاضح مرحه؟! وماذا كان جزاء هذا الشاب؟ فليعلم جميع الشبان الحاضرين ما قاله الشاعر: «لقد تزاحمت العذارى على زورقه فرحات متهللات.» (هتافات عالية اشتركت فيها السيدات) ألا ما أروع هذا المثل! تصوروا أيتها السيدات والسادة كيف احتشدت العذارى واجتمعن حول هذا السقاء الشاب، يحثثنه على المضي في تيار الواجب والامتناع عن المسكرات، ولكن هل كانت أولئك العذارى اللاتي ازدحمن حوله للترفيه عنه، ومواساته، ومناصرته، من أهل الطبقة الدنيا وحدها في هذه الحياة؟ كلا، بل لقد كان على الزورق والمجاذيف حوله غيد المدينة وعذاراها الراقيات (هتاف مدو) وقام الجنس اللطيف قومة «رجل واحد» أستميحكم المعذرة، قومة «أنثى» واحدة، فناصرن ذلك السقاء الشاب وتوافين إليه، منصرفات من الاشمئزاز عن شاربي الكحول (هتاف)، إن جميع الإخوان في شعبة بريك لين من السقائين (هتاف وضحك) وهذه القاعة هي زورقهم، وهؤلاء الحاضرات هن عذاراه، وهو - أي المستر أنتوني هم - المجذف الأول، وإن كان لا يستحق هذا الفخار (هتاف متواصل).
وهمس المستر ولر لابنه قائلا: «ماذا يقصد بقوله الجنس اللطيف يا سامي؟»
وأجاب سام همسا: «النساء.»
وقال المستر ولر: «لم يبعد كثيرا عن الحقيقة يا سام، فلا بد من أن تكون النساء جنسا لطيفا، جنسا خفيفا كل الخفة، ما دمن ينسقن وراء هذا المخلوق وينخدعن بكلامه.»
ولكن هذا السيد الغاضب لم يستطع المضي في ملاحظاته؛ فقد أعلن المستر أنتوني هم أن الترتيل سيبدأ، وشرع ينطلق بالترتيلة، كل سطرين معا؛ حتى يتيسر للسامعين الذين لم تسبق لهم معرفة الأسطورة أو الإلمام بها، أن يدركوا كل كلمة من كلماتها، وبينما كانت الأغنية تغنى، اختفى الرجل ذو السراويل القصار لحظة ثم عاد على أثر انتهائها وهمس للمستر أنتوني هم، وقد بدا على وجهه أشد الاهتمام.
وانثنى المستر هم يقول وهو يرفع يده رفعة المستنكر المستهجن، وهي حركة يريد بها أن يسكت السيدات العجائز البدينات اللاتي تخلفن سطرا أو سطرين في الترنيم: «أيها الأصدقاء، إن الأخ ستيجنز المندوب عن فرع دوركنج التابع لجمعيتنا، قد حضر وهو منتظر في أسفل هذا المكان.»
وهنا ارتفعت المناديل مرة أخرى بقوة أشد من قبل؛ فقد كان المستر ستيجنز محبوبا إلى حد بعيد بين نساء دائرة بريك لين.
وأدار المستر هم عينيه حوله وقال بابتسامة عريضة: «أظن أن لا بأس من حضوره! أيها الأخ تادجر، دعه يحضر ويحيينا.»
فما كان من الرجل القصير في السراويل القصار الذي يدعى الأخ تادجر إلا أن مضى يهبط الدرج مسرعا، ولم تلبث أن سمعت مواقع أقدامه وهو يصعد مع المستر ستيجنز المحترم.
وهمس المستر ولر وقد امتقع وجهه من الضحك المكتوم يقول: «إنه آت يا سامي.»
وأجاب سام بقوله: «لا تكلمني مطلقا؛ لأنني لا أطيق الكلام، إنه قد اقترب من الباب وقد سمعته وهو يصدم برأسه رقائق الخشب والجص.»
وما كاد سام ولر ينتهي من هذا القول حتى فتح الباب، وظهر الأخ تادجر يتبعه على الأثر المستر ستيجنز المحترم، وما إن بدا للأبصار حتى اشتد التصفيق والضرب بالأقدام، والتلويح بالمناديل. ولم يقابل الأخ ستيجنز كل هذه المظاهر من الفرح والاغتباط التي عبر عنها الأعضاء على هذا النحو، بشيء من العرفان غير الحملقة ببصره الشارد، والابتسام الموجه إلى أقصى طرف ذبالة الشمعة الموضوعة فوق المنضدة، محركا جسمه يمنة ويسرة في ترنح شديد، وتمايل ظاهر.
وهمس المستر أنتوني هم له قائلا: «أمريض أنت أيها الأخ ستيجنز؟»
وأجاب المستر ستيجنز بلهجة اقترنت فيها الحدة الشديدة بغلظة المنطق المتناهية: «إنني بخير يا سيدي، إنني بخير تام يا سيدي.»
وقال المستر أنتوني هم وهو يتراجع بضع خطواتك: «الحمد لله، الحمد لله.»
وعاد المستر ستيجنز يقول: «أعتقد أنه ليس أحد هنا قد اجترأ على أن يقول: إنني لست بخير يا سيدي.»
وأجاب المستر هم قائلا: «بلا شك يا سيدي.»
وقال المستر ستيجنز: «إنني أنصحه ألا يفعل يا سيدي، أنصحه ألا يفعل.»
وكان الحاضرون عندئذ قد التزموا الصمت التام، وانتظروا في قلق مواصلة العمل.
وقال المستر هم وهو يبتسم ابتسامة الدعوة: «ألا تتفضل أيها الأخ بإلقاء خطاب في هذا الاجتماع؟»
وأجاب المستر ستيجنز: «كلا يا سيدي، كلا يا سيدي، لن أفعل.»
وتبادل الحاضرون النظر رافعي الأجفان، وسرت همهمة دهشة في الصفوف.
وعاد المستر ستيجنز يقول وهو يفك أزرار سترته، ويتكلم بصوت مرتفع جهير: «إن رأيي يا سيدي، إن رأيي يا سيدي أن هذا الجمع كله سكارى يا سيدي.»
والتفت إلى الرجل القصير في السراويل القصيرة مثله فقال وقد زادت حدته فجأة: «أيها الأخ تادجر، إنك أنت سكران يا سيدي!»
وبهذه العبارة والرغبة الصادقة في الدفاع عن صحو الاجتماع وخلوه من السكارى، وإبعاد الأشخاص الطالحين منه جميعا، ضرب الأخ تادجر على قمة أنفه في تسديد محكم لا خطأ فيه، فلم يكد ذو السراويل القصيرة يتلقى الضربة حتى اختفى في مثل وميض البرق هابطا مدارج السلم ورأسه إلى أسفل وساقاه في الفضاء.
وهنا أطلقت النساء صيحات مدوية وصرخات فزع ورعب، واندفعن في جماعات صغيرة أمام إخوانهن الأثيرين لديهن، ورحن يطوقنهم بأذرعهن ؛ لوقايتهن من الخطر، وكاد هذا العطف يقضي على المستر هم، الذي يستمتع بمحبة متناهية لديهن؛ لأنه أوشك أن يختنق من ازدحام المخلصات إليه اللاتي تعلقن بنحره، وتشبثن به، وأهلن عليه الملاطفات، وأطفئت أكثر الأنوار في عجلة، فلم يبق غير الجلبة تتردد منها الأصداء، والفوضى التي ضربت أطنابها في أرجاء المكان.
وقال المستر ولر وهو يخلع معطفه بتؤدة بالغة: «والآن يا سامي، اخرج اللحظة وأحضر شرطيا.»
وسأل سام: «وماذا تنوي أن تفعل ريثما أحضره؟!»
وقال الشيخ: «لا تقلق علي أبدا يا سامي، سأشغل نفسي بتصفية شيء من الحساب مع ستيجنز هذا.»
ولم يكد يقول ذلك حتى اندفع الوالد الهمام، قبل أن يتمكن سام من التدخل لمنعه، نحو ركن قصي من القاعة، وراح يضرب المستر ستيجنز المحترم ضربا بارعا باليدين.
وقال سام: «هيا بنا!»
وصاح المستر ولر: «تقدم.» وبغير دعوة أخرى انثنى يضرب المستر ستيجنز المحترم ضربة تمهيدية على أم ناصيته، وأخذ يرقص حوله بخفة أشبه بالفللينة، كان منظرها من رجل في مثل سنه عجيبا كل العجب.
ووجد سام أن لا نفع مطلقا من الاحتجاج على الوالد، فشد قبعته بقوة على عينيه، وحمل معطف أبيه على ذراعه، وأمسك بالشيخ من خاصرته، وجره بالقوة إلى السلم حتى خرج به إلى الشارع، ولم يترك قبضته تتراخى عن وسطه، ولا آذن له في الوقوف، إلى أن وصلا إلى ناصية الشارع، وهما يسمعان صيحات الغوغاء، الذين ازدحموا لمشاهدة المستر ستيجنز المحترم وهو يجرجر إلى المبيت في الحجز حتى الصباح، كما تترامى إلى آذانهما الجلبة التي أحدثها تشتت أعضاء شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات وتفرقهم في كل ناحية.
مادة كيماوية زرقاء اللون تستعمل في الصباغة.
حيوان خرافي له جسم السبع ورأس النسر وأجنحته.
محكمة الجنايات المركزية بلندن.
الفنت
مكيال إنجليزي للسوائل يعادل
جالون.
ترنيمة دينية خشوعية لا زالت ترنم في الكنائس إلى اليوم
OLD HUNDREDTH .
الفصل الرابع والثلاثون
بيان واف أمين لما جرى في المحاكمة المشهودة للنظر في دعوى «باردل» على بكوك. ***
وقال المستر سنودجراس على سبيل تجاذب الحديث في صبيحة اليوم الرابع عشر من شهر فبراير، وهو ذلك اليوم المشهود: «إني لفي عجب من كبير المحلفين، ماذا تراه تناول من الفطور اليوم؟»
وأجاب بركر: «آه، أرجو أن يكون فطورا طيبا.»
وسأل المستر بكوك: «وما الحكمة في هذا؟»
وأجاب بركر: «هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية يا سيدي العزيز؛ فإن المحلف الطيب الراضي الجيد الفطور يمكن الاطمئنان كثيرا إليه، أما المحلفون المتسخطون الجياع يا سيدي العزيز فهم دائما أبدا مع المدعي وفي جانبه.»
وقال المستر بكوك وقد ارتد وجهه شاحبا: «يا للعجب! ولماذا يفعلون هذا؟»
وأجاب الرجل القصير ببرود: «لست أدري، ولكن لعل مرجعه إلى رغبتهم في توفير الوقت، فإذا اقترب موعد العشاء، أخرج كبيرهم ساعته، عند اختلائهم للمداولة، وقال: يا لله أيها السادة! الساعة الخامسة إلا عشر دقائق، وأنا أتعشى في الخامسة أيها السادة. وعندئذ يجيبه الجميع: ونحن كذلك. اللهم إلا اثنين منهم كان أولى بهما أن يتناولا غداءهما في الثالثة، ولكنهما وقد فات الموعد أصبحا أكثر ميلا إلى البقاء، وعندئذ يبتسم كبير المحلفين ويدخل الساعة في جيبه ويقول: والآن أيها السادة ماذا نقول؟ هل المدعي أو المدعى عليه يا سادة؟ أقول أو على الأصح أظن، ولكن لا تدعوا هذا يؤثر في رأيكم، أظن أن الحكم للمدعي، وعندئذ ينبرى اثنان أو ثلاثة منهم فيقولون: حتما إن هذا هو رأيهم أيضا - وهو رأيهم طبعا - وعندئذ ينتهون إلى الأخذ به إجماعا، وبلا عناء.»
ونظر الرجل القصير إلى ساعته فقال: «الساعة التاسعة والدقيقة العاشرة، وقد حان أن ننطلق يا سيدي العزيز؛ فإن المحكمة التي ستنظر في دعوى النكث بالعهد تمتلئ عادة في أمثال هذه القضايا، فيحسن أن تدق الجرس وتطلب مركبة يا سيدي العزيز، وإلا تأخرنا.»
وبادر المستر بكوك إلى دق الجرس، وجاءت المركبة، وحشر البكوكيون الأربعة والمستر بركر أنفسهم في جوفها، ومضت بهم إلى «الجلد هول» وتبعهم في مركبة أخرى سام ولر والمستر لوتن والحقيبة الزرقاء.
ولما وصل القوم إلى القاعة الخارجية في دار المحكمة قال المستر بركر لكاتبه: «أجلس أصحاب المستر بكوك يا لوتن في المكان المخصص للطلبة، ويحسن أن يجلس المستر بكوك بجانبي، من هنا يا سيدي العزيز، من هنا.»
وأخذ المستر بكوك من كم ثوبه فمشى به إلى المقعد الخفيض القائم تحت مناضد المحامين المترافعين مباشرة، وهو المكان المعد لجلوس الوكلاء، حتى يتيسر لهم منه الهمس في أذن المحامي المترافع في القضية بأية تعليمات قد يقتضيها الموقف في أثناء نظرها، وهم في هذا الموضع محجوبون عن أعين أغلب النظارة؛ لأنهم في مجلسهم هذا لا يتخذون موضعا لا يرتفع عن مستوى مقاعد المحامين المترافعين، ولا عن مكان النظارة؛ لأن مقاعد هؤلاء مرتفعة عن أديم قاعة الجلسة، وإن كانت ظهورهم طبعا متجهة إلى هذين الفريقين، ووجوههم شطر القاضي.
وقال المستر بكوك وهو يشير إلى شيء كالمنبر وله سياج من نحاس عن يساره: «أظن أن هذا هو مكان الشهود؟»
وأجاب المستر بركر وهو يخرج قدرا من الأوراق من الحقيبة الزرقاء التي كان المستر لوتن قد جاء بها في تلك اللحظة فوضعها عند قدميه: «هذا هو مكان الشهود يا سيدي العزيز.»
وقال المستر بكوك وهو يشير إلى صفين منعزلين من المقاعد عن يمينه: «وهذا مجلس المحلفين، أليس كذلك؟»
وأجاب بركر وهو يدق بلطف غطاء علبة سعوطه: «هو بالذات يا سيدي العزيز.»
ونهض المستر بكوك وهو في حال من الاضطراب البالغ فألقى نظرة على القاعة، وكان خلق كثير من النظارة قد توافدوا إلى الصفوف المعدة لهم وتناثروا في جوانبها، كما حضر جمع كبير من المحامين المترافعين في ضفائرهم المستعارة فاحتلوا أماكنهم، وهم يمثلون ذلك التباين البديع المتناهي في الأنوف والشوارب، الذي اشتهر به القضاة ومعاشر المحامين في إنجلترا، وذاع بحق وجدارة ذكره، وكان الذين لديهم مذكرات بدفاعهم يحملونها بشكل ظاهر واضح ما أمكن، وراحوا بين لحظة وأخرى يهرشون بها أنوفهم؛ لكي يؤثروا بهذه الحركة في نفوس النظارة ويلفتوا إليهم أعينهم. وأما الآخرون الذين ليس في أيديهم مذكرات أو أوراق يظهرونها فقد تأبطوا مجلدات كبيرة ذات عناوين حمراء على ظهورها ، وغلاف يشبه في لونه وجه الفطير الناقص النضج، وقد اصطلح على تسميته «عجل القانون». بينما جعل الذين لا يحملون مذكرات، ولا يتأبطون كتبا، يدسون أيديهم في جيوبهم ويتخذون كل ما أسعفهم من سمات الحكمة والوقار، وهناك آخرون أيضا يتنقلون في القاعة وهم في أشد الجد والحركة والنشاط، قانعين بإثارة الإعجاب والدهشة من حركاتهم تلك في نفوس الغرباء الذين لا عهد لهم بحضور الجلسات والاختلاف إلى ساحة القضاء.
وقد عجب المستر بكوك أشد العجب أن رأى هؤلاء القوم جميعا مقسمين فئات وجماعات وهم يتحدثون ويتباحثون في أنباء اليوم في صورة أخلى ما تكون من الشعور، كأن لا قضايا موشكة أن تنظر، ولا محاكمات تؤذن بابتداء.
ودخل المستر فنكي، فحيا بانحناءة من رأسه واتخذ مجلسه خلف الصف المخصص للمحامين المترافعين، ولفتت هذه التحية نظر المستر بكوك، ولم يكد يرد عليها، حتى ظهر المستر اسنبن يتبعه المستر مالارد الذي حجب الأستاذ خلف حقيبة ضخمة أرجوانية اللون جاء بها فوضعها فوق النضد وانسحب بعد مصافحة بركر بيده. وعندئذ دخل اثنان أو ثلاثة آخرون من الأساتذة كان من بينهم رجل بدين أحمر الوجه أومأ إيماءة ودية للأستاذ اسنبن وقال: إن الصباح جميل.
وهمس المستر بكوك قائلا: «من هذا الرجل الأحمر الوجه الذي قال: إن الصباح جميل وأومأ إلى محامينا؟»
وأجاب بركر هذا هو الأستاذ بزفز خصمنا في الدعوى، وكبير المحامين في الجانب الآخر منها، وذلك السيد الجالس من خلفه هو المستر اسكمبن زميله الذي يليه في الأقدمية.
وهم المستر بكوك أن يسأل كيف جرؤ الأستاذ بزفز محامي المدعية، وكيف سولت له نفسه، أن يقول للأستاذ اسنبن محامي الخصم إن الصباح جميل. فقد شعر بكراهية شديدة ونفور بالغ من هذه الجرأة التي بدت من ذلك الرجل البارد الدم، ولكنه أمسك عن سؤاله حين رأى المحامين جميعا قد وقفوا، وسمع الحجاب في القاعة يأمرون الناس بالسكوت، فتلفت حوله فوجد أن السبب يرجع إلى دخول القاضي.
وكان القاضي «استيرليه» - الذي حضر الجلسة لغياب كبير القضاة لوكعة ألمت به - رجلا قصيرا مفرط القصر، وبدينا مفرط البدانة، حتى ليبدو كله وجها وصدارا ولا شيء سواهما، وقد جاء يتدحرج في مشيته فوق ساقين قصيرتين معوجتين، وبعد أن تمايل واهتز وهو ينظر بوقار إلى مقاعد المحامين، وفعل هؤلاء مثله فنظروا بجلال إليه، راح يضع ساقيه القصيرتين تحت المنضدة، ويلقي قبعته الصغيرة المثلثة الأركان فوقها، فلما فعل ذلك كله، لم يبق أمام عينيك شيء تشهده منه سوى عينيه الدقيقتين الغريبتين، ووجهه العريض الوردي ونحو نصف ضفيرة ضخمة مضحكة المنظر إلى حد بعيد.
وما إن اتخذ القاضي مجلسه، حتى طلب الحاجب إلى النظارة التزام السكوت بلهجة الآمر الناهي، وراح حاجب آخر في الردهة يردد النداء بحدة وغضب، وصاح في أثرهما ثلاثة أو أربعة حجاب آخرين الصيحة ذاتها، في صوت احتجاج وحنق ظاهرين، وعندئذ أخذ رجل في ثوب أسود جالس في موضع منخفض عن مقعد القاضي ينادي المحلفين بأسمائهم، ويبين بعد ضجة شديدة أن الحاضرين منهم لا يتجاوزون عشرة من المحلفين الممتازين، وعندئذ طلب الأستاذ بزفز استكمال العدد، وأخذ السيد ذو الثوب الأسود في إتمام النصاب القانوني منهم بإضافة اثنين من المحلفين العاديين وعرف كيف يصطاد بائع خضر وصيدليا.
وقال السيد ذو الثوب الأسود: «سأناديكما بالاسم أيها السيدان حتى تؤديا اليمين: ريتشارد أبويتش.»
وأجاب الخضري: «حاضر.» - «توماس جروفن.»
وأجاب الصيدلي: «حاضر.» - «ضعا يديكما على الكتاب أيها السيدان وأقسما أنكما ستراعيان الدقة والحق في ...»
وبادر الصيدلي وكان رجلا مديد العود نحيفا أصفر الوجه: «أستميح المحكمة المعذرة وأرجو إعفائي من الحضور!»
وسأله القاضي استيرليه: «وما السبب؟!»
وأجاب الصيدلي: «السبب يا سيدي القاضي أنني ليس معي مساعد.»
وقال القاضي استيرليه: «لا حيلة لي في ذلك يا سيدي، يجب أن تستأجر مساعدا.»
وأجاب الصيدلي: «لا طاقة لي بذلك يا سيدي القاضي.»
واحمر وجه القاضي استيرليه من الغضب؛ لأن الحدة تغلب على طباعه، والنفور من الاعتراض عليه ديدنه، وقال: «يجب أن تطيقه حتما يا سيدي.»
وأجاب الصيدلي: «أعرف أنه يجب أن أفعل ذلك، لو أنني كنت أكسب بقدر ما أستحق ، ولكن الأمر ليس كذلك.»
وقال القاضي على الفور بغير أخذ ورد: «حلفه اليمين.»
ولكن ما كاد الكاتب يبلغ من قوله: أشهد أنني سأراعي الدقة والحق في محاكمة ... حتى بادر الصيدلي إلى المقاطعة مرة أخرى فسأل القاضي قائلا: «هل يراد تحليفي اليمين يا سيدي؟»
وقال القاضي الغضوب القصير: «بلا شك يا سيدي.»
وأجاب الصيدلي بلهجة الاستسلام: «حسن جدا يا سيدي القاضي، ستقع جناية قتل قبل أن تنتهي هذه المحاكمة، هذا هو كل ما في الأمر، فهلم حلفني يا سيدي إذا شئت.»
وحلف الصيدلي قبل أن يجد القاضي كلاما يقوله.
وانثنى الرجل يقول وهو يتخذ مجلسه بكل تؤدة: «لقد كان كل ما أردته أن أوجه نظر سيادتكم إلى أنني لم أترك في الصيدلية التي أملكها أحدا سوى غلام صغير يؤدي لي قضاء الحاجات في خارجها، ولست أنكر أنه غلام لطيف يا سيدي القاضي، ولكنه لا يعرف شيئا عن العقاقير، وأعلن أن الفكرة المستولية على ذهنه أن أملاح إبسوم معناها حمض الأوكساليك
1
وأن شراب السنامكة معناه صبغة الأفيون ... هذا هو كل ما في الأمر يا سيدي القاضي.»
وما إن قال الصيدلي المديد القامة ذلك حتى هدأ وسكن واتخذ وجهه سمات الرضى والارتياح كأنما استعد لمواجهة أسوأ الأمور.
وكان المستر بكوك ينظر إلى الصيدلي باستنكار بالغ واستبشاع متناه، حين بدت ضجة خفيفة في هيئة المحكمة، ولم تمض لحظة أخرى حتى سيقت مسز باردل وهي مستندة إلى صاحبتها مسز «كلبنز»، فجلست متهالكة في الطرف الآخر من المقعد الذي جلس المستر بكوك عند طرفه الأول، وجاء المستر ددسن بمظلة متناهية في الحجم فسلمها إلى الكاتب، وأقبل المستر فج بنعل خشبي ففعل مثل ما فعله زميله، وقد اتخذ كل منهما لهذه المناسبة سمات العطف الشديد والكآبة البالغة، ثم ظهرت مسز ساندرز تقود السيد باردل الصغير، فلم تكد أمه تشهده مقبلا حتى أجفلت، ولكنها استجمعت فجأة جلدها فقبلته في شكل جنوني ظاهر، ثم انتابتها حالة من «البلاهة» والذهول التشنجي، فسألت من حولها: أين؟ وكان جواب مسز كلبنز ومسز ساندرز أن أشاحتا بوجهيهما وانخرطتا في البكاء، بينما مضى الأستاذان ددسن وفج يتوسلان إلى المدعية أن تثوب إلى نفسها، وطفق الأستاذ بزفز يفرك عينيه بشدة بمنديل أبيض كبير، ويلقي نظرة استعطاف إلى المحلفين، بينما بدا التأثر واضحا على وجه القاضي، وحاول كثير من النظارة أن يسعلوا لضبط مشاعرهم وإخفاء أحاسيسهم.
وهمس بركر للمستر بكوك: «حركة بارعة جدا هذه، إن ددسن وفج هذين بارعان حقا، هذه مؤثرات وأساليب فائقة يا سيدي العزيز، فائقة.»
وفيما كان بركر يتكلم على هذا النحو بدأت مسز باردل تسترد جأشها شيئا فشيئا، بينما راحت مسز كلبنز تنظر مليا إلى أزرار سترة «المعلم» باردل الصغير والعروات التي تدخل فيها، ثم تجلسه على أديم قاعة المحكمة أمام أمه، وهو موضع ظاهر يتيسر له منه أن يثير رثاء القاضي والمحلفين معا، ويوقظ كوامن العطف في نفوسهم. وقد أحدث ذلك اعتراضا شديدا وبكاء طويلا من جانب هذا السيد الصغير ذاته؛ إذ شعر في أعماق نفسه بخوف بالغ من أن يكون إجلاسه على مرأى من عين القاضي مقدمة لإصدار الأمر بإخراجه لشنقه في الحال أو إبعاده من البلاد إلى ما وراء البحار ليقضي بقية حياته على الأقل منفيا طريدا.
وصاح الرجل ذو الثوب الأسود مناديا: «باردل وبكوك.» فقد كانت القضية الأولى في قائمة القضايا التي ستنظرها المحكمة.
وقال الأستاذ بزفز: «أنا حاضر عن المدعية يا سيدي القاضي.»
وقال هذا: «ومن الذي معك أيها الأخ بزفز؟»
وهنا انحنى المستر اسكمبن مؤمنا أنه هو.
وقال الأستاذ اسنبن: «وأنا حاضر عن الدفاع يا سيدي القاضي؟»
وسألت المحكمة: «وهل أحد معك أيها الأخ اسنبن؟»
وأجاب الأستاذ اسنبن: «نعم المستر فنكي يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي: «الأستاذ بزفز والمستر اسكمبن حاضران عن المدعية، والأستاذ اسنبن والمستر منكي
2
حاضران عن المدعى عليه.»
وكان يكتب الأسماء في «دفتره» ويقرؤها وهو ماض في تدوينها.
وقال المستر فنكي: «أستميح سيادتك المعذرة؛ إن اسمي فنكي.»
وأجاب القاضي: «آه، حسن جدا، لم أتشرف قبل الآن بسماع اسم السيد الكريم.» وهنا انحنى المستر «فنكي» وابتسم، وانحنى القاضي وأومض ثغره، وحاول المستر فنكي وقد علا الحياء وجهه حتى بلغت حمرته بياض عينيه، أن يتراءى كأنه لا يدري أن جميع الأنظار ترنو إليه، وهو شيء لم ينجح امرؤ من قبل في إحداثه، ولن ينجح يوما على أغلب الظن وأبعد مدى الرجحان.
وقال القاضي: «لنبدأ الآن.»
وعاد الحجاب يطلبون إلى النظارة السكوت، وبدأ المستر «اسكمبن» يفتح باب القضية، وظهر أن لا شيء كبير فيها حين فتح بابها؛ لأنه احتفظ لنفسه بكل التفاصيل والدقائق التي يعرفها، ثم جلس بعد ثلاث دقائق من ابتدائه الكلام، تاركا المحلفين في جهل تام بالموضوع كما كانوا من قبل.
وعندئذ نهض الأستاذ بزفز بكل الجلال والوقار اللذين تقتضيهما طبيعة الإجراءات وجسامتها، وبعد أن همس لددسن، وتحدث بإيجاز إلى فج رفع رداءه فوق كتفيه وعدل من نظام ضفيرته، وبدأ يوجه الخطاب إلى المحلفين.
واستهل مرافعته بقوله: إنه لم يسبق له في جميع الأدوار التي مرت عليه في ممارسة مهنته، ومنذ بدأ دراسة القانون والاشتغال به، أن تناول قضية ما بهذا الشعور العميق الذي يشعر الساعة به ولا بفدح التبعة التي ينوء بحملها، تلك التبعة التي ما كان مستطيعا أن يتحملها، لولا ذلك الحافز الذي دفعه إلى أخذها على عاتقه، وبعثه على احتمال وطأتها، وهو الاقتناع الشديد، الذي يبلغ حد اليقين القاطع، بأن دواعي الحق، ومقتضيات العدالة، أو بعبارة أخرى، أن قضية موكلته التي وقع عليها ضرر بالغ، وظلم بين، ستتملك حتما نفوس هؤلاء الاثني عشر سيدا الذين يشهدهم الساعة حياله في ذلك المكان البادي لعينيه، وهم سادة رفيعو الأذهان، إخوان فطنة وذكاء.
وعلى هذا النحو يبدأ المحامي المترافع عادة مرافعته؛ لأنه يجعل المحلفين في أتم الرضى عنه، ويبعثهم على الاعتقاد بأنه المحامي الذكي الفطن البارع، فلا عجب إذا بدا التأثير فيهم واضحا، وبدأ عدة منهم يدونون ملاحظات ضخمة بأشد اللهفة وأكبر الاهتمام.
ومضى الأستاذ بزفز يقول، وهو يعلم حق العلم أن السادة المحلفين لم يسمعوا شيئا على الإطلاق من زميله الذي يشير إليه : «وقد سمعتم أيها السادة من زميلي المحترم الواسع العلم أننا أمام قضية نكث بوعد يتصل بالزواج، وأن التعويض المطلوب عنه ألف وخمسمائة جنيه، ولكنكم لم تسمعوا من زميلي المحترم الواسع العلم؛ لأن ذلك لم يكن داخلا في نطاق اختصاصه، شيئا عن وقائع القضية وظروفها، وسأتولى بنفسي أيها السادة إيراد تفاصيلها وملابساتها وستثبتها لكم السيدة التي لا لوم عليها ولا تثريب والتي أضعها في هذا المكان أمامكم.»
وهنا أراد الأستاذ بزفز أن يؤكد كلمة «هذا المكان» بقوة، فضرب المنضدة بشدة تردد لها دوي بالغ، ونظر إلى ددسن وفج فأومأ هذان له إيماءة إعجاب به، وتحد ظاهر لهيئة الدفاع.
وواصل الأستاذ بزفز مرافعته قائلا بصوت رفيق حزين مؤثر: «إن موكلتي أيها السادة أرملة، إي والله أيها السادة أرملة؛ فإن زوجها المأسوف عليه المستر باردل بعد أن استمتع عدة سنين بتقدير مليكه، وثقة جلالته، بوصفه أحد الحراس على الإيرادات الملكية، تسلل في رفق لا يكاد أحد يحسه من هذا العالم؛ ليلتمس في غيره تلك السكينة، وذلك السلام اللذين لا سبيل أمام موظف في الجمارك للظفر بهما في هذه الحياة.»
وعند هذا الوصف المؤثر لوفاة المستر باردل الذي كانت منيته على إثر ضربة أصابت رأسه من قدر كبيرة من قدور الشراب في أحد مخازن حانة عامة، اضطرب صوت المحامي الكبير، وانطلق في مرافعته يقول بانفعال ظاهر: «وكان قبل مماته بفترة من الزمن قد ترك شبهه منطبعا على غلام صغير، فلم يكن من مسز باردل إلا أن انزوت من العالم بذلك الغلام الصغير، وهو كل ما ورثته عن ذلك الموظف الذي كان في خدمة الجمارك، ورضيت بالعزلة والعيش في هدوء بشارع «جروزويل»؛ حيث علقت على شرفة غرفتها الأمامية إعلانا مكتوبا عليه «غرف مفروشة لسكن رجل أعزب، الاستعلامات من صاحبة المسكن.»
وهنا تمهل الأستاذ بزفز ريثما يتسنى لعدة محلفين تدوين هذه الوقائع.
وانبرى محلف يقول: «في أي تاريخ هذا يا سيدي؟ ألا تعرف التاريخ؟»
وأجاب الأستاذ بزفز: «لا تاريخ أيها السادة، ولكن قد طلب إلي أن أقول: إن هذا الإعلان علق على الشرفة في مثل هذا الوقت من ثلاث سنين بالدقة وإني أرجو استرعاء أنظار حضرات المحلفين إلى الصيغة التي وضع فيها الإعلان: «غرف مفروشة لسكن رجل أعزب»؛ فإن آراء مسز باردل فيما يتعلق بالجنس الآخر أيها السادة مستمدة من طول التفكير في سجايا زوجها الراحل وخلاله التي لا تقدر، فلم يكن يساورها خوف، ولا تخالجها ريبة، ولا تخامرها شبهة، بل كل ما في نفسها طمأنينة وثقة وأمانة، وكانت تقول: إن المستر باردل كان رجلا شريفا، رجلا لا ينكث عهدا، لا يعرف الخداع، ولا يحاول المين، وكان المستر باردل نفسه في يوم ما أعزب، وإلى رجل أعزب أتطلع لحمايتي ومساعدتي ورفاهيتي وسلوتي؛ فإن في وجود مثله شيئا يذكرني أبدا بما كان عليه المستر باردل من مكارم الأخلاق، حين ظفر بمحبتي لأول عهدي في الشباب بلقياه، فلن يسكن عندي إذن غير سيد أعزب. وبهذا الدافع الجميل المؤثر، وهو من بين أسمى الدوافع في طبيعتنا البشرية التي لم تبلغ الكمال أيها السادة، راحت تلك الأرملة الوحيدة المهجورة تجفف دموعها، وتفرش الطبقة الأولى من مسكنها، وتتناول غلامها البريء فتضمه إلى صدرها الرءوم، وتعلق الإعلان على شرفة حجرة الاستقبال في مسكنها. فهل ظل ذلك الإعلان طويلا في موضعه؟ كلا أيها السادة؛ فقد كان الثعبان بالمرصاد، والشرك قد نصب، واللغم قد أعد، والمهندس الذي بث اللغم قد تهيأ واستعد، فلم ينقض على الإعلان غير ثلاثة أيام، ثلاثة أيام فقط أيها السادة، حتى ظهر مخلوق مستو على ساقين اثنتين، وله كل شبه الإنسان ومعالمه الخارجية ومظاهره، لا الوحش، وأخذ يدق باب مسز باردل، ويسأل عن الغرف الخالية، ويستأجرها، وفي غداة اليوم اليوم التالي يأتي فيسكنها ويحتلها، وهذا الرجل هو بكوك، بكوك المدعى عليه.»
وسكت الأستاذ بزفز لحظة ليسترد أنفاسه، وكان قد مضى في مرافعته بذلاقة جعلت وجهه يرتد أحمر متناهيا في الحمرة، وقد أيقظ سكوته القاضي استارلي فأسرع في كتابة شيء بقلم لا مداد فيه مطلقا وبدا واجما على غير العادة عميق التفكير؛ ليحمل المحلفين على الاعتقاد بأنه أعمق ما يكون تفكيرا حين يغمض عينيه.
واستتلى الأستاذ بزفز يقول: «ولست أريد أن أطيل القول عن هذا الرجل بكوك؛ لأن الموضوع لا يحوي كثيرا مما يغري بالكلام، ولست أيها السادة بالرجل الذي يرتضي التفكير في القسوة الصارخة وجمود الإحساس، والتجرد من الشعور، والإجرام المنظم، ولستم أنتم أيها السادة بالذين يرتضون لأنفسهم هذا التفكير.»
وهنا انتابت المستر بكوك الذي كان إلى هذه اللحظة يتلوى من الألم في صمت، انتفاضة شديدة كأنما قد خطرت له عندئذ فكرة الاعتداء على الأستاذ بزفز في ساحة القضاء، ورهبته وجلاله، ولكن إشارة ناصحة من بركر أمسكته، فراح يصغي إلى المرافعة، وهو كظيم، على النقيض من الإعجاب البادي على وجهي مسز كلبنز ومسز ساندرز.
ومضى الأستاذ بزفز يقول وهو يخترق بنظره المستر بكوك ويوجه القول إليه: «أقول: الإجرام المنظم أيها السادة، وعندما أقول: الإجرام المنظم، دعوني أقل للمتهم بكوك إذا كان حاضرا الجلسة، كما علمت أنه كذلك، أنه كان أخلق به وأجدر وأرفع ذوقا، أن يتخلف عن الحضور. اسمحوا لي أيها السادة أن أقول له: إن أية إشارات يعمد إليها أمامكم لإظهار الاستياء مما أقول أو استنكار ما يسمع، لن تحدث أي أثر في نفوسكم، وإنكم ستعرفون كيف تقدرونها قدرها، وتزنونها بميزانها. وأذنوا لي أن أقول له أيضا، كما سيقول لكم سيدي القاضي أيها السادة: إن المحامي المترافع الذي يؤدي واجبه نحو موكله، لا ينبغي أن يوجه إليه أي إرهاب، أو مضايقة، أو مقاطعة؛ لأن أية محاولة لإحداها أو أخراها ستكون عاقبتها وبالا على من يحاولها، سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وسواء كان يدعى بكوك أو نوكس أو استوكس أو استايلز أو براون أو طمسن.»
وكان المراد من هذا الخروج قليلا عن الموضوع المنظور أمام المحكمة بالطبع هو توجيه الأنظار كلها إلى المستر بكوك، وما كاد الأستاذ بزفز يثوب إلى حد ما من هذه الحمية الأخلاقية التي اندفع فيها، حتى مضى يقول: «وسأبين لكم أيها السادة أن المستر بكوك ظل عامين اثنين يسكن في منزل مسز باردل بغير انقطاع أو غياب إلى حين، كما سأبين لكم أن مسز باردل لبثت طيلة هذه المدة تسعى في خدمته، وتعمل على راحته، وتطهو له الطعام، وتعنى بثيابه الداخلية إذا ما أرسلت إلى الغسالة في خارج الدار، وترتق ملابسه وتهويها وتعدها للارتداء حين تعود الملابس إلى البيت، وبالجملة تستمتع بكل ثقته ورضاه واطمئنانه، وسأبين لكم أنه جعل في عدة مناسبات ينفح غلامها الصغير أنصاف البنسات وفي بعضها ستة بنسات أيضا، وسأثبت لكم من أقوال شاهد لن يتيسر لزميلي المحترم تجريحها أو مناقضتها أنه في مناسبة معينة ربت على رأس ذلك الغلام الصغير وسأل هل كسب أخيرا شيئا من «الألى تورس» أو «الكومنيز» وهما كما علمت نوعان معينان من «البلي» يغلو صبيان هذه المدينة في تقديرهما وإيثارهما على سائر الأنواع، وإنه فاه بهذه العبارة التي لا تخلو من دلالة حين أخذ يتحدث إليه: هل تحب أن يكون لك أب آخر؟ وسأثبت لكم أيها السادة أن بكوك منذ عام مضى أو قرابته بدأ فجأة يغيب عن البيت فترات طويلة كأنما ينتوي الانفصال عن موكلتي شيئا فشيئا والتخلص تدريجيا منها، ولكني سأبين لكم أيضا أن نيته لم تكن في ذلك الحين قوية، ولا مشاعره الطيبة قد تم له الغلبة عليها، إذا افترضنا أنه كانت له مشاعر طيبة، أو أن مفاتن موكلتي وحميد خصالها ومزاياها قد تغلبت على نياته المنافية للرجولة. سأبين لكم ذلك كله بالدليل، ودليلي أنه في يوم ما عقب عودته من الريف عرض عليها الزواج عرضا صريحا واضحا، وإن كان قبل ذلك قد احتاط للأمر خاصة فعمل على ألا يكون ثمة أحد معهما حتى يشهد هذا الارتباط المقدس، وفي وسعي أن أثبت لكم من شهادة ثلاثة أصدقاء له وهم شهود سيتكلمون أمامكم وهم أشد ما يكونون كرها للشهادة أيها السادة أنهم رأوه في صبيحة ذلك اليوم ممسكا بالمدعية بين ذراعيه ومحاولا تهدئة جأشها بالملاطفة وعبارات المعزة.»
وكان لهذه العبارة التي وردت في مرافعة المحامي الكبير أثر ظاهر في نفوس السامعين، بينما مضى وكيل المدعية يخرج قصاصتين صغيرتين من الورق وهو يقول: «والآن لن أزيد أيها السادة غير كلمة واحدة، لقد تبودلت رسالتان بين الجانبين، رسالتان ثبت أنهما بخط المدعى عليه، وهما في الواقع أبلغ من عديد الكتب والمجلدات دلالة، وأوضح مغزى، وهما فضلا عن ذلك تنمان عن خلق الرجل وخبيئة نفسه، وليست هاتان الرسالتان بكتابين صريحين، بليغين، مستفيضي الحماسة وصدق الشعور، لا يحويان غير لغة الحب والعلاقة الغرامية، بل هما خطابان غامضان، ماكران، مستبهمان، ولكنهما لحسن الحظ أكثر دلالة مما لو كانا مصوغين في أوضح أسلوب، وأزهى عبارة، وأرق شاعرية، خطابان ينبغي النظر فيهما بعين الحذر والريبة، خطابان يبدو منهما أن بكوك أراد في ذلك الحين أن يضلل ويخدع بهما أي طرف ثالث يحتمل أن يقعا في يديه، اسمحوا لي أن أقرأ أولهما: تحريرا في جرويز، الساعة الثانية عشرة، عزيزتي مسز ب. شرائح وصلصة بالطماطم. المخلص بكوك»، فما معنى هذا أيها السادة؟ شرائح وصلصة بالطماطم. المخلص بكوك! شرائح! يا إله السموات، وصلصة بالطماطم! أكذا يعبث أيها السادة بسعادة امرأة حساسة واثقة مطمئنة بهذه الحيل التافهة السطحية وأمثالها؟! أما الخطاب الآخر فلا تاريخ له مطلقا، وهذا في حد ذاته أمر يبعث على الريبة، فهو يقول فيه: «عزيزتي مسز ب. لن أعود إلى البيت قبل الغد. المركبة بطيئة.» ثم تلي ذلك عبارة تسترعي النظر؛ وهي قوله: «لا تزعجي نفسك بشأن وعاء التسخين.» وعاء التسخين! يا سبحان الله! من ذا الذي يزعج نفسه أيها السادة بهذا الوعاء؟ ومتى يقلق بال إنسان - رجلا كان أو امرأة - وتنزعج نفسه من أجل وعاء تسخين؟ وهو في ذاته أداة لا ضير منها، بل نافعة مفيدة؟ وأضيف أيها السادة على هذين الوصفين أنها أداة مريحة، من أدوات البيت، وما سر هذا التوسل الجدي إلى مسز باردل ألا تنزعج بشأن وعاء التسخين، ما لم تكن - وهي الحقيقة التي لا شك فيها - مجرد ستار لنار مخبوءة، ولفظة استعيض بها عن كلمة إعزاز صريحة، أو وعد، وعبارة من طراز العبارات التي تكررت أمثالها في هذا الأسلوب من المكاتبات، وابتدعها بكوك مكرا وخديعة، حين كان يفكر في الهجر والتخلي والفرار، وهو أسلوب لست في مقام شرحه وتفسيره! وماذا عسى أن يكون المعنى المراد من قوله: المركبة بطيئة؟ لست أدري حقا، ولكن لعله إشارة إلى بكوك نفسه؛ لأنه كان بلا نزاع مركبة بطيئة في الإجرام والإثم، في كل تصرفاته، ولكن سرعتها ستزداد فجأة الآن ازديادا بالغا، ولن تلبث عجلاتها أيها السادة أن تجد شحمها على أيديكم، وسيرى أن هذا الأمر سيكلفه كثيرا، ويقتضيه ثمنا باهظا.»
وتمهل الأستاذ بزفز عند هذا الموضع؛ ليرى هل ابتسم المحلفون لنكتته؟ ولكنه تبين أن أحدا منهم لم يلحظها غير بائع الخضر، وأكبر الظن أن فطنته لها كانت ترجع إلى أنه كان قد شحم مركبة نقل له في ذلك الصباح بالذات، فرأى المحامي الكبير أنه من الخير أن يعود قليلا إلى الكلام الجدي، قبل أن يختم مرافعته، ولهذا مضى يقول: ولكن حسبنا هذا أيها السادة؛ فإنه من العسير أن يبتسم المرء والقلب موجع، ومن العبث الالتجاء إلى المزاح، وعواطفنا قد أثيرت من الأعماق! إن آمال موكلتي وأمانيها في الحياة قد دمرت، وليس من المجاز ولا من باب التشبيه والاستعارة أن نقول: إن مسكنها أخلي فعلا، ولست أنكر أن الإعلان لم يعد قائما في مكانه، ولكن ليس هناك ساكن آخر قد جاء لاستئجاره، ويمر عزاب صالحون للسكن بالمنزل ثم يعودون فيمرون، ولكن ليس هناك دعوة تحفزهم إلى الاستعلام من الداخل أو الخارج، بل لقد ساد المسكن وجوم وصمت، وحتى الغلام قد خفت صوته، ولم يعد يحفل بمراتعه وملاعبه، ما دام يرى أمه في بكاء دائم ونحيب مستطيل، وقد أهمل لعب «البلي» في الحارة كذلك، ونسي أيضا الصيحة المألوفة لديه: «مغلوب»، أو متساويان، ولكن بكوك أيها السادة ... بكوك القاسي الغليظ الكبد مدمر هذه الواحة الوادعة في صحراء شارع جزول، بكوك الذي هدم بئرها، وأحرق خضرها، بكوك الذي يأتي أمامكم اليوم بصلصة الطماطم وأوعية التسخين، بغير قلب، ولا كبد، بكوك هذا لا يزال يرفع رأسه بغير خجل ولا حياء، وينظر بغير حسرة ولا زفرة إلى الخراب الذي أحدثه. أيها السادة، إن التعويض، التعويض الجسيم، هو العقاب الوحيد الذي يتيسر لكم توقيعه عليه، والجزاء الذي يتسنى لكم أن تمنحوه لموكلتي، ومن أجل هذا التعويض تناشد هيئة المحلفين المستنيرين الكبار النفوس، الرفيعي الإحساس، الأنقياء الذمم، المبرئين من الغرض، العاطفين المفكرين الذين يمثلون مواطنيها المتحضرين.»
وبهذا المقطع الجميل، وحسن الختام جلس الأستاذ بزفز، وعلى أثره استيقظ القاضي استارلي.
ولم تنقض دقيقة واحدة حتى عاد الأستاذ بزفز فنهض متجدد القوى فقال: «أرجو مناداة إليزبث كلبنز.»
ونادى أقرب الحجاب منه صائحا: «إلزبث طبنز.» وصاح حاجب آخر على قيد خطوات منه مناديا: «إلزبث جبكنز.» وذهب ثالث لاهث الأنفاس إلى الشارع فنادى بأعلى جرسه: «إلزبث مفنز» حتى بح صوته.
3
وفي الوقت ذاته تقدمت مسز كلبنز، محاطة بمسز باردل، ومسز ساندرز، والمستر ددسن، والمستر فج؛ لكي يعاونوها على الصعود إلى مكان الشهود. ولم تكد تستقر بسلام على الدرجة العليا من السلم، حتى وقفت مسز باردل على أولى درجاته، تحمل بإحدى يديها المنديل والقبقاب، وبالأخرى زجاجة تتسع لربع فنت من أملاح النوشادر؛ استعدادا للطوارئ، أما مسز ساندرز التي جعلت تنظر مليا إلى وجه القاضي، فقد وقفت على مقربة، ومعها المظلة الضخمة، تاركة إبهامها اليمنى على الزر، وسمات الجد بادية على سحنتها، كأنما هي على أتم الأهبة لضغطه عند أول إشارة.
وقال الأستاذ بزفز: يا مسز كلبنز! «أرجوك أن تهدئي روعك يا سيدتي»، وبالطبع لم تكد مسز كلبنز تطالب بتهدئة روعها، حتى أجهشت بالبكاء، وأبدت أعراضا مزعجة توحي بأنها موشكة على الإغماء، أو كما قالت فيما بعد: إن شعورها كان أكثر مما تحتمله.
وقال الأستاذ بزفز بعد بضعة أسئلة لا أهمية لها: «هل تتذكرين يا مسز كلبنز، وأنت لا تبعدين من خلف مسكن مسز باردل أكثر من درجتين من السلم، أنها في صبح يوم من أيام شهر يولية الماضي كانت تكنس وتنفض غرف بكوك؟»
وأجابت مسز كلبنز: أتذكر يا سيدي القاضي وسادتي المحلفين.
وعاد المحامي يسألها: «أعتقد أن غرفة جلوس المستر بكوك في واجهة الدور الأول، أليس كذلك؟»
وأجاب مسز كلبنز: «هو كذلك يا سيدي.»
وقال القاضي الصغير: «وماذا كنت تفعلين في الغرفة الخلفية يا سيدتي؟»
وأجابت مسز كلبنز باضطراب متزايد: «يا سيدي القاضي، وسادتي المحلفين، إنني لن أخدعكم.» وقال القاضي الصغير: «خير لك ألا تفعلي يا سيدتي.»
ومضت مسز كلبنز: «لقد كنت في تلك الغرفة، دون أن تعرف مسز باردل؛ فقد خرجت بسلة صغيرة أيها السادة لشراء ثلاثة أرطال من الكلاوي لقاء بنسين ونصف بنس، وإذا أنا أرى باب مسز باردل الخارجي مردودا.
4
وهنا صاح القاضي القصير القامة: «ماذا؟»
وقال الأستاذ اسنبن: «تقصد مفتوحا قليلا يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي بنظرة ماكرة: «لقد قالت مردودا!»
وأجاب الأستاذ اسنبن: «المعنى واحد يا سيدي القاضي.»
ولكن القاضي بدا متشككا وقال إنه سيأخذ «مذكرة بها».
ومضت مسز كلبنز قائلة: «فدخلت عليها أيها السادة لمجرد تحيتها في الصباح، وصعدت بشكل واضح مسموع إلى الغرفة الخلفية وكانت في الغرفة الأمامية أصوات جلبة أيها السادة و...»
وعاجلها الأستاذ بزفز قائلا: «وأعتقد أنك أصغيت إليها يا مسز كلبنز؟»
وأجابت مسز كلبنز بترفع وجلال: «أستميحك يا سيدي المعذرة إذا قلت إنني أستنكر هذا العمل؛ فقد كانت الأصوات يا سيدي مرتفعة ففرضت نفسها على أذني فرضا.»
وعاد المحامي يسألها: «ليكن يا مسز كلبنز، أنت لم تصغي إليها ولكنك سمعتها، فهل كان من بينها صوت بكوك؟»
قالت: «نعم يا سيدي.»
وبعد أن مضت تقول بصريح القول: إن المستر بكوك كان يوجه الكلام إلى مسز باردل، عادت شيئا فشيئا - ردا على الأسئلة المتوالية عليها - تكرر الحديث الذي سبق لقرائنا علمه.
وبدت الريبة على وجوه المحلفين وابتسم الأستاذ بزفز وعاد إلى مجلسه، وكان الغضب واضحا على وجوههم حين أعلن الأستاذ اسنبن أنه لن يستجوب الشاهدة؛ لأن المستر بكوك يريد أن يسمع منها صراحة أن أقوالها في مادتها ومعناها صحيحة.
وما إن زال عن مسز كلبنز حياؤها وخجلها حتى ظنت أن الفرصة مواتية للدخول في بيان قصير عن شئونها المنزلية فشرعت في الحال تقول للمحكمة: إنها أم ثمانية أطفال يستطيعون النطق في ذلك الحين، وإنها ترجو مطمئنة أن تقدم إلى المستر كلبنز طفلا تاسعا بعد ستة أشهر من هذا اليوم، وعند هذه النقطة المشوقة قاطعها القاضي القصير بغضب شديد، وكانت النتيجة أن السيدة الفاضلة ومسز ساندرز أخرجتا بلطف من قاعة الجلسة في حراسة المستر جاكسن، بلا نقاش آخر ولا كلام.
وقال المستر اسكمبن: «نثنايل ونكل.»
وأجاب صوت خافت: «حاضر!» ودخل المستر ونكل المكان المخصص للشهود وبعد أن حلف اليمين، انحنى للقاضي انحناءة احترام شديد.
وقال له القاضي بحدة ردا على تحيته: «لا تنظر إلي يا سيدي، وانظر إلى هيئة المحلفين.»
وامتثل المستر ونكل للأمر، ونظر إلى الموضع الذي يرجح أشد الرجحان أنه المكان المقصود؛ لأنه لم يكن من المعقول أن يبصر شيئا وهو في تلك الحال الشديدة من الاضطراب الذهني.
وعندئذ تولى المستر اسكمبن توجيه الأسئلة إليه، وكان هذا المحامي في الثانية أو الثالثة والأربعين، وينتظر أن يكون له مستقبل باهر على الأيام، فلا عجب إذا كانت كل رغبته متجهة إلى إرباك شاهد معروف عنه الميل لمصلحة الخصم قدر استطاعته.
قال: «والآن يا سيدي تكرم بتعريف سيدي القاضي وحضرات المحلفين باسمك.»
وراح المستر اسكمبن، يميل رأسه إلى ناحية ليصغي مرهف الأذن إلى الرد، بينما وجه نظره إلى المحلفين، كأنما يوحي إليهم أنه يتوقع من نزعة الشاهد وجنوحه الطبيعي إلى قول الزور أن يجترئ على ذكر اسم ليس له.
وأجاب الشاهد: «ونكل.»
وسأله القاضي بغضب: «وما اسمك الأول يا سيدي؟» - «نثنايل يا سيدي.» - «دانيال، وهل هناك اسم آخر؟» - «نثنايل يا سيدي، أقصد نثنايل يا سيدي القاضي.» - «نثنايل دانيال أو دانيال نثنايل؟» - «كلا يا سيدي القاضي، نثنايل فقط، لا دانيال إطلاقا.»
وسأله القاضي: «لماذا إذن قلت لي: إن اسمك دانيال يا سيدي؟!»
وأجاب المستر ونكل: «لم أقل ذلك يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي بعبسة شديدة: «بل قلت يا سيدي، وإلا كيف كتبت دانيال في الورق الذي أمامي إذا لم تكن قلت ذلك يا سيدي؟»
وكانت هذه الحجة بالطبع حجة لا يستطاع دحضها.
وتدخل المستر اسكمبن، وهو يلقي نظرة أخرى إلى المحلفين: «إن ذاكرة المستر ونكل يا سيدي القاضي ضعيفة، وسنجد الوسيلة لإنعاشها وإيقاظها بلا شك قبل أن نفرغ منه.»
وقال القاضي وهو ينظر إلى الشاهد نظر شر ووعيد: «يحسن بك يا سيدي أن تأخذ حذرك.»
وانحنى المستر ونكل المسكين وحاول التظاهر بالسكينة والهدوء، ولكن هذه المحاولة وهو في تلك الحال من الاضطراب جعلته يبدو أقرب ما يكون إلى نشال مرتبك.
وعاد المستر اسكمبن يقول: «والآن يا مسز ونكل، التفت إلي من فضلك ودعني أنبهك لمصلحتك إلى نصيحة السيد القاضي لك بأن تأخذ حذرك، إنني أعتقد أنك صديق حميم للمستر بكوك المدعى عليه، ألست كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «لقد عرفت المستر بكوك، على قدر ما أذكر الساعة، منذ نحو ...» - «أرجوك يا مستر ونكل ألا تتهرب من السؤال، إنني أسألك: أأنت صديق حميم للمستر بكوك أم لا؟» - «لقد كنت أهم اللحظة بأن أقول ...» - «أتريد أن تجيب عن سؤالي يا سيدي أم لا تريد؟!»
وهنا تدخل القاضي، وهو يطل على الشاهد من فوق الأوراق التي يدون فيها ملاحظاته، فقال: «سوف تعاقب يا سيدي إذا لم ترد على السؤال.»
وقال المستر اسكمبن في أثره: «هيا يا سيدي، نعم أو لا من فضلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «نعم، أنا صديق حميم له.» - «نعم أنت كذلك، ولماذا لم تقل ذلك في الحال يا سيدي، ولعلك تعرف المدعية أيضا، إيه يا مستر ونكل؟» - «لا أعرفها، ولكني رأيتها.» - «آه، لا تعرفها ولكنك رأيتها؟ والآن تكرم بأن تشرح للسادة المحلفين ما الذي تقصده بهذا القول يا مستر ونكل.» - «أقصد أنني لست وثيق الصلة بها، ولكني رأيتها عندما ذهبت لزيارة المستر بكوك في شارع جزول.» - «وكم مرة رأيتها يا سيدي؟» - «كم مرة؟!» - «نعم يا مستر ونكل، كم مرة؟ إنني مستعد أن أكرر السؤال عليك عدة مرات إذا شئت يا سيدي.»
وانثنى المحامي المدره، وهو عابس عبسة طويلة قاسية، يضع يديه على حقويه، ويبتسم ابتسامة مريبة للمحلفين.
وعند هذا السؤال وجهت النظرات الحادة والعبارات المتعجرفة المألوفة في مثل هذه الظروف.
وبدأ المستر ونكل يقول: إنه من العسير عليه أن يقول كم من المرات رأى مسز باردل! وعندئذ سئل: هل رآها عشرين مرة؟ فأجاب: «أكثر من ذلك بلا شك» ثم قيل له هل رآها مائة مرة، وهل في استطاعته أن يحلف أنه رآها أكثر من خمسين مرة، وهل يذكر أنه رآها على الأقل ولو خمسا وسبعين مرة وهكذا دواليك، فكانت النتيجة التي وصلوا إليها أخيرا وارتضوها منه، هي أنه يحسن به أن يأخذ حذره وينتبه إلى خطورة موقفه، وكان الشاهد عندئذ قد بلغ من أثر هذه الأسئلة المتوالية عليه أقصى حدود الاضطراب العصبي المقصود، وتتابع استجوابه على النحو التالي: - «هل تذكر يا مستر ونكل أنك في صباح يوم من أيام شهر يولية الماضي زرت المدعى عليه بكوك في غرفة بمسكن المدعية بشارع جزول؟» - «نعم أذكر.» - «وهل كنت مصطحبا في هذه الزيارة صديقا يدعي طبمن وآخر يدعي سنودجراس؟» - «نعم.» - «وهل هما هنا؟» - «نعم هنا.»
قال هذا المستر ونكل وهو ينظر باهتمام بالغ نحو الموضع الذي يقف فيه صديقاه.
وقال المستر اسكمبن، بنظرة أخرى ذات دلالة إلى المحلفين: «أرجوك يا مستر ونكل أن تلتفت إلي أنا، ودعك من النظر إلى صديقيك، فهما مطالبان بأن يؤديا شهادتهما دون مشاورة سابقة معك، إذا لم تكن المشاورة قد حدثت بالفعل! (ونظر نظرة أخرى إلى المحلفين) والآن يا سيدي قل للسادة المحلفين ماذا رأيت عند دخولك غرفة المدعى عليه في صباح ذلك اليوم، هيا يا سيدي، قل ذلك، فلا بد لنا من أن نعرف عاجلا أو آجلا.»
وأجاب المستر ونكل في تردد طبيعي: «رأيت المستر بكوك المدعى عليه متناولا المدعية بين ذراعيه ويداه ممسكتان بخصرها، وكان يبدو على المدعية أنها في حالة إغماء.» - «وهل سمعت المدعى عليه يقول شيئا؟» - «سمعته يدعو مسز باردل: المخلوقة العاقلة، ويطلب إليها أن تهدئ روعها؛ لأن الموقف سيبدو حرجا إذا دخل أحد عليهما، أو كلمات في هذا المعنى.» - «والآن يا مستر ونكل، بقي لي سؤال واحد أوجهه إليك وأرجو أن تتذكر نصيحة حضرة القاضي لك، هل أنت مستعد أن تحلف أن بكوك المدعى عليه لم يقل عندئذ: يا عزيزتي مسز باردل، إنك لمخلوقة عاقلة، فلتهدئي روعك في هذا الموقف؛ لأنك يجب أن تروضي نفسك عليه، أو ما في هذا المعنى؟»
وبهت المستر ونكل لهذا التخريج العجيب لبضع كلمات سمعها: «لم أفهم هذا بلا شك؛ لأنني كنت على السلم فلم أستطع أن أسمع بوضوح، ولكن الذي يتمثل في خاطري ...»
وهنا قاطعه المستر اسكمبن قائلا: «إن السادة المحلفين لا يريدون شيئا مما يتمثل في خاطرك يا مستر ونكل، وأخشى ألا يكون له فائدة كبيرة عند سادة مثلهم أمناء صرحاء عدول، لقد قلت إنك كنت على السلم فلم تسمع بوضوح، ولكن هل تحلف أن بكوك لم يستخدم هذا التعبير الذي ذكرته لك؟ هل أفهم ذلك منك؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا، لا أحلف.»
وهنا عاد المستر اسكمبن إلى مجلسه، وعلى وجهه سمات الانتصار.
ولم تكن قضية المستر بكوك قد وصلت عند هذا الحد إلى مرحلة سعيدة، ودور موفق، حتى لم يعد ثمة مجال إلى إلقاء شيء جديد من الريبة عليها، ولكن كان في الإمكان تسليط أضواء أخرى تزيل إذا تيسر ما أحاط من الشبهات بها، فلا غرو إذا نهض المستر فنكي لاستجواب المستر ونكل لعله ظافر من ردوده بشيء يجدي عليها، وسنرى في الحال هل استطاع ذلك أو لم يستطع؟
فقد بدأ أسئلته بقوله: «أعتقد يا مستر ونكل أن المستر بكوك ليس شابا، أهو كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «آه، كلا، إنه في سن والدي.» - «لقد قلت لزميلي المحترم إنك عرفت المستر بكوك من زمن طويل، فهل لديك من الأسباب ما يجعلك تحسب أو تعتقد أنه كان موشكا أن يتزوج؟»
وأجاب المستر ونكل بلهفة حارة كان من شأنها أن ترغم مستر فنكي على أن يخرجه من موقف الشاهد بكل سرعة ممكنة: «كلا، بلا شك.»
ومن رأي المحامين أن أردأ الشهود في القضايا نوعان، وهما الشاهد الراغب في الإقلال من الكلام، والشاهد الشديد الرغبة في الإكثار منه، ولكن من سوء الحظ أن المستر ونكل جمع بين النوعين.
ومضى المستر فنكي يقول بلهجة متناهية في الرفق واللين: «بل سأذهب إلى أبعد من هذا يا مستر ونكل، فأسأل: هل رأيت يوما من تصرف المستر بكوك وسلوكه إزاء الجنس الآخر ما يحملك على الاعتقاد بأنه كان يفكر في الحياة الزوجية في السنين الأخيرة بأي حال من الأحوال؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا، بلا شك.» - «وهل كان سلوكه أبدا، كلما عرض له أمر النساء، سلوك رجل بلغ دورا متقدما من أدوار العمر، فأصبح قانعا بعمله، راضيا بمناعمه، وأمسى يعاملهن كما يعامل الأب بناته؟»
وأجاب المستر ونكل من كل قلبه: «ليس في هذا أدنى شك ... أي نعم ... إن الأمر كذلك بلا ريب.»
وقال المستر فنكي وهو يستعد للجلوس، حين رأى الأستاذ اسنبن يغمز له بطرف عينه: «وهل عرفت يوما من الأيام شيئا في سلوكه تجاه مسز باردل أو أية امرأة سواها يثير أدنى شبهة؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا ... إلا في مناسبة تافهة لست أشك في أن من السهل تفسيرها.»
ولو كان المستر فنكي قد جلس حين غمز له الأستاذ اسنبن أو لو كان الأستاذ بزفز قد عمد إلى إيقاف هذا الاستجواب المخالف للقانون من البداية، وإن كان أحكم وأحرص من أن يفعل ذلك، وهو يشهد قلق المستر ونكل ولهفته واضطرابه، ويعلم أن ذلك على الأرجح قد يؤدي إلى معرفة أشياء في مصلحة موكلته، لو أن ذلك أو نحوه قد حدث، لما أمكن أن يستخلص هذا القول من المستر ونكل لسوء الحظ، فلا عجب إذا رأينا المستر فنكي لم يكد يسمع هذه الكلمات تخرج من شفتي المستر ونكل، حتى عاد إلى مجلسه، وبادر الأستاذ اسنبن إلى إبلاغه أنه حر في ترك مكانه، وهو ما كان المستر ونكل على أتم استعداد لتنفيذه، وإذا الأستاذ بزفز يمنعه من الانصراف ، قائلا: «قف يا مستر ونكل لا تنصرف! هل يتكرم سيدي القاضي فيسأله: ما هي تلك المناسبة التي تدل على سلوك مريب إزاء النساء من جانب هذا السيد الذي يبلغ في السن مقام أبيه؟»
والتفت القاضي إلى المستر ونكل المسكين المعذب فقال: «هل سمعت ما قاله المحامي الكبير يا سيدي؟ صف لنا الحادث الذي تشير إليه.»
وأجاب المستر ونكل وهو يرتعد من القلق والاضطراب: «إننى يا سيدي القاضي أوثر ألا أفعل.»
وقال القاضي: «ربما كان ذلك، ولكنك ملزم.»
وفي وسط السكون العميق الذي ساد المحكمة بدأ المستر ونكل يقص وهو متعلثم مضطرب ذلك الحادث التافه الذي يثير الشبهة حول المستر بكوك وهو أنه وجد في مخدع سيدة في منتصف الليل، وانتهى من شرحه إلى القول إنه يعتقد أنه أدى إلى فسخ مشروع زواج تلك السيدة، وأنه يعلم أن الأمر أسفر عن استياق الجميع إلى دار المستر جورج نبكن القاضي في دائرة إبسويتش.
وقال الأستاذ اسنبن: «لك أن تنصرف يا سيدي.»
وانصرف المستر ونكل فعلا، وانطلق مسرعا محموما إلى فندق «جورج والرخم»، حيث عثر عليه بعد بضع ساعات خادم الفندق وهو يئن ويزجر بشكل مؤلم، ويدفن رأسه بين وسائد الأريكة.
ودعي كل من تراسي طبمن وأغسطس سنودجراس إلى تأدية الشهادة، واحدا بعد الآخر، فوافقا على أقوال صديقهما التعس، وكاد كل منهما يبلغ حدود اليأس والاضطراب من كثرة مطاردته بالأسئلة وتعقبه والإلحاح عليه.
ونوديت بعدهما سوزانه ساندرز واستجوبها الأستاذ بزفز، ووجه الأستاذ اسنبن أسئلة إليها، فكانت جملة أقوالها أنها كانت دائما تقول وتعتقد أن المستر بكوك سيتزوج مسز باردل، وتعرف أن خطبتها له كانت محور الأحاديث التي تدور في الحي، وعلى أفواه الجيران منذ حادث إغمائها في شهر يولية، وأنها سمعت ذلك من مسز مضبري التي تشتغل بكي أو صقل الثياب، ومن مسز بنكن التي تشتغل بتنشيتها، وإن لم ترهما في المحكمة، وقد سمعت أيضا المستر بكوك يسأل الغلام: هل يجب أن يكون له أب آخر؟ وأنها لم تعرف أن مسز باردل كانت في ذلك الحين خليلة للخباز، ولكنها تعرف أن الخباز كان يومئذ أعزب، وأنه الآن متزوج، وأنها لا تستطيع أن تحلف أن مسز باردل لم تكن تحب ذلك الخباز كثيرا، ولكنها تعتقد أن الخباز لم يكن يحب مسز باردل إلى هذا الحد، وإلا لما تزوج بامرأة سواها، وأنها تعتقد أن مسز باردل أغمي عليها في صباح يوم معين في شهر يولية؛ لأن المستر بكوك طلب إليها أن تحدد يوم الزواج، وأنها - أي الشاهدة - أغمي عليها حين طلب إليها المستر ساندرز تحديد يوم القران، وأنها تعتقد أن كل امرأة تعد نفسها سيدة تفعل ذلك في هذا الظرف بالذات. وقالت إنها سمعت المستر بكوك يسأل الغلام عن البلي ولكنها مستعدة أن تحلف اليمين على أنها لا تدري عن أنواع هذه الحجارة شيئا.
سؤال من المحكمة: هل كانت تتلقى في الفترة التي كانت خلالها تصاحب المستر ساندرز رسالات غرامية كالسيدات الأخريات؟ وكان جوابها أن المستر ساندرز كان كثيرا ما يدعوها في رسالاته «بطة» ولكنه لم يكن يدعوها مطلقا «شرائح» ولا «صلصة بالطماطم»؛ فقد كان مولعا «بالبط»، ولعله لو كان مولعا بالشرائح والصلصة لدعاها كذلك؛ رمزا لمودته وحبه!
وهنا نهض الأستاذ بزفز مبديا من الخطر والاهتمام أكثر مما أبداه من قبل، لو أن ذلك كان ممكنا، وصاح قائلا: «فليدع صمويل ولر.»
ولم تكن ثمة حاجة ظاهرة إلى دعوة صمويل ولر؛ فقد تقدم إلى مكان الشهود بخطوات منفرجة، وسرعة واضحة، في اللحظة ذاتها التي نودي فيها اسمه، فوضع قبعته على الأرض، وذراعيه على السياج، واستعرض مقاعد المحامين من عل، وألقى نظرة شاملة على منصة القضاء، وهو في ابتهاج جلي واسترواح ظاهر.
وسأله القاضي: «ما اسمك يا سيدي؟»
وأجاب هذا السيد: «سام ولر يا سيدي القاضي.»
وسأل القاضي: «هل تتهجاها: بالفاء
5
أو بالواو؟»
وأجاب سام: «هذا متروك لذوق المتهجي وخياله، يا سيدي القاضي؛ لأنني لم أتهج اسمي أكثر من مرة أو مرتين في حياتي فكنت أتهجاه بالفاء.»
وهنا ارتفع صوت من مقاعد النظارة يقول: «أحسنت يا صمويل ، أحسنت كل الإحسان، اكتبها عندك يا حضرة القاضي بالفاء.»
فرفع القاضي الصغير الجسم بصره وقال: «ما هذا؟ من الذي يجترئ على مخاطبة المحكمة؟ يا حاجب!» - «نعم يا مولاي.» - «أحضر هذا الشخص إلى هناك في الحال.» - «سمعا يا مولاي.»
ولكن لم يجد الحاجب ذلك الشخص، فلم يحضره، وكان الناس قد نهضوا من مجالسهم؛ ليتطلعوا بأبصارهم إلى هذا المخلوق، وبعد أن قامت الضجة، وحدث هرج ومرج، عادوا إلى المقاعد، والتفت القاضي القصير إلى الشاهد وقال بعد أن هدأت ثائرته: «هل تعرف من يكون ذلك الشخص يا سيدي؟»
وأجاب سام: «يبدو لي أنه والدي يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي: «هل تراه هنا الآن؟»
وأجاب سام، وهو ينظر إلى المصباح المعلق في سقف المحكمة: «كلا يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي: «لو استطعت أن تشير إليه لما ترددت في عقابه.»
وانحنى سام انحناءة شكر وعرفان، والتفت بوجهه وهو يطفح بشرا وتتهلل أساريره، نحو الأستاذ بزفز.
وقال هذا: «والآن يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «والآن يا سيدي.»
قال: «أعتقد أنك في خدمة المستر بكوك المدعى عليه في هذه القضية، فتكلم من فضلك يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «أنا ناو أن أتكلم يا سيدي، أي نعم، أنا في خدمة هذا السيد، وهي خدمة حسنة جدا.»
وقال الأستاذ بزفز متفكها: «أظن ذلك راجعا لقلة العمل ووفرة الأجر.»
وأجاب سام: «الأجر حسن وزيادة، كما قال الجندي حين حكموا عليه بثلاثمائة وخمسين جلدة!»
واعترض القاضي قائلا: «لا ينبغي لك أن تقول لنا ماذا قال الجندي أو أي إنسان سواه، هذا خروج عن موضوع الشهادة.»
وأجاب سام: «حسن جدا يا سيدي القاضي.»
وقال الأستاذ بزفز: «هل تتذكر حادثا معينا وقع في صباح اليوم الذي أدخلك فيه المدعى عليه في خدمته يا مستر ولر؟»
وأجاب سام: «نعم أتذكر يا سيدي.» - «تكرم بإبلاغ هيئة المحلفين ما هو.»
وقال سام: «لقد تلقيت كسوة جديدة من الثياب في صباح ذلك اليوم أيها السادة المحلفون، وكان هذا ظرفا خاصا وحادثا غير مألوف لدي في تلك الأيام !»
وقوبلت هذه الإجابة بضحك عام، ونظر القاضي القصير القامة نظرة غضب من فوق منصته فقال: «خير لك أن تحتاط لنفسك يا سيدي، وتأخذ حذرك.»
وأجاب سام: «هكذا قال لي المستر بكوك في ذلك اليوم بالذات يا سيدي القاضي، وقد احتطت كل الاحتياط، وأخذت حذري جدا، من الحلة الجديدة ... نعم كنت محتاطا كل الاحتياط يا سيدي القاضي.»
ولبث القاضي ينظر إلى سام عابسا دقيقتين كاملتين، ولكن وجه سام ظل في أتم الهدوء والسكينة فلم يقل القاضي شيئا، وأشار إلى الأستاذ بزفز أن يستمر.
وقال الأستاذ بزفز، وهو شابك ذراعيه بقوة، ملتفت نصف التفاته نحو المحلفين، كأنما يؤكد لهم في صمت أنه سوف يطبق على الشاهد ويحاصره: «هل تقصد يا مستر ولر أن تقول لي: إنك لم تر شيئا من إغماء المدعية وهي في أحضان المدعى عليه، كما وصف الشهود الذين سمعت أقوالهم؟»
وأجاب سام: «نعم، بلا شك لم أشهد شيئا؛ لأنني كنت في الدهليز، فلم أدخل حتى نودي علي، ولم تكن السيدة العجوز هناك.»
وقال الأستاذ بزفز وهو يغمس قلما كبيرا في الدواة التي أمامه بقصد تخويف سام بأنه سيدون رده: «التفت يا مستر ولر إلى السؤال ... لقد كنت في الدهليز، ومع ذلك لم تشهد شيئا مما كان يحدث، هل لك عينان يا مستر ولر؟»
وأجاب سام قائلا: «نعم لي عينان، وهذا هو الواقع، ولو كانتا زوجين من المجاهر المكبرة مليون مرة، لكان من الجائز أن أتمكن من رؤية ما يجري من خلال درجات سلم، وباب خشبي، ولكن ربما أنهما عينان لا أكثر؛ فإن بصري محدود كما ترى.»
وعلى أثر هذا الرد الذي ألقاه سام بلا أدنى عارض لاضطراب، وبأتم البساطة والهدوء، استولى الضحك على النظارة، وابتسم القاضي، وبدا الارتباك الشديد على وجه الأستاذ بزفز، وبعد مشاورة قصيرة بينه وبين ددسن وفج عاد يلتفت إلى سام ويسأله وهو يحاول بألم إخفاء غيظه: «والآن يا مستر ولر سأسألك عن شيء آخر إذا تكرمت.»
وقال سام بكل وداعة وخفة روح: «تفضل!» - «هل تتذكر أنك ذهبت إلى منزل مسز باردل ذات ليلة في شهر نوفمبر الماضي؟» - «آه! نعم أذكر ذلك جيدا.»
وقال الأستاذ بزفز مستعيدا قواه: «آه، تذكر ذلك إذن يا مستر ولر، لقد ظننت أننا سنظفر بشيء في النهاية.»
وأجاب سام: «لقد كان هذا هو ظني أنا أيضا يا سيدي.»
وعاد النظارة يضحكون من هذا الرد كذلك.
وقال الأستاذ بزفز، وهو ينظر إلى المحلفين نظرة العارف: «وأظنك قد ذهبت إليها؛ لتتحدث قليلا عن هذه المحاكمة. آه، يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «لقد ذهبت لأدفع لها الأجرة، ولكننا فعلا تحدثنا عن المحاكمة.»
وهنا تهلل وجه الأستاذ بزفز مؤملا أن يقع على اكتشاف خطير: «آه، لقد تحدثتما عن المحاكمة، فما الذي دار من الحديث عنها، هلا تكرمت بشرح ذلك يا مستر ولر؟»
وأجاب سام: «بكل سرور يا سيدي، فبعد بضع ملاحظات لا أهمية لها من جانب المرأتين الفاضلتين اللتين سئلتا هنا اليوم، أخذتا تبديان إعجابهما الشديد بالمسلك المشرف الذي بدا من المستر ددسن والمستر فج، وهما هذان السيدان الجالسان بقربك الآن.»
وكان هذ القول بالطبع مثارا لاهتمام النظارة واتجاه أبصارهم إلى ددسن وفج، فلا غرو إذا هما لاحا عظيمين شامخين ما أمكن.
وأجاب سام: «هو ذلك؛ فقد قالتا ما أكرمهما وأنبلهما!»
وقال الأستاذ بزفز: «إنهما وكيلا المدعية. حسن جدا، لقد تحدثت السيدتان عن سلوكهما المشرف، وأثنتا عليهما ثناء كبيرا، أليس كذلك؟»
وأجاب سام: «هو كذلك؛ فقد قالتا ما أكرمهما وأنبلهما أن قبلا هذه القضية مجازفة ومغامرة، فلم يطالبا مطلقا بأتعاب، إلا إذا أخذاها وأخرجاها من جيب المستر بكوك.»
وعاد النظارة يضحكون لهذا الرد الذي لم يكن منتظرا مطلقا، وارتد وجها ددسن وفج محمرين أشد الاحمرار، ومالا على الأستاذ بزفز وهمسا في عجلة شيئا في أذنيه.
وقال الأستاذ بزفز بصوت مرتفع وهو متظاهر بالهدوء: «أنت على حق، لا فائدة إطلاقا يا سيدي القاضي من محاولة الحصول على أقوال من بلاهة هذا الشاهد وحماقته التي لا سبيل إلى اختراقها والتغلغل في صميمها؛ ولهذا لا أريد أن أتعب المحكمة بإلقاء أية أسئلة أخرى عليه، انزل يا سيدي.»
وقال سام وهو يتناول قبعته، ويتلفت حوله بكل هدوء: «ألا أحد يحب أن يسألني عن شيء؟»
وقال الأستاذ اسنبن ضاحكا: «لست أنا يا مستر ولر ... أشكرك.»
وقال الأستاذ بزفز، وهو يلوح له بيده مغيظا قلقا: «انزل يا سيدي.»
ونزل سام، بعد أن أصاب قضية المستر ددسن وفج بأبلغ أذى استطاع بكل سهولة أن يصيبها به، دون أن يقول في حق المستر بكوك أكثر مما يمكن أن يقوله، وهو عين الهدف الذي كان قد وضعه نصب عينيه من البداية إلى النهاية.
وقال الأستاذ اسنبن: «لست أرى يا سيدي القاضي بأسا من القول - في سبيل الإغناء عن المحكمة سماع أقوال شهود آخرين - إن المستر بكوك رجل متقاعد اعتزل العمل، وسيد مستقل يعيش مما يملكه.»
وقال الأستاذ بزفز، وهو يقدم الرسالتين لكي يقرأهما الدفاع: «حسن جدا، هذه هي قضيتي شرحتها لكم يا سيدي القاضي.»
وعندئذ نهض الأستاذ اسنبن فوجه القول إلى المحلفين؛ دفاعا عن موكله، وكانت مرافعته طويلة ولهجته مقترنة بالتوكيد البالغ، راح خلالها يثني أطيب الثناء على سلوك المستر بكوك وأخلاقه، ولكن لما كان قراؤنا أقدر كثيرا على تكوين رأي صحيح عن مواهب هذا الرجل ومدى فضله وجدارته، مما في وسع الأستاذ اسنبن أن يصل إليه، فإنا لا نجد حاجة تدعونا إلى ترديد مرافعته والإطالة في إيراد ملاحظاته؛ فقد حاول أن يبين أن الرسالتين اللتين تناولهما محامي المدعية لا صلة لهما بشيء إطلاقا غير الطعام الذي كان المستر بكوك يبتغيه أو الاستعداد لعودته إلى غرفته من رحلة له في الريف، وحسبنا أن نضيف في عبارة عامة أن الأستاذ اسنبن بذل أقصى الجهد في سبيل الدفاع عن موقف المستر بكوك وأنه لم يكن في الإمكان - كما يقول المثل القديم - أحسن مما كان.
وبدأ القاضي استارلي يلخص نقط القضية على النحو المعروف، وطبقا للأوضاع المقررة، فكان يقرأ من الملاحظات التي دونها في الورق الذي أمامه على أسماع المحلفين كل ما أمكنه أن يقرأ في هذه الفترة القصيرة، ومضى يعلق على أقوال الشهود تعليقات سريعة وهو منطلق في تلخيصه، قائلا: إنه إذا كانت مسز باردل على حق، فمن الجلي تماما أن المستر بكوك هو المخطئ، وإذا كانوا يرون أن شهادة مسز كلبنز جديرة بالتعويل عليها، فليأخذوا بها، وإذا لم يروا ذلك فلا شيء يحملهم على الأخذ بها، وإذا كانوا مقتنعين بأن هناك نكثا بوعد الزواج قد ارتكب، فليكن قرارهم في مصلحة المدعية مع الحكم بالتعويضات التي يرونها، وأما إذا تبين لهم على العكس أنه لم يكن ثمة وعد به، فليكن القرار في مصلحة المدعى عليه، بلا تعويض مطلقا.
واختلى المحلفون عندئذ في حجرتهم الخاصة للمداولة، وعاد القاضي إلى غرفته كذلك؛ ليسترد قواه بشريحة من الضأن وكأس من خمر الكرز.
وانقضى ربع ساعة في قلق بالغ، وعاد المحلفون إلى مكانهم، ودعي القاضي من غرفته، ورفع المستر بكوك منظاره فوضعه فوق عينيه، وراح يرمق كبيرهم وهو بادي الاضطراب، خافق القلب.
وقال السيد ذو الثوب الأسود: «أيها السادة، هل أنتم مجمعون على القرار؟»
وأجاب كبير المحلفين: «نعم.»
وعاد يسأل قائلا: «وهل القرار يا سيدي في مصلحة المدعية، أو في مصلحة المدعى عليه؟» - «في مصلحة المدعية.» - «والتعويضات أيها السادة؟» - «سبعمائة وخمسون جنيها.»
وهنا نزع المستر بكوك منظاره فمسح زجاجه بكل عناية وطواه ووضعه في علبته، ودس العلبة في جيبه، وبعد أن أدخل القفاز في كفيه بكل تؤدة وراح يرمق كبير المحلفين بنظره، انطلق ذاهلا في أثر المستر بركر والحقيبة الزرقاء، منصرفا من المحكمة.
ووقفا في غرفة جانبية ريثما يدفع رسوم المحكمة، وانضم إليه أصدقاؤه، وهنا التقى أيضا بالمستر ددسن والمستر فج، وهما يفركان أيديهما وتبدو عليهما أمارات السرور الظاهر، وعلامات الارتياح.
المحاكمة.
وقال المستر بكوك: «والآن أيها السيدان؟»
وقال ددسن عنه وعن شريكه: «والآن يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هل تتصوران أنكما ستظفران بأتعابكما؟ أليس كذلك أيها السيدان؟» وأجاب فج أنهما يعتقدان أن ذلك هو المرجح، وابتسم ددسن وقال: إنهما سيحاولان.
وقال المستر بكوك بحدة: «فلتحاولا، ولتحاولا، ولتحاولا، يا سيد ددسن وأنت يا سيد فج ما تشاءان ولكنكما لن تظفرا بدرهم واحد من أتعاب أو تعويض مني، ولو انفقت بقية العمر في سجن المدينين.»
وضحك ددسن قائلا: «سيكون لك رأي أحسن من هذا قبل حلول الدورة التالية يا مستر بكوك.»
وابتسم فج قائلا: «ها، ها، لن تلبث أن ترى ماذا سيتم يا مستر بكوك.»
وترك المستر بكوك من فرط الغيظ نفسه يساق صامتا مرتجا عليه في أثر وكيله وأصحابه إلى الباب، حيث ساعداه على الصعود إلى مركبة قديمة كان سام ولر المتنبه الصاحي لكل شيء قد أحضرها لهذا الغرض.
ورفع سام سلم المركبة، وهم بالوثوب إلى مكانه بجانب السائق، وإذا هو يشعر بيد تلمس في رفق كتفه، فاستدار لكي يرى من اللامس فوجد والده حياله، وقد غمرت وجهه أمارات الحزن والأسف وهو يهز رأسه بأسى ويقول بلهجة المنذر: «لقد كنت عارفا نتيجة ما سيحدث هنا، آه، يا سامي! يا سامي! لماذا لم يؤخذ بنصيحتي، وهي إثبات غيابه؟»
حامض يستخرج من الحميض وهو نوع من النبات، والسنامكة هي السلامكة المعروفة.
تعني «منكي» بالإنجليزية «قرد» وقد اختلط الاسم الحقيقي على القاضي فاضطر صاحبه إلى تصحيحه.
اختلف الحجاب في النطق باسمها على هذا النحو المضحك، وهذا أمر كثير الحدوث.
تعني «مفتوحا»، ولكنها نطقت بها محرفة فصارت تعني «مواربا»، وفهم القاضي أنها تعني مردودا.
في الأصل الإنجليزي بحرف ال “v”
وهو الهجاء الذي ينطق به «ولر» اسمه “Veller” .
الفصل الخامس والثلاثون
وفيه يرى المستر بكوك أنه من الخير أن يقصد إلى «باث» - مدينة المياه المعدنية - فينفذ هذا الرأي. ***
وأنشأ المستر بركر يقول وقد وقف في غرفة المستر بكوك صبيحة اليوم التالي للمحاكمة: «ولكنك بلا شك يا سيدي العزيز لا تقصد حقا، ولا جدا، بغض النظر عن أي انفعال أو غيظ، ألا تدفع تلك الأتعاب والتعويضات؟»
وقال المستر بكوك بإصرار: «ولا نصف بنس منها، ولا نصف بنس إطلاقا.»
وقال المستر ولر، وهو يرفع الصحاف والآنية عقب انتهاء الفطور: «احتراما للمبدأ، كما قال الدائن عندما رفض بتاتا تجديد الكمبيالة.»
وقال المستر بكوك: «تفضل يا سام بالنزول.»
وأجاب سام: «بكل تأكيد يا سيدي.»
وانصرف امتثالا لإشارة مستر بكوك اللطيفة.
ومضى المستر بكوك يقول بلهجة جد بالغ: «كلا يا مستر بركر، لقد حاول أصحابي هنا أن يثنوني عن هذا العزم ولكن بلا جدوى، وسأنفق وقتي وجهدي، كدأبي وعهدي، حتى يتيسر لخصومي استصدار أمر أداء من القاضي، وإذا سولت لهم خستهم تنفيذه، وقبض علي، فسوف أسلم نفسي بكل سرور وارتياح، فمتى يتيسر ذلك لهم؟»
وأجاب بركر: «في إمكانهم استصدار الأمر يا سيدي العزيز بأداء قيمة التعويض والأتعاب في الجلسة القادمة، أي بعد شهرين من هذا التاريخ يا سيدي العزيز.»
وقال المستر بكوك: «جميل جدا، ولست أريد أيها العزيز أن أسمع حتى هذا الموعد شيئا آخر في هذا الشأن.»
والتفت إلى أصحابه فابتسم في وجوههم ابتسامة لطيفة، ولمعت في عينيه خطفة ضياء لم يستطع المنظار إخفاءها وقال: «والآن، لم يعد أمامنا غير مسألة واحدة، وهي إلى أين تكون رحلتنا التالية بعدئذ؟»
وكان المستر طبمن والمستر سنودجراس من فرط تأثرهما ببطولة صديقهما لا يقويان على الجواب، ولم يكن المستر ونكل قد أفاق تماما من ذكرى الشهادة التي أدلى بها في المحكمة، حتى يستطيع إبداء رأي في هذا الموضوع، ولهذا لم يجد المستر بكوك فائدة من التمهل والانتظار، فمضى يقول: «إذا أنتم تركتم لي إذن أن أقترح الموضع الذي نقصده، قلت: لنسافر إلى باث؛ فلست أظن أحدا منا قد رآها قبل الآن.»
والواقع أن أحدا منهم لم يرها، وتلقى المستر بركر هذا الاقتراح بحماسة؛ فقد رجح لديه كل الرجحان أن ينزع المستر بكوك عقب تبديل الهواء إلى حين، والاستمتاع بشيء يسير من البهجة والمتع، إلى الأخذ بفكرة أحكم من هذا في مسألة مصيره، وأخف رحمة من قبول الحبس في سجن المدينين؛ ولهذا أجمع الصحاب على التنفيذ، وأوفد سام في الحال إلى حانة هوايت هورس سلر لحجز خمسة مقاعد في المركبة العامة التي ستسافر في صباح اليوم التالي لتمام السابعة والنصف.
ووجد سام أنه لم يبق هناك غير مقعدين في داخل المركبة، وثلاثة فقط يتيسر حجزها في خارجها فاحتجزها جميعا، وبعد أن تبادل بضع تحيات مع الكاتب الموكل بشباك التذاكر على قدر من الشراب يتعاطيانه معا لقاء نصف كراون، حسبه الكاتب ما بقي بعد ثمن التذاكر، وانطلق سام راجعا إلى فندق «جورج والرخم»، حيث انشغل إلى أوان النوم في كبس الثياب والأمتعة الأخرى لكي تشغل أصغر فراغ ممكن، واستخدام عبقريته ومهارته وخبرته في الآلات لابتكار جملة من الوسائل البارعة في ضغط أغطية الصناديق التي كانت خالية من الأقفال والمفصلات.
وكان اليوم التالي لا يناسب السفر إطلاقا؛ فقد طلع الصباح نديا رطبا يتساقط المطر فيه رذاذا، وكانت الخيل المعدة للخروج في هذه الرحلة، قد جاءت تخترق شوارع المدينة، وهي ترسل من خياشيمها دخانا يحجب الركاب الجالسين خارج المركبة عن الأبصار، كما بدا باعة الصحف مبللين تعبق منهم رائحة عفنة من شدة الرطوبة، وكانت قطرات المطر تتساقط من قبعات بائعي البرتقال، عندما يدخلون رءوسهم من نوافذ المركبة، ويخففون الروائح المختنقة في جوفها، واليهود الذين يعرضون على الناس المطاوي ذوات الخمسين نصلا، قد طووها يائسين من الظفر بالمشترين، والباعة الذين يطوفون بمحافظ الجيوب دسوها في جيوبهم، وكذلك ركدت سوق سلاسل الساعات وشوك الخبز الحميص، أو بيعت رخيصة، أما علب الأقلام والإسفنج فلم يعد أحد يطلبها في السوق.
وترك المستر بكوك وأصحابه سام ليستنقذ الأمتعة من براثن سبعة حمالين أو ثمانية ارتموا بوحشية عليها، في اللحظة التي وقفت المركبة فيها، وتبين لهم أنهم جاءوا مبكرين عن الموعد نحو عشرين دقيقة، فذهبوا يحتمون من المطر في قاعة المسافرين، وهي آخر ملجأ للناس إذا وجدوا أنفسهم في غمة أو حائرين.
وكانت قاعة المسافرين في هوايت هورس سلر بالطبع غير مريحة، وإلا لما كانت مستراحا للمسافرين، فهي القاعة القائمة على يدك اليمنى، التي يخيل إليك أن موقدة من مواقد المطابخ قد مشت إليها، على أمل أن تكون مستدفأ مريحا لطلاب الدفء، مصطحبة محراكا متمردا، وملقطا عصيا، ومجرافا على كوه، وهي مقسمة حواجز ومقاصير، للمسافرين وحدهم، وقد زودت بساعة جدار، ومرآة، وخادم نشيط، وهذا الشيء الأخير من متاعها ورياشها محتجز في «وجار» وصغير لغسل الأقداح في ركن من القاعة.
وكانت إحدى تلك المقاصير في ذلك الصباح بالذات مشغولة، يجلس فيها رجل عابس النظرات، يناهز الخامسة والأربعين، أصلع الجبين، لا منبت في مقدم رأسه لشيء من الشعر، حتى ليبدو «لماعا» صقيلا، وإن كثر الشعر الأسود على فوديه ومؤخر ناصيته، وغزر شارباه الفاحمان، وقد زرر سترته السمراء إلى الذقن، وكانت قبعته المخصصة للسفر والمصنوعة من جلد كلب البحر، ومعطفه وقباؤه، موضوعة فوق المقعد بجانبه.
وتطلع ببصره من فوق طعام الفطور أمامه إلى المستر بكوك عند دخوله، في نظرة عنيفة قاسية، توحي الكبرياء ورفعة القدر، وبعد أن تفحصه مليا هو وأصحابه ما طاب له أن يتفحصهم، انثنى يغمغم ببعض الأنغام بشكل يؤخذ منه أنه قد حسب أن بعض الناس يريد التفوق عليه، ولكن ذلك لن يجدي، فلن يستطيع أحد أن يخدعه.
ونادى السيد ذو الشاربين الغزيرين: «يا غلام.»
وأجاب رجل قذر السحنة، يحمل فوطة قذرة مثله، وهو يخرج من الوجار الذي أسلفنا ذكره: «سيدي!» - «قدر آخر من الخبز المحمر.» - «حاضر يا سيدي.»
وقال السيد بوحشية: «لا تنس أنه بالزبد.»
وأجاب الخادم: «حالا يا سيدي.»
وعاد الرجل ذو الشاربين الغزيرين، يدندن كما فعل من قبل، وتقدم إلى النار، ريثما يؤتى إليه بالخبز، وتناول أذيال سترته تحت ذراعيه، ونظر إلى حذائه، ومضى يطيل التفكير.
وقال المستر بكوك مخاطبا في رفق صديقه المستر ونكل: «ترى أين ستقف هذه المركبة عند وصولها إلى باث؟»
وقال الرجل الغريب: «هم! آه! ماذا تقول؟»
وأجاب المستر بكوك، وهو على استعداد في كل لحظة للدخول في حديث مع أي إنسان: «لقد كنت أقول لصديقي هذا عند أي بيت تقف المركبة العامة عند وصولها إلى باث ... لعل في وسعك أن تخبرني بهذا.»
وقال الغريب: «أذاهب إلى باث؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم، يا سيدي.» - «وهؤلاء السادة الآخرون؟» - «إنهم ذاهبون إليها كذلك.»
وهنا قال الغريب: «لا في داخل المركبة، اللعنة علي في كل كتاب إذا كنتم مسافرين في داخلها!»
وقال المستر بكوك: «لسنا كلنا.»
وأجاب الغريب بلهجة التوكيد القاطع: «كلا، لستم كلكم؛ فقد حجزت فيها تذكرتين، فإذا حاولوا حشر ستة أشخاص في مكان ضيق لا يتسع إلا لأربعة، استأجرت مركبة خاصة ورفعت قضية عليهم، لقد دفعت لهم الأجرة، فلن يجوز هذا على مثلي، وقد قلت لصراف التذاكر عندما حجزتهما: إن هذا لن يجوز؛ لأني أعرف أن أمورا كهذه قد حدثت قبل الآن، بل تحدث في كل يوم، ولكني أنا لست بالرجل الذي يخدع، ولن أخدع في يوم من الأيام، وأخبر الناس بي وأكثرهم معرفة يعرفون ذلك عني أكثر من سواهم، يخدعني أنا!»
وعاد الرجل المتوحش يدق الجرس بعنف شديد ويقول للغلام: إنه لخير له أن يأتي بالخبز في خمس ثوان، وإلا فسيعرف السبب.
وقال المستر بكوك: «اسمح لي يا سيدي الكريم أن ألاحظ أن هذا لا يدعوك مطلقا لهذا الانفعال الذي تبديه، إنني لم أحجز غير تذكرتين في الداخل.»
وقال الرجل المتوحش: «يسرني أن أسمع ذلك، وأسحب ما قلت، وأقدم اعتذاري، ها هي ذي بطاقتي، فأعطني بطاقتك؛ لأتعرف بك.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور يا سيدي، سنكون رفقاء في السفر، وأرجو أن يطيب لنا جميعا هذا الاجتماع الذي تواتى لنا.»
وقال السيد المتوحش: «أرجو ذلك، بل أعرف أننا سنغتبط به؛ إن وجهكم يروقني، وتسرني ملامحكم، أيها السادة، علي بأيديكم وأسمائكم، أعرفوني.»
وتلت هذا الحديث اللطيف بالطبع تسليمات متبادلة وتحيات ودية، وانثنى السيد المتوحش في الحال ينبئ الصحاب بعين العبارات القصار المتقطعة القافزة التي أسلفناها عليك أنه يدعى داولر، وأنه ذاهب إلى باث؛ طلبا للنزهة والمتعة، وأنه كان من قبل في خدمة الجيش، ولكنه الآن يشتغل بالأعمال، وأنه سيد حر التصرف، وأنه ينفق على نفسه من الأرباح التي يجمعها من التجارة، وأن الشخص الذي حجز له المقعد الآخر ليس سوى مسز داولر قرينته الفاضلة.
ومضى المستر داولر يقول: «إنها امرأة ظريفة، وإني بها لفخور بحق.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «أرجو أن تكون لي متعة الحكم بنفسي.»
وأجاب داولر: ستكون لك، وستعرفك، وستقدرك. لقد كانت خطبتي لها في ظروف غريبة؛ فلقد ظفرت بها بسبب يمين طائشة، وإليك النبأ: رأيتها، أحببتها، خطبتها، رفضتني، قلت: أتحبين غيري؟ قالت: «لا تحرجني وتخجلني.» قلت: «أعرفه؟» قالت: «تعرفه.» قلت: «حسن جدا، إذا بقي هنا فسأسلخ جلده.»
وقال المستر بكوك رغم إرادته: «رحمتك يا رب!»
وسأل المستر ونكل وهو شاحب الوجه: «وهل سلخت جلده حقا يا سيدي؟»
وأجاب السيد المتوحش: «بعثت إليه بكتاب، قلت: إنه لشيء أليم. وكان ذلك فعلا.»
وقاطعه المستر ونكل قائلا: «بلا ريب.»
ومضى السيد المتوحش يقول: «قلت: إنني أقسمت بشرفي - وأنا سيد مهذب - أن أسلخه، وكنت محرجا أخشى أن يضيع شرفي، لا سبيل أمامي غير تنفيذ وعيدي، وإنني بوصفي ضابطا في خدمة صاحب الجلالة مضطر إلى سلخه، وكنت آسفا لهذا الاضطرار، ولكن لا مفر منه، وكان ممن يقتنعون؛ فقد وجد أن قواعد الخدمة في الجيش ملزمة فلجأ إلى الهرب، فتزوجتها، ها هي ذي المركبة، ها هو ذا رأسها.»
وما كاد المستر داولر يتم هذا القول، حتى أشار إلى مركبة قد وقفت عندئذ بالباب، وأطل من نافذتها المفتوحة وجه مليح، في قبعة زرقاء زاهية الزرقة، وهو يرسل نظره باحثا بين القوم الوقوف فوق الإفريز، وأكبر الظن عن الرجل المتهور نفسه، وبادر المستر داولر إلى دفع حسابه، وأسرع بقبعته، ومعطفه، وقبائه، وانطلق المستر بكوك وصحبه في أثره ليحتلوا أماكنهم.
وجلس المستر طبمن والمستر سنودجراس في الجزء الخلفي من المركبة، واحتل المستر ونكل مكانه في داخلها، واستعد المستر بكوك للدخول في أثره، وإذا سام ولر يتقدم نحو سيده، ويهمس له في أذنه، راجيا أن يأذن له في الكلام معه، وكان مظهره محيرا غامضا أشد الغموض.
وقال المستر بكوك: «إيه يا سام؟ ما الخبر الآن؟»
وأجاب سام: «شرك نصب لنا يا سيدي.»
وسأله المستر بكوك قائلا: «ماذا؟»
وأجاب سام: «إنني أخشى كثيرا يا سيدي، أن صاحب المركبة يلعب علينا لعبة جريئة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «وكيف ذلك يا سام؟ أليست أسماؤنا مكتوبة في قائمة المسافرين؟»
وأجاب سام: «إن الأسماء ليست مكتوبة فيها فقط ولكن نسخة منها ملصوقة أيضا بباب المركبة.»
وأشار سام إلى الباب حيث جرت العادة أن يكتب اسم صاحب المركبة في ناحية منه؛ فإذا ذلك الاسم السحري بكوك مكتوب فيها بأحرف كبيرة مذهبة.
وصاح المستر بكوك، وهو مأخوذ بهذه المصادفة: «يا عجبا! ما أغرب ذلك وما أعجب!»
وقال سام: «ولكن ليس هذا هو كل ما في المسألة.»
وعاد يسترعى نظر سيده إلى باب المركبة، ومضى يقول: «إنهم لم يكتفوا بكتابة بكوك فقط، بل وضعوا أمامه كلمة موزس،
1
وهو ما أسميه زيادة الطين بلة، كما قالت الببغاء، حين لم يكتفوا بنقلها من بلادها، بل علموها أيضا كيف تنطق بالإنجليزية!»
وقال المستر بكوك: «هذا شيء غريب فعلا يا سام، ولكننا سنفقد أماكننا إذا نحن وقفنا هنا نتكلم.»
وصاح سام مبهوتا من هذا البرود الذي راح المستر بكوك يدخل به جوف المركبة: «ما هذا؟ ألا شيء يمكن أن يعمل في هذه المسألة يا سيدي؟»
وقال المستر بكوك: «يعمل! ماذا يصح أن يعمل؟!»
وأجاب سام ولر الذي كان ينتظر أن يطلب إليه سيده على الأقل أن يطلب حارس المركبة والسائق إلى الملاكمة في الحال: «ألا يجب تأديب أحد على هذه الجرأة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك بجد: «كلا، بلا شك إطلاقا، هيا اقفز إلى مقعدك في الحال.»
وتمتم سام لنفسه، وهو يتولى عن سيده: «أخشى كثيرا أن تحولا قد طرأ على أحوال المعلم، وإلا لما قابل هذه المسألة بكل هذا الهدوء، أرجو ألا تكون هذه المحاكمة قد هدمت قواه، إن هذه حالة سيئة، سيئة جدا.»
ومضى المستر ولر يهز رأسه بأسف بالغ، ومما يجدر بنا ذكره لوصف مبلغ أسفه على هذا الأمر أنه يفه بكلمة واحدة، حتى وصلت المركبة إلى باب العوائد في كنسنجتن، وهي فترة طويلة جدا بالنسبة إلى رجل كثير الكلام مثله، أطول من أن يطيق فيها السكوت، فلا بأس من أن نعد هذه الحقيقة حادثا لا سابق له!
ولم يحدث خلال الرحلة شيء يستحق الذكر؛ فقد مضى المستر داولر يروي نوادر عدة، تصور براعته الشخصية وجرأته، ويستشهد على صحتها بمسز داولر، فكانت زوجته تذيلها بحكايات أخرى تروي بها واقعة ذات بال كان داولر قد نسيها أو لعله من التواضع أغفلها، وكلها تدل على أنه أغرب وأعجب مما صور نفسه، وكان المستر بكوك والمستر ونكل يصغيان بإعجاب بالغ، وأحيانا يتحدثان إلى مسز داولر، التي بدت محببة إلى النفوس جذابة تستهوي الأفئدة، وبفضل أقاصيص المستر داولر، ومجانة المستر بكوك، وحسن إصغاء المستر ونكل، استطاع الركب داخل المركبة أن يجعلوا الرحلة طول الطريق طيبة ممتعة.
وفعل الركب في الخارج كما يفعل المسافرون أبدا فيه؛ فقد بدوا مرحين، كثيري الكلام، في بداية الرحلة، ثم انقلبوا مكتئبين مهمومين في منتصف الطريق، ثم عادوا أيقاظا فرحين مشرقي الوجوه قبيل انتهائها، وكان من بينهم فتى في قباء من المطاط الهندي، ظل طيلة النهار يدخن اللفائف الكبيرة المستطيلة، وآخر جعل يمزح على معطف كبير، ويشعل عدة لفائف، ولا يكاد يأخذ من كل واحدة منها نفسين اثنين، حتى يبدو غير مستقر، فيلقي بها بعيدا كلما ظن أن لا أحد منتبه إليه. وثالث طفق يتحدث عن الماشية؛ ليظن سامعوه أنه بها الخبير العليم. وكان من بينهم كذلك شيخ في المؤخرة خبير بالزراعة، وجمع متوال من الناس في سراويل رسمية سوداء، وأردية بيض، ظل حارس المركبة طيلة الطريق يدعوهم إلى الركوب تكرما منه، وهم يعرفون كل حصان وسائس على الطريق وعن جانبيه، وكان على المركبة «غداء» كان سيروح رخيصا، لا تتجاوز أكلة الفرد نصف كراون لو أن عدد الآكلين كان كبيرا.
وفي تمام الساعة السابعة من المساء انتهت الرحلة، وأوى المستر بكوك وأصحابه، والمستر داولر وزوجته إلى الغرف الخاصة التي أعدت لهم في فندق هوايت هارت المقابل لحمامات المياه المعدنية الكبرى في باث، حيث يحسب المرء أن غلمانه من ثيابهم هم خدم وستمنستر لولا أنهم يزيلون هذا الظن الخادع بأدبهم وحسن سلوكهم.
وما كادت الأواني ترفع عن مائدة الفطور في صباح اليوم التالي، حتى جاء غلام يحمل بطاقة المستر داولر، ورجاء منه أن يسمح له بتقديم صديق له. وجاء المستر داولر على أثر الخادم الذي يحمل بطاقته يسوق إلى المستر بكوك وأصحابه صديقه الذي يرجو تقديمه إليهم.
وكان هذا الصديق شابا ظريفا لا يتجاوز الخمسين كثيرا، مرتديا سترة زرقاء زاهية ذات أزرار براقة، وفي سراويل سود، وحذاء لامع شديد اللمعان، دقيق إلى أبعد حدود الدقة، ومن رقبته يتدلى منظار ذهبي، في شريط قصير عريض، وقد أمسك بيسراه في خفة علبة سعوط من الذهب، وتبرق في أنامله عدة خواتم ذهبية، ويتلألأ في قميصه دبوس من الماس المرصع بالذهب، وله ساعة من ذهب أيضا، وسلسلة منه كذلك، وأختام كبيرة من الذهب مثلها، وهو يحمل عصا لدنة في لون الأبنوس، ذات مقبض كبير من الذهب، ويبدو قميصه أنصع ما يكون بياضا، وأبدع ما يكون شكلا، وأكثر ما يكون نشاء، وضفيرة شعره متناهية البريق، مفرطة في السواد، متجاوزة الحد في التجعد، وكان سعوطه من سعوط الأمراء، وعطره من رائحة بوكيه دي روا،
2
وقد لازمت تقاسيم وجهه ابتسامة لا تفتر عنه، وبدت أسنانه من الكمال والتمام بحيث يصعب من بعيد التفريق بين الحقيقية منها والصناعية.
وقال المستر داولر: «يا مستر بكوك، هذا صديقي السيد أنجلو سايرس بنتم، من حملة وسام الصليب الحربي، يا مستر بنتم أقدم إليك المستر بكوك، تعارفا.»
وقال الصديق: «مرحبا بك يا سيدي في باث، هذا تشريف لها حقا، مرحبا يا سيدي في باث! لقد طال العهد كثيرا يا مستر بكوك منذ شربت من مياهها، يخيل إلي من طوله أنه جيل من الزمان، يا مستر بكوك، شيء رائع!»
وبهذه العبارات تناول أنجلو سايرس بنتم حامل وسام الصليب الحربي يد المستر بكوك، وأبقاها في يده، وهز كتفيه، ولبث ينحني انحناءات متوالية، كأنما لا يقوى فعلا على احتمال ترك المستر بكوك يسترد يده.
وأجاب هذا قائلا: «إنه لعهد طويل حقا منذ شربت من هذه المياه؛ لأنني على قدر ما أعرف لم آت إلى هنا من قبل.»
وهنا صاح رئيس التشريفات وهو يترك اليد التي كان محتفظا بها تتراخى دهشة واستغرابا: «لم تأت قبل الآن إلى باث يا مستر بكوك؟! ولا مرة واحدة؟! ما هذا الكلام يا مستر بكوك؟! إنك لتضحك، لا بأس، لا بأس، جميل، جميل، ها، ها، ها، رائع!»
وأجاب المستر بكوك: «يخجلني أن أقول: إنني جاد تماما فيما قلته؛ لأنني في الواقع لم آت إلى هنا قبل الآن.»
وقال رئيس المراسم وهو يبدو مغتبطا كل الاغتباط: «آه، أنا فاهم، نعم، نعم، جميل، جميل، أجمل، وأجمل، أنت السيد الذي سمعنا عنه، نعم، نحن نعرفك يا مستر بكوك، نحن نعرفك.»
وقال المستر بكوك لنفسه: «لا بد أن يكون مرجع ذلك إلى أخبار المحاكمة في تلك الصحف الملعونة، لقد علموا بكل شيء عني.»
واستتلى بنتم يقول: «أنت السيد الذي يقيم في كلابم جرين، والذي فقد قوة أطرافه من أثر التعرض بغير احتياط ولا حكمة للبرد بعد شرب النبيذ، حتى لم يعد قادرا على الحركة من حدة الألم، وجعلت المياه تأتيه معبأة في الزجاجات من الحمامات الملكية، بدرجة حرارة تبلغ مائة وثلاث درجات، وترسل إليه في المركبات إلى غرفة نومه في المدينة حيث استحم، وعطس، وفي اليوم ذاته تم له الشفاء، رائع جدا.»
وشكر المستر بكوك للرجل المجاملة التي انطوى هذا الظن عليها، ولكنه راح بتواضعه ينفي ما قيل عنه، وانتهز فرصة صمت حامل وسام الصليب الحربي لحظة، فقدم إليه أصحابه المستر طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس، فاستولى على حامل الوسام لهذا التعريف الفرح، وغمره منه الشرف.
وقال المستر داولر: «إن المستر بكوك وأصحابه يا بنتم غرباء هنا، ولا بد لهم من كتابة أسمائهم، فأين الدفتر؟»
وأجاب حامل الوسام: «سيكون دفتر قيد أسماء كبار الزائرين في مبنى الحمامات في الساعة الثانية من صباح اليوم، فهلا مضيت بأصدقائنا إلى ذلك المبنى الفاخر وساعدتني في الحصول على توقيعاتهم.»
وأجاب داولر: «سأفعل، لقد أطلنا الزيارة وحان لنا أن ننصرف، وسأعود إلى هنا بعد ساعة ... تعال بنا.»
وقال حامل الوسام: «وهو يتناول يد المستر بكوك مرة أخرى، عند نهوضه للانصراف: «هذه ليلة راقصة ... إن الليالي الراقصة في باث هي لحظات مختلسة من الفردوس، تزيدها فتونا، وسحرا؛ الموسيقى، والجمال، والرشاقة، والأناقة، واللياقة، وفوق كل ذلك جميعا، خلوها من أرباب الحرف والمهن؛ لأنهم لا يلائمون الفردوس مطلقا، ولهم ليلة خاصة يجتمعون فيها بكل صنوفهم في قاعة الجلد هول مرة كل أسبوعين، وهو أمر أقل ما يقال فيه إنه رائع. إلى الملتقى، إلى الملتقى.» وظل وهو ينزل السلم يقول إنه في غاية السرور، والانشراح، والتأثر، والازدهار، حتى مشى إلى مركبة فاخرة كانت منتظرة بالباب فدرجت به.
وفي الموعد المعين ذهب المستر بكوك وأصدقاؤه، في حراسة المستر داولر، إلى قاعة الاجتماعات فقيدوا أسماءهم في الدفتر، فكان ذلك مثلا من التنازل والتفضل قابله أنجلو بنتم بتأثر أبلغ من قبل، وكان حضور الحفلة التي ستقام في المساء بتذاكر، ولكنها لم تكن أعدت، فتعهد المستر بكوك رغم اعتراضات أنجلو بنتم واحتجاجاته، أن يوفد سام ليتسلمها في الساعة الرابعة من الأصيل من دار حامل الوسام في شارع ميدان الملكة.
وخرج الصحاب لجولة قصيرة في أرجاء المدينة، ووصلوا بعد الجولة إلى رأي واحد، وهو أن شارع بارك ستريت أشبه شيء بالشارع العمودي الذي يراه المرء في المنام، ولا يستطيع مطلقا في الحلم أن يتسلقه، وعادوا أدراجهم إلى الفندق فأرسلوا سام في المهمة التي تعهد سيده أن يرسله إليها.
ووضع سام قبعته على رأسه بشكل رشيق كل الرشاقة، وبديع كل الإبداع، ودس يديه في جيبي صداره، ومشى مشية التؤدة والخيلاء إلى ميدان الملكة صافرا بفمه عدة أنغام وألحان شائعة في تلك الأيام، ويعزف بها على تلك الآلة الموسيقية البديعة، وهي الفم، أو المزمار، وحين وصل إلى رقم البيت الذي وجه إليه في ذلك الشارع، انثنى عن الصفير، ودق الباب دقة تنم عن البهجة والانشراح، فاستجاب لها في الحال حاجب طلا رأسه بالمساحيق، وارتدى حلة فاخرة، وهو سمهري القوام.
وسأل سام ولر دون أن يرتبك من هذا الرواء المتوهج الذي طلع فجأة على عينيه في شخص هذا الحاجب المتجمل المشتمل بتلك الحلة الباهرة: «أهذا مسكن المستر بانتام، أيها الشيخ؟»
وأجاب الحاجب المتكبر المزدهي بثوبه القشيب: «ولماذا تسأل أيها الفتى؟»
وقال سام: «لأنه إذا كان هو، فما عليك إلا أن تذهب إليه بهذه البطاقة وتقول له: إن المستر ولر منتظر من فضلك.»
وما كاد يقول ذلك حتى تقدم ببرود إلى الردهة وجلس.
وأغلق الحاجب ذو الرأس المجمل بالمساحيق الباب في أثره بعنف شديد، مزمجرا بكل عظمة وكبرياء، ولكن سام لم يتأثر مطلقا بذلك العنف، ولم يأبه بتلك العظمة، وطفق يتأمل مشجبا من خشب المجنة لتعليق المظلات بنظرة الناقد الخبير، والموافق الذي يعرف حق المعرفة كيف يقدر الأشياء.
والظاهر أن الاستقبال الذي استقبل به رب البيت البطاقة أحدث أثره الحسن في نفس الحاجب من جهة سام ولر؛ لأنه حين عاد من تسليمها ابتسم له ابتسامة مودة وقال: إن الرد سيأتي في الحال.
وقال سام: «جميل جدا، قل للسيد الكبير ألا يجهد نفسه حتى يتصبب عرقا، لا عجلة يا رب القوام السمهري؛ فقد تناولت غدائي والحمد لله.»
وقال الحاجب: «إنك تتعشى مبكرا يا سيدي.»
وأجاب سام: «لأنني أجد نفسي مقبلة على العشاء كلما بكرت في الغداء.»
وسأل الحاجب: «هل قضيت وقتا طويلا في باث يا سيدي؛ لأني لم أحظ بسماع شيء عنك قبل الآن؟»
وأجاب سام: «إنني لم أحدث ضجة مدهشة هنا إلى الآن؛ لأنني أنا والسادات الكبار الآخرين لم نصل إليها إلا في الليلة الماضية.»
وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق: «مدينة لطيفة يا سيدي؟»
وأجاب سام: «يظهر أنها كذلك.»
وعاد الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق يقول: «والمجتمع فيها لطيف يا سيدي، والخدم ظرفاء جدا؟»
وأجاب سام: «أعتقد أنهم كذلك، أناس لطاف لا تظاهر عندهم، ولا يقولون لأحد شيئا.»
وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق وقد عد ملاحظة سام تحية طيبة ومجاملة كريمة: «فعلا يا سيدي، إن الأمر كذلك حقيقة ... هل لك في شيء من هذا يا سيدي؟» وانثنى يخرج علبة سعوط صغيرة رسم على غطائها رأس ثعلب.
وأجاب سام: «نعم، ولكني أعطس منه دائما.»
وقال الحاجب المديد القامة: «لك حق، إنه صعب يا سيدي، يصح أن يؤخذ بالتدريج يا سيدي. إن القهوة أحسن عادة، وقد اعتدت تناولها يا سيدي من عهد بعيد، إنها شديدة الشبه بالسعوط.»
وهنا دق الجرس بعنف، فاضطر الحاجب كارها إلى إعادة رأس الثعلب إلى جيبه وأسرع في خشوع إلى مكتب المستر بنتم، وعلى ذكر الكتب، أقول من ذا الذي لم ير يوما رجلا لا يقرأ في حياته ولا يكتب، ولكنه مع ذلك يملك حجرة خلفية صغيرة في داره يسميها مكتبا؟!
وعاد الحاجب إلى سام فقال: «ها هو ذا الرد يا سيدي، أخشى أن تجده كبيرا غير مريح.»
وتناول سام كتابا ينطوي على شيء صغير قائلا: «العفو، لا تعب ولا شيء من هذا، إنه ليس أكثر مما يستطيع الإنسان المجهد أن يطيقه.»
وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق وهو يفرك يديه ويتبع سام إلى عتبة الباب: «أرجو أن نلتقي مرة أخرى يا سيدي.»
وأجاب سام: «إنك لكريم يا سيدي، والآن لا تجهد نفسك فوق طاقتك، إنك لإنسان ظريف، تذكر أن المجتمع محتاج إليك، فلا تؤذ نفسك بكثرة العمل، بل في سبيل خير الناس، التزم الهدوء ما أمكن، وفكر أي خسارة سيعانيها المجتمع من فقدك!»
وبهذه الكلمات المؤثرة انصرف سام ولر، تاركا ذلك الحاجب يقول، وهو يرسل البصر في أثره، ويلوح على وجهه أنه حائر في أمره: «هذا شاب غريب جدا.»
ولم يقل سام شيئا، بل غمز بطرف عينه، وهز رأسه، وابتسم، ثم غمز مرة أخرى، وانطلق بمرح وعلى وجهه من الأمارات ما يدل بوضوح على أنه مسرور كل السرور من شيء ما.
وقبل الثانية من مساء اليوم ذاته بعشرين دقيقة تماما، خرج السيد أنجلو سايرس بنتم رئيس التشريفات، من مركبة عند وصولها إلى باب قاعة الاجتماعات، وعلى رأسه الضفيرة ذاتها، وفي فمه الأسنان عينها، وفي قميصه الدبوس نفسه، وفي يده العصا المعهودة ، وكل ما بدا على مظهره من التغيرات أنه جاء مرتديا سترة أزهى زرقة، وبطانة من الحرير الأبيض، وأربطة سوداء، وجوربا حريريا أسود، وحذاء رقص، وصدارا ناصع البياض، وكان يبدو - إذا جاز لنا أن نقول - أكثر تعطرا، وأفوح عبقا.
ووقف رئيس التشريفات، وهو في تلك البزة؛ ليؤدي الواجبات الخطيرة التي تتصل بمنصبه الخطير كل الخطورة؛ ليستقبل الجمع في الحجرات.
وكانت باث مزدحمة بالوافدين، فلا عجب إذا تدفق الناس، واستفاضت أقداح الشاي لقاء ستة بنسات، على تلك القاعات، زرافات وأفواجا، وكانت الأصوات، ومواقع الأقدام - في قاعة الرقص، وقاعة الميسر المستطيلة الشكل، وقاعة اللعب الأخرى المثمنة الأضلاع - مدهشة مذهلة للأذهان، وللثياب فيها حفيف، وللريش خفق، وللأضواء وهج، ولكرائم الجواهر سناء يخطف بالأبصار، وكانت ثمة أنغام الموسيقى مترددة الأصداء، لا موسيقى رقصات الكوادريل؛ لأنها لم تكن قد بدأت بعد، ولكن موسيقى الأنغام الناعمة، والألحان التوقيعية الخفيفة، بينما كانت ترتفع بين لحظة وأخرى ضحكة مرحة زائقة، وإن كانت حلوة في الأسماع، من صوت أنثى، سواء في باث أو سواها، وكانت الأعين البراقة التي يلتمع في نظراتها بريق الانتظار، وخطف السرور، ترنو في كل ناحية، وتشع من كل جانب، فحيثما ألقيت البصر رأيت قدودا مرهفة تتسلل في رفق وجمال من خلال الزحام، فلا تكاد تتوارى عن عينيك، حتى تطالعك أخرى في مثلها رقة وسحرا.
وفي قاعة الشاي، وحول نضد اللعب، ترى أسرابا حائمات من الغيد الكبار في السن، وشيوخا من العجزة ذوي العاهات، يتحدثون في سفاسف الأمور، وفضائح اليوم، بلذة بالغة، وحماسة ظاهرة تنم بجلاء عن شدة السرور الذي يجدونه من تلك الأحاديث، وقد اختلطت بهذه الجماعات ثلاث أمهات أو أربع، خاطبات لبناتهن، يلحن منهمكات في الحديث الذي يسهمن فيه، وإن مضين بين لحظة وأخرى يلقين نظرات جانبية إلى بناتهن، وقد تذكر أولاء نصيحة أمهاتهن لهن بوجوب الاستمتاع بشبابهن ما استطعن، فبدأن مقدمات فنون الغزل، بوضع اللفاعات في غير الأماكن المخصصة لها، ولبس القفازات، وصف الفناجين، وما إليها، وهي أشياء تلوح في ظاهرها تافهة، ولكنها قد تتطور بشكل مدهش إلى مواقف طيبة ببراعة الخبراء.
وعلى الأرائك القريبة من الأبواب، وفي الأركان القصية، شهد جماعات من الفتيان الحمقى والسخفاء، يبدون أنواعا منوعة من النزق والحماقات؛ ليدخلوا السرور على نفوس الحساسين القريبين منهم بالطيش والغرور، ويحسون أنهم موضع الإعجاب العام، وهو منزع حكيم رحيم، لا يدعو الرجل العاقل إلى الاشتجار بسببه، أو الدخول في نزاع عليه.
وأخيرا، على بعض المقاعد الخلفية ترى نساء عوانس، تجاوزن سن الزواج، وجئن فاتخذن مجالسهن لمتعة المساء، فلا يرقصن؛ لأنهن لا يجدن مراقصين، ولا يلعبن الورق حتى لا يظن أنهن عانسات لا يرغبن في الزواج، ولا ينثنين عن العزوبة، فبقين لهذا كله في مركز موائم يتيسر لهن فيه التنديد بأي أحد أو السخرية من أي إنسان، دون أن تنعكس السخرية عليهن، وجملة القول أنهن القادرات على اغتياب أي إنسان؛ لأن كل إنسان هناك، لقد كان هذا التهانف مشهدا من ألوان البهجة البراقة، أو معرضا من نفس الثياب، وأبدع الأزياء، وسط المرايا الجميلة، والأرضية المكسوة بالطباشير، والثريا والشموع وفي كل ناحية من هذا المشهد، ومن موضع إلى آخر، في رقة صامتة، وانحناءة ظاهرة، لهذا الجمع الجامع، مومئا لهذا إيماءة الألفة، ومبتسما لذاك ابتسامة الرضى واللطف، بدا السيد أنجلو سايرس بنتم رئيس التشريفات، في زيه الأنيق وبزته المتقنة.
وقال المستر داولر بصوت مرتفع، موجها المستر بكوك، حين تقدم على رأس جمعه الصغير، وشابكا ذراعه بذراع مسز داولر: اجلسوا في قاعة الشاي، وتناولوا منه بقدر ستة بنسات. إنهم يضعون الماء الساخن ويسمونه «شايا»؛ اشربوه! وإلى قاعة الشاي اتجه المستر بكوك، فما إن لمحه المستر بنتم، حتى راح يشق طريقه في غمار الزحام ويرحب به في سرور شديد قائلا: «شرفتنا كل التشريف يا سيدي العزيز، إن باث لسعيدة، يا مسز داولر إنك لزينة المكان، وأهنئك بهذا الريش الجميل، رائع.»
وقال داولر بلهجة المستريب: «هل أحد هنا؟»
وأجاب بنتم: «هل أحد هنا؟ إن هنا الصفوة المختارة والعلية كلها، ألا ترى يا مستر بكوك تلك الغادة التي تبدو في تلك العمامة الشفافة الناعمة؟»
وقال المستر بكوك ببساطة: «أتعني السيدة العجوز البدينة؟»
وأجاب بنتم: «صه يا سيدي العزيز، لا أحد في باث بدين ولا عجوز، وهذه هي السيدة اسنفنف العريقة المحتد.»
وقال المستر بكوك: «أهي حقا؟»
وأجاب رئيس التشريفات: «أؤكد لك أنها هي لا سواها، صه! اقترب قليلا يا مستر بكوك، ألا ترى ذلك الشاب في الثوب الفاخر القادم نحونا؟»
وسأله المستر بكوك: «أتعني ذا الشعر الطويل والجبهة الصغيرة؟»
وأجاب بنتم: «هو ذاته، إنه أغنى شاب في باث هذه اللحظة، إنه اللورد الشاب مطنهد.»
وقال المستر بكوك: «لا تقل هذا الكلام، أحقا هو؟»
وأجاب رئيس التشريفات: «نعم، وستسمع بعد لحظة صوته يا مستر بكوك، إنه سيكلمني، أما السيد الآخر الذي معه في الصدار الأحمر وذو الشارب الأسود فهو السيد المحترم المستر كرشتن صديقه الحميم، كيف أنت يا سيدي اللورد؟»
وقال اللورد - وهو يلثغ: «حر شديد يا بنتم.»
وأجاب حامل وسام الصليب الحربي: «الجو حار جدا يا سيدي اللورد.»
وقال السيد المحترم كرشتن: «عليه اللعنة.»
والتفت السيد المحترم إلى المستر بنتم بعد لحظة سكوت كان اللورد مطنهد الشاب يحاول فيها أن يرمق المستر بكوك بنظرة طويلة مربكة: «هل رأيت مركبة البريد الخاص باللورد يا بنتم؟»
وكان المستر بكوك في تلك اللحظة يفكر في أي الموضوعات يحسن اللورد الكلام ويجيد الحديث.
وأجاب حامل الوسام: «لا والله، مركبة للبريد؟! ما أبدع الفكرة! شيء رائع!»
وقال اللورد: «يا إله السموات، لقد كنت أظن أن كل إنسان قد رأى مركبة البريد الجديدة، إنها لأكثر ما رأيت أناقة وإنها لأبدع وأجمل شيء جرى على عجلات، ذات طلاء أحمر مخلوط بلون الزبد.»
وقال السيد المحترم كرشتن: «وبها صندوق أحمر للبريد وكلها كاملة تماما.»
وتبعه اللورد قائلا: «ولها مقعد صغير في المقدمة ذو سياج حديدي للسائق، وقد سقتها بنفسي إلى برستول صباح أمس الأول، وأنا مرتد سترة حمراء، ومعي خادمان يركبان في مركبة أخرى على مبعدة ربع ميل مني، وقد خرج الناس من أكواخهم وشاهدوا مدى براعتي، حتى لقد ظنوا أنني ساعي البريد، شيء مفتخر، مفتخر!»
3
وضحك اللورد لهذه الحكاية التي حكاها من صميم قلبه كما ضحك لها السامعون طبعا، وعندئذ وضع اللورد ذراعه تحت ذراع المستر كرشتن الخانع وانصرفا.
وقال رئيس التشريفات عقب انصرافهما: «اللورد الشاب لطيف جدا.»
وقال المستر بكوك بفتور: «أظنه كذلك.»
ولما بدأ الرقص، وبعد أن تعارف الحاضرون التعارف الذي لا بد منه، وأعدت المعدات الأولية الضرورية، عاد السيد أنجلو بنتم إلى المستر بكوك فمشى به إلى قاعة اللعب، وفي تلك اللحظة بالذات التي دخلا القاعة فيها، كانت السيدة «اسنفنف» وسيدتان أخريان تلوحان قديمتين في لعب «الوست» عريقتين في القمار، حائمات حول مائدة لا يشغلها أحد، فما كادت أعينهن تستقر على وجه المستر بكوك القادم في حراسة أنجلو بنتم، حتى تبادلن النظرات؛ فقد رأين أنه الشخص المطلوب بعينه لملاعبته.
وقالت السيدة اسنفنف مداعبة: «يا عزيزي بنتم، ابحث لنا عن شخص ظريف لنستكمل به هذه المنضدة، ها هو ذا إنسان لطيف!»
وكان المستر بكوك بالمصادفة ينظر في تلك اللحظة إلى ناحية أخرى فأومأت السيدة برأسها صوبه وعبست عبسة ذات تعبير بليغ.
وقال حامل الوسام عملا بهذه الإشارة: «إن صديقي المستر بكوك يا مولاتي سيكون أسعد إنسان، بلا شك، رائع! يا مستر بكوك، هذه هي السيدة اسنفنف، ومسز كرنل وجزبي ومس بولو.»
وانحنى المستر بكوك لكل سيدة منهن، ووجد الفرار مستحيلا، فامتثل ووزع اللعب، فكان المستر بكوك ومس بولو في ناحية، والسيدة اسنفنف ومسز كرنل وجزبي، في الأخرى.
وفيما كانت الورقة الرابحة يلوح بها في بداية الدور الثاني، دخلت القاعة سيدتان في مقتبل العمر مهرولتين، فاتخذت كل منهما موقفها عن أحد جانبي مسز كرنل وجزبي.
وقالت هذه السيدة ملتفتة إلى إحدى الشابتين: «والآن يا جين، ما الخبر؟»
وهمست جين وهي أملح الفتاتين وأصغرهما سنا قائلة: «لقد جئت لأسأل يا أماه هل أرقص مع المستر كرولي الأصغر؟»
وأجابتها أمها مغضبة: «يا للعجب يا جين! كيف يمكن أن تفكري في هذه الأشياء؟! ألم تسمعي مرارا أن أباه لا يملك أكثر من ثمانمائة في السنة وأن هذا الإيراد سيموت بموته؟! إني منك لخجلى، كلا لا تراقصيه بأي حال من الأحوال.»
وهمست الفتاة الأخرى، وكانت أكبر كثيرا من أختها ولكنها تبدو تافهة، متصنعة: «اسمعي يا أماه، لقد عرفوني باللورد مطنهد، فقلت: إنني أظن أنني لست مخطوبة يا أماه.»
وأجابت مسز كرنل وجزبي قائلة وهي تلاعب خد ابنتها بمروحتها: «أنت بديعة يا حبيبتي يعتمد عليك في كل حين، إنه غني عريض الثراء يا عزيزتي، بارك الله فيك.»
قالت هذه الكلمات ثم قبلت ابنتها الكبرى قبلة حب شديد، وعبست عبسة وعيد في وجه الأخرى، وأكبت على أوراقها تتطلع فيها وترتبها.
ولم يكن المستر بكوك المسكين قد لاعب قبل الآن ثلاث مقامرات عريقات في الميسر مثل أولئك؛ فقد كن من الجرأة والحدة بحيث أشفق منهن وخاف خوفا شديدا، وإذا هو لعب لعبة مخطئة، أو ألقى بورقة سيئة، حدجته شريكته مس بولو بنظرة قاسية، وإذا هو تمهل ليفكر أي الأوراق التي في يديه أصلح للإلقاء بها، استندت السيدة اسنفنف إلى ظهر مقعدها، وابتسمت ابتسامة اختلط فيها القلق بالرثاء، في وجه مسز كرنل وجزبي فقابلتها هذه بهزة من كتفيها، وسعلة من سعالها، كأنما تريد أن تقول لها إنها لفي عجب لا تدري متى يلعب، وجعلت مس بولو في نهاية كل دور تتساءل في عبسة كئيبة، وزفرة عتب: لماذا لم يعمد المستر بكوك إلى استرداد «الديناري»، أو إلقاء «الإسباني» أو «البستوني» أو حجز «القلب» إلى النهاية، أو متابعة اللعب إلى «كسب الشرف»،
4
أو لماذا لم يلق بالآس، أو يلعب «بالملك»، وما إلى ذلك ونحوه، فكان المستر بكوك في الرد على هذه التهم الخطيرة كلها، يرتبك ويعجز عن التشفع لنفسه، أو تبرير خطئه؛ لأنه من ارتباكه قد نسي كل شيء عن الميسر ولعبه، وجاء الناس، وأطلوا على اللعب أيضا، فكان هذا سببا آخر لارتباكه واضطراب أعصابه.
وكان الكلام الكثير الدائر بقرب المنضدة، بين أنجلو بنتم والآنستين متنترز اللتين جعلتا تبديان لطفا بالغا لرئيس التشريفات على أمل أن يقدم إليهما شابا تائها من حين إلى آخر، لمحاولة اقتناصه؛ لأنهما عانسان لم يوفقا في ميادين الزواج، وكان هذا الكلام الكثير - فوق كل شيء - سببا قويا في ربكة المستر بكوك وشرود باله، بل لقد اقترنت هذه الأسباب كلها بالضوضاء وأصوات الرائحين والغادين، ومقاطعاتهم، فجعلته لا يحسن اللعب، وتركت «الورق» يأتي معاكسا له، وحين انفض اللعب بعد الحادية عشرة بعشر دقائق، نهضت مس بولو من مجلسها منفعلة انفعالا شديدا وانصرفت رأسا إلى بيتها، وهي في فيض من الدموع والعبرات محمولة في محفة.
5
وتوافى إليه أصحابه مجمعين على القول أنهم قضوا ليلة نادرة قلما استمتعوا من قبل بمثلها، فاصطحبهم إلى الفندق، ومضى يرفه عن نفسه بشراب ساخن، ثم أوى إلى فراشه، فما كاد يلقي رأسه فوق الوسادة، حتى ذهب في سبات عميق. «موزس» تعني «موسى» وقد اختلطت الأسماء فظن سام أن الأمر مدبر، وأراد اتخاذ إجراء فيه.
رائحة عطرية من أذكى الروائح في تلك الأيام، ومعناها: «باقة الملك».
جعل المؤلف هذا اللورد ألثغ مكثرا من استعمال الراء يحيلها ملثغة «واوا» ومضى يجعل الحديث كله هكذا، وهو ما لا سبيل إليه هنا.
كلها رميات وألعاب معروفة عند لاعبي الميسر.
كرسي خاص يجلس فيه
Sedan chair
العظماء ويحمله الخدم على الأكتاف.
الفصل السادس والثلاثون
وسنرى أن أبرز معالمه صورة صادقة لأسطورة الأمير «بلادود» وحادث غير مألوف يقع للمستر ونكل. ***
وكان المستر بكوك يفكر في إطالة المقام في باث شهرين على الأقل، ولهذا رأى من الخير أن يتخذ مسكنا خاصا له ولأصحابه طيلة هذه الفترة، ولم تلبث أن سنحت له فرصة طيبة للظفر لقاء أجر معتدل بالجزء الأعلى من منزل في حي «الهلال الملكي» أرحب مما كانوا يطلبون، فعرض المستر داولر وزوجته أن يستأجرا منهم غرفة نوم وحجرة جلوس فقبلوا الاقتراح في الحال، ولم تنقض ثلاثة أيام حتى استقروا جميعا في مسكنهم الجديد، وبدأ المستر بكوك يشرب المياه المعدنية، عاكفا عليها أشد العكوف؛ فقد أخذ يتناولها بنظام معين، فيتناول ربع فنت
1
قبل الفطور، ثم يذهب صاعدا الجبل ، ثم يعود فيتناول ربعا آخر بعد الفطور، ثم ينزل من الجبل، وهو عقب كل شربة جديدة يعلن في أشد عبارات الجد والتوكيد أنه يشعر بتحسن بالغ، فكان أصحابه يبتهجون بسماع ذلك منه كل الابتهاج، وإن لم يعلموا من قبل شيئا عن مرضه، أو رأوا عليه أثر أي اعتلال.
وكانت القاعة الكبرى في مبنى الحمامات بهوا فسيحا، مزدانا بأعمدة «كورنثية»
2
ومكان مخصص للموسيقى، وفيها ساعة جدار من النوع المعروف «بالتومبيون»، وتمثال «لناش»
3
ونقوش ذهبية يتعين على جميع «الشاربين»
4
الالتفات إليها؛ لأنها تتوسل إليهم أن يتبرعوا لعمل خيري يستحق البر والإحسان، وفي القاعة مكان شراب رحيب عليه آنية من المرمر يخرج الماء منه منبجسا لطلابه، وقد صفت من فوقه أكواب صفر يتناولونها فيها، وإنه لمشهد يرتاح إليه الخاطر كل الارتياح، أن ترى المثابرة والجد اللذين يبتلعون الماء بهما، وهناك حمامات على مقربة، حيث يستحم منهم فريق، وفرقة موسيقى تعزف الأنغام بعد الاستحمام، مهنئة إياهم بنعمة الحمام والشفاء، وثم حمام آخر تساق إليه القواعد من النساء والعجائز والشيوخ ذوو العاهات في أنواع وأشكال مدهشة من المقاعد والمحفات ذات العجلات، حتى ليتعرض كل إنسان جريء أوتي قدمين سليمتين مستكملتي الأصابع لخطر فقدانها والخروج من المكان بغيرها، وثم حمام ثالث، يذهب إليه الذين اعتادوا الهدوء؛ لأنه أقل جلبة من الحمامين السابقين، ويكثر في هذا الموضع التمشي والفسحة والرياضة، بالعكازات أو بدونها، أو على العصي ومن غيرها، كما يكثر فيه الحديث، والفكاهة والمرح.
ويجتمع في كل صباح الشاربون بانتظام - ومن بينهم المستر بكوك - في تلك القاعة، فيتناولون قسطهم المألوف من الماء - ربع الفنت كما علمت - ويتمشون المشية الرياضية المعتادة، وفي مشية الأصيل يتلاقى هناك اللورد مطنهد، والسيد المحترم المستر كرشتن والسيدة اسنفنف، ومسز كرنل وجزبي، وكل العلية والأكابر، وجميع الشرب في الصباح، في حشد حاشد، وينطلقون بعد ذلك مشاة، أو في المركبات أو مسوقين فوق مقاعد الحمامات، فيتلاقون مرة أخرى، ثم ينصرف السادات إلى قاعات المطالعة، ويلتقون بمختلف أنماط الناس وأصنافهم، وبعدئذ ينقلبون إلى بيوتهم، فإن كان في الليل تمثيل فقد يتلاقون في دار التمثيل، وإن كان فيه اجتماع اختلفوا إلى القاعات، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، اجتمعوا غداة اليوم التالي، وهو نظام رتيب لطيف بهيج، وإن لم يخل من بعض التشابه، وصبغة من التماثل المتكرر.
وكان المستر بكوك جالسا وحده، عقب نهار قضاه على هذا النحو، فيكتب يومياته في مفكرته، وكان أصحابه قد آووا إلى مضاجعهم، وإذا هو ينتبه على دق رفيق بباب غرفته.
وجاءت مسز «كرادوك» ربة البيت تطل منه قائلة: «أرجو المعذرة يا سيدي؛ ولكن هل طلبت شيئا آخر يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا شيء آخر يا سيدتي.»
وقالت مسز كرادوك إن ابنتي الصغيرة قد ذهبت إلى فراشها يا سيدي، وقد تكرم المستر داولر فقال: إنه سيظل ساهرا حتى تعود مسز داولر؛ لأن الحفلة لا ينتظر أن تنتهي إلا في موهن من الليل، ولهذا فكرت في سؤالك: «هل تريد شيئا، قبل أن آوي إلى الفراش؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا بأس يا سيدتي، اذهبي إليه.»
وقالت مسز كرادوك: «طاب ليلك يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «طاب ليلك يا سيدتي.»
وأغلقت مسز كرادوك الباب، وواصل المستر بكوك تدوين يومياته.
ولم ينقض نصف ساعة حتى فرغ منها، فجفف الصفحة الأخيرة في عناية بالنشاف، وطوى الكراسة، ومسح قلمه بذيل سترته من الداخل، وفتح الدرج الذي توضع الدواة فيه؛ ليردها في تأن إليه، وإنه لكذلك إذ أخذت عينه ورقتان مكتوبتان، بحروف دقيقة، في جوف ذلك الدرج، وهما مطويتان طية تجعل العنوان ظاهرا لرائيه، وهو مكتوب بأحرف كبيرة، وبدا له منه أن المكتوب ليس بوثيقة خاصة، بل تتعلق بمدينة باث الحمامات، وليست طويلة، فلم يسعه إلا أن نشرها من مطواها، وأضاء شمعة مخدعه حتى ترسل ضياء ساطعا قبل أن يفرغ من قراءة هاتين الصفحتين، وقرب مقعده من النار وراح يقرأ ما يلي:
أسطورة الأمير بلادود الحقيقية
منذ نحو مائتي عام أو أقل، ظهر على حمام من الحمامات العامة، في هذه المدينة، نقش لتخليد ذكرى مؤسسها العظيم، الأمير بلادود الذائع الصيت، ولكن هذا النقش قد محي الآن وطمست معالمه.
وكانت ثمة أسطورة قديمة تروى قبل ذلك العهد بعدة مئات من السنين، ويتناقلها الخلف عن السلف، جيلا بعد جيل، وقد ورد فيها أن ذلك الأمير المجيد كان مصابا بالبرص، حين عاد من تلقي ذخائر العلم، وجني حصاد المعارف، في أثينا، فرأى أن يتحاشى المقام في قصر الملك أبيه، فعكف في معزل على العيش مع الفلاحين وتربية الخنازير.
وكان من بين قطيعها - كما تقول الأسطورة - حلوف يبدو على سحنته الجد والوقار، فلم يلبث الأمير أن سكن إليه، وهو مثله الرزين الحكيم، وكان ذلك الحلوف المفكر المتزن، أسمى من أبناء جلدته، وأرهب منها شهيقا وزحرا، وأحد منها في العض أسنانا وأنيابا وكشرا، فلا عجب إذا راح الأمير الشاب يزفر من أعماق صدره كلما ألقى نظرة إلى وجه ذلك الحلوف الجليل المهيب؛ لأنه كان يذكره بجلالة والده، فلا تلبث عيناه أن تغرورقا بالعبرات.
وكان ذلك الحلوف الحكيم مولعا بالاستحمام في وحل ندي غزير، لا في الصيف كما تفعل الخنازير العادية الآن للابتراد، وكما فعلت في تلك القرون الماضية، وهو دليل على أن ضياء الحضارة قد بدأ يطلع فجره، وإن كان لا يزال ضعيفا، بل في أيام الشتاء القارس وزمهريره، حتى لقد راحت فروته تبدو أبدا ملساء وملامحه صافية، فصحت نية الأمير على تجربة مزايا ذلك الماء الذي كان صديقه يعمد إلى الاستحمام فيه، واختبار مدى ما فيه من تنقية وتطهير، وفعلا جربه، فإذا هو يرى من تحت ذلك الوحل، عين ماء ساخن في باث ينبجس له، ويتدفق عليه، فاغتسل فيه وزال البرص عنه، فبادر إلى قصر الملك، فأدى لأبيه أكبر الاحترام، وأصدق التحيات، ثم عاد مسرعا إلى ذلك المكان، فأسس هذه المدينة وحماماتها المشهورة.
ومضى يبحث عن ذلك الحلوف بكل لهفة المودة القديمة التي توثقت بينهما، ولكن وا أسفاه! لقد كانت في تلك المياه منيته؛ فقد راح بطيشه وقلة بصيرته يستحم حماما شديد الحرارة إلى حد كبير، فلم يصبر عليها، ولم يطقها ، وذهب ذلك الفيلسوف الطبيعي من الوجود، وجاء من بعده «بليني»، وهو أيضا قد ذهب ضحية ظمئه للعلم، وعطشه للمعرفة.
تلك هي الأسطورة، فاسمع القصة الحقيقية ...
كان في بريطانيا من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك عظيم، سارت بذكره الركبان، وكان يدعى لد هوديبراس مهيبا عند الناس، ترتج الأرض إذا مشى فوق أديمها؛ لضخامته، وكان شعبه يستظل بنور وجهه، لشدة بريقه وحمرته، وفي الحق لقد كان ملء ثوبه، وبكل شبر فيه، ملكا، على كثرة ما فيه من أشبار؛ لأنه وإن لم يكن مفرطا في الطول، كان مفرطا في العرض، والأشبار التي نقصت من طوله، استعاضها بوفرة محيطه، ولو جاز لنا أن نقارن بينه وبين أحد من الملوك المحدثين، لقلنا: إن شبهه يصح أن يكون الملك «كول» المبجل.
وكان لذلك الملك زوجة، جاءته منذ ثمانية عشر عاما، بولد سمي بلادود، وأرسل إلى مدرسة ابتدائية لتلقي مبادئ العلوم، في أراضي أبيه، حتى إذا بلغ العاشرة، أرسل في رعاية رسول أمين إلى أثينا لاستكمال دراسته، ولم تكن المدرسة تتقاضى أجرا إضافيا لقاء بقاء الطالب خلال الإجازة السنوية، ولا هو مطلوب منه تقديم إنذار قبل انتقاله منها، فلبث في المدينة ثمانية أعوام، وأوفد الملك عقب انتهائها كبير أمنائه إليه لدفع الحساب والعودة به إلى أرض الوطن، ولكن لم يكد كبير الأمناء يفعل، حتى استقبل بالصياح وأحيل من فوره إلى المعاش.
ولما رأى الملك ابنه الأمير ووجده قد أصبح فتى جميلا، لم يلبث أن حسن لديه البدار إلى تزويجه حتى ينجب ذرية تخلد مجده الباذخ، عبر الأجيال، كابرا عن كابر، فبعث لهذا الغرض وفدا خاصا مؤلفا من كبار الأشراف الذين ليس لهم عمل معين يؤدونه، ويريدون مناصب تدر الأموال عليهم، إلى ملك من جيرانه القريبين، يطلب يد ابنته الحسناء لابنه، وقال في الوقت ذاته: إنه يود أن يظل على أتم الوفاق والوئام، مع أخيه وصديقه، ولكن إذا لم يتسن الاتفاق على تدبير هذا الزواج، فسوف يضطر كارها إلى غزو مملكته، وفقء عينيه، وكان الملك الآخر دونه قوة وبأسا، فرد قائلا: إنه شاكر لأخيه وصديقه كل الشكر كرمه وعظيم فضله، وأن ابنته على استعداد تام للزواج حين يود الأمير بلادود أن يأتي ليأخذها.
وما إن وصل هذا الرد إلى بريطانيا حتى استولى الفرح على الأمة كلها، فلم يعد يسمع في مختلف أرجائها غير جلبة العيد، وأصوات القصف، وضوضاء الأفراح، اللهم إلا صوت المال الذي يدفعه الشعب إلى الجباة الذين يجمعونه؛ ليملأوا به خزائن الملك، حتى ينفق في مطالب هذا الحدث السعيد.
وكان الملك في الاحتفال بهذه المناسبة قد استوى على عرشه، وجمع الأشراف والنصحاء والأمراء من حوله، ولم يلبث من فرط الفرح، وحماسة الشعور، أن نهض من فوق أريكته، فأمر كبير القضاة في مملكته أن يدعو السقاة إلى السعي بأعتق الخمور، ويأمر بحضور شعراء البلاط وهو فضل عظيم نسب من جهل المؤرخين القدامى إلى الملك «كول»، في تلك الأبيات المشهورة التي صور فيها جلالته «طالبا مزماره، وإناء خمره وعزفته الثلاثة»، وهو ظلم ظاهر لذكرى الملك «لد»، وإشادة كاذبة بفضل الملك كول بين الملوك الصيد النابهين.
ولكن في بهرة ذلك المهرجان، ووسط هذه الأفراح البهيجة الحسان، كان شخص واحد بين الحاضرين، لم يذق طعم الشراب، حين أديرت به الأكواب، تسطع فيها الصهباء ويشرق الحباب، ولم يرقص، حين تعالى عزف العازفين، ولم يكن ذلك الذي عزف عن الشراب، ولم ينهض للرقص أحد سوى الأمير «بلادود» ذاته، الذي كان الشعب بأسره، في تلك اللحظة، في سبيل تكريم قرانه والاحتفال بزواجه، يجهد بالهتاف حناجره، كما يستنفد كل ما في جيوبه من مال! والواقع أن الأمير كان قد نسي حق وزير الشئون الخارجية الذي لا نزاع فيه، في حب من يشاء بالنيابة عنه، فانثنى هو خلافا لكل سابقة في السياسة والدبلوماسية يقع في الحب كما يشاء، ويقيم علاقة خفية بينه وبين حسناء، بنت نبيل في أثينا.
وهنا يتجلى لنا مثل رائع على عديد مزايا الحضارة وأفضال العصر الحديث، فلو أن الأمير كان يعيش في أحد هذه العصور المحدثة، لجاز له في الحال أن يقترن بمن اختارها له والده، وانطلق يعمل بجد على التخلص من هذا العبء الثقيل على كاهله، وكان في وسعه أن يحطم فؤادها بالدأب على إهانتها وإهمالها، أو إذا حملتها «نفسية» جنسها، وشعورها بما وقع عليها من مظالم على الاصطبار لقسوته، ومقاومة سوء معاملته؛ كان من الجائز أن يستعين بأية وسيلة على خطف حياتها؛ ليتخلص منها، ولكن شيئا من هذا لم يتراء للأمير بلادود، فلم يجد بدا من التماس خلوة خاصة بأبيه، وفي الخلوة كاشفه بخافية أمره.
ومن حق الملوك من أقدم الأزمنة أن يسيطروا على كل شيء، إلا عواطفهم، فلا غرو إذا انثنى الملك لد حين سمع مقالة الأمير، وعلم بقصته، أن استشاط غيظا، وطوح بتاجه إلى السقف ثم تلقاه باليدين؛ فقد كان الملوك في تلك الأيام يحفظون تيجانهم فوق هاماتهم، لا في البرج، وراح يضرب الأرض بقدميه، ويدق بكفه جبينه، ويعجب كيف سولت لابنه الذي من لحمه ودمه نفسه أن يتمرد عليه، وفي النهاية دعا حراسه إليه، فأمرهم باستياق الأمير في الحال إلى السجن في برج شاهق، وهي خطة كان ملوك ذلك الزمان عامة ينتهجونها إزاء أبنائهم حين يتبين لهم أن ميولهم الزوجية لا تتفق ورغبتهم الخاصة، وتتنافى ومشيئتهم واختيارهم.
ولما مضى على الأمير بلادود في البرج الشاهق الذي ألقي في غيابته، أكبر شطر من العام، لا ترى فيه عيناه غير جدار من الحجر، ولا يخالج خاطره سوى طول المقام في المحبس، بدأ بطبيعة الحال يفكر في وسيلة للهرب، وظل أشهرا يعد العدة للفرار من سجنه، حتى تهيأت له السبيل، دون أن ينسى تغييب سكين مائدته في قلب سجانه مخافة أن يظن أن المسكين - فقد كان رب عشيرة - كان عليما بأمر فراره، فيتعرض لعقاب الملك الغاضب المحنق ويستهدف لنقمته.
وهاج الملك وثار حين انتهى إلى سمعه نبأ فرار ابنه، فلم يدر على أي رأس يصب جام غضبه حتى خطر بباله لحسن الحظ كبير أمنائه الذي أعاد ابنه إلى وطنه، فقطع معاشه ورأسه معا.
أما الأمير فقد أحسن التنكر وأتقنه، وهام على وجهه في أراضي أبيه، تواسيه محنه وخطوبه تفكيره في الحسناء الأثينية؛ فقد كانت الفتاة المليحة وهي لا تدري سبب بلائه وعلة مصابه، ووقف بذات يوم بقرية ليريح، فرأى جلبة رقص مقامة على العشب النضير، وشهد وجوها مرحة تروح وتغدو على عينيه، فتشجع وسأل إنسانا كان واقفا عن كثب منه، عن سبب هذا المهرجان.
فكان جواب الرجل: «ألا تعرف السبب أيها الغريب، ولا تعلم نبأ المنشور الذي أعلنه ملكنا العظيم؟»
وأجاب الأمير قائلا: «المنشور! كلا، أي منشور؟» ولا عجب في هذا التساؤل؛ فقد كان الأمير يتنقل في الطرق الصغيرة المهجورة التي قلما تطرقها الأقدام، فلم يعرف شيئا عما يجري في المدائن والبلدان.
وقال القروي: «إن الغادة الأجنبية التي كان الأمير يرغب في الاقتران بها قد تزوجت بشريف من أشراف بلادها، وقد أصدر الملك هذا المنشور معلنا النبأ فيه، وداعيا خلاله إلى إقامة مهرجان عام؛ لأن الأمير بلادود، سيعود بطبيعة الحال، ويقترن بالغادة التي اختارها له أبوه، والتي يقال إنها في مثل جمال الشمس في رابعة النهار، فلنشرب في صحتك يا سيدي، حفظ الله الملك!»
ولكن الأمير انطلق في سبيله ولم يعقب، موغلا في أكثف الأدغال الألفاف في جوف غابة شاسعة، وظل هائما على وجهه ليل نهار، تحت الشمس المحرقة، وظلال القمر البارد الشاحب، وخلال حر الهجير، وهواء الليل الرطب البارد، وفي مطلع ضياء النهار، وحمرة شفق المساء، غير حافل بالزمن، ولا عابئ بالأشياء، ولا مقصد له سوى بلوغ أثينا، ولكنه كان قد أوغل في جوبه، وأمعن في تجواله، حتى ألم على الموضع الذي تقع فيه باث.
ولم تكن ثمة مدينة، ولا أثر لسكان، ولا علامة على بشر، وإنما كانت هنالك الأرض الطيبة ذاتها، والربى المترامية، والوديان الفساح، والمضيق الجميل يتسلل من بعيد، ويرى من مكان ناء، يحجب بعضه غمام الصبح، ويخفيه بياضه، يزيل خشونة الأرض، ويخفف من وعورة جبالها، فلا يغمرها إلا الدعة، ولا يضفو عليها إلا النعومة والجمال، وتأثر الأمير بحسن هذا المشهد وبهائه، فتهالك على العشب النضير، ومضى يغرق قدميه المتورمتين من طول المسير في فيض دموعه.
وقال الأمير وهو مشتبك اليدين، متطلع بعينيه في أسى إلى السماء: «رباه، هلا جعلت ختام مطافي في هذا الموضع، وهلا جعلت هذه الدموع الشاكرة التي أبكي بها على أمل ضائع، وحب ممتهن، تفيض إلى الأبد، في سلام!»
واستجيب دعاؤه، وكان ذلك في عصور الكفر حين كانت الأرباب تأخذ الناس أحيانا بكلامهم، في سرعة تبدو في بعض الأوقات غريبة مستغلقة على الأذهان، وانشقت الأرض من تحت قدمي الأمير فهبط في الأخدود، وأطبق عليه لساعته، ولم يترك إلا عبراته السخينة تنبثق من جوف الأرض، ولا تزال تنبجس من ذلك الحين.
ومما يلاحظ إلى يومنا هذا أن فريقا كبيرا من السيدات والسادة المتقدمين في الأعمار الذين خابت آمالهم في الظفر بالشركاء، ومثلهم أو نحوهم من الشباب المتلهفين على الفوز بهم، يتوافدون كل عام إلى باث؛ لينهلوا من مياهها، ويستمدون القوة والراحة من شربها، وهو ما يزيد كثيرا في فضل الأمير بلادود ودموعه، ويؤيد بقوة صحة هذه الأسطورة.
وقد تثاءب المستر بكوك عدة مرات، حين بلغ نهاية هذا المخطوط الصغير، فطواه بعناية ورده إلى مكانه من الدرج المخصص للدواة، وانثنى والتعب البالغ باد على وجهه يضيء شمعة نومه، ويصعد السلم إلى فراشه.
ووقف بباب المستر داولر كعادته ودقه ليقول له: طاب ليلك.
وقال مستر داولر: «آه، أذاهب إلى النوم؟ ليتني مثلك، ليلة كئيبة، إن الرياح شديدة أليست كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك: «جدا، طاب ليلك.» - «طاب ليلك.»
وأوى المستر بكوك إلى الفراش، وعاد المستر داولر إلى مجلسه قبالة النار؛ إنجازا لوعد تسرع فيه، وهو أن يظل ساهرا حتى تعود زوجته.
وقلما يوجد في الحياة على تعدد متاعبها وهمومها، شيء أسأم للنفس من السهر في انتظار أحد من الناس، وخاصة إذا كان هذا الإنسان المنتظر سهران في إحدى الحفلات؛ لأنك لا تستطيع عندئذ أن تمنع خاطرك من تخيل سرعة انقضاء الوقت في تقدير المدعوين، وشدة بطئه وتراخيه في نظرك أنت وتصورك، وكلما أطلت التفكير في هذا الأمر، أخذ أملك من سرعة عودتهم يفتر ويضعف، وتبدو لك دقات الساعات المعلقة فوق الجدران عالية شديدة الطنين، وأنت جالس وحدك، حتى ليخيل إليك أنك في جوف شبكة من نسج العناكب، فتحس أولا شيئا يخزك في ركبتك اليمنى، ثم تحس هذا الوخز ذاته في اليسرى، ولا تكاد تغير مجلسك، أو وضعك، حتى يعاودك في ذراعيك، فإذا ما تململت ومددت أوصالك في مختلف الأشكال والأوضاع، شعرت بذلك الوخز يعود فجأة فيظهر في أنفك، فتفركه فركا، كأنما تريد أن تمحوه محوا، وهو أمر لو استطعته لفعلته، وكذلك العينان، لا تلبثان أن تنقلبا مصدرا للتعب، فتتراءى لك ذبالة الشمعة أطول من حقيقتها في اللحظة التي ترفع فيها ذبالة الأخرى، وهكذا تجعل هذه المضايقات الصغيرة وأمثالها السهر طويلا في انتظار أحد - بعد أن أوى الناس إلى مراقدهم - شيئا لا يمت إلى الرضا والراحة بسبب.
وكذلك كان شعور المستر داولر وتفكيره، وهو جالس قبالة النار، وأحس غضبا صادقا من أولئك السمار القساة القلوب الذين أطالوا المكث في الحفل وتركوه على هذا النحو يقظان متضجرا، ولم يعده إلى هدء خاطره التفكير في أنه هو الذي أبى في بداية المساء إلا أن يتصور أنه مصاب بالصداع فتخلف لذلك في البيت، وأخيرا بعد كثرة تهويم وإغفاء وانتباه فجائي منه، على الاصطدام بسياج الموقدة، والتطويح برأسه إلى الخلف؛ مخافة أن يكوى بالنار على وجهه، بدا له أن يتمدد فوق الفراش في الغرفة الخلفية ليفكر، لا لينام بالطبع.
وقال المستر داولر لنفسه، وهو يتهالك على الفراش: «إن نومي ثقيل، فلأبق يقظان، وأظن أنني سأسمع الدق من هنا، نعم، هذا صحيح، هأنذا أسمع الحارس، إنه اللحظة يتمشى، والصوت مع ذلك يضعف، إنه الآن أضعف قليلا، هو اللحظة ينعطف عند الناصية، آه!»
وما كاد المستر داولر يصل إلى هذا الحد حتى انعطف هو عند الناصية التي طال لديها تردده، فهبط في سبات عميق.
وما إن دقت الساعة مؤذنة الثالثة حتى اندفع في ذلك الشارع مع الريح هودج تجلس مسز داولر في جوفه، ويتعاون على حمله حمال قصير بدين وآخر طويل نحيل، وقد تعبا كثيرا في توازن جسديهما ومد صلبيهما، فضلا عن الهودج ذاته واستقامة حركته، ولكن في تلك الأرض العالية، وفي شارع الكرسنت بالذات، ذهبت الريح تلف وتدور، كأنما تهم بأن تقتلع أحجار إفريزه، وهي غاضبة ثائرة، فلا عجب إذا شعر الحمالان بسرور شديد حين أنزلا الهودج فاستقر فوق الأرض، وانثنيا يدقان باب الشارع دقا شديدا مزدوجا.
وانتظرا قليلا فلم يستجب أحد.
وقال الحمال قصير القامة مدفئا يديه على لهيب الشعلة التي يحملها غلام في المقدمة: «يظهر أن الخدم الساعة بين ذراعي بوربس.»
وقال الآخر الطويل: «ليته يضمهما ضمة شديدة فيوقظهما.»
وصاحت بهما مسز داولر من الهودج: «دقا الباب ثانية، من فضلكما، واجعلا الدق مثنى وثلاث.»
وكان الحمال القصير يود أن ينتهي من هذا العمل بكل سرعة ممكنة، فوقف على العتبة، ودق الباب أربع دقات مزدوجة أو خمس، كل واحدة منها تعدل ثماني طرقات أو عشرا، بينما مشى الحمال الطويل إلى الطريق وتطلع إلى النوافذ لعله يرى نورا من خلالها.
ولكن لم يأت أحد، وظل السكون سائدا، والظلام غامرا.
وقالت مسز داولر: «يا إلهي! يجب أن تدقا مرة أخرى من فضلكما.»
وقال القصير: «ليس للباب جرس، أله جرس يا سيدتي؟»
وقال حامل الشعلة: «أي نعم، وقد لبثت إلى اللحظة أدقه، دون فائدة.»
وقالت مسز داولر: «إنه ليس إلا زرا؛ فإن الأسلاك مقطوعة.»
وزمجر الحمال الطويل قائلا: «ليت رءوس الخدم تقطع كذلك.»
وقالت مسز داولر بمنتهى الأدب: «لا يسعني إلا إتعابكما.»
وعمد القصير إلى دق الباب عدة دقات أخر، ولكن دون جدوى مطلقا، وجاء الطويل وهو نافد الصبر فتولى عن زميله طرق الباب ثانية، كل دقة منه تشمل طرقتين شديدتين قاصفتين، كدق ساعي البريد مذهوب اللب.
وأخيرا بدأ المستر ونكل يحلم أنه في أحد الأندية وأن الأعضاء في هرج ومرج، مما اضطر الرئيس إلى دق المنصة عدة مرات لحفظ النظام، ولكنه عاد ينتقل إلى حلم آخر غير واضح المعالم، فرأى في المنام أنه في قاعة مزاد علني، وليس فيها مزايدون، وأن «الدلال» هو الذي مضى يشتري كل شيء فيه.
ولكن المستر ونكل في النهاية بدأ يظن أنه من المحتمل أن أحدا من الناس يدق باب الشارع، ولكنه ظل هادئا في فراشه؛ لكي يستوثق تماما، ولبث عشر دقائق أو نحوها مصغيا، وبعد أن عد اثنتين أو ثلاثا وثلاثين دقة، اقتنع كل الاقتناع، ونسب إلى نفسه فضلا كبيرا في أنه المتنبه اليقظان!
وتوالت الدقات شدادا آخذة بعضها برقاب بعض!
وعندئذ وثب المستر ونكل من فراشه، في عجب شديد، لا يدري ماذا جرى، ولا يعرف ما الخطب، وبادر إلى جوربه، ونعله فلبسهما، وطوى حواشي جلبابه من حوله، وأشعل شمعة من اللهيب المنبعث من الموقدة، وهبط السلم مهرولا.
وقال الحمال القصير: «ها هو ذا واحد ينزل السلم أخيرا يا سيدتي.»
وزمجر الحمال الطويل قائلا: «أتمنى لو أني من خلفه بمثقب.»
وصاح المستر ونكل وهو يفك السلسلة: «من الطارق؟»
وأجاب الحمال الطويل بتأفف شديد، معتقدا أن القادم أحد الخدم: «لا تقف لتلقي أسئلة يا ذا الرأس المصنوع من الحديد الزهر، ولكن افتح الباب.»
وأضاف الآخر قائلا: «هيا، افتح عينيك يا ذا الأجفان المصنوعة من الخشب.»
وكان النوم لا يزال يغالب المستر ونكل، فامتثل للأمر اعتباطا، وفتح الباب قليلا وأطل منه، فكان أول شيء أخذ عينيه لهيب الشعلة وضياؤها الأحمر، فاستولى عليه الخوف فجأة من أن يكون قد شب حريق في البيت، فبادر إلى فتح الباب على مصراعيه، ورفع الشمعة فوق رأسه، وأطلق بصره في لهفة ليرى ما الخطب، وهو غير واثق أن ما رآه هو هودج أو آلة مطافئ! وفي تلك اللحظة هبت الريح هبة عنيفة فانطفأ النور، ووجد المستر ونكل نفسه مضطرا إلى الوقوف في مكانه فوق العتبة لا يملك من الأمر شيئا، واندفع الباب من شدة الريح، فأحدث صوتا قاصفا من خلفه.
وقال الحمال القصير: «عملتها أيها الفتى الصغير، أهكذا عملتها؟»
ولمح المستر ونكل عندئذ وجه سيدة في شرفة الهودج، فأسرع ليستدير إلى الباب، وأخذ يعالج الأكرة بكل قواه، ويصيح بالحمال وهو مروع الخاطر أن يأخذ الهودج ويعود به من حيث أتى.
ومضى يصرخ قائلا: «انصرف به، انصرف به إن هناك إنسانا يخرج اللحظة من بيت آخر، خذني في الهودج، خبئني، افعل شيئا في سبيل إنقاذي.»
وكان يرعش من البرد، وكلما رفع يده ليمسك بالأكرة، هبت الريح على جلبابه فتناولته بشكل مؤلم يستطير اللب منه، فذهب يصيح قائلا: «إن الناس قادمون من ناحية الشارع في هذه اللحظة، ومعهم سيدات، فغطني بشيء، أو قف أمامي لتحجبني!»
ولكن الحمالين كانا من شدة إغراقهما في الضحك لا يقويان على تقديم أقل معونة إليه، بينما كانت السيدات بين لحظة وأخرى مقتربات منه شيئا فشيئا.
وهنا دق المستر ونكل الباب الدقة الأخيرة يائسا، ولم يكن بينه وبين السيدات القادمات غير بضعة أبواب، فألقى بالشمعة بعيدا، وكان قد لبث كل ذلك الوقت ممسكا بها فوق رأسه، واندفع نحو الهودج حيث كانت مسز داولر جالسة، فدخل فيه.
وفي تلك اللحظة كانت مسز كرادوك قد سمعت دق الباب، وجلبة تلك الأصوات، فلم تنتظر إلا ريثما تضع شيئا على رأسها أفضل مظهرا من طاقية نومها ثم جرت إلى قاعة الجلوس التي فوق الباب لتستوثق من أمر الطارق وشخصيته، ففتحت النافذة، في اللحظة ذاتها التي كان المستر ونكل فيها مندفعا نحو الهودج، فما إن لمحت هذا المشهد البادي لعينيها تحت الشرفة، حتى أطلقت صرخة مدوية مزعجة، وهي تتوسل إلى المستر داولر أن ينهض في الحال من نومه؛ لأن زوجته هاربة مع سيد سواه.
فلم يكد المستر داولر يسمع هذا القول حتى قفز من الفراش كالكرة المصنوعة من المطاط، واندفع إلى الغرفة الأمامية، ووصل إلى إحدى نوافذها، في اللحظة عينها التي وصل فيها المستر بكوك إلى نافذة أخرى، فكان أول من وقع بصرهما عليه المستر ونكل وهو يندفع إلى جوف الهودج.
وصرخ المستر داولر في حنق شديد: «أيها الحارس، قفه، أمسك به، شدد القبض عليه، احبسه، حتى أنزل، سأقطع رقبته، أعطوني سكينا، أجزر رقبته من الأذن إلى الأذن، يا مسز كرادوك إني لفاعل»، وانتزع نفسه من يد ربة البيت الصارخة المولولة، وتخلص من يد المستر بكوك، وتناول الزوج الغاضب الهائج سكينا صغيرا من أدوات الموائد واندفع إلى الشارع.
ولكن المستر ونكل لم ينتظره، فلم يكد يسمع ذلك الوعيد الرهيب من صرخات المستر داولر حتى قفز من الهودج بالسرعة ذاتها التي وثب بها إلى جوفه وألقى بنعله في الطريق، وأطلق للريح ساقيه، وعدا في الشارع لا يلوي على شيء، بينما مضى داولر والحارس في أثره، ولكنه ظل متقدما عنهما، وكان قد لف حول الناصية، ثم حاد، فوجد الباب مفتوحا، فدخل البيت مسرعا، وأغلق الباب بعنف في وجه داولر، وصعد إلى غرفة نومه، فأغلق الباب بالقفل، وأقام متاريس خلفه، من حوض الغسيل، وصوان الثياب والمنضدة، كما جمع بضعة أشياء ضرورية؛ استعدادا للفرار من أول خيوط النهار.
وصعد داولر السلم ووقف خارج الباب، يقسم من خلال ثقوبه أنه لقاطع رقبة المستر ونكل في اليوم التالي، وبعد هرج وجلبة وأصوات مختلطة في قاعة الجلوس، كان صوت المستر بكوك مسموعا خلالها وهو يحاول تهدئة الموقف وإعادة السكينة، تفرق القوم منصرفين إلى مخادعهم، وعاد السكون يسود البيت كما كان.
ورب سائل سيقول: «وأين كان المستر ولر كل هذا الوقت؟» وجوابا عن هذا السؤال نقول: إننا سنبين ذلك في الفصل القادم.
جالون
.
أي من طراز البناء عند الإغريق، وقد اشتهرت كورنثا القديمة بهذه الأعمدة.
من الأدباء الإنجليز المعاصرين لشكسبير.
شاربي المياه المعدنية.
الفصل السابع والثلاثون
بيان أمين عن غياب المستر ولر، ووصف حفلة مسائية دعي ولر إليها فلبى الدعوة، وكيف عهد إليه المستر بكوك أيضا بمهمة خاصة دقيقة وخطيرة. ***
وقالت مسز كرادوك في صباح هذا اليوم الحافل بالأحداث: «يا مستر ولر، هنا خطاب لك.»
وقال سام: «شيء غريب جدا، أخشى أن يكون في الأمر شيء؛ لأنني لا أتذكر أن في دائرة معارفي أحدا يقدر على كتابة خطاب.»
وقالت مسز كرادوك: «ربما حدث شيء غير مألوف.»
وأجاب سام وهو يهز رأسه متشككا: «لا بد من أن يكون شيئا غير مألوف فعلا، حمل صديقا من أصدقائي على أن يكتب لي خطابا، ولا يمكن أن يكون أقل من تشنج طبيعي، كما قال الشاب حينما استولت عليه نوبة النوبات.»
ونظر إلى العنوان ومضى يقول: «ولا يمكن أن يكون من المعلم؛
1
لأنه يكتبه بحروف الطباعة عادة كما أعرف؛ فقد تعلم الكتابة من الإعلانات الضخمة التي تعلق بجانب شباك التذاكر ... حقا إنه لشيء عجيب، لا أدري من أين جاء هذا الخطاب؟!»
وراح سام يفعل ما يفعله خلق كثير من الناس حين يشكون فيمن عسى أن يكون الكاتب، وهو أن ينظروا إلى الختم، ثم إلى وجه الخطاب وظهره وجانبيه، وإلى الكلام المكتوب في رأسه، وأخيرا يظنون أن لا بأس أيضا من النظر إلى داخله، محاولين أن يكتشفوا منه شيئا.
وقال سام وهو ينشر الخطاب: «إنه مكتوب على ورق مذهب الحواشي، ومختوم بخاتم برنزي ذي رأس كمفتاح باب، والآن فلنقرأ ما فيه.»
وراح المستر ولر يقرا ببطء، وقد بدا الجد واضحا على وجهه:
تقدم نخبة مختارة من الحجاب في مدينة باث تحياتها إلى المستر ولر وترجو منه أن يتكرم في هذا المساء بحضور حفلة مسائية تقيمها، وسيكون الطعام فيها مؤلفا من فخذ ضأن مسلوقة وحولها لوازمها المعتادة، وستبدأ الحفلة في تمام الساعة التاسعة والنصف بالضبط.
وكان مع الخطاب رقعة أخرى جاء فيها ما يلي:
يرجو المستر جون سموكر الذي حظي بلقاء المستر ولر في دار صديق الطرفين المستر بنتم منذ بضعة أيام أن يتقبل المستر ولر الدعوة المرسلة مع هذا الخطاب. وإذا تكرم المستر ولر بزيارة المستر سموكر في الساعة التاسعة، فسوف يسر المستر سموكر مرافقته إلى الحفلة وتقديمه إلى أصحابه.
التوقيع «جون اسموكر»
وكان العنوان المكتوب على الغلاف باسم «السيد ولر - طرف المستر بكوك» وبين قوسين في الزاوية اليسرى من الغلاف كتبت هاتان الكلمتان «جرس هوائي»؛ «تنبيها لرافع الخطاب.»
وقال سام: «شيء عجيب، ما سمعت به في حياتي: فخذ ضأن مسلوقة تدعى قبل اليوم حفلة مسائية، فما بالك إذا كانت محمرة؟!»
ولكنه لم ينتظر حتى يبحث في هذه النقطة، بل ذهب من توه إلى المستر بكوك فالتمس منه الإذن في الغياب ذلك المساء، ولم يتردد سيده في الإذن له. وأخذ سام الإذن، ومفتاح الباب الخارجي، وانطلق قبل الموعد المضروب بقليل، فأخذ يمشي الهوينا متجها صوب ميدان الملكة، فلم يكد يبلغه حتى سرته رؤية المستر جون اسموكر مسندا رأسه المجمل بالمساحيق إلى عمود المصباح على قيد خطوات منه، وهو يدخن لفافة كبيرة من مبسم خشب مصنوع من الكهرمان.
وابتدره المستر جون اسموكر، رافعا قبعته بلطف بالغ بإحدى يديه، بينما ذهب يلوح بالأخرى متنزلا من عليائه: «كيف أنت يا سيدي؟»
وأجاب سام: «في دور النقاهة، إلى حد معقول، وكيف حالك أنت يا عزيزي؟»
وقال المستر جون اسموكر: «بين بين.»
وقال سام: «آه، لقد كنت مجهدا في العمل هذا ما كنت أخشاه، إن الكد في العمل كما تعلم لا يفيد ولا يغني، لا يصح أن تستسلم لهذه الروح التي لا هوادة فيها، والتي تمكنت منك.»
وأجاب المستر جون اسموكر: «ليس هذا هو السبب، بل الغالب هو الخمر الرديئة، أخشى أن أكون قد أسرفت فيها أخيرا.»
وقال سام: «آه، قل لي هذا، إن هذا مرض سيئ جدا.»
وقال المستر جون اسموكر: «ولكنه الإغراء يا مستر ولر كما تعلم.»
وقال سام: «صحيح، فعلا.»
وتنهد المستر جون اسموكر وقال: «الانغماس في دوامة المجتمع كما تعرف.»
وأجاب سام: «فظيع حقيقة!»
وقال المستر جون اسموكر: «ولكن هذه هي الحياة دائما، فإذا قدر لك الاختلاط بالحياة العامة، والمجتمع، فلا تنتظر طبعا أنك لن تتعرض للمغريات التي نجا منها الآخرون يا مستر ولر.»
وقال سام: «هكذا كان عمي يقول، كلما اختلط بالحياة العامة، وكان الرجل على حق؛ لأنه ظل يشرب حتى مات في أقل من ثلاثة أشهر.»
وبدا الغضب الشديد على المستر جون اسموكر من هذه المقارنة بينه وبين المرحوم، ولكنه حين رأى وجه سام في أتم الهدوء لا تختلج فيه خالجة، سكن غضبه، وعاد يتهلل ويبتسم.
وقال وهو ينظر في ساعة نحاسية تقيم في قاع جيب عميق مخصص لها، وقد رفعها في مكمنها هذا بخيط أسود يتدلى مفتاح نحاسي من طرفه الآخر: «أظن أنه يحسن بنا أن نمشي.»
وأجاب سام: «يحسن، وإلا غيروا «الأمسية» فيفسد الأمر.»
وأنشأ رفيقه يسأله وهما متجهان صوب هاي ستريت: «هل شربت المياه يا مستر ولر؟»
وأجاب سام: «مرة واحدة.» - «وما رأيك فيها يا سيدي؟»
وأجاب سام: «رأيي أنها رديئة جدا.»
وقال المستر جون اسموكر: «آه، لعلك لم يعجبك مذاق «الكليبيت» الذي فيها؟»
وأجاب سام: «لا أعرف كثيرا عن هذا الصنف الذي تقوله، ولكني شعرت بطعم حار جدا كأنه حديد محمي.»
وقال المستر جون اسموكر باحتقار لهذا الجهل البادي من كلام رفيقه: «هذا هو الكليبيت.»
وأجاب سام: «إن كان هذا هو فعلا؛ فإن هذا اللفظ قاصر دون التعبير الصحيح عنه، ولكن جائز؛ فإنني لا أعرف شيئا كثيرا في علم الكيميا، ولهذا لا أستطيع الحكم»، وهنا بدأ سام ولر يصفر بفمه، فريع المستر جون اسموكر وبهت مما رأى.
وقال وهو متأذ أشد الأذى من هذا الصوت الخالي من الرقة واللطف إلى أبعد حد: «لا تؤاخذني يا مستر ولر، إذا أنا طلبت إليك أن تأخذ ذراعي.»
وأجاب سام: «شكرا لك على هذا الكرم، ولكني لا أقبل أن أحرمك منها، إن عادتي أن أضع يدي الاثنتين في جيوبي، إذا كان هذا لا بأس منه عندك.» وراح سام يضعهما فعلا في جيبيه، ويزداد صفيرا بفمه.
وقال صديقه الجديد وكأنما قد بدأ يرتاح لانتهاء الطريق، وهما يعطفان على شارع جانبي: «من هنا، لن نلبث أن نكون هناك.»
وأجاب سام دون أن يتأثر إطلاقا بما سمعه عن قرب الوصول إلى حفلة النخبة المختارة من الحجاب: «أحقا اقتربنا؟»
وقال المستر جون اسموكر: «نعم، لا تنزعج يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «كلا.»
ومضى المستر جون اسموكر يقول: «سترى حللا جميلة يا مستر ولر، وربما تصورت أن بعض السادات يلوحون في أول الأمر متكبرين، ولكنهم سيعودون بعد ذلك فيأنسون إليك.»
وأجاب سام: «هذا عطف كبير منهم.»
وواصل المستر جون اسموكر حديثه بلهجة تنم عن الرعاية السامية: «ولا يخفى أنك غريب عنهم، وربما رأيتهم خشنين قساة عليك في بداية الأمر لهذا السبب.»
وسأل سام قائلا: «وهل ستكون هذه القسوة شديدة أو ماذا؟»
وأجاب المستر جون اسموكر وهو يخرج رأس الثعلب ويتناول قدرا من السعوط كما يفعل السادات المهذبون: «كلا، كلا، نعم بيننا بعض الفكهين ممن يجيدون التنكيت، ولكن كل كلامهم مزاح كما تعلم، فلا يصح أن تهتم بكلامهم، أو تتأثر بمزاحهم.»
وأجاب سام: «سوف أجتهد في احتمال المباراة مع هذه المواهب.»
وقال المستر جون اسموكر وهو يرد رأس الثعلب إلى موضعه، ويرفع رأسه هو: «هذا كلام طيب، وسأقف بجانبك.»
وكانا قد وصلا عندئذ إلى دكان خضري صغير فدخل المستر جون اسموكر الحانوت، وتبعه سام، وما كاد يمشي وراءه، حتى دخل في سلسلة من أعرض الابتسامات، وأصخب القهقهات، وأبدى من الأعراض المماثلة ونحوها ما يوحي بأنه في حالة مرح نفسي يحسد عليه.
واجتازا دكان الخضر ووضعا قبعتيهما على السلم في الدهليز الصغير القائم خلفه، فدخلا قاعة صغيرة، وهنا بدت لعين المستر ولر فجأة روعة المشهد بكل مظاهرها؛ فقد رأى خوانين لصق أحدهما بالآخر في وسط القاعة، وغطيا بثلاثة أغطية أو أربعة مختلفة الأعمار وتواريخ الغسيل، وقد نسقت تنسيقا يجعلها أشبه كثيرا بغطاء واحد بقدر ما تسمح الظروف، ووضعت فوقها سكاكين وشوك لستة أشخاص أو ثمانية، وكانت مقابض بعض السكاكين خضرا، وبعضها الآخر حمرا، وقليل منها صفرا، ولكن الشوك كلها كانت سود المقابض، فكان اختلاط الألوان على هذا النحو ظاهرا أشد الظهور، وكانت الصحاف المطلوبة لهذا العدد ذاته من المدعوين تدفأ خلف الموقدة، في حين جلس هؤلاء أنفسهم يستدفئون أمامها، وبدا كبيرهم، وأخطرهم شأنا، رجلا يميل إلى البدانة في سترة أرجوانية زاهية ذات أذيال طوال وسراويل حمراء قانية، وقبعة مرفوعة الحاشية، وهو واقف مول ظهره إلى الموقدة، والظاهر أنه جاء منذ لحظة قصيرة؛ لأنه كان لا يزال يضع القبعة فوق رأسه، وكان يحمل في يده عصا طويلة كالعصي التي اعتاد أرباب مهنته رفعها في وضع منحدر فوق رفوف المركبات.
وقال السيد ذو القبعة المقلوبة الحاشية: «اسموكر، يا بني، امدد يدك.»
وتقدم المستر اسموكر فشبك خنصر يده اليمنى في الجزء ذاته من يمين الرجل، وقال: إنه مسرور غاية السرور لرؤيته بخير وعافية.
وقال الرجل: «إنهم يقولون لي إنني أبدو في هذه الأيام متفتحا كالزهر، وهذا شيء عجيب؛ لأنني منذ أسبوعين لا أنقطع عن المشي خلف عجوزنا الدردبيس نحو ساعتين في اليوم، وإذا كان مجرد تصور شكلها وهي لا تكف عن النظر إلى ثوبها القديم «اللوندي» اللون من خلفها لا يكفي لأن يجعل الإنسان منقبض النفس حزينا إلى الأبد، فليقطعوا مرتبي الذي أتقاضاه مرة كل ثلاثة شهور.»
وضحك أفراد النخبة المختارة لهذا القول من أعماق صدورهم، وهمس سيد منهم في صدار أصفر في أذن جار له في سترة خضراء قائلا: «يظهر أن صاحبنا طكل منشرح الصدر الليلة.»
وعاد المستر طكل يقول: «وبهذه المناسبة يا ولدي اسموكر، أنت ...» وراح يهمس بباقي الجملة في أذن المستر جون اسموكر.
وقال هذا: «يا سلام ... إي وربي، لقد نسيت أن أقدم إليكم أيها السادة صديقي المستر ولر.»
وقال المستر طكل بإيماءة من رأسه كأنه يعرفه ولا يحتاج معه إلى شيء من الكلفة: «آسف؛ لأني حجبت النار عنك يا ولر، أرجو ألا تكون شاعرا ببرد.»
وأجاب سام: «كلا يا سيد «بليزيس»
2
إن كل شخص يشعر بالبرد، وأنت واقف أمامه لا بد من أن يكون في أشد درجات «القشعريرة»؛ لأنهم لو وضعوك خلف مدفأة في قاعة انتظار بمحل عمومي لوفرت عليهم قدرا كبيرا من الخشب والفحم!»
وكان هذا الرد يبدو إشارة خاصة إلى الحلة الحمراء التي يرتديها المستر طكل، ولهذا وقف بضع ثوان متعاظما، ثم أخذ يبتعد عن النار شيئا فشيئا، وبابتسامة متكلفة انثنى يقول إنها نكتة ليست رديئة.
وأجاب سام: «أشكر لك كل الشكر حسن تقديرك يا سيدي، وسنتقدم بالتدريج، وسأجتهد في أن أقول أحسن منها بعد هذا.»
وهنا انقطع سياق الحديث بوصول سيد في حلة برتقالية اللون، يصحبه آخر من الجماعة المختارة في ثوب أرجواني، وجورب مفرط في الطول، ولم يكد الحاضرون يرحبون بالقادمين الجدد، حتى سأل المستر طكل الجماعة هل يأمر بإحضار العشاء، فوافق الأعضاء بإجماع الآراء.
وجاء عندئذ الخضري وامرأته فوضعا على المائدة فخذا مسلوقة من الضأن، ساخنة، بالمرق، واللفت والبطاطس.
واتخذ المستر طكل مجلس الرياسة، بينما جلس في الطرف الآخر السيد ذو الحلة البرتقالية اللون، وانثنى الخضري يلبس قفازا من الجلد القابل للغسيل لكي يقدم الصحاف به، ووقف خلف مقعد المستر طكل.
وقال المستر طكل بلهجة الأمر: «هاريس!»
وأجاب الخضري: «نعم، يا سيدي.» - «هل لبست قفازك؟» - «نعم، يا سيدي.» - «ارفع الغطاء إذن.»
فصدح الخضري بما أمر، في ذلة ظاهرة، وراح يقدم إلى المستر طكل بخشوع سكين التقطيع، ولكنه تثاءب عرضا وفغر فاه.
وقال المستر طكل بحدة شديدة: «ماذا تقصد يا سيدي؟»
وأجاب الخضري مطأطئ الرأس: «معذرة يا سيدي لم أقصد ذلك يا سيدي، ولكني كنت سهران إلى ساعة متأخرة في الليلة الماضية يا سيدي.»
وقال المستر طكل بلهجة قوية: «أتريد أن أقول لك عن رأيي فيك يا هاريس؟ أنت بهيم سوقي جدا.»
وقال هاريس: «أرجو أيها السادة ألا تكونوا قساة علي صارمين يا سادة، إنني شاكر لكم كل الشكر هذه الرعاية التي تخصونني بها، وتوصياتكم خيرا بي كلما طلب أحد خدمة إضافية، وأرجو أيها السادة أن يكون عملي موضع ارتياح لديكم.»
وقال المستر طكل: «كلا يا سيدي، إنك أبعد من ذلك كثيرا.»
وقال في أثره السيد ذو الحلة البرتقالية: «إننا نعدك شخصا دنيئا مهملا لا يقظة لديه.»
وأردف ذو الحلة الخضراء: «ولصا سافلا.»
وتبعه ذو الحلة الأرجوانية قائلا: «ومخلوقا لا صلاح له.»
وجعل الخضري المسكين ينحني بكل ذلة وانكسار عقب كل نعت من هذه النعوت الجميلة التي تخلع عليه بروح الطغيان في أصغر أشكاله ومظاهره.
وبعد أن انتهى كل واحد من قول شيء يظهر به سمو مكانه، ورفعة شأنه، شرع المستر طكل في تقطيع الفخذ وتوزيع أجزائها على الآكلين.
ولم يكد هذا العمل الخطير في ذلك المساء يبدأ، حتى فتح الباب بسرعة، وبدا سيد آخر في حلة زرقاء زاهية الزرقة وأزرار رصاصية.
وابتدره المستر طكل بقوله: «هذه مخالفة للقواعد، لقد جئت متأخرا ... متأخرا فوق ما يجب.»
وقال السيد ذو الحلة الزرقاء: «كلا، كلا، لم يكن في تأخيري والله حيلة، إنني أرفع الأمر إلى الجماعة، لقد عاقتني مسألة غرام، موعد في دار التمثيل!»
وقال السيد المرتدي حلة برتقالية: «آه! أهذا هو السبب حقا؟»
وأجاب السيد ذو الثوب الأزرق: «إي والله، شرفا هذا ما حصل؛ فقد كنت قد وعدت أن أحضر السيدة الصغيرة لدينا في الساعة العاشرة والنصف، وهي بنت لطيفة جدا، فلم يطاوعني قلبي على إخلاف موعدي لها، ولا تؤاخذوني يا سادة، ولا إساءة، ولكن طلب الغانيات يا سيدي لا يمكن رفضه!»
وقال طكل، حين أخذ القادم الجديد مجلسه بجوار سام: «لقد بدأت أشك في أن هناك شيئا من هذا القبيل؛ فقد لاحظت مرة أو مرتين أنها تميل كثيرا على كتفك وهي تدخل المركبة أو تنزل منها.»
وقال ذو الحلة الزرقاء: «في الحقيقة لا يصح أن تشك يا طكل، هذا ظلم، وأمر لا يليق، ولعلي قلت لصديق أو صديقين: إنها مخلوقة نقية طاهرة جدا، رفضت خطبة أو خطبتين بغير سبب ظاهر، ولكن لا، لا يا طكل لا يصح لك أن تقول هذا، وأمام الغرباء أيضا! هذا لا يليق، الذوق يا صديقي العزيز، الذوق، هذه مسائل دقيقة»، ومضى الرجل ينظم قميصه وطوق سترته، ويومئ ويعبس كأن لديه كلاما آخر يمكنه أن يقوله إذا شاء ولكن الشرف يلزمه السكوت.
وكان ذلك الرجل ذو الحلة الزرقاء الخفيف الشعر، القوي الرقبة، الحر السهل اللين العريكة، الذي تبدو عليه أمارات الخيلاء والصراحة قد اجتذب من بداية الأمر نظر المستر ولر واهتمامه الخاص، ولكنه حين ظهر على هذه الصورة، ازداد سام شعورا بوجوب توثيق الصلات به، فدخل في الحديث للتو واللحظة، بكل روح الاستقلال المستأصلة فيه.
وقال سام: «في صحتك يا سيدي، إنني أحب كلامك كثيرا، وأعتقد أنه كلام جميل كل الجمال.»
وابتسم الرجل كأنها تحية ألف كثيرا سماعها، وإن راح ينظر إلى سام موافقا مستريحا، وقال: إنه يرجو أن يزداد به معرفة؛ لأنه بلا ملق ولا رياء مطلقا تبدو عليه مخايل الرجل اللطيف، والإنسان الذي صادف هوى في نفسه.
وقال سام: «أنت كريم جدا يا سيدي، وما أحسن حظك وأسعد نجمك!»
وقال الرجل ذو الحلة الزرقاء: «ماذا تقصد؟!»
وأجاب سام: «هذه السيدة الصغيرة التي تتكلم عنها، إنها تعرف كل ما في الأمر، آه، أنى أعرف ذلك.» ومضى المستر ولر يغمض إحدى عينيه ويهز رأسه من ناحية إلى أخرى، بشكل يرضي غرور الرجل ذي الحلة الزرقاء وخيلاءه كل الإرضاء.
وقال الرجل: «أخشى أن تكون إنسانا ماكرا يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «كلا، كلا، أنا تارك كل المسألة لك؛ لأنها توائمك أنت أكثر مما توائمني، كما قال الرجل الواقف خلف جدار البستان للآخر الواقف أمامه حين رأى الثور الهائج قادما يعدو في الزقاق.»
وقال السيد ذو الحلة الزرقاء: «جميل، جميل، يا مستر ولر، أعتقد أنها لاحظت أحوالي وتصرفاتي يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «وأعتقد أنا أن ذلك لا يمكن أن يخفى عليها.»
وقال الرجل ذو الحلة الزرقاء المحظوظ لدى سيدته الصغيرة، وهو يخرج خلة أسنان من جيب صداره: «هل لك شيء صغير من هذا القبيل في متناول يدك يا سيدي؟»
وقال سام: «ليس الأمر كذلك تماما، فليس في المكان الذي أخدم فيه بنات، وإلا لكنت بالطبع عملت على كسب محبة واحدة منهن، ولكني لا أعتقد أنني يمكن أن أرضى بأقل من مركيزة، وقد لا أجد بأسا من قبول امرأة شابة غنية صاحبة ملك، ولكن ليست بذات لقب، إذا هي أحبتني حبا عنيفا، ولكني لن أقبل ما هو دون ذلك.»
وقال السيد الأزرق الثوب: «طبعا لا يا مستر ولر؛ لأن الإنسان لا يريد المتاعب، كما تعرف، وكما نحن عارفون يا مستر ولر، فنحن الذين درنا في هذه الدنيا وعرفناها، إن الذي يلبس حلة جميلة يجب أن يشق طريقه إلى قلوب النساء عاجلا أو آجلا، والواقع أن هذا هو الشيء الوحيد - وأنا أقول لك هذا بيني وبينك - الذي يجعل الخدمة في البيوت مقبولة.»
وقال سام: «هو كذلك، طبعا.»
وعندما بلغ هذا الحوار الخاص هذا الحد، صفت الأقداح حول المائدة، وراح كل سيد يأمر بالشراب الذي يفضله على سواه، قبل أن تغلق الحانة أبوابها، فأما السيد صاحب الحلة الزرقاء، والآخر ذو الحلة البرتقالية، وهما الزعيمان البارزان في الحفل؛ فقد طلبا «روما» باردا بالماء، ولكن الآخرين طلبوا «جنا» وماء خليطا بالسكر، وهو فيما يبدو الشراب الأثير لديهم، ونادى سام الخضري قائلا له: إنه مجرم موغل في الإجرام وطلب قدحا كبيرا من «البنتش»، وهما أمران رفعا شأنه كثيرا في نظر النخبة المختارة.
وقال السيد ذو الحلة الزرقاء بلهجة متناهية في الأناقة: «هيا، لنشرب نخب السيدات.»
وقال سام: «مرحى، مرحى، بل قل: في صحة الآنسات الصغيرات.»
وهنا ارتفع صوت ينادي: «النظام.» وانثنى المستر جون اسموكر وهو السيد الذي قدم المستر ولر إلى الهيئة وعرفها به، يرجو منه أن يفهم أن الكلمة التي فاه بها منذ لحظة ليست كلمة «برلمانية» يليق أن تقال في هذا المجلس!
وسأله سام قائلا: «أي كلمة هذه يا سيدي؟»
وأجاب المستر جون اسموكر بعبسة مزعجة: «كلمة آنسات يا سيدي، إننا هنا لا نعترف بهذه الألقاب وأمثالها.»
وقال سام: «جميل جدا، سأصحح التعبير إذن وأدعوهن المخلوقات العزيزات إذا سمح لي بليزيس بهذا الوصف.»
وبدا كأن بعض الشك قد جال في خاطر السيد ذي الحلة الخضراء في هل يصح قانونا أن يخاطب الرئيس بهذا الاسم «بليزيس» أو لا يصح؟ ولكنه تبين أن القوم أميل إلى التمسك بحقوقهم منه، فلم يثر هذه المسألة في الاجتماع، وأما الرجل ذو القبعة المقلوبة الحاشية؛ فقد لهث وحدج سام بنظرة طويلة ولكن الظاهر أنه رأى أنه يحسن ألا يقول شيئا حتى لا يسمع ما هو شر منه.
وبعد سكون قصير انبرى سيد يرتدي سترة مزركشة تصل إلى كعبيه، وصدارا من النوع ذاته جعل نصف ساقيه دافئتين، وهو يحرك الجن والماء في كأسه بحركة قوية، فنهض فجأة مستويا على قدميه، بجهد شديد، فقال: إنه يريد أن يلقي بضع كلمات أمام الجمع، وأجاب الرجل ذو القبعة المقلوبة الحاشية بقوله: إنه لا يخامره شك في أن الجمع يسعده أن يسمع أية كلمات يود السيد ذو السترة الطويلة أن يلقيها أمامهم.
وقال السيد الطويل الرداء: «أيها السادة، إني لأشعر بحرج شديد حين أتقدم إليكم بالكلام، وأنا الذي كتب عليه سوء الحظ أن يكون حوذيا، والذي تفضلتم فقبلتموه عضوا فخريا في حفلاتكم المسائية اللطيفة، ولكني أيها السادة أشعر بأنني مضطر، أو إذا سمحتم لي قلت: إنني محشور في ركن ضيق، إلى إبلاغكم عن ظرف سيئ وصلت أخباره إلى علمي، ووقع في «دائرة» مشاهداتي وأفكاري اليومية، أيها السادة، إن صديقنا المستر وفرز - وهنا نظر كل فرد منهم إلى السيد ذي الحلة البرتقالية - قد استقال من وظيفته.»
ووقع هذا النبأ على السامعين موقع الدهشة العامة، حتى انثنى كل منهم ينظر إلى وجه جاره ثم يتحول بعينه إلى الحوذي الخطيب.
واسترسل الحوذي فقال: «وقد تدهشون كثيرا أيها السادة، ولست أريد أن أبين أسباب هذه الخسارة التي لا تعوض للمهنة، ولكن أرجو المستر وفرز أن يبدي هذه الأسباب بنفسه؛ لموافقة أصحابه المعجبين واتخاذه أسوة حسنة.»
وقوبل هذا الاقتراح بموافقة مدوية، وانبرى المستر وفرز يشرح تلك الأسباب؛ فقال إنه كان بلا ريب يود أن يبقى في تلك الوظيفة التي استقال أخيرا منها؛ فإن الحلة طيبة، والخدمة حسنة المرتب، وسيدات الأسرة لطاف كل اللطف، ولا يسعه إلا أن يقول إن واجبات الوظيفة لم تكن شديدة الوطأة؛ فإن كل ما كان مطلوبا منه هو أن يطل من شرفة البهو أكثر مما يمكن، مشتركا في ذلك مع سيد آخر، قدم استقالته أيضا، وكان يود لو أغنى عن الجمع ألم سماع التفاصيل المؤلمة والدقائق الثقيلة على النفس التي يوشك أن يدخل فيها، ولكن ما دام قد طلب إليه شرحها، فلا حيلة له غير أن يعلن بجرأة ووضوح أنه استقال؛ لأنهم طلبوا إليه أن يأكل لحما باردا.
ولا يستطيع أحد أن يتصور مبلغ الاشمئزاز الذي أثاره هذا التصريح في صدور السامعين؛ فقد ارتفعت الأصوات صائحة: «يا للعار!» ممتزجة بأصوات استنكار واستهجان، ولبث هذا الصخب ربع ساعة قبل أن يسود السكون الاجتماع.
وهنا أضاف المستر وفرز يقول: إنه يخشى أن يقال: إن بعض الغضب الذي استولى عليه يرجع إلى نفوره الخاص، ونزوعه الشخصي، ولكنه يتذكر جيدا أنه رضي في ذات مرة أن يأكل زبدا مختلطا بالملح، وأنه أيضا في مرة أخرى أصاب فيها أحد أفراد الأسرة مرض فجائي، تغاضى عن كرامته، فحمل وعاء الفحم إلى الطابق الثاني من البيت، وأنه على ثقة بأنه بهذا الاعتراف الصريح بأغلاطه لا يصغر من قدره عند أصدقائه، ولا يحط من كرامته في أعينهم، وأنه يرجو أن تكون السرعة التي أبى بها قبول العدوان الصارخ أخيرا على كرامته، وهو الحادث الذي سبقت الإشارة إليه، حافزا إلى رد اعتباره، وعودته إلى مكانه، من حسن ظنهم، أن كان يوما قد ظفر بحسن الظن منهم.
واستقبل هذا الخطاب الذي ألقاه المستر وفرز بصيحات الإعجاب، وشرب القوم نخب هذا «الشهيد» الكريم بأشد الحماسة، ورد الشهيد عليها بالشكر وشرب نخب ضيفهم المستر ولر، وهو السيد الذي لم يتشرف بمعرفته الوثيقة، ولكن حسبه أنه صديق المستر جون اسموكر؛ فإن ذلك يكفي لتزكيته عند أي مجتمع من السادات كائنا من كان، في كل مكان، وأنه كان يود لهذا السبب أن يطلب الشرب في صحة المستر ولر بكل سرور وتكريمه لو أن أصدقاءه يشربون النبيذ، ولكن بما أنهم يتناولون الأشربة الكحولية، على سبيل التنويع، وقد يضطر الأمر إلى إفراغ الكأس في كل نخب - فهو يقترح أن يكون هذا التكريم مضمرا غير ظاهر.
وما إن انتهى الخطيب من خطبته هذه حتى تناول كل سيد منهم رشفة من الكأس في صحة سام، فلم يكن منه إلا أن تهور فشرب كأسين مليئتين من «البنتش»؛ تكريما لنفسه، وانبرى يرد على ذلك التكريم بخطاب طريف.
قال - وهو يغترف من البنتش بلا أدنى ارتباك أو أقل تردد: «إنني شاكر لكم كثيرا أيها الإخوان، هذه التحية التي غمرتني من جانبكم، وهي تحية يزيد من قدرها زيادة أنوء بها لأنها جاءت من هيئتكم الموقرة؛ فقد سمعت الكثير عنكم في مجموعكم، ولكني أقول: إنني لم أكن أتصور أنكم ظرفاء إلى هذا الحد غير المألوف الذي لمسته هنا منكم، وكل رجائي أن تحرصوا على أنفسكم، ولا تنزلوا عن شيء من كرامتكم، وهو مشهد فاتن بديع يبدو لعين الإنسان كلما خرج للمشي والرياضة، وكم سعدت به مذ كنت صبيا يقرب طولي يومئذ من نصف العصا ذات المقبض النحاسي التي يحملها صديقي المحترم بليزيس الحاضر هنا، أما شهيد الظلم الذي يلبس الحلة الصفراء في لون الكبريت، فكل ما في وسعي أن أقوله عنه هو أنني أرجو أن يجد الوظيفة الطيبة التي يستحقها، وعندئذ لن يضايقه أكل اللحم البارد مرة أخرى.»
وجلس سام وهو يبتسم مسرورا، وقوبلت خطبته بهتاف مدو، وانفض الاجتماع.
وقال سام ولر لصديقه المستر جون اسموكر: «ما هذا؟ هل تقصد أن تقول: إنك ذاهب يا أخي؟»
وأجاب المستر اسموكر: «أنا مضطر فعلا، لقد وعدت بنتم.»
وقال سام: «آه! جميل جدا، هذا شيء آخر، وربما يستقيل هو الآخر إذا أنت أخلفت وعدك، وأنت أيضا منصرف يا بليزيس؟»
وقال ذو القبعة المقلوبة الحاشية: «نعم، منصرف.»
وعاد سام يقول: «كيف هذا؟! أتنصرف وتترك ثلاثة أرباع زجاجة البنتش خلفك؟! كلام هراء، عد إلى الجلوس.» ولم يكن المستر طكل ليستطيع الامتناع عن إجابة هذه الدعوة، فوضع القبعة والعصا جانبا بعد أن كان قد تناولهما، وقال: إنه سيشرب كأسا واحدة من أجل الزمالة الطيبة.
وكان طريق السيد ذي الحلة الزرقاء إلى البيت هو عين الطريق الذي سيسلكه المستر طكل، فألح عليه في البقاء فرضي بالجلوس، وقبل أن يفرغ نصف البنتش أو يكاد، طلب سام بعض الأصداف البحرية من حانوت الخضري، وكان تأثير الشراب والمحار مفرحا للغاية، جعل المستر طكل ذا القبعة المقلوبة والعصا، يرقص الصدفات فوق المائدة رقصة الضفدعة، بينما انثنى السيد ذو الحلة الزرقاء يتبع حركات الرقص على آلة موسيقية ابتدعها، باستخدام مشط شعر وورق يستعمل لتجعيده، وفي النهاية، حين فرغ «البنتش» كله وكاد الليل ينتهي كذلك، انطلقوا جميعا ليترافقوا حتى بيوتهم، وما كاد المستر طكل يخرج في الهواء الطلق حتى استولت عليه رغبة فجائية في النوم على الإفريز، ورأى سام أنه لا يليق به أن يعارضه في تلك الرغبة فتركه يفعل ما يشاء، وإذ كانت القبعة ستتلف إذا تركها فوق الأرض؛ فقد رأى سام مراعاة لها أن يجعلها «مسطوحة» على رأس السيد ذي الحلة الزرقاء، ووضع العصا الكبيرة في يده، وظل يدفعه حتى أوصله إلى باب بيته، ودق له الجرس بنفسه، ثم انصرف في رفق إلى بيته.
وهبط المستر بكوك مدارج السلم وهو مشتمل بثيابه، في صباح اليوم التالي، مبكرا كثيرا على غير عادته، ودق الجرس.
ومضى ينادي: «سام!» وحين ظهر المستر ولر استجابة لهذا النداء، أهاب به قائلا: «أغلق الباب.»
وفعل سام كما أمر.
وأنشأ المستر بكوك يقول: «لقد وقع في الليلة الماضية يا سام حادث يؤسف له جعل المستر ونكل يتوقع عنفا من المستر داولر.»
وأجاب سام: «هكذا سمعت من السيدة العجوز التي في الطابق الأسفل يا سيدي.»
ومضى المستر بكوك يقول وعلائم الارتباك الشديد بادية على وجهه: «ويحزنني يا سام أن أقول: إن المستر ونكل خشي هذا العنف فخرج ولم يعد.»
قال سام: «خرج ولم يعد!»
وأجاب المستر بكوك: «نعم، غادر البيت في بكرة الصبح، دون أن يتصل بي مطلقا قبل خروجه، ولست أدري أين ذهب؟»
وأجاب سام باحتقار: «لقد كان أولى به أن يبقى ويناضل يا سيدي؛ لأن التغلب على هذا المدعو داولر لا يتطلب جهدا كبيرا.»
وقال المستر بكوك: «اسمع يا سام، قد أكون أنا كذلك في شك من شجاعته الكبيرة وقوة عزيمته، ولكن مهما يكن من الأمر؛ فقد ذهب المستر ونكل ولم يعد، ولا بد من العثور عليه يا سام ورده إلي.»
وقال سام: «وافرض أنه لم يشأ أن يعود يا سيدي؟!»
وقال المستر بكوك : «فليرغم على العودة إرغاما.»
وسأل سام وهو يبتسم: «ومن الذي يرغمه يا سيدي؟!»
وأجاب المستر بكوك: «أنت.»
وقال سام: «حسن جدا يا سيدي.»
وعلى أثر هذه الكلمات غادر المستر ولر الغرفة وسمعت عقب ذلك مباشرة حركته وهو يغلق الباب الخارجي في أثره، ولم تنقض ساعتان حتى عاد هادئا كل الهدوء كأنه قد أرسل لتأدية مهمة عادية للغاية، وأبلغ المستر بكوك أن شخصا تطابق أوصافه من كل وجه أوصاف المستر ونكل قد ذهب إلى برستل صباح اليوم مستقلا المركبة العامة التي تقوم عادة من فندق رويال.
وتناول المستر بكوك يد خادمه وقال: «إنك يا سام لانسان بديع لا تقدر بثمن، فلتقتف أثره إذن.»
وأجاب المستر ولر: «بلا ريب يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «واكتب إلي في الحال عندما تهتدي إليه، فإذا حاول الهرب منك، فاصرعه أو احبسه، فإني مخولك كل السلطة.»
وأجاب سام: «سأعنى كل العناية يا سيدي.»
ومضى المستر بكوك يقول: «وأبلغه أنني في أشد الثورة، والاستياء، والغضب، من هذا المسلك الشاذ الذي رأى أن يسلكه.»
وأجاب سام: «سأفعل يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «وقل له: إنه إذا لم يعد إلى هذا البيت معك، فسيعود معي أنا؛ لأنني سأذهب بنفسي فأعيده إليه.»
وأجاب سام: «سأذكر ذلك له يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يتفرس بجد في وجهه: «هل تظن أنك واجده يا سام؟»
وأجاب سام في ثقة بالغة: «سأجده مهما يكن موضعه!»
وقال المستر بكوك: «حسن جدا، وكلما أسرعت كان ذلك خيرا وأجدى.»
وبهذه التعليمات راح المستر بكوك يضع قدرا من المال في يدي خادمه الأمين، وأمره أن يسافر إلى برستل في الحال لمطاردة الهارب.
ووضع سام بعض الحاجيات في حقيبة مصنوعة من قطعة بساط وتهيأ للذهاب، ولكنه وقف عند نهاية الدهليز ثم عاد أدراجه في رفق وأطل برأسه من الباب، وهمس قائلا: «سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «ماذا يا سام؟»
قال: «إنني فاهم التعليمات تماما، أليس كذلك يا سيدي؟»
وقال المستر بكوك: «أرجو ذلك.»
وعاد سام ليسأل: «لقد تفاهمنا على مسألة ضربه وصرعه، أليس كذلك يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «تماما، كل التفاهم، افعل ما تراه ضروريا، وهذه أوامري.»
وأطرق سام إطراقة اليقين، وسحب رأسه من فتحة الباب، وانطلق في سبيل تنفيذ مهمته بقلب مفعم سرورا وابتهاجا.
يعني والده.
سماه سام «بليزيس» أي الوهج واللهب؛ لثيابه الحمراء، وبنى على هذه التسمية كل تلك الدعابة الجميلة.
الفصل الثامن والثلاثون
كيف أراد المستر ونكل أن يستجير من الرمضاء، فوقع برفق وراحة في النار ... ***
وبعد أن قضى ذلك السيد السيئ الحظ الذي كان سببا في تلك الجلبة غير المألوفة التي أزعجت سكان شارع «الهلال الملكي»، على ذلك النحو الذي وصفناه، ليلة نكدة مليئة بالاضطراب والقلق، غادر البيت الذي كان أصحابه لا يزالون نياما تحت سقفه، وانطلق على غير هدى، لا يدري إلى أين؟ ولن يتيسر مطلقا تقدير المشاعر الكريمة التي دفعت المستر ونكل إلى اتخاذ هذه الخطوة حق تقديرها، ولا الإشادة بها أصدق الإشادة؛ فقد فكر في نجواه قائلا: «إذا حاول هذا الرجل الذي يدعى داولر - ولست أشك في أنه سيحاول - تنفيذ وعيده، وهو العدوان على شخصي، فسأجدني مضطرا إلى مناجزته، ولكن لهذا الرجل زوجة، وهذه الزوجة متعلقة به، ومعتمدة في الحياة عليه، ومعتمدة في الحياة عليه، يا إلهي! ماذا تكون النتيجة، إذا أنا قتلته في جنة غضبي وسورة حنقي؟ بل لعمري ماذا سيكون شعوري بعد ذلك؟» وكان لهذا التفكير الأليم أثر بالغ في مشاعر هذا الشاب الرحيم، حتى لقد ارتعدت فرائصه، وبدت على وجهه أمارات مزعجة تدل على مدى تأثره، ودفع به هذا التفكير إلى تناول حقيبته المصنوعة من قطعة بساط، وانطلق مسترق الخطى يهبط مدارج السلم، وخرج إلى الطريق وأغلق ذلك الباب اللعين بكل رفق ممكن، وسار متجها صوب فندق رويال فوجد مركبة على أهبة المسير إلى برستل، واعتقد أن برستل تصلح كأي موضع سواها يمكن أن يلجأ إليه، فصعد إلى المركبة، ووصل إلى وجهته في الوقت الذي استطاع فيه الحصانان فعلا الوصول فيه إليها، وكانا يقطعان الرحلة ذهوبا وجيئة مرتين في اليوم أو أكثر.
واستأجر مكانا له في فندق بش «الدغل»، ورأى أن يرجئ الكتابة إلى المستر بكوك ريثما يكون غضب المستر داولر قد خف شيئا ما، وسكنت ثائرته قليلا في أغلب الظن، وخرج يمشي في مناكب المدينة، لمشاهدة بعض أرجائها، فبدا له أنها أقذر هونا ما من أي موضع زاره من قبل، وبعد أن تفقد الأحواض فيها والميناء وحركة السفن، وشاهد كنيستها الكبرى، سأل عن الطريق إلى كلفتن، فلما عرفه، ولى وجهه شطره، ولم تكن شوارع برستل أنظف الشوارع على وجه الأرض، ولا أكثرها عرضا، فلا غرو إذا هي لم تكن أوفرها استقامة، أو أقلها انعراجا وتفرعا وتشابكا، فلم يلبث المستر ونكل أن أحس ارتباكا شديدا إزاء كثرة منعطفاتها، وتعدد منعرجاتها، واختلاف دروبها وأزقتها المتناوحة، فوقف يدير عينه فيما حوله لعله واجد حانوتا نظيفا يصح أن يلتمس لديه النصيحة ويتعرف منه مشرع الطريق.
واستقرت عينه على مبنى حديث الطلاء يبدو كأنه قد تحول منذ عهد قريب إلى شيء بين حانوت ومسكن خاص، ورأى مصباحا أحمر بارزا فوق كوة الباب الخارجي، فكان ذلك إعلانا كافيا أن المكان مقر رجل مشتغل بالطب، وإن لم تكن كلمة «طبيب وجراح» منقوشة بأحرف مذهبة على لافتة فوق نافذة لما كان في سالف الدهر يدعى قبل تحويل ذلك المبنى غرفة استقبال أمامية، واعتقد المستر ونكل أن هذا المكان صالح لكي يسترشد به، ويظفر منه بالمعلومات التي يطلبها، فدخل الحانوت الصغير حيث تقوم الأدراج، وتصطف الزجاجات والقوارير التي لصقت بها البطاقات الدالة على أسمائها ومركباتها، ولكنه لم يجد أحدا فيه، فانثنى يمسك بقطعة من أنصاف الكراون ويدق بها المنصة، حتى يجتذب نظر أحد قد يكون في الغرفة الخلفية؛ إذ اعتقد أنها حرم المكان وعقره ومحرابه، حين رأى كلمة «عيادة» مكتوبة على الباب، بأحرف بيض في هذه المرة، على سبيل التنويع؛ مخافة التكرار والإملال.
وعلى أول دقة، انقطع فجأة صوت كان يبدو إلى تلك اللحظة مسموعا، وكأنه صوت شخصين في مباراة يتناجزان بحدائد الموقدة، وعلى الطرقة الثانية ، خرج إلى الحانوت فتى تلوح عليه سمات الدأب، وقد وضع منظارا أخضر اللون على عينيه، وتسلل برفق وراء المنصة وسأل الزائر ما حاجته.
وأنشأ المستر ونكل يقول: «آسف لإزعاجك يا سيدي، ولكن هلا تكرمت بارشادي إلى ...»
ولم يستكمل القول؛ فقد انثنى ذلك الفتى يقهقه قهقهة مدوية، ويقذف بالكتاب الكبير في الفضاء ثم يتلقاه ببراعة وهو هابط منه يوشك أن يحطم جميع الزجاجات المصفوفة على النضد فلا يذر منها شيئا، وصاح يقول: «يا لها من مفاجأة!»
وفي الحق لقد كانت كذلك؛ لأن المستر ونكل شعر بدهشة بالغة من هذا التصرف الغريب الذي بدا من ذلك السيد الطبيب، حتى لقد تراجع مرغما إلى الباب وهو في انزعاج شديد من هذا الاستقبال العجيب الذي استقبل به.
وقال الفتى الطبيب: «يا عجبا! ألا تعرفني؟»
وأجاب المستر ونكل مغمغما أنه لم يتشرف بهذه المعرفة من قبل.
وقال الفتى: «إذن لا تزال أمامي آمال طيبة في المستقبل، ولو ساعدني الحظ فمن يدري؟! لعلي معالج نصف عجائز هذه المدينة، اخرج من هنا ... اخرج أيها الشقي العفن الأثيم!» وكان هذا السباب موجها إلى الكتاب الكبير، وإذا الفتى يتبعه بركلة بخفة ظاهرة، حتى طرحه في الطرف الآخر من الحانوت وانثنى ينزع من عينيه منظاره الأخضر، ويضحك تلك الضحكة المعهودة من صاحبنا ربرت سوير طالب الطب السابق في مستشفى جاي بالضاحية والمقيم بمسكنه الخاص في شارع لانت.
وقال المستر بب سوير، وهو يهز يد المستر ونكل بحرارة ومودة صادقة: «هل تريد أن تقول إنك لم تأت إلي قصدا، وتهبط علي وأنت عالم أني هنا؟»
وضغط المستر ونكل يد بب سوير وهو يقول: «أقسم لك أنني لم أكن أعرف.»
وقال بب سوير وهو يلفت نظر صديقه إلى الباب الخارجي الذي كتبت عليه بالطلاء الأبيض ذاته هذه العبارة «بب سوير - نكمورف سابقا»: «أعجب لك كيف لم تر الاسم؟!»
وأجاب المستر ونكل: «لم يسترع نظري إطلاقا.»
وقال بب سوير: «والله لو كنت أعرف أنك أنت الذي كنت تدق لبادرت إلى الخروج وأسرعت إلى أخذك بين ذراعي، ولكن أقسم لك بحياتي أنني ظننتك محصل الضرائب.»
وقال المستر ونكل: «ما هذا الكلام؟»
وأجاب بب سوير: «فعلا، وكنت أهم بأن أقول: إنني لست هنا، ولكن إذا تركت لي رسالة فتأكد أنها ستصل إلي؛ لأن الرجل لا يعرفني، كما لا يعرفني محصل النور، ولا محصل البلدية، وأظن أن محصل الكنيسة هو الذي يظن أنه يعرفني أو يشبه علي، وأعرف أن محصل المياه يعرفني؛ لأنني خلعت له ضرسا عقب قدومي إلى هنا، ولكن تعال، ادخل!»
وانثنى بب سوير بهذه الثرثرة يدفع المستر ونكل إلى الحجرة الخلفية؛ حيث لمح شخصا يلهو بثقب نقرات صغيرة مستديرة في المدخنة بمحراك محمى في النار وإذا ذلك الشخص هو المستر بنجمن ألن.
وصاح المستر ونكل: «جميل، هذه فرصة لم أكن أتوقعها، ما ألطف هذا الموضع الذي تحتله هنا!»
وأجاب بب سوير: «لطيف جدا، لطيف جدا؛ فقد اجتزت الامتحان عقب تلك الحفلة الشيقة بوقت قصير، وأعانني الأصدقاء على كل ما اقتضته هذه المهنة من مستلزمات، فارتديت حلة سوداء واقتنيت منظارا أخضر، وجئت إلى هنا لأتراءى جدا ما أمكن.»
وقال المستر ونكل بلهجة العريف الخبير: «وهي مهنة هينة لطيفة بلا شك.»
وأجاب بب سوير: «جدا، حتى ليبلغ من هونها أن تستطيع بعد بضع سنين أن تضع كل أرباحها في كأس نبيذ وتغطيها بورقة من أوراق التوت.»
وقال المستر ونكل: «لا يمكن أن تكون جادا فيما تقول، والبضاعة ذاتها ...»
وعاجله بب سوير قائلا: «صورية، يا غلامي العزيز؛ فإن نصف الأدراج خاو، والنصف الآخر لا ينفتح.»
وقال المستر ونكل: «هذا الكلام لا يعقل.»
وأجاب بب سوير: «حقيقي، بالشرف.» وتقدم خطوة في الحانوت، وأراد أن يبين لصاحبه صدق قوله، فوقف يشد الأكر الصغيرة المذهبة التي في الأدراج المزيفة عدة شدات قوية فلا ينفتح، وانثنى يقول: «لا يكاد شيء في الحانوت يبدو حقيقيا غير الدود العلق ولكنه أيضا قديم مستعمل.»
وصاح المستر ونكل وهو في دهشة بالغة: «ما كنت أتصور شيئا كهذا! من كان يظن؟!»
وأجاب بب سوير: «أرجو ألا يظن أحد، وإلا فما جدوى المظاهر إذن؟ ولكن قل لي: ماذا تشرب؟ هل تشرب مما نشرب؟ حسن يا عزيزي بن أدخل يدك في الصوان وأخرج لنا المشروب الهضام.»
وابتسم المستر بنجمن ألن مبديا استعداده وأخرج من الصوان القريب من مرفقه زجاجة سوداء تحوي براندي مملوءة إلى النصف.
وقال بب سوير: «أنت بالطبع لا تتناول عليه ماء.»
وأجاب المستر ونكل: «شكرا لك؛ فإن الوقت مبكر، ولكن لا بأس من تخفيفه بالماء إذا لم يكن لديك مانع.»
وقال بب سوير مطوحا بكأس في فمه بلذة شديدة وهو يقول: «ليس لدي أقل مانع إذا أنت وفقت بينه وبين ذوقك. يا بن، علينا بالجرة.»
وأخرج المستر بنجامين ألن من المخبأ ذاته قدرا صغيرة من النحاس، قال بب سوير إنه يعتز بها وخاصة لأنها تبدو عليها مظهر العمل، وكانت تحوي قدرا من الماء، وأخرج المستر بب سوير من عتبة نافذة أشبه بالدرج، كتبت عليها «ماء الصودا» بضع قطع صغيرة من الفحم، وترك الماء في القدر الصغيرة يغلي على مهل، ومزج المستر ونكل الشراب بشيء منه، وأخذ الثلاثة يتجاذبون أطراف الحديث، وإذا غلام يدخل الحانوت فيقطع عليهم سبيله، وكان الغلام في حلة داكنة، وقبعة ذات شريط ذهبي، وهو يتأبط سلة صغيرة مغطاة، فما إن رآه بب سوير حتى هلل قائلا: «تعال هنا يا توم أيها المتشرد!»
وتقدم الغلام ممتثلا.
وقال المستر بب سوير: «لقد وقفت بجميع أعمدة المصابيح في برستل كلها أيها المكسال البليد المهمل.»
وأجاب الغلام: «كلا، لم أقف.»
وقال المستر بب سوير مهددا متوعدا: «لخير لك ألا تفعل، من ذا الذي تظنه يرضى يوما عن استخدام رجل صاحب مهنة؛ إذا كان الناس يرون غلامه يلعب البلي في الأزقة، أو يقفز كالضفدع؟! ألا تشعر بأي اهتمام بصنعتك أيها الخسيس؟! قل لي هل أوصلت كل الأدوية؟»
قال: «نعم سيدي.» - «المسحوق للأطفال في البيت الكبير الذي تسكنه الأسرة الجديدة، والحبوب التي تؤخذ أربع مرات في اليوم في دار الشيخ الحاد الطبع الذي يشكو من النقرس في ساقه؟» - «نعم يا سيدي.» - «إذن أغلق الباب، والتفت إلى الحانوت.»
وقال المستر ونكل، عقب انصراف الغلام: «قل لي إن الأمور ليست من السوء كما تريدني أن أعتقد، فها هي ذي بعض أدوية ترسل إلى الزبائن!»
وألقى المستر بب سوير نظرة على المحل ليستوثق من أنه ليس ثمة غريب يسترق السمع، ثم أقبل على المستر ونكل فقال وهو يغض من صوته: «إنه يتركها جميعا في بيوت غير المرسلة إليها.»
وبدا الارتباك على وجه المستر ونكل، وضحك بب سوير وصاحبه، وقال الأول: «ألم تفهم؟ إنه يذهب إلى منزل ما، فيدق الجرس، فيأتي الخادم، فيدس في يده علبة دواء في صمت وينصرف، ويحمل الخادم الدواء إلى قاعة الطعام فيفتحه رب البيت ويقرأ البطاقة التي عليها: «تؤخذ جرعة منه قبل النوم» مع الحبوب نفسها، والغسيل كالمعتاد، والمسحوق من محل سوير - نكمورف سابقا، وإلى جانب ذلك عبارة إضافية «تذاكر الأطباء تحضر بكل عناية» وما إلى ذلك ونحوه. وينثني رب البيت فيري زوجته الدواء، وتقرأ هي العنوان، ثم يعيدونه إلى الخدم ويقرأون العنوان، وفي اليوم التالي يعود الغلام فيقول: «إنه متأسف جدا، والغلطة غلطته وهي نتيجة لكثرة العمل في المحل، وكثرة الأدوية التي يطلب إليه تسليمها للزبائن والمستر سوير - نكمورف سابقا - يهدي تحياته. وهكذا يزداد الناس على الأيام معرفة بالاسم، وهذه هي طريقة العمل يا بني في مهنة الطب، إنها أحسن من أي طريقة أخرى من طرق الإعلان في العالم، وقد عرفنا كيف نوزع بهذا الشكل زجاجة لا تجاوز سعتها أربع أوقيات على نصف بيوت برستل، ولا يزال أمامها مجال واسع.»
وقال المستر ونكل: «يا عجبا! لقد فهمت، هذه خطة بارعة.»
وأجاب بب سوير بابتهاج شديد: «لقد خطرت لنا أنا وبن عدة طرق من هذا النوع؛ فمثلا: اتفقنا مع الرجل المكلف بإضاءة المصابيح في الشوارع على أن نؤدي له ثمانية عشر بنسا له في كل أسبوع نظير دق جرس الليل لدينا مدة عشر دقائق كلما جاء يطوف حول هذا الموضع، واعتاد غلامنا أن يعدو نحو الكنيسة قبل ابتداء المزامير، حين لا يبقى أمام الناس من شيء يفعلونه غير التلفت حولهم، فينادي باسمي، والرعب والفزع مرتسمان على وجهه، حين يسمع الجميع يقولون: يا لله! إن أحدهم أغمي فجأة عليه. وعندئذ يطلبون: سوير - نكمورف سابقا - ألا ما أكثر العمل لدى هذا الشاب!»
ولما فرغ المستر بب سوير وصاحبه المستر بن ألن من شرح بعض الأسرار المتعلقة بالمهنة، ارتميا على مسندي كرسيهما واستغرقا في ضحك صاخب، ولما استمتعا بهذه المجانة ملء صدريهما، تحول الحديث إلى موضوعات كان المستر ونكل أكثر اهتماما بها من ذلك كله.
ونذكر أننا قد أشرنا في موضع سابق إلى عادة استولت على المستر بنجمن ألن عقب تعاطي البراندي وهي الاستسلام للعواطف. ولا غرابة في ذلك، كما نستطيع نحن أن نثبت، بعد أن شاهدنا فريقا من الناس مرضى على هذه الصورة ذاتها، ولعل المستر بنجمن ألن في هذه الفترة عينها من حياته أصبح أشد نزوعا إلى سرعة التأثر من الشراب مما لمسه من قبل أو اعتراه في يوم من الأيام، وكان سبب هذه العلة هو باختصار أنه منذ قرابة ثلاثة أسابيع وهو يقيم مع المستر بب سوير، ولم يكن الامتناع عن الشراب معروفا عن بب، كما لم يكن معروفا عن المستر بنجمن ألن أنه من أصحاب الرءوس القوية، فكانت النتيجة أنه ظل طيلة مقامه عند صاحبه متراوحا بين الثمل والسكر القليل.
وانتهز المستر بن ألن فرصة قيام المستر بب سوير إلى المنضدة لتصريف شيء من الدود العلق القديم، فأنشأ يقول للمستر ونكل: «يا صديقي العزيز، إني تعس جدا.»
وأجاب المستر ونكل قائلا: إنه يحزنه في الحق أن يسمع ذلك منه، ويريد أن يعرف هل في إمكانه أن يفعل شيئا لتخفيف أحزانه.»
وقال بن: «لا شيء يا بني العزيز، لا شيء، إنك تذكر أربلا يا ونكل، أختي أربلا، الفتاة الصغيرة ذات العينين السوداوين، التي رأيتها حين كنا في دار واردل، لست أعرف هل اتفق لك أن رأيتها أو لا؟ إنها فتاة صغيرة ظريفة يا ونكل، لعل ملامحي تذكرك بملامحها؛ لشدة الشبه بيننا.»
ولم يكن المستر ونكل بحاجة إلى شيء يذكره بأربلا الفاتنة، ولم يحتج لحسن الحظ إلى مذكر؛ لأن قسمات وجه أخيها بنجمن ألن لم تكن أبدا وبلا نزاع مجددا قويا لذاكرته، ولكنه أجاب بكل هدوء استطاع أن يتخذ سماته بأنه يتذكر تلك الفاتنة حق التذكر ويرجو مخلصا أن تكون موفورة الصحة.
وكان رد المستر بن ألن الوحيد: «إن صديقنا بب إنسان لطيف.»
وقال المستر ونكل: «جدا»، وإن لم يستطب كثيرا اقتران الاسمين إلى هذا الحد.
ووضع المستر بن ألن الكأس أمامه وقال بلهجة التوكيد: «لقد انتويت أن يكون كل منهما لصاحبه؛ فقد خلق له، وأرسل إلى هذه الدنيا من أجله، وولد لاستكماله، يا ونكل، إن في هذه المسألة قدرا مقدورا يا سيدي العزيز، وليس الفارق في السن بينهما غير خمس سنين، ويوم ميلاد كل منهما في شهر أغسطس.»
وكان المستر ونكل في لهفة شديدة لسماع ما سيأتي بعد ذلك، لم يبد عجبا كثيرا من هذا الاتفاق الغريب على ما فيه من عجب، وانثنى المستر بن ألن بعد دمعة، أو دمعتين، يقول: إن أربلا، رغم كل إكباره واحترامه وإجلاله لصديقه، قد أبدت بغير سبب ولا مبرر أشد النفور منه.
ومضى المستر بن ألن قائلا بارتباك: «وأظن أن هناك علاقة سابقة.»
وقال المستر ونكل باضطراب بالغ: «هل لديك أية فكرة عمن عسى أن يكون موضع هذه العلاقة؟»
وهنا تناول المستر ألن بن محراك النار ولوح في الفضاء به كما يشهر الجندي السلاح في الحرب فوق رأسه، وأهوى به في ضربة عنيفة على جمجمة وهمية، وختم الحديث بقوله في لهجة بالغة في التعبير: إنه يود أن يعرف من يكون، وإن هذا هو كل ما لديه.
وعاد المستر بن ألن يقول: «سأريه مدى رأيي فيه.» وانثنى يشهر المحراك في الفضاء مرة أخرى أشد عنفا وهياجا من الأولى.
وكان ذلك كله بالطبع مهدئا قوي الأثر لشعور المستر ونكل، فلبث صامتا بضع دقائق، ولكنه استجمع أخيرا عزيمته وجرأته فسأل: «هل مس ألن تقيم الآن في كنت؟»
وأجاب المستر بن ألن وهو يلقي المحراك جانبا وينظر نظرات مكر: «كلا، كلا؛ لأنني لم أعتقد أن بيت واردل هو المكان الصلح تماما لإقامة فتاة عنيدة مثلها، ولما كنت الوصي عليها وحاميها الطبيعي، بعد وفاة أبوينا، رأيت أن أحضرها معي إلى هذه البقعة من البلاد؛ لتقضي بضعة أشهر عند عمة عجوز لها تقيم في بيت هادئ لطيف يغمره السكون، وأعتقد أن هذا هو خير علاج لها يا بني، فإذا لم ينجح العلاج فسوف أسافر إلى الخارج، لأرى هل هذا الدواء الآخر سيصلح من شأنها أو لا.»
وقال المستر ونكل متلعثما: «آه! هل تقيم العمة العجوز إذن في برستل؟»
وأجاب بن ألن، وهو يهز سبابته من فوق كتفه اليمنى: «كلا، كلا، ليست في برستل، إنها في تلك الناحية هناك. ولكنه صه، فها هو ذا بب، لا تقل كلمة واحدة يا صديقي العزيز، ولا كلمة واحدة.»
وقد أثار هذا الحديث، على قصره، أشد الاضطراب والقلق في نفس المستر ونكل، وأحس وجيعة في أعماق قلبه من سماعه نبأ «العلاقة السابقة» التي تحدث المستر بن ألن عنها. أتراه هو المقصود بها؟ وهل يجوز أن تكون أربلا الحسناء قد ذهبت من أجله تنظر بعين السخرية والنفور إلى بب سوير، أو أن له مزاحما ناجحا؟ ولم يلبث أن صحت منه النية على لقائها، مهما كلفه لقاؤها من ثمن، ولكن حائلا لا سبيل إلى التغلب عليه تراءى لخاطره، وهو ما كان يعنيه المستر بن ألن بقوله: «في تلك الناحية، وهناك.» فهل الموضع على مبعدة ثلاثة أميال أو ثلاثين ميلا أو ثلاثمائة، إنه لم يستطع أن يحرز من ذلك القول شيئا.
ولكن الفرصة لم تواته للتفكير في حبه عندئذ؛ لأن عودة بب سوير كانت البشير العاجل بوصول فطيرة محشوة باللحم من عند الخباز، وإلحاح ذلك السيد عليه في البقاء للاشتراك في تناولها. وجاءت خادمة عارضة تشتغل في البيت بغسل الثياب وتنظيف المسكن فوضعت الغطاء فوق المائدة وسكينا ثالثا وشوكة أخرى استعارتهما من أم الغلام ذي الحلة الرمادية؛ لأن تدابير المستر سوير المنزلية كانت حتى الآن في نطاق محدود، وجلسوا لتناول الطعام، وسعي عليهم بالجعة، في أوعيتها «المحلية» كما قال المستر سوير، وهي آنية من القصدير.
وبعد الطعام أمر المستر بب سوير بإحضار أكبر مهراس - هاون - في المحل، وشرع في مزج شراب خليط فيه من الروم والبنتش، وجعل يحركه ويمزج مواده الأولية بمدق الهاون في براعة الصيدلي الخبير، وكان المستر سوير أعزب، فلم يكن لديه سوى قدح كبير لا ثاني له في البيت كله، فخص به المستر ونكل تحية للضيف، بينما قنع المستر بن ألن بقمع وضع سدادة له في طوفه الضيق، وخص بب سوير نفسه بأحد تلك الأوعية الزجاجية الواسعة الحافة نقشت عليه تلك الحروف الخفية التي اعتاد الكيميائيون أن يكيلوا بها العقاقير والأدوية السائلة التي تحويها وصفات الأطباء. ولما انتهت هذه التمهيدات، أقبلوا على البنتش يذوقونه، وحكموا له بالجودة وطيب المذاق، وكان قد تم الاتفاق على أن يكون بب سوير وبن ألن طليقي الإرادة، في تناول كأسين لقاء كأس واحدة يتناولها المستر ونكل، وبدأوا الشراب على هذه القسمة العادلة، برضى بالغ، ورفقة حسنة.
ولم يحدث غناء؛ لأن المستر بب سوير قال: إنه لا يتفق ومقتضيات المهنة، ولكنهم استعاضوا عن هذا الحرمان بكثرة الكلام والضحك اللذين يستطاع سماعهما، بل يرجح سماعهما في نهاية الشارع، وكان هذا الحديث قد خفف كثيرا من وطأة الوقت على غلام المستر بب سوير، وأصلح من باله وخاطره، فمضى بدلا من أن يخصص المساء لعمله المألوف وهو كتابة اسمه على النضد ثم محوه بعد كتابته، يطل من خلال الباب الزجاجي، ويصغي وينظر في آن واحد.
ولم يلبث مرح المستر بب سوير أن اشتد فاستحال إلى صخب شديد، وهبط المستر بن ألن وشيكا في وادي العواطف، وكاد البنتش يختفي جملة، حين جاء الغلام مسرعا يقول: إن شابة قد حضرت في تلك اللحظة وقالت: إن سوير - نكمورف سابقا - مطلوب في الحال عند قوم يسكنون على قيد شارعين اثنين من الدار، فاضطر الجمع إلى الانفضاض، وفهم المستر بب سوير فحوى هذه الرسالة، وبعد أن كررت له عشرين مرة أو نحوها، ربط قطعة قماش مبللة حول رأسه؛ ليفيق من الشراب، وكاد يفيق شيئا ما بالفعل، ووضع منظاره الأخضر على عينيه وانطلق.
أما المستر ونكل فقد قاوم كل إلحاح عليه في البقاء ريثما يعود المستر بب سوير، ووجد أن لا سبيل أمامه إلى اجتذاب المستر بن ألن إلى حديث مجد في الموضوع الحبيب إلى فؤاده أو أي حديث سواه، فاستأذن في الانصراف، وعاد إلى غرفته في فندق «بش».
وكان القلق الذي استحوذ على خاطره، والأفكار المتزاحمة عليه والتي أثارتها أربلا وأيقظتها في أعماق نفسه، قد حالا بين النصيب الذي تناوله من البنتش وبين إحداث التأثير الذي كان بلا شك محدثه في ظروف أخرى، وبعد أن تناول كأسا من البراندي والصودا في محل الشراب بالفندق، عاد إلى غرفة القهوة، مهموم النفس غير منتعش الخاطر، من أثر الحوادث التي جرت في ذلك المساء.
ولم يكن في الغرفة سوى سيد يغلب طول القوام عليه، وهو في معطف كبير، وقد جلس قبالة الموقدة موليا ظهره إليه، وكان المساء أميل إلى البرودة بالنسبة إلى ذلك الموسم من السنة، فعمد ذلك السيد إلى التنحي بمقعده قليلا؛ ليكفل للقادم الجديد رؤية النار. فماذا عسى أن يكون شعور المستر ونكل، حين فعل السيد ذلك فكشف لعينيه عن وجه «داولر» الحانق عليه المهدد بسفك دمه؟
وكان الدافع الأول الذي انبعث في نفس المستر ونكل هو جذب أقرب مقبض جرس من موضعه، ولكن تبين لسوء الحظ أنه خلف مقعد المستر داولر مباشرة، وكان المستر ونكل قد تقدم خطوة واحدة صوبه، ولكنه ارتد عن التقدم، ورأى داولر ذلك منه فبادر إلى التراجع، وانثنى يقول وهو أكثر حلما مما كان يتوقعه المستر ونكل من رجل في مثل شراسته ووحشيته: «المستر ونكل! سيدي هدئ روعك، ولا تضربني؛ لأنني لن أحتمل ضربة أبدا!»
وقال المستر ونكل متلعثما: «أتقول ضربة يا سيدي؟!»
وأجاب المستر داولر: «نعم، ضربة يا سيدي، هدئ ثائرتك، واجلس واستمع لقولي!»
وأجاب المستر ونكل وهو يرتعد من فرعه إلى قدمه: «قبل أن أرضى بالجلوس بجانبك أو قبالتك، في غياب أحد من الخدم يجب أن أطمئن إلى مزيد ولو قليل من التفاهم، لقد هددتني يا سيدي في الليلة الماضية، ووجهت إلي وعيدا مروعا.»
وهنا اشتد شحوب المستر ونكل فعلا ووقف عن الكلام.
وقال المستر داولر وقد ارتد وجهه شاحبا كوجه المستر ونكل أو قريبا منه: «صحيح، كانت الظروف مريبة، لقد شرحت لي واستبانت، إنني أحترم شهامتك وأقدر سمو إحساسك، وأومن ببراءة ذمتك ونقاء ضميرك، هذه يدي، تناولها!»
وقال المستر ونكل وهو متردد لا يدري: أيمد يده إليه، أم يقبضها عنه؟ ويكاد يخشى أن يكون وراء تقديم الرجل يده إليه مأرب يراد به الاستمكان منه: «إنني في الحقيقة يا سيدي، إنني ...»
وقاطعه المستر داولر قائلا: «إنني فاهم ما تعني، إنك شاعر بأنك قد ظلمت، طبيعي جدا، وكذلك أنا، لقد أخطأت في حقك، أستسمحك لنكن صديقين، اصفح عني.» وبهذه الكلمات انثنى المستر داولر يضع يده بالإكراه في يد المستر ونكل، ويهزها بشدة متناهية ويعترف له بأنه إنسان شهم، نبيل النفس كل النبل، وأنه قد ازداد تقديرا له عما كان من قبل.
وأنشأ يقول: «والآن، اجلس، واقصص على سمعي الخبر من أوله إلى آخره، كيف اهتديت إلى مكاني؟ ومتى تبعتني؟ كن صريحا، قل لي.»
وأجاب المستر ونكل وهو في ارتباك شديد من هذه المقابلة الغريبة التي لم يكن يتوقعها مطلقا: «لقد كان ذلك عرضا ومجرد مصادفة!»
وقال داولر: «يسرني ذلك، لقد استيقظت في هذا الصباح، وكنت قد نسيت وعيدي فضحكت من الحادث، وأعلنت أن شعوري ودي، وأنني لا أضمر شرا.»
وسأل المستر ونكل: «لمن أعلنت ذلك؟»
وأجاب داولر: «لمسز داولر، فقالت: ولكنك أقسمت! قلت: نعم. قالت: كنت متهورا؟ قلت: نعم، سأعتذر، أين هو؟»
وقال المستر ونكل: «من؟»
وأجاب داولر: «أنت، نزلت السلم، لم أهتد إليك، كان بكوك يبدو متجهما، تناولت يده فهززتها، قلت: أرجو أن لا يحدث عنف، لقد تبينت كل شيء، لقد شعرت بأنك أهنت، لعلك بحثت عن شاهد، ربما طلبت مسدسات، روح عالية، إنني معجب بك.»
وسعل المستر ونكل وبدأ يدرك حقيقة الموقف فاتخذ سمات الجد وخطر الشأن.
واستطرد داولر: «لقد تركت لك رقعة، قلت فيها: إنني آسف، والواقع أنني كذلك، وأن عملا عاجلا اقتضاني القدوم إلى هنا، ولكنك لم تقتنع، فتبعتني، طالبا اعتذارا شفويا مني، وأنت على حق، انتهت القصة الآن، وانتهى العمل العاجل الذي ذكرته لك، وسأعود غدا، فتعال معي.»
وكان وجه المستر ونكل خلال هذا البيان الذي أدلى به داولر على سبيل الشرح والتفسير قد بدأ يلوح أكثر وقارا من ذي قبل؛ فقد عرف منه سر تلك البداية الغامضة التي بدت له من أول الحديث، وتبين أن المستر داولر لم يكن أقل منه إحجاما عن المبارزة، وأدرك باختصار أن كل هذا الضجيج الذي أوتيه هذا الشخص المرهوب إنما يخفي من ورائه إنسانا من أشد الناس جبنا في العالم؛ فقد علل غيابه على أساس مخاوفه هو وجبنه، فاتخذ الإجراء ذاته الذي لجأ إليه، ورأى من الحكمة أن يختفي، حتى يهدأ الهياج وتسكن الثائرة.
وما كادت حقائق الموقف تطالع خاطر المستر ونكل على هذا النحو حتى اتخذ سمات الرهبة والخطر وقال: إنه قد اقتنع كل الاقتناع. ولكنه استدرك قائلا بلهجة لم تدع أمام المستر داولر سبيلا غير الاعتقاد بأنه لو لم يفعل ما فعله لوقع حتما حادث من أخطر الأحداث وأشدها نكرا، حتى لقد بدا على المستر داولر التأثر الصادق برفعة نفس المستر ونكل وشهامته والإيمان العميق بتواضعه وسماحته، فافترق المحاربان ليأوي كل منهما إلى النوم، بعد تبادل كثير من مظاهر الصداقة الأبدية وعباراتها.
وعند الساعة الثانية عشرة والنصف أو قرابتها، أو بعد عشرين دقيقة أو نحوها استمتع فيها المستر ونكل بأول نوم هني تواتى له عقب ذلك الحادث، استيقظ فجأة على طرق شديد بباب غرفته، وتوالى الطرق بعنف متزايد، فلم يلبث أن استوى جالسا في فراشه ليسأل من الطارق وما الخطب؟!
وسمع عندئذ صوت الفتاة الموكلة بغرف الفندق وهي تقول: «من فضلك يا سيدي، هنا شاب يقول: إنه يريد مقابلتك في الحال.»
وصاح المستر ونكل قائلا: «شاب؟!»
وإذا صوت آخر يجيبه من خلال ثقب المفتاح: «لا خطأ في ذلك يا سيدي.» وإذا لم يؤذن لهذا الشاب المهم بالدخول في الحال، فمن الجائز جدا أن ساقيه ستدخلان قبل وجهه!
وانثنى ذلك الشاب يركل بقدمه الجزء الأسفل من ألواح الباب، كأنما يريد أن يتبع القول العمل.
وصاح المستر ونكل وهو يثب من فراشه: «أهذا أنت يا سام؟»
وأجاب ذلك الصوت بلهجة منطقية: «يستحيل على الإنسان أن يعرف سيدا ما ويتأكد أنه هو بعينه ما لم ينظر إليه يا سيدي.»
ولم يشك المستر ونكل أكثر مما ينبغي في أن الطارق هو ذلك الفتى بعينه، ففتح الباب، ولم يكد يفعل حتى دخل المستر صمويل ولر بسرعة بالغة وراح بكل عناية وحرص يغلقه من الداخل ويضع بكل تؤدة المفتاح في جيب صداره، وبعد أن أجال عينه في المستر ونكل من فرعه إلى قدمه انثنى يقول: «إنك لسيد شاب مضحك جدا يا سيدي.»
وقال المستر ونكل بغضب: «ماذا تقصد بهذا السلوك يا سام؟ اخرج من هنا حالا يا سيدي، ماذا تقصد يا سيدي؟»
وأجاب سام: «تسألني ماذا أقصد؟ حسبك هذا، هذا شيء زائد عن الحد، كما قالت السيدة لبائع الفطير احتجاجا حين باع لها فطيرا باللحم فلم تجد في جوفه شيئا غير الشحم، تسألني ماذا أقصد؟ سؤال لا بأس به، سؤال لطيف فعلا.»
وقال المستر ونكل: «افتح الباب كما كان، واخرج من هذه الغرفة حالا يا سيدي.»
وأجاب سام بلهجة قوية وهو يجلس بكل جد ورزانة: «سأخرج من هذه الغرفة يا سيدي في اللحظة ذاتها التي ستخرج فيها معي، وإذا لم يكن بد من حملك على ظهري حملا فسأخرج منها في أقل مما يستغرقه خروجك أنت منها وحدك، ولكن اسمح لي أن أعبر عن أملي في أن لا تضطرني إلى استخدام القوة، ومجاوزة الحد، وهي كلمة أقتبسها من ذلك النبيل الذي قال لذلك القوقع العنيد الذي لم يشأ أن يخرج من المحارة بدبوس، بدأ يخشى أن يضطر إلى كسره على باب غرفة الاستقبال.»
وما إن انتهى سام من هذه الخطبة التي بدت طويلة على خلاف المألوف منه، حتى وضع يديه فوق ركبتيه، ونظر طويلا إلى وجه المستر ونكل بشكل يوحي بأنه لا ينوي مطلقا أن يدع أحدا يستخف به.
ومضى المستر ولر يقول بلهجة التأنيب والملامة: «لقد عهدتك يا سيدي شابا وديعا محبوبا، فلا أظن أنك ترضى أن تجر معلمنا - وهو الرجل العظيم القدر - إلى مشاكل ومتاعب من كل نوع في الوقت الذي يحرص فيه على التمسك بالمبدأ في كل شيء، إنك يا سيدي ألعن من ددسن، وأما فج، فإني أعده ملاكا بالنسبة لك.»
ومضى المستر ولر يقرن هذا الرأي الأخير بضربة مؤكدة على كل ركبة من ركبتيه، وشبك ذراعيه فوق صدره، وينظر نظرة نفور شديد، ويلقي بظهره على مسند كرسيه، كأنما يترقب دفاع المجرم عن نفسه.
وقال المستر ونكل وهو يمد إليه يده، وتصطك أسنانه من البرد؛ لأنه ظل واقفا طيلة الوقت الذي استغرقته محاضرة المستر ولر، في جلباب النوم: «اسمع أيها الإنسان القويم الخلق، إنني مقدر إخلاصك لصديقي الفاضل وإني لآسف كل الأسف على أنني قد زدته متاعب على متاعبه ... هذا ما أردت أن أقوله لك يا سام، فهل فهمته؟»
وقال سام بعبوس، وإن كان في الوقت ذاته قد تناول اليد الممتدة إليه فهزها هزة الاحترام: «هذا كلام طيب، ولك حق أن تتأسف فعلا، وأنا مسرور كل السرور لاهتدائي إليك هنا؛ لأنني لا أتحمل أحدا يغضبه، إذا أمكن، هذا هو كل ما في المسألة.»
وقال المستر ونكل: «بلا شك يا سام، والآن اذهب إلى الفراش وسنوالي الكلام في هذا الأمر حين يطلع النهار.»
وقال سام: «متأسف جدا! لا أستطيع الذهاب إلى الفراش.»
وردد المستر ونكل كلماته: «لا تستطيع الذهاب إلى الفراش!»
وقال سام وهو يهز رأسه: «نعم، لا يمكن.»
وأجاب المستر ونكل وهو في دهشة شديدة: «لا أظنك تقصد أن تقول : إنك راجع الليلة يا سام؟!»
وقال سام: «لست راجعا إلا إذا كنت أنت تشدد في الرجوع، ولكن لا يمكنني أن أغادر هذه الغرفة، إن أوامر المعلم صريحة قاطعة.»
وأجاب المستر ونكل: «هذا كلام لا معنى له يا سام؛ لأنني مضطر إلى البقاء هنا يومين أو ثلاثة أيام، وإلى جانب هذا يا سام يجب أن تقيم هنا معي لمساعدتي على الظفر بمقابلة شابة، وهي مس ألن يا سام، وأنت تتذكرها؛ لأنه من المحتوم أن أراها، وسأراها قبل أن أغادر برستل.»
ولكن سام جعل يهز رأسه ردا على كل فقرة من هذا الكلام بإصرار شديد، وبادر إلى الجواب بقوة فقال: «هذا لا يمكن.»
وبعد جدل طويل، وشرح كثير، من جانب المستر ونكل، وعقب مكاشفته بكل ما جرى بينه وبين داولر عند مقابلته، بدأ سام يتردد، وأخيرا تم التراضي على شروط كان أهمها أن يأوي سام إلى الفراش ويترك للمستر غرفته لا ينازعه ملكيتها بشرط أن يسمح له بإقفالها بالمفتاح من الخارج على أن يأخذ المفتاح معه، بجانب شرط دائم، وهو أن يبادر في الحال إلى فتح الباب إذا شب في الفندق حريق، أو طرأ طارئ ينذر بخطر.
وكان من بين الشروط المتفق عليها كذلك أن يرسل كتابا إلى المستر بكوك في الصباح الباكر، على يد داولر؛ رجاء الموافقة على بقاء سام والمستر ونكل في برستل؛ تنفيذا للغرض الذي سلف ذكره، وإرسال الرد بالموافقة على بقائهما، برجوع البريد، أو بطلب عودتهما إلى باث بمجرد وصوله إليهما.
والشرط الأخير إن يكون مفهوما لدى الطرفين أن المستر ونكل قد تعهد ألا يلجأ إلى الهرب من هذه الساعة إلى مطلع النهار، بالقفز من النافذة أو سلم الحريق، أو بأي وسيلة من وسائل التسلل والغدر بالعهد.
1
وبعد أن صادق الطرفان على هذه الشروط انصرف سام وأغلق الباب من الخارج.
ولم يكد يهبط السلم حتى وقف وأخرج المفتاح من جيبه.
ومضى يقول وهو يتولى بظهره؛ ليعود من حيث أتى: «لقد نسيت كل ما يتعلق بمسألة التجائي إلى الضرب واللكم؛ فقد قال المعلم بصراحة: إنه لا بد منهما، إني لغبي فعلا!» ولكنه ما لبث أن تهلل وعاد يقول: «لا بأس، هذا شيء يمكن عمله بسهولة غدا على أي حال.»
وبدا كأن هذه الفكرة قد أرضته كثيرا فرد المفتاح إلى جيبه، ونزل بقية السلم، بغير تردد آخر أو تصور مخاوف جديدة، ولم يلبث كبقية سكان الفندق ونزلائه أن هبط في سبات عميق.
انظر كيف جعلها دكنز مسألة قانونية! كأنها عقد اتفاق له نصوص وبنود، وأضفى عليها روح فكاهة ممتعة.
الفصل التاسع والثلاثون
كيف عهد إلى المستر صمويل ولر برسالة غرامية فمضى ينفذها، ومدى النجاح الذي تواتى له في هذا السبيل. ***
وظل سام طيلة اليوم التالي بالمرصاد للمستر ونكل لا يدعه لحظة يفارق عينيه، معتزما كل الاعتزام ألا يتركه يفلت منه، حتى يتلقى تعليمات صريحة من المصدر الرئيسي، ورغم استياء المستر ونكل من هذه الرقابة الشديدة التي لمسها من سام ويقظته التامة لحركاته وسكناته، آثر أن يحتملها على أن يعمد إلى الاعتراض الشديد عليها، فيستهدف لخطر حمله عنوة، وأخذه بالقوة، كما لمح المستر ولر أكثر من مرة وردد القول أن هذا هو المسلك الذي يملي عليه الشعور بالواجب الالتجاء إليه، وليس ثمة كبير شك في أن سام كان سيعمد بسرعة إلى إزالة شكوكه، بحمل المستر ونكل عنوة إلى باث، وشد وثاقه، لو لم يتنبأ المستر بكوك بهذا الأمر فيحتط له، حين تلقى الكتاب المرسل إليه على يد داولر، واهتم في الحال به، وقصارى القول أنه ما حلت الساعة الثامنة من المساء حتى كان المستر بكوك نفسه يخطو نحو قاعة القهوة في فندق «بش» ويقول لسام وهو يبتسم: إنه قد أحسن صنعا، وإنه لم تبق حاجة إلى القيام بعمل الحراسة بعد الآن، فكان ذلك مدعاة طمأنينة لنفسه وسرور شديد.
وأنشأ المستر بكوك يقول مخاطبا المستر ونكل بينما كان سام يعاونه على خلع معطفه ولفاعة السفر: «لقد رأيت من الخير أن أحضر بنفسي؛ لكي أستوثق قبل أن أوافق سام على تنفيذ مهمته، هل أنت جاد حقا فيما يتعلق بتلك الفتاة؟»
وأجاب المستر ونكل بكل قوة: «نعم جاد من كل قلبي.»
وقال المستر بكوك وعيناه تبرقان: «تذكر أننا التقينا بها في دار صديقنا الفاضل العظيم الكريم يا ونكل، وأن العبث بعواطف هذه الشابة، والاستخفاف بمشاعرها، هما مقابلة الصنيع الجميل بالسوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان! إنني لا أقبل هذا العبث وذلك الاستخفاف ولن أسمح به.»
وأجاب المستر ونكل بحماسة: «ليس في نفسي نية كهذه إطلاقا، لقد فكرت في الأمر مليا، وأيقنت أن سعادتي مرتبطة بها.»
وهنا قاطعه المستر ولر بابتسامة لطيفة قائلا: «إن هذا هو ما نصفه بقولنا حزم الشيء في ربطة صغيرة يا سيدي.»
وبدا على وجه المستر ونكل شيء من العبوس لهذه المقاطعة، والتفت المستر بكوك إلى خادمه غاضبا وطلب إليه ألا يمزح في أمر يتصل بعاطفة من أسمى العواطف في الطبيعة البشرية، فكان جواب سام قوله إنه ما كان ليمزح، لو عرف أنها كذلك، ولكن هذه العواطف البشرية كثيرة إلى حد لا يكاد يعرف معه حين يسمع عنها أنها أسمى وأرفع من الأخرى.
ومضى المستر ونكل عندئذ يقص ما كان بينه وبين المستر بن ألن فيما يتصل بأرابلا، وقال: إن كل غرضه هو أن يظفر بلقائها ليكاشفها صراحة بحبه، وإنه يعتقد بناء على تلميحات معينة وتمتمات من بن ألن أنها في هذه الساعة تقيم في موضع ما قريب من التلال، وأن هذا هو كل ما عنده من المعلومات والهواجس في هذا الشأن.
وصحت النية على أن يبدأ المستر ولر من صباح اليوم التالي رحلة اكتشاف رغم هذه المعلومات القليلة التي سيهتدي بها، كما تم الاتفاق على أن يتولى المستر بكوك والمستر ونكل - وكان هذا أقل ثقة من صاحبه بقوتهما - الطواف بأرجاء المدينة والنزول عرضا على المستر بب سوير في أثناء النهار على أمل أن يشهدا أو يسمعا شيئا عن الموضع الذي تقيم الفتاة فيه.
وانطلق سام ولر في صباح اليوم التالي معتزما البحث والتحري، لا يروعه مطلقا هذا المطلب المثبط للعزيمة كل التثبيط الذي خرج من أجله ومضى يذرع الشوارع، صاعدا شارعا، وهابطا شارعا آخر، فوق روابي كلفتون دون سواها، دون أن يلتقي بشيء أو أحد قد يلقي أقل بصيص من الضوء على الأمر الذي عهد به إليه، فكم من أحاديث أجراها مع ساسة الخيل وهم آخذوها إلى الطريق «لتهويتها»، ومع المربيات وهن يصحبن الأطفال إلى الرياضة في الأزقة والدروب، ولكنه لم يستطع أن يستخلص من تلك الأحاديث كلها شيئا يصح أن يشير أقل إشارة إلى ما هو بسبيل البحث عنه والاستعانة بالحيلة والبراعة على تحري الحقيقة فيه، فالبنات كثيرات في كثير من البيوت، وأغلبهن - في ظن الخدم والخادمات - على صلات وثيقة ببعض الفتيان أو على استعداد للاتصال بهم إذا سنحت الفرص لهن، ولكن لم تكن منهن واحدة هي بالذات مس أرابلا ألن، فلبث سام في جهل تام، وبقي آخر المطاف كما كان حين ابتدأ.
وهبت عليه في الطريق ريح عاصفة فجعل يغالبها متسائلا: هل من ضرورة تدعو المرء أن يظل ممسكا بقبعته بكلتا يديه في ذلك الموضع، حتى أتى على بقعة ظليلة تراءت له عندها عدة مغان صغيرة متناثرة تبدو عليها السكينة والعزلة والهدوء، وبصر خارج باب إسطبل في نهاية زقاق خلفي مستطيل لا منفذ له بسائس قد خلع عنه ثوبه وراح يتسكع في الزقاق متبطلا، كأنما يريد أن يقنع نفسه بأنه يفعل شيئا بفأس أو عجلة ذات دولاب واحد، وهنا يصح أن نقول إنه ما من سائس شوهد يوما بقرب الإسطبل في ساعات فراغه، إلا كان إلى حد ما فريسة لهذا التوهم الفذ الغريب.
وخطر لسام أنه لا بأس من التحدث إلى هذا السائس، كأي أحد سواه، ولا سيما أنه قد تعب من كثرة المشي، ووجد حجرا ضخما قائما قبالة العجلة، فتقدم في الزقاق، وجلس فوق ذلك الحجر، وافتتح الحديث مع السائس بتلك السهولة والسماحة اللتين عرفتا عنه.
وأنشأ يقول: «صباح الخير يا صاح.»
وأجاب السائس وهو يلقي نظرة غاضبة إليه: «تقصد مساء الخير.»
وقال سام: «إنك محق كل الحق يا صديقي، إنني أقصد فعلا المساء، كيف أنت؟»
وأجاب السائس الحاد الطبع: «لا أجد نفسي أحسن حالا لرؤيتك.»
وقال سام: «ذلك أمر جد غريب؛ لأنك تلوح مبتهجا على غير المألوف، وتبدو مشرقا حتى لتسر القلب رؤيتك.»
وازداد السائس الحاد الطبع حدة لهذا القول ولكن ليس إلى الحد الكافي لإحداث أي أثر في نفس سام، فراح هذا في الحال يسأل بلهفة شديدة: «هل يدعى مولاه ووكر؟»
وقال السائس: «كلا، ليس هذا اسمه.»
وقال سام: «ولا براون أيضا؟» - «ولا براون كذلك.» - «ولا ولسن؟» - «كلا، ولا هذا أيضا.»
وقال سام: «أنا مخطئ إذن، ولم يتشرف بمعرفتي وكنت أظن أنه تشرف بها.»
ورآه يدفع العجلة أمامه ويستعد لإغلاق الباب، فمضى يقول له: «لا تعجل هكذا دون أن تحييني، وتقدم الراحة الشخصية على عناء الكلفة يا بني، أنا سأسامحك.»
وقال السائس الشرس وهو يغلق نصف الباب: «سأفصل رأسك عن جسمك نظير نصف كراون.»
وأجاب سام: «لا يمكن أن تضمن ذلك بهذا الشرط؛ لأنه يساوي أجر طعامك وشرابك مدى الحياة على أقل تقدير، ثم يبقى مع ذلك رخيصا زهيد الثمن، بلغ سلامي لأهل البيت، وقل لهم: لا ينتظروا قدومي للغداء، ولا ضرورة لإبقاء شيء منه لي؛ لأنه سيبرد قبل حضوري!»
واشتد غضب السائس من هذا الجواب وزمجر وتمتم مبديا الرغبة في تدمير شخص ما أو قتله، ولكنه اختفى دون تنفيذها، مغلقا الباب في حنق وراءه، غير ملق بالا إلى رجاء سام وتوسله إليه أن يترك له خصلة من شعره قبل انصرافه.
ولبث سام مقتعدا ذلك الحجر الضخم، يفكر فيما يحسن أن يفعله، ويبحث في خطة ترمي إلى دق جميع الأبواب الواقعة في نطاق خمسة أميال من برستل، بمعدل مائة وخمسين بيتا في اليوم، ويحاول بهذه الوسيلة الاهتداء إلى مكان مس أرابلا وإذا الظروف تلقي فجأة بما كان محتملا أن يظل جالسا في موضعه هذا عاما كاملا ولا يهتدي إلى مثله.
فقد رأى في الزقاق الذي كان جالسا فيه ثلاثة أبواب أو أربعة لحدائق تتصل بعدة منازل كانت كلها متباعدة، بعضها من بعض، وإن لم تكن تفصلها غير تلك الحدائق، وكانت الحدائق من الطول والعرض والرحابة وحسن تخطيط الأشجار في منافسها بحيث لم تكن المنازل متباعدة فحسب، بل كان معظم أجزائها يكاد يحتجب عن العين، وكان سام جالسا يطيل النظر إلى كومة من التراب خارج الباب التالي الذي اختفى السائس منه، يقلب في خاطره الصعاب التي تواجهه في سبيل تحقيق مهمته وإذا الباب يفتح، فتخرج منه خادمة إلى الزقاق لتنفيض بعض البسط المفروشة بجوار السرر.
وكان سام غارقا في لجة من الأفكار، وكان يغلب على الظن ألا يتجاوز اهتمامه بتلك الخادمة مجرد رفع رأسه وقوله لها: إنها مليحة أنيقة جميلة القوام، لو لم يستثر في نفسه روح الشهامة والنجدة منظرها، وهي بلا عون يمد لها يد المساعدة، على تنفيض تلك البسط الثقيلة التي تنوء بها قواها بمفردها، وكان المستر ولر سيدا أخا شهامة عظيمة على طريقته الخاصة، فلم يكد يشهد هذا المنظر حتى نهض مسرعا من فوق الحجر الضخم وتقدم نحوها وانثنى يقول وهو يدنو منها باحترام شديد: «يا عزيزتي ستفسدين هذا الجمال البديع كل الإفساد إذا أنت نفضت هذه البسط وحدك، دعيني أساعدك.»
وكانت الفتاة تتظاهر على استحياء أنها لا تدري أن رجلا بجوارها، فلما سمعت هذا القول تلفتت في اللحظة التي كان سام يتكلم فيها؛ لكي ترفض - كما قالت فيما بعد - عرضا تقدم به إليها رجل غريب لا تعرفه بتاتا، ولم تتكلم بل ارتدت متراجعة وأطلقت صرخة تكاد تكون مكبوتة، ولم يكن سام أقل منها ارتباكا وذهولا؛ لأنه رأى في وجه تلك الخادم المقسم المليح عيني الحبيبة الحسناء التي كانت في خدمة المستر نبكن.
وقال سام: «عزيزتي ماري!»
وقالت ماري: «المستر ولر، لقد أخفتني.»
ولكن سام لم يجب بالكلام عن هذه الصيحة الشاكية، ولسنا نستطيع نحن أن نعين تماما أي جواب عمد إليه، وإنما كل ما نعرفه أن ماري راحت بعد فترة قصيرة تقول: «رباه! حسبك يا مستر ولر!» وأن قبعته كانت قد سقطت من فوق رأسه قبل ذلك ببضع لحظات، وهما أمران يجعلاننا نميل إلى استنتاج شيء واحد، وهو أن الجانبين تبادلا قبلة أو أكثر!
وقالت ماري حين اتصل الحديث الذي عرض له هذا الذي قطعه عليهما: «كيف أتيت إلى هنا؟»
وأجاب المستر ولر، وقد ترك لأول مرة عاطفته تتغلب على نزوعه إلى الصدق: «لقد أتيت طبعا للبحث عنك يا عزيزتي.»
وقالت ماري: «وكيف عرفت أنني هنا، ومن الذي قال لك إنني تركت الخدمة في إبسويتش إلى بيت آخر عند قوم جدد، وإنهم انتقلوا بعد ذلك إلى هنا، من عسى أن يكون قد أنبأك بذلك كله يا مستر ولر؟»
وقال سام بنظرة ماكرة: «هذا هو بيت القصيد بلا ريب، من تراه قال لي؟»
وقالت ماري: «ألم يقل لك المستر مزل؟»
وأجاب سام بهزة جدية من رأسه: «كلا، لم يكن هو الذي قال لي.»
وقالت ماري: «لا بد إذن أن تكون الطاهية.»
وقال سام: «لا بد بطبيعة الحال.»
وصاحت ماري قائلة: «ما سمعت بمثل هذا من قبل، إنه لشيء عجيب!»
وقال سام: «ولا أنا، ولكن يا عزيزتي ماري.» وهنا ازداد تلطفا واسترسل يقول: «ولكن يا عزيزتي ماري إن لدي في هذه اللحظة مسألة أخرى عاجلة جدا، إن أحد أصدقاء المعلم وهو المستر ونكل، أتذكرينه؟»
وقالت ماري: «أهو الذي يرتدي السترة الخضراء، آه، نعم، إنني متذكرته.»
وقال سام: «إنه في حال شنيعة من الحب، برح به الوجد، واستولى عليه الهيام.»
وقالت ماري: «يا إلهي!»
ومضى سام يقول: «نعم، ولكن هذا لا يعد أمرا ذا بال إذا أمكننا أن نهتدي إلى الشابة التي يحبها.» وهنا راح يشرح بأمانة قصة محنة المستر ونكل، مع عدة شطحات عن الموضوع للتغزل في جمال ماري والتشبيب بحسنها، وذكر الآلام التي لا توصف، وألوان العذاب والتباريح التي قاساها منذ آخر عهده بلقائها.
وقالت ماري: «أما أنا فلم أقاسي منها شيئا مطلقا.»
وأجاب سام: «طبعا، ولم يقاس مثلها أحد من قبلي، ولن يقاسيها أحد من بعدي، وهأنت ذي ترينني هائما على وجهي كاليهودي التائه، وهو رجل «رياضي» لعلك سمعت به يا عزيزتي ماري، كان دائما أبدا في مباراة مع الزمن، ولم يكن يذهب مطلقا إلى النوم. هأنذا أهيم على وجهي باحثا عن مس أربلا ألن.»
وقالت ماري بدهشة بالغة: «مس من؟!»
وأجاب سام: «مس أربلا ألن.»
وقالت ماري وهي تشير إلى باب الحديقة الذي كان ذلك السائس الغضوب قد أغلقه وراءه منذ لحظة: «يا إله السموات، إنها تقيم في هذا البيت ذاته، وقد مضى عليها فيه ستة أسابيع، وقد سمعت القصة كلها من الوصيفة التي تخدم في الطبقة العليا منه، وهي أيضا وصيفة الفتاة، وأنا واقفة أطل من خلال قضبان النافذة التي في غرفة الغسيل، قبل أن يستيقظ أفراد الأسرة من نومهم في صباح أحد الأيام.»
وقال سام: «أتقولين إنها في البيت الملاصق لكم؟!»
وأجابت ماري: «بالذات.»
وكان تأثر سام بما سمعه قويا غالبا بحيث اضطر إلى الاستناد إلى مخبرته الحسناء والتشبث بها خيفة السقوط، ولم يستطع أن يجمع شتات قواه ليعود إلى الموضوع إلا بعد أن تبادلا عدة أحاديث مزدوجة عن الحب، وكلاما يسيرا في الغرام.
وأخيرا عاد سام يقول: «والله إذا لم يكن هذا يفوق صراع الديكة، فلن يفوقه شيء سواه، كما قال المحافظ حين اقترح رئيس وزراء الدولة أن يشرب في صحة زوجته بعد الغداء. تقولين: إنها تسكن في البيت الملاصق لبيتكم بالذات! إنني أحمل إليها رسالة قضيت طول النهار أحاول نقلها إليها.»
وقالت ماري: «آه! ولكنك لا تستطيع أن تنقلها إليها الآن؛ لأنها لا تنزل إلى الحديقة لتتمشى في رحابها إلا في المساء، ولكنها لا تقضي في هذه الرياضة إلا وقتا قصيرا جدا، وهي لا تخرج من البيت مطلقا إلا إذا صحبتها السيدة العجوز.»
ولبث سام لحظة يفكر في الأمر، حتى انتهى به التفكير إلى رسم الخطة التالية، وهي أن يعود في الغسق، وهو الوقت الذي تنزل فيه أربلا عادة للمشي في الحديقة، وتأخذه ماري إلى حديقة البيت الذي تخدم فيه، ثم يحاول أن يتسلق الجدار بأية وسيلة ، مختبئا تحت الأغصان المتدلية من شجرة كمثرى كبيرة، وهي كفيلة بحجبه عن الأبصار، فينقل الرسالة ويدبر - إذا أمكن - لقاء بين الفتاة وبين المستر ونكل في الوقت عينه من مساء اليوم التالي، وبعد أن وضع هذه الخطة بسرعة بالغة في خاطره مضى يعاون ماري في تلك المهمة المؤجلة من وقت طويل؛ وهي تنفيض الأبسطة.
ولم تكن عملية تنفيض قطع صغيرة من البسط بريئة إلى الحد الذي يبدو عليها، وإن لم يكن ثمة بأس من هزها على الأقل ونفضها، ولكن طيها عملية ليست بريئة إطلاقا، وما دام النفض مسترا، وطول البساط فارقا بينهما؛ فإن العملية تجمع بين البراءة والتسلية ما شاءا أن يكون لهما منها، أما حين يبدأ الطي، وتأخذ المسافة بينهما تقل شيئا فشيئا من نصف طول الأبسطة إلى الربع، ثم إلى الثمن، ثم إلى جزء من ستة عشر، فجزء من اثنين وثلاثين، إذا كان البساط طويلا، فهنا الخطر، ولسنا نعرف بالدقة كم كان عدد البسط التي طويت على هذا النحو، ولكن في وسعنا أن نقول: إنه على قدر عدد القطع التي اقتضت الطي واللف، كان عدد القبلات التي ظفر بها سام من الخادمة الحسناء.
وقصد المستر ولر إلى أقرب حانة من الموضع فأنعش نفسه بقدر يسير من الشراب، إلى قبيل الغسق، ثم عاد إلى الزقاق المسدود، وسمحت له ماري بالدخول إلى الحديقة، وبعد أن تلقى منها عدة نصائح فيا يتصل بسلامة أوصاله، ووجوب الحرص على رقبته، صعد شجرة الكمثرى، وانتظر حتى تبدو أرابلا لعينيه.
ولبث في مكانه ينتظر طويلا دون أن يحدث الحدث المرتقب المتلهف عليه، حتى بدأ يظن أنه سوف لا يحدث مطلقا، وإذا مواقع أقدام خفاف تطرق سمعه وهي تدب فوق الحصباء، ولم يلبث أن رأى أرابلا تمشي ساهمة مفكرة في منافس الحديقة، وما كادت تقترب من تحت الشجرة، حتى أخذ على سبيل إشعارها في لطف ورفق بمحضره، يحدث أصواتا شيطانية مختلفة تشبه الأصوات التي تنبعث طبيعية على الأرجح من شخص يبلغ حدود الكهولة، ويشكو من التهاب الحنجرة ، والذبحة، والسعال الديكي في وقت واحد، منذ بواكير طفولته!
وألقت الفتاة نظرة عجلى نحو المكان الذي انبعثت منه تلك الأصوات المروعة، ولم يخف اضطرابها السابق بتاتا حين لمحت رجلا بين الأغصان، وكانت بلا أدنى شك مولية الأدبار، مزعجة البيت كله، لولا أن أفقدها الخوف لحسن الحظ قوة الحركة، وجعلها تتهالك على مقعد في الحديقة كان من حسن المصادفة قريبا منها.
وقال سام لنفسه وهو في ارتباك شديد: «سيغمى عليها، يا عجبا لهؤلاء الفتيات يغمى عليهن في اللحظة التي لا ينبغي لهن فيها الاستسلام للإغماء. اسمعي أيتها الشابة، يا مس سنوبونز
1
يا مسز ونكل، لا إغماء بحقك.»
ولا يهمنا أن نعرف هل كان سحر اسم المستر ونكل، أو الهواء الطلق المنعش، أو تذكر نبرات صوت المستر ولر، هو الذي أنعش أرابلا وجعلها تثوب إلى نفسها؛ فقد رفعت رأسها، وقالت مخافتة: «من هذا؟ وماذا تريد؟»
وقال سام وهو ينتقل من فوق الشجرة إلى الجدار وينزوي عنده وينكمش إلى أصغر حجم مستطاع: «صه، أنا يا آنسة لا أحد سواي.»
وقالت أرابلا بجد: «خادم المستر بكوك؟!»
وأجاب سام: «هو بالذات يا آنسة، إن المستر ونكل أصبح يعيش في حزن دائم ويأس مقيم.»
وقالت أرابلا وهي تقترب من الجدار: «آه.»
وقال سام: «آه فعلا، لقد اعتقدنا في الليلة الماضية أن لا بد من شد وثاقه؛ لأنه قضى النهار كله يهذي ويخرف، ويقول: إنه إذا لم يتمكن من رؤيتك قبل انقضاء ليل الغد، فسوف يأتي عملا سيئا، إن لم يلق بنفسه في اليم ويمت غريقا!»
وقالت أرابلا وهي شابكة يديها: «آه، كلا، كلا، يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «هذا هو قوله يا آنسة، وهو رجل إذا قال فعل، واعتقادي أنا أنه سيفعل يا آنسة، وقد سمع كل شيء عنك من سوبونز الذي يضع «العوينات» على عينيه.»
وقالت أرابلا، وقد عاودتها بعض ذكريات ما كان سام يقول عن أخيها: «هل سمعته من أخي؟»
وأجاب سام: «لا أعرف بالضبط أيهما أخوك يا آنسة؛ هل هو أكثرهما قذارة؟!»
وقالت أرابلا: «نعم، نعم يا مستر ولر، استمر أسرع من فضلك.»
وقال سام: «ليكن يا آنسة، لقد سمع كل شيء عنك منه، ومن رأي المعلم أنك إذا لم تبادري إلى لقائه فإن السوبونز الذي كنا اللحظة نتكلم عليه سيصاب بقدر إضافي كبير من الرصاص في رأسه يتلف أنسجته إذا وضعوه في الكحول بعد ذلك.»
2
وصاحت أرابلا مروعة: «أواه! وما الذي أستطيع أن أفعله لأمنع هذه المشاجرات المروعة؟!»
وأجاب سام: «إن الاشتباه في وجود علاقة سابقة هو سبب هذا كله، فالأفضل أن تقابليه يا آنسة.»
وقالت أرابلا: «ولكن كيف؟ وأين؟ وأنا لا أجرؤ على ترك البيت وحدي، وأخي شديد القسوة أحمق متناهي الحماقة، وأعرف أن كلامي على هذا النحو معك يبدو غريبا يا مستر ولر، ولكني في الواقع تعسة جدا جدا.» وهنا بكت أرابلا المسكينة بدمع سخين حتى رثى لها سام وقال وهو في أشد حالات الانفعال: «قد يكون حديثك معي عن هذه المسائل يا آنسة غريبا كل الغرابة، ولكن كل ما في إمكاني أن أقوله هو أنني لست مستعدا فقط، بل راغبا أيضا، في عمل أي شيء يصلح الأمور ويذهب بالأحزان، وإذا كان إلقاء أحد من السوبونز الاثنين من النافذة وافيا بالغرض، فأنا الرجل الكفيل به.»
وانثنى سام يشمر عن معصميه، حتى تعرض لخطر السقوط من فوق الجدار؛ لكي يبين استعداده للعمل في الحال!
ورغم ما في هذه التصريحات التي تنم عن شعور طيب من ثناء على أرابلا فإنها رفضت بشدة الاستعانة بها (وكان سام يعتقد أن هذا الرفض لا يمكن تعليله بأي سبب أو حجة ما) ولبثت لحظة متشددة في الامتناع عن السماح للمستر ونكل بالخلوة التي ألح سام في طلبها، واستعان بكل ما أوتي من تأثير في الظفر بها، ولكنها أخيرا، عندما أوشك الحديث أن ينقطع بقدوم شخص ثالث غير مرغوب فيه، أسرعت في إفهامه - مبدية شكرها وامتنانها في عبارات كثيرة - أنه قد لا يبعد أن تنزل إلى الحديقة مساء الغد بعد ساعة من الوقت الذي نزلت في هذا المساء فيه، وفهم سام هذا حق الفهم، وأنعمت أرابلا عليه بابتسامة من أعذب ابتساماتها، وانصرفت متولية عنه في رشاقة تاركته في غمرة من الإعجاب بمفاتنها الجسدية والعقلية على السواء.
وهبط سام من فوق الجدار بسلام، ولم ينس أن يخصص بضع لحظات لنصيبه الخاص من العمل الداخل في هذا الباب، وانطلق مسرعا إلى فندق بش؛ حيث كان طول غيابه قد أثار كثيرا من التكهنات وشيئا قليلا من القلق.
وقال المستر بكوك بعد أن أصغى بانتباه إلى قصة سام: «يتحتم علينا أن نكون حريصين، لا من أجلنا نحن، بل من أجل هذه الفتاة الصغيرة، ولا بد لنا من الحذر والاحتياط.»
وقال المستر ونكل بلهجة توكيد ظاهرة: «أتقول نحن؟!»
وبدت على المستر بكوك مظاهر الغضب من اللهجة التي نطق بها ونكل بهذه الملاحظة ولكن غضبه هذا لم يلبث أن زال وعاد للرجل ما اختص به من مظاهر الطيبة والسماحة وهو يجيب: «نحن يا سيدي؛ لأنني سأذهب معك.»
وقال المستر ونكل: «أنت؟!»
وأجاب المستر بكوك بلهجة معتدلة: «أي نعم أنا، إن الفتاة بقبولها الاجتماع بك قد خطت خطوة طبيعية ولكنها مع ذلك قد تكون خطوة غير حكيمة مطلقا، ولكني إذا أنا كنت حاضرا هذا اللقاء، وأنا صديق الطرفين، وفي مقام والدكما من ناحية السن، فلن تجرؤ ألسنة السوء أن تلوك سيرتها فيما بعد.»
وبرقت عينا المستر بكوك سرورا صادقا ببعد نظره، وهو يتكلم على هذا النحو، وتأثر المستر ونكل بهذا الخلق الكريم، والرعاية البالغة، لسمعة حبيبة صديقه، فتناول يده باحترام شديد يقرب من العبادة والإجلال.
وقال: «ستذهب معي.»
وأجاب المستر بكوك: «سأذهبن، يا سام أعد لي معطفي ولفاعتي ودبر لنا مركبة تقف بالباب مساء الغد مبكرة عن الموعد، حتى ليتسع لنا الوقت.»
ورفع سام يده إلى قبعته، تلبية للأمر، وانصرف ليعد العدة المطلوبة لهذه الرحلة.
وجاءت المركبة في الموعد المطلوب تماما، وبعد أن فرغ المستر ولر من معاونة المستر بكوك والمستر ونكل على الدخول إلى المركبة، اتخذ مجلسه بجانب السائق، وترجلوا كما سبق الاتفاق على مسافة ربع ميل من مكان اللقاء، وطلبوا إلى السائق أن ينتظر عودتهم، وانطلقوا يقطعون الشقة الباقية من الطريق على الأقدام.
وعند هذه الرحلة انثنى المستر بكوك - وهو يكثر من الابتسام وغير الابتسام من مختلف مظاهر الرضى والاغتباط - يخرج من أحد جيوب معطفه مصباحا قاتم اللون، كان قد أعده لهذه المناسبة، ومضى يشرح مزاياه الآلية للمستر ونكل وهو في الطريق، فلم تكن دهشة المشاة القليلين الذين التقوا بهم فيه قليلة لهذا المشهد العجيب.
وقال المستر بكوك - وهو يلتفت إلى الخلف مسرورا رائق المزاج - لخادمه الذي كان يمشي في المؤخرة: «لقد كان من الخير لي أن أتزود بشيء كهذا في رحلتي الماضية إلى بعض الحدائق ليلا يا سام. ما رأيك؟»
وأجاب المستر ولر: «هذه أشياء جميلة إذا عرف الإنسان كيف يحسن استخدامها يا سيدي، ولكن حين تريد ألا تراك عين أحد، تصبح أكثر فائدة بعد أن تنطفئ الشمعة منها إذا كانت لا تزال مضيئة.»
ودهش مستر بكوك لملاحظات سام فرد المصباح إلى جيبه، وانطلقوا في طريقهم صامتين.
وقال سام: «من هنا يا سيدي، دعني أتقدمكما لأريكما الطريق، هذا هو الزقاق يا سيدي.»
ودخلوا الزقاق، وكان الظلام قد غمره، فأخرج المستر بكوك المصباح مرة، أو مرتين، وهم يتحسسون مواطئ أقدامهم، وإذا المستر بكوك يرسل من مصباحه ضياء براقا مستطيلا أمام أبصارهم، يبلغ قطر دائرته قدما واحدة أو نحوها، وكان منظره جميلا، ولكن تأثيره يحيل الأشياء المحيطة بهم أقتم مما كانت.
وأتوا أخيرا على الحجر الضخم، فاقترح سام على سيده وعلى المستر ونكل أن يقتعداه، بينما يذهب هو ليستطلع ويتحقق هل ماري في الاتنظار.
ولم تنقض على غيابه خمس دقائق أو عشر حتى عاد يقول: إن الباب مفتوح، وإن السكون غامر، فتبعاه مسترقي الخطى، وما لبثا أن وجدا نفسيهما في البستان، وجعل كل منهم يقول: «هس!» عدة مرات وهو لا يدري ماذا يراد منه أن يفعل في الخطوة التالية.
وقال المستر ونكل وهو في اضطراب شديد: «هل نزلت مس ألن إلى الحديقة يا ماري أم لا؟»
وأجابت الخادم الحسناء: «لست أدري يا سيدي، إن أحسن طريقة هي أن يعاونك المستر ولر على التسلق إلى الشجرة برفعك إلى أعلى وأن يتفضل المستر بكوك بالحراسة لينبهكما إذا رأى أحدا قادما من الزقاق، بينما أتولى أنا المراقبة عند الطرف الآخر من الحديقة، يا إله السماء! ما هذا؟!»
وصاح سام محنقا: «هذا هو المصباح المبارك الذي سيأخذ أجلنا كلنا، احذر ما أنت فاعل يا سيدي، إنك مرسل ضياء شديدا إلى نافذة الغرفة الخلفية.»
وقال المستر بكوك وهو يلتفت في عجلة: «ويحي! لم أكن أقصد أن أفعل ذلك.»
وعاد سام يقول محتجا: «وها هو الضوء مسلط على البيت المجاور يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يتلفت حوله مرة أخرى: «ويحي!»
وقال سام: «وهو الآن في الإسطبل، وسيظن القوم أن حريقا قد شب فيه، أغلقه يا سيدي، ألا يمكن أن تغلقه؟!»
وقال المستر بكوك مرتبكا أشد الارتباك من هذا الأثر الذي أحدثه من غير سوء قصد: «هذا أغرب مصباح رأيته في حياتي، ولم أشهد في عمري مصباحا قويا كهذا.»
وقال سام حين رأى المستر بكوك بعد عدة محاولات فاشلة، قد نجح في إغلاق الحاجز: «وسيكون قويا أكثر من اللازم لنا إذا ظللت تفتحه وتغلقه على هذه الصورة يا سيدي، والآن أسمع مواقع أقدام فتاة، هيا يا مستر ونكل، اصعد!»
وقال المستر بكوك: «قف. قف! يجب أن أكلمها أنا أولا، أعني يا سام على الصعود.»
وقال سام وهو يسند رأسه إلى الجدار ويجعل من ظهره مطية لسيده: «برفق يا سيدي، قف فوق آنية الزهر هذه، والآن، هلم اصعد.»
وقال المستر بكوك: «أخشى أن أؤلمك يا سام.»
وأجاب المستر سام: «لا بأس يا سيدي، أعره يدا يا مستر ونكل، الثبات، الثبات يا سيدي، هذه هي اللحظة الحاسمة.»
وبعد أن نطق سام بهذا القول حاول المستر بكوك بجهد جهيد لا يكاد ينتظر من سيد في مثل عمره ووزنه أن يرتفع فوق ظهر سام، وظل هذا يرفع جسمه برفق، والمستر بكوك يتشبث بقمة الجدار، بينما راح المستر ونكل يمسك بساقيه بقوة حتى تمكنوا بهذه الوسيلة من جعل منظاره فوق مستوى الجدار.
وأطل المستر بكوك من فوقه فلمح أرابلا في الجانب الآخر منه، فقال: «يا عزيزتي لا تخافي، هأنذا، لا أحد سواي.»
وقالت أرابلا: «أرجوك أن تذهب، قل لهما أن يذهبا، إنني في هلع شديد، ويلي! ويلي! يا مستر بكوك لا تقف في مكانك، إنك ستسقط وتودي بحياتك، إنني على يقين أنك قاتل نفسك.»
وقال المستر بكوك مواسيا ومهدئا روعها: «أرجوك ألا تنزعجي يا عزيزتي، لا مدعاة مطلقا للخوف، أؤكد لك أن لا داعي للخوف.» ونظر إلى أسفل وقال: «اثبت يا سام.»
وأجاب سام: «سأفعل يا سيدي، ولكن لا تطل الوقوف هكذا أكثر مما يجب؛ لأنك من الوزن الثقيل.»
وأجابت أرابلا وهي تكفكف دموعها بمنديلها: «إنني في غرضي يا عزيزتي أن تعرفي أنني ما كنت لأسمح لصديقي الشاب بلقائك سرا على هذه الصورة لو أن الموقف الذي تجدين نفسك فيه قد هيأ له سبيلا غير هذه السبيل، وقد يكون مرضيا لخاطرك أن تعرفي أنني جئت إلى هنا حتى لا يؤدي شذوذ هذه الوسيلة وخروجها عن المألوف إلى أي حرج لك أيتها العزيزة، هذا هو كل ما في الأمر يا عزيزتي.»
وأجابت أرابلا وهي تكفكف دموعها بمنديلها: «إنني في الحق يا مستر بكوك لشاكرة لك كثيرا عطفك ورعايتك.»
ولو أن رأس المستر بكوك لم يختف بسرعة بالغة، من أثر زلة قدمه على كتف سام، لقالت أكثر من ذلك على الأرجح؛ فإن هذه الزلة هوت به فجأة إلى الأرض، ولكنه وقف على قدميه بعد لحظة واحدة، وأمر المستر ونكل بالبدار والانتهاء من هذا اللقاء الذي أراده، بينما جرى هو إلى الزقاق للحراسة والمراقبة بشجاعة الشباب وحماسته، ولم يلبث المستر ونكل بوحي الموقف، وإلهام الساعة، أن اعتلى الجدار في لحظة واحدة، فلم يتمهل إلا ريثما يطلب إلى سام أن يعنى بأمر سيده.
وأجاب سام: «سألقي بالي إليه، اتركه لي.»
وقال المستر ونكل: «أين هو؟ وماذا يفعل يا سام؟»
وأجاب سام وهو ينظر إليه من باب الحديقة: «بارك الله له في ساقيه العجوزين، إنه يراقب في الزقاق بهذا المصباح المعتم كأنه جاي فوكس،
3
ما رأيت والله مخلوقا بديعا مثله في أيامي، إني لأعتقد أن روحه لا بد من أن تكون قد ولدت بعد جسمه بخمس وعشرين سنة على الأقل.»
4
ولم يمكث المستر ونكل ليسمع هذا المديح في حق صديقه، بل هبط الحديقة من فوق الجدار، وارتمى عند قدمي أربلا، وانثنى يؤكد صدق عاطفته ببلاغة جديرة بالمستر بكوك نفسه.
وبينما كانت هذه الحوادث تجري في الهواء الطلق، كان رجل تجاوز حدود الكهولة، من ذوي العلم والمعرفة، جالسا في مكتبته، في بيت يبعد عن هذا الموضع مسافة بيتين أو ثلاثة بيوت، يكتب بحثا فلسفيا، وهو بين لحظة وأخرى يرطب صلصاله
5
وجهده بكأس من النبيذ من زجاجة محترمة الشكل موضوعة بجانبه، وكان من ألم الإنشاء ينظر حينا إلى البساط، وحينا آخر يتطلع إلى السقف، وتارة نحو الجدار، ولما لم يسعفه البساط، ولا السقف، ولا الجدار بشيء من الإلهام، مضى يطل من النافذة.
وفي إحدى هذه الفترات التي لم يهبط فيها الوحي عليه، كان مرسلا نظراته في شرود إلى الظلمة الكثيفة في الخارج، ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى نورا باهرا ينتشر في الفضاء، على مسافة قصيرة من الأرض، ثم لا يكاد ينبعث، حتى يتوارى مختفيا، ثم إذ هو يظهر مرة أخرى، وتكررت هذه الظاهرة على عينيه عدة مرات، فوضع القلم جانبا، وبدأ يفكر فيما يصح أن تكون الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر الغريبة.
لم تكن تلك الظاهرة بلا شك شهبا؛ لأنها كانت منخفضة كثيرا، ولا هي حباحب؛ لأنها عالية أكثر مما ينبغي، ولا هي يراعة ولا غاز المستنقعات ولا ذباب مضيء ولا ألعاب نارية ... فماذا يمكن إذن أن تكون؟ إنها بلا شك ظواهر طبيعية خارقة للمألوف عجيبة لم يهتد إليها فيما مضى أحد من الفلاسفة، بل هي بلا ريب شيء ظل الدهر كله مجهولا حتى يأتي هو فيكشفه للناس ويهتدي إليه، فليدون هذا الكشف في الحال لخير الأجيال القادمة وليخلد به اسمه في التاريخ.
وامتلأ خاطره حماسة لهذه الفكرة فتناول القلم مرة أخرى، وراح يدون عدة ملاحظات عن هذه الظواهر الفذة المنقطعة النظير، بالتاريخ، واليوم والساعة والدقيقة، والثانية أيضا، التي ظهرت فيها لعينيه؛ لكي تكون هذه المعلومات أساسا لبحث ضخم، ودراسة واسعة، وعلم عميق، يدهش علماء الأرصاد جميعا في مختلف بقاع العالم المتحضر.
وأسند ظهره إلى مقعده الرحيب، واستغرق في تخيل المستقبل العظيم الذي ينتظره، وإذا ذلك النور الغريب يعود أقوى من قبل، ويبدو متراقصا في الزقاق، رائحا غاديا فيه، متحركا في فلك عجيب كالمذنبات ذاتها.
وكان هذا العالم أعزب، لا زوجة له حتى يناديها ويثير دهشتها، فلم يسعه إلا أن يدق الجرس لخادمه.
قال: «اسمع يا برفل، إن ثمة شيئا خارقا للمألوف يبدو في الفضاء الليلة، فهل رأيت ذلك الشيء الذي يلوح أمامك؟»
وأشار العالم وهو قائم عند النافذة إلى النور حين عاد إلى الظهور.
وأجاب الخادم: «أي نعم يا سيدي.» - «وما رأيك فيه يا برافل؟» - «ما رأيي فيه يا سيدي؟!» - «نعم لقد نشأت في هذا الريف، فما قولك في علة هذه الأنوار التي تبدو الآن؟!»
واستبق ذلك العالم وهو يبتسم خادمه إلى الجواب «بأنه بالطبع لا يرجعها إلى سبب ما».
وفكر الخادم لحظة، وأخيرا قال: «أظن أنهم لصوص.»
وقال العالم: «أنت مغفل، عد إلى مكانك.»
وأجاب برفل: «شكرا لك يا سيدي.» وانصرف.
ولكن ذلك العالم ظل قلقا لا يهدأ؛ فقد خشي أن يضيع على الدنيا ذلك البحث المبتكر الذي اعتزم أن يضعه، إذا لم يقض على فكرة المستر برفل السخيفة وهي في المهد، فبادر إلى قبعته فوضعها فوق رأسه، وأسرع إلى الحديقة منتويا أن يحقق في الأمر ويتقصاه من جميع نواحيه.
وكان المستر بكوك قبيل انطلاق ذلك العالم في الحديقة، قد أسرع يقطع الزقاق لينبه رفيقيه إلى قدوم إنسان من ناحيته وإن كان في ذلك مخطئا، وجعل بين لحظة وأخرى يفتح باب المصباح، لكي لا يرتطم في الحفرة، وما كادت هذه الإشارة تبلغ سمع المستر ونكل حتى عاد يتسلق الجدار، وانطلقت أرابلا منكفئة إلى البيت، وأغلق باب الحديقة، وانثنى هؤلاء المغامرون الثلاثة يقطعون الزقاق مسرعين، وإذا هم يجفلون على مشهد هذا العالم البحاثة وهو يفتح باب حديقته.
وهمس سام، وكان بالطبع في المقدمة: «الثبات! أضئ لنا يا سيدي ثانية واحدة.»
ففعل المستر بكوك ما طلب إليه أن يفعل، وعلى الضياء الخاطف أبصر سام رأس رجل يطل بحذر بالغ، على قيد نصف ياردة منه، فأهوى على ذلك الرأس بطرقة رفيقة من قبضة يده، وجعله يحدث صوتا أجوف وهو يصطدم بالباب.
وما كاد المستر ولر ينتهي من هذه الفعلة العظيمة بمباغتة بارعة، ومهارة ظاهرة، حتى أسرع نحو المستر بكوك فاحتمله فوق ظهره، وانطلق في أثر المستر ونكل، يقطع الزقاق، بخطوات مدهشة للغاية إذا راعينا الحمل الفادح الذي كان يحمله!
ولما بلغوا ناصية الزقاق قال سام: «هل استعدت طمأنينتك الآن يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «تماما، تماما، الآن.»
وقال سام وهو ينزل الأرض: «إذن هيا بنا يا سيدي، وامش في وسطنا، فليس أمامنا إلا نصف ميل نجريه جريا، تخيل يا سيدي أنك في مباراة جري على الكأس، هلم بنا.»
وتشجع المستر بكوك بهذه العبارات فاستخدم ساقيه قدر جهده، وهنا يصح لنا أن نقرر ونحن مطمئنون أنه لم يسبق أن انطلقت ساقان في غطاء أسود تعدوان قاطعتين الأرض بمثل تلك الصورة التي انطلقت بها ساقا المستر بكوك في ذلك اليوم المشهود.
وكانت المركبة منتظرة، والخيل منتعشة، والطرق معبدة، والسائق راغبا راضيا، فوصل الجمع إلى فندق «بش» بسلام، قبل أن يسترد المستر بكوك أنفاسه.
وقال سام له وهو يعاونه على الخروج من المركبة: «ادخل في الحال يا سيدي، ولا تقف لحظة واحدة في الشارع، بعد هذا التعب.» وانثنى إلى المستر ونكل وهو ينزل من المركبة فرفع يده إلى قبعته، وقال: «عفوا يا سيدي، أرجو ألا تكون هناك علاقة سابقة؟»
وبادر المستر ونكل فتناول يد صديقه المخلص وهمس له في أذنه: «كل شيء على ما يرام يا سام، كل شيء على ما يرام.» فلم يكن من المستر ولر إلا أن ضرب أذنه ثلاث ضربات واضحة، ليوحي بأنه قد فهم المراد، وابتسم، وغمز بطرف عينه، ورفع سلم المركبة، وقد بدت على وجهه أمارات السرور البالغ والارتياح التام.
أما صاحبنا العالم العلامة فقد انكمش في بحثه الرائع للتدليل على أن تلك الأنوار العجيبة ترجع إلى تأثير الكهرباء، وأثبت صواب هذا الرأي بقوله: إن شعلة نار تراقصت أمام عينيه حين أطل برأسه من الباب، وأنه تلقى عندئذ صدمة تركته مشدوها مغشيا عليه ربع ساعة من الزمان، فكان ذلك البحث المستفيض مدعاة اغتباط عند الهيئات العلمية جميعا، وباعث ارتياح تجاوز الحدود، وعد ذلك العالم بعد ذلك، وفي الأجيال الخالفة، قطبا من أقطاب العلم، ونجما باهر الضياء.
يناديها بذلك الاسم الذي أطلق فيما مر بك على طالبي الطب بب سوير وبنجمن ألن؛ فهي شقيقة الأخير، ومعنى الاسم «الذي ينشر العظام» يعني: الجراح.
أي سيشتد غضبه فيثور ويشرب الكحول ثم يقدم على عمل جنوني.
اسم رجل حكم عليه بالموت إحراقا لوضعه مفرقعات في البرلمان الإنجليزي بقصد نسف مجلسي اللوردات والعموم وذلك في حكم الملك جيمس الأول، وما زالت بعض المدن الإنجليزية تحتفل بتلك الذكرى بإطلاق الصواريخ، فأصبح اسمه يطلق على قوة الشكيمة والفتوة.
يقصد أنه خفيف الروح له خفة الشباب.
أي جسمه؛ إشارة إلى أن الإنسان خلق من طين.
الفصل الأربعون
كيف رأى المستر بكوك مشهدا جديدا لا يخلو من طرافة، بين مشاهد الرواية الكبرى التي تمثل على مسرح الحياة. ***
وانقضت البقية الباقية من الفترة التي حددها المستر بكوك للمقام في باث دون وقوع حادث يستحق الذكر، وبدأت الدورة القضائية واستؤنفت الجلسات في ترنتي، ولم ينقض الأسبوع الأول على ابتدائها حتى عاد المستر بكوك وأصحابه إلى لندن، فقصد الأول، ومعه سام بالطبع، إلى مسكنه القديم رأسا، في فندق «جورج والرخم».
وفي صباح اليوم الثالث من وصولهما، حين أخذت ساعات الجدران كلها في المدينة تدق تسعا، على حدة، ونحو تسعمائة وتسع وتسعين في مكان ما تدق مجتمعة، كان سام يتمشى في فناء الفندق، وإذا مركبة غريبة ذات طلاء حديث العهد تتقدم نحوه، ويثب منها بخفة بالغة، سيد غريب، يبدو كأنه قد خلق للمركبة، وخلقت المركبة له، بعد أن ألقى باللجم إلى رجل بدين كان يجلس بجانبه.
ولم تكن المركبة «كارتة»،
1
ولا هي «ستانهوب»،
2
وما هي بما جرى العرف على تسميته «بدو كار»،
3
ولا بمركبة مأجورة، ولا عجلة تحمل راكبين اثنين ليس أكثر،
4
ولا هي بكابريوليه،
5
ولكنها مع ذلك كله تحوي وجها من الشبه بكل واحدة من أولئك كلها، وقد طليت بلون أصفر فاقع، بينما دهنت عجلاتها وعريشها بطلاء أسود. وقد جلس سائقها على الطريقة الرياضية الصحيحة، فوق وسائد عالية ترتفع قرابة قدمين فوق السياج، وكان الحصان المشدود إلى المركبة كميتا حسن المنظر، وإن بدا عليه شيء من الزهو والحرن والشموس، جعله متناسبا مع المركبة، ملائما لصاحبه.
أما صاحبه ذاته فرجل يناهز الأربعين، أسود الشعر ذو عارضين ممشطين بعناية، وفي بزة فاخرة، كثير الحلي، حتى لتبدو في حجمها نحو ثلاثة أمثال ما يتحلى به الرجال عادة، ويتوج ذلك كله معطف كبير غزير الوبر، وما كاد يترجل حتى دس يسراه في أحد جيبي هذا المعطف الكبير، وبيمناه أخرج من الجيب الآخر منديلا زاهيا براقا من الحرير، وراح ينفض به ذرة أو ذرتين من الغبار علقتا بحذائه، ثم طبقه في كفه ومشى متخطرا متهاديا يخترق الفناء.
ولم تفت عين سام عند نزول هذا السيد من المركبة، منظر رجل رث الثياب في معطف رمادي تجرد من عدة أزرار، كان قبل ذلك يتسكع في الجانب المقابل من الطريق، ولكنه لم يكد يرى السيد ينزل من مركبته، حتى اقترب فوقف عن كثب. وخامر نفس سام شيء من مجرد الارتياب في غرض هذا السيد من مجيئه، فاستبقه إلى الفندق، ولف لفة سريعة، ووقف في وسط فتحة الباب.
وقال الرجل ذو الرداء الوبري، بلهجة الآمر، وهو في الوقت ذاته يحاول أن يشق طريقه شقا: «والآن يا هذا!»
وأجاب سام وهو يرد الدفعة التي تلقاها مضاعفة: «والآن يا سيدي، ما الخبر؟»
وقال صاحب المعطف الخشن، وهو يرفع الصوت، وقد شحب وجهه: «لا هذر يا رجل إنه لا يجدي معي، تعال يا سماوتش.»
وزمجر الرجل الآخر ذو المعطف الرمادي، وكان قد تسلل شيئا فشيئا إلى الفناء، خلال هذا الحوار القصير: «نعم يا سيدي. ماذا حدث هنا؟»
وقال الكبير وهو يدفع سام في صدره مرة أخرى: «لا شيء غير بعض القحة من هذا الفتى.»
وعاد سماوتش يزمجر، وهو يلكز سام لكزة أخرى أشد من تلك وأقسى: «كفى يا هذا هذرا.»
وكان لهذه اللكزة الأخيرة الأثر الذي كان المستر سماوتش الخبير المجرب ينتظر منها أن تحدثه، فبينما كان سام في لهفته على رد هذه التحية يدفع جسم الرجل صوب عامود الباب، انسل الآخر إلى الفندق، فقصد إلى مكان الشراب، حيث تبعه سام في الحال بعد أن تبادل مع المستر سماوتش بضع شتائم وسباب مختارة.
وقال ذلك الكبير للفتاة الموكلة بتقديم الشراب، بلهجة خليطة بين سبهللة أهل خليج بتني ورقة أهل ساوث ويلز:
6 «طاب صباحك يا عزيزتي، أين غرفة المستر بكوك يا عزيزتي؟»
وقالت الفتاة لأحد الغلمان دون أن تتنزل من عليائها لتلقي نظرة أخرى إلى هذا المتأنق، ردا على سؤاله: «اصعد معه وأره الطريق.»
ومشى الغلام فصعد المدارج كما طلب إليه، وسار الرجل ذو الرداء الخشن في أثره، وسام وراءهما، وهو طيلة صعود السلم، يأتي بحركات وإشارات تدل على منتهى الاحتقار والتحدي والاستخفاف، مما أدخل على نفوس الخدم والمشاهدين سرورا لا يوصف. أما المستر سماوتش فقد اعتراه سعال بح صوته منه، فبقي في البهو، ولبث يتنخم ويرسل بلغما كثيرا في الردهة.
وكان المستر بكوك نائما مستغرقا في النوم حين دخل هذا الزائر المبكر الحجرة، وفي أذياله سام، فأيقظته الجلبة التي أحدثاها، وصاح قائلا من خلف أستار فراشه: «ماء للحلاقة يا سام.»
وقال الزائر وهو يسحب أحد الأستار من رأس السرير: «احلق بسرعة يا مستر بكوك، فإن عندي حكما واجب التنفيذ ضدك، في قضية باردل، ها هو ذا الحكم، من محكمة العرائض العامة، وهذه هي بطاقتي، وأظن أنك ستأتي إلى داري.» وراح يربت كتف المستر بكوك ربتة رفيقة ويلقي بطاقته فوق الطنف ويخرج سواكا
7
مذهبا من جيب صداره.
وقال نائب المأمور بتنفيذ الأحكام المدنية - فقد كان ذلك الرجل موفدا من قبله: «إن اسمي نامبي، زقاق بل، شارع كولمن.»
وأخرج المستر بكوك منظاره من تحت الوسادة ليقرأ البطاقة.
وهنا تدخل سام ولر، وكان قبل ذلك يجيل عينيه في وجه المستر نامبي وبشرته اللامعة: «هل أنت من طائفة الصاحبيين.»
8
وأجاب الرجل في غضب: «سأريك من أنا قبل أن أنتهي منك، سأعلمك الأدب يا هذا في يوم من الأيام.»
وقال سام: «شكرا، وسأفعل ذلك بك. ارفع قبعتك من فوق رأسك.»
وانثنى بهذه الكلمات يقذف بأعجب البراعة قبعة المستر نامبي إلى الجانب الآخر من الغرفة بعنف شديد كاد يجعل صاحبها يبتلع السواك الذهبي، كأن ذلك جزء من الصفقة التي جاء من أجلها.
وقال الرجل المرتبك وهو فاغر فاه ليسترد أنفاسه: «كن شاهدا يا مستر بكوك، لقد تعدى علي خادمك، في غرفتك، في أثناء تأدية وظيفتي، إنني خائف أن يلحق بي أذى، إنني أشهدك على هذا.»
وقال سام: «لا تشهد شيئا يا سيدي، أغمض عينيك كل الإغماض، سألقي به من النافذة، ولكني لا أتوقع أن يسقط من موقع مرتفع، بسبب الستر التي في الخارج.»
وقال المستر بكوك بغضب حين رأى خادمه يبدي أمارات كثيرة توحي بنية الاعتداء: «يا سام، إذا نطقت بكلمة واحدة أو أبديت أقل تدخل أو احتكاك بهذا الشخص، فصلتك في الحال.»
وقال سام: «ولكن يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «أمسك عليك لسانك، وارفع هذه القبعة من فوق الأرض.»
ولكن سام رفض بتاتا أن يفعل ذلك، وبعد أن تلقى تأنيبا شديدا من سيده، رضي الرجل؛ لأنه كان في عجلة، أن يلتقطها بنفسه، وهو يوجه إلى سام مختلف التهديدات، ولكن سام تلقاها بكل هدوء، مكتفيا بقوله: إنه إذا تكرم المستر نامبي فأعاد القبعة إلى مكانها فوق رأسه فسيطيرها عنه إلى الطرف الآخر من الأسبوع القادم. ومن الجائز أن يكون المستر نامبي قد رأى أن هذه العملية قد تجر إلى إشكال آخر، فرفض الاستماع إلى هذا الإغراء، وبادر إلى دعوة سماوتش، فأبلغه أن التنفيذ قد تم، وما عليه إلا أن ينتظر السجين حتى ينتهي من ارتداء ثيابه، وخرج يمشي مشية الخيلاء، واستقل المركبة منصرفا، والتفت سماوتش إلى المستر بكوك فطلب إليه بحدة أن يسرع ما أمكن؛ لأن لديه أعمالا كثيرة، ثم سحب كرسيا بقرب الباب فجلس فوقه حتى ينتهي المستر بكوك من ارتداء ملابسه. وذهب سام ليحضر مركبة، فلما أقبلت، انصرف الثلاثة فيها إلى شارع كولمان. وكانت المسافة لحسن الحظ قصيرة؛ لأن المستر سماوتش لم يؤت حظا وافرا من براعة الحديث، وزاد رفقته ثقلا في مكان ضيق محدود كالمركبة، ذلك الضعف الجثماني الذي أسلفنا في موضع آخر إليه وهو البلغم والسعال.
ووقفت المركبة بعد أن عطفت على شارع ضيق مظلم بباب بناء تبدو القضبان الحديدية على جميع نوافذه، وقد كتب على أعمدة بابه اسم نامبي ولقبه «نائب المأمورين بتنفيذ الأحكام في لندن». وجاء ليفتح الباب الداخلي رجل قد يذهب بك الظن حين تراه إلى أنه قد يكون هو والمستر سماوتش توأمين، وأنه هو المهمل منهما، وكان يحمل مفتاحا ضخما لهذا الغرض، وأخذ المستر بكوك إلى قاعة القهوة، وهي قاعة أمامية، كان الرمل الجديد وريح التبغ الفاسدة الخانقة أبرز معالمها. وانحنى المستر بكوك للأشخاص الثلاثة الذين كانوا جلوسا فيها عند دخوله، وأوفد سام إلى بركر وانزوى هو في ركن مظلم، وانثنى ينظر بشيء من الدهشة والفضول إلى رفقائه الجدد.
وكان أحدهم لا يعدو أن يكون فتى في التاسعة عشرة أو العشرين. ولم تكن الساعة قد تجاوزت العاشرة من الصباح، ولكنه كان يتعاطى مزيجا من «الجن» والماء، ويدخن لفافة كبيرة طويلة، ويبدو من حمرة وجهه أنه قد أدمن الشراب والتدخين في العام الماضي أو العامين الأخيرين من حياته. وكان يجلس قبالته شاب من السوقة في نحو الثلاثين من العمر، شاحب الوجه، خشن الصوت ، يلوح عليه أنه قد أوتي المعرفة بأحوال الدنيا، والتحرر الطليق من آداب السلوك فيها، وهي النزعة التي تنمو في نفوس المختلفين إلى الحانات، وعلى نضد البلياردو في الأماكن العامة، وكان يحرك النار بطرف حذائه الأيمن، بينما بدا الثالث رجلا متوسط العمر، في ثوب أسود عتيق، وهو يلوح مصفرا ناحلا بادي الإعياء، وقد مضى يذرع القاعة ذهابا وجيئة بغير انقطاع، إلا لكي ينظر بقلق شديد من النافذة كمن يرتقب أحدا من الناس، ثم يعاود المسير رواحا وغدوا في تلك القاعة.
وقال الرجل الذي كان يحرك النار وهو يغمز بعينه إلى صديقه الفتى اليافع: «يحسن بك يا مستر أيرسليه أن تستعير الموسى مني في هذا الصباح.»
وأجاب الفتى في عجلة: «كلا، أشكرك؛ لأني لن أحتاج إليها، إنني أنتظر أن أخرج بعد ساعة أو نحوها»، وعاد يمشي إلى النافذة فيطل منها، ثم يعود خائب الأمل، فيزفر من أعماق صدره، ثم ينصرف من القاعة، فلا يكاد يتوارى حتى يرسل الآخران في أثره ضحكات عالية.
وأنشأ الرجل الذي كان قد عرض الموسى عليه، وكان يدعى برايس: «لم أر شكلا كهذا في حياتي، أبدا.» ومضى يؤكد قوله هذا بالقسم والأيمان، ثم يعاود الضحك، فلم يسع الآخر غير الاشتراك فيه، وكان يظن أن رفيقه هذا من أجرأ الناس وأشدهم إقداما.
والتفت المستر برايس نحو المستر بكوك فقال: «لا أظنك تعتقد أن هذا الفتى قد مضى عليه حتى أمس أسبوع كامل في هذا المكان، لم يحلق ذقنه ولا مرة واحدة إلى الآن؛ لأنه على يقين تام من أنه سيخرج بعد نصف ساعة، وأنه يحسن تأجيل الحلاقة حتى يعود إلى بيته.»
وقال المستر بكوك: «يا له من مسكين، هل تعتقد أن أمله في الخروج مما هو فيه من المتاعب كبير إلى هذا الحد؟»
وأجاب برايس: «أتقول الأمل؟ إنه ليس له منه ولا شبحه أو ظله، بل إني لأراهن بهذا على أمله في رؤية الشارع، ولا بعد عشر سنين من هذا اليوم.»
المستر بكوك يجلس لتصويره.
قال المستر برايس هذا وهو يقرقع بأصابعه باحتقار، ويدق الجرس.
وقال للخادم الذي بدا - من ثوبه ومظهره العام - شيئا بين راع مفلس، وتاجر ماشية معدم ذهب ماله: «أعطني قطعة من الورق يا كروكي وكأسا من البراندي بالماء، هل سمعت؟ إنني أريد أن أكتب إلى أبي ولا بد لي من منعش، وإلا عجزت عن التأثير في نفس الشيخ، ولم يسعفني التعبير القوي البليغ.» ولا تحسبنا بحاجة إلى القول: «أن الشاب لم يلبث عند سماع هذه العبارات الفكهة أن كاد يختنق من الضحك.»
ومضى المستر برايس يقول: «هذا هو عين الجد. لا يأس مع الحياة. كل شيء في هذه الدنيا لهو ولعب. أليس كذلك؟»
وقال الفتى: «كلام عظيم!»
وعاد برايس يقول: «إن فيك لروحا يا فتى، لقد جربت شيئا من شئون هذه الحياة.»
وأجاب الفتى: «أعتقد أن الأمر كذلك.» فقد رأى الحياة من خلال ألواح الزجاج المغبرة القذرة في أبواب الحانات.
وشعر المستر بكوك بشيء غير قليل من الاشمئزاز من هذا الحوار، ومن لهجة المخلوقين اللذين أداراه بينهما، وطريقتهما وشكلهما، وهم بأن يسأل هل في الإمكان أن يظفر بغرفة جلوس خاصة، لولا أن دخل عندئذ غريبان آخران أو ثلاثة غرباء حسني السمت، فما أن رآهم الفتى الذي يدخن اللفافة الكبيرة حتى ألقى بها في النار، وهمس في أذن المستر برايس أنهم جاؤوا لتسوية مسألته، وانتحى بهم نضدا في الطرف الأقصى من القاعة.
ولكن الظاهر أن الأمور لم تكن موشكة على تسوية بالسرعة التي كان يتوقعها الشاب؛ لأن الحديث استطال، ولم يكن في إمكان المستر بكوك أن يتجنب سماع فقرات منه وعبارات حادة عن الإسراف في الملذات، وتكرر التغاضي والغفران. وتلتها في النهاية تلميحات واضحة من جانب أكبرهم سنا لسجن هوايت كروس ستريت، فلم يلبث الشاب عند سماع هذا الاسم أن مال برأسه على النضد، وجعل يعوي عواء محزنا مؤلما، رغم التشدق السابق بمعرفة الدنيا، والخبرة بشئون الحياة.
وشعر المستر بكوك بارتياح شديد لمشهد هذا التغير الفجائي الذي هوى بشجاعة الفتى وجرأته، وذلك الهبوط المباغت في لهجته ، فدق الجرس، وطلب غرفة خاصة، فأدخلوه في حجرة ذات بساط ونضد، ومقاعد وصوان ومتكأ، وقد ازدانت بمرآة، وعدة صور قديمة، وقد تيسر له عند جلوسه فيها الاستماع إلى عزف مسز نامبي على البيان في الغرفة التي فوق غرفته مباشرة، وبينما كان طعام الفطور يهيأ له، إذ دخل عليه المستر بركر.
وقال ذلك الرجل القصير القامة: «آها، يا سيدي العزيز. لقد وقعت أخيرا لا بأس، إنني لست على هذا الأمر آسفا؛ لأنك الآن ستدرك سخف هذا التصرف. وقد دونت عندي جملة الأتعاب والمصاريف والتعويض المحكوم بها في هذه القضية، فيحسن بنا أن نبادر إلى تسويتها ولا نضيع الوقت، وأكبر ظني أن نامبي الآن في البيت، فما قولك يا سيدي العزيز؟ هل أكتب بجملة المبلغ المطلوب صكا أم تكتبه أنت؟» ومضى الرجل القصير يفرك يديه بابتهاج مصطنع، ولكنه ما كاد يلقي نظرة على وجه المستر بكوك، حتى اضطر إلى توجيه نظرة حزينة يائسة إلى سام ولر.
وقال المستر بكوك: «لا أريد يا بركر أن أسمع بعد اليوم كلاما آخر في هذا الأمر إذا تكرمت، ولا أجد فائدة من البقاء هنا؛ ولهذا يجب أن أذهب إلى السجن الليلة.»
وقال بركر: «لا تستطيع أن تذهب إلى هوايت كروس ستريت، هذا لا يمكن مطلقا. إن في كل عنبر من عنابره ستين سريرا، والسجن يظل مغلقا ست عشرة ساعة في الأربع والعشرين.»
وقال المستر بكوك: «إني لأفضل الذهاب إلى سجن آخر إذا أمكن، فإن لم يتيسر، فلأحتمل قدر الجهد.»
وقال بركر: «تستطيع أن تذهب إلى سجن فليت يا سيدي العزيز إذا أبيت إلا الذهاب إلى محبس ما.»
وأجاب المستر بكوك: «ليكن، سأذهب إليه بمجرد فراغي من الفطور.»
وقال الوكيل الصغير الطيب القلب: «قف، قف، يا سيدي العزيز، لا موجب مطلقا لهذه العجلة الشديدة في الذهاب إلى مكان يود أكثر الناس الخروج منه متلهفين. يجب أولا أن نحصل على أمر بتسليم المسجون، ولا يتسنى وجود قاض في مكتبه قبل الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، فلا بد لك من الانتظار إلى هذا الموعد.»
وأجاب المستر بكوك بصبر لا يتزعزع: «حسن جدا فلنتناول الغداء هنا إذن في الساعة الثانية، فدبر يا سام لنا الغداء، وقل لهم: إنه ينبغي المحافظة على الموعد.»
وكذلك لبث المستر بكوك متمسكا بقراره، رغم احتجاجات المستر بركر، وجدله، وجاء الغداء، وفرغ منه، في الموعد المعين، وجاءت مركبة أخرى فاستقلها إلى دار القضاء المدني في تشانسري لين، بعد انتظار المستر نامبي ساعة أو نحوها، فقد كانت لديه مأدبة غداء خاصة، فلم يستطع أحد إزعاجه قبل الانتهاء منها بسبب من الأسباب.
وكان في المحكمة قاضيان، أحدهما لتولي دائرة الملك، والآخر لنظر القضايا العامة، وقد بدا أن أمام هذين القاضيين أعمالا كثيرة، إذا صح الاستدلال عليها بعدد كتبة المحامين الذين يدخلون سراعا، ويخرجون برزم من الأوراق والملفات.
ولما وصلوا إلى الباب القصير المقام عند مدخل المحكمة، اضطر بركر إلى الوقوف بضع لحظات للكلام مع السائق بشأن الأجرة والباقي له من النقود، بينما انتحى المستر بكوك ناحية، حتى لا يعوق سيل الداخلين والخارجين، وراح يجيل البصر فيما حوله في شيء من الفضول.
وكان أشد الناس استرعاء لاهتمامه ثلاثة أشخاص أو أربعة في بزة قديمة، وإن لبثت مقبولة الشكل، جعلوا يرفعون أكفهم إلى قبعاتهم لعديد المحامين الذين يمرون عليهم، ويبدو أن لهم عملا في أروقة المحكمة، وإن لم يستطع المستر بكوك أن يتبينه أو يحرز ماذا عسى أن يكون، فقد بدوا غريبي الشكل، غير مألوفي الصور، أحدهم ناحل البدن، أعرج قليلا، في ثوب أسود ناحل اللون، وملفعة بيضاء حول رقبته، والآخر بدين لحيم، في الزي عينه، وإن تلفع بقماش يضرب لونه إلى الحمرة، والثالث قصير يبدو عليه الإلحاح على الشراب، وتكثر البثور في وجهه. وكان هؤلاء الأشخاص يتمشون في فناء المحكمة، واضعي أيديهم خلف ظهورهم، ويهمسون بين لحظة وأخرى، واللهفة بادية على وجوههم، في أذان بعض الذين يحملون رزما من الأوراق، وهم بها مسرعون وتذكر المستر بكوك أنه كثيرا ما شاهدهم جلوسا تحت مدخل المحكمة، عندما كان يمر بها من قبل، واشتد به الفضول، وود لو يعرف إلى أي فرع من فروع المهنة يحتمل أن ينتسب أولئك المتسكعون الشعث الغبر. وهم بأن يوجه هذا السؤال إلى نامبي الذي ظل سائرا خلفه، يمص خاتما كبيرا من الذهب في خنصره، لولا أن وصل بركر مسرعا في خطوه، قائلا: إن الوقت قد أزف، وتقدم يشق الطريق، وفيما كان المستر بكوك يسير في أثره، إذ دنا منه الرجل الأعرج ورفع يده بأدب إلى قبعته، وقدم إليه بطاقة مكتوبة، فلم يشأ المستر بكوك أن يجرح إحساسه برفضها، فتقبلها بلطف منه وأودعها جيب صداره.
والتفت بركر وراءه قبل دخول أحد المكاتب ليستوثق منه أن رفقاءه يسيرون في أثره، وقال: «والآن سندخل هنا يا سيدي العزيز. آه، ماذا تريد؟»
وكان السؤال الأخير موجها إلى الأعرج، فقد اندس بينهم دون أن يشعر المستر بكوك به، فعاد الرجل يلمس قبعته بيده بكل أدب يصح أن تتصوره، وأشار إلى المستر بكوك.
وقال بركر وهو يبتسم: «كلا، كلا، لسنا بحاجة إليك يا صديقي العزيز، لا ضرورة لك.»
وأجاب الأعرج: «عفوا يا سيدي، إن هذا السيد أخذ البطاقة مني، ورجائي الانتفاع بي يا سيدي، ودع السيد نفسه يحكم في هذه المسألة، ألم تومئ إلي يا سيدي؟»
وقال بركر: «كلام فارغ، هل أومأت يا بكوك إلى أحد؟ هذه غلطة، غلطة.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يخرج البطاقة من جيب صداره: «إن السيد هو الذي قدم إلى بطاقته، فتقبلتها منه؛ لأني رأيته يرغب في ذلك. والواقع أنني كنت أشعر بشيء من الرغبة في النظر إليها عندما أتفرغ إليها، إنني ...»
فقهقه المحامي القصير ضاحكا، ورد البطاقة إلى الأعرج قائلا: إن السيد أخذها خطأ، وراح يهمس للمستر بكوك، حين تولى الرجل غاضبا: أنه ليس سوى ضامن.
وصاح المستر بكوك: «ماذا تقول؟»
وأجاب بركر: «قلت لك: إنه ضامن.»
قال: «ضامن!»
وأجاب المحامي وهو ينعش نفسه بشيء من السعوط: «أي نعم يا سيدي، إن هنا نحو ستة منهم يضمنونك في أي مبلغ كان، ولا يتقاضون منك أكثر من نصف كراون. عمل عجيب أليس كذلك؟»
9
وقال المستر بكوك وهو مبهوت مما سمعه: «يا عجبا! هل تريد أن أفهم من قولك أن هؤلاء الناس يكسبون أرزاقهم من الوقوف هنا، ليشهدوا الزور على أنفسهم أمام قضاة هذه البلاد، لقاء نصف كراون عن كل جريمة يرتكبونها؟»
وأجاب السيد القصير: «لست أعرف ما الداعي لوصف هذا الأمر بالتزوير يا سيدي العزيز، إنها كلمة قاسية يا سيدي العزيز، قاسية جدا، إن الأمر لا يعدو إجراء قانونيا يا سيدي العزيز، لا أكثر.» وهز المحامي كتفيه، وابتسم، وتناول قدرا آخر من السعوط وتقدم إلى غرفة كاتب الجلسة.
وكانت الغرفة تبدو قذرة الشكل، خفيضة السقف، قديمة الجدران، ضعيفة الضوء، حتى اقتضى الأمر إيقاد شموع فوق المناضد، في رائعة النهار، وفي طرفها الأقصى باب يؤدي إلى غرفة القاضي الخاصة، وقد ازدحم حولها جمع كثير من المحامين والوكلاء والكتبة، يدعون إلى الدخول بحسب ترتيبهم في الجدول، وكلما فتح الباب لخروج أحد، اندفع التالي له مزاحما يريد الدخول، وفضلا عن كثرة الحوار المستمر بين الذين وقفوا ينتظرون أدوارهم للمثول أمام القاضي، تقوم المشادات والمشاجرات بين أغلب الذين خرجوا من غرفته، فلا تلبث أن ترتفع الجلبة، وتختلط الأصوات، وناهيك بضوضاء كهذه في مكان ضيق محدود النطاق.
ولم تكن أحاديث أولئك الناس، الأصوات الوحيدة التي تسك المسامع، فقد وقف هنالك في منصبة صغيرة خلف حاجز خشبي، في طرف آخر من الغرفة، كاتب وضع منظارا على عينيه، لأخذ الإقرارات، حتى تجتمع أكداس منها، فيتولى كاتب آخر حملها إلى القاضي لتوقيعها منه، كما يكثر كتبة المحامين الذين يطلب إليهم حلف اليمين، ومن المتعذر من الناحية الأدبية تحليفهم جماعة، فلا غرو إذا كان ازدحامهم وتدافعهم للوصول إلى الكاتب الذي يتسلم الإقرارات منهم، أشبه بزحمة الناس على باب دار التمثيل في الليلة التي يشرفها جلالة الملك بالحضور، بينما كان موظف آخر لا يفتأ بين لحظة وأخرى يجهد رئتيه في المناداة بأسماء الذين انتهى تحليفهم اليمين، لرد الإقرارات إليهم بعد أن تم توقيع القاضي عليها، مما يثير عادة بضع مشادات ومعارك أخرى، فكان اجتماع ذلك الهرج والمرج كله في آن واحد مثار تدافع وتزاحم وجلبة يشتهي المولع بالحركة، أو النزاع إلى الهياج، أن يشهدها، ولا تزال ثمة طبقة أخرى من الناس إلى جانب من ذكرنا، ونعني بهم أولئك الذين وقفوا ينتظرون الحضور بناء على طلب مخدوميهم، وأصحاب العمل الذين هم في خدمتهم، وهي مسألة يترك فيها الخيار لمحامي الخصوم في حضورها أو الامتناع عن حضورها، والذين يتعين عليهم من وقت إلى آخر المناداة بأسماء وكلاء الخصوم؛ ليتحققوا من أنهم لم يحضروا دون علمهم. مثال ذلك أنه كان بجانب المقعد الذي جلس فيه المستر بكوك صبي من صبية المكاتب في الرابعة عشرة من العمر، وقف مستندا إلى الجدار، وقد أوتي صوتا جهيرا، وبجواره آخر من الكتبة العموميين ذو صوت خفيض.
وأقبل كاتب برزمة من الأوراق مهرولا، وراح يتفرس فيمن حوله، وإذا صاحب الصوت الخفيض يصيح بوركن واسنب والقادم الجديد يرفع عقيرته صائحا: «استمبي وديكن.»
ولكن لم يجب أحد، ولم يكد الرجل الذي دخل عندئذ يلوح لأولئك الثلاثة حتى هللوا له، وراح هو بدوره يصيح باسم مكتب محام آخر، بينما رفع آخر صوته مناديا باسم ثالث، وهكذا دواليك.
وكان الرجل الذي يضع المنظار على عينيه، مكبا طيلة الوقت على العمل، ويحلف الكتبة اليمين، دون مراعاة للنقط والفواصل بين أجزائها؛ حتى ليجري التحليف على النحو التالي:
خذ الكتاب بيمينك هذا اسمك وخطك، احلف أن ما جاء في هذا الإقرار الذي قدمته صحيح، وليعنك الله هات شلنا، يجب أن يكون معك فكة ليس عندي شيء منها.
وقال المستر بكوك: «إيه يا سام، أظنهم يعدون الصورة التنفيذية لأمر المثول أمام القاضي، الذي اصطلحوا على تسميته هابيس كوربس.»
10
وأجاب سام: «نعم، وإني لأرجو أن ينتهوا من هذا الهافهز كاركاس، فإنه لثقيل على النفس كثيرا وقوفنا هنا منتظرين، لو كنت أنا في مكانهم لانتهيت من أكثر من ستة من هذه الهافهزات كاركاسات، في هذه المدة التي استغرقها واحد منها فقط لا غير.»
ولم يقل لنا سام أي جهاز ثقيل صعب بطيء العمل بدا هذا الإجراء في خياله وتصوراته، فقد تقدم بركر في تلك اللحظة إلى المستر بكوك وانصرف به.
وتم تحرير الأوامر المعتادة، ولم يلبث شخص المستر بكوك أن عهد بحراسته إلى الشرطي ليسوق به إلى سجن فليت؛ ليحجز فيه إلى أن يتم الوفاء بالتعويض والأتعاب المحكوم بها عليه في قضية باردل ضد بكوك فيطلق عندئذ سراحه.
وقال المستر بكوك ضاحكا: «وسيستغرق ذلك وقتا طويلا، يا سام ادع لنا مركبة أخرى، وأنت يا صديقي العزيز بركر وداعا.»
وأجاب بركر: «سأذهب معك وأطمئن عليك هناك.»
وقال المستر بكوك: «إني لأفضل في الواقع ألا يصحبني أحد غير سام تابعي، وحين أستقر سأكتب إليك وأنبئك بما جرى وأنتظرك سريعا، أما الآن فإلى اللقاء.»
ودخل المستر بكوك المركبة، وكانت قد وصلت في تلك اللحظة، وتبعه الشرطي، واتخذ سام مجلسه بجانب السائق، ودرجت المركبة بهم.
ووقف بركر ليلبس قفازه وهو يقول: «يا له من رجل شاذ خارق للمألوف!»
وقال المستر لاوتن، وكان واقفا عن كثب منه: «أي مفلس عجيب تراه سينقلب يا سيدي، لسوف يتعب المأمورين في السجن ويناكفهم، بل سوف يتحداهم إذا تحدثوا عن إدانته يا سيدي.»
ولم يبد على المحامي الارتياح كثيرا لتقدير كاتبه بهذا التعبير المهني لأخلاق المستر بكوك، فقد انصرف دون أن يتنزل من عليائه إلى الرد عليه.
ودرجت المركبة في شارع فليت كما تدرج المركبات المأجورة عادة، وقال السائق: إن الخيل «تبدو أحسن سيرا» إذا وجدت شيئا أمامها (ومعنى هذا أنها كانت بلا شك تسير بسرعة خارقة للعادة إذا لم تجده)؛ ولهذا لبثت سائرة خلف عجلة نقل، كلما وقفت العجلة وقفت، وكلما انطلقت انطلقت في أثرها، وكان المستر بكوك يجلس قبالة الشرطي الموكل بحراسته، وجلس هذا واضعا قبعته بين ركبتيه، وهو يرسل صفيرا منغما، وينظر من النافذة.
ويقول المثل: إن الزمن يحدث العجائب، فلا عجب إذا كان نفس الشيخ بكوك، وقوته في مد يد المعونة لتلك المركبة العتيقة، قد أعانها على قطع أكثر من نصف ميل من الأرض. ووقفت أخيرا بهم، أمام باب سجن فليت، فنزل منها المستر بكوك، وتقدم الشرطي نحو الباب، وهو ينظر من فوق كتفه ليطمئن إلى أن الشخص الذي وكل إليه أمره في أثره، وعطف يسرة بعد اجتياز الباب، ومرأ من آخر يفضي إلى رواق، ومنه إلى باب ضخم مقابل للباب الأول الذي دخلا منه، وكان على حراسته بواب ضخم يحمل المفاتيح، فدخلا منه إلى الفناء، حيث وقفا ريثما يسلم الشرطي أوراقه، وعندئذ أبلغ المستر بكوك أنه سيبقى ريثما يتم الإجراء الذي يعرفه الحديثو العهد بدخول السجون، وهو «الجلوس لأخذ الصورة!»
وقال المستر بكوك مندهشا: «لأخذ صورتي؟»
وقال الرجل الضخم حامل المفاتيح: «لمجرد تحقيق الشخصية يا سيدي، نحن هنا مهرة بارعون فيه، ننتهي منه سريعا، وهو في جميع الحالات مضبوط دقيق، تقدم يا سيدي واشعر بأنك في بيتك، وخذ راحتك.»
ولبى المستر بكوك الدعوة، وجلس فوق مقعد، وهمس المستر ولر وهو يتخذ موقفه خلفه، أن أخذ الصورة، هو مجرد اصطلاح لعملية فحص وتشبيه، يتولاهما الحراس، حتى يميزوا المساجين من الزائرين.
وقال المستر بكوك: «حسن يا سام، ليت هؤلاء الفنانين يأتون على عجل، فإن هذا الموضع يبدو لي أقرب شيء إلى محل عام.»
وأجاب سام قائلا: «لا أظنهم سيتأخرون كثيرا، إن في السجن ساعة هولندية يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هذا ما تنبهت إليه.»
وقال سام: «قفص عصفور يا سيدي وجدران في جوف جدران. وسجن داخل سجن. أليس كذلك يا سيدي؟»
وبينما كان المستر ولر يبدي هذه الملاحظة الفلسفية، إذ شعر المستر بكوك بأن العملية ابتدأت، فقد أعفى الحارس الضخم من حراسة الباب، وجاء فجلس وراح ينظر إليه بغير اكتراث من وقت إلى آخر، بينما تقدم رجل طويل نحيل فأخذ منه مكانه وألقى يديه تحت أذيال سترته، ووقف قبالة المستر بكوك وتفحصه مليا، وأقبل ثالث يلوح العبوس على سحنته ويبدو كأنه يتناول الشاي فأغضبه أن يقوم عنه، ولا يستكمل تناوله؛ لأنه جاء يلوك آخر فضلة من خبز وزبد بقيت أمامه، فوقف على كثب من المستر بكوك ووضع يديه فوق حقويه، وأطال البصر فيه مدققا متفحصا، بينما اختلط بالجمع آخران فتفرسا في معارف وجهه، وقد بدا التدقيق والتفكير على وجهيهما، ولبث المستر بكوك يتململ في مجلسه من ضيقه بهذه العملية، وهو يجلس قلقا في مقعده، وإن لم يبد أية ملاحظة لأحد، حتى ولا لسام نفسه، الذي استند إلى ظهر المقعد ساهما، يفكر حينا في موقف سيده، وحينا آخر في السرور الشديد الذي كان يشعر به لو أنه انقض على أولئك الحراس المجتمعين في ذلك الموضع، واحدا بعد الآخر، لو أن القانون يجيز له ذلك، ولا خطر يعود عليه منه.
وبعد لأي انتهى «التشبيه»، وقيل للمستر بكوك: إنه قد آن له أن يدخل السجن.
وقال المستر بكوك: «وأين تراني سأبيت الليلة؟»
وأجاب الحارس الضخم: «لا أدري شيئا في الواقع عن مبيتك الليلة، أما غدا فسوف تنضم إلى أحد المساجين، فتستقر عندئذ وتستريح، إن الليلة الأولى هي دائما الليلة التي لا يتواتى فيها الاستقرار، ولكنك ستطمئن إلى المقام غدا.»
ولكن تبين بعد طول المناقشة والبحث أن عند أحد حملة المفاتيح فراشا للإيجار، وفي وسع المستر بكوك أن يستأجره تلك الليلة، فوافق بسرور على استئجاره.
وقال الرجل: «إذا أتيت معي أريتكه في الحال، إنه ليس موضعا فسيحا، ولكنه يصلح للنوم، لا شك في ذلك. من هنا يا سيدي.»
واجتاز الرجل به بابا كبيرا داخليا، ثم هبط بضعة مدارج، وأدار الحارس القفل على أثر اجتيازها، وإذا المستر بكوك يجد نفسه لأول مرة في حياته داخل جدران سجن المدينين.
مركبة ذات عجلتين يجرها جواد واحد (gig) .
مركبة مكشوفة خفيفة ذات عجلتين أو أحيانا ذات أربع عجلات، وقد نسبت إلى المخترع اللورد ستانهوب، وقد آثرنا أن نبقي هذه الأسماء الأجنبية كما هي للتمييز بينها.
dog-cart .
chaise-cartcabriolet .
cabriolet .
أي: بين لهجة نزلاء السجن الذين يقيمون في مستعمرة خليج بتني في أستراليا وبين لطف نزلاء مستعمرة ويلز الجنوبية الجديدة. والمراد التلطف المتكلف من شخص غير مطبوع عليه.
خلة لتسليك الأسنان.
طائفة دينية تدعى «الكويكرز» أو الأصحاب، أسسها جورج فوكس (1648-1650)، وهي تنادي بالتقشف والبساطة في الملبس والكلام ولا تؤمن بالألقاب، ولعل سام هنا أراد أن يصف الضابط بأنه غير مكترث بالمجاملة.
يشبه هذا العمل ما يقوم به «شيخ الحارة» للإفراج عن الأفراد، بعد أن يضمنهم. “habeas corpus”
عبارة لاتينية معروفة في القانون، معناها «خذ جسمي أو اعتقل شخصي»، ونطقها سام بالإنجليزية خطأ “have-his-carcase” ، ولا بد من تحرير أمر به قبل تسليم شخص للسجن، وقد صدر به قانون قديم إلى عهد الملك شارلز الثاني عام 1679، وينص هذا القانون على ألا يسجن شخص بغير إذن من القاضي.
الفصل الحادي والأربعون
يصف ما جرى للمستر بكوك حين دخل سجن فليت والسجناء الذين رآهم فيه، وكيف قضى الليلة الأولى. ***
وعطف المستر توم روكر - وهو السيد الذي رافق المستر بكوك إلى السجن - يمنة حين بلغ بداية ذلك السلم القصير، وتقدم من خلال باب حديدي مفتوح، فصعد سلما قصيرا آخر، يفضي إلى ممر ضيق طويل، امتلأ بالأقذار، وانخفض سقفه، ورصفت بالحجارة أرضه، ولا يدخله النور إلا خافتا ضعيفا، من نافذة عند كل طرف من طرفيه المتباعدين.
وقال الرجل وهو يدس يديه في جيوبه، وينظر بقلة مبالاة ومن فوق كتفه إلى المستر بكوك: «هذا هو السلم المؤدي إلى الردهة.»
وقال المستر بكوك: «أوه، أهو حقا»، وراح يلقي نظرة على درج مظلم قذر، يفضي إلى صف من القباب الرطبة الكئيبة المنظر، القائمة تحت الأرض، وأنشأ يقول: «أظن هذه هي الحجرات الصغيرة التي يحفظ السجناء فيها القليل مما لديهم من الفحم. هذه أماكن لا يسر أحدا النزول إليها، ولكني أعتقد أنها مريحة للغاية.»
وأجاب الرجل: «نعم، لست أعجب من أن تكون مريحة، بعد أن رأيت فريقا قليلا من الناس يعيشون فيها ويجدون الراحة والدفء، هذه هي السوق يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أتقصد حقا يا صديقي أن تقول: إن المخلوقات البشرية تعيش في هذه المحابس البشعة؟»
وأجاب المستر روكر بدهشة مزيجة بغضب: «ألم أقل ذلك، ولماذا لا أقوله؟»
وقال المستر بكوك مبهوتا: «يعيشون! يعيشون فيها!»
وأجاب المستر روكر : «نعم، يعيشون فيها ويموتون أيضا في أغلب الأحيان، أي شيء في هذا؟ ومن الذي يعترض عليه؟ نعم والله يعيشون فيها! وإنها لمكان طيب يعاش فيه. أليس كذلك؟»
والتفت الرجل بانفعال شديد إلى المستر بكوك ومضى يتمتم في هياج ظاهر بعبارات مستهجنة في حق عينيه هو وأوصاله ودمه، فرأى الشيخ أنه من الخير ألا يواصل الحديث أكثر من ذلك الحد، وبدأ المستر روكر يصعد سلما آخر لا يقل قذارة عن سابقه الذي كان يدور الجدل حوله، وتبعه المستر بكوك وسام وراحا يصعدان في أثره.
ووقف المستر روكر ليسترد أنفاسه عند وصولهم إلى ممر آخر ضيق مستطيل، كالذي اجتازوه من قبل وقال: «هذا هو موضع قاعة القهوة، والطابق الذي فوقه هو الثالث، والذي بعده هو الأخير، والغرفة التي ستنام الليلة فيها هي غرفة السجان وهي من هنا. تقدما.»
ومضى المستر روكر بعد أن قال ذلك كله في نفس واحد، يصعد درجا أخرى، وهما يتبعانه، وكانت هذه الدرج تتلقى النور من عدة نوافذ قائمة على ارتفاع قليل من الأرض، وتطل على ساحة مفروشة بالحصباء يحدها جدار شاهق، تحمي قمته قضبان من الحديد مصبوبة في الخشب. وبدا من كلام المستر روكر أن تلك الساحة ميدان للكرة التي يتقاذفها اللاعبون بالمضارب، وتبين فيما بعد من أقوال هذا السيد ذاته أن هناك ساحة أخرى أصغر منها في ذلك الجزء من السجن، وهو أقرب أجزائه إلى شارع فرنجدن، وأنها تدعى الأرض المصورة؛ لأن جدرانها كانت يوما مزدانة برسوم لعدة بوارج حربية ناشرة الأشرعة، وغيرها من الصور التي اعتاد رسام في السنين الخالية كان سجينا في ذلك المحبس أن يرسمها على تلك الجدران في ساعات فراغه.
وبعد أن فرغ الدليل من سرد هذه المعلومات لينفس عن صدره بعض العلم الخطير الذي أوتيه، لا لتعليم المستر بكوك ما لم يعلم، انطلق بهما في ممر آخر، حتى انتهى أخيرا إلى ردهة صغيرة في طرفه الأقصى، ثم فتح بابا، وكشف عن غرفة لا يغري منظرها بالدخول، وهي تحوي ثمانية سرر حديدية أو تسعة.
وقال المستر روكر وهو يمسك بالباب بعد فتحه، وقد التفت نحو المستر بكوك التفاتة انتصار: «هاك غرفة طيبة.»
ولكن وجه المستر بكوك، عندما بدا له مكان مبيته، لم يكن يوحي بشيء كثير من الارتياح، فالتفت المستر روكر إلى سام ولر ليرى أثرا من الشعور المتبادل، وكان هذا قد التزم إلى هذه اللحظة الصمت، وأخلد إلى الرزانة والوقار.
وقال المستر روكر: «هذه غرفة، ولا كل الغرف، أيها الشاب.»
وأجاب سام بإيماءة هادئة من رأسه: «إني أراها.»
ومضى المستر روكر يقول ببسمة رضى واغتباط: «لا يمكنك أن تحلم بأنك واجد مثلها ولا في فندق فرنجدن. هل يمكن؟»
ورد المستر ولر على هذا الكلام بإغماض إحدى عينيه بسهولة، ودون تكلف، وهي إغماضة يحتمل أن يؤخذ معناها على أنه يمكنه أن يحلم، أو على أنه لا يمكنه، أو على أنه ما فكر ولا حلم بشيء كهذا إطلاقا، أو حسبما يتصور خيال القائل. وبعد أن أدى المستر ولر هذه الحركة، وفتح عينه، انثنى يسأل المستر روكر أي سرير من هذه الأسرة كان يعنيه بذلك المديح الذي وصفه به؟
وأجاب المستر روكر وهو يشير إلى سرير علاه الصدأ، في ركن من الحجرة: «هو هذا، إنه ليجعل الإنسان يستغرق في النوم حالا، سواء أراده أو لم يرده.»
ونظر سام مليا إلى ذلك السرير نظرة اشمئزاز متناه، وقال: «أحسب أبا النوم
1
لا يعد شيئا مذكورا إذا قورن به.»
وقال المستر روكر: «لا يذكر مطلقا إذا قورن بها.»
وقال سام وهو يلقي نظرة جانبية إلى سيده كأنما يريد أن يتبين هل بدت عليه أمارات تردد تثنيه عن عزمه: «وأظن أن الآخرين الذين ينامون هنا من السادات المهذبين؟»
وقال المستر روكر: «لا أحد سواهم، ومنهم واحد يتناول اثني عشر فنتا من الجعة في اليوم، ولا يكف عن التدخين، حتى في أثناء تناول وجباته.»
وقال سام: «لا بد أنه شخص من الطراز الأول.»
وأجاب المستر روكر: «من الدرجة الأولى.»
ولم يضطرب جأش المستر بكوك من شيء بعد كل هذا الذي سمعه، بل ابتسم وهو يعلن أنه معتزم أن يختبر مدى تأثير هذا السرير «المخدر» في تلك الليلة. وبعد أن أبلغه المستر روكر أنه حر في الإيواء إلى الراحة في أي ساعة يراها، دون إعلان سابق أو أي إجراء شكلي، انصرف تاركا المستر بكوك وسام واقفين في الممر.
وكان الظلام قد بدأ، أو بعبارة أخرى، كان قد أضيء في ذلك المكان بضع ذبالات من الغاز، لا يمكن مطلقا أن تسمى نورا، إلا على سبيل المجاملة للمساء الذي حل في الخارج. وكان الجو أميل إلى الدفء، فعمد بعض النزلاء في الغرف الصغيرة المتعددة التي تفتح على جانبي ذلك الممر، إلى ترك أبوابها مفتوحة قليلا فجعل المستر بكوك يلقي نظرات عجلى عليها وهو يجتازها، في دهشة بالغة، وفضول كبير، فأبصر بأربعة رجال ضخام الأبدان أو خمسة، لا يكادون يتراءون في وسط غمامة كثيفة من دخان التبغ، وهم مشتبكون في حديث صاخب شديد الجلبة، عاكفون على جرار من الجعة لم يبق فيها غير أنصافها، أو يلعبون الميسر بورق قذر. وفي الغرفة المجاورة قد تلم العين بنزيل خلا إلى نفسه وراح على ضياء خافت منبعث من شمعة صغيرة يكب فوق رزمة من الأوراق الملطخة الممزقة، اصفرت من الغبار، وذبلت من البلى، وهو يكتب للمرة المائة، عرائض موجهة إلى عظيم لن تصل إليه، ولن تبلغ عينيه، أو لن يتأثر منها فؤاده. وفي غرفة ثالثة رجل وامرأته وطائفة من أولادهما، وهو يعد فراشا صغيرا فوق الأرض أو على بضعة مقاعد؛ ليبيت عليه الصغار من أولاده. وفي الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، ترتفع الجلبة، وتعبق رائحة الجعة، وتتعالى ذوائب التبغ، وتترامى أوراق اللعب مرة أخرى وهي أقوى مما شاهده من قبل.
وفي الممرات والدهاليز ذاتها، وخاصة فوق مدارج السلم، يتسكع فريق كبير من الناس، جاء بعضهم إليها؛ لأن غرفهم خاوية خالية من الأنيس، وآخرون منهم جاءوا لأن غرفهم كانت ملأى برفقائهم، شديدة الحر عليهم، وأغلبهم أتوا من القلق والضيق والضجر؛ لأنهم لم يؤتوا سر العلم بالوسائل التي يصح أن يستعان بها لتوطين النفس على ما هم فيه، أو معرفة ماذا هم صانعون بأنفسهم، وقد اختلف النزلاء صنوفا، وتباينوا طبقات، من العامل البادي في الجلباب الفضفاض، إلى المسرف المتلاف المحطم في قميص النوم الصوف، الذي يلوك المرفق خارجا من كمه، وإن تشابهوا جميعا في النظرة، وتماثلوا جملة في السمات، فقد كان كل منهم يبدو القلق المستخف المتعاظم، المتشرد الذي تلوح سمات الخوف على معارفه، ولا تستطيع الكلمات أن تصفه، وليس في إمكان اللغة التعبير عنه، ولكن في وسع أي إنسان أن يدرك حقيقته إذا شاء يوما أن يدركها، بدخول أقرب سجن للمدينين منه، والنظر إلى أول جمع من السجناء تقع عينه عليهم، بذلك الاهتمام الذي كان المستر بكوك ينظر به إليهم.
وقال المستر بكوك وهو يستند إلى السياج الحديدي القائم على رأس السلم: «يخيل إلي يا سام أن السجن للعجز عن أداء الدين ليس عقابا قط؟»
وأجاب المستر ولر: «ألا تظن أنه كذلك يا سيدي؟»
وقال المستر بكوك: «ألا ترى كيف يشرب هؤلاء الناس ويدخنون ويصخبون؟ يستحيل أن يكونوا مكترثين كثيرا بالسجن»
وأجاب سام: «آه! هذه هي الحقيقة تماما يا سيدي. أي نعم، إنهم غير مكترثين بالسجن، فهو فسحة في نظرهم، وأيام عطلة وفراغ، كلها شراب وسكر، ولعب. ولكن هناك آخرين، وأعني بهم أولئك الذين حطمهم السجن، وملوا المقام فيه، أولئك الذين انكسرت قلوبهم، فلا يتعاطون جعة، ولا يشتركون في لعب، أولئك الذين يودون أن يدفعوا ما عليهم لو استطاعوا، وتنقبض نفوسهم من الحبس، سأقول لك القصة تماما يا سيدي. الواقع أن الذين يقضون كل أوقاتهم في الحانة، لا يصيبهم السجن بأي ضرر، ولكن الضرر الشديد يصيب الذين لا ينقطعون عن العمل إذا استطاعوا. إن هذا ليس مساواة، كما اعتاد والدي أن يقول كلما وجد أن الكأس لا تحوي النصف شرابا والنصف الآخر ماء أي «بالتساوي»، وهذا هو العيب في الحياة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك بعد أن فكر قليلا وسرح مع خاطره: «أظن أنك على صواب يا سام ، عين الصواب.»
ومضى المستر ولر يقول في لهجة المفكر المتأمل: «وقد تصادف من حين إلى آخر أناسا أشرافا يحبون السجن، ولكني ما سمعت في حياتي شيئا يشبه قصة ذلك الرجل الصغير البدن القذر السحنة الذي يرتدي سترة رمادية، ولكن سر ذلك يرجع إلى تأثير العادة.»
وسأل المستر بكوك: «ومن يكون ذلك الرجل؟»
وأجاب سام: «هذه هي النقطة، بالذات، التي لم يعرف أحد يوما سرها.» - «ولكن ماذا فعل؟»
وأجاب سام: «فعل ما فعله خلق كثير أوفر علما ومعرفة في أيامهم يا سيدي، جرى في مباراة مع الشرطي وكان الفائز فيها.»
وقال المستر بكوك: «وبعبارة أخرى أظنك، تعني أنه استدان.»
وأجاب سام: «تماما يا سيدي، هو هكذا، وعلى مر الزمن كانت النتيجة أنه جاء إلى هنا بسبب هذه الاستدانة، ولم يكن الدين كبيرا، كله تسعة جنيهات، مضروبة في خمسة نظير الأتعاب والمصاريف، ولكنه بقي هنا سبع عشرة سنة، وإذا كانت الغضون قد ظهرت على وجهه من طول السنين، فقد تراكم عليها القذر فأوقفها، فإن ذلك الوجه القذر، والسترة الرمادية، بقيا إلى النهاية كما كانا من البداية، وكان الرجل مخلوقا وديعا مسالما لا يعرف العدوان على أحد، وكان لا ينقطع عن الحركة والتنقل بحثا عن أي إنسان أو يلعب الكرة ولا يكسب أبدا، حتى أصبح الحراس والسجانون في النهاية يحبونه، فجعل يقضي كل ليلة في «عنبرهم»، يتحدث معهم، ويقص النوادر عليهم، وما أشبه ذلك. ففي ذات ليلة كان في العنبر كالعادة، مع صديق قديم له من بينهم، وإذا هو بغتة يقول له: لم أر السوق القريبة منا «يا بل» - وكانت سوق «فليت» في ذلك المكان وقتئذ - لم أرها من سبع عشرة سنة. وأجابه السجان وهو يدخن في قصبته، أعرف ذلك، فعاد يقول له: أود أن أراها ولو لحظة واحدة «يا بل»، وقال السجان، وهو يدخن بشدة، ويأخذ أنفاسا قوية منها، ليوهمه أنه لا يفهم مراده: مرجح جدا، ولكن الرجل قال في لهجة مباغتة أشد من قبل: لقد خطرت الفكرة في رأسي، دعني أشهد الشوارع العامة مرة قبل أن أموت، وسأعود بعد خمس دقائق بالضبط إذا لم يصبني صرع فيمنعني من المجيء في الموعد. وقال السجان: وماذا يكون مصيري إذا أصابك الصرع بالفعل؟ وأجاب ذلك المخلوق الصغير الجسم: سيعيدني إلى مكاني من يجدني؛ لأن بطاقتي في جيبي يا بل - رقم (20) الدور المخصص لقاعة القهوة. وكان هذا هو الواقع فعلا حتى لقد اعتاد كلما أراد التعرف بأي وافد جديد، أن يخرج بطاقة صغيرة بالية من جيبه كتبت عليها هذه العبارة ذاتها دون شيء آخر؛ ولهذا لقب الرجل بقولهم: رقم (20). ونظر السجان طويلا إليه ثم قال أخيرا بلهجة جد شديد: اسمع يا عشرين! سأثق بكلمتك، فلا توقع صديقك القديم في مصيبة. وقال السجين: كلا يا بل، أعتقد أن لدي شيئا أفضل خلف هذا. وراح يضرب رأسه الصغير بكفه ضربة شديدة، وعندئذ انحدرت دمعة من كل عين من عينيه، وكان ذلك شيئا خارقا للمألوف؛ لأن وجهه لم يعرف الماء من زمن بعيد، وأمسك بيد السجان فهزها وانطلق.»
وهنا قال المستر بكوك: «ولم يعد مطلقا.»
وأجاب المستر ولر: «أخطأت لأول مرة يا سيدي، فقد عاد قبل الموعد بدقيقتين، وهو يكاد يتميز من الغيط قائلا: إنه أوشك أن يسقط تحت عجلات مركبة أجرة؛ لأنه لم يعتد الزحام، وأنه سيكتب إلى محافظ المدينة. ولكنهم في النهاية هدأوا خاطره، حتى سكن غضبه، وظل خمس سنوات بعد ذلك لا يطل يوما على الشارع من باب السجن.»
وقال المستر بكوك: «وأحسبه قضى نحبه بعد ذلك.»
وأجاب سام: «كلا، لم يمت يا سيدي، فقد اشتدت به اللهفة على الذهاب ليذوق طعم الجعة في حانة جديدة على الطريق، وكان محل الشراب لطيفا فراقه، حتى لقد جعل يتلهف على الذهاب إليه في كل ليلة، وكان له ما أراد، ولبث على هذا النحو عهدا طويلا، وكان يعود في كل مرة قبل إغلاق الباب بربع ساعة، وقد استمتع بدفء طيب، ولذة هنية، وأخيرا بدأ يأنس للحانة ويسكن إلى الجلوس فيها، حتى أخذ ينسى الوقت، ولا يبالي مر الساعات ، ويعود متأخرا شيئا، فشيئا إلى أن كان صديقه الحارس يهم ذات ليلة بإغلاق الباب، ويدير المفتاح في القفل، وإذا هو يصيح قائلا: انتظر يا بل لا تغلق الباب، وقال السجان: ماذا أرى؟ ألم تعد حتى الآن يا عشرون؟ لقد اعتقدت أنك عدت من وقت طويل. وأجاب الرجل الصغير الجسم مبتسما: كلا لم أعد. ففتح الحارس الباب بكل بطء وهو عابس غاضب وقال: إذن دعني أصارحك يا صاحبي برأيي: ما دمت في الأيام الأخيرة قد أخذت تجالس قرناء السوء وهو أمر لاحظته عليك مع الأسف الشديد، فلا أريد أن أتخذ معك إجراء قاسيا، ولكن إذا لم تلزم الجلوس مع الناس الطيبين، وتعد في الموعد تماما، وتتأكد أنك ستواظب عليه كما أنت متأكد الآن أنك واقف على رجليك، فلن أفتح لك الباب إطلاقا. فلم يكد الرجل يسمع هذا القول من سجانه حتى انتابته رعشة بالغة، فلم يغادر السجن بعد ذلك أبدا.»
وما أن فرغ سام من هذه القصة، حتى أخذ المستر بكوك يعود أدراجه في رفق إلى الطابق الذي تحته. وبعد بضع جولات في «أرض الصور» وكانت مهجورة أو تكاد؛ لأن الظلام كان قد ساد، أشار للمستر ولر أنه قد حان أن ينصرف ليقضي الليل في الخارج، وطلب إليه أن يلتمس له فراشا في بعض الفنادق القريبة، ويعود في بكرة الصباح؛ ليتفقا على نقل ثياب سيده من فندق «جورج والرخم». وكان المستر صمويل ولر على استعداد لتلبية هذا الطلب، بكل هدوء استطاع التظاهر به، ولكنه مع ذلك أبدى شيئا كثيرا من التمنع والتردد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فراح يلمح عدة تلميحات بأنه سوف يرقد فوق الحصباء حتى ينقضي الليل ولكنه وجد المستر بكوك مصرا على انصرافه، غير ملق أذنا إلى اقتراحاته، فاضطر أخيرا إلى الانصراف.
ولسنا نخفي عليك أن المستر بكوك أحس انقباضا شديدا، وانزعاجا بالغا، لا من الوحشة، فقد كان السجن يعج بالناس، وتكفي زجاجة واحدة من النبيذ للظفر بأطيب الأنس، وأحسن الجلسات، إلى نخبة مختارة من السمار، دون حاجة إلى تكاليف التعارف، ومؤونة الرسميات، ولكن سبب انقباضه أنه كان وحيدا في وسط هذا الزحام من السوقة، فأحس بضيق وألم موجع للقلب، وهو نتيجة طبيعية للتفكير في أنه بات سجينا مقيدا محتجزا لا أمل له في الخلاص، ولكن فكرة إطلاق سبيله من ناحية الرضا بخبث أساليب ددسن وفج، والاستكانة إليها، لم تدر في خلده لحظة واحدة.
وعاد إلى الممر الذي تقع فيه قاعة القهوة، وهو على هذه الحال من التفكير، وراح يمشي الهوينا ذهابا وجيئة، وكان ذلك الموضع قذرا إلى حد لا يطاق، وريح التبغ المتصاعدة خانقة، ولا تنقطع أصوات إغلاق الأبواب وفتحها بعنف، لكثرة الخارجين منها والداخلين، وكانت جلبة أصواتهم ومواقع أقدامهم مترددة الأصدية في ذلك الممر بغير انقطاع، ورأى شابة تحمل طفلا بين ذراعيها، وهي لا تكاد تقدر على الدبيب من فرط النحول، وشدة البأساء، وهي رائحة غادية في الممر تتحدث إلى زوجها؛ لأنه لا يجد مكانا آخر يتيسر له فيه الالتقاء بها، وفيما كانا يمران قبالته، سمع نحيب المرأة، وما كادت تستسلم على هذا النحو للأسى، حتى اضطرت إلى الاستناد إلى الجدار حتى لا تخر مغشيا عليها، بينما أخذ الرجل الطفل بين ذراعيه وحاول تسرية الهم عنها.
وإزاء هذا المشهد لم يطق المستر بكوك صبرا من شدة تأثره، فصعد السلم إلى مرقده.
ولئن كانت غرفة السجان أخلى ما تكون من وسائل الراحة؛ لأنها شكلا وموضوعا أقل مئات المرات من أي سجن في الريف أو ملجأ للعجزة، فقد كانت مزيتها في تلك الحال الراهنة أنها مهجورة لا تحوي أحدا غير المستر بكوك نفسه، فلا تعجب إذن له إذا ما جلس عند قدم السرير الحديدي الصغير ومضى يسائل خاطره، كم ترى هذا السجان يجمع في العام الواحد من تأجير هذه الغرفة القذرة؟ وبعد أن أقنع نفسه، بعملية حسابية، بأن إيرادها السنوي يكاد يعادل أجر عقار في شارع صغير في إحدى ضواحي لندن، انتقل إلى العجب من ذبابة سوداء أخذت تدب فوق سراويله، وماذا الذي أغراها بالمجيء إلى سجن حقير كهذا، وأمامها الفضاء الطليق، والأفق الرحيب تطير فيه كيف تشاء، وهو سبيل من التفكير أدى به إلى استنتاج لا يمكن مقاومته، وهو أن هذه الذبابة لا بد مجنونة، وما أن استقر هذا الرأي لديه، حتى بدأ يحس أن النوم آخذ بمعاقد جفنيه، فأخرج غطاء الرأس من الجيب الذي لم ينس في الصباح أن يدسه فيه احتياطا، وبدأ برفق وأناة يخلع عنه ثيابه، ويدخل الفراش، ويستسلم للنعاس.
ولم ينقض نحو ربع ساعة في نعاس عميق كذلك السبات الذي يخيل للنائم أنه استطال به ثلاثة أسابيع، أو سلخ فيه شهرا كاملا، حتى استيقظ على صيحات تقول: «مرحى، رأسا على عقب! وأقسم! يا زفير! اللعنة علي إذا لم تكن دار التمثيل هي نصف الكرة المناسب لك! ألق بالك منها! مرحى!»
وتلت هذه العبارات الصخابة عاصفة من الضحكات.
وما كاد هذا الصوت ينقطع حتى ارتجت الحجرة رجة عنيفة تركت نوافذها تتخبط في أطرها، والسرر ترجف في مواضعها، فاستوى المستر بكوك جالسا في فراشه، ولبث بضع دقائق مستغرقا في عجب صامت من المشهد الماثل أمام عينيه.
فقد رأى على أديم الغرفة رجلا في سترة خضراء عريضة الحاشية، وسراويل من المخمل إلى الركبة، وجورب أسود من القطن، يرقص على النغم رقصة شعبية شائعة، في صور وأشكال مضحكة، وحركات هزلية ماجنة، اقترنت بغرابة ذلك الزي المستنكر الذي بدا فيه، فجعل مشهده نابيا إلى حد لا يوصف، وكان ثمة رجل آخر، يظهر أنه في سكر بين، ويغلب على الظن أن رفاقه هم الذين احتملوه بينهم، فألقوه فوق السرير، ولكنه ما لبث أن استوى جالسا فوقه، بين الأغطية وراح يغني ما استطاعت ذاكرته أن تستعيده من أغنية هزلية، وهو منطلق في الغناء بكل وجدانه، كما شهد رجلا ثالثا قد جلس فوق السرر يصفق للراقصين والمغني تصفيق الخبير العريف، ويشجعهما بأمثال تلك الصيحات المدوية التي أيقظت المستر بكوك من نومه.
وكان ذلك الرجل الأخير نموذجا بديعا من طبقة مهذبة لا ترى أبدا في أكمل أشكالها، وأتم مظاهرها، إلا في هذه الأماكن وأشباهها. ومن الجائز أن تشهدها العين، في صورة غير كاملة، بين حين وآخر حول مرابط الخيل والحانات العامة، ولكنها في هذه الأحوال لا يمكن أن تبلغ ذروة تفتحها وإيناعها، إلا في هذه الحياض الدافئة، والمنابت الحارة، التي يكاد يذهب بنا الظن إلى أن التشريعات والقوانين لم تكفلها إلا لغرض واحد، وهو تنمية تلك الأكمام فيها.
وكان الرجل مرهف العود، زيتوني اللون، ذا شعر فاحم أثيث، وعارضين كثيفين مشجرين يتلاقى طرفاهما تحت ذقنه، ولبس حول عنقه ملفعة، فقد كان يلعب الكرة طيلة النهار، وكان قميصه مفتوحا منحسرا عن عنق ضخم ممتلئ، وفوق رأسه قبعة من النوع الفرنسي الشائع الذي لا يساوي أكثر من ثمانية عشر بنسا، لها طرة أو ذيل متدل منها، وهي لحسن الحظ موائمة كل المواءمة لسترته المستطيلة إلى الركبتين. وكانت ساقاه طويلتين مصابتين من طولهما بوهن، يزينهما سروال «إكسفوردي» الطراز، صنع خصيصا لكي يبرز تناسق هاتين الساقين كل الإبراز، وإن ترك ذلك السروال مرسلا بغير حمائل، وبدا فوق ذلك ناقص التزرير، فتهدل وترامى مطاوي وثنيات قبيحة الصورة على حذاء قصير، يكشف عن جورب أبيض قذر، وتلوح على الرجل في جملته أمارات رشاقة سوقية داعرة، وخبث مزده بذاته، معلن عن نفسه كل الإعلان، لا يتردد الإنسان في أن يؤدي أي ثمن لكي يراه.
وكان الرجل أول من فطن إلى المستر بكوك وهو ينظر إليهم، فراح يغمز بعينه «للزفير»، ويرجو إليه بجد ساخر ألا يوقظ السيد.
وقال «الزفير» وهو يتلفت ويتصنع الدهشة المتناهية: «يا الله! هذا صحيح! إن السيد يقظان إيه يا شكسبير! كيف الحال يا سيدي؟ وكيف حال ميري وسارة يا سيدي؟ والسيدة العزيزة العجوز التي في البيت؟ هلا تكرمت فوضعت تحياتي وسلامي في أول طرد صغير ترسله إليهم، قل لهم يا سيدي: إنه كان أولى بي أن أبعث بها إليهم قبل الآن، ولكني لم أفعل مخافة أن تنكسر في المركبة يا سيدي.»
وقال ذو العارضين الغزيرين، بلهجة المجون: «لا تغمر السيد بتحيات عادية وأنت تراه في لهفة على شيء يشربه. لماذا لا تسأل السيد ما الذي يتناوله؟»
وأجاب الآخر: «ويحي، لقد نسيت، ما الذي تحب أن تشربه يا سيدي؟ هل تريد نبيذ البورت يا سيدي، أو نبيذ الكريز، إنني أوصيك بالجعة يا سيدي أو لعلك تفضل البورتر عليها يا سيدي، اسمح لي بشرف تعليق قلنسوتك يا سيدي.»
وراح ينتزع طاقية من فوق رأس المستر بكوك، ويضعها في لحظة خاطفة فوق رأس السكران الذي اعتقد يقينا أنه يشنف بصوته أذان جمع جامع، فاسترسل في أغنيته الفكهة بنغمة تبلغ من الحزن أشد ما يمكن أن تتصوره من الأنغام.
ولا نزاع في أن خطف «طاقية» من فوق رأس إنسان بوسيلة عنيفة، ووضعها فوق رأس شخص مجهول بادي المقاذر، مهما يكن، نكتة بارعة في ذاتها، لا يدخل مع ذلك في باب المزاح العملي، أو المزاح بالكد. ومن هذه الوجهة نظر المستر بكوك إليها تماما، وبلا أقل إشارة منه إلى قصده، وثب بقوة من فوق السرير، ولكز «الزفير» لكزة قوية سريعة في صدره تكفي لكي تحبس عنه جزءا كبيرا من ذلك الشيء الذي يحمل اسمه،
2
واسترد طاقيته ووقف في شجاعة وقفة الدفاع عن نفسه.
وقال المستر بكوك وهو متقطع الأنفاس من الغضب، والجهد الكبير الذي بذله في تلك الهجمة الفجائية: «والآن! هلما، أنتما الاثنان، هيا، أنتما معا!» وبهذه الدعوة السمحة راح ذلك السيد الفاضل يوحي بالفكرة في حركة بمجمع قبضتيه، لإرهاب خصميه من طريق إظهار مدى علمه بالملاكمة.
ومن الجائز أن تكون هذه الجسارة التي لم تكن منتظرة إطلاقا من المستر بكوك، أو أن تكون الصورة الغريبة التي وثب بها من فوق السرير، هي التي أحدثت أثرها في نفسي خصميه، فقد تأثرا فعلا، وبدلا من أن يحاولا اقتراف جريمة قتل، كما كان المستر بكوك، يعتقد جازما، أنهما سيقدمان عليها، وقفا ذاهلين لحظة، ومضى كل منهما ينظر إلى صاحبه، ثم انطلقا يضحكان ضحكات عالية.
وقال «الزفير»: «حسن والله، ما أعظم مهارتك! وأنا لهذا معجب بك، والآن عد إلى السرير وإلا أصابك البرد . أرجو ألا يكون في نفسك شيء؟» ومد إليه يدا بدت أناملها الصفر الغلاظ أشبه بالأصابع التي تلوح أحيانا على باب دكان صانع الكفوف.
3
وقال المستر بكوك من فوره وهو منشرح الصدر؛ لأنه بعد أن سكنت ثائرته، بدأ يشعر بالبرد في ساقيه: «ليس في نفسي شيء بلا شك.»
وقال الرجل ذو الشاربين الغزيرين، وهو يمد إليه يده اليمنى: «اسمح لي بشرف مصافحتك أيها الرجل النبيل.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور يا سيدي.» وهز اليد المبسوطة إليه هزة طويلة مقترنة بجد بالغ، وعاد إلى فراشه.
وقال ذو العارضين الكثيفين: «إنني أدعى سمانجل يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أنعم وأكرم.»
وقال الآخر ذو الجورب الطويل: «وأنا اسمي ميفنز.»
وأجاب المستر بكوك: «يسرني أن أسمع الاسم الكريم يا سيدي.»
وسعل المستر سمانجل: «احم.»
وقال المستر بكوك: «هل تكلمت يا سيدي؟»
وقال المستر سمانجل: «كلا، لم أتكلم يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «لقد ظننتك تكلمت يا سيدي.»
وكان كل ذلك بأدب ولطف، وزيادة في تهدئة الموقف، وإقرار الوئام، مضى المستر سمانجل يؤكد مرارا وتكرارا أنه يكن احتراما شديدا لشعور كل رجل مهذب، وهو إحساس يشكر كثيرا عليه، ويحمد في الواقع منه؛ لأنه أبعد من أن يظن أنه يفهم ذلك الشعور أو يدركه.
وسأل المستر سمانجل: «هل أنت مقدم إلى المحكمة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «مقدم إلى ماذا؟»
وقال المستر سمانجل: «المحكمة في شارع برتيوجل، المحكمة التي تنظر في الإفراج عن - أنت عارف!»
وأجاب المستر بكوك: «آه، كلا، لست كذلك.»
وانبرى المستر ميفنز يقول: «لعلك ستخرج، ربما.»
وأجاب المستر بكوك: «أخشى ألا يكون الأمر كذلك، لقد رفضت أداء بعض التعويضات، فجئت إلى هنا.»
وقال المستر سمانجل: «آه، لقد كان «الورق» سبب خرابي.»
وقال المستر بكوك بسلامة نية: «أحسبك يا سيدي تاجر أدوات كتابية، هل صدق ظني؟»
وأجاب المستر سمانجل: «تاجر أدوات كتابية؟ كلا، كلا، اللعنة والنقمة علي، لم أصل إلى مثل هذه الوهدة، أنا لا أشتغل بالتجارة، وحين أقول: «الورق» أقصد كشوف الحساب.»
وقال المستر بكوك: «آه، أنت إذن تستخدم الكلمة في هذا المعنى؟ فهمت.»
وقال سمانجل: «اللعنة، لا بد لكل سيد أن يتوقع المحن والشدائد وماذا يهمني من هذا؟ هأنذا في سجن فليت حسن جدا، وماذا يهمني؟ إنني لست أسوأ مما كنت في شيء، هل أنا أسوأ حالا؟»
وأجاب المستر ميفنز: «كلا»، وكان الرجل على حق؛ لأن المستر سمانجل لم يكن فعلا أسوأ مما كان، بل على أية حال أحسن، فقد أراد أن يوفر لنفسه «المؤهلات» التي تجعله جديرا بالمكان الذي هو فيه، فاستحوذ بلا عمل ولا مقابل على شيء من الحلى والمجوهرات كان من عهد طويل قد وجد سبيله إلى حوانيت الراهنين.
4
وعاد المستر سمانجل يقول: «حسن جدا، دعنا من هذا، فهو أمر تجف له الحلوق، ولنرطب أفواهنا بقطرات من شراب الكريز المحروق، على حساب القادم الأخير، وسيحضره ميفنز وأشربه أنا، هذا تقسيم عادل للعمل يجدر بالسادة المهذبين، على كل حال. اللعنة علي!»
ولم يشأ المستر بكوك أن يتعرض لشجار آخر فوافق على الاقتراح بسرور، وسلم النقود إلى المستر ميفنز، وكانت الساعة تقرب من الحادية عشرة، فلم يضع هذا لحظة من الوقت، بل بادر في الحال إلى قاعة القهوة، لتأدية المهمة.
وما كاد يغادر الغرفة حتى همس سمانجل قائلا: «ما الذي أعطيته؟»
وقال المستر بكوك: «نصف جنيه.»
وقال المستر سمانجل: «إنه لكلب لطيف رقيق شيطان، جهنمي لطيف، لا أعرف أحدا يفوقه في ذلك كله، ولكن ...» ووقف المستر سمانجل عن الكلام، وجعل يهز رأسه هزة المستريب. وقال المستر بكوك: «هل تظن أنه سيأخذ النقود لنفسه؟»
وأجاب المستر سمانجل: «آه، كلا، افهم مني، إنني لا أقول ذلك لا سمح الله، وكل ما قصدت أن أقوله هو أنه إنسان لطيف ولكن شيطان. ومن رأيي أنه لو ذهب أحد وراءه، لا لشيء سوى أن يتأكد من أنه لم يغطس منقاره في الجرة، قضاء وقدرا، لا عمدا ولا قصدا، أو لم يقع في خطأ ملعون يضيع النقود وهو صاعد السلم، لكان ذلك خيرا. أنت يا هذا اذهب فانزل السلم مسرعا وابحث عن ذلك السيد، هلا فعلت يا سيدي؟»
وكان هذا الرجاء موجها إلى رجل صغير الجسم عصبي هياب، ينم مظهره عن فاقة شديدة، وكان قد لبث طيلة الوقت جالسا فوق سريره جلسة انحناء وانكسار، تلوح عليه سمات الذهول والحيرة من غرابة هذا الموقف الجديد المحيط به، وجدة الموضع عليه.
وقال سمانجل: «أنت تعرف مكان قاعة القهوة، فاذهب مسرعا، وقل لذلك السيد: إنك جئت لمساعدته على حمل الجرة، ولكن قف، أقل لك، أقل لك عن طريقة نحاصره بها.» وراح المستر سمانجل ينظر نظرة مكر وخبث.
وقال المستر بكوك: «كيف؟»
وأجاب المستر سمانجل: «نرسل إليه رسولا يقول له: إن يصرف الباقي في شراء لفائف كبيرة، فكرة بديعة! أسرع وقل له هذا؟ هل أنت سامع؟» وانثنى يلتفت إلى المستر بكوك قائلا: «وبهذه الطريقة لا تضيع علينا النقود، أما اللفائف فسأدخنها أنا.»
وكانت هذه اللعبة بارعة كل البراعة، والطريقة التي أديت بها مقترنة بهدوء لا أثر فيه لأية حركة، وسكينة تامة لا ظل لأية خالجة عليها، فلم يشأ المستر بكوك الوقوف في سبيلها حتى لو أنه أوتي المقدرة على ذلك، وبعد لحظة عاد المستر ميفنز يحمل الشراب، فتناوله المستر سمانجل فصب منه ملء كأسين في قدحين صغيرين مخدوشين، قائلا فيما يتصل بشخصه: إن السيد المهذب لا ينبغي له أن يكون مدققا في هذه الظروف من جهته الخاصة، وأنه لهذا لا يتكبر ولا يترفع عن الشرب من الجرة ذاتها؛ ولكي يظهر إخلاصه، وصدق طويته، راح في شرب نخب رفقائه يفرغ النصف في جوفه.
ولما صفا الجو بهذا التفاهم البديع، وحل الوئام محل الخصام، شرع المستر سمانجل يطرف أذان سامعيه برواية عدة وقائع في مغامراته الغرامية، التي جرت له بين الفينة والفينة، وهي جميعا تنطوي على عدة نوادر طريفة، تدور حول حصان أصيل، ويهودية رائعة أوتي كلاهما قدرا فائقا من الجمال، يتطلع إلى مثله الأشراف والسادات الأعلام في هذه البلاد.
وقبل أن تنتهي تلك الفقرات المقتطفة من تاريخ حياة ذلك السيد وصفحات ماضية، بوقت طويل، كان المستر ميفنز قد أوى إلى فراشه، وبدأ يغط في نومه الليل كله تاركا ذلك الغريب الهياب والمستر بكوك يستأثران وحدهما بسماع تجاريب المستر سمانجل وأحداث حياته.
ولكن هذين السيدين الأخيرين لم يظفرا من الحوادث المؤثرة التي قصها عليهم راويها بالشيء الكثير الذي كان من الجائز أن يظفرا به، فإن المستر بكوك كان من لحظة طويلة قد عبث النوم بأجفانه وطاف بمآقيه، وإذا هو يشعر في شيء كالحلم أن ذلك السكران قد عاود التغني بأغنيته الفكهة، ولكنه تلقى من المستر سمانجل تلميحا لطيفا، من طريق الجرة، أن السامعين لم يؤتيا استعدادا لسماع الغناء. فعاد المستر بكوك يهبط في وادي الكرى، وهو يشعر بشيء عابر مختلط عليه وهو أن المستر سمانجل لا يزال منهمكا في سرد قصة طويلة، يبدو أن أهم نقطة فيها هي أنه في ظرف خاص أسلف ذكره، وسبق شرحه، قد عرف كيف عثر على مبلغ من المال وعلى سيد في وقت واحد.
في الأصل زهرة الأفيون.
أي: يحبس عنه الهواء؛ إذ إن زفير بالإنجليزية تعني النسيم.
أي: القفازات. كانت صنعة صاحب الحانوت، في تلك الأيام، ترسم على لافتته.
يريد أن يقول: إنه سرقها من الحوانيت التي يرهن الناس فيها جواهرهم ومصوغاتهم.
الفصل الثاني والأربعون
يصور كسابقه صدق المثل القديم القائل: إن الشدائد تسوق المرء يوما إلى معرفة أعجب الخلطاء، وأغرب الرفقاء، ويصف أيضا النبأ الفجائي المزعج الذي أعلنه المستر بكوك للمستر صمويل ولر. ***
ولما فتح المستر بكوك عينيه في صباح اليوم التالي، كان أول شيء استقرتا عليه هو وجه صمويل ولر، وقد جلس فوق حقيبة صغيرة سوداء اللون، وهو ينظر مليا، في شرود تام، إلى روعة شكل المستر سمانجل الجريء الجسور، وهو مرتد بعض ثيابه ومستو فوق سريره منشغل بلا أمل ولا رجاء بمحاولة التحديق في وجه المستر ولر حتى يكف عن إطالة النظر إليه، ونقول بلا أمل ولا رجاء؛ لأن سام أبى إلا المضي في تلك النظرة الشاملة التي أحاطت بقلنسوة المستر سمانجل وقدميه ورأسه ووجهه وساقيه وعارضيه جميعا في وقت واحد، وهو يبدو في ارتياح بالغ، ولكن بلا مبالاة مطلقا لشعوره الشخصي، كأنه يتفحص تمثالا من خشب أو دمية «لجاي فوكس» محشوة بالقش.
1
وأنشأ المستر سمانجل يقول بعبوس: «ما الخبر، أتريد أن تعرفني مرة أخرى؟»
وأجاب سام باغتباط: «أحلف أنني أعرفك في أي مكان أراك فيه.»
وقال المستر سمانجل: «لا تتوقح على رجل مهذب يا سيدي.»
وأجاب سام: «حاشا، لا أفعل، وإذا أنت قلت لي ذلك عندما يستيقظ، جعلت تصرفي أحسن ما يكون لطفا، بل أكثر من اللطافة نفسها.» وكانت هذه العبارة تنطوي من بعيد على معنى يوحي بأن المستر سمانجل ليس رجلا مهذبا، فاستشاط هذا غضبا.
وصاح مستر سمانجل قائلا بحدة وغضب: «يا ميفنز»، وأجاب هذا من فوق وسادته: «ماذا تطلب؟»
قال: «أي شيطان هذا؟»
وأجاب ميفنز وهو ينظر بكسل وفتور من تحت أغطية الفراش: «أولى بي أن أسألك أنت هذا السؤال، هل له عمل هنا؟»
وأجاب المستر سمانجل: «أبدا.»
وقال المستر ميفنز: «ألق به إذن من فوق السلم وقل له: لا ينهض حتى آتي إليه فأركله.» وما كاد الرجل يسدي هذه النصيحة إلى رفيقه حتى استسلم إلى النوم.
ولما رأى المستر بكوك أن الحديث بدأت تظهر عليه أعراض الاقتراب من حدود الشتائم والسباب الشخصي، تبين أنه قد وصل إلى نقطة تقتضي منه التدخل.
قال: «يا سام.»
وأجاب هذا: «سيدي.»
قال: «هل جد شيء منذ الليلة البارحة؟»
وأجاب سام وهو ينظر إلى عارضي المستر سمانجل: «لم يجد شيء ذو بال يا سيدي، سوى أن الأحوال الجوية الأخيرة ساعدت بدفئها وسكون ريحها على نمو أعشاب من نوع مزعج، وصنف دموي، وفيما عدا ذلك تسير الأمور في هدوء تام.»
وقال المستر بكوك: «سأنهض من الفراش، أعطني ثيابا نظيفة.»
وإذا كانت قد خامرت نفس المستر سمانجل أية نيات عدائية في تلك اللحظة، فإن أفكاره لم تلبث أن انشغلت عنها بمشاهدة الحقيبة وهي تفتح وتخرج الثياب منها، فقد بدا للعين أن ما حوته منها أوحت إليه في الحال ، أحسن الظن لا بالمستر بكوك فحسب، بل بسام كذلك. فانتهز أول فرصة سنحت له وأعلن بصوت مرتفع يسمعه ذلك الشخص الغريب الأطوار أنه شخصية حسنة النشأة فريدة في ذاتها، وأنه لهذا السبب يميل إليه بكل قلبه. وأما محبته للمستر بكوك فلا حد لها ولا نهاية.
وقال المستر سمانجل: «والآن هل من شيء أستطيع أن أؤديه لك يا سيدي العزيز؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا أظن ثمة شيئا، إنني شاكر لك.»
قال: «أليس لديك ملابس داخلية تريد أن ترسلها إلى الغسالة؟ إنني أعرف غسالة لطيفة في الخارج تأتي لتأخذ غسيلي مرتين في الأسبوع، يمين الله! إنها لمصادفة حسنة، فإن اليوم هو موعد زيارتها، فهل أضع شيئا من هذه الثياب الصغيرة مع ملابسي؟ لا تقل: هذا تكليف أو تعب لي، لا شيء من هذا مطلقا، وإذا لم يبادر سيد في شدة من الشدائد فيتقدم لمساعدة سيد آخر في مثل حاله، فقل لي ما هي الطبيعة البشرية إذن؟»
قال ذلك وراح يقترب شيئا فشيئا من الحقيبة ويرسل نظرات توحي بصداقة متحمسة كل التحمس خالية من كل غرض.
وعاد سمانجل يقول: «هل من شيء لديك تريد أن تسلمه إلى من ينظفه بالفرجون أيها المخلوق العزيز؟»
وقال سام وهو يتولى الرد بنفسه: «لا شيء مطلقا أيها الصديق اللطيف، وإذا كان أحد منا سيتولى التنظيف بدلا من تكليف إنسان آخر به؛ كان ذلك مريحا لجميع الأطراف كما قال ناظر المدرسة حين اعترض الطالب على أن يتولى الخادم ضربه.»
وأشاح المستر سمانجل وجهه عن سام، والتفت إلى المستر بكوك، فقال بارتباك: «أليس ثمة شيء يمكن أن أرسله في صندوقي الصغير إلى الغسالة؟ هل من شيء؟»
وأجاب سام: «لا شيء بالمرة يا سيدي، إنني أخشى أن يكون صندوقك الصغير ممتلئا إلى حافته بملابسك كلها كما يبدو.»
وكانت هذه العبارة مقترنة بنظرة بليغة إلى ذلك الملبس القليل الذي يبدو على المستر سمانجل، والذي يتبين من شكله مدى براعة الغسالات في تنظيف ملابس السادات المهذبين. ويقاس عامة به، فلم يكن من المستر سمانجل إلا أن دار على عقبيه، يائسا في ذلك الوقت على الأقل، من محاولة ابتزاز نقود المستر بكوك أو السطو على ثيابه، ومضى محنقا إلى ملعب الكرة، حيث تناول فطورا خفيفا صحيا على لفافتين كبيرتين من التبغ الذي اشترى في الليلة الماضية.
أما المستر ميفنز فلم يكن مدخنا ولكن وصل حساب ما عليه من البقالة إلى آخر «اللوح»، و«رحل» إلى ما «بعده»، فلم يغادر فراشه، وقال - على حد تعبيره: إنه سيتناول الفطور في النوم.
وتناول المستر بكوك طعام الإفطار في غرفة صغيرة ملحقة بالمقهى، عرفت باسم رائع، وهو «الخلوة» وتمتاز لقاء أجر إضافي قليل بأن الذي يختارها لمجلسه ومأكله فترة من الوقت يتمكن وهو فيها من سماع الأحاديث التي تدور في ذلك المقهى. وبعد أن أوفد المستر ولر لقضاء بعض الحاجات الضرورية قصد إلى «المكتب»؛ ليستشير المستر روكر بشأن المكان الذي سوف يخصص له.
وقال ذلك السيد، وهو ينظر في دفتر ضخم: «تسأل عن المحل، آه، المحال كثيرة يا مستر بكوك، إن تذكرة «زمالتك» ستكون رقم (27) في الدور الثالث.»
وقال المستر بكوك: «ماذا تقول؟ تذكرة ماذا؟»
وأجاب المستر روكر: «تذكرة زمالتك، هل فهمت المعنى المقصود؟»
وقال المستر بكوك مبتسما: «لم أفهم تماما.»
وقال المستر روكر: «كيف، وهو واضح كقولك: «سالسبوري»
2
إنني أقصد أنك ستعطى تذكرة تخول لك الحق في الإقامة بالغرفة رقم (27) في الدور الثالث، وسيكون الذين يحتلونها معك «زملاءك» فيها.»
وقال المستر بكوك مستريبا: «هل هم كثير؟»
وأجاب المستر روكر: «ثلاثة.»
وسعل المستر بكوك.
ومضى المستر روكر يقول، وهو يحفظ في الملف قصاصة صغيرة من الورق: «أحدهم قسيس، وآخر قصاب.»
وصاح المستر بكوك مبهوتا: «إيه؟»
وأجاب المستر روكر وهو يطرق سن قلمه فوق المكتب لعلاج امتناعه عن التأشير: «قصاب، لقد كان في زمانه بلا شك رجلا مستقيما، هل تتذكر توم مارتن يا ندى؟»
وكان هذا النداء موجها إلى رجل آخر في المكتب كان منهمكا بإزالة الوحل اللاصق بحذائه بمطواة جيب ذات خمسة وعشرين نصلا.
وقال هذا وهو يضغط بقوة التوكيد على ضمير المتكلم: «أنا، أذكر هذا الاسم.»
وقال المستر روكر، وهو يهز رأسه ببطء من جانب إلى آخر، ويطل بذهول من النافذة ذات القضبان القائمة أمامه كأنما يذكر في حنين مشهدا هادئا من مشاهد شبابه: «مسكين، إني ليخيل لي أن ذلك كله جرى أمس فقط، ولم يجر من زمن طويل، حين غلب في الشجار حمال الفحم بقرب الميناء عند فوكس اندر ذي هل، إني لأتمثله اللحظة قادما من شارع ستراند، وقد أفاق قليلا من الرضوض التي أصابته، ووضع ضمادة من الخل والورق الأسمر فوق جفن عينه اليمنى، وذلك الكلب اللطيف الذي عقر الغلام الصغير فيما بعد، يتبعه كظله. يا للعجب من الزمان! إن تصاريفه لغريبة، أليس كذلك يا ندى؟»
وكان السيد الذي وجهت إليه هذه الملاحظات يبدو صموتا بطبعه مستغرقا في التفكير، فلم يقل شيئا غير ترديد هذا السؤال، وراح المستر روكر ينفض عنه هذا التأمل الشعري الحزين الذي انساق إليه، فيهبط من أفقه الحالم إلى الأرض والحياة والعمل فتناول قلمه ليواصل ما كان فيه.
وقال المستر بكوك: «هل تعرف من يكون السيد الثالث؟» ولم يكن قد شعر بارتياح كثير للوصف الذي سمعه من زملائه في الغرفة المعينة له.
والتفت المستر روكر إلى زميله فقال: «من يكون سمسون يا ندى؟»
وقال ندى: «أي سمسون؟»
وعاد المستر روكر يقول: «أي نعم، نزيل الغرفة (27) في الطابق الثالث الذي سينضم هذا السيد إليه.»
وأجاب ندى قائلا: «آه هو، إنه لا شيء في الحقيقة، لقد كان فيما مضى سمسار خيول، ولكنه الآن نصاب.»
وقال المستر روكر: «آه، هذا هو ما كنت أعتقد.» وطوى دفتره ووضع الورقة الصغيرة في يدي المستر بكوك وهو يقول: «هذه هي التذكرة يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك أدراجه إلى السجن، وهو جد مرتبك حائر، عقب هذا التصرف السريع في شخصه، يفكر فيما يحسن به أن يفعل، ولكنه اقتنع بأن من الحكمة قبل اتخاذ أية خطوات أخرى أن يجتمع أولا ويتحدث شخصيا مع أولئك السادة الثلاثة الذين أشير عليهم بالمقام بينهم، فانطلق يريد الطابق الثالث.
وبعد أن تحسس طريقه في الممر فترة من الوقت محاولا في الظلمة، أو على بصيص النور الضئيل فيه، قراءة الأرقام المكتوبة على الأبواب، اضطر أخيرا إلى الالتجاء إلى غلام ممن يتولون غسل الأواني في المقهى كان بمحض المصادفة يطوف طوفة الصباح لجمعها.
وقال المستر بكوك: «أين الغرفة رقم (27) أيها السيد الكريم؟»
وأجاب الغلام: «خامس باب أمامك، الباب الذي تجد عليه صورة رجل على المشنقة وهو يدخن في قصبته، وهذه الصورة مرسومة خارج الباب بالطباشير.»
ومضى المستر بكوك على هدى هذا التوجيه يقطع الدهليز بخطى وئيدة حتى التقى بصورة «الرجل المهذب» التي أسلفنا وصفها، فدق الباب فوق وجه صاحب الصورة بإحدى عقد سبابته، دقة خفيفة في مبدأ الأمر، ثم بصوت مسموع، وبعد أن كرر ذلك عدة مرات فلم يستجب أحد إليه، تجرأ ففتح الباب وأطل منه.
ولم يكن في الغرفة سوى رجل واحد، كان متدليا من النافذة قدر إمكانه، دون أن ينقلب أو يفقد توازنه، محاولا في إلحاح شديد، ودأب بالغ، البصق فوق قمة قبعة صديق له في الاستعراض تحت النافذة، فلم يرع لكلام، ولا سعال، ولا دق، ولا أية وسيلة أخرى من الوسائل العادية لاجتذاب النظر، ولم ينبهه شيء منها إلى وجود زائر، فلم يسع المستر بكوك بعد تردد قليل إلا أن يخطو نحو النافذة ويجذب برفق ذيل سترته، وإذا الرجل يبعد رأسه وكتفيه عن النافذة في سرعة بالغة، ويتفحص المستر بكوك من فرعه إلى قدمه، ويسأله في غضب: «بحق ذلك الشيء الذي يبدأ بحرف «الجيم» ماذا تريد؟»
3
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى تذكرته: «أعتقد أن هذه الغرفة هي رقم (27) في الطابق الثالث.»
وأجاب الرجل: «ثم ماذا؟»
وقال المستر بكوك: «لقد جئت إلى هنا؛ لأني تلقيت هذه القصاصة.»
وقال السيد: «سلمها.»
ففعل المستر بكوك ذلك.
وقال المستر سمسون - لأنه كان هو النزيل الثالث أو «النصاب» الذي وصف له - بعد سكون مقترن بسخط شديد: «كان أولى بالمستر روكر أن يختار لك زملاء في مكان آخر.»
وكان هذا هو الرأي ذاته الذي خطر ببال المستر بكوك، بعد هذه المقدمات، ولكنه رأى من حسن السياسة في هذه الظروف أن يعتصم بالصمت.
وفكر المستر سمسون بضع لحظات، ثم أطل برأسه من النافذة فأطلق صفيرا حادا ونطق بكلام ما، وعاد يردده عاليا عدة مرات، ولم يستطع المستر بكوك أن يفهم ذلك الكلام، ولكنه استنتج أنه لقب عرف به المستر مارتن؛ لأن خلقا كثيرا ممن كانوا تحت الشرفة راحوا في الحال يصيحون «يا قصاب» في لهجة تشبه ما اعتاد أفراد هذه الفئة النافعة في المجتمع أن يعرفوا الناس بوجودهم في كل منطقة.
وجاءت الحوادث بعد ذلك مؤكدة صدق استنتاج المستر بكوك، فلم تمض بضع ثوان حتى دخل الغرفة سيد يلوح عريض الألواح قبل الأوان، بالنسبة لسنه. وهو مرتد ثوبا أزرق سابغا من ثياب المهنة، وحذاء عاليا مستدير المقدم، وكان لاهث الأنفاس عند دخوله، وفي أثره جاء سيد آخر في ثوب أسود قديم العهد وطاقية من جلد كلاب البحر، وقد زرر سترته إلى ذقنه بدبوس، فزر فدبوس، ثم زر، وهكذا دواليك، وهو أحمر الوجه بادي الخشونة، يلوح كأنه قسيس سكير، والواقع أنه كان كذلك.
وبعد أن قرأ كل من السيدين القصاصة أبدى الأول رأيه فيها قائلا: إن هذا «خداع»، وعبر الآخر عن اعتقاده بقوله: هذه «حيلة»، وعلى أثر تسجيل شعورهما بهذين التعبيرين الواضحين، نظرا إلى المستر بكوك، ثم إلى بعضهما البعض، في صمت غريب.
وقال القسيس، وهو ينظر إلى ثلاث «حشيات» قذرة، لفت كل واحدة منها في غطاء، واحتلت الثلاث ركنا من الغرفة طيلة النهار، وتألف منها على تلك الصورة «رف»، وضع فوقه حوض قديم مشقوق وإبريق، وطبق للصابون من الخزف الأصفر العادي رسمت عليه صورة زهرة زرقاء: «إن هذا لمؤلم جدا، بعد أن نظمنا فراشنا هكذا وجعلناه مستكنا دافئ، مؤلم جدا.»
وأبدى المستر مارتن رأيه بعبارة أقوى من ذلك وأشد لهجة، وبعد أن أطلق المستر سمسون طائفة منوعة من النعوت والصفات المشبعة الحشو في حق المجتمع، دون أن يقرنها بتعيين أحد بالذات، راح يشمر عن ساعديه، وأخذ يغسل الخضر استعدادا للغداء.
وكان المستر بكوك، خلال ذلك كله، يجيل عينه في أرجاء الغرفة، فبدت له مفرطة في القذر، وخبث الريح، حتى لتخنق الأنفاس، ولم يكن ثمة أثر لبساط فيها، ولا ستار، ولا حجاب، بل ولا حاجز يصح أن تلقى خلفه المهملات، وكانت في الغرفة بضعة أشياء تدخل في هذا الباب، كان أولى بأن تلقى جانبا، لو أن فيها مكانا كهذا لحجبها عن الأنظار، ولكنها على قلة عددها، ومحدود أحجامها، بقيت متناثرة في نواحيها، بين كسرات من رغفان، وقطع من جبن، وبين مناشف رطبة، وصحاف مكسرة ومنافخ بغير فوهات، وشوك بغير سنان، فكان شكلها مزعجا، وهي على هذا النحو منثورة على أرض غرفة صغيرة، تجمع بين غرفة جلوس، وحجرة نوم، لثلاثة رجال مكاسيل متبطلين.
وأنشأ «الجزار» يقول بعد صمت طويل: «أظن أن هذا يمكن تداركه بأية وسيلة من الوسائل، ماذا ترضى أن تأخذ نظير ترك مكانك هنا؟»
وأجاب المستر بكوك عفوا: «ماذا قلت، إنني لا أكاد أفهمك.»
وقال الجزار: «ماذا تأخذ نظير «خلو الرجل»، إن الفئة المعتادة هنا هي شلنان وستة بنسات، هل تحب أن تأخذ ثلاثة شلنات؟»
واقترح السيد القس قائلا: «وعشاء بسيطا.»
وقال المستر مارتن: «هذا لا يهمني، إن ثمن الواحدة بنسان، فلا مانع من أن يأخذ هذه أيضا.»
وقال صاحب الفكرة من البداية: «هيه! ما قولك؟ هل تقبل الاستغناء عن مكانك معنا نظير ثلاثة شلنات وستة بنسات في الأسبوع، ما رأيك؟»
وأردف المستر سمسون قائلا: «وتناول جالون من البيرة في المقهى أيضا، ما رأيك؟»
وقال القسيس: «وتشربه في المحل رأسا. هيه، قل موافق.»
وأجاب المستر بكوك: «إنني في الحقيقة جاهل كل الجهل بقواعد هذا المكان وأنظمته، فلا عجب إذا لم أفهم ما قلتم، هل من سبيل إلى الإقامة في مكان آخر؟ لقد كنت أظن أن هذا غير ميسور.»
وعلى أثر هذا السؤال نظر المستر مارتن بدهشة متناهية إلى صاحبه، ثم راح كل منهم يشير بإبهامه الأيمن من فوق كتفه اليسرى، وهي حركة يعبرون عنها كلاما، وإن ظل التعبير ناقصا غير واف، بقولهم: «نحو اليسار» وهو اصطلاح ضعيف لا يفي بالمراد، وإن لجأ إليه كل من ألفوا العمل «ارتباطا»، من النساء أو الرجال باعتباره اصطلاحا متفقا عليه فيما بينهم، بل هي حركة تجمع إلى اللطف قوة التأثير، وهي من حيث التعبير حركة «سخرية» خفيفة، وتهكم فكه.
وقال المستر مارتن، وهو يبتسم ابتسامة إشفاق ورثاء: «أتسألنا هل من سبيل؟»
وتبعه القسيس فقال: «لو كنت قليل العلم بالحياة إلى هذا الحد، لأكلت قبعتي، وابتلعت المشبك، فلا أترك منه شيئا.»
وأضاف السيد الرياضي بلهجة الجد: «ولفعلت أنا كذلك.»
وانثنى الزملاء الثلاثة، بعد هذه المقدمة، يقولون للمستر بكوك، في نفس واحد: إن سلطان المال داخل سجن فليت هو بذاته سلطانه في خارجه، وأنه بالمال يستطيع في الحال الظفر بكل ما يشتهيه تقريبا، وأنه إذا فرض أن لديه مالا، وأن لا مانع لديه من إنفاقه، فإنه لا يحتاج للحصول على غرفة خاصة لا يشاركه فيها أحد، وتأثيثها كاملة، إلا أن يبدي رغبته، فيكون له ما أراد، في نصف ساعة.
وتفرق الجمع، وذهب كل في سبيله، راضين مغتبطين، فعاد المستر بكوك أدراجه إلى «المكتب» وانطلق الزملاء الثلاثة إلى «المقهى»؛ لينفقوا الشلنات الخمسة التي استطاع السيد القسيس بقدر من الحكمة، وبعد البصر، حقيق بالإعجاب، أن يقترضها منه لهذا الغرض.
وقال المستر روكر وهو يضحك عقب أن شرح له المستر بكوك الغرض الذي عاد من أجله: «لقد كنت عارفا أنك ستعود، ألم أقل ذلك يا ندى؟»
وهمهم ذلك الفيلسوف صاحب المبراة العامة همهمة إيجاب.
ومضى المستر روكر يقول: «لقد كنت عارفا أنك ستطلب غرفة لك بمفردك، دعني أنظر في المسألة، ستحتاج طبعا إلى شيء من الأثاث، أظنك ستستأجرها مني، فإن هذا هو الإجراء المتبع.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور.»
وقال المستر روكر: «إن هناك غرفة مفتخرة في الطابق الذي يقع فيه المقهى، كانت معدة لسجين من موظفي المحكمة المدنية، وهي ستكلفك جنيها في الأسبوع، أظنك لا تمانع في ذلك؟»
وأجاب المستر بكوك: «مطلقا.»
وقال المستر روكر وهو يتناول قبعته باغتباط شديد، وخفة بالغة: «تعال معي لنسوي المسألة في خمس دقائق، يا لله! لماذا لم تقل من أول الأمر إنك تريد أن تتمتع بشيء من الراحة والمنزل اللطيف؟»
ولم يلبث أن تم تدبير الأمر كما توقع الحارس، وكان ذلك السجين قد طال عليه البقاء في المحبس، حتى فقد الصحاب، والمال، والموطن، والرغد والهناءة، فاستحق أن تكون له غرفة بمفرده، وكان كثيرا ما تعز كسرة الخبز عليه، فلا غرو إذا هو استمع في لهفة إلى طلب المستر بكوك ورغبته في استئجار الغرفة، ورضي على الفور بنقل ملكيتها المطلقة إليه نظير عشرين شلنا في الأسبوع، بشرط أن يدفع منها «خلو رجل» لأي شخص أو أشخاص يحتمل أن يساكنوه وينزلوا عليه.
وفيما كانا يعقدان هذه الصفقة، أخذ المستر بكوك يتفحص الرجل باهتمام أليم، فبدا له طويلا نحيلا كالهيكل العظمي، في معطف قديم وخفين، غائر الخدين، خلاج العينين، ملهوف البصر، خلت شفتاه من الدم، وأمست عظامه حادة ناحلة بارزة. كان الله في عونه! إن أنياب المحبس الحداد، وأضراس الجوع والحرمان كانت تبرده بردا بطيئا منذ عشرين عاما.
وقال المستر بكوك، وهو يضع أجرة الأسبوع الأول مقدما على المنضدة المتخاذلة السيقان: «وأين تقيم أنت في هذه الفترة يا سيدي؟»
وتناول الرجل المال بيد راجفة، وأجاب بأنه لا يعرف إلى الآن، وأنه سوف يذهب فيبحث عن مكان ينقل إليه سريره.
وقال المستر بكوك وهو يضع يده برفق وعطف على ذراعه: «أخشى يا سيدي أن تضطر إلى الإقامة في مكان شديد الجلبة مزدحم بالنازلين، فأرجو أن تعد هذه الغرفة تحت أمرك، إذا التمست شيئا من الهدوء أو جاء أحد من أصحابك لرؤيتك.»
وعاجله الرجل قائلا بصوت يتحشرج في حنجرته: «أصحابي! لو أنني رقدت ميتا في قاع أعمق منجم في العالم، مسجى مسمرا علي في تابوتي، أو متعفنا في ذلك الأخدود المظلم المليء بالحمأ تحت قاعدة هذا السجن، لما نسيني الناس ولا استخفوا بي، قدر ما هم ناسون اليوم شأني هنا ومستخفون بأمري. إنني في نظر المجتمع ميت، في عداد الأموات، يضن الناس علي بتلك الرحمات التي يضيفونها على الذين سبقوني إلى يوم الحساب. أتقول: أصحابي يجيئون لرؤيتي؟ رباه! لقد هويت من ريعان الحياة إلى الشيخوخة والوهن في هذا المكان، فلا أحد يرفع يده فوق فراشي حين أرقد فيه ميتا ويقول: حمدا لله، لقد استراح!»
ولكن الانفعال الذي ألقى ضياء غريبا على وجه الرجل، ضياء لم يألفه محياه، ولا خطف من قبل بمعارفه، وهو يتحدث على هذا النحو، لم يلبث أن هدأ وخفت عند انتهائه، وراح يشبك يديه الذابلتين معا، في عجلة وارتباك، وانصرف من الغرفة.
وقال المستر روكر وهو يبتسم: «كلام طال عليه القدم، إن هؤلاء الناس كالفيلة، في طول صبرها، ولكنها حين تنفعل أحيانا وتهيج، تبدو متوحشة ثائرة، وكذلك هم!»
ولم يكد المستر روكر يبدي هذه الملاحظة الشديدة العطف، حتى دخل في موضوع التنفيذ بسرعة فائقة فلم تنقض فترة قصيرة من الوقت حتى فرشت الغرفة ببساط، ووضعت في جوانبها ستة مقاعد، وجيء بمنضدة، ومتكأ للنوم، ومغلاة شاي، وعدة أشياء صغيرة أخرى بالإيجار، نظير فئة معقولة جدا، وهي سبعة وعشرون شلنا وستة بنسات في الأسبوع.
وسأل المستر روكر، وهو يدير بصره في أرجاء الغرفة بارتياح شديد، ويحرك في سرور وفرح أجرة الأسبوع الأول في كفه المطبق عليها: «والآن هل من شيء آخر تريد أن نصنعه لك؟»
وقال المستر بكوك، وكان مطيل التفكير منذ لحظة: «أي نعم، هل هنا أحد يمكن أن ينتفع به في تأدية قضاء الحاجات وما إليها؟»
وسأل المستر روكر: «في الخارج، تقصد؟»
قال: «نعم، أحد يستطيع الخروج، لا من بين السجناء أنفسهم؟»
وأجاب المستر روكر: «نعم، إن لدينا شيطانا منكود الحظ له صاحب في قسم الفقراء يسره أن يؤدي أي شيء من هذا القبيل، وقد مضى عليه في هذا العمل ونحوه شهران. هل أرسله إليك؟»
وقال المستر بكوك: «إذا تكرمت، ولكن كلا، هل قلت: قسم الفقراء؟ إنني أود أن أشاهده، سأذهب أنا بنفسي للقائه هناك.»
وكان قسم الفقراء - كما يوحي اسمه - هو الجناح الذي يعتقل فيه أشد المدينين بؤسا، وأحطهم قدرا، وأبشعهم فاقة، فإن السجين الذي يحال إليه لا يدفع أجرا ولا رسوم «زمالة»، بل تخفض قيمة الرسوم التي يدفعها عند الدخول والخروج من المحبس إلى قدر ضئيل من المال، ويصبح مستحقا لنصيب يسير من الطعام، اعتاد بعض المحسنين من وقت إلى آخر أن يتركوا في وصاياهم قبل مماتهم شيئا تافها، لشرائه وتوزيعه على نزلاء هذا الجناح وسجنائه. ولعل أكثر قرائنا يذكرون، كيف كان إلى بضع سنوات ماضية يقوم قفص حديدي في جدار «سجن فليت»، يقف فيه رجل يبدو السغب على وجهه، ويهز بين لحظة وأخرى صندوقا للنقود، وهو يصيح بصوت محزن: «لا تنسوا المدينين الفقراء، لا تنسوا المدينين الفقراء، ناشدتكم المروءة.» وكانت النقود التي يحتويها ذلك الصندوق، إذا احتوى شيئا منها، تقسم بين أولئك المساجين البائسين، وهكذا كان نزلاء هذا الجناح من السجن يتعاونون على جمع هذه الصدقات بالتناوب بالوقوف في ذلك الموقف المذل للكرامة المليء بالهوان.
ولئن كانت هذه العادة قد أبطلت، ولم يبق لذلك القفص اليوم أثر، فلا تزال أحوال أولئك القوم المنكودين باقية على بأسائها ونكرها، فلم نعد نرتضي وقوفهم بأبواب السجن ينشدون الرحمة والإحسان من السابلة، ولكنا لا نزال تاركين في سجلات شرائعنا وقوانيننا، لإعجاب الأجيال الخالفة بنا وإكبارها لشأننا، ذلك القانون العادل السديد الذي ينص على أن المجرم القوي ذا البأس يجد في السجن الغذاء والكساء، أما المدين المعدم فيترك للموت سغبا وعريا، وليس هذا القول من نسج الخيال، ولا هو قصة من القصص، ولكنه الواقع، فما من أسبوع ينقضي، إلا عاجل الموت حتما، في كل سجن من السجون التي يحبس فيها المدينون، بعض أولئك المساجين، من أثر التلوي من الجوع، والعذاب البطيء المستطيل من الحاجة والحرمان، إذا لم يسعفهم زملاؤهم في تلك السجون.
وقد تناهبت هذه الحقائق خاطر المستر بكوك ودارت جميعا في خلده، وهو يصعد السلم الضيق الذي تركه روكر عند أول مدارجه ، واستولى التأثر على نفسه شيئا فشيئا حتى بلغ درجة الغليان، وكان من شدة ألمه واضطراب مشاعره أن أسرع إلى دخول الغرفة التي هدوه إليها، قبل أن يتبين أو يتذكر شيئا عن الموضع الذي جاء إليه، ولا عن الغرض من مجيئه.
ولكن مشهد الغرفة لم يلبث أن رده في الحال إلى نفسه، وما كاد يلقي نظرة على صورة رجل مكب على النار الخابية وهو ساهم مفكر، حتى سقطت قبعته من فوق رأسه. من شدة الدهشة، ووقف في مكانه جامدا لا يستطيع حراكا، من فرط الذهول.
أي والله، لقد رأى حياله رجلا في أسمال ممزقة، بلا رداء عليه، وقد استحال قميصه القطني أصفر اللون، خلقا، وتدلى شعره على وجهه، وغيرت الآلام من ملامحه، وطحنه الجوع بحداد أنيابه، وكان ذلك الرجل هو المستر ألفريد جنجل، وقد اعتمد رأسه بكفه، واستقرت عيناه على النار، ودلت هيئته عامة على بؤس شديد وانكسار مبين!
وبجانبه وقف رجل من أهل الريف الأقوياء الجسوم، مستندا في قلق واضطراب إلى الجدار، ينفض بسوط بال من سياط الصيد، فرد حذاء طويل تزدان به قدمه اليمنى، بينما كانت قدمه اليسرى في خف قديم، فقد كان «يلبس» متمهلا على مراحل، لقد جاءت به إلى ذلك الموضع حلبات الخيل، وسباق الكلاب، وفرط الشراب، مجتمعات.
وكان لقدمه العزلاء من الحذاء مهماز صدئ جعل بين لحظة وأخرى يدفعه في الفضاء، ويوجه إلى الحذاء ذاته، في الوقت عينه، ضربة رشيقة، ويتمتم ببعض الأصوات التي اعتاد بها الراكب العريف بالخيل أن يحفز جواده، ويشجعه على العدو والخبب ... لقد كان في تلك اللحظات «راكبا»، ولكن في الخيال! مطلقا مركبة خفيفة تعدو وتنهب الأرض نهبا! يا للمسكين! ما نحسبه ركب في سباق يوما صهوة أشد حصان سرعة، وهو في حلة الفارس العلاء الصهوات، بنصف تلك السرعة التي قطع بها الطريق إلى سجن فليت!
وكان في الجانب المقابل من الغرفة شيخ يجلس فوق صندوق خشبي صغير مطأطئ الرأس، لا تغادر عيناه النظر إلى الأرض، وعلى وجهه تلوح سمات يأس شديد ، وقنوط بالغ لا تشع عليه خطفة من أمل، وقد حامت من حوله صبية صغيرة هي حفيدته، تحاول بعشرات الحيل المألوفة من الصغار والأطفال، أن تجتذب إليها نظره، والشيخ لا يرى ولا يسمع، ولا يحرك ساكنا، فقد عاد ذلك الجرس الذي كان كالموسيقى في سمعه، والعينان اللتان كانتا كشعاع باهر الضياء في ناظريه، لا تتملك حواسه، ولا توقد مشاعره، وكانت أوصاله راعشة من المرض، وبات الفالج يقدح في خاطره.
وكانت الغرفة تحوي رجلين آخرين أو ثلاثة رجال تألفت منهم عقدة صغيرة وهم يتحادثون في ضوضاء وصخب، وكانت هناك أيضا امرأة نحيلة ذابلة المحيا، هي زوجة أحد السجناء، تسقي برفق شديد جذعا ذابلا من نبات جاف مصوح، يبدو عليه أنه لن يورق في يوم من الأيام، كأنه رمز بليغ للمهمة التي جاءت لتؤديها في ذلك المكان.
تلك هي الصور والشكول التي تراءت للمستر بكوك، وهو يدير العين فيما حوله من الذهول، وإذا هو ينتبه منه على صوت إنسان يدخل الغرفة في عجلة، فالتفت ناحية الباب، والتقت عيناه بالقادم الجديد، وإذا هو يتبين فيه، من خلال أسماله وأقذاره، وجه المستر جب تروتر!
وصاح هذا بصوت عال: «المستر بكوك!»
وقال جنجل وهو ينهض من مقعده: «آه؟ المستر - هذا صحيح، مكان غريب، شيء عجيب، أستحقه، جدا.»
ودس المستر جنجل يديه في المكان الذي اعتاد أن يكون جيبا لسراويله، وأرخى ذقنه حتى تدلى على صدره وهبط في مقعده.
وتأثر المستر بكوك لهذا المشهد الأليم، فقد كان الرجلان في حال بشعة من البؤس، وكانت النظرة الحادة التي رمق بها جنجل بغير اختياره قطعة صغيرة من متن ضأن نيئ جاء جب بها معه، أبلغ تعبير عن مبلغ سوء حالهما من كل شرح أو بيان. ونظر المستر بكوك إلى جنجل برفق فقال: «أحب أن أتحدث إليك على انفراد، هلا خطوت إلى الخارج لحظة؟»
وقال جنجل وهو ينهض مسرعا: «بلا شك، لا أستطيع أن أبتعد كثيرا - لا خطر من التريض والمشي كثيرا هنا - متنزه بديع، مثير للخيال، ولكنه غير فسيح الرحاب، مفتوح وللتفتيش العام - الأسرة دائما في المدينة. والقائم على شئون البيت حريص أشد الحرص جدا.»
وقال المستر بكوك، وهما يخرجان إلى السلم ويغلقان الباب وراءهما: «لقد نسيت سترتك.»
وأجاب جنجل: «آه! سباوت، قريب عزيز ... العم توم ... ما حيلتي؟ لا بد من الأكل، كما تعرف، حكم الطبيعة ... وكل شيء من هذا القبيل.»
وقال المستر بكوك: «ماذا تعني؟»
وأجاب جنجل: «ذهبت يا سيدي العزيز السترة الأخيرة ... ما حيلتي؟ عشت بثمن الحذاء أسبوعين كاملين ... مظلة حريرية ذات مقبض من العاج ... أسبوع ... الواقع ... بالشرف ... سل جب - إنه يعرف.»
وصاح المستر بكوك في دهشة؛ لأنه لم يسمع بشيء كهذا إلا في حوادث غرق السفن، أو قرأ عنها في كتاب «مذكرات شرطي»، «أتقول: عشت ثلاثة أسابيع على حذاء ومظلة حريرية ذات مقبض من العاج؟»
وقال جنجل وهو يومئ برأسه: «فعلا، مكان الرهون، عندي الإيصال هنا، مبالغ ضئيلة تافهة ... كلهم نصابون.»
وقال المستر بكوك وقد اطمأن كثيرا لهذا التفسير: «آه! لقد فهمت مرادك، تقصد أن تقول: إنك رهنت ثيابك.»
وأجاب جنجل: «كل شيء وثياب جب كذلك، كل الأقمصة ذهبت ... لا بأس توفير للغسيل ... لن يلبث أن ينفد كل شيء لدينا ... فلا يبقى أمامنا غير الرقاد والجوع والموت، ثم التحقيق في أسباب الوفاة ... الدفن في حفرة صغيرة، سجين فقير، ضرورات عامة، اكتموا الأمر، اكتموا الحقيقة عن السادة المحلفين، والتجار في السجون، لا تدعوا أحدا يعرف شيئا، وفاة طبيعية، المحقق يأمر بالدفن، جنازة بسيطة، يستأهل، انتهت الرواية، أسدلوا الستار.»
وكان جنجل يلقي هذه الخلاصة الغريبة لخاتمته المنتظرة بتلك الذلاقة المألوفة منه، وهو يشفعها بمختلف الحركات والتقلصات التي يزيف بها الابتسامات على وجهه، ولم يجد المستر بكوك مشقة في إدراك ما بدا على ذلك الرجل من معاودة الاستخفاف بكل شيء، فراح بنظرة لا تخلو من العطف يتفرس في وجهه، وإذا هو يشهد عينيه نديتين بالعبرات.
وقال جنجل وهو يضغط يده ويشيح عنه بوجهه: «يا لك من كريم! وإني لكلب جاحد، من الصغار الاستسلام للبكاء، ولكن ما حيلتي؟ محموم، ضعيف ، مريض، جائع، يستحق كل ما أصابه، ولكنه تعذب كثيرا جدا.» ولم يعد في وسعه بعد ذلك التظاهر بالجلد، ولعل الجهد الذي بذله رده أسوأ حالا من قبل، فجلس فوق السلم، ودفن وجهه في راحتيه، وراح ينتحب نحيب الأطفال.
وقال المستر بكوك وهو في تأثر بالغ: «لا عليك، لا عليك، سنرى ماذا يمكن أن نفعله، إذا أنا عرفت الأمر كله، أين جب؟ أين هو؟»
وأجاب جب، وقد مثل عند السلم: «هنا يا سيدي.»
وقد وصفناه لك فيما سلف، وقلنا عندئذ: إن له عينين غائرتين في صحن وجهه، حين كان بخير، ونقول الآن: إنه بدا من السغب والحاجة والإملاق كأن هاتين العينين قد غارتا من سحنته فلم يعد لهما أثر.
وقال المستر بكوك وهو يحاول أن يبدو عابسا متجهما، وإن تسقطت أربع دمعات كبار على صداره: «تعال هنا يا سيدي، خذ هذا يا سيدي.» - «ماذا تراه يأخذ؟»
إن المعنى المتعارف بين الناس لهذا التعبير هو أن يأخذ «لكمة» أو لطمة على وجهه. وكان أولى بعد الذي جرى أن يكون «صفعة» شديدة منبعثة من قلب واجد ملهوف، فقد طالما خدع المستر بكوك وغرر به، وأسيء إليه، من هذا الطريد المعدم الذي أصبح في قبضة يده بجملته. أفنقول الحقيقة؟ إن ذلك الشيء الذي أخذه كان منبعثا من جيب صداره، وكانت له رنة ووسوسة فضة وهو في كف جب، فلم يلبث أن أرسل وميضا في عين الراهب، وجيشانا في أعماق جوانحه، وتأثرا في قلب صديقنا القديم الممتاز وهو منطلق في عجلة لا يلوي على شيء.
وكان سام قد عاد حين وصل المستر بكوك إلى غرفته، وطفق يتفحص التدابير والوسائل التي تم اتخاذها لتوفير راحته، وهو بادي الارتياح، متهلل تغتبط النفس برؤية مشهده على تلك الصورة. وكان المستر ولر من بداية الأمر معترضا كل الاعتراض على وجود سيده في ذلك الموضع، ولكنه رأى عندئذ أن من واجبه الأكبر ألا يبدي سرورا بالغا بأي شيء فعل، أو قيل، أو اقترح، أو أشير به.
وقال المستر بكوك: «هيه يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «هيه يا سيدي.» - «هل كل شيء مريح الآن يا سام؟»
وأجاب سام وهو يتلفت حوله منتقصا لكل ما يرى، مستخفا بكل ما يشهد: «جميل جدا يا سيدي.» - «وهل رأيت المستر طبمن وأصدقاءنا الآخرين؟» - «نعم، رأيتهم يا سيدي، وهم قادمون غدا، وأدهشني كثيرا أن أسمع أنهم لن يأتوا اليوم.» - «وهل أحضرت الأشياء التي طلبتها؟»
وعلى سبيل الجواب، أشار المستر ولر إلى عدة لفائف كان قد نسقها كل تنسيق ممكن، في ركن من الغرفة.
وقال المستر بكوك بعد تردد قليل: «حسن جدا يا سام، والآن اصغ إلى ما أريد أن أقوله لك.»
وأجاب المستر ولر: «بكل تأكيد، هات ما عندك يا سيدي.»
وقال المستر بكوك بلهجة جد بالغ: «لقد شعرت من بداية الأمر أن هذا المكان ليس بالموضع الذي يليق بأن يجلب إليه شاب في مقتبل العمر.»
وقال المستر ولر: «ولا شيخ أيضا يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك يقول: «أنت على صواب يا سام، ولكن الشيوخ قد يأتون إلى هنا، من جراء إهمالهم، أو قلة اكتراثهم، أو سلامة نيتهم، كما يحتمل أن يأتي إليه الفتيان بسبب أثرة الذين يخدمونهم وأنانيتهم، فمن الخير لهؤلاء الفتيان من كل وجه ألا يبقوا هنا، هل فهمت مرادي يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «كلا، يا سيدي لم أفهم.»
وعاد المستر بكوك يقول: «حاول يا سام.»
وأجاب سام بعد صمت قصير: «حسن يا سيدي، أظن أنني فاهم اتجاهك، وإذا كنت قد فهمت اتجاهك، فرأيي أنك أتيت إليه مسرعا، وبقوة متناهية، كما قال سائق مركبة البريد للعاصفة الجليدية وهي ملاحقته.»
وقال المستر بكوك: «أرى أنك فهمت قصدي يا سام، وبغض النظر عن رغبتي في ألا أراك متسكعا حول مكان كهذا عدة سنين قوادم، أشعر بأن إبقاء مدين معتقل في سجن فليت على خادمه سخف شديد وحماقة متناهية، أي سام! يجب أن تتركني إلى حين.»
وقال المستر ولر بلهجة تهكم: «آه! إلى حين - أكذا تقول يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم، طيلة مقامي هنا، وسأظل أؤدي إليك أجرك، وسوف يسعد أي صديق من أصدقائي الثلاثة، ولو لم يكن ذلك إلا احتراما منهم لي، أن يلحقك بخدمته»، وعاد المستر بكوك يتخذ سيماء الابتهاج واسترسل يقول: «وإذا قيض لي يوما ترك هذا المكان يا سام، فإني أعاهدك أن أستردك لنفسي في الحال.»
وقال المستر ولر بصوت رهيب، وجد شديد: «والآن، سأقول لك رأيي يا سيدي في هذا الأمر كله، إن هذا الكلام كله لا يجدي، فمن فضلك لا تسمعني بعد هذا شيئا آخر عنه.»
وقال المستر بكوك: «إني أجد فيما أقول ومعتزم تنفيذه يا سام.»
وأجاب المستر ولر بلهجة الإصرار: «هل أنت فعلا يا سيدي؟ حسن جدا وأنا كذلك!»
وراح يضع قبعته فوق رأسه بكل دقة وغادر الغرفة غير معقب.
وصاح المستر بكوك في أثره مناديا: «سام، سام، أقبل تمهل!»
ولكن أرض الممر الطويل لم تعد تردد مواقع قدميه.
لقد انطلق سام ولر غير متمهل، ولا متردد.
جاي فوكس تآمر على نسف البرلمان الإنجليزي في عهد الملك جيمس الأول. وتحتفل بعض البلاد الإنجليزية إلى يومنا هذا بإحراق فوكس إحراقا رمزيا فيحشون دمية له بالقش ويشعلون النار فيها، ويطلقون الصواريخ وإلى غير ذلك.
أي: كقولك أي شيء واضح مفهوم.
أي: بحق الجحيم، وهذا نوع من أقسام العامة. وفي الأصل الإنجليزي «بحق ذلك الشيء الذي يبدأ بحرف
H » أي
Hell .
الفصل الثالث والأربعون
يصف كيف وقع المستر صمويل ولر في متاعب. ***
في غرفة عادية، ضئيلة النور، سيئة التهوية، في شارع «برتيوجل» بحي «لنكنز ان فيلدز» يجلس قرابة العام كله، سيد أو اثنان، أو ثلاثة أو أربعة، من أصحاب الضفائر المستعارة، تبعا لمقتضيات الظروف، وزحمة القضايا، إزاء مناضد صغيرة، تشبه المنصات التي يجلس عليها القضاة في البلاد، وإن خلت من الطلاء الفرنسي، وعن يمينهم مقصورة للمحامين المترافعين، وعن يسارهم مكان محجوز للمدينين المفلسين وأمامهم صفوف من المقاعد لأقذر الوجوه على الإطلاق. أما أولئك السادة الجلوس فوق المنصة فهم قضاة محكمة «التفاليس» والمكان الذي يجلسون فيه هو محكمة التفاليس ذاتها.
وكان الفقراء المعدمون المفلسون من ذوي الحسب من أهل لندن مجمعين كافة، منذ عهد بعيد لا تعرف بدايته، ولا يزالون متفقين عامة، على أن هذه المحكمة هي، على أية حال، الملاذ العام، والملجأ المشترك، الذي يلوذون في كل يوم بساحته، فلا عجب إذا كان مزدحما بالناس في كل حين تتصاعد أبخرة الجعة والكحول إلى سقفه، ثم تتكثف، فتتساقط من الجدران كالمطر، وأنه ليحوي من الأردية القديمة، والثياب البالية، في وقت ما أكثر مما هو معروض منها للبيع في سوق «هاوندزديتش» في أشهر السنة كلها، بل إنه ليزدحم من البشرات التي لم تعرف الاستحمام، واللحى التي لم تمسسها الموسى، بما لا تستطيع جميع «الحمامات» والمضخات وحوانيت الحلاقين بين حي «طايبرن» وحي «هوايتشابل» أن ترده نظيفا، وتزيل أدرانه، بين مطلع الشمس ومغيبها.
ولا يذهب بك الظن إلى أن لأحد من هؤلاء الخلق أقل عمل، أو أدنى شأن، أو علاقة، ولو من بعيد بذلك الموضع الذي لا ينفكون يختلفون إليه غير مدركهم الملل، ولو كان لهم فيه عمل، لما كان الأمر مدعاة للدهشة ولما بقي للغرابة موضع، وإن فريقا منهم ليأخذهم النوم أكثر الوقت في أثناء الجلسات، وآخرون يحملون غداءهم اليسير ملفوفا في مناديلهم أو طالا من جيوبهم البالية، وهم يقضمونه ويصغون للحديث، بلذة متساوية، ولكن لم يعرف يوما عن أحد منهم أقل اهتمام شخصي بأية قضية معروضة على المحكمة للنظر فيها، وإنما يجلسون سواء كان لهم عمل أو لا عمل لهم، من اللحظة الأولى إلى النهاية، فإذا كان الجو مطيرا، دخلوا القاعة بجمعهم وهم مبللو الثياب والأجساد، وعندئذ تنقلب الأبخرة الخانقة في المحكمة أشبه برائحة حفرة مليئة بالنباتات الفطرية.
وقد يحسب الزائر العابر ذلك المكان معبدا أقيم تخليدا لعبقرية «الرثاثة»، ونباغة الأسمال، فما من ساع أو رسول فيه، أو محضر ملحق به، تراه مرتديا سترة أو ثوبا مفصلا عليه تفصيلا، وليس في المكان كله رجل يتراءى صحيحا إلى حد مقبول سليما نوعا ما إلا شرطي قصير القامة علاه المشيب، وبدا وجهه كالتفاحة، وإن كان ذلك الشرطي ذاته قد راح أشبه بكرزة رديئة محفوظة في البراندي، فبدا مجففا بطريقة صناعية، ذابلا في حالة «تحلل» غير طبيعي بل إن ضفائر المحامين ذاتها سيئة الطلاء، وثناياها تنقصها جودة التماوج والتثني.
ولكن المحامين غير المترافعين الذين يجلسون إلى منضدة كبيرة جرداء تحت منصة القضاة هم بعد هذا كله آية العجب، ونهاية الغرابة، كل ما يملكه أكثرهم يسارا لا يتجاوز حقيبة زرقاء وغلاما، وهذا الغلام في العادة شاب من اليهود، وليس لأولئك المحامين مكاتب ثابتة؛ لأنهم يؤدون الأشغال في غرف الحانات العامة أو أفنية السجون، حيث يتوافدون زرافات، ويتصيدون «الزبائن» تصيدا، على نحو ما يفعل محصلو المركبات الحافلة. وهم يتراءون ملطخي الثياب بالدهن، تعبق رائحة العفن من أرديتهم القديمة، وإذا جاز لنا ذكر شيء عن مساويهم، فقد يكون السكر والنصب أوضحها سمات، وأكثرها ظهورا، وهم يسكنون عادة في أرياض حي «الرولز» الواقع في الغالب داخل دائرة ميل مربع واحد من «المسلة» القائمة في ميدان سانت جورجز فيلدز، وليست على وجوههم مسحة من معارف تجتذب النظر، وفي مسالكهم وتصرفاتهم غرابة ظاهرة.
وكان المستر «سولومون بل» وهو أحد أفراد هذه الطائفة، رجلا بدينا مترهلا شاحب اللون في رداء سابغ يبدو أخضر اللون لحظة، ثم يستحيل في اللحظة التالية داكنا، له طوق من القطيفة، من هذه الألوان «الحربائية» ذاتها، وهو ضيق الجبين، عريض الوجه، كبير الهامة، ينحرف أنفه إلى ناحية كأن الطبيعة من غضبها عند تكوينه قبل مولده، لطمت أنفه لطمة غيظ لم ينقه منها أبدا. وكان قصير الرقبة، مصابا بالربو، وكان لهذا السبب يتنفس غالبا من ذلك المعطس الذي أعوزه التناسب والجمال، فاستعاض عنهما بهذا الاستعمال النافع.
وأنشأ المستر بل يقول: «إنني واثق من أنني سأخرجه من هذا المأزق.»
وأجاب الشخص الذي كان قد تعهد له بهذه المعونة المؤكدة: «هل أنت متأكد حقا؟»
وقال بل: «كل التأكيد، ولو كان قد لجأ إلى محام آخر غير مستقيم، لما كنت مطمئنا إلى النتائج، لا تنس هذا طبعا.»
وقال الآخر وهو فاغر فمه: «آه.»
وقال المستر بل: «نعم. ما كنت عندئذ واثقا من العاقبة ولا مطمئنا» وزم شفتيه، وعبس، وهز رأسه هزا غامضا غريبا.
وكان هذا الحوار يدور في الحانة المقابلة لدار محكمة التفاليس. ولم يكن الشخص الذي يتحدث إلى المستر بل غير المستر ولر الكبير، فقد جاء إلى ذلك المكان مع صديق له كان قد قدم التماسا إلى المحكمة لإطلاق سراحه وفقا للقانون، وكان ذلك اليوم موعد النظر فيه، وقد صحب صديقه هذا لمواساته وتسرية الهم عنه، واجتمع بالمحامي في تلك اللحظة للمشاورة في الأمر.
وسأل المستر ولر الكبير: «وأين جورج؟»
وأومأ المستر بل برأسه إلى الغرفة الخلفية، فبادر المستر ولر إليها في الحال، فلم يكد يدخل الغرفة حتى استقبل بأبلغ الحفاوة وأشد الترحيب من نفر من زملائه في المهنة، تعبيرا عن سرورهم بقدومه. وكان السيد المفلس الذي أولع بحب المضاربة والإقدام على تأجير الخيل للرحلات الطوال، وهي نزعة حمقاء أدت إلى هذه الظروف المحيطة به، يلوح في أحسن حال، وهو يحاول تخفيف حدة شعوره وتسكين ثائرته بالتهام براغيث البحر
1
والإلحاح على الجعة.
وكانت التحيات التي تبودلت بين المستر ولر وأصحابه مقصورة على تحية «ماسونية» المهنة وحدها، وهي التطويح بالمعصم الأيمن، وهز الخنصر في الفضاء في آن واحد، وقد عرفنا في يوم من الأيام حوذيين مشهورين، ماتا من مدة، رحمة الله عليهما، كانا توأمين، وبينهما مودة وحب، وإخلاص لا تصنع فيه، وكان كل منهما يمر بالآخر على طريق دوفر، في كل يوم، ولبثا على هذه الحالة أربعة وعشرين عاما، لم يتبادلا فيها يوما سلاما غير هذا السلام الذي وصفناه، ولكن ما كاد أحدهما يقضي نحبه، حتى ذوى الآخر من الحزن عليه، ولم يلبث أن ذهب في أثره!
وقال المستر ولر وهو يخلع رداءه الخارجي ويجلس جلسة الوقار المعروف عنه: «كيف الحال يا جورج؟ هل خلف العربة على ما يرام وجوفها ممتلئ؟»
وقال السيد المرتبك: «كل شيء على ما يرام يا صاح.»
وسأل المستر ولر في لهفة وقلق: «وهل سلمت الفرس الشهباء إلى أحد؟»
وأومأ جورج إيماءة الإيجاب.
وقال المستر ولر: «هذا جميل، وهل المركبة محل عناية أيضا؟»
وقال جورج وهو ينزع رءوس نحو ستة من براغيث البحر، ويلتهمها جميعا مرة واحدة بكل هدوء: «وضعت في مكان أمين.»
وقال المستر ولر: «جميل جدا! جميل جدا! لا تنس أبدا السير ببطء وحذر وأنت هابط المنحدر، هل استوفيت قائمة المسافرين والبضاعة استيفاء تاما؟»
وقال بل وقد حزر المعنى المراد: «القائمة يا سيدي؟ إنها واضحة مرضية بكل ما في وسع القلم والمداد أن يفعلا، لتبدو كذلك.»
وأومأ المستر ولر بشكل ينم عن ارتياحه لهذه التدابير، ثم التفت إلى المستر بل، وأشار إلى صديقه جورج قائلا: «متى تجرده من ثيابه؟»
وأجاب المستر بل: «إن اسمه هو الثالث في الجدول وأظن أن دوره سيأتي بعد نصف ساعة تقريبا، وقد نبهت كاتبي أن يأتي ويقول لي إذا سنحت الفرصة.»
وأجال المستر ولر نظره في المحامي من فرعه إلى قدمه بإعجاب شديد، وقال بلهجة التوكيد: «وماذا تشرب يا سيدي؟»
وأجاب المستر بل: «في الحقيقة ... إنك ل ... أقسم بشرفي إنني لم أعتد ... إن الوقت في الصباح الباكر جدا ... حتى إني في الحقيقة أكاد ... ولكن لا بأس من أن تطلب لي قدرا من الروم لا يتجاوز ثمنه ثلاثة بنسات يا عزيزي.»
وكانت الصبية التي تتولى الخدمة في الحانة قد توقعت الطلب قبل تلقي الأمر به، فوضعت الشراب أمام المستر بل وانصرفت.
وقال هذا وهو يدير عينيه في الجمع الذين حوله: «أيها السادة ... تمنوا لصديقكم التوفيق، إنني لا أحب التفاخر أيها السادة، إنه ليس من طبعي، ولكن لا يسعني إلا أن أقول: إنه لولا أن صديقكم قد أوتي الحظ فوقع في يد ... ولكن لا لزوم لما كنت أريد أن أقوله ... أيها السادة ... في خدمتكم»، وبعد أن أفرغ الكأس في جوفه في ومضة البرق، مسح شفتيه بلسانه، وأدار بصره في وجوه السائقين الجلوس من حوله، وكان هؤلاء ينظرون إليه كأنه نوع من الآلهة والأرباب.
وواصل «الحجة» في القانون يقول: «دعوني أتذكر، ماذا كنت أقول اللحظة أيها السادة؟»
وقال المستر ولر بلهجة تجمع بين الهزل والجد: «أظن أنك كنت تقول: إن لا مانع لديك من كأس أخرى من هذا الصنف يا سيدي.»
وضحك المستر بل قائلا: ها، ها! لطيفة، لا بأس بها، ومحام أيضا، وفي هذا الوقت من الصباح إنها ستكون أوفق من ... والله لست أدري يا عزيزي ... يصح أن تكرر ذلك مرة أخرى إذا تفضلت، احم.»
وكان هذا الصوت الأخير سعلة كرامة ووقار رأى المستر بل وجوب اصطناعها احتراما لمركزه، حين تبين أعراض نزعة غير مستحبة إلى المجون عند بعض سامعيه.
ومضى المستر بل يقول: «إن قاضي القضاة السابق أيها السادة كان يحبني كثيرا.»
وقاطعه المستر ولر بقوله: «وهذا يزيده فضلا على فضله.»
وقال «زبون» المستر بل: «لا عجب، لا عجب، ولم لا؟»
وقد رجل أحمر الوجه إلى حد بعيد، وكان قد لبث صامتا لا يقول شيئا، ومن المرجح كثيرا أنه لن يقول بعد هذا حرفا آخر: «صحيح، فعلا، ولم لا؟»
وسرت غمغمة موافقة في صفوف الجمع.
ومضى المستر بل يقول: «أذكر أيها السادة إنني كنت أتغدى معه في ذات يوم، وكنا معا بمفردنا، ولكن كان كل شيء فاخرا كأن عشرين ضيفا ينتظر قدومهم، وكان عن يمينه خاتمه الكبير موضوعا فوق رف متحرك وحاجب في ضفيرة كبيرة ولأمة كاملة لحراسة الصولجان بالسيف مصلتا في يمينه، والجورب الحريري في ساقيه، ليل نهار، وإذا هو فجأة يقول: «اسمع يا بل، إن رأيي فيك بغير كلفة كاذبة ولا اصطناع هو أنك رجل ذو مواهب، وفي إمكانك أن تخرج أي إنسان بريئا من محكمة التفاليس، وأن وطنك لفخور بك»، هذه كانت كلماته بالذات. قلت: يا مولاي، إنك تجاملني، فكان جوابه: اسمع يا بل، لعنة الله علي إذا كنت أجاملك.»
وسأل المستر ولر: «هل قال ذلك؟»
وأجاب بل: «نعم، قاله.»
وقال المستر ولر: «حسن جدا، وأنا أقول: إنه كان من واجب البرلمان التحقيق في هذه المسألة، ولو كان الرجل فقيرا لأجرى فيه تحقيقا، ولكنه غني يا سيدي.»
وبادر المستر بل إلى تصحيح الموقف فقال: «ولكن يا صديقي العزيز، لقد كان هذا سرا بيني وبينه.»
وقال المستر ولر: «كان ماذا؟»
وأجاب المستر بل: «سرا بينه وبيني دون سوانا.»
وأجاب المستر ولر بعد تفكير قصير: «آه، جميل جدا، إذا كان قد أساء إلى نفسه في السر، فهذه بالطبع مسألة أخرى.»
وقال المستر بل: «بالطبع مسألة أخرى، والفرق واضح كما ترى.»
وأجاب المستر ولر: «ويغير الوضع كل التغيير، استمر يا سيدي.»
وقال المستر بل وهو يغض من صوته ويتخذ سمات الجد: «كلا، لن أستمر يا سيدي، فقد نبهتني يا سيدي إلى أن ذلك الحديث كان خاصا. نعم خاصا وسريا أيها السادة، إنني محام أيها السادة، ومن الجائز أنني منظور إلي كثيرا في وسط مهنتي، ومن الجائز ألا أكون كذلك، إن أكثر الناس يعرفون، ولهذا لا أقول شيئا، لقد أبديت قبل الآن ملاحظات في هذه الغرفة تمس سمعة صديقي العظيم، أستميحكم معذرة أيها السادة، لم أكن حكيما فيما قلته، وأشعر بأن لا حق لي في ذكر هذه المسألة قبل الحصول على موافقة منه، شكرا لك يا سيدي، شكرا.» وما أن انتهى المستر بل من إنقاذ نفسه على هذا النحو حتى دس يديه في جيبيه، وعبس في وجوه من حوله عبسة شديدة، وراح يهز ثلاثة أنصاف بنسات في كفه بشدة ظاهرة.
ولم يكد يبدي هذه الحركة الجدية الرهيبة حتى اندفع إلى الحجرة بعنف غلام المحامي وحامل حقيبته الزرقاء، وهما متلازمان لا يكادان يفترقان، فقالا - أو قال الغلام على الأقل؛ لأن حامل الحقيبة لم يشترك في الإعلان -: إن القضية ستنادى بعد لحظات، فلم يلبث القوم على سماع هذا النبأ أن خرجوا جميعا مسرعين فعبروا الطريق إلى دار المحكمة وراحوا يشقون السبيل متدافعين، وهي عملية تمهيدية يقدر لها في الأحوال العادية أن تستغرق بين خمس وعشرين دقيقة وثلاثين.
وكان المستر ولر ضخما، فانثنى يلقي بنفسه في الحال وسط الزحام، مستميتا، لعله في النهاية واصل إلى موضع ملائم له، ولكن نجاحه لم يأت معادلا لأمله، ولم يحدث ما كان يرجوه؛ لأنه نسي أن ينزع قبعته عن رأسه، وإذا شخص مجهول يرخيها فوق عينيه مغضبا؛ لأن المستر ولر وطئ إحدى قدميه بقوة، والظاهر أن ذلك الشخص شعر بندم عاجل على فعلته تلك؛ لأنه غمغم بعبارة مبهمة تدل على دهشة فجائية، وجر الشيخ من وسط الزحام إلى البهو، وتمكن بعد جهد جهيد من إخراج رأسه ووجهه.
وصاح المستر ولر بمجرد رؤية وجه منقذه: «صمويل.»
وأومأ سام برأسه.
وقال المستر ولر: «إنك لولد بار ودود، إذ أتيت تلقي قبعة أبيك عن رأسه وهو شيخ كبير، أليس كذلك؟»
وأجاب ابنه: «من أين لي أن أعرف أنك أنت؟ هل تظن أنني كنت أعرف ذلك من وطأة قدمك وثقلها؟»
وقال المستر ولر وقد هدأ غضبه في الحال: «هذا صحيح يا سامي، ولكن ماذا جاء بك إلى هنا؟ إن معلمك لا شأن له هنا ولا فائدة، إنهم لن يصدروا ذلك الحكم يا سامي، ولن يصدروه.» وراح يهز رأسه هزة الواثق الخبير بالقانون.
وصاح سام قائلا: «يا لك من شيخ معاند ... لا تكف أبدا عن الكلام في الأحكام، وأدلة النفي، وما شابه ذلك، من الذي تكلم عن القرار؟»
ولكن المستر ولر لم يحر جوابا، وإنما عاد يهز رأسه هزة الخبير الواسع العلم.
وقال سام وقد نفد صبره: «كفى تحريكا لرأسك هكذا، إذا لم تكن تريد أن تخرجه عن دواليبه وكن عاقلا في تصرفاتك، لقد سرت طول الطريق ليلة أمس إلى المركيز جرانبي لمقابلتك.»
وسأل المستر ولر وهو يرسل زفرة من صدره: «وهل رأيت المركيزة جرانبي يا سامي؟»
وأجاب سام: «نعم، رأيتها»
قال: «وكيف حال المخلوقة العزيزة؟»
وأجاب سام: «غريبة جدا، أعتقد أنها ستؤذي نفسها وتضر بصحتها تدريجا من الإفراط في الروم المستخرج من الأناناس وغيره من الأدوية القوية المماثلة له.»
وقال المستر ولر الكبير بلهجة الجد: «هل تقصد أن تقول هذا حقيقة يا سامي؟»
وأجاب المستر ولر الصغير: «أقصد ذلك حقيقة.»
وتناول المستر ولر يد ابنه وأمسك بها ثم تركها تسقط من كفه، وقد بدت على وجهه وهو يفعل ذلك أمارات لا توحي بحزن أو جزع أو خوف، بل هي أقرب إلى علامات الأمل الحلو اللطيف، بل لقد خطفت على وجهه كذلك ومضة من استسلام أو فرح، وهو يقول برفق: «لست متأكدا يا سامي كل التأكد، ولا أميل إلى القول: بأني على يقين تام، مخافة أن تنتهي المسألة بخيبة أمل، ولكني مع ذلك أظن يا بني أن الراعي مريض بالكبد.»
وقال سام: «هل يبدو المرض عليه؟»
وأجاب أبوه: «إنه شاحب إلى حد غير مألوف إلا الأنف فهو أشد احمرارا مما كان من قبل، وشهوته إلى الطعام بين بين، ولكنه في الشرب عجب.»
وبدا على المستر ولر أن ذكر «الروم» أثار بعض الأفكار والتصورات في خاطره، فقد ظهرت عليه أعراض الاكتئاب والوجوم، ولكنه لم يلبث أن أفاق منها، بدليل كثرة الغمز بطرف عينه، وهي عادة لا يلجأ إليها إلا حين يستولي السرور عليه.
وقال سام: «والآن، لنتحدث في مسألتي، فأرجو أن تفتح أذنيك هاتين وتنصت ولا تنطق بشيء حتى أنتهى من قولي.» وأنشا سام، بعد هذه المقدمة المختصرة يقص على أبيه، بكل الإيجاز الذي تواتى له، فجوى ذلك الحديث المشهود الذي دار بينه وبين المستر بكوك.
وصاح المستر ولر: «أيقيم في ذلك المكان بمفرده؟ يا له من مخلوق مسكين! أيبقى وحده لا أحد بجانبه يتولى خدمته؟ هذا لا يمكن يا صمويل، هذا لا يمكن.»
وقال سام: «طبعا لا يمكن، وأنا عارف ذلك قبل مجيئي إليك.»
وعاد المستر ولر يصيح قائلا: «إنهم سيأكلونه حيا هناك يا سامي.»
وأومأ سام موافقا على هذا الرأي.
ومضى المستر ولر يقول على سبيل التشبيه والمجاز: إنه قد ذهب إلى السجن «نيئا» يا سامي، ولكنه سيخرج منه محروقا أسود أشد السواد، حتى ليصعب على أعز أصدقائه أن يعرفوه، إن الحمام المشوي لن يذكر عندئذ بجانبه يا سامي.
وأومأ سام ولر مرة أخرى.
وقال المستر ولر بجد بالغ: «وهذا لا ينبغي أن يحدث يا صمويل.»
وأجاب سام: «لا يصح حتما.»
وقال المستر ولر: «لا ينبغي بلا شك.»
وقال سام: «وما العمل الآن؟ بعد كل هذا التنبؤ الذي أكثرت منه، وصورته أحسن تصوير «كنيكسون» الأحمر الوجه الذي يرسم على الكتب التي تباع بستة بنسات وتحوي رسوما وصورا.»
وسأل المستر ولر قائلا: «ومن يكون نيكسون هذا؟»
وأجاب سام: «دعك من السؤال عنه، لم يكن سائقا ويكفيك أن تعرف ذلك.»
وقال المستر ولر مفكرا سارحا: «لقد كنت أعرف سائحا بهذا الاسم.»
وقال سام: «لم يكن هو، إن هذا الذي ذكرته لك كان نبيا.»
وقال المستر ولر وهو ينظر بعبوس إلى ابنه: «ومن هو النبي؟»
وأجاب سام: «ألا تعرف من هو النبي؟ إنه رجل ينبئ بما سيحدث.»
وقال المستر ولر: «ليتني عرفته يا سام، فلعله كان يلقي ضوءا على عاقبة مرض الكبد الذي كنا منذ لحظة نتحدث عنه»، ثم واصل حديثه وهو يتحسر: «ومع ذلك فإذا كان هذا النبي قد مات، ولم يترك الصنعة لأحد، فقد ذهبت بذهابه. استمر يا سامي.»
وأنشأ سام يقول: «لقد كنت اللحظة تتنبأ بما قد يحدث للمعلم إذا ترك في السجن وحده، فهل ترى وسيلة للعناية به؟»
وقال المستر ولر وقد بدا التفكير على محياه: «كلا، يا سامي، لا أرى.»
وقال سام: «ألا من وسيلة أبدا؟»
وأجاب المستر ولر: «لا وسيلة إلا إذا ...»، وفي تلك اللحظة خطف على وجهه شعاع من الإلهام فغض من صوته، وقرب فمه من أذن ابنه وهمس قائلا: «إلا إذا عملنا على إخراجه في سرير مقلوب لا يعرفه الحراس يا سامي، أو ألبسناه زي امرأة عجوز وأخفينا وجهه ببرقع أخضر.»
وتلقى سام ولر هذين الاقتراحين باستهزاء غير منتظر، وعاد يردد السؤال على سمع أبيع ويتوسع في شرحه.
وقال الشيخ لفتاه: «لا أرى سبيلا إذا هو لم يسمح لك بالبقاء معه، الطريق مسدود يا سامي، الطريق مسدود.»
وقال سام: «سأقول لك إذن ما هي الوسيلة، سأزعجك بطلب قرض مقداره خمسة وعشرون جنيها.»
وسأله أبوه قائلا: «وماذا يفيد هذا؟»
وأجاب سام: «لا شأن لك بهذا، فلعلك ستطلبه مني بعد خمس دقائق، فأقول لك مثلا: «لا أدفع» وأغلظ لك في القول، وأرفض السداد بتاتا، ولن ترضى أنت أن تفكر في القبض على ابنك من أجل هذا المال وترسله إلى سجن «فليت»، هل ترضى أيها الشريد المطبوع على التشرد؟»
وعندئذ تبادل الوالد والابن اصطلاحات برقية من الغمزات والإشارات، ثم جلس المستر ولر فوق سلم حجري، وظل يضحك حتى امتقع لونه.
وقال سام في غيظ من ضياع الوقت على هذا النحو: «يا لها من صورة غريبة! ما الذي يجعلك تجلس هكذا، قالبا سحنتك أشبه بأكرة باب الشارع، وأمامنا عمل كثير يجب أن نفرغ سريعا منه؟ أين النقود؟»
وأجاب المستر ولر وهو يسكن من ثائرة انفعالاته: «هنا في الحذاء يا سامي، امسك القبعة يا سامي.»
ولم يكد المستر ولر يتخلص من القبعة المزعجة حتى نفض بدنه نفضة فجائية إلى أحد جانبيه، وبعوجة بارعة، تمكن من دس يده اليمنى في جيب رحيب، فأخرج منه محفظة كبيرة الحجم ملفوفة بحزام ضخم من الجلد، وأطلع منها زوجا من حبل السياط وثلاثة مشابك أو أربعة وعينة من القمح في كيس، وأخيرا حزمة صغيرة من أوراق النقد قذرة، اختار منها المبلغ المطلوب فأسلمه إلى ابنه.
وقال بعد أن رد الحبل والمشابك والقمح إلى مواضعها وأودع المحفظة جوف ذلك الجيب الرحيب: «والآن يا سامي، اسمع، إنني أعرف هنا سيدا يستطيع أن يؤدي لنا بقية المهمة في أقصر وقت ممكن، إنه رجل قانون أوتي عقلا كعقول الضفادع موزع في جميع أجزاء جسمه وواصل إلى أطراف أنامله، وصديق لقاضي القضاة، ما عليه إلا أن يقول له عن حاجته، فيعطيك في الحال «تأييده»، إذا كان هذا هو كل المطلوب.»
وقال سام: «أقول لك: إني لا أريد شيئا من هذا.»
وسأله المستر ولر: «لا شيء من ماذا؟»
وأجاب سام: «من هذه الوسائل غير الدستورية التي تتكلم عليها في موضوعنا، أن قانون «الهافهز كاركاس»
2
هو بعد الدستور القائم، من أعظم النعم التي أنعم بها علينا، لقد قرأت كثيرا عن هذا في الصحف.»
وقال المستر ولر: «ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه؟»
وأجاب سام: «العلاقة هي أنني سأتولى الأمر بنفسي وأدخل السجن من هذا الطريق دون حاجة إلى الكلام همسا مع قاضي القضاة ولا سواه، أنا لا أقبل هذه الفكرة؛ لأن من الجائز ألا تكون العاقبة سليمة، من ناحية الخروج ثانية.»
واحتراما لهذا الشعور الذي أبداه ابنه بادر إلى البحث عن العلامة «سلمون بل»، وأبلغه رغبته في استصدار حكم في الحال لمصلحته بطلب أداء دين قدره خمسة وعشرون جنيها والمصاريف والأتعاب، والتنفيذ المعجل، على شخص يدعى صمويل ولرق على أن تدفع الأتعاب مقدما إلى «سلمون بل».
وفرح المحامي فرحا شديدا؛ لأن الحكم كان قد صدر بشطب اسم السائق الغريق في الديون إلى ذقنه من جدول «المفلسين» في الحال، فلم يكد يسمع قصة سام حتى امتدح موقفه من مخدومه وأثنى ثناء مستطابا على إخلاصه ووفائه، وقال: إن ذلك يذكره بوفائه وولائه لصديقه قاضي القضاة، وسار في الحال بالمستر ولر الكبير إلى المحكمة المدنية لتحرير إقرار بالدين المطلوب، وكان الغلام قد فرغ من تحريره في التو واللحظة، مستعينا بحامل الحقيبة الزرقاء.
وكان سام قد قدم في الوقت ذاته إلى السائق الذي برئ من التهمة، وإلى أصدقائه السائقين الآخرين، على أنه ابن المستر ولر، فأقبلوا عليه محتفين به، ودعوه إلى الاشتراك معهم في الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة، وهي دعوة لم يتردد في تلبيتها.
والمألوف بين هذه الفئة من الناس أن مرحها يتخذ عادة سمات الوقار والهدوء، ولكن هذه المناسبة كانت ذات طابع خاص، فلا عجب إذا هم تسامحوا فيها ومدوا البساط، وبعد أن شربوا وسط الضوضاء والصياح نخب القاضي الذي حكم في القضية، ثم نخب المستر سلمون بل، الذي أظهر في ذلك اليوم مقدرة عالية، انبرى سيد منهم «مرقط» الوجه في «شال» أزرق اللون فاقترح أن يشنف أحدهم الأذان بأغنية. وكان الرأي الظاهر أن السيد الراغب في الغناء هو الذي يتولاه بنفسه، ولكن الرجل رفض هذا الرأي بعناد، بل في شيء من الغضب أيضا، فدار عندئذ حوار بين القوم وقامت مشادة كما هي العادة في أمثال هذه الأحوال.
وصاح السائق صاحب الاقتراح: «أيها السادة، بدلا من إفساد مجلسنا اللطيف، والإخلال بانسجامه، أحسب أن المستر صمويل ولر سيتفضل على المجلس بتشنيف أذانه.»
وقال سام: «في الحقيقة أيها السادة إنني لم أعتد كثيرا الغناء بغير آلات، ولكن لا بد من التضحية بأي شيء في سبيل الحياة الهادئة كما قال الرجل الذي تسلم نوبة الوقوف لحراسة المنارة.»
وانثنى المستر صمويل ولر عقب هذه المقدمة يغني على الفور هذه الأقصوصة الجميلة الحماسية التالية التي نستبيح لأنفسنا اقتباسها، اعتقادا منا أنها ليست معروفة للناس عامة، راجين توجيه الأنظار خاصة إلى المقطع الواحد في نهاية السطرين الثاني والرابع؛ لأنه لا يساعد المغني على استرداد أنفاسه عند هذين الموضعين فحسب، بل يعاون كثيرا على مراعاة الوزن.
وإليكم الأغنية:
3
1 «كان «تربين» الجسور يوما على مروج هاونزلوهيث»
4 «منطلقا بفرسه «بس» على الطريق ... قن» «وإذا هو يشهد مركبة الأسقف في سير حثيث» «قادمة مسرعة على الطريق ... قن» «فأسرع خببا حتى حاذى سيقان الحصان» «وأدخل رأسه في المركبة حينئذ» «فصاح الأسقف إذا كان البيض هو البيض»
5 «فلا شك في أن هذا هو الجسور تربن»
المذهب «فصاح الأسقف إذا كان البيض هو البيض» «فلا شك في أن هذا هو الجسور تربن»
2 «وقال تربن: لأجعلنك تأكل كلامك أكلا» «مع دمعة
6
من رصاص يقتل فعلا» «وأدنى المسدس من فيه» «وأطلقه في حلقه لكي يرديه» «ولم يرق هذا المشهد السائق» «فأخذ المركبة في عجل وانطلق» «ولكن دك أطلق على رأسه رصاصتين ليقف» «واضطره إلى الوقوف فوقف»
المذهب «بنغمة تهكمية» «ولكن «دك» أطلق على رأسه رصاصتين ليقف» «واضطره إلى الوقوف فوقف»
وما أن بلغ المغني هذا الحد من أغنيته حتى عاجله السيد ذو الوجه المرقط فقال: إنني أعتقد أن هذه الأغنية تعبر عن واقعة حال خاصة من أولها إلى آخرها وأطلب معرفة اسم ذلك السائق.
وأجاب سام: «لا يعرف أحد اسمه؛ لأنه لم تكن بطاقته في جيبه.»
وعاد الرجل يقول: «إنني أعارض الدخول في السياسة، وأقرر أمام هذا الجمع أن هذه الأغنية سياسية، وأنها أيضا غير صحيحة، وأقول: إن ذلك السائق لم يهرب مطلقا، ولكنه مات غيلة. مات اصطيادا كما تصاد القطاة، ولا أقبل اعتراضا على قولي هذا.»
وكان السائق يتكلم بقوة بالغة وإصرار شديد، وبدت الآراء مختلفة، حتى كاد الموقف يثير مشادة جديدة، وإذا المستر ولر والمستر بل قد وصلا في أنسب وقت.»
وقال المستر ولر: «كل شيء على ما يرام يا سامي.»
وتبعه المستر بل قائلا: «وسيكون الضابط هنا في الساعة الرابعة، ولا أظنك تهرب قبل هذا الموعد. ها! ها!»
وأجاب سام بابتسامة عريضة: «ربما يندم «بابا» القاسي القلب قبل حلول الموعد.»
وقال المستر ولر الكبير: «لا يمكن.»
وقال سام: «أرجوك.»
وأجاب الدائن العنيد: «لا يمكن بأي حال.»
وقال سام: «سأعطيك سندات بالمبلغ على أن أدفع فائدة قدرها ستة بنسات عن كل شهر.»
وأجاب المستر ولر: «لا أقبل أبدا.»
وقال المستر سولومون بل، وهو ماض في عمل حساب المصاريف: «ها، ها، جميل جدا، جميل جدا، تلك حادثة لطيفة فعلا، يا بنجمن، انسخ هذا.» وعاد المستر بل إلى الابتسام وهو يوجه نظر المستر ولر إلى المبلغ المطلوب.
وقال رجل القانون وهو يتناول ورقة قذرة من الأوراق المالية التي أخرجها المستر ولر من جوف محفظته: «أشكرك، أشكرك، ثلاث عشرات وعشرة تساوي خمسة، شاكر لك يا مستر ولر، إن ابنك شاب جدير كل الجدارة، حقا إنه لكذلك. وهذه الأخلاق جميلة جدا من شاب مثله.» وأردف يقول وهو يبتسم بلطف للجمع الذين حوله، ويزرر على المال الذي دسه في جيبه: «هذا جميل جدا.»
وقال المستر ولر وهو يبتسم: «ما ملح هذا! هل هو ابن فذ قل أن يأتي الزمان بمثله؟»
وقال المستر بل متلطفا ليصحح العبارة له: «قل: فلتة من فلتات الطبيعة يا سيدي.»
وأجاب المستر ولر بكل هدوء: «لا بأس يا سيدي، إنني أعرف كم الساعة وحين لا أعرف سأسألك يا سيدي.»
وكان سام قد تملك إعجاب الجميع وظفر بمكانة كبيرة في نفوسهم، حين قدم الضابط، فقرر القوم أن يصحبوه لتوديعه حتى باب السجن في حفل حافل، وكذلك انطلقوا فسار المدعي والمدعى عليه ذراعا لذراع، والضابط في الطليعة وثمانية سائقين ضخام الأبدان في المؤخرة. ولما وصلوا إلى مقهى «سرجنتز ان» وقف الموكب، لتناول الشراب، ريثما تتم الإجراءات القانونية، ثم عاودوا المسير.
وحدثت ضجة يسيرة في شارع «فليت»، لهذا المشهد المضحك، فقد أصر السادة الثمانية الذين يؤلفون «المؤخرة» على أن يسيروا رباع في صف، ورباع في صف آخر، واضطروا أيضا إلى ترك صاحبهم السائق المرقط الوجه متخلفا وراءهم للاشتجار مع حمال بعد أن اتفقوا على أن يوافوه عند رجوعهم، ولم يحدث في الطريق غير هذه الحوادث الصغيرة، حتى بلغوا باب السجن، وما أن أعطاهم «المدعي» الإشارة حتى هتفوا ثلاثا بصوت مدو للمدعى عليه، وبعد أن صافحوه جميعا تركوه وقفلوا عائدين.
ولما تم تسليم سام إلى السجان، وكان ذلك مثارا لدهشة شديدة استولت على نفس روكر، وحركة انفعال ظاهرة حتى من جانب ذلك الرجل البارد المتراخي «ندى» انتقل سام في الحال إلى داخل السجن، وانطلق رأسا إلى غرفة سيده فدق الباب.
وقال المستر بكوك: «أدخل.»
وظهر سام ونزع قبعته عن رأسه وابتسم.
وصاح المستر بكوك في اغتباط واضح برؤية خادمه الأمين مرة أخرى: «آه، سام، يا بني العزيز، لم أكن أقصد أمس جرح شعورك يا صاح بما قلته لك، اخلع قبعتك يا سام ودعني أشرح لك المعنى الذي أردته في شيء من التوسع في البيان.»
وقال سام: «ألا يمكن التأجيل لحظة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد، ولكن لم لا يكون الآن؟»
وقال سام: «إنني أفضل ألا يكون ذلك الآن يا سيدي.»
وسأله المستر بكوك: «ولماذا؟»
وقال سام مترددا: «لأن ...»
وعاد المستر بكوك يسأل بعد أن أقلقه كلام خادمه: «لأن ماذا؟ تكلم بصراحة يا سام.»
وأجاب هذا قائلا: «لأن، لأن عندي عملا صغيرا الآن أريد أن أنتهي منه.»
وقال المستر بكوك وهو في دهشة من ارتباكه: «أي عمل تقصد؟»
وأجاب سام بابتسام: «لا شيء بالذات يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «آه! إذا لم يكن شيء بالذات، فلتكلمني أولا.»
وأجاب سام وهو لا يزال مترددا: «أظن أنه يحسن أن أفكر في المسألة حالا.»
وبدت الدهشة الشديدة على وجه المستر بكوك ولكنه لم يقل شيئا.
وانثنى سام يقول: «الحقيقة هي أنني ...»، ولم يتم الكلام.
وعاد المستر بكوك يقول: «قل صراحة يا سام.»
وأجاب سام وهو يحاول جاهدا: «الحقيقة هي أنه من الأفضل أن أبحث عن سرير لي قبل أن أفعل أي شيء آخر.»
وصاح المستر بكوك مدهوشا: «سرير لك!»
وأجاب سام: «أي نعم، سرير لي يا سيدي، إنني سجين، وقد قبض علي بعد ظهر اليوم، لدين علي.»
وقال المستر بكوك مبهوتا وهو يتهالك على مقعد: «أنت مقبوض عليك لدين؟»
وأجاب سام: «نعم، لدين يا سيدي، والرجل الذي زج بي في السجن لن يدعني أخرج منه حتى تخرج أنت.»
وصاح المستر بكوك وهو في عجب بالغ: «يا سبحان الله! ماذا تعني؟»
وأجاب سام: «أعني ما أقوله يا سيدي، وإذا كان البقاء هنا أربعين سنة، فسأمكث هنا حتى تنتهي، وأنا الفرح المبتهج، ولو كان في سجن «نيوجيت» لما تغير الوضع أيضا، والآن وقعت الواقعة، وانتهى الأمر.»
وبهذه الكلمات التي راح يرددها بقوة توكيد، ألقى بقبعته إلى الأرض، في انفعال غير معهود منه، ثم شبك ذراعيه فوق صدره ووقف ينظر طويلا على وجه سيده.
الجمبري.
يشير إلى قانون هبياس كوربيس الذي مر ذكره، وهو القانون الذي يقضي بألا يسجن أحد بغير حكم.
ترجمت بشيء من التصرف محافظة على القافية.
هاونزلوهيث تعني مروج هاونزلو.
اصطلاح في الإنجليزية معناه س = س أو بكل تأكيد. أو اصطلاحنا في العربية واحد + واحد = 2.
أي: صلصة.
الفصل الرابع والأربعون
يتناول عدة شئون صغيرة جرت في سجن فليت، والمسلك الغريب الذي بدا من المستر ونكل، وكيف استطاع الموظف السجين الحصول أخيرا على أمر بالإفراج عنه. ***
وتأثر المستر بكوك أشد التأثر بذلك الإخلاص الذي أبداه سام، فلم يواته إظهار شيء من الغضب أو الاستياء من هذه الخطة العجلى التي اتخذها، والتطوع لدخول سجن المدينين إلى أجل غير مسمى، ولكنه أصر على شيء واحد، وهو مطالبته بأن يعين اسم الدائن الذي اعتقله، ولكن المستر ولر أصر من جانبه على ألا يصارحه به، قائلا مرة بعد أخرى: «لا فائدة يا سيدي من إصرارك على معرفة اسمه ... إنه مخلوق مؤاذ، سيئ النفس، دنيوي النزعة، حقود، لا يترك ثأره، قاسي القلب لا يعرف الرحمة، يصدق عليه ما قاله القسيس الورع عن الشيخ المصاب بالاستسقاء حين قال: إنه يعتقد على العموم أنه يفضل أن يترك ما يملك لزوجته على أن يبني كنيسة به.»
وقال المستر بكوك وهو يحاوره: «ولكن لا تنس يا سام أن المبلغ المطلوب من الضآلة بحيث لا يصعب الوفاء به، وإذا كنت قد نويت أن أبقيك معي فاذكر مبلغ الفائدة الكبيرة التي سوف تعود علي إذا أنت بقيت خارج هذه الجدران.»
وأجاب المستر ولر بجد بالغ: «أنا شاكر لك يا سيدي كل الشكر، ولكني أفضل ألا أفعل.» - «تفضل ألا تفعل ماذا يا سام؟» - «أفضل ألا أهين نفسي بتقديم رجاء واستعطاف لخصمي الذي لا يعرف الندامة.»
وقال المستر بكوك وهو مسترسل في محاجته: «ولكن ليس في طلبك إليه أخذ ماله يا سام رجاء ولا صنيع.»
وأجاب سام: «عفوا يا سيدي إذا قلت: إن الوفاء بالمبلغ هو في ذاته صنيع كبير؛ لأنه لا يستحق شيئا، هذه هي المسألة يا سيدي.»
وهنا عرك المستر بكوك أنفه في شيء من الغيظ فرأى المستر ولر أنه من الحكمة تغيير الموضوع فقال: «إنني عقدت العزم على ذلك بوصفه مبدءا يا سيدي، وإنك عاقد عزمك أيضا على هذا الاعتبار ذاته. وهو أمر يذكرني بحكاية الرجل الذي قتل نفسه استمساكا بالمبدأ، وقد سمعت بالطبع هذه الحكاية يا سيدي.» ووقف المستر ولر عن الكلام وألقى نظرة مضحكة على سيده، من طرفي عينيه.
وأجاب المستر بكوك وقد أخذ شيئا فشيئا يعاود الابتسام، على الرغم من القلق الذي أحدثه عناد سام في نفسه: «ليس في المسألة بالطبع، إن صيت هذا السيد لم يصل يوما إلى سمعي.»
وصاح المستر ولر: «هل صحيح يا سيدي؟ إنك تدهشني، لقد كان الرجل كاتبا في مصلحة حكومية يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أحقا؟»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، وكان أيضا سيدا لطيفا من النوع المدقق المرتب، الذي يضع قدميه في دلاء الماء الساخن الصغيرة المصنوعة من المطاط الهندي، كلما كان الجو مطيرا باردا، وليس له من صديق يحتضنه غير صدار من جلود الأرانب البرية يدفئ به صدره، وكان يقتصد في النفقة حرصا على المبدأ، ويلبس في كل يوم قميصا نظيفا حرصا على المبدأ، ولا يكلم أحدا من أقاربه أبدا، حرصا على المبدأ، مخافة أن يستقرضوه شيئا.
وكان في الجملة، والحقيقة، شخصية لطيفة إلى حد غير مألوف. فكان يقص شعره مرة في كل أسبوعين اتباعا للمبدأ، ويتعاقد على ثيابه من قبيل المبدأ، من الناحية الاقتصادية، فلا يتعدى ثلاث حلل في السنة، ويرد القديمة إلى البائع، وقد بلغ من تمسكه بالنظام في حياته أن اعتاد أن يتغدى كل يوم في مطعم معين لا يتغير، حيث يدفع شلنا وتسعة بنسات لقاء قطعة من لحم الفخذ، فيأخذ من هذا الجزء حقه كاملا، متخيرا منها أحسن القطع، كما كان صاحب المحل يقول في أغلب الأحيان والدموع متساقطة على وجهه، دع عنك الطريقة التي اعتاد أن يحرك بها النار في الموقدة إذا حل الشتاء، والتي يضيع بسببها ما قيمته أربعة بنسات ونصف بنس في اليوم، فضلا عن الألم الذي كان يحز في صدر رب المقهى وهو يراه محركا جذواتها، فقد كان يفعل ذلك بعظمة غير مألوفة، وأبهة مستغربة، ويصيح في كل يوم وهو داخل: «الصحف، بعد أن ينتهي السيد من قراءتها، احرص على «التايمز» يا تومس، ودعني ألق نظرة على المورننج هرالد، حين لا تكون في يد أحد، ولا تنس أن تحضر «الكرونكل»، وآتني الآن «بالادفرتيزر»
1
من فضلك، ثم يجلس وعيناه لا تغادران التطلع إلى ساعة الجدار، فيندفع نحو الباب قبل الموعد الذي اعتاد بائع الصحف الحضور فيه بالصحيفة المسائية، بربع دقيقة؛ لينتظره ويتناول النسخة منه، فيكب على قراءتها باهتمام شديد وتدقيق ظاهر، حتى يجعل رواد المحل الآخرين من التململ والانتظار يكادون ييأسون، أو ينتابهم الجنون من فرط القلق، وعلى الأخص شيخ ضيق الصدر سريع الغضب، حتى لقد اضطر إلى مراقبة حركاته وسكناته في تلك الفترة خشية أن يرتكب عملا جنونيا بسكين القطع التي أمامه على المنضدة.
وهكذا كان يجلس يا سيدي في أحسن موضع من المحل ثلاث ساعات متوالية، لا يتناول شيئا فيها بعد الغداء، سوى النوم، ثم ينصرف إلى مقهى يبعد بضعة شوارع فيطلب قدرا قليلا من القهوة وأربع فطائر، فإذا فرغ منها انكفأ إلى بيته في كنسنجتن وأوى إلى فراشه.
وحدث في ذات ليلة أن مرض مرضا شديدا فبعث في طلب الطبيب، وجاء الطبيب في مركبة خضراء ذات سلم أشبه بما كان عند «ربنصن كروزو» ينزله حين يخرج من المركبة، ويرفعه حين يدخلها، تجنبا لنزول سائقها ليرفعه عنه، فيكتشف الناس أن السائق يرتدي سترة «الحلة» فقط دون السروال المناسب لها، ويسأله الطبيب ماذا بك؟ فيقول: مريض جدا، ويقول الطبيب: ما الذي أكلته؟ ويجيب قائلا: لحم عجل مشويا، ويسأله الطبيب ما هي آخر أكلة تناولتها؟ فيقول المريض: فطير، وعندئذ يقول الطبيب: هذا هو السبب، وسأرسل إليك في الحال علبة حبوب، فلا تعد إليها بعد الآن، ويقول المريض: لا أعود إلى ماذا، إلى الحبوب؟ ويجيب الطبيب: كلا، بل الفطير أقصد، ويسأل المريض وقد استوى جالسا في فراشه: ولماذا؟ لقد قضيت خمسة عشر عاما آكل أربع فطائر في كل ليلة عملا بالمبدأ. ويجيب الطبيب: خير لك إذن أن تقلع عن أكلها عملا بالمبدأ، ويعود المريض فيقول: إن الفطائر لا ضرر منها يا سيدي، ويرد الطبيب قائلا بحدة: إن الفطير مضر يا سيدي. فيقول المريض وقد بدأ يستسلم شيئا ما: ولكنه رخيص جدا، وأسعاره في هبوط مستمر، ويجيب الطبيب: ولكنه سيجعلك تدفع فيه ثمنا غاليا، مهما يكن سعره زهيدا، حتى ولو دفعوا لك نقودا لتأكله، إن أربع فطائر في كل ليلة ستنهي أجلك في ستة شهور.
وهنا يطيل المريض النظر في وجه الطبيب، ويعمل حسابا في ذهنه ثم يقول أخيرا: هل أنت واثق من هذا يا سيدي؟ ويقول الطبيب: إنني أراهن على سمعتي الطبية بأنه صحيح. ويسأله المريض: كم فطيرة تعتقد أنها كفيلة بقتلي في الحال إذا أنا أكلتها مرة واحدة؟ ويجيب الطبيب: لا أدري، فيعود يسأله: هل تعتقد أن فطيرا من هذا النوع بنصف كراون يكفي؟ ويقول الطبيب: أظنه يكفي، ويقول المريض: هل تعتقد أن فطيرا بثلاثة شلنات كفيل بذلك؟ ويجيب الطبيب: مؤكد. وهنا يقول المريض: حسن جدا، طاب ليلك.
وفي صباح اليوم التالي ينهض من فراشه، ويطلب إيقاد نار في الموقدة، ويأمر بإحضار فطائر بثلاثة شلنات، فيحمصها جميعا، ويأكلها كلها، ويضرب نفسه بالرصاص لينتهي من الحياة.
وقال المستر بكوك فجأة: «ولماذا فعل ذلك؟» فقد أفزعته كثيرا هذه النهاية المحزنة التي ختمت بها القصة.
وقال سام: «تسألني يا سيدي لماذا فعل ذلك؟ فلعله تأييدا لمبدئه الأكبر، وهو أن الفطير لا يضر، ولكي يدلل على أنه ليس بالرجل الذي لا يستطيع أحد أن يثنيه عن طريقه أبدا.»
وبهذا الانتقال المتكرر من موضوع إلى موضوع للابتعاد من الموضوع الهام، مضى المستر ولر يواجه أسئلة سيده وتحقيقاته، في الليلة التي جاء ليتخذ في السجن منزله، ووجد المستر بكوك أن الاحتجاج لا يجدي، فلم يسعه أخيرا إلا التسليم على كره منه والموافقة على أن يستأجر فتاه مسكنا له بالأسبوع من إسكاف أصلع يعرض غرفة ضيقة في أحد الدهاليز العليا، فنقل المستر ولر إليها حشية وأغطية استأجرها من المستر روكر، وما أن حل الوقت الذي أوى فيه إلى فراشه، في تلك الليلة، حتى شعر بأنه نزل سهلا، ولقي أهلا، وكأنه ولد في السجن ونشأ فيه ودرج، وأن أهله نبتوا وترعرعوا فيه منذ ثلاثة أجيال أو تزيد.
وقال المستر ولر لصاحب الغرفة، حين أوى كلاهما إلى الفراش: «هل تدخن دائما بعد الدخول في الفراش أيها الديك العجوز؟»
وأجاب الإسكاف: «نعم أيها الفروج الصغير.»
وقال سام: «هل تسمح لي أن أسألك لماذا تضع فراشك تحت هذه المنضدة الخشبية؟»
وأجاب الإسكاف: «لأنني تعودت أن أنام في سرير بأربعة أعمدة قبل مجيئي إلى هنا، ووجدت أرجل المنضدة الأربع مؤدية هذا الغرض تماما.»
وقال سام: «أنت شخصية ممتعة يا سيدي.»
وأجاب الإسكاف وهو يهز رأسه: «ليس عندي شيء من هذا النوع، وإذا كنت تريد أن تلتقي بصنف جيد منه، فإني أخشى أن تجد بعض الصعوبة في الحصول على هذا الطلب في مكتب التسجيل هنا.»
وقد جرى هذا الحوار القصير والمستر ولر ممدد فوق حشيته في طرف من الحجرة، والإسكاف راقد فوق فراشه في طرف آخر منها، وهي مضاءة بنور شمعة عادية، ووهج قصبة التبغ المشتعلة في فم الإسكاف، تحت المائدة، كأنه جذوة فحم متقد. ولم يلبث هذا الحديث على قصره أن أثار في نفس المستر ولر ميلا شديدا إلى رب الحجرة، فاستند إلى مرفقه، وراح يطيل النظر إليه، ويتفحص شكله، ولم يكن قد وجد قبل ذلك متسعا من الوقت أمامه لفحصه أو شعر بميل إلى تأمل معارفه.
وكان الرجل أصفر اللون - كشأن معاشر الأساكفة كلهم - ذا لحية شائكة ككل الأساكفة ووجه غريب الصورة، هادئ الطبع، كأنه قطعة معوجة المعالم، من كف صانع، تزدان بعينين لا شك في أنهما كانتا في زمن ما بهيجتي التعبير؛ لأنهما لا تزالان ترسلان بريقا ملتمعا. وكان الرجل يلوح في الستين، ويعلم الله كم عمره في السجن، فلا غرو إذا كان ما يبدو عليه من نظرات تقترب من المرح، أو تدنو من حدود الرضى، غريبا بعض الغرابة، وكان قصير القامة، ضئيل البدن يتراءى، وهو مكوم في فراشه في نحو ما يجب أن يكون عليه من الطول بغير ساقيه، وكانت القصبة التي في فمه حمراء كبيرة الحجم، وكان يدخن وينظر إلى ضوء الشمعة، وهو في قناعة وسكينة نفسية يحسد عليهما.
وقال سام بعد صمت قصير: «هل تقيم هنا من وقت طويل؟»
وأجاب الإسكاف، وهو يعض طرف قصبته خلال كلامه: «اثني عشر عاما.»
وقال سام: «لإهانة المحكمة؟»
وأومأ الإسكاف إيماءة الإيجاب.
ومضى سام في شيء من التجهم: «ولماذا تتشبث بهذا العناد وتبدد حياتك الغالية هنا في هذه الزريبة الواسعة؟ لماذا لا تسلم أمرك لله، وتبلغ رياسة المحكمة أنك متأسف جدا على إهانتها وأنك لن تعود إليها بعد الآن؟»
ووضع الإسكاف القصبة في ركن فمه ريثما يبتسم، ثم ردها إلى مكانها الأول، ولكنه لم يحر جوابا.
وعاد سام يقول ملحا على سؤاله: «لماذا لا تفعل؟»
وأجاب الإسكاف: «آه، إنك لا تفهم هذه المسائل حق الفهم، ما الذي تظن أنه كان السبب في تدمير حياتي؟»
وقال سام وهو يصلح في ذبالة الضياء: «أظن أنها ترجع من البداية إلى وقوعك في الدين، أليس كذلك؟»
وأجاب الإسكاف: «لم أستدن درهما في حياتي، حاول مرة أخرى.»
وقال سام: «إذن لعلك اشتريت بيوتا، وهي نقطة تعد بصريح القول «جنونا»، أو أولعت ببناء العمارات، وهو اصطلاح طبي يعادل قولك: مرض لا ينفع فيه دواء.»
وهز الإسكاف رأسه وقال: «جرب ثانية.»
وقال سام بلهجة المستريب: «أرجو ألا تكون قد لجأت إلى المحاكم؟»
وأجاب الإسكاف: «لم أفعل ذلك ولا مرة في العمر، ولكن الواقع أن حياتي دمرت بسبب مال تركه لي أصحابه.»
وقال سام: «ما هذا الكلام؟ ما هذا الكلام؟ ليت خصما لي غنيا حاول «تدمير» حياتي بهذه الطريقة، إذن لتركت له أن يحاول.»
وأجاب الإسكاف بهدوء وهو يدخن في قصبته: «أخشى ألا تصدق ما أقوله، ولك حق، ولو كنت في مكانك لما صدقته ولكنه مع ذلك صحيح.»
وقال سام، وهو يكاد يصدق ذلك فعلا، من نظرة الإسكاف إليه: «وكيف كان ذلك؟»
وأجاب الإسكاف: «إليك القصة: حدث لشيخ كنت في خدمته في الريف، وتزوجت بقريبة له فقيرة ماتت رحمة الله عليها، وله مني الحمد والثناء على أن عجل بها، أصيب في ذات يوم بنوبة فذهب.»
وقال سام وكان النعاس يدب إلى عينيه بعد كثرة أحداث اليوم ومتاعبه: «إلى أين؟»
وأجاب الإسكاف، وهو يتكلم من أنفه من شدة لذته بالتدخين: «وما يدريني إلى أين ذهب، لقد مات.»
وقال سام: «آه، قل لي هذا، ثم ماذا؟»
وأجاب الإسكاف: «ثم ترك وراءه خمسة آلاف جنيه.»
وقال سام: «كرم منه أن يفعل ذلك.»
ومضى الإسكاف يقول: «ألفا منها تركها لي؛ لأني تزوجت قريبته، أأنت فاهم؟»
وغمغم سام: «جميل جدا.»
واستتلى الإسكاف قائلا: «وكان له عدد كبير من أبناء الإخوة، وبنات الأخوات، ظلوا يشتجرون ويختلفون فيما بينهم طول الوقت على أمواله وأملاكه، فجعلني منفذا لوصيته، وترك الباقي لي أمانة لتوزيعه عليهم طبقا للوصية.»
وقال سام: «وماذا تقصد بقولك: أمانة؟ ما الفائدة إذا لم يكن المال نقدا وعدا؟»
وأجاب الإسكاف: «هذا اصطلاح قانوني ليس إلا.»
وقال سام وهو يهز رأسه: «لا أظن ذلك، فليس في هذا «الدكان» شيء يسمى «أمانة»، ولكن مع ذلك استمر.»
ومضى الإسكاف يقول: «ولما هممت بتنفيذ نصوص الوصية، عمد أبناء الإخوة وبناتهم، لخيبة أملهم في الظفر بالمال كله، إلى إرسال «إنذار»
2
لي من اتخاذ هذا الإجراء.»
وسأل سام: «وما هذا؟»
وأجاب الإسكاف: «إجراء قضائي، يراد به قولك: هذا لا يكون.»
وقال سام: «فهمت، أي إنه «نسيب لقانون» الهافهز كاركاس الذي يتحدثون عنه. وماذا حدث بعد ذلك؟»
ومضى الإسكاف يقول: «ولكن لما وجدوا أنهم لن يتفقوا فيما بينهم، وأنهم لن يحصلوا على حكم ضد الوصية، ما دام هذا الخلاف مستحكما، سحبوا «الإنذار» وقمت بدفع جميع «الأنصبة»، ولكن ما كدت أفعل؛ حتى رفع أحدهم قضية يطلب فيها إبطال الوصية، وعرضت القضية بعد أشهر من تاريخ رفعها، في قاعة خلفية في دار قريبة من «مقبرة بول»، وبعد أربع جلسات استغرقت كل منها يوما كاملا، أجل النطق بالحكم أسبوعا أو أسبوعين للبحث، ثم قرأت الحيثيات التي استغرقت ست صفحات، ثم حكم بأن صاحب الوصية لم يكن سليم العقل، وإنني ملزم برد المال كله والمصاريف والأتعاب، فاستأنفت وعرضت القضية على ثلاثة سادات أو أربعة كسالى نائمين، كانوا قد سمعوها بجملتها في المحكمة الأولى حيث يعملون محامين بلا عمل، وكل ما هنالك من فارق أنهم في هذه يسمون «أطباء»، وفي تلك يسمون «مندوبين»، إن كنت تفهم ذلك، فما كان منهم إلا أن أيدوا حكم القاضي الابتدائي، وبعد ذلك لجأنا إلى المحكمة العليا، حيث نحن إلى الآن وسأبقى دائما، وكان المحامون الذين وكلتهم عني قد قبضوا كل الألف التي أخذتها من عهد طويل، ومن أجل التركة كما يسمونها، والمصاريف والأتعاب؛ وأنا هنا لأني مدين بعشرة آلاف، وسأبقى هنا حتى أموت، مرقعا النعال، وقد رأيت بعض السادات يتحدثون عن عرض الأمر على البرلمان، وكان ممكنا أن يفعلوا ذلك لولا أنهم لم يجدوا متسعا من الوقت للمجيء إلي، ولولا أنني العاجز عن الذهاب إليهم، وقد سئموا كتبي الطويلة إليهم، وأعرضوا عن المسألة بتاتا ... هذه هي قصتي كما يشهد الله، لا تنقص كلمة عن الحقيقة ولا تزيد، كما يعرفها خمسون شخصا في هذا السجن وخارجه حق المعرفة.
وسكت الإسكاف ليتحقق من أثر هذه القصة في نفس سام، ولكنه وجده قد استغرق في النوم فنفض الرماد من القصبة، وزفر وألقاها من يده وسحب الغطاء إلى ما فوق رأسه، واستسلم هو أيضا للنوم.
وكان المستر بكوك جالسا إلى طعام الفطور، في صباح اليوم التالي، بينما كان سام منهمكا في غرفة الإسكاف يمسح حذاء سيده وتلميعه وتنظيف غطاءي ساقيه الأسودين، وإذا هو يسمع دقا بالباب، وقبل أن يتمكن المستر بكوك من الإذن للطارق بالدخول، ظهر رأس من فوقه قلنسوة من القطيفة الخليطة بالقطن، وتبين له منهما أن القادم هو المستر سمانجل بعينه.
وقال ذلك السيد الفاضل شافعا سؤاله بعشرين إيماءة من رأسه أو أربعين: «كيف الحال؟ أريد أن أقول: هل تنتظر أحدا في هذا الصباح؟ فقد رأيت ثلاثة أشخاص لطاف جدا يسألون عنك، ويدقون كل باب في الردهة مما جعل الزملاء الذين اضطروا إلى فتح الأبواب ينهرونهم ويشتبكون بهم أشد الاشتباك.»
وقال المستر بكوك: «يا لله، ما أحمق مسلكهم، نعم، لا شك في أنهم أصدقاء لي كنت أرتقب زيارتهم أمس.»
وصاح اسمانجل بحماسة بالغة وهو يمسك المستر بكوك من يده: «أصدقاؤك! لا تقل أكثر مما قلت، إنهم أصدقائي أنا كذلك من هذه اللحظة، وأصدقاء ميفنز أيضا ، ذلك الكلب الجهنمي اللطيف المهذب، أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك مترددا: «لا أعرف عن السيد إلا النزر اليسير، بحيث لا ...»
وقاطعه اسمانجل قائلا وهو يمسك بكتفه: «أعرف ذلك، وستعرفه كثيرا على الأيام، وسترتاح إليه وتسر به، إن هذا الرجل يا سيدي - وهنا اتخذ وجهه سمات الجد - قد أوتي ملكة فكاهة بارعة تشرف مسرح دروري لين.»
وقال المستر بكوك: «أحق ما تقول؟»
وأجاب اسمانجل: «يمين الله إنه لكذلك، اسمعه وهو يموء كالقطط الأربع في عجلة اليد، إن له مواء خاصا لكل قطة منها، أقسم لك بشرفي إن هذه هي الحقيقة، وهذه كما تعلم براعة فائقة، ولا يسع المرء إلا أن يحب من أوتي هذه الملكات، ولكن له عيبا واحدا، وهذا العيب اليسير قد ذكرته لك كما تعلم.»
وراح المستر اسمانجل يهز رأسه هزا تقترن فيه الثقة بالعطف، وأحس المستر بكوك أنه يتوقع منه أن يقول شيئا، فلم يجد مندوحة عن قول: «آه» وهو ينظر بعين قلقة إلى الباب.
وقال المستر اسمانجل وهو يرسل زفرة مستطيلة: «آه! إنه رفيق أنيس يا سيدي، ولا أحسبني عرفت رفيقا أكثر أنسا منه وأرق جاشية في مكان ما، وإن كان فيه ذلك العيب الوحيد، ذلك أنه لو أن شبح جده نهض من قبره ووقف أمامه في هذه اللحظة يا سيدي لطالبه بقرض على ورقة دمغة من فئة ثمانية عشر بنسا.»
وصاح المستر بكوك: «يا عجبا!»
وأضاف المستر اسمانجل يقول: «نعم، ولو أنه استطاع أن ينشره مرة أخرى من قبره، لعمد في شهرين وثلاثة أيام من هذا التاريخ إلى تجديد الدين.»
وقال المستر بكوك: «هذه أخلاق عجيبة جدا، ولكني أخشى أن يكون أصدقائي، ونحن نتحدث هنا اللحظة في ارتباك شديد لعجزهم عن الاهتداء إلى مكاني.»
وقال المستر اسمانجل وهو يتقدم نحو الباب: «سأدلهم على الطريق، طاب يومك، وسوف لا أزعجك في فترة اجتماعهم بك هنا، أنت تعرف ذلك، إلى الملتقى.» ولكنه لم يكد يفوه بالكلمتين الأخيرتين حتى وقف فجأة وأغلق الباب، بعد أن كان قد فتحه، ومشى في خطى رفيقة نحو المستر بكوك ودنا منه متسللا على أطراف قدميه، وقال في همس خافت: «هل في إمكانك أن تتكرم علي في قرضي نصف كراون حتى نهاية الأسبوع القادم؟»
ولم يتمالك المستر بكوك من الابتسام، ولكنه عرف كيف يحتفظ بجده ووقاره، فأخرج المبلغ المطلوب ووضعه في كف المستر اسمانجل، فلم يلبث هذا مع عديد الإيماءات والغمزات الغامضة القصد، المستغلقة المراد، أن توارى للبحث عن الغرباء الثلاثة، ولم تمض لحظة حتى عاد بهم، فسعل ثلاث سعلات، وهز رأسه عدة مرات، توكيدا للمستر بكوك أنه لن ينسى الوفاء، وصافح الجميع في شكل جذاب، وانطلق في النهاية منصرفا.
وأنشأ المستر بكوك يقول وهو يصافح أصحابه واحدا بعد الآخر، مبتدئا بالمستر طبمن، فالمستر ونكل، ثم سنودجراس، وكانوا هم الزائرين الذين سلف ذكرهم: «إني لفرح بلقائكم.»
وتأثر الصحاب الثلاثة كثيرا، وهز المستر طبمن رأسه حزينا آسفا، وأخرج المستر سنودجراس منديله، وهو في انفعال لا يقوى على إخفائه، وتراجع المستر ونكل إلى النافذة فعطس عطسا شديدا.
وقال سام وقد جاء في تلك اللحظة يحمل الحذاء وغطاء الساقين: «صباح الخير أيها السادة، وبعدا للحزن والكآبة، كما قال الصبي الصغير عند وفاة معلمته في المدرسة. مرحبا بكم في هذه «الكلية» أيها السادة!»
وقال المستر بكوك وهو يربت على رأس سام، وقد جثا عند قدمي سيده ليلبسه الغطاء: «إن هذا الأحمق عمل على أن يعتقل لكي يكون قريبا مني.»
وصاح الثلاثة في دهشة: «ماذا؟»
وأجاب سام: «نعم أيها السادة، إنني ... أثبت قدميك يا سيدي من فضلك - إنني هنا سجين، محجوز كما قالت السيدة.»
وصاح المستر ونكل بحماسة لا يعرف باعثها: «سجين!»
وأجاب سام وهو يتطلع إليه: «نعم يا سيدي، ما الخبر يا سيدي؟»
وقال المستر ونكل بلهجة سريعة: «لقد كنت أرجو يا سام، لا شيء ... لا شيء.»
وكانت لهجة المستر ونكل وهيئته تنمان عن شيء من الاضطراب والتردد، فطن المستر بكوك إليهما، فنظر إلى صديقيه الآخرين نظرة مستفسرة.
وقال المستر طبمن جوابا عن هذا السؤال الصامت بصوت مرتفع : «لسنا نعرف، فقد لبث في اضطراب شديد خلال اليومين الماضيين، وأمسى على غير عادته، في كل حركاته وتصرفاته، حتى لقد خشينا أن يكون في الأمر شيء، ولكنه نفى لنا ذلك نفيا قاطعا.»
وقال المستر ونكل، وقد تغير لونه من نظرة المستر بكوك المستطيلة إليه: «كلا، كلا، ليس ثمة شيء في الواقع، أؤكد لك أن ليس ثمة شيء يا سيدي العزيز، ولكني مضطر إلى مغادرة المدينة إلى أجل قصير في عمل خاص، وكنت أطمع في استئذانك لتسمح لسام بمرافقتي.»
وبدا المستر بكوك أشد دهشة من قبل.
ومضى المستر ونكل يقول متلعثما: «وأعتقد أن سام لم يكن ليمانع في ذلك أو يعترض عليه، ولكن مقامه هنا سجينا جعل الأمر بالطبع مستحيلا؛ ولهذا أجدني مضطرا إلى الذهاب وحدي.»
وما كاد المستر ونكل ينتهي من هذا الكلام حتى شعر المستر بكوك في شيء من الدهشة أن أنامل سام أخذت ترتعش وهي تتناول غطاء ساقيه، كأنه قد دهش أو بوغت، وتطلع هذا إلى المستر ونكل أيضا حين فرغ من قوله، وبدا عليهما أنهما تفاهما، وإن كانت النظرة التي تبادلاها قد جرت في لحظة واحدة.
وقال المستر بكوك بحدة: «هل تعرف شيئا عن هذا يا سام؟»
وأجاب سام وقد بدأ يدخل الأزرار في العرى بخفة غير معهودة: «كلا يا سيدي، لا أعرف.»
وقال المستر بكوك: «هل أنت متأكد يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، أنا متأكد إلى هذه اللحظة، وأثق أنني لم أسمع شيئا في الموضوع قبل الآن.» وهنا نظر إلى المستر ونكل ثم أردف قائلا: «وإذا جاز لي التخمين فليس لي أي حق في قول شيء؛ لأني أخشى أن يكون ظني خاطئا.»
وصمت المستر بكوك لحظة ثم مضى يقول: «لست أملك حق الإمعان في البحث عن أمور تتصل بشئون صديق لي ومسائله الخاصة، مهما يكن هذا الصديق حميما، ولكني أجتزئ في الوقت الحاضر بقولي: إنني لا أفهم هذا إطلاقا، فلندع الحديث عنه، فإن فيما قلنا الكفاية.»
وراح المستر بكوك يدخل بالحديث في موضوعات مختلفة، وأخذ المستر ونكل يهدأ شيئا فشيئا، وإن لم يكن هدوؤه تاما، وكان لديهم من الموضوعات الشيء الكثير، فلبثوا في الحديث بسبيلها حتى انقضى الصباح بسرعة، وعندما أحضر المستر ولر في الساعة الثالثة بعد الظهر إلى مائدة الغداء الصغيرة فخذا مشوية من الضأن، وفطيرة ضخمة من اللحم المفري، وصحافا منوعة من الخضر، وقدورا من الجعة أقامها فوق المقاعد أو على المتكأ الطويل أو حيثما وجد لها مكانا صالحا، كان كل منهم في لهفة على إعطاء هذه الوجبة حقها من الإنصاف، على الرغم من أن اللحم كان قد اشتري وأنضج، والفطير صنع وخبز في مطبخ السجن القريب منه.
وتلا الطعام زجاجة أو زجاجتان من النبيذ الجيد، كان المستر بكوك قد أوفد رسولا لشرائهما من حانة هورن في حي الأطباء، وقد تكون الزجاجة أو الزجاجتان أحق بأن توصف بأنها زجاجة أو ست زجاجات لأنهم ما كادوا يفرغون منها وينتهون من شرب الشاي، حتى دق الناقوس منبها الغرباء إلى وجوب الانصراف.
وإذا كان سلوك المستر ونكل في الصباح غامضا لا يعرف أحد له سببا، فقد أمسى رهيبا غريبا كل الرهبة والغرابة حين استعد لتوديع صديقه، وهو متأثر بما كان يعتمل من الأحاسيس في صدره، ومن النصيب الذي تناوله من الزجاجة أو الزجاجات الست. فقد تباطأ حتى انصرف صديقاه المستر طبمن والمستر سنودجراس. وعندئذ تناول كف المستر بكوك بحرارة وقد بدت على وجهه أمارات عزم قوي عميق مختلط إلى حد مخيف بأصدق آيات الحزن وأبلغ سماته.
وقال المستر ونكل بين فكيه المنقبضتين: «طاب ليلك يا سيدي العزيز.»
وأجاب المستر بكوك بحرارة وهو يضغط يد صديقه الشاب: «بوركت أيها الصديق العزيز.»
وصاح المستر طبمن من جانب الدهليز: «والآن، هيا بنا.»
وأجاب المستر ونكل: «نعم، نعم، حالا، طاب ليلك!»
وقال المستر بكوك: «طاب ليلك.»
وكثرت التحيات وتكررت مرارا ولا يزال المستر ونكل ممسكا بكف صديقه مجيلا البصر في وجهه بتلك النظرة الغريبة ذاتها.
وقال المستر بكوك أخيرا حين كادت ذراعه تخدر من كثرة هزها: «هل من خطب؟»
وقال المستر ونكل: «لا شيء.»
وأجاب المستر بكوك وهو يحاول انتزاع ذراعه: «إذن طاب ليلك.»
وغمغم المستر ونكل وهو متشبث بمعصم صديقه: «يا صديقي، البار بي، أيها الخل الكريم المجيد، لا تقس في الحكم علي، ناشدتك الله حين تعلم أنني لما رأيت الحوائل تدفعني إلى اليأس.»
وهنا عاد المستر طبمن فظهر لدى الباب وهو يقول: «والآن، هل أنت آت أو تريد أن نغلق الأبواب فلا نستطيع خروجا؟»
وأجاب المستر ونكل: «حاضر، حاضر، هأنذا.» وانتزع نفسه بجهد بالغ وانصرف.
وبينما كان المستر بكوك يرسل بصره في الدهليز على أثرهم في دهشة صامتة، إذ ظهر سام ولر عند رأس السلم، ووقف لحظة يهمس في أذن المستر ونكل.
وقال هذا بصوت مرتفع: «اطمئن بلا شك واعتمد علي.»
وقال سام: «شكرا لك يا سيدي، أرجو ألا تنسى يا سيدي.»
وأجاب المستر ونكل: «كلا بالطبع.»
ورفع سام يده إلى قبعته وقال: «أتمنى لك التوفيق يا سيدي، كان بودي أن أذهب معك، ولكن المعلم أحق بالتقديم.»
وقال المستر ونكل: «إن بقاءك هنا يزيد كثيرا من فضلك.»
وراحوا يهبطون السلم.
وعاد المستر بكوك إلى غرفته وهو يقول: «هذا شيء عجاب.»
وجلس إلى المنضدة واستغرق في التفكير وعاد يقول: «ماذا عسى أن يكون هذا الشاب فاعلا؟»
ولبث في مجلسه هذا فترة من الوقت يفكر في الأمر ويتدبره، وإذا هو يسمع صوت روكر السجان يستأذن في الدخول، فقال: «تفضل.»
وقال المستر روكر: «لقد أحضرت لك وسادة أطرى وأنعم يا سيدي، بدلا من الوسادة الموقوتة التي جئتك بها في الليلة الماضية.»
وقال المستر بكوك: «شكرا لك، ألا تتناول كأسا من النبيذ.»
وأجاب المستر روكر وهو يتقبل الكأس المقدمة إليه: «إنك لكريم جدا يا سيدي، في صحتك.»
وقال المستر بكوك: «أشكرك.»
وقال المستر روكر وهو يضع القدح بعد تناوله ويتفحص بطانة قبعته قبل رفعها إلى رأسه: «يحزنني أن أنبئك أن مؤجر غرفتك في حالة سيئة الليلة يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «ماذا؟ السجين الموظف في المحكمة؟»
وقال المستر روكر، وهو يدير القبعة في يده ليأتي باسم الصانع إلى أعلى اليمين، وهو ينظر إليها: «إنه لن يبقى كذلك طويلا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «إنك تجعل الدم يجري في عروقي باردا، ماذا تعني؟»
وأجاب المستر روكر: «لقد مضى عليه عهد طويل وهو يشكو ذات الرئة، وقد ساء الليلة تنفسه، وكان الطبيب قد قال منذ ستة أشهر: إن تبديل الهواء قد ينقذه.»
وصاح المستر بكوك: «يا رب السموات، هل كان القانون يقتل هذا الرجل قتلة بطيئة خلال هذه الأشهر الستة؟»
وقال المستر روكر وهو يزن القبعة من حواشيها في كلتا يديه: «لا أعرف عن هذا شيئا، وأحسبه كان سيصاب بالعلة ذاتها في أي موضع آخر، وقد قصد إلى المستشفى في هذا الصباح، فنصح الطبيب بوجوب محاولة الإبقاء على قواه ما أمكن، فأرسل السجان إليه نبيذا وحساء وأشياء أخرى جاء بها من بيته. ليس الذنب ذنب السجان يا سيدي، كما تعلم.»
وأجاب المستر بكوك بعجلة: «طبعا، ليس الذنب ذنبه.»
وقال المستر روكر وهو يهز رأسه: «ولكني مع ذلك أخشى أن تكون نهاية الرجل قد حلت، وكنت منذ لحظة أراهن «ندى» على هذا الرأي بشلن مقابل ستة بنسات، ولكنه لم يقبل الرهان وهو على حق تماما، شكرا لك يا سيدي طاب ليلك.»
وقال المستر بكوك بلهجة الجد: «قف، وأين ذلك المستشفى؟»
وأجاب روكر: «فوق الغرفة التي كنت نائما فيها، سأريكها إذا أردت الذهاب.» وتناول المستر بكوك قبعته بحركة سريعة، دون أن ينبس بكلمة، وتبع الرجل في الحال.
وتقدم حامل المفاتيح في صمت وراح في رفق يرفع مزلاج الباب، ويشير إلى المستر بكوك بالدخول. وكانت الحجرة رحيبة الجوانب عارية من الأثاث، مقفرة، لا تحوي غير سرر عرجاء من الحديد، كان شبح رجل راقدا على سرير منها، وانيا شاحبا حط السقام عليه فبدا كالأموات، وكان تنفسه أليما بطيئا، وهو يئن من ألم شهيقه وزفيره، وقد جلس بجانب السرير رجل قصير القامة كبير السن يضع مبذلة إسكاف فوق ثوبه، ويستعين بمنظار مقوس على قراءة آيات من الكتاب المقدس بصوت مرتفع، وكان ذلك الرجل هو الإسكاف أو الوارث السعيد الحظ الذي مر بك نبؤه.
وألقى المريض يده على ذراع الشيخ الجالس بجانب سريره وأشار إليه أن يكف عن التلاوة، فطوى الرجل الكتاب ووضعه فوق الفراش.
وقال المريض: «افتح النافذة.»
ففعل، ولم تلبث ضوضاء المركبات، ورجرجة العجلات، وصيحات الرجال والغلمان، وسائر أصوات الجماهير وجلبة الزحام، وحركة الأعمال، وهرج الحياة العامة، أن اندمجت فاستحالت باختلاطها إلى همهمة عميقة سابحة في فضاء الحجرة وأفقها، تعلو عليها من لحظة إلى أخرى ضحكة صخابة، أو نغمات من أغنية عالية، أطلقها أحدهم في وسط ذلك الزحام المصطخب، فتصدم الأذن لحظة، ثم تتبدد في غمرة الأصوات المترددة ومواقع الأقدام، واصطفاق أمواج بحر الحياة اللجي المتقاذف المتدفق لا انقطاع له، خارج الأسوار. وهي أصوات مزعجة أليمة لمن يصغي إليها في هدوء لحظة ما، فكيف بأثرها المؤلم المحزن في نفس الجالس بجانب فراش الموت!
وقال المريض بصوت خافت: «لا هواء هنا، إن المكان يفسده، وكان عهدي به نقيا متجددا، حين كنت أمشي طليقا منذ سنين، ولكنه حين يمر بهذه الجدران ينقلب حارا ثقيلا كثيفا لا أستطيع أن أتنفسه.»
وقال الشيخ: «لقد تنفسناه من عهد طويل معا، لا عليك، لا عليك.»
وساد السكون لحظة، بينما اقترب القادمان الجديدان من السرير، وانثنى المريض فمد يده وتناول بها كف زميله الشيخ فقربها منه، ولبث يضغطها في رفق ومودة بين يديه ويطيل الإمساك بها غير تاركها من قبضته.
وأنشأ بعد هنيهة يقول بأنفاس متقطعة وصوت خافت أشد الخفوت، حتى لقد اضطر الوقوف من حوله إلى الانحناء وتقريب أذانهم من الفراش لالتقاط الأصوات المتقطعة التي تخرج من شفتيه المصفرتين: «أرجو أن يذكر القاضي الرحمن الرحيم العقاب الأليم الذي لقيته في الأرض عشرين عاما يا صديقي، عشرين عاما في هذا القبر المخيف! وقد انكسر قلبي حين مات ولدي الصغير، ولم أستطع أن أظفر ولو بقبلة منه وهو في نعشه الصغير، وظلت وحشتي من ذلك الحين في وسط هذه الضوضاء، وهذا الصخب، أليمة كل الألم، مروعة كل الترويع. ليغفر الله لي! فهو على مماتي البطيء الرخي في وحدتي ووحشتي، خير شهيد.»
وشبك يديه، وغمغم بكلام آخر لم يستطيعوا أن يسمعوه، وهبط في نوم، نوم بادئ الأمر؛ لأنهم شهدوه مبتسما.
ولبثوا لحظة يتهامسون، وانحنى الحارس على الوسادة، ثم ارتد عنه مسرعا، وهو يقول: «يمين الله، لقد أفرج عنه.»
وكان ذلك حقا ولكنه كان وهو حي أشبه الناس بالموتى، فلم يعرفوا متى فارق الحياة.
نطقها سام التازر لجهله بنطقها الكامل.
إعلان قضائي
caveat .
الفصل الخامس والأربعون
وصف لقاء ممتع بين صمويل ولر وأفراد حفل «عائلي»، وطواف المستر بكوك بذلك العالم الصغير الذي يقيم فيه، واعتزامه الإقلال ما أمكن من الاختلاط بأهله. ***
وفي ذات صباح بعد انفراط بضعة أيام على دخول صمويل ولر السجن، وقد فرغ من تنظيف حجرة سيده بكل عناية ممكنة، انتظر حتى رآه قد أكب في راحة وهدوء على كتبه وأوراقه، ثم انصرف لقضاء ساعة أو ساعتين فيما يطيب له أن يقضيهما، وكان الصباح صافيا، فخطر له أن قدرا يسيرا من الجعة في الهواء الطلق، كفيل بقضاء ربع ساعة من وقته في متعة طيبة، إلى جانب أية متع صغيرة أخرى قد تتيسر له.
وصح منه العزم على تنفيذ هذه الفكرة فذهب إلى غرفة الشراب، وبعد أن اشترى حاجته منه وابتاع أيضا عدد الصحيفة الصادرة قبل يوم أول من أمس، قصد إلى ميدان الكرة، فاقتعد متكأ، وأخذ في إمتاع نفسه في هدأة، وبطريقة منظمة.
فبدأ أولا بجرعة منعشة من الجعة، ثم تطلع ببصره إلى إحدى النوافذ فأنعم بغمزة أفلاطونية من طرف عينه على شابة تقشر البطاطس، ثم نشر الصحيفة بين يديه، وعاد فطواها بحيث جعل القسم الخاص منها بأنباء الشرطة إلى الظهر، وهو عمل شاق ومتعب إذا هبت ريح، مهما تكن خفيفة؛ ولهذا تناول جرعة أخرى حين تم له طيها، ثم قرأ سطرين منها ووقف عن القراءة، لينظر إلى رجلين كانا يوشكان أن ينتهيا من لعب الكرة والمضرب، فلما انتهيا منه صاح قائلا: «جميل جدا» استحسانا منه وارتياحا، ومضى يجيل البصر في وجوه النظارة لكي يستوثق من أن شعورهم متفق وشعوره، واقتضى ذلك التطلع مرة أخرى إلى تلك النافذة، وكانت الشابة لا تزال واقفة عندها، فرأى من الأدب أن يعاود الغمز لها ويشرب في صحتها، في حركات صامتة، ومعرض أخرس بلا كلام، نهلة أخرى من الجعة، ففعل، ثم تجهم وعبس في وجه غلام صغير كان قد فطن إلى هذه الحركة الأخيرة منه ففتح عينيه مبهوتا، وراح يلف ساقا بساق ويمسك الصحيفة بكلتا يديه، وبدأ يقرأ باهتمام حقيقي.
وما أن أكب على القراءة وانقطع لها عن عداها حتى خيل إليه أنه سمع صوتا ينادي باسمه من دهليز بعيد، ولم يخطئ ظنه؛ لأن ذلك النداء ما لبث أن انتقل من فم إلى آخر، فلم تمض بضع ثوان حتى كان الفضاء مليئا بصيحات منادية: «ولر!»
وصاح سام بصوت عال: «نعم، أنا هنا، ما الخبر؟ من الذي يريدني؟ هل جاء رسول خاص ليقول: إن منزله الريفي قد شب فيه حريق؟»
وقال رجل كان قريبا منه: «إن أحد الناس يطلبك في البهو.»
وقال سام: «احرص يا صاح على هذه الصحيفة، وهذه الجرة من فضلك، حتى أعود إليهما، ولو كانوا ينادونني إلى محل الشراب لما أحدثوا كل هذه الضجة التي أحدثوها.»
وشفع هذه العبارة بربتة رفيقة فوق رأس الفتى الذي أسلفنا ذكره، وكان هذا لا يشعر بأنه جد قريب من الشخص المطلوب، فلبث يصرخ مناديا «ولر» بكل ما فيه من قوة، وأسرع سام يشق الميدان ويصعد السلم إلى البهو، فكان أول شيء وقع عليه نظره هو والده المحبوب جالسا فوق الدرجة السفلى من السلم، ممسكا قبعته بيده، صائحا «يا ولر» بأعلى صوته، مكررا الصيحة كل نصف دقيقة.
وقال سام بعنف وغضب بعد أن انتهى الشيخ من إطلاق صيحة أخرى: «لماذا تزأر هكذا، حتى يمتقع لونك وتبدو كالصانع النافخ في الزجاج؟ ما الخبر؟»
وأجاب الشيخ: «ها! لقد كنت قد بدأت أخشى أن تكون قد ذهبت لتمشي قليلا يا سامي حول متنزه «الريجنسي» (نائب الملك).»
وقال سام: «كفى تهكما على ضحية جشعك، وقم من السلم، ما الذي جعلك تجلس هكذا فوقه؟ هل هذا هو المكان الذي أسكنه؟»
وقال المستر ولر الكبير وهو ينهض: «إن لدي شيئا يسرك يا سامي.»
وقال سام: «انتظر لحظة، إن ظهرك كله ملطخ بالجير.»
وقال المستر ولر وقد أخذ ابنه ينفض ظهره: «هذا جميل منك يا سامي، أزل الجير عنه، فقد يبدو الأمر هنا عجيبا إذا مشى الإنسان والبياض هكذا على ملابسه، أليس كذلك يا سام؟»
وأخذت أعراض نوبة ضحك تبدو عليه فبادر سام إلى وقفها بقوله: «هلا سكت وأقلعت عن الضحك! ما رأيت في حياتي شيخا مثلك ولد لكي تكون صورته أنسب الصور المطبوعة على بطاقات، ما الذي يضحكك الآن؟»
وقال المستر ولر وهو يمسح العرق عن جبينه: «إنني أخشى يا سامي أن يأتي يوم أضحك فيه حتى أنفجر من الضحك، أو أصاب منه بصرع يا بني.»
وقال سام: «إذن لماذا تفعل ذلك؟ والآن ماذا تريد أن تقوله لي؟»
وقال المستر ولر وهو يتراجع خطوة أو خطوتين ويزم شفتيه ويمد حاجبيه: «من تظن الشخص الذي جاء معي يا صمويل؟»
وقال سام: «أهو بل؟»
وهز المستر ولر رأسه وامتد خده الأحمر وامتط من ضحكة تحاول أن تنبعث منه أو تجد من فمه طريقا إلى الخارج.
وقال سام: «ربما كان الرجل ذا الوجه المرقط؟»
وعاد المستر ولر يهز رأسه.
وسأل سام: «ومن إذن؟»
وقال المستر ولر: «زوجة أبيك!»
وكان من حسن الحظ أن بادر إلى الإفصاح، ولولا ذلك لتصدع خداه حتما من تمددهما المتناهي إلى حد غير طيبعي.
وقال المستر ولر: «امرأة أبيك يا سامي والرجل الأحمر الأنف يا بني، هو، هو، هو!»
وما أن فاه بهذا الاسم حتى عاد إلى نوبة ضحك أخرى، بينما وقف سام يتأمله وقد بدأت ابتسامة عريضة تغمر سائر تقاطيع وجهه شيئا فشيئا.
وقال المستر ولر وهو يمسح عينيه: «لقد جاءا لحديث جدي قصير معك يا صمويل، فلا تذكر شيئا عن الدائن المزيف يا سامي.»
وقال سام: «لماذا؟ ألا يعرفان من هو؟»
وأجاب الوالد: «لا يعرفان أي شيء عنه.»
وقال سام، وهو يبادل الشيخ ضحكاته: «وأين هما؟»
وأجاب المستر ولر: «في الخلوة، وإنك لتبدو ماهرا حقا لو أمكنك أن تجد الرجل الأحمر الأنف إلا حيث يوجد الشراب، مستحيل يا صمويل، لا يمكن.» وقال مستر ولر حين أحس بأنه قادر على أن يتحدث بعبارات مفهومة: «وقد ركبنا ركبة لطيفة جدا على الطريق من حانة المركيز في هذا الصباح يا سامي، وقد أتيت بذلك الأصلع العجوز في هذه العربة الصغيرة التي كان يملكها زوج امرأة أبيك الأول، وقد وضعنا فيها كرسيا ذا مسند ليجلس الراعي فيه - وهنا بدت على وجه المستر ولر نظرة سخرية بالغة - وأحضروا أيضا سلما متنقلا إلى الطريق أمام الباب ليصعد عليه.»
وقال سام: «هل تقول جدا؟»
وأجاب الوالد: «صحيح يا سامي، وليتك كنت معنا لترى كيف راح يتعلق بالمجانين وهو صاعد كأنما كان يخشى أن يسقط من طوله مسافة ست أقدام فيتناثر جسمه مليون ذرة، واندلق أخيرا في جوف المركبة، وانطلقنا. وأكاد أعتقد، أقول: أكاد أعتقد يا صمويل أنه وجد نفسه يرتج ويهتز حين كنا ننعرج على النواصي.»
وقال سام: «وأظن أنك اصطدمت أيضا بعمود أو عمودين.»
وأجاب الوالد وسط نوبة من الغمزات: «أخشى أن يكون هذا ما حصل يا سامي، وكان يقفز من فوق المقعد طول الطريق.»
وهنا هز الشيخ رأسه يمنة ويسرة، واستولت عليه خضخضة باطنية مبحوحة، مشفوعة بانتفاخ شديد في وجهه، وامتداد فجائي في كل قسماته ومعارفه، فانزعج سام كثيرا من هذه الأعراض التي بدت عليه.
وقال الشيخ بعد أن استعاد صوته بجهد جهيد وخبط تشنجي كثير بقدميه فوق الأرض: «لا تنزعج يا سامي، لا تنزعج! إنها نوع من الضحك الهادئ المكتوم أحاول أن أطلقه.»
وقال سام: «إذا كان الأمر كذلك فالأفضل ألا تحاول إطلاقه مرة أخرى، إني أخشى أن تجد في مرة ما أن هذا الاختراع خطر.»
وسأل الشيخ فتاه: «ألا تحب ذلك يا سامي؟»
وأجاب سام: «أبدا.»
وقال المستر ولر ولا تزال الدموع تجري على خديه: «والله لو كنت أطلقتها لاسترحت كثيرا، ولأغناني عن كثرة الكلام مع امرأة أبيك أحيانا، ولكني أظنك على صواب يا سامي؛ لأنها أشبه ما تكون بالصرع كثيرا جدا يا سامي.»
وكانا قد بلغا بهذا الحديث باب الخلوة - قاعة الجلوس - فوقف سام لحظة ريثما يرسل بصره من فوق كتفه، ويلقي نظرة ساخرة إلى والده المحترم، وكان هذا لا يزال يضحك وهو سائر خلفه، ولم يلبث أن تقدم إلى الحجرة.
وقال سام وهو يحيي السيدة بأدب: «إنني لشاكر لك يا امرأة أبي هذه الزيارة، وأنت أيها الراعي، كيف حالك؟»
وقالت مسز ولر: «آه يا صمويل! هذا شيء مروع.»
وقال سام: «ليس الأمر كذلك أبدا، أهو كذلك يا حضرة الراعي؟»
ورفع المستر استجنز يديه، وقلب عينيه، حتى لم يعد يبدو منهما غير البياض - أو على الأصح الصفار - ولكنه لم يحر جوابا.
وقال سام وهو يلتفت إلى امرأة أبيه مستفسرا: «هل هذا السيد يشكو من مرض أليم؟»
وأجابت مسز ولر: «إن هذا الرجل الطيب محزون لرؤيتك هنا يا صمويل.»
وقال سام: «أكذا هو؟ لقد كنت أظن من شكله أنه يمكن أن يكون قد نسي أن يتناول الفلفل مع آخر خيارة أكلها. اجلس يا سيدي، إننا لا نطالب بأجر إضافي على الجلوس كما قال الملك حين هب في وجوه وزرائه.»
وقال المستر استجنز بتعاظم: «أخشى أيها الفتى أن السجن لم يصلح منك.»
وأجاب سام: «عفوا يا سيدي، ما الذي تفضلت اللحظة فقلته؟»
وقال المستر استجنز بصوت مرتفع: «قلت: إنني أخشى أيها الفتى أن هذه العقوبة لم تلن من طبعك.»
وأجاب سام: «سيدي، إنه لكرم جدا منك أن تقول هذا، وأرجو ألا أصبح أبدا رقيق الطبع يا سيدي، أنا شاكر لك حسن رأيك يا سيدي.»
وعند هذا الحد من الحديث ارتفع صوت يكاد يشبه الضحك من جانب المقعد الذي كان المستر ولر الكبير جالسا فيه، فلم يكن من مسز ولر بعد تفكير سريع في جميع الظروف المحيطة بالموقف، إلا أن رأت أنه من واجبها أن تأخذ في التشنج شيئا فشيئا.
قالت: «يا ولر، أقبل علينا.» وكان الشيخ يجلس في ركن من الحجرة.
وأجابها المستر ولر: «شكرا لك يا عزيزتي، ولكني مرتاح جدا حيث أنا.»
وهنا انفجرت مسز ولر منتحبة.
وقال سام: «ما الذي جرى يا أم؟»
وأجابت مسز ولر: «أواه يا صمويل! إن أباك ينغص علي عيشي، ألا شيء يصلحه؟»
وقال سام: «ألا تسمع هذا الذي قيل الآن؟ إن السيدة تريد أن تعرف هل من شيء يصلحك.»
وأجاب الشيخ: «إنني مدين كثيرا لمسز ولر لسؤالها اللطيف يا سامي، وأعتقد أن قصبة تبغ تفيدني كثيرا، فهل أجد طلبي هنا يا سامي؟»
وعندئذ أطلقت مسز ولر مزيدا من الدموع وراح المستر استجنز يئن أنينا.
وقال سام وهو يتلفت حوله: «ها هو ذا السيد السيئ الحظ يعاوده المرض، أين تشعر به الآن يا سيدي؟»
وأجاب المستر استجنز: «في الموضع ذاته أيها الفتى ... في الموضع ذاته.»
وقال سام بسذاجة كبيرة ظاهرة: «وأين يكون هذا يا سيدي؟»
وأجاب المستر استجنز وهو يضع مظلته فوق صداره: «هنا في الصدر أيها الفتى.»
ولم تستطع مسز ولر عقب هذا الرد المؤثر أن تتمالك مشاعرها، فأجهشت بالبكاء، وأعلنت أنها مقتنعة بأن الرجل المحمر الأنف قديس، وهنا اجترأ المستر ولر الكبير فقال بصوت خافت: إنه لا بد أن يكون مندوبا عن اتحاد أبرشيات القديس سايمن في الخارج والقديس ووكر في الداخل.
وقال سام: «إنني أخشى يا أم أن يكون هذا السيد بهذا الالتواء البادي على سحنته يشعر بالعطش من هذا المنظر الكئيب الذي أمامه، هل هذه هي الحقيقة يا أم؟»
فنظرت السيدة الفاضلة إلى المستر استجنز تلتمس عنده الجواب، فما كان منه إلا أن أدار عينه في محجرها عدة مرات، وقبض بيمينه على حنجرته، وقلد عملية البلع للإيحاء بأنه عطشان!»
وقال المستر ولر وهو بادي الحزن: «أخشى يا صمويل أن يكون شعوره هو الذي جعله هكذا فعلا.»
وأجاب سام: «وما هو نوع الصنبور الذي تعودت الشرب منه يا سيدي؟»
ورد المستر استجنز قائلا: «آه! يا صديقي الفتى العزيز، كل الصنابير واحدة، وما اختلاف أنواعها إلا غرور.»
وقالت مسز ولر وهي ترسل أنة خافتة وتهز رأسها هزة المؤمنة على قوله: «هذا صحيح، هذا صحيح جدا.»
وقال سام: «والله قد يكون هذا صحيحا، ولكن ما هو غرورك أنت الخاص؟ أي غرور تستلطف طعمه أكثر من سواه يا سيدي؟»
وأجاب المستر استجنز: «آه يا صديقي الفتى العزيز! إنني أحتقرها جميعا، وإذا كان من بينها ما هو أقل في كراهية الطعم والرائحة من غيره فهو الشراب الذي يسمى الروم، على شرط أن يكون يا صديقي الفتى العزيز ساخنا مع ثلاث قطع من السكر في كل كأس منه.»
وقال سام: «آسف جدا يا سيدي إذ أقول: إنهم لا يسمحون في هذا المحل ببيع هذا النوع المخصوص من الغرور.»
وقال المستر استجنز: «يا لقسوة قلوب هؤلاء الغلاظ! ويا لغلظة نفوس هؤلاء الجبابرة العتاة!»
وما أن فاه المستر استجنز بهذه الكلمات حتى عاد يحرك عينيه ويضرب صدره بمظلته، ومن الإنصاف لهذا السيد المحترم أن نقول: إن غضبه بدا صادقا حقيقيا لا تصنع فيه ولا افتعال.
وبعد أن عقبت مسز ولر والسيد الأحمر الأنف على هذه المعاملة المنافية للإنسانية، بكل قوة وعنف، وبعد أن صبا مختلف أنواع اللعنات الدينية على رءوس أولئك الذين كانوا السبب في ذلك، اقترح السيد زجاجة من نبيذ «البورت» مع قليل من الماء الدفيء والتوابل والسكر قائلا: إنه مصلح للمعدة، أقل طعما من ناحية «الغرور» من أية أشربة أخرى، فأجيب إلى طلبه، وراح الرجل الأحمر الأنف ومسز ولر ينظران إلى المستر ولر الكبير ويئنان، ريثما يتم إعداد الشراب المطلوب.
وقال المستر ولر: «اسمع يا سامي، إنني أرجو أن تكون نفسك قد انتعشت بهذه الزيارة اللطيفة، كما أن الحديث الذي يدور فيها مبهج جدا ومصلح لنفسيتك، أليس كذلك يا سامي؟»
وأجاب سام: «أنت رجل رذل، وأود ألا توجه إلي كلاما آخر من هذا النوع القبيح.»
ولم يهذب هذا الرد المناسب من نفس المستر ولر الكبير ، بل بالعكس عاود الضحك، حتى جعل عناده هذا، السيدة والمستر استجنز، يغمضان أعينهما، ويهزان نفسيهما فوق مقعديهما في اضطراب ظاهر، وإذا هو يؤدي عدة حركات صامتة توحي برغبته في لكم أنف استجنز وكسره. وكان يبدو عليه الارتياح الشديد لتلك الحركات الصماء، وكاد يضبط وهو يؤدي إحداها، حين انتابت المستر استجنز هزة، عند وصول الشراب، جعلت رأسه يمس قبضة المستر ولر، وقد ظل بضع لحظات وهو يؤدي بها تلك الحركات والألعاب «النارية» في الهواء، على قيد بوصتين من أذنه.
وقال سام في عجلة شديدة: «لماذا تمد يدك إلى الشراب بهذه الصورة الوحشية، ألا ترى أنك صدمت السيد بقبضة يدك؟»
وقال المستر ولر وقد شعر بشيء من الحياء لوقوع هذا الحادث غير المنتظر منه: «لم أكن أتعمد فعله يا سامي.»
وقال سام حين رأى السيد يعرك رأسه وهو مغيظ: «حاول يا سيدي مداواتها من الباطن، ما رأيك في هذا الشراب أو هذا «الغرور» الساخن يا سيدي؟»
ولم يجب المستر استجنز بكلام ما، ولكن شكله كان أكثر من الكلام تعبيرا، وراح يذوق الكأس التي وضعها سام في كفه، وألقى المظلة على الأرض، ثم عاد يذوقها، ثم شربها جملة في جرعة واحدة ومسح شفتيه بلسانه ورفع الكأس يطلب أخرى.»
ولم تتخلف مسز ولر في تأدية ذلك الشراب حقه من الإنصاف، فقد بدأت بالاحتجاج بأنها لا تستطيع أن تذوق قطرة منه، ثم تناولت قطرة صغيرة، فقطرة أكبر. فقطرات كثرا كبارا، وكان شعورها أشبه ما يكون بتلك المواد التي تتأثر كثيرا بالمياه القوية، فجعلت تذرف دمعة مع كل قطرة ترشفها من ذلك الشراب، ومضت تفعل ذلك، مذيبة مشاعرها على هذا النحو، حتى وصلت أخيرا إلى حالة سيئة من الشقاء تثير الإشفاق الشديد.
وفطن المستر ولر الكبير إلى هذه الأعراض والأمارات، فأظهر امتعاضا شديدا منها، وحين جاءت القارورة الثانية من الشراب ذاته، وبدأ المستر استجنز يزفر زفرات أليمة، راح المستر ولر يبدي استياء واضحا من كل هذه الحركات، بعدة كلمات متقطعة وعبارات غير مفهومة، لم تتبين الأذان منها غير تكرار لفظة «دجل».
وراح يهمس في أذن ابنه، بعد أن أطال النظر إلى السيدة والمستر استجنز: «سأقول لك ما في الأمر يا صمويل يا ابني: إنني أعتقد أنه لا بد من أن يكون هناك شيء خاطئ في بطن امرأة أبيك، وفي جوف هذا الرجل الأحمر الأنف.»
وقال سام: «ماذا تقصد؟»
وأجاب الشيخ: «أقصد أن هذا الذي يشربانه لا يغذيهما مطلقا، ولا يفيدهما أبدا، بل يتحول كله إلى ماء سخين، ثم ينزل دموعا من أعينهما، تأكد يا سامي أنه اعتلال في البنية.»
وأبدى المستر ولر هذا الرأي «العلمي» مصحوبا بعدة عبسات وإيماءات مؤكدة له، وفطنت مسز ولر إليها فاستخلصت منها أنها تنطوي على تلميحات وإشارات مزرية بها أو بالمستر استجنز، أو بهما معا، وإذا المستر استجنز نفسه ينهض مستويا على ساقيه قدر إمكانه، ويأخذ في إلقاء محاضرة قيمة لخير السامعين وفائدتهم، ولا سيما المستر صمويل خاصة، الذي ناشده في عبارات مؤثرة أن يحرص على نفسه، ويحتاط لها، في هذه البؤرة السيئة التي ألقي فيها، وأن يمتنع عن كل نفاق، أو كبرياء، وأن يتخذه هو - أي: استجنز نفسه - الأسوة الحسنة في كل شيء، وأنه إذا فعل ذلك فسوف يتبين إن عاجلا أو آجلا أنه رجل ذو أخلاق فاضلة مثله، وصفات لا تشوبها شائبة، وأن جميع من عرف قبل اليوم من الصحاب والخلطاء أراذل وأوغاد وشهوانيون لا صلاح لهم، وأنه لا يسعه إلا أن يشعر من هذه الناحية بمنتهى الارتياح.
وأهاب به كذلك أن يجتنب السكر قبل أي شيء سواه، فهو منقصة لا يعرف لها شبيها غير ولوغ الخنازير بالأقذار وتمرغها في الحمأة، وغير تلك العقاقير السامة المهلكة التي تمضغ في الأفواه، والتي يقال: إنها تذيب الذاكرة وتبددها تبديدا. وما كاد السيد المحترم ذو الأنف الأحمر يبلغ هذا الحد من محاضرته، حتى بدا كلامه غير مفهوم ولا متماسك العبارات إطلاقا، وراح يتمايل في حماسة بالغة حتى كاد يسقط لولا أن أمسك بظهر مقعد ليصلب طوله.
ولم يشأ المستر استجنز أن ينصح لسامعيه بالحذر والحيطة من أولئك المتنبئين الكذبة وأدعياء التدين الأثمة الدجالين، الذين تجردوا من كل نزوع إلى مناصرة تعاليم الدين وأصوله، وخلوا من كل شعور يدفعهم إلى التمسك بمبادئه وجوهر تعاليمه، فهم أشد خطرا على المجتمع من المجرمين العاديين؛ لأنهم لا يرون بدا من أن يخدعوا، ويغرروا بالجهال، ويعرضوا للسخرية والامتهان ما كان أولى به أن يكون موضع التقديس والتعظيم، ويسيئوا بمسلكهم هذا إلى سمعة هيئات كبيرة تضم خلقا كثيرا من أهل الفضل وذوي الأقدار، في أحسن الطوائف، وأجدر الجماعات بالإكبار. ولكنه استند إلى ظهر المقعد لحظة طويلة، وأغمض إحدى عينيه، وأطال الغمز بطرف الأخرى، فكان المفهوم من ذلك أنه فكر في هذا كله وتدبره، ولكنه احتفظ به لنفسه.
وظلت مسز ولر خلال هذه المحاضرة تبكي وتنتحب عند نهاية كل فقرة من فقراتها، بينما جلس سام ملتف الساق بالساق على أحد المقاعد، مسندا ذراعيه إلى السياج، ناظرا إلى الخطيب نظرات اقتناع شديد بقوله، ولطف ظاهر على وجهه، وأن جعل بين لحظة وأخرى يلقي نظرة عرفان على الشيخ. وكان هذا قد بدا مغتبطا في أول المحاضرة ثم ذهب في النوم عند وصولها إلى النصف أو قرابته.
وصاح سام حين رأى الرجل الأحمر الأنف عقب الفراغ من المحاضرة يلبس القفاز البالي، ويدخل أنامله في أطرافه المثقوبة، حتى بدت عقدها ظاهرة للأبصار: «مرحى! جميل جدا! بديع للغاية!»
وقالت مسز ولر بجد شديد: «أرجو أن ينفعك هذا القول الحكيم يا صمويل.»
وأجاب سام: «أعتقد ذلك يا أم.»
وقالت مسز ولر: «أتمنى أن ينفع والدك أيضا.»
وأجاب المستر ولر الكبير: «شكرا يا عزيزتي، وكيف تشعرين أنت بعد هذا الكلام الذي سمعته يا حبيبتي؟»
وصاحت مسز ولر: «يا ساخر.»
وقال المستر استجنز المحترم: «يا من تعيش في ظلمات الجهل!»
وقال المستر ولر: «إذا لم أجد نورا أحسن من ضوئك هذا أيها المخلوق الفاضل، فأغلب ظني أنني سأستمر حوذيا «ليليا» حتى أتقاعد كلية من العمل على الطرق، والآن يا مسز ولر، إذا أطال الأبلق الوقوف أكثر من هذا على ساقيه فلن يجد شيئا يقف عليه حين نعود، ومن يدري، فقد ينقلب المقعد الكبير في ثغرة أو ما أشبه، هو والراعي معا.»
وما أن سمع المستر استجنز المحترم هذا الافتراض وهو في ذهول ظاهر، وفزع بالغ، حتى جمع قبعته ومظلته واقترح الانصراف في الحال، فوافقت مسز ولر على اقتراحه، وسار سام معهم إلى الباب وودعهم وداعا لائقا.
وقال الشيخ: «وداعا يا صمويل.»
وسأل سام: «ماذا تعني وداعا هذه؟»
وأجاب الشيخ: «إذن أقول: نرى وجهك بخير.»
وقال سام: «آه، أهذا ما تقصده؟ إلى الملتقى إذن.»
وتلفت المستر ولر محاذرا وهمس قائلا: «اسمع يا سامي، سلم على سيدك وقل له: أن يتصل بي إذا غير رأيه في هذه المسألة التي هنا، فقد فكرت أنا وصانع أثاث في طريقة لإخراجه من هذا المكان.» وراح يضرب ابنه على صدره بظاهر كفه، ويتراجع خطوة أو خطوتين وهو يقول: «صانع بيان يا صمويل، صانع بيان.»
وقال سام: «ماذا تقصد بهذا؟»
وقال المستر ولر بلهجة أشد غموضا من قبل: «بيان أربعين يا صمويل يمكن أن يستأجره، بيان لا يعزف ولا يرسل أنغاما يا سامي.»
وقال: «وما الفائدة منه؟»
وأجاب المستر ولر: «دعه يرسل إلى صديقي صانع الأثاث ليحضره إليه يا سامي. هل فهمت الآن؟»
قال: «كلا».
وأجاب الوالد مخافتا بصوته: «يعني أنه لا يحتوي على شيء في جوفه، فهو بيان خالي العدد تماما، ومن السهل أن يدخل في جوفه هو وقبعته وحذاؤه، ويتنفس من طرفي رجليه. ويعد جواز سفر إلى أمريكا؛ لأن الحكومة الأمريكية لن تسلمه أبدا، حين تعلم أن لديه مالا ينفقه في بلادها يا سامي، ودع سيدك يبقى هناك حتى تموت مسز باردل، أو يشنق ددسن وفج، وإن كنت أعتقد أن شنقهما سيحدث غالبا قبل وفاتها، وعندئذ يعود فيضع كتابا عن الأمريكيين فيربح ما يعوض عليه كل المصاريف وزيادة إذا عرف كيف يستفيد منها.»
ولبث المستر ولر يلقي تفاصيل هذه «المؤامرة» بعجلة وهمس شديدين، وكأنما خشي أن يضعف تأثير هذه الفكرة الضخمة التي كاشف ولده بها، إذا هو أطال الكلام فيها، فحيا تحية السائقين، واختفى.
ولم يكد سام يسترد سكينته ويعيد إلى وجهه هدوءه المألوف بعد أن أزعجه كثيرا هذا السر الذي أفضى به إليه والده المحترم، حتى أقبل عليه المستر بكوك وقال له ذلك السيد: «يا سام.»
وأجاب مستر ولر: «نعم يا مولاي.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «إنني ذاهب في جولة حول السجن وأحب أن ترافقني، إني أرى سجينا نعرفه قادما نحونا يا سام.»
وسأل المستر ولر: «أيهما يا سيدي؟ أهو السيد الذي كل رأسه شعر أم السجين اللطيف ذو الجوربين؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا هذا ولا ذاك، إنه صديق قديم لك يا سام.»
وصاح سام مبهوتا: «صديق لي يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أؤكد لك أنك تذكره جيدا يا سام، وإلا كنت أقل اكتراثا بأصدقائك القدامى مما أظن، صه يا سام ولا كلمة، بل ولا حرف، ها هو ذا.»
وما أن فرغ المستر بكوك من هذا الكلام حتى تقدم جنجل، وكان يبدو أقل سوءا، وأخف بؤسا، مما بدا أول مرة، فقد جاء مرتديا حلة نصف بالية، كان المستر بكوك قد أعانه على استردادها من راهن الثياب، وكان عليه قميص نظيف أيضا، وقص شعره كذلك، وإن ظل شاحب اللون نحيفا، وما كاد يدنو بطيء الخطى معتمدا على عصا، حتى تبين أنه يعاني ألما شديدا من المرض والحاجة، وأنه لا يزال واهنا خائر القوى. ورفع قبعته للمستر بكوك حين حياه، وبدا عليه الحياء البالغ، والذلة الشديدة، عندما ألمت عينه بسام ولر.
وجاء في أذياله المستر جب ترتر الذي لا مكان في ثبت مساويه، على الحالات كلها، للغدر برفيقه أو عدم الإخلاص لصاحبه. وكان لا يزال يبدو في أسمال بالية قذرة لطول ما أهملت، ولكن وجهه لم يكن غائرا بالقدر الذي كان عليه عند أول لقاء بينه وبين المستر بكوك منذ بضعة أيام. وغمغم وهو يرفع إليه قبعته محييا ببعض كلمات متقطعة يعبر بها عن عرفانه، ويتمتم بعبارات عن نجاته من الجوع.
وقال المستر بكوك وهو يقاطعه نافذ الصبر: «حسن جدا، حسن جدا، اذهب مع سام، فإني أريد أن أتحدث مع المستر جنجل، هل في إمكانك أن تمشي دون الاستناد إلى ذراعه؟»
وأجاب جنجل عن هذا السؤال الأخير الموجه إليه قائلا: «بلا شك يا سيدي ... أنا على استعداد تام ... وإن كنت لا أسرع كثيرا ... الساقان راعشتان ... والرأس يدور دورانا عجيبا ... ويلف ... نوع «زلزالي» من الشعور ... جدا.»
وقال المستر بكوك: «هات ذراعك، هيا.»
وأجاب جنجل: «كلا، كلا، لن أفعل، أفضل ألا أفعل.»
وقال المستر بكوك: «كلام فارغ، استند إلى ذراعي، إنني أريد ذلك يا سيدي.»
وشاهد المستر بكوك ارتباكه واضطرابه وأنه حائر لا يدري ماذا هو صانع، فاختصر الكلام وسحب ذلك «المتجول» المريض من ذراعه وسار به، دون أن يفوه بكلمة أخرى.
وكان وجه المستر ولر طيلة الوقت يبدو في أشد الذهول والدهشة التي يتسع للخيال أن يصورها، وبعد أن مضى ينقل عينه بين جب وجنجل، وبين جنجل وجب، في صمت عميق، انثنى يقول برفق: «والله إني لفي حيرة شديدة»، وطفق يكرر هذه العبارة عشرين مرة على الأقل، ثم ارتج في النهاية عليه، وعاد ينظر إلى أحدهما، ثم يتحول بعينه إلى الآخر، في حيرة صامتة ودهشة خرساء.
والتفت المستر بكوك خلفه وقال: «يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «أنا آت يا سيدي»، وراح يتبع سيده مذهولا شارد الخاطر، وهو لا يزال ينظر إلى المستر جب ترتر الذي كان يسير بجانبه صامتا.
ولبث جب مطرقا إلى الأرض لحظة، وسام لا يبرح ينظر إلى وجهه، حتى اصطدم بالذين كانوا يروحون ويغدون في ذلك المكان، وراح يدهم الأطفال الصغار، ويتعثر بالمدارج، ويتخبط في القضبان وهو لا يشعر، حتى رفع جب أخيرا بصره خلسة إليه فقال: «كيف حالك يا مستر ولر؟»
وصاح سام قائلا إنه: «هو بعينه.»
وما كاد يتحقق ذلك، ويزول كل شك كان يخامره، حتى ضرب ساقه بكفه ونفس عن شعوره بإطلاق صفير حاد مستطيل. وقال جب: «لقد تنكرت الدنيا لي يا سيدي.»
وأجاب ولر وهو ينظر إلى أسماله في دهشة لا يستطيع إخفاءها: «أعتقد ذلك، وهو تغير من سيئ إلى أسوأ يا مستر ترتر كما قال أحدهم حين تناول شلنين وستة بنسات رديئة أو مشكوكا فيها مقابل نصف كراون من العملة الطيبة.»
وأجاب جب وهو يهز رأسه: «فعلا، ولم يعد الخداع يجدي الآن شيئا يا مستر ولر.» وهنا نظر نظرة خبث عابر وعاد يقول: «إن الدموع ليست الأدلة الوحيدة على المحن والخطوب، ولا هي بأحسنها ولا أقواها حجة.»
وأجاب سام وقد أدرك المراد: «نعم، ليست كذلك فعلا.»
وقال جب: «إن الدموع يمكن التظاهر بها يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «أعرف ذلك، وأعرف أن بعضهم يعدها إعدادا، ويجهزها مقدما، وفي وسعه أن ينتزع الغطاء متى شاء فتنهمر انهمارا.»
وأجاب جب: «نعم، ولكن هذه الأشياء لا يمكن تزييفها بسهولة يا مستر ولر، إن استثارتها عملية مؤلمة.» وأشار عندئذ إلى خديه الشاحبين الغائرين في صحن وجهه وشمر عن ساعده، فكشف عن ذراع بدت كأن عظامها توشك أن تنكسر من مجرد لمسها، فقد كانت تلوح متناهية في الضمور والنحول من تحت غطائها الواهن من اللحم.
وقال سام متراجعا من بشاعة هذا المشهد: «ما الذي كنت تصنعه بنفسك؟»
وأجاب جب: «لم أصنع بها شيئا.»
وقال سام مبهوتا: «لم تصنع بها شيئا!»
وأجاب جب: «لم أفعل شيئا منذ عدة أسابيع، ولم أكن أؤدي عملا، ولا أكاد أذوق شيئا من الطعام والشراب.»
وألقي سام نظرة شاملة على وجه المستر ترتر الضامر النحيل، وثيابه البالية، ثم تناوله من ذراعه وبدا يسحبه بعنف شديد.
وقال جب وهو يحاول عبثا التخلص من قبضة عدوه القديم «أين تذهب بي يا سام؟»
وقال سام: «هيا بنا، هيا بنا!»
ولم يحاول شرح مراده حتى وصلا إلى قاعة الشراب، فطلب جرة من الجعة، فجيء بها سريعا، وانثنى يقول: «والآن، اشربها إلى آخر قطرة فيها، ثم اجعل عاليها سافلها، حتى أرى أنك قد شربت الدواء.»
وقال جب متمنعا: «ولكن يا عزيزي المستر ولر.»
وقال سام بلهجة قاطعة: «هيا، اسكبها في جوفك !»
وامتثل المستر ترتر للنصيحة فرفع الجرة إلى شفتيه، وراح برفق، وعلى درجات لا تكاد تبين، يميلها في الفضاء، وقد تمهل مرة واحدة ليأخذ نفسا طويلا، وإن لم يرفع وجهه عن الوعاء، فلم تكد تمضي بضع لحظات، حتى أمسك بها على حبل ذراعه مقلوبة فارغة، لم يسقط منها غير ذرات قليلة من الرغوة، لبثت تنفصل شيئا فشيئا من الحافة وتتقاطر بطيئة متثاقلة.
وقال سام: «أحسنت، والآن كيف تشعر بعد شربها؟»
وأجاب جب: «أحسن حالا يا سيدي، أعتقد أنني أحسن حالا.»
وقال سام بلهجة المجادل المحاج: «بالطبع، إن هذا أشبه بوضع غاز في منطاد، وأرى بالعين المجردة أن هذه العملية نجحت، وأنك أقوى الآن مما كنت، ما رأيك في واحدة أخرى من عين الحجم؟»
وأجاب جب: «أفضل ألا أفعل، إنني شاكر لك كثيرا يا سيدي، وأفضل كثيرا ألا أفعل.»
وقال سام: «إذن ما قولك في تناول شيء من الطعام؟»
وأجاب المستر ترتر: «الفضل لمعلمك الفاضل يا سيدي، فقد تناولنا بمنه وكرمه نصف فخذ من الضأن أدخل الفرن قبل الثالثة بربع ساعة، ومن تحته البطاطس لنغني عن أنفسنا مؤونة سلقه.»
وقال سام: «ماذا أسمع؟ هل كان «هو» الذي يمدكما بالطعام؟»
وأجاب جب: «نعم، بل بأكثر من ذلك يا مستر ولر، فقد استأجر لنا غرفة حين رأى سيدي في مرض شديد، وكنا من قبل في وجار الكلاب، ودفع عنا الأجرة يا سيدي، وجاء ليتفقد أحوالنا ليلا، حتى لا يعرف أحد شيئا عما يفعله.»، وهنا اغرورقت عيناه لأول مرة بعبرات صادقة ومضى يقول: «إنني لا أتردد يا مستر ولر في خدمة ذلك السيد حتى أسقط ميتا عند قدميه.»
وقال سام: «اسمع، أنا سأتبعك يا صاحبي، لا تقل مثل هذا الكلام أبدا.»
وبدت الدهشة على وجه المستر ترتر.
وعاد سام يكرر بقوة: «قلت لك لا تتكلم هكذا، فلا أحد يخدمه سواي، والآن وقد أفهمتك هذا أحب أن أكاشفك بسر آخر» - وهنا دفع حساب الجعة - ومضى قائلا: «إنني لم أسمع - انتبه لكلامي - ولم أقرأ في الروايات، ولم أشاهد في الصور ملكا مثله في أربطته وحذائه وغطاء ساقه، ولا في منظاريه كذلك، وإن كان من الجائز أن يحصل شيء كهذا وأنا لا أعرف، ولكن انتبه لكلامي يا جب ترتر وافهم جيدا، إنه ملك نشأ نشأة طيبة، وتربى تربية عالية، ودعني أشهد أحد يجرؤ على أن يقول لي: إنه عرف ملكا
1
أحسن منه!»، وبهذا التحدي وضع المستر ولر باقي النقود في أحد جيوبه الجانبية وزرره، وانطلق بعدة إيماءات وإشارات مؤكدة لقوله، في طريقه، يبحث عن السيد الذي كان موضوع حديثهما.
ووجدا المستر بكوك يتحدث إلى جنجل بجد ظاهر، غير ملق نظرة على الجماعات المحتشدة في ميدان الكرة، وهي جماعات مختلفة الأشكال والألوان تستحق المشاهدة، ولو من قبيل الفضول والعلم بالشيء لا أكثر ولا أقل.
وكان المستر بكوك يقول حين اقترب سام ورفيقه منهما: «سوف ترى كيف تصبح صحتك، وتفكر في الأمر خلال ذلك وتتدبره، وتعال أبلغني حين تشعر بأنك على هذه المهمة قدير، وسأبحث في الموضوع معك بعد أن أكون قد فكرت فيه ودرسته، والآن عد إلى غرفتك فإنك متعب ولا تتحمل المكث خارج الغرفة طويلا.»
وانحنى المستر ألفرد جنجل في صمت، وقد فارقته حيويته القديمة فلم تبق منها ولا شرارة واحدة، وزال عنه أيضا كل أثر لذلك المرح الحزين الذي اتخذ سماته حين عثر المستر بكوك عليه أول مرة في شدة بؤسه وفاقته. وأشار جنجل إلى جب ألا يتبعه، وتسلل في بطء منصرفا.
وقال المستر بكوك وهو يجيل العين فيما حوله متفكها: «هذا منظر غريب يا سام، أليس كذلك؟»
وأجاب سام: «جدا يا سيدي»، ثم أضاف إلى ذلك وهو يتحدث لنفسه: «لن تنقطع في هذه الدنيا العجائب، ولست أظنني مخطئا كثيرا إذا لم يكن جنجل هذا معتزما أن يفعل شيئا من «فصوله» القديمة!»
وكانت المنطقة التي يحدها الجدار في هذا الجزء من السجن الذي وقف فيه المستر بكوك من الرحابة، بحيث تتسع لميدان فسيح من ميادين الكرة، ولكنها لا تزيد على ذلك، فإن جانبا منها يتألف طبعا من الجدار ذاته، ويتألف الجانب الآخر من ذلك الجزء من السجن الذي يطل - أو كان ممكنا أن يطل لولا قيام ذلك الجدار - على كنيسة القديس بولص، وكان خلق كثير من المدينين رائحين فيه أو غادين، أو جلوسا في مختلف نواحيه، وهم في فراغ ممل، وتبطل مسئم، بكل مظاهر الفراغ ومختلف أشكاله وصوره، وكان أغلبهم منتظرين اليوم الذي يقدمون فيه إلى محكمة «التفاليس»، وآخرون منهم قد أمهلوا عدة مهلات للوفاء، أو أعلنوا بالحضور أمامها في مواعيد مختلفة، فراحوا يقضون المهلات فارغين لاهين ما شاءوا، وكان فريق منهم في ثياب ضيقة، وآخرون في أردية رشيقة، وكثير منهم بادو المقاذر، وقليلهم النظاف، وهم جميعا في ذلك المكان بين متكئ، ورائح، وغاد، بلا نشاط، ولا همة، ولا غرض، كأنهم وحوش أوابد في حديقة الحيوان.
ومن النوافذ المطلة على ذلك الممشى الفسيح أشرف فريق آخر، بعضهم في حديث صاخب مع معارفهم في الأدوار السفلى من البناء، والبعض الآخر يلعب الكرة مع بعض رماتها والمطوحين بها وهم وقوف في الميدان، وآخرون قد وقفوا يشاهدون اللاعبين في رحابه، أو يرقبون الغلمان الذين يتصايحون في حماسة لهم، وبين لحظة وأخرى تمر نساء قذرات ينتعلن أخفافا في طريقهن إلى المطبخ القائم في ركن من الفناء، بينما ترى الأطفال في صراخ أو شجار أو ملاعبة في ركن آخر منه، وقد اختلطت أصوات الكرة وهي تسقط فوق أديم الأرض بصيحات اللاعبين، وغيرها من عشرات الأصوات، حتى ليعج المكان جلبة وضوضاء، إلا في سقيفة صغيرة حقيرة على قيد خطوات من الفناء، حيث يرقد في سكون رهيب، جثمان موظف المحكمة الذي فارق الحياة في الليلة الماضية، منتظرا ما يسمى سخرية بالتحقيق في أسباب الوفاة. الجثمان! هذا هو الاصطلاح الذي تواضع عليه رجال القانون في وصف مجموعة الهموم واللهفات والحب والآمال والأحزان، تلك المجموعة القلقة الدوامة المتحركة، التي يتألف منها كيان الإنسان الحي. لقد ظفر القانون بجثمانه، وها هو ذا راقد ملفف في أكفان رهيبة، شاهدا مروعا على رحمة القانون وشفقته.
وسأل جب ترتر: «هل تحب يا سيدي أن تشهد دكان الصفير؟»
وسأله المستر بكوك: «ماذا تقصد؟»
وتدخل المستر ولر فقال: «دكان صفير يا سيدي.»
وسأل المستر بكوك: «وما ذاك يا سام، أهو دكان هاوي طيور؟»
وأجاب جب: «سبحان الله يا سيدي، ليس هو كذلك، إن دكان الصفير هو يا سيدي المكان الذي يبيعون فيه المشروبات الكحولية.» ومضى المستر جب ترتر يشرح بإيجاز كيف أن لوائح السجن تمنع الأشخاص من نقل هذه المشروبات إلى سجون المدينين، وإلا تعرضوا لعقوبات شديدة، وأن المساجين فيها نساء ورجالا يؤثرون هذه الأشربة على سواها، ويحبونها حبا جما، وقد خطر لبعض السجانين المغامرين، في سبيل الكسب، الاتفاق سرا مع سجينين أو ثلاثة مساجين على بيع شراب «الجن» الأثير عند نزلاء السجن لطلابه سعيا وراء الربح والانتفاع.
وختم بيانه بقوله: «ومن هذا ترى يا سيدي؟ إن هذه الخطة أخذت تدخل جميع سجون المدينين شيئا فشيئا.»
وقال سام في أثره: «ولهذه الطريقة مزية كبيرة جدا، وهي أن السجانين يحرصون أشد الحرص على القبض على أي إنسان يحاول الاتجار لحسابه، إلا الذين يؤدون إتاوات إليهم، فإذا وصلت الأنباء إلى الصحف راحت تنوه بيقظتهم، وتمتدح همتهم، وهم بذلك يضربون عصفورين بحجر، فيرهبون غير صنائعهم من عاقبة الاتجار بهذه الممنوعات، ويرفع من شأنهم.»
وقال جب: «هو ذلك تماما يا مستر ولر.»
وقال المستر بكوك: «نعم، ولكن ألا تفتش هذه الحجرات يوما للتثبت من أنها تحوي هذه الأشربة مخبأة فيها أو لا تحوي شيئا منها؟»
وأجاب سام: «تفتش بلا شك يا سيدي، ولكن السجانين يعرفون الموعد مقدما وينبهون أولئك «الصافرين» ليأخذوا حذرهم، وأنت تستطيع أن تصفر لهم حين تذهب لتفتش عن الشراب.»
وكان جب في هذه اللحظة قد طرق بابا، فجاء رجل منفوش الشعر، ففتحه ثم أغلقه وراءهم عقب دخولهم وهو يبتسم، فابتسم جب كذلك، وفعل سام مثله، وعندئذ رأى المستر بكوك أنه قد ينتظر منه هو الآخر أن يبتسم، فلبث مبتسما إلى نهاية الاجتماع.
وبدا على السيد ذي الشعر المنفوش الارتياح التام لهذا الإعلان الصامت عن طلبهم، فأخرج زجاجة واسعة الجوف من الفخار قد تتسع لعشرة أكواب، من تحت سريره، فملأ منها ثلاثة أكواب من الجن فشربها جب ترتر وسام بطريقة تليق بالعمال المهرة في الشراب.
وقال السيد «الصافر»: «هل تطلبون مزيدا؟»
وأجاب جب ترتر: «كفى.»
ودفع المستر بكوك الحساب، وفتح الباب، فخرجوا، بينما راح السيد المنفوش الشعر ينعم بإيماءة ودية على المستر روكر الذي اتفق مروره في تلك اللحظة.
وانطلق المستر بكوك من ذلك الموقع يطوف بكل الدهاليز والردهات، ويصعد ويهبط كل المدارج، ويعود فيلم بالمنطقة كلها، فبدا له أن سكان هذا المكان جميعا، ونزلاءه على بكرة أبيهم، هم ميفنز واسمانجل، والقسيس، والجزار، والنصاب، مضروبين في عشرات من أمثالهم، وأن السجن متشابه الأدوات والطبقات والأرجاء، في القذارة ذاتها، والجلبة عينها، والضوضاء نفسها، وسائر الصفات العامة في كل ركن وزاوية، وبين خيارهم وأشرارهم على السواء، وخيل إليه أن المكان أخلى ما يكون من الهدوء، وأقفر ما يكون من السكينة، وأن أهله في زحام لا ينقطع، ورواح أو غدو مستمر، كأنهم أشباح في حلم ثقيل.
وقال المستر بكوك وهو يتهالك على مقعد في غرفته الصغيرة: «لقد شهدت ما فيه الكفاية، إن رأسي لمصدع، وإن قلبي لموجع، من هذه المشاهد المنكرة، ومن الآن سأظل سجينا في غرفتي لا أبرحها.»
وقد بر المستر بكوك بعهده، ونفذ عزيمته، فلبث ثلاثة أشهر سويا في غرفته لا يفارقها نهارا، وإنما يتسلل منها ليلا ليستنشق الهواء حين يأوي أغلب زملائه المساجين إلى المضاجع أو يسمرون ويقصفون في داخل حجراتهم، حتى بدأت صحته تعتل من هذا الاحتجاز الشديد، ولكن لم تستطع توسلات بركر المتكررة، ولا إلحاح أصدقائه المستمر، ولا نذر المستر صمويل ولر ونصائحه المتوالية، أن تثنيه قيد أنملة عن عزمه الذي لا يلين.
ملاك، قديس.
الفصل السادس والأربعون
تصرف يوحي بشعور كريم، وإن لم يخل من فكاهة يعمد إليه المحاميان ددسن وفج. ***
قبل انتهاء شهر يوليو بأسبوع أو قرابته، شوهدت مركبة أجرة ذات حصان واحد، ليس لها رقم، وهي مسرعة في شارع «جزول»، وقد انحشر في جوفها ثلاثة أشخاص غير السائق الذي كان يجلس فوق مقعده الجانبي الصغير، وقد علقت على «مشمع» المركبة لفاعتان لسيدتين قصيرتين يبدو عليهما النزوع إلى المشاكسة، والميل إلى الشجار، وبينهما انحشر في موضع ضيق رجل ضخم مستكين، كلما تجرأ فأبدى شيئا من الملاحظات، عاجلته إحدى هاتين السيدتين الشكستين فأسكتته، وانتهى الأمر على هذا النحو إلى تضارب التوجيهات التي جعلت السيدتان الشرستان والسيد الهادئ يصدرونها إلى السائق، وكانت أوامرهما وأوامره ترمي إلى شيء واحد وهو الوقوف بالمركبة عند باب بيت مسز باردل، وراح الرجل المستكين يعارض السيدتين الشكستين ويتحداهما، ويصر على أن الباب أخضر اللون، لا أصفر الطلاء.
وقال السيد الضخم: «قف بالباب الأخضر أيها السائق.»
وصاحت إحدى السيدتين الشكستين: «أيها المخلوق الفاسد، سق بنا إلى البيت الذي بابه أصفر أيها الحوذي.»
ولكن السائق وهو يحاول فجأة شد اللجام للوقوف بالباب الأخضر، كان قد جذب الحصان جذبة قوية جعلته يقفز قفزة كادت تلقي به إلى الخلف في المركبة ذاتها، ولكنه تركه حتى هبط الأرض بساقيه الأماميتين، ووقف عن المسير، والتفت إليهم قائلا: «والآن أمام أي الأبواب أقف، ابحثوا في هذه المسألة فيما بينكم، فإن كل ما أطلبه هو أين تريدون مني أن أقف؟»
وهنا تجدد النزاع واشتدت وطأته، وكانت ذبابة قد حامت حول منخر الحصان فضايقته وجعلته يتحفز ويتواثب، فعمد السائق إلى قضاء فترة فراغه، في عمل إنساني رحيم، وهو ضرب الحصان بالسوط فوق هامته عملا بمبدأ «مقاومة الاضطراب بمثله».
وقالت إحدى السيدتين الشكستين أخيرا: «الأغلبية هي التي قرارها ينفذ، البيت الذي يبدو بابه أصفر أيها السائق.»
ولكن بعد أن اندفعت المركبة بشكل رائع إلى الباب الأصفر، «محدثة» كما قالت إحدى السيدتين الشكستين بلهجة المنتصرة، ضوضاء أكثر مما لو كان الإنسان قد جاء في مركبة خاصة يمتلكها هو، وبعد أن ترجل السائق لمعاونة السيدتين على النزول، أطل رأس الأستاذ توماس باردل الصغير من نافذة بيت ذي باب أحمر على قيد بضعة بيوت من البيت الذي وقف السائق ببابه .
وصاحت السيدة الشكسة التي مر ذكرها وهي ترمق السيد الضخم بنظرة ذابلة: «شيء مثير للغضب.»
وقال السيد: «ليس الذنب ذنبي يا عزيزتي.»
وأجابته السيدة بحدة: «لا تكلمني أيها المخلوق، حذار، قف بالباب الأحمر أيها السائق، أوه! لو كانت في الدنيا امرأة منكوبة برجل يعتز ويلهو بفضح زوجته في كل مناسبة ممكنة أمام الغرباء فأنا تلك المرأة!»
وقالت السيدة القصيرة الأخرى، ولم تكن سوى مسز كلبنز التي مر من قبل ذكرها: «أولى بك أن تخجل من نفسك يا رادل.»
وقال المستر رادل: «ما الذي فعلته؟»
وقالت مسز رادل: «لا تتكلم معي أيها البهيم حتى لا تستفزني إلى نسيان جنسي فأضربك.»
وكان السائق خلال هذا الحوار قد أخذ بشكل مخجل كل الإخجال يقود الحصان من لجامه إلى الباب الأحمر، وكان المعلم باردل الصغير قد جاء ففتحه، وكان وصول المركبة إلى بيت صديقه على هذه الصورة غاضا من الكرامة، خاليا من الأبهة التي كانت مسز رادل ترجوها، فلا اندفاع من الحصان نحو الباب، ولا حماسة ولا هياج ولا وثوب بمقدميه، ولا قفز من جانب السائق للمعاونة على النزول، ولا طرق عنيف بالباب، ولا فتح «للمشمع» بقوة في اللحظة الأخيرة، مخافة أن يهب الهواء على السيدتين، ولا تقديم الملفعتين إليهما بأدب ظاهر كأنه سائق خاص. لقد خلا الأمر من كل طرافة وجاه ومظهر، فكان قدومهما في مركبة أسوأ من مجيئهما مشيا على الأقدام.
وقالت مسز كلبنز: «كيف حال أمك العزيزة المسكينة يا تمي؟»
وأجاب باردل الصغير: «بخير، وهي جالسة في الغرفة الأمامية لابسة، ومستعدة، وأنا مستعد أيضا»، وهنا وضع يديه في جيبيه، وقفز فوق الدرجة الأولى من سلم الباب.
وقالت مسز كلبنز وهي تنظم حرملتها: «وهل سيذهب أحد آخر يا تمي؟»
وأجاب تمي: «مسز ساندرز ذاهبة أيضا، وأنا أيضا ذاهب.»
وقالت مسز كلبنز: «يا للطفل الملعون، إنه لا يفكر إلا في نفسه، اسمع يا تمي، قل لي، يا عزيزي.»
وأجاب المعلم باردل: «نعم.»
وقالت مسز كلبنز بلهجة الإيحاء: «من الذي سيذهب أيضا يا حبيبي ؟»
وأجاب باردل الصغير وهو يفتح عينيه على سعتهما وهو يلقي هذا النبأ: «أوه، مسز روجرز أيضا ستذهب.»
وصاحت مسز كلبنز: «ماذا؟ السيدة التي استأجرت الشقة؟»
وراح الصبي يدس يديه في جيبيه أكثر من قبل ويومئ خمسا وثلاثين إيماءة بالضبط؛ ليؤكد أنها السيدة الساكنة عندهم، دون أحد سواها.
وصاحت مسز كلبنز: «بالله! إننا سنكون بهذا الشكل حفلا حافلا.»
وأجاب باردل الصغير: «لو عرفت ماذا في الصوان لقلت هكذا.»
وقالت مسز كلبنز مداعبة مغرية: «ماذا فيه، أنا عارفة يا تمي أنك ستقول لي.»
وأجاب الصبي وهو يهز رأسه ويعود إلى سلم الباب: «كلا، لا أقول لك.»
وغمغمت مسز كلبنز: «ذلك ولد خبيث وصبي مستفز للشعور، هيا يا تمي، قل لخالتك العزيزة (كلبي).»
وأجاب المعلم باردل: «أمي أوصتني ألا أقول، إنني سآخذ قليلا منه.» وسره هذا الأمل، فأقبل على القفز والطفر بقوة متزايدة.
وجرى هذا الاختبار للصبي في اللحظات التي كان فيها المستر رادل، ومسز رادل، والسائق، منهمكين في مشادة على الأجر، انتهت لمصلحة الأخير، وجاءت مسز رادل متهادية.
فبادرتها مسز كلبنز قائلة: «ما الذي جرى يا ميري آن؟»
وأجابت مسز رادل: «جرى ما جعلني أرعش من الغيظ والانفعال، إن رادل ليس رجلا كالرجال، إنه يطرح كل شيء على كاهلي أنا.»
ولم يكن هذا القول إنصافا لحق المستر رادل السيئ الحظ، فإن السيدة الكريمة هي التي أزاحته جانبا من بداية النزاع، وهي التي أمرته بلهجة قاطعة أن يمسك عليه لسانه، على أنه لم تسنح له فرصة للدفاع عن نفسه إزاء هذا الاتهام؛ لأن مسز رادل أبدت من الأعراض والأمارات الأكيدة ما يوحي بأنها موشكة على الإغماء، وكانت مسز رادل، ومسز ساندرز، والساكنة الجديدة، وخادمتها قد لاحظن ذلك من النافذة، فاندفعن مهرولات إلى الخارج، وحملنها إلى البيت، وهن يتكلمن جميعا في وقت واحد ويفهن بعبارات رثاء ومواساة مختلفة، كأنها من أشقى الأحياء على الأرض، وما أن بلغن بها غرفة الجلوس حتى أرقدنها فوق متكأ، وجرت السيدة التي نزلت من الطابق الأول إلى الطابق الأول وعادت بشيء من «النوشادر»، فأمسكت برقبة مسز رادل، واستعانت بكل حنان النساء ورحمتهن، فقربت النوشادر من أنفها، حتى بادرت السيدة بعد عدة مقاومات واندفاعات إلى المصارحة بأنها قطعا أحسن حالا.
وقالت مسز روجرز: «وا حر قلباه لها! إنني أعرف شعورها حق المعرفة.»
وتبعتها مسز ساندرز قائلة: «واها لها، وأنا كذلك عارفة شعورها.» وتوجعت السيدات كلهن معا، وقلن: إنهن يعرفن ما هنالك، ويرثين لها من أعماق قلوبهن، حتى خادم الساكنة الجديدة، وهي صبية في الثالثة عشرة، ولا يتجاوز طولها ثلاثة أقدام، غمغمت مشفقة راثية.»
وقالت مسز باردل: «ولكن ما الذي جرى؟»
وتبعتها مسز روجرز فقالت: «آه، ما الذي أفقدك السيطرة على شعورك يا سيدتي؟»
وأجابت مسز رادل بلهجة لوم وتقريع: «لقد أزهقني كثيرا وهيج شعوري.» وعندئذ ألقت السيدات على المستر رادل نظرات غاضبة.
وقال الرجل السيئ الحظ وهو يتقدم خطوات إلى الأمام: «الواقع أننا حين نزلنا عند الباب، قام نزاع بيننا وبين سائق المركبة ذات الحصان الواحد ...»، وهنا أطلقت زوجته صيحة عالية، عند ذكر نوع المركبة التي جاؤوا فيها، فلم يستطع الرجل أن يجعل شرحه للحادث مسموعا.
وقالت مسز كلبنز: «خير لك أن تتركنا نعيدها إلى سكينتها يا رادل، إنها لن تفيق وتهدأ ما دمت هنا.»
ووافقت السيدات جميعا على هذا الرأي، فدفعن الرجل خارج الغرفة، وطلبن إليه أن يشم الهواء في الفناء الخلفي، ففعل، ولم يمض ربع ساعة، حتى أعلنته مسز باردل وهي عابسة مقطبة أنه قد آن له أن يعود، وإنما يجب أن يكون حريصا في سلوكه إزاء زوجته، وقالت: إنها تعرف أنه لم يقصد أن يكون قاسيا ولكن «ميري» ليست قوية موفورة الصحة والأعصاب، وإذا هو لم يحتط، فقد يفقدها، وهو لا يدري، ثم يندم بعد ذلك ولات حين ندامة. وسمع المستر رادل ذلك كله في استكانة بالغة، ولم يلبث أن عاد إلى الغرفة، كالحمل الوديع.
وقالت مسز باردل: «يا للعجب! لقد نسينا واجب التعريف، مسز روجرز يا سيدتي، المستر رادل، مسز كلبنز، مسز رادل.»
وقالت مسز ساندرز : «وهي أخت مسز كلبنز.»
وقالت مسز روجرز بلطف وأدب: «آه، هذا صحيح!» لأنها كانت الساكنة، وخادمتها الوصيفة، فلا عجب إذا هي بدت بحكم مركزها لطيفة ظريفة أكثر منها ولية حميمة وكررت قولها: «هذا حق!» وابتسمت مسز رادل ابتسامة حلوة، وانحنى المستر رادل، وقالت مسز كلبنز: إنها على يقين من أنها سعيدة كل السعادة أن أتيحت لها فرصة للتعرف بسيدة كمسز روجرز كانت من قبل مثنية عليها أطيب الثناء، وهي تحية قابلتها تلك السيدة بتواضع جميل.
وقالت مسز باردل: «إنني واثقة يا مستر رادل من أنك ستشعر بتكريم وشرف كبير؛ لأنك أنت وتمي السيدان الوحيدان اللذان سيتوليان حراسة عدة سيدات طول الطريق إلى «حديقة الأندلس» في هامستيد. ألا تعتقدين ذلك يا مسز روجرز؟»
وأجابت مسز روجرز: «آه، بالتأكيد يا سيدتي.» وتبعتها السيدات جميعا قائلات: «آه! بالتأكيد.»
وقال المستر رادل وهو يفرك يديه ويبدي ميلا خفيفا إلى التهلل قليلا: «بلا شك يا سيدتي، بل في الحق لقد كنت أقول ونحن قادمون في المركبة ذات الحصان ...»
وما كاد الرجل يعود إلى ذكر هذه الكلمة التي أثارت في نفس مسز رادل ذكريات أليمة، حتى عادت تضع منديلها على عينيها، وترسل صرخة مكتومة. فلم يسع مسز باردل إلا أن تعبس في وجه المستر رادل، إشارة إليه بأنه يحسن ألا يقول شيئا بعد ذلك، وطلبت إلى خادم مسز روجرز بلهجة العظمة أن «تحضر المطلوب.»
وكانت هذه هي الإشارة المتفق عليها لإظهار «الكنوز المخبوءة» في الخزانة. وكانت تلك الكنوز تشمل صحافا مختلفة من البرتقال والبسكويت، وزجاجة من النبيذ المعتق تساوي شلنا وتسعة بنسات، وأخرى من شراب الكرز المشهور الوارد من الهند الشرقية، تساوي أربعة عشر بنسا، وكانت هذه جميعا قد أحضرت تكريما للساكنة الجديدة، وقوبلت من الجميع باغتباط لا حد له. وبعد أن استولى الارتباك الشديد على مسز كلبنز حين حاول الصبي تمي أن يحكي كيف سألته واستجوبته عما كان في الخزانة، ولكن هذه المحاولة لم تلبث أن قضي عليها في المهد؛ لأنه شرب نصف كأس من النبيذ المعتق، تسرب بعضها إلى القصبة الرئوية، فتعرضت بذلك حياته للخطر بضع ثوان. وانطلق الجمع للبحث عن مركبة تقلهم إلى هامستيد، وما لبثوا أن وجدوها فوصلوا بعد ساعتين سالمين إلى حديقة الأندلس وهي حديقة شاي، وكاد أول عمل أتاه المستر رادل المنحوس يفضي إلى إغماء زوجته الطيبة، فقد طلب شايا لسبعة، على حين أنه كان من السهل كما قالت السيدات جميعا أن يشرب تمي من فنجان أية سيدة، أو من كل فنجان، إذا كان هذا هو كل ما في الأمر، كلما كان الخادم غير ملتفت إليهم، وهذا من شأنه أن يوفر طلبا، ويبقى الشاي شهيا، لا فرق بين سبعة فناجين أو غير سبعة.
ولم يكن ثمة حيلة فقد أقبل الغلام «بصينية» الشاي وسبعة فناجين وأطباق وخبز وزبد يكفي عدد الشاربين! وأجمعت الأصوات على انتخاب مسز باردل لكرسي الرياسة، فتصدرت المائدة، وجلست مسز روجرز عن يمينها، ومسز رادل عن يسارها، وبدأت الحفلة في مرح شديد وتوفيق.
وقالت مسز روجرز وهي تتنهد: «حقا ما أجمل الريف! أكاد أتمنى لو عشت فيه أبدا.»
وأجابت مسز رادل بعجلة فقد شعرت بأنه لا يحسن مطلقا فيما يتصل بمسألة السكن تشجيع أفكار من هذا القبيل: «لا أظنك تطيقين المقام فيه يا سيدتي ولا أحسبه يروقك.»
وقالت مسز كلبنز الصغيرة: «أوه! إني لأعتقد أنك من كثرة النشاط، وإقبال الناس على مجالسك، والتماسهم شهي أحاديثك، بحيث لا تقنعين بالحياة في الريف يا سيدتي.»
وأجابت الساكنة التي في الطابق الأول: «أظنني كذلك، أظنني كذلك.»
وانبرى المستر رادل يقول، وهو يحاول استعادة شيء من المرح، ويتلفت حوله: «إن الريف جميل طيب المقام؛ للذين يعيشون وحدهم ولا يجدون أحدا يعنى بهم أو يتولى رعاية شئونهم، والذين أوذوا في إحساسهم، ونزلت المكاره بساحتهم، إن الريف كما يقولون ملائم للنفوس الجريحة، والقلوب القريحة.»
وكان أي كلام غير هذا أفضل كثيرا من هذا القول الذي قاله ذلك الرجل المنحوس، فلا عجب إذا انفجرت العبرات من عيني مسز باردل على أثره، وطلبت أن تنقل في الحال من موضعها بعيدا عن المائدة، ورأى الصبي أمه باكية، فبدأ هو كذلك يبكي بحزن شديد.
وصاحت مسز رادل، وهي تلتفت بشدة إلى الساكنة في الدور الأول: «هل يصدق أحد يا سيدتي أنه من الجائز أن تتزوج امرأة بمخلوق وحش كهذا يعبث بشعور امرأة هذا العبث، كل ساعة من ساعات اليوم يا سيدتي؟»
وقال المستر رادل محتجا: «لم أقصد شيئا يا عزيزتي.»
وأجابت مسز رادل بسخرية واحتقار بالغين: «لم تقصد! ابعد عني، لا أطيق رؤيتك أيها الوحش!»
وتدخلت مسز كلبنز قائلة: «لا تهيجي نفسك يا ميري آن، وتنفعلي. يجب أن تراعي صحتك يا عزيزتي فإنك لا تراعينها مطلقا، وأنت يا رادل قم من هنا، من فضلك، وإلا زدتها انفعالا وهياجا.»
وقالت مسز روجرز وقد عادت إلى «النوشادر» تعالج به إفاقتها: «يحسن أن تتناول شايك بمفردك يا سيدي.»
وكانت مسز ساندرز كعادتها في شغل شاغل بالخبز والزبد، وأيدت هذا الرأي أيضا، فلم يسع المستر رادل إلا أن يتنحى في سكون.
وتلا ذلك رفع باردل الصغير ليهبط في أحضان أمه، وكان من حيث الحجم كبيرا على الاحتضان، فلم يلبث في أثناء عملية رفعه أن صدمت رجله صينية الشاي، فأحدثت اضطرابا بين الفناجين والصحاف. ولكن هذا الذي اعتدنا أن نصفه بنوبات الإغماء، ونعرف أنه سريع العدوى بين النساء، قلما يطول. فلا غرو إذا رأينا مسز باردل بعد أن قبلت الصبي ما شاء الله أن تقبله، وتنوح من أجله النواح الذي يرضيها، أن ثابت إلى نفسها، وأنزلته من أحضانها، وأبدت عجبها من هذا التصرف الأحمق الذي بدر منها، وانثنت تسكب قليلا من الشاي ثانية.
وفي تلك اللحظة ارتفعت إلى أذانهم حركة مركبة مقتربة، فتطلعت السيدات بأبصارهن، فإذا هن يشهدن مركبة أجرة تقف بباب الحديقة.
وقالت مسز ساندرز: «أناس آخرون؟»
وقالت مسز رادل: «إن القادم رجل.»
وصاحت مسز باردل: «إذا كان القادم هو المستر جاكسن الشاب الذي يعمل في مكتب ددسن وفج، فإني أدرك من ذلك أن المستر بكوك لا يمكن أن يكون قد أدى التعويض، يا إلهي!»
وتلتها مسز كلبنز فقالت: «أو عرض الزواج.»
وصاحت مسز روجرز: «يا للعجب! ما باله يبدو بطيئا هكذا لماذا لا يسرع؟»
ولم تكد تقول ذلك حتى تحول المستر جاكسن عن المركبة، وكان قبل ذلك يوجه بعض الملاحظات إلى رجل في ثياب قديمة، وطماق أسود خرج عندئذ من المركبة يحمل عصا من شجر الدردار، واتخذ سبيله إلى الموضع الذي كانت السيدات جالسات لديه، وأخذ يلف شعره حول حاشية قبعته ويتقدم نحوهن.
وابتدرته مسز باردل قائلة في لهفة: «هل حدث شيء؟ هل من شيء جديد يا مستر جاكسن؟»
وأجاب المستر جاكسن: «لا شيء مطلقا يا سيدتي، كيف حالكن يا سيداتي؟ أستميحكن المعذرة عن التطفل عليكن، ولكن القانون يا سيداتي، القانون.» وابتسم المستر جاكسن بعد هذا الاعتذار وانحنى انحناءة شاملة للجميع، وعاد يلف شعره حول حاشية قبعته، وهمست مسز روجرز لمسز رادل قائلة: إنه في الواقع رجل رشيق.
ومضى جاكسن يقول: «لقد ذهبت إلى شارع جزول فعلمت أنكن هنا من الخادم، فاستقللت مركبة وجئت، إن جماعتنا يطلبونك في المدينة حالا يا مسز باردل.»
وصاحت السيدة في دهشة من هذا النبأ الفجائي: «رباه!»
وقال جاكسن وهو يعض شفته: «نعم، إن المسألة مهمة جدا وعاجلة لا يمكن تأجيلها بأي حال من الأحوال، فقد قال لي ددسن ذلك صراحة، وكذلك قال فج لي؛ ولهذا أبقيت المركبة عمدا لكي تعودي فيها.»
وصاحت مسز باردل: «ما أغرب هذا!»
ووافقت السيدات على أن الأمر حقا جد غريب، ولكنهن أجمعن على رأي واحد، وهو أنه لا بد من أن يكون على جانب كبير من الأهمية، وإلا لما فكر ددسن ولا فج في إيفاد هذا الرسول، وأنه ما دام الأمر كذلك عاجلا، فلا مفر من ذهابها إليهما بلا أدنى تأخير.
وكان في طلب المحاميين قدومها، على عجل شديد كهذا، شيء من الكبرياء والزهو والرفعة، فلم تستأ مسز باردل منه، ولا سيما إذا كان من الجائز أن يرفع شأنها في عيني الساكنة في الطابق الأول، ولكنها ابتسمت قليلا بسمة تأفف ، وتظاهرت بغيظ شديد، وادعت التردد، وأخيرا انتهت إلى القول: بأنها تظن أن من واجبها أن تذهب.
وقالت مسز باردل بلهجة الحض والترغيب: «ولكن ألا تتناول شيئا من المرطبات بعد أن قطعت هذه المسافة يا مستر جاكسن؟»
وأجاب جاكسن: «في الواقع ليس ثمة متسع من الوقت، هذا إلى أن معي صديقا»، والتفت صوب الرجل الذي يحمل العصا المصنوعة من خشب الدردار.
وقالت مسز باردل: «أوه، ادع صديقك إلى هنا يا سيدي، أرجوك أن تدعوه إلى هنا.»
وأجاب جاكسن في شيء من الارتباك: «شكرا! إني أفضل ألا أدعوه؛ لأنه لم يعتد كثيرا مجلس السيدات، فهو يخجل في حضرتهن، ولو طلبت إلى الخادم أن يأتيه بشيء يسير، فإنه لا يتناوله سريعا، بل سوف يتمكث في شربه، ألا تحسبينه فاعلا؟ ما عليك إلا أن تجربيه!» وراحت أنامل المستر جاكسن تعبث حول أنفه حين بلغ هذا الحد من أقواله؛ لكي ينبه سامعيه إلى أنه إنما يقول ذلك تهكما.
وأرسل الغلام في الحال إلى السيد الخجول، وتناول السيد الخجول شيئا، كما تناول المستر جاكسن شيئا، وتعاطت السيدات كذلك أشياء، احتراما لمقتضيات الضيافة، وقال المستر جاكسن عندئذ: إنه يخشى أن يكون الوقت قد حان للذهاب، وهنا دخلت مسز ساندرز ومسز كلبنز وتمي الذي تم الاتفاق على أن يرافق أمه، في جوف المركبة، تاركتين للمستر رادل حماية الآخرين.
وقال جاكسن حين همت مسز باردل بدخول المركبة، وهو يتطلع إلى الرجل حامل العصا المصنوعة من خشب الدردار، وكان قد اتخذ مجلسه فوق مقعدها وراح يدخن لفافة كبيرة: «إيزك.»
وأجاب هذا قائلا: «نعم!»
قال: «هذه هي مسز باردل!»
وأجاب الرجل: «أوه، إني أعرف ذلك منذ وقت طويل.»
ودخلت مسز باردل المركبة، ودخل المستر جاكسن في أثرها، فانطلقت بهم، ولم تستطع مسز باردل أن تحاجز نفسها عن التفكير فيما قاله صديق المستر جاكسن، وقالت مناجية: «يا لأولئك المحامين من مخلوقات دهاة! يا عجبا، إنهم ليهتدون إلى الناس أينما كانوا!»
وأنشأ جاكسن يقول حين تبين له أن مسز كلبنز ومسز ساندرز قد غلبهما النعاس: «إن مسألة أتعاب محامينا أمر محزن، أليس كذلك؟ أقصد الأتعاب التي يطلبانها منك.»
وأجابت مسز باردل: «إنه ليحزنني أنهما لا يستطيعان الحصول عليها، ولكن إذا كان المحامون يقبلون قضايا كهذه على سبيل المغامرة، فأحرى عليهم أن يتوقعوا الخسارة بين حين وآخر كما لا يخفى عليك.»
وقال جاكسن: «ولكني أعلم أنك أعطيتهما إقرارا بمبلغ الأتعاب المطلوبة منك، عقب الحكم في القضية.»
قالت: «نعم، لمجرد الشكليات ليس إلا.»
وأجاب جاكسن بفتور: «بلا شك، مسألة شكليات، شكليات محضة.»
وانطلقت المركبة بهم، واستولى النعاس على مسز باردل، وأفاقت بعد فترة من الوقت، عندما وقفت المركبة بهم.
قالت: «يا للعجب! هل نحن في محكمة فريمن؟»
وأجاب جاكسن: «لسنا ذاهبين إلى هذا الحد، تفضلي بالنزول.»
وامتثلت مسز باردل، وإن لم تفق تماما من النعاس، وكان الموضع غريبا عنها، جدار شاهق، وباب في وسطه، وقنديل زيت يضيء في الداخل.
وصاح الرجل ذو العصا وهو ينظر إلى جوف المركبة، ويهز مسز ساندرز لتفيق من النوم: «والآن أيتها السيدات، هيا.» وراحت مسز ساندرز توقظ صديقتها وتنزل من المركبة، بينما استندت مسز باردل إلى ذراع جاكسن، وتناولت تمي بيدها، ودخلت من الباب، والآخرون في أثرها.
وكانت الغرفة التي عرجوا عليها أعجب شكلا من الباب ذاته، فقد رأوا خلقا كثيرا وقوفا في أرجائها، وهم محملقو الأبصار من العجب!
ووقفت مسز باردل وأنشأت تسأل قائلة: «أي مكان هذا؟»
وأجاب جاكسن وهو يدفع بها في عجلة لتدخل من الباب، وينظر خلفه ليستوثق من أن النساء الأخريات يتبعنها: إنه ليس إلا مكتبا من المكاتب الحكومية. كن يقظا يا إيزك!»
وأجاب الرجل ذو العصا المصنوعة من شجر الدردار: «اطمئن فكل شيء على ما يرام.»
ودار الباب بشدة في أثرهم ومضوا يهبطون بضع مدارج.
وقال جاكسن وهو يتلفت حوله في سرور بالغ: «ها نحن أولاء قد وصلنا أخيرا بسلام وأمان يا مسز باردل.»
وقالت مسز باردل بقلب خافق: «ماذا تعني؟»
وأجاب جاكسن، وهو ينتحي بها جانبا: «أعني هذا، لا تخافي يا مسز باردل، فليس في العالم كله رجل أرق حاشية من ددسن يا سيدتي، ولا أكثر إنسانية من فج، ولكن كان من واجبهما، من الناحية العملية أن ينفذا عليك الحكم نظير أتعابهما، وقد عنيا عناية خاصة بمراعاة شعورك قدر إمكانهما، وأكبر ظني أنك مرتاحة إلى هذا الإجراء الذي تم اتخاذه إذا فكرت في الأمر مليا. هذا هو سجن فليت يا سيدتي، أتمنى لك ليلة طيبة يا مسز باردل، طاب ليلك يا تمي!»
وفيما كان جاكسن ينطلق مسرعا مع الرجل ذي العصا المصنوعة من خشب الدردار إذ تقدم رجل آخر يحمل مفتاحا في يده، وكان من قبل واقفا يشاهد هذا المنظر، وتقدم إلى المرأة الذاهلة، فمشى بها إلى درج قصير آخر يفضي إلى باب، فلم تلبث مسز باردل أن أطلقت صراخا شديدا، وزأر تمي زئيرا، وانزوت مسز كلبنز رعبا، وانطلقت مسز ساندرز لا تلوي على شيء، فقد بدا المستر بكوك الذي لحقه الأذى واقفا حيالهما، يتنسم الهواء كعادته كل ليلة، ووقف بجانبه صمويل ولر، وما كاد هذا يبصر مسز باردل حتى رفع قبعته باحترام ساخر، بينما تولى سيده معرضا في غضب ظاهر.
وقال السجان لولر: «لا تضايق المرأة، إنها قدمت اللحظة فقط.»
وقال سام وهو يعيد بسرعة قبعته إلى رأسه: «أسجينة هي؟ ومن الشاكي؟ ومم الشكوى؟ تكلم يا صاح.»
وأجاب الرجل: «ددسن وفج، تنفيذ إقرار بالأتعاب.»
وصاح سام وهو يندفع في الممر: «يا جب، يا جب! اذهب مسرعا إلى المستر بركر يا جب، إنني بحاجة إليه حالا، فإني أرى خيرا في هذا ونفعا، هذا فصل بديع، ولكن أين المعلم؟»
ولكنه لم يتلق جوابا، فقد انطلق جب كمن به جنة، بمجرد تلقيه هذه المهمة، بينما انتابت مسز باردل إغماءة حقيقية صادقة في هذه المرة.
الفصل السابع والأربعون
أكثر ما يبحث فيه مسائل أعمال، والفائدة الموقوتة التي عادت على ددسن وفج، وعودة المستر ونكل إلى الظهور في ظروف غير مألوفة، وكيف تبين أن بر المستر بكوك أقوى من عناده. ***
ولبث جب ترتر يعدو غير مخفف من سرعته صوب «هولبورن»، سائرا في عرض الطريق أحيانا، وفوق الإفريز أحيانا أخرى، وفوق البالوعات والمجاري تارة، تبعا لتباين وطأة زحام السابلة من الرجال والنساء والأطفال والمركبات في كل مشروع من مشارع الطريق العام، غير عابئ بالحوائل، ولا متمهل لحظة في مسيره، حتى وصل إلى باب جريز ان. ولكنه رغم كل هذه السرعة التي قطع الطريق بها، وجد الباب مغلقا منذ نصف ساعة قبل وصوله، وما كاد يهتدي إلى الغسالة التي تتولى خدمة المستر بركر، والتي تقيم مع ابنة لها متزوجة رضيت أن تهب يدها لغلام غير مقيم في أحد الفنادق، ويشغل غرفة في مسكن ما بشارع قريب من مصنع للجعة قائم خلف «جريز ان»، حتى لم يكن قد بقي على موعد إغلاق أبواب السجن دليلا غير خمس عشرة دقيقة. ولا يزال الأمر مقتضيا إخراج المستر لوتن من الغرفة الخلفية في حانة الماجباي واسطمب»، وما أن حقق جب هذا الغرض وأبلغه رسالة سام ولر، حتى دقت الساعة عشرا.
وقال لوتن: «الوقت الآن متأخر جدا، ولن تستطيع العودة إلى السجن، إلا إذا كان معك المفتاح الخارجي يا صديقي.»
وأجاب جب: «لا ينشغل بالك بأمري، ففي إمكاني أن أنام في أي مكان، ولكن ألا ترى أنه يحسن أن نقابل المستر بركر الليلة حتى يتسنى لنا أن نكون هناك عند طلوع النهار؟»
وأجاب لوتن بعد أن فكر قليلا: «لو كان الأمر يتعلق بإنسان آخر لما ارتاح المستر بركر أبدا لذهابي إلى منزله في هذه الساعة، ولكن ما دام الأمر متعلقا بالمستر بكوك، فإني أعتقد أنه لا بأس من الإقدام على أخذ مركبة ومحاسبة المكتب على الأجر.»
وما أن قرر المستر لوتن الأخذ بهذه الفكرة حتى تناول قبعته، وطلب إلى الزملاء المجتمعين تعيين نائب رئيس في غيبته إلى حين، وسار مع جب إلى أقرب موقف للمركبات، ونادى سائق أحسن مركبة شكلا، وطلب إليه أن يسوق إلى شارع مونتاجيو في ميدان رسل.
وكان المستر بركر قد أقام حفلة عشاء في ذلك اليوم، كما يبدو من الأنوار الساطعة في نوافذ قاعة الطعام، وصوت معزف كبير أدخل عليه شيء من التحسين، وأنغام منبعثة منه قابلة للتحسين، ورائحة عباقة من اللحوم منتشرة في أفق السلم والمدخل. والواقع أنه اتفق قدوم مندوبين عن بعض الوكالات الكبيرة في الريف إلى المدينة في وقت واحد، فتألفت حفلة صغيرة للائتناس بهم، من المستر اسنكس أمين مكتب التأمين على الحياة، والمستر بروزي المستشار الكبير، وثلاثة محامين، وقاض من محكمة التفاليس، ومحام مترافع من التمبل، وتلميذ له في ريعان العمر صغير العينين وضع كتابا قيما عن «قانون التركات»، ملأه بتعليقات وهوامش ونصوص ومراجع، وغيرهم من كبار ذوي المكانة ورفيعي الأقدار. واستأذن المستر بركر من هؤلاء السادة حين جاء الخادم فهمس له أن كاتبه قد حضر، فذهب إلى قاعة الطعام فوجد المستر لوتن وجب ترتر وهما يبدوان قاتمين كالأشباح على ضوء شمعة من شموع المطبخ، جاء فوضعها فوق المائدة السيد الذي تنازل فبدا في سراويل قصيرة وملابس داخلية من القطن، لقاء أجر يتقاضاه كل أربعة أشهر، وهو ينظر باحتقار إلى الكاتب وكل ما يتعلق بالمكتب.
وقال المستر بركر وهو يغلق الباب: «والآن يا لوتن ما الخبر؟ ألم يأت خطاب هام في طرد؟»
وأجاب لوتن: «كلا يا سيدي، هذا رسول من قبل المستر بكوك يا سيدي.»
وقال المستر بركر وهو يلتفت بسرعة إلى جب: «من المستر بكوك؟ آه، حسن - ماذا وراءك؟»
وأجاب جب: «إن ددسن وفج استصدرا حكما بالسجن على مسز باردل وفاء لأتعابهما يا سيدي.»
وصاح بركر وهو يضع يديه في جيبيه ويستند إلى المنضدة الجانبية: «لا تقل هذا!»
وأجاب جب: «بل هو الواقع، والظاهر أنهما استخلصا منها إقرارا بها عقب المحاكمة مباشرة.»
وصاح بركر وهو يخرج يديه من جيبيه ويضرب بعقد يمناه راحة يسراه مؤكدا: «يمين الله! إنهما لأبرع نصابين عرفتهما في حياتي!»
وقال لوتن: «وأحذق من عرفت يا سيدي من بين المشتغلين بالمهنة.»
وردد بركر هذه العبارة قائلا: «حاذقين! لايعرف أحد كيف يمسك بهما.»
وأجاب لوتن: «هذا صحيح جدا يا سيدي، لا يعرف أحد كيف يمسك بهما.» ولبث المحامي وكاتبه يفكران بضع ثوان وعلى وجهيهما أمارات الحماسة والجد كأنهما يفكران في اكتشاف من أجمل وأروع الاكتشافات التي يمكن أن يتوصل إليها يوما العقل البشري. وما كادا يفيقان نوعا ما من غيبوبة هذا الإعجاب، حتى أنشأ جب ترتر يشرح بقية الرسالة التي حملها، وأطرق بركر مفكرا وأخرج ساعته من جيبه.
وقال الرجل الصغير الجسم: «الساعة العاشرة تماما سأكون هناك، إن سام على حق، قل له هذا، ألا نتناول كأسا من النبيذ يا لوتن؟»
وأجاب هذا: «شكرا لك يا سيدي.»
وقال بركر وهو يلتفت إلى المنضدة الجانبية ليتناول زجاجة وقدحين: «أظنك تعني نعم.»
وكان لوتن يعني «نعم» فعلا، فلم يسترسل في الموضوع، بل انثنى إلى جب فسأله بهمس مسموع عن رأيه في صورة بركر المعلقة قبالة الموقدة: «هل تشبهه إلى حد يثير العجب أو لا؟» فأجاب جب: بطبيعة الحال إنها لكذلك. وكان النبيذ عندئذ قد سكب في كأسيهما، فشرب لوتن في صحة مستر بركر والأولاد، وشرب جب في صحة بركر، ورأى السيد البادي في السراويل القصار أنه ليس ملزما أن يتقدم أشخاصا من خدم المكتب إلى الباب، بينما عاد المحامي إلى قاعة الطعام، وذهب الكاتب إلى مجلسه المعتاد في حانة «الماجباي»، وقصد جب إلى سوق «كوفنت جاردن» لقضاء الليلة في سلة خضر!
وفي تمام الموعد المضروب في صباح اليوم التالي كان المستر بركر يدق باب غرفة المستر بكوك وهو منتعش صافي المزاج.
وخف سام ولر إلى فتحه، وأعلن المستر بكوك بقدوم الزائر قائلا: «المستر بركر يا سيدي»، وكان المستر بكوك في تلك اللحظة جالسا عند النافذة مستغرقا في التفكير. وانثنى سام إلى المحامي فقال: «يسرني كل السرور أنك جئت مصادفة يا سيدي، فإني أعتقد أن المعلم يريد أن يقول لك كلمة ونصف كلمة.»
وألقى المستر بركر نظرة ذكية إلى سام توحي بأنه قد فهم المراد، وأدرك أنه لا ينبغي أن يقول: إنه قد طلب إليه المجيء، وأشار إليه أن يقترب وهمس في أذنه كلاما موجزا.
وقال سام متراجعا من فرط الدهشة: «أتعني هذا حقا يا سيدي؟»
وأومأ بركر وابتسم.
ونظر المستر صمويل ولر إلى المحامي، ثم إلى المستر بكوك، وعاد ينظر إلى بركر، وابتسم ثم أرسل ضحكة عالية، وأخيرا التقط قبعته من فوق البساط واختفى بغير شرح آخر أو بيان.
وسأل المستر بكوك وهو ينظر إلى بركر بدهشة: «ما معنى هذا؟ وما الذي جعل سام يبدو على هذه الصورة غير المألوفة؟»
وأجاب بركر: «أوه، لا شيء لا شيء، والآن أقبل يا سيدي العزيز وقرب كرسيك من المنضدة فإن عندي أشياء كثيرة أريد أن أقولها لك.»
وقال المستر بكوك حين رأى المحامي يضع فوق النضد رزمة صغيرة من الوثائق مربوطة بشريط أحمر: «ما هذه الأوراق؟»
وأجاب بركر وهو يفك العقدة بأسنانه: «أوراق قضية باردل وبكوك.»
وأراح المستر بكوك أرجل مقعده حتى حكت الأرض، وألقى بنفسه عليه، وشبك يديه، ونظر نظرة صارمة، إن صح أن المستر بكوك على هذه النظرة يوما قادر، وانتظر ماذا يقول رجل القانون صديقه.
وقال هذا وهو لا يزال منشغلا بفك العقدة: «ألا تحب سماع اسم القضية؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا أحب سماعه فعلا.»
واستتلى بركر قائلا: «آسف لذلك؛ لأنه سيكون موضوع حديثنا.»
وقاطعه المستر بكوك في عجلة قائلا: إنني لأوثر ألا يرد لهذا الموضوع ذكر بيننا مطلقا يا سيدي.
وقال المحامي الصغير الجسم وقد فك الرزمة ونظر بلهفة إلى وجه المستر بكوك من زاويتي عينيه: «يوه، يوه، يا سيدي العزيز، ولكن ليس من ذكره بد، لقد أتيت إلى هنا لهذا الغرض خاصة، والآن هل أنت على استعداد لسماع ما سأقوله يا سيدي العزيز، لا عجلة، فإذا لم تكن مستعدا ففي وسعي أن أنتظر، وقد جئت معي بجريدة الصباح لمطالعتها، ووقتي تحت تصرفك، هأنذا بادئ القراءة.» وراح الرجل يضع ساقا فوق أخرى، متظاهرا بأنه سيبدأ القراءة بكل هدوء وجد.
وقال المستر بكوك وهو يرسل زفرة، ثم يتلطف فيبتسم في الوقت ذاته: «حسن، حسن، قل ما بدا لك، لعلها القصة القديمة؟»
وأجاب بركر وهو يطوي الجريدة بتؤدة ويردها إلى جيبه: «مع فارق واحد يا سيدي العزيز، فارق واحد، وهو أن مسز باردل المدعية في هذه القضية هي الآن حبيسة بين هذه الجدران يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «أعرف ذلك.»
وواصل بركر حديثه قائلا: «جميل جدا، وتعرف أيضا كيف جاءت إلى هنا، أقصد أن أقول: ما هي الأسباب، وبناء على طلب من؟»
وقال المستر بكوك متظاهرا بالاستخفاف: «نعم، أو على الأقل لقد سمعت رواية سام عنها.»
وأجاب بركر: «إن روايته صحيحة تماما إذا أردت الحق، والآن إن أول سؤال أجدني مضطرا إلى توجيهه إليك هو: هل المراد أن تبقى هذه المرأة هنا؟»
وردد المستر بكوك العبارة ذاتها: «تبقى هنا!»
ومضى بركر قائلا وهو يسند ظهره إلى المقعد ويتفرس في وجه موكله: «نعم، هل تبقى هنا يا سيدي العزيز؟»
وقال المستر بكوك: «وكيف يمكن أن تسألني هذا السؤال، إن الأمر يتعلق بددسن وفج، وأنت تعلم ذلك حق العلم.»
وأجاب بركر بلهجة قوية: «لا أعلم شيئا كهذا، بل أعرف أنه ليس رهنا بإرادة ددسن وفج، وأنت تعرفهما يا سيدي العزيز كما أعرفهما تماما، ولكن الأمر كله وبجملته رهن بمشيئتك أنت وحدك.»
وصاح المستر بكوك وهو ينهض بانفعال من مقعده ثم يعاود الجلوس في الحال: «بمشيئتي أنا!»
وطرق المحامي غطاء حق السعوط طرقتين اثنتين، وفتحه، وتناول قدرا كبيرا منه ثم أغلقه وكرر قائلا: «نعم، بمشيئتك أنت.»
وكأنما استمد المستر بركر قوة وطمأنينة من السعوط فمضى يقول: «اسمع ما أقوله إلى آخره يا سيدي العزيز ... إن سرعة إطلاق سراحها، أو بقاءها في السجن إلى ما شاء الله، رهن بمشيئتك، ومشيئتك وحدك، اسمعني إلى النهاية يا سيدي العزيز من فضلك، ولا تكن هكذا متحفزا هائجا؛ لأن ذلك سيجعلك تتصبب عرقا، وليس في ذلك خير أو فائدة لك مطلقا.»
ومضى بركر يقول، وهو يعد على أصابعه كل نقطة من نقاط كلامه بمجرد الفراغ منها: «أولا، ليس في إمكان أحد أن ينقذها من هذه البؤرة الفاسدة سواك، وثانيا، ألا سبيل أمامك إلى إنقاذها منها غير أداء نفقات هذه القضية وأتعابها المطلوبة من المدعية والمدعى عليه بالسواء إلى يدي هذين الحوتين المفترسين. والآن أرجوك أن تهدأ يا سيدي العزيز.»
وكان وجه المستر بكوك خلال هذا الحديث يبدو متغيرا إلى حد يثير الدهشة المتناهية، وكان الرجل على وشك الانفجار من سورة الغضب، ولكنه لم يلبث أن هدأ من ثائرته قدر إمكانه. وعاد بركر يعزز قوى حججه بقدر آخر من السعوط، ومضى يقول: «وقد رأيت هذه المرأة في هذا الصباح، وأنت بأدائك الأتعاب تستطيع أن تحصل على إبراء تام من التعويض وإفراج في الحال، وهناك أمر آخر أعتقد أنه أحق لديك بالاعتبار يا سيدي العزيز، وذلك أن هناك إقرارا اختياريا بخط يدها، في صورة كتاب موجه إلي بالذات، تعترف فيه بأن المسألة التي كانت موضوع النزاع أمام القضاء كانت من أولها إلى آخرها بإيعاز وتحريض من ددسن وفج، وأنها آسفة أصدق الأسف على أنها كانت أداة مسخرة لإيذائك وإزعاجك، وأنها لهذا ترجوني أن أتوسط لديك، وأطلب العفو عنها وأستميحك الغفران.»
وقال المستر بكوك بغضب: «إذا أنا طبعا توليت عنها أداء الأتعاب، إنها لوثيقة قيمة حقا!»
وأجاب بركر بلهجة الانتصار: «ليس في الموضوع «إذا» يا سيدي العزيز، بل هناك هذا الكتاب بالذات الذي أتحدث عنه، جاءت به إلى مكتبي امرأة أخرى في التاسعة من هذا الصباح، قبل أن تطأ قدمي هذا المكان أو أتصل بمسز باردل نفسها، أقسم لك بشرفي أن هذا هو ما حدث تماما.» وانتزع الخطاب من الرزمة وألقاه عند مرفق المستر بكوك، ولبث دقيقتين يتناول سعوطا وهو لا يطرف بعينيه.
وقال المستر بكوك برفق: «أهذا هو كل ما أردت أن تقوله لي؟»
وأجاب بركر: «ليس هذا هو كل ما أريد أن أقول تماما، وليس في إمكاني في اللحظة الراهنة أن أقول: هل ستكون صيغة «الإقرار» الذي كتبته المرأة بإيعاز من محامييها، ومدى الاعتبارات الظاهرة أمامنا، والدليل الذي نستطيع معا أن نقيمه من واقع تطورات القضية ومراحل سيرها، كافية لتبرير اتهامهما «بالتواطؤ»، أخشى ألا تكون كافية يا سيدي العزيز؛ لأنهما أبرع وأذكى من أن يستهدفا لمثل هذا الاتهام، بل أشك في نجاحه، ولكني أريد مع ذلك أن أقول: إن الوقائع إذا أخذت مجتمعة فسوف تكون مبررا كافيا لتبرئتك في أعين جميع العقلاء مما اتهمت ظلما به، والآن يا سيدي العزيز ألخص لك الموقف فيما يلي: إن هذه المائة والخمسين جنيها أو المبلغ أيا ما يكون، إذا قربناه إلى عشرات الجنيهات ليس شيئا يذكر بالنسبة إليك، وقد حكم المحلفون ضدك، لقد كان حكمهم ظالما خاطئا، فليكن ذلك ولكنهم إنما قرروا ما قرروه اعتقادا منهم أنه الحق، وهذا القرار ضدك، وأمامك الآن فرصة هنية مواتية لتضع نفسك في مكانة أعلى كثيرا مما هي، تستطيع بلوغها ببقائك هنا؛ لأن الذين لم يعرفوك لن يعللوه إلا بأنه مجرد اختلال عقلي، وعناد سخيف، ولا شيء غير ذلك يا سيدي العزيز، فهل تتردد في تحامي هذا التعليل، هل تأبى إلا البقاء، ولا تريد أن تعود إلى أصدقائك، وجهودك القديمة، ومساعيك الغر، وصحتك، وألوان لهوك البريء؟ بل هل تأبى إلا أن يبقى خادمك الوفي الأمين في السجن معك طيلة حياتك؟ ولا تنس قبل كل شيء أن استجابتك ستمكنك من الأخذ بثأر كريم أعرف يا سيدي العزيز أنه ثأر يسكن إليه فؤادك، ويرتاح إليه خاطرك، وهو إعفاء هذه المرأة من مشاهد الشقاء والدعارة والفساد التي ما كنت لأرضى أن يتعرض رجل لمثلها إذا كان الأمر في يدي، فما بالك بتعريض سيدة لها، إن ذلك لأشنع وأرهب وأشد وحشية. والآن أسألك يا سيدي العزيز، لا بوصفي مستشارك القضائي فحسب، بل بوصفي صديقا صدوقا لك، هل أنت تارك الفرصة تفلت دون تحقيق هذه الأهداف كلها وإيتاء هذا الخير بجملته، لمجرد اعتبار تافه، وهو تسرب بضعة جنيهات إلى جيوب شقيين أثيمين لا فارق عندهما ولا حساب لشيء ما داما سيغتنمان من ورائه، وكلما أصابا غنما التمسا مزيدا منه، وطمعا في احتيال جديد سيؤدي حتما بهما إلى خاتمة سوأى، ونهاية أليمة، لقد بسطت هذه الاعتبارات أمامك يا سيدي العزيز ضعيفة مبتورة غير مستكملة، ولكني أرجو إليك أن تتدبرها، وتقلبها في خاطرك على مهل، وإني منتظر هنا بصبر لا ينفد لأتلقى الجواب.»
وقبل أن يتمكن المستر بكوك من الرد، وقبل أن يتسنى للمستر بركر أن يتناول جزءا من عشرين من السعوط الذي يقتضيه حتما هذا الخطاب الطويل الذي لم يعتده، سمعت أصوات مغمغمة في الخارج، ثم دقة مترددة بالباب.
وصاح المستر بكوك وكان يبدو عليه أن توسلات صديقه قد أحدثت أثرها في نفسه: «يا للعجب! يا للعجب! أكثر ما يضايقني هذا الباب! من الطارق؟»
وقال سام وهو يطل برأسه: «أنا يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «لا أستطيع الكلام معك في هذه اللحظة يا سام، إنني مشغول الآن يا سام.»
وأجاب المستر ولر أستميحك عفوا يا سيدي، ولكن هنا سيدة تقول: «إن لديها شيئا خاصا تريد أن تفضي به إليك يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وكان خاطره مزدحما بأخيلة مسز باردل وصورها: «لا أستطيع أن أقابل أية سيدة.»
وقال المستر ولر ملحا وهو يهز رأسه: «لست واثقا من هذا كثيرا يا سيدي، بل أعتقد أنك ستغير هذه النغمة إذا أنت عرفت من تكون، كما قال الصقر لنفسه وهو يضحك مسرورا حين سمع شدو الطائر الأحمر الصدر من مكان قريب.»
وقال المستر بكوك: «ومن تكون؟»
وأجاب المستر ولر وهو ممسك الباب بيده كأن لديه حيوانا غريبا خلفه: «هل تريد أن تقابلها يا سيدي؟»
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى بركر: «أظن أنه لا بد.»
وصاح سام: «حسن جدا، هلموا، إن الرواية ستبدأ، دقوا الجرس، ارفعوا الستار، ليدخل المتآمران.»
ودفع سام الباب فانفتح، وإذا المستر نثنايل ونكل يندفع في ضجة إلى وسط الحجرة، وهو يقود بيده تلك الفتاة ذاتها التي كانت في ضيعة «ونجلي ديل» تنتعل الحذاء الذي يعلو الفرو وجهه، والتي بدت في هذه اللحظة مجموعة بديعة من الحياء، والخفر، والارتباك، والثوب الحريري في مثل لون السوسن، وقد زانت رأسها قبعة رشيقة، واختمرت بقناع شفاف، وبدت أملح من قبل وأبهر حسنا .
وصاح المستر بكوك وهو ينهض من مجلسه: «الآنسة أرابلا ألن!»
وأجاب المستر ونكل وهو يهبط على ركبتيه جاثيا: «كلا، بل مسز ونكل! عفوا يا صديقي العزيز وغفرانا!»
وكان المستر بكوك لا يصدق حواسه، وما نحسبه كان مصدقا إياها، لولا اجتماع الشواهد على صحتها، بين الابتسام البادي على وجه بركر، ووقوف سام في المؤخرة مع الخادمة المليحة، وقد وقفا يراقبان ما يدور بأبلغ الرضا والارتياح.
وقالت أرابلا وهي غاضة من صوتها، كأنما روعها ذلك السكون: «أوه، يا مستر بكوك، هلا عفوت عن جرأتي؟»
ولم يجب المستر بكوك برد شفوي على ذلك الرجاء، بل أسرع في رفع المنظار عن عينيه، وتناول يدي الحسناء في يديه، وقبلها عدة مرات، قد تكون أكثر عددا مما يقتضيه الموقف، وانثنى يقول للمستر ونكل، وهو لا يزال ممسكا بإحدى يديها: إنه لكلب جريء وآمره أن ينهض من جثوته، وكان هذا قد لبث بضع ثوان يحك أنفه بحاشية قبعته فعل النادم المكفر عن ذنبه، فنهض ممتثلا للأمر، فبادر المستر بكوك إليه، فضربه عدة لطمات على ظهره، ثم صافح بركر بحرارة، ولم يتخلف هذا عن الاشتراك في التحيات والمجاملات التي يدعو إليها الموقف، فحيا العروس، والخادمة المليحة، أصدق تحية، وشد يد المستر ونكل شدة ودية كريمة، وختم مظاهرة سروره وابتهاجه بتناول قدر من السعوط يكفي لجعل ستة رجال سليمي الأنوف يعطسون مدى الحياة.
وأنشأ المستر بكوك يقول: «كيف جرى ذلك كله يا ابنتي العزيزة، تعالي إلينا أقبلي فاجلسي ودعيني أسمع كل شيء، ما أجمل صورتها! ألا تبدو باهرة الشكل يا بركر؟!» وراح يتأمل وجه أرابلا بنظرات فخار بالغ واغتباط شديد، كأنها ابنته.
وأجاب الرجل القصير: «بديعة يا سيدي العزيز، ولو لم أكن متزوجا لما انثنيت عن حسدك أيها الكلب!» وأتبع كلماته هذه بلكزة في صدر المستر ونكل، فلم يسع هذا إلا أن يبادله لكزة بلكزة، وقهقه الرجلان ضاحكين، ولكن ضحكاتهما لم تكن عالية مثل ضحكات المستر صمويل ولر، الذي كان عندئذ قد نفس عن صدره بتقبيل الخادمة المليحة خلف باب الخزانة.
وقالت أرابلا بأعذب ابتسامة يمكن تخيلها: «إني لعاجزة يا سام عن إيفائك حقك من الشكر، ولست ناسية الجهد الذي بذلته في الحديقة ونحن في كلفتن.»
وأجاب سام: «لا تقولي شيئا ما عنه يا سيدتي، فإني لم أفعل غير مساعدة الطبيعة على تنفيذ ما أرادته يا سيدتي، كما قال الطبيب لأم الغلام بعد أن حجمه فأفضى به إلى الموت.»
وقال المستر بكوك وهو يريد اختصار هذه التحيات والمجاملات: «يا عزيزتي ماري، اجلسي، والآن كم مضى عليكما وأنتما زوجان؟»
ونظرت أرابلا إلى زوجها وسيدها مستحيية، فأجاب هو: «منذ ثلاثة أيام فقط.»
وقال المستر بكوك: «منذ ثلاثة أيام فقط؟ يا عجبا! وماذا كنتما تصنعان كل هذه الأشهر الثلاثة؟»
وتدخل المستر بركر قائلا: «فعلا، هيا أقصصي علينا أسباب هذا الكسل والفتور؟ وأنت ترى دهشة المستر بكوك لأن الأمر لم يتم منذ شهور مضت.»
وأجاب المستر ونكل وهو ينظر إلى زوجته الخجلى المتوردة المحيا: «الواقع إنني لم أستطع إقناع «بللا» بالفرار من وقت طويل، فلما تيسر لي أن أقنعها انقضت فترة أطول من الأولى قبل أن تسنح لنا فرصة، وكان المفروض أيضا أن تعطي ماري مخدوميها مهلة شهر قبل أن تتمكن من ترك خدمتهم في الدار الملاصقة، ولم نكن نستطيع أن نفعل شيئا دون عونها ومساعدتها.»
وقال المستر بكوك وكان قد أعاد المنظار إلى عينيه، وأخذ ينقل البصر بين أرابلا وونكل، بذلك السرور البالغ الذي تضفيه حرارة القلب ورقة الشعور على وجوه البشر: «أقسم بشرفي أنكما في كل إجراءاتكما كنتما تسيران على طريقة منظمة، ولكن هل عرف أخوك القصة كلها يا عزيزتي؟»
وأجابت أرابلا وقد تغير لونها: «كلا، كلا، كلا، أنت وحدك يا عزيزي المستر بكوك الذي يجب أن يعرفها منك، من شفتيك أنت دون سواك، إنه عنيف شديد متحيز، ظل كل هذا الزمن متلهفا كل التلهف على تزويجي بصديقه المستر سوير»، وهنا غضت من طرفها وأردفت تقول: «وإني لأخشى العواقب أشد الخشية.»
وقال بركر بلهجة جد ظاهرة: «آه، طبعا، فلا بد من أن تتناول هذه المسألة بنفسك يا سيدي العزيز، فإن هذين الشابين سيحترمانك، ويستمعان إليك، دون أحد سواك إذا فاتحتهما في هذا الأمر، يجب عليك منع الضرر يا سيدي العزيز، حرارة الدم، حرارة الدم.» وهنا تناول كمية من السعوط منذرة وراح يهز رأسه هزة المتشكك.
وقال المستر بكوك برفق: «لقد نسيت يا حبيبتي، لقد نسيت أنني سجين!»
وأجابت أرابلا: «كلا، لم أنس يا سيدي العزيز، وما نسيت ذلك لحظة واحدة، ولم أنقطع عن التفكير في مدى آلامك وعذاب نفسك في هذا المكان البشع، ولكني كنت أعلل النفس بأن ما تعجز مختلف الاعتبارات عن حملك على فعله، قد يحفزك إليه حرصك على سعادتنا. وإذا أمكن أن يسمع أخي هذا أولا منك، فإني على يقين أن الأمر سينتهي بيننا وبينه بالتراضي والتوفيق، إنه قريبي الأوحد في هذا العالم يا مستر بكوك، وأخشى أن أفقده هو أيضا إذا لم تتشفع لي عنده وتدافع عني، وإني أعلم أنني أتيت أمرا نكرا، ولم أحسن صنعا.» وراحت أرابلا المسكينة تخفي وجهها في منديلها وتذرف الدمع السخين.
وأحدثت تلك العبرات أثرها في نفس المستر بكوك الكريمة، وطبيعته النقية البريئة، ولكن عندما جففت مسز ونكل دمعها، ومسحت عينيها، وأقبلت عليه متلطفة إليه ضارعة في أرق الأنغام من أعذب الأصوات لم يلبث أن اضطرب اضطرابا شديدا، وبدا عليه التردد، فلم يعد يدري ماذا هو صانع، فقد مضى يحك بعصبية ظاهرة زجاجة منظاره، وأنفه، وساقيه ورأسه وطماقيه.
وانتهز المستر بركر أعراض هذا التردد الواضح - والظاهر أن العروسين كانا قد ذهبا بالمركبة رأسا إليه في ذلك الصباح - فأنشأ يقيم الحجة القانونية، ويتذرع بالفطنة البالغة، قائلا: إن المستر ونكل الكبير، والد الشاب لا يزال يجهل نبأ الخطوات التي اتخذها ابنه في الحياة، وأن آمال الفتى في المستقبل معقودة على استمرار أبيه في بره به وعطفه عليه، وبقاء شعوره نحوه كما هو بغير نقصان، وهو ما يغلب على الظن أنه لن يكون إذا بقي هذا الحدث الكبير سرا مكتوما عنه، وإن سفر المستر بكوك إلى برستل للقاء المستر «ألن»، يصح أن يقترن للعوامل ذاتها بالسفر إلى برمنجهام للقاء المستر ونكل الكبير، وأخيرا، إن لهذا الرجل الحق تماما في أن يعد المستر بكوك إلى حد ما المرشد لابنه والناصح الأمين، وأنه لهذه الأسباب يجدر بالمستر بكوك، لما تحتله شخصيته من المكانة في النفوس، أن يتولى بنفسه شرح ظروف المسألة كلها شفويا للمستر ونكل الكبير، والنصيب الذي كان له فيها، والعمل الذي قام به خلال مراحلها المختلفة.»
ووصل المستر طبمن والمستر سنودجراس، وكان قدومهما في أنسب الظروف، عند بلوغ المناقشة هذه المرحلة، واقتضى الأمر شرح كل ما جرى لهما فاستوجب ذلك ترديد جميع الحجج مرة أخرى وتكرارها، وانبرى كل امرئ منهم بعد ذلك يبسط حجته الخاصة، على طريقته، ومدى مقدرته على الإيجاز أو الإسهاب. وأخيرا، بعد أن أحرج المستر بكوك وحوصر وأخرج عن نياته واعتزاماته، وكاد يتعرض لخطر إخراجه من عقله كذلك، تناول أرابلا بين ذراعيه، وأعلن أنها مخلوقة محببة، وأنه لا يدري السر في محبته لها من البداية، وقال: إن قلبه لا يطاوعه يوما فيقف في سبيل سعادة أحد من الشباب، فليصنعوا به إذن ما يشاءون.
مستر ونكل يعود في ظروف غير عادية.
وكان أول شيء فعله المستر ولر حين سمع هذا الحديث أن أوفد جب ترتر في الحال إلى المستر «بل» الذائع الصيت برسالة يطلب إليه فيها أن يسلم الرسول «المخالصة» الرسمية التي كان والده الحكيم قد تركها ببعد نظره، وأصالة رأيه تحت يد ذلك العلامة الكبير، للتصرف فيها إذا دعت الطوارئ، وكان ما فعله سام بعد ذلك أن أنفق كل ما يملك من النقود في شراء خمسة وعشرين جالونا من الجعة الخفيفة، وتوزيعها بنفسه في ميدان الكرة على كل من يريدون تعاطيها، ولبث يطلق صيحات الفرح في مختلف أرجاء المبنى حتى بح صوته ثم عاد في هدوء إلى حالته العادية وتصرفاته الفلسفية المألوفة.
وفي الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم ألقى المستر بكوك آخر نظرة على غرفته الصغيرة، وراح يشق طريقه ما استطاع في غمار زحمة المدينين الذين تدافعوا في لهفة إليه لمصافحته حتى وصل إلى سلم المبنى، وهنا ألقى نظرة إلى الخلف، وأدار عينه فيما حوله، وفي الحال برقت عيناه، فقد شهد على جميع الوجوه الناحلة الذاوية أمارات الرضى عنه لعطفه وبره وإحسانه.
وقال المستر بكوك وهو يشير لفتى فيهم أن يقترب منه: «إن هذا الفتى يا بركر هو المستر جنجل الذي كنت أحدثك عنه.»
وأجاب بركر وهو يطيل النظر إلى جنجل: «حسن جدا يا سيدي العزيز، ستراني مرة أخرى أيها الشاب غدا، وأرجو أن تعيش لكي تذكر وتقدر حق التقدير ما أنا مكاشفك غدا به يا سيدي.»
وانحنى جنجل باحترام، وتولته رجفة شديدة حين تناول يد المستر بكوك، وارتد منصرفا.
وقال المستر بكوك وهو يقدم السيد الآخر: «وهذا جب الذي أظنك تعرفه.»
وأجاب بركر ممازحا: «أعرف الوغد، انتبه إلى صاحبك، وكن حاضرا غدا في الواحدة، أسامع أنت؟ والآن هل من شيء آخر؟»
وقال المستر بكوك: «لا شيء، وهل سلمت الرزمة الصغيرة التي أعطيتها يا سام لمؤجر غرفتك السابقة.»
وأجاب سام: «نعم يا سيدي، وقد انفجر باكيا وقال: إنك لكريم عطوف، وإنه لم يكن يتمنى إلا أن تتمكن من تلقيحه بسل مستعجل؛ لأن صديقه القديم الذي عاش هنا أمدا طويلا قد مات، وهو لا يدري أين يجد صديقا سواه.»
وقال المستر بكوك: «يا للمسكين! يا للمسكين! بارك الله فيكم يا صحابي!»
وما أن فاه المستر بكوك بكلمة الوداع هذه حتى أطلق القوم صيحة مدوية، واندفع خلق كثير منهم نحوه لمصافحته باليد مرة أخرى، بعد أن وضع ذراعه خلال ذراع بركر، وأسرع منصرفا من السجن، وهو في تلك اللحظة أشد أسى واكتئابا منه حين دخله، وا أسفاه! كم من محزونين وتعساء قد تركهم من خلفه!
وكان المساء سعيدا هنيا، لجمع معين بالذات، على الأقل، في فندق «جورج والرخم»، وما كان أسعد قلبين، وأملأهما سرورا ومرحا، حين غادرا باب ذلك الفندق المضياف في صبيحة اليوم التالي، وهذان هما قلب المستر بكوك، وفؤاد سام ولر ، وكان أولهما قد أسرع إلى جوف مركبة بريد مريحة ذات مقعد صغير في المؤخرة، صعد إليه الآخر في خفة بالغة.
ونادى المستر ولر سيده قائلا: «سيدي!»
وأجاب المستر بكوك وهو يخرج رأسه من النافذة: «ماذا يا سام؟»
قال: «أتمنى لو كانت هذه الخيل قد أقامت ثلاثة أشهر أو أكثر في سجن فليت يا سيدي.»
وسأل المستر بكوك: «ولماذا يا سام؟»
قال وهو يفرك يديه: «أتسأل لماذا يا سيدي؟ لكي نرى كيف تسرع في المسير لو أنها أقامت في السجن هذه المدة؟»
الفصل الثامن والأربعون
كيف حاول المستر بكوك بمعاونة المستر صمويل ولر التخفيف من ثائرة المستر بنجمن ألن وتسكين غضب المستر روبرت سوير؟ ***
وكان المستر بن ألن والمستر بب سوير جالسين في العيادة الصغيرة القائمة خلف «الصيدلية» يختبران طعم لحم العجول الصغيرة المفروم، وينظران فيما عسى أن تأتي به الأيام، وإذا الحديث ينتقل بطبيعة الحال إلى المرانة التي ظفر بها بب من العمل، والفرص التي ينتظر أن تسنح له حتى يطمئن إلى العيش والاكتفاء بما يأتي من مزاولة المهنة الشريفة التي توفر عليها.
وقال المستر بب سوير متابعا خيط الموضوع: «وهو فيما أعتقد يا بن أمر مشكوك فيه.»
وسأل المستر بن ألن، وهو يرهف ذهنه بجرعة من الجعة حتى يفهم ما يقوله صاحبه: «ما هو هذا المشكوك فيه؟ أي أمر مشكوك فيه؟»
وقال المستر بب سوير: «الفرص التي ينتظر سنوحها.»
وقال المستر بن ألن: «آه، لقد أنستني الجعة، إني نسيت يا بب، نعم، إن ذلك أمر مشكوك فيه.»
وقال المستر بب سوير وهو ساهم مفكر: «والعجيب أن الفقراء هم الذين يرعونني ويطرقون بابي في كل ساعة من ساعات الليل، ويتناولون مقادير من الأدوية كنت أتصورها مستحيلة، ويدأبون على استعمال «اللزقات» والدود العلق دأبا كان أولى به أن يتجه إلى شيء أفضل مما هم ملحون عليه، وهم يزيدون من عدد أفراد أسرهم، وقد وصلتني ست صكوك صغيرة من هذه الطائفة الأخيرة في يوم واحد يا بن، وكلها باسمي خاصة.»
وقال المستر بن ألن وهو يمسك بالصحفة طالبا مزيدا من اللحم المفروم: «وإن هذا ليسرك كثيرا، أليس كذلك؟»
وأجاب بب: «كل السرور، ولكن ليس بالقدر الذي أشعر به من ثقة المرضى الذين يدفعون شلنا أو شلنين. وقد وصفت حركة العمل وصفا بديعا في الإعلانات يا بن، إنها لمهنة واسعة المدى، وهذا هو كل شيء.»
وقال المستر بن ألن وهو يضع سكينه وشوكته ويحدج وجه صديقه بنظرة طويلة: «اسمع يا بب، إنني سأقول لك ماذا ينبغي أن تفعل؟»
وقال المستر بب سوير: «وما هو؟»
وأجاب صديقه: «يجب أن تبادر ما أمكن إلى وضع يدك على الألف الجنيه التي تملكها أرابلا.»
وأردف بب سوير يقول في أسلوب قانوني: «ثلاثة في المائة أرباح مجمدة من المصرف، مودعة الآن باسمها في دفاتر محافظ مصرف إنجلترا.»
وقال بن: «بالضبط، ولها حق أخذها عند بلوغها سن الرشد، أو عند الزواج، وقد بقيت سنة واحدة على بلوغها السن، فإذا أنت تشجعت وأقدمت فلن ينقضي شهر واحد حتى تكون زوجتك.»
وأجاب المستر بب سوير: «إنها لإنسانة فاتنة بديعة جدا، وليس فيها غير عيب واحد أعرفه يا بن، وهذا العيب الوحيد هو لسوء الحظ افتقارها إلى الذوق، إنها لا تشعر بميل نحوي.»
وقال المستر بن ألن باستهزاء: «أعتقد أنها لا تعرف ما الذي تكره وما الذي تحب.»
وقال المستر بب سوير: «ربما، ولكن رأيي أنها تعرف حق المعرفة ما الذي لا تميل إليه، وهو المهم.»
وقال المستر بن ألن، وهو يعض على نواجذه ويتحدث كهمجي محارب يتغذى من لحم ذئب نيئ يقطعه بأنامله، أكثر منه سيدا متحضرا أنيسا يطعم اللحم المفروم الطري بالسكين والشوكة: «أود لو أعرف هل هناك حقا وغد يعبث بمشاعرها ويحاول كسب عاطفتها، وأعتقد أنني قاتله لو عرفته يا بب.»
وقال المستر سوير وقد وقف عن أخذ رشفة طويلة من الجعة، وراح ينظر نظرة شريرة من فوق حافة الجرة: «ولو اهتديت إليه لأطلقت الرصاص عليه، فإذا لم تقتله أخرجت الرصاصة منه؛ ليكون في إخراجها منه مصرعه.»
ولبث المستر بنجمن ألن ينظر وهو شارد الخاطر إلى صديقه لحظات في صمت، ثم انثنى يقول: «ولكنك لم تفاتحها ولو مرة بصراحة يا بب.»
وأجاب المستر بب سوير: «كلا؛ لأني رأيت ألا فائدة من ذلك.»
وأجاب بن بهدوء متناه: «ولكن عليك أن تفعل قبل أن تنقضي من عمرك أربع وعشرون ساعة أخرى. وستكون لها حتما وإلا عرفت السبب، وسأستخدم سلطتي.»
وقال المستر بب سوير: «ليكن، وسنرى.»
وأجاب المستر بن ألن بقوة: «سنرى يا صديقي!»
وتمهل بضع ثوان، واستتلى يقول بصوت متهدج من شدة الانفعال، لقد أحببتها يا صديقي من عهد الطفولة، أحببتها حين كنا غلامين صغيرين في المدرسة، وكانت يومئذ عاصية عنيدة، فاستخفت بشعورك الفتي، هل تتذكر كيف ألححت عليها بكل اللهفة التي يتقد بها الحب في الطفولة، أن تتقبل منك بسكويتتين صغيرتين مخلوطتين ببذور «الكراوية» وتفاحة صغيرة، قدمتها إليها مغلفة بشكل أنيق في لفافة مستديرة فوق صفحة منزوعة من كراستك؟»
وأجاب بب سوير: «أذكر ذلك ولم أنسه.»
وقال بن ألن: «وأعتقد أنها استخفت بها، أليس كذلك؟»
وأجاب بب: «بلى، فقد قالت: إنني حفظت اللفافة وقتا طويلا في جيب سراويلي، حتى أصبحت التفاحة ساخنة لا تستطاب.»
وقال المستر ألن بوجوم: «أذكر ذلك، وأكلناها نحن تناوبا، عضة بعد عضة.»
وأشار بب سوير إلى تذكره هذه الواقعة الأخيرة بعبسة مكتئبة، ولبث الصديقان لحظة واجمين وكلاهما مستغرق في أفكاره وسرحاته.
وبينما كانت هذه الأحاديث دائرة بين المستر بب سوير والمستر بنجمن ألن، وبينما كان الغلام البادي في الحلة القاتمة يتساءل ما الذي أطال في فترة الغداء إلى هذا الحد غير المألوف، وجعل من لحظة إلى أخرى ينظر نظرة القلق صوب الباب الزجاجي، وهو يشعر في نفسه بتشاؤم وانزعاج من مقدار اللحم المفروم الذي سوف يبقى في النهاية لغدائه ... بينما كان ذلك كله يجري في صيدلية بب سوير كانت مركبة خاصة ذات طلاء أخضر قاتم، يجرها حصان ضخم أسود ويسوقها رجل عبوس يغطي ساقيه على نحو ما يغطيهما السائس وإن كان مرتديا سترة حوذي، وهي تخترق شوارع برستل وتبدو مألوفة الشكل كواحدة من عدة مركبات تملكها عادة السيدات العجائز اللاتي اعتدن القصد في الإنفاق، وكانت تجلس فيها سيدة عجوز، هي ربتها ومالكتها.
ونادت السيدة الرجل العبوس من النافذة الأمامية: «يا مارتن.»
وقال الرجل العبوس وهو يرفع يده إلى قبعته: «نعم.»
قالت السيدة العجوز: «سق بنا إلى مسكن سوير.»
وقال الرجل العبوس: «لقد كنت أسوق إليه.»
وأومأت العجوز إيماءة الارتياح لهذا الدليل الواضح على بعد نظر الرجل العبوس إلى رغباتها قبل إبدائها، وراح هذا يضرب الحصان البدين سوطا سريعا، وانطلق الجميع عل هذا النحو إلى محل المستر بب سوير.
وقالت السيدة العجوز حين وقفت المركبة الصغيرة بباب محل المستر بب سوير - نو كمورف سابقا: «مارتن.»
وأجاب هذا: «نعم.»
قالت: «اطلب إلى الصبي أن يخرج ليحرس الحصان.»
وأجاب مارتن وهو يضع سوطه فوق سطح المركبة: «أنا الذي سأحرسه بنفسي.»
وقالت السيدة: «لا أستطيع أن أسمح بذلك مطلقا، فإن شهادتك ستكون ذات أهمية كبيرة، ولا بد أن أصطحبك إلى داخل البيت، فلا ينبغي أن تتحرك خطوة واحدة من جنبي طيلة الحديث، هل أنت سامع؟»
وأجاب مارتن: «سامع.»
قالت: «إذن لماذا أنت واقف لا تتحرك؟»
قال: «لا شيء.»
وهبط بكل تؤدة من فوق المركبة، وكان من قبل قد وقف متوازنا على أطراف قدمه اليمنى، ونادى الغلام البادي في الحلة السوداء، وفتح باب المركبة، وألقى السلم، ومد يده المغطاة بقفاز أسود من الجلد القابل للغسيل، وجر السيدة العجوز بغير اهتمام كأنما يجر علبة من الورق المقوى.
وقالت السيدة العجوز: «ويحي! ما بالي مضطربة هكذا بعد أن وصلت، حتى لأشعر برعدة في كل مفاصلي.»
وسعل المستر مارتن خلف قفازه الأسود ولكنه لم يبد مشاركة في الشعور، وتمالكت السيدة نفسها ومضت تصعد سلم المستر بب سوير، وهو في أثرها.
وكان المستر بنجمن ألن والمستر بب سوير قد أسرعا على أثر دخول العجوز الدكان في إخفاء الخمر والماء عن الأبصار، وقلب زجاجات تحوي عقاقير كريهة الروائح لتبدد ريح التبغ، وانطلقا مهرولين وهما في حال ظاهرة من الفرح والتهليل الترحيب.
وصاح المستر بن ألن: «ما أكرمك يا عمتي العزيزة وأحناك إذ جئت تزوريننا، هذا هو المستر سوير يا عمتي، صديقي المستر بب سوير، الذي كلمته عنه بشأن ... ما أنت عليمة به يا عمتي.» وهنا أضاف المستر بن ألن الذي لم يكن في تلك اللحظة مفيقا من السكر إفاقة تامة، كلمة «أرابلا» وهو يقصد أن يضيفها همسا، ولكنها كانت مسموعة وواضحة لا يستطيع أي إنسان أن يتجنب سماعها ولو أراد.
وقالت السيدة العجوز وهي تغالب أنفاسها القصيرة المتقطعة، وترعش من فرعها إلى قدمها: «لا تنزعج يا عزيزي بنجمن، ولكني أرى أنه يحسن أن أكلم المستر سوير لحظة على انفراد، لحظة واحدة لا أكثر.»
وقال المستر بن ألن: «هلا أخذت يا بب عمتي إلى العيادة الداخلية؟»
وأجاب بب بلهجة مهنية بالغة: «بلا شك، تقدمي يا سيدتي العزيزة من هنا، ولا تخافي يا سيدتي سنتمكن من شفائك في وقت قصير جدا، لا شك عندي في ذلك يا سيدتي، من هنا، والآن!» وبعد أن أجلس المستر بب سوير السيدة العجوز في مقعد وأغلق الباب وسحب مقعدا آخر فقربه منها، وانتظر ليسمع بالتفصيل أعراض علة من العلل، وهو يترقب سلسلة متواصلة من المكاسب والفوائد.
وكان أول شيء فعلته السيدة العجوز أن راحت تهز رأسها عدة مرات، وتستسلم للبكاء.
وقال بب سوير بكل لطف: «مرض عصبي، كافور مع شراب «الجلاب» والماء ثلاث مرات يوميا وجرعة من مسكن قبل النوم.»
وقالت السيدة العجوز: «لست أدري كيف أبدأ الكلام فإن الخطب أليم فادح.»
وأجاب المستر بب سوير: «لا حاجة بك إلى بدء الكلام يا سيدتي، فإني مستطيع أن أتوقع ما تريدين قوله: الرأس متعب.»
وقالت السيدة العجوز وهي تئن أنينا خافتا: «يحزنني أن أعتقد أن ذلك يرجع إلى القلب.»
وأجاب بب سوير: «ليس ثمة أقل خطر يا سيدتي من هذه الناحية، إن المعدة بيت الداء.»
وصاحت السيدة العجوز غاضبة: «يا مستر سوير؟»
وقال بب، وهو يبدو حكيما كل الحكمة: «ليس لدي أقل شك يا سيدتي، لقد كان الدواء في وقته المناسب يا سيدتي العزيزة كفيلا بمنع هذا كله.»
وعادت السيدة العجوز تقول وهي أشد غضبا: «يا مستر سوير، إن تصرفك هذا إما أن يكون قحة بالغة في حق سيدة في مركزي يا سيدي، أو أنك لست فاهما الغرض من زيارتي، ولو كان في إمكان الطب والدواء، أو بعد النظر أن يمنع ما حدث، لاستخدمت ذلك بلا شك واستعنت به.» وهنا أصلحت من شبكتها في غضب، ونهضت وهي تقول: «يحسن أن أرى ابن أخي في الحال.»
وقال بب سوير: «انتظري لحظة يا سيدي، أخشى أن أكون قد أخطأت الفهم، ما الخطب يا سيدتي؟»
وقالت السيدة العجوز: «ابنة أخي يا مستر سوير شقيقة صديقك.»
وقال بب، وهو في أشد القلق؛ لأن السيدة العجوز رغم شدة اضطرابها كانت تتكلم بأشد ما تكون التؤدة والمضايقة إيلاما، كما هو شأن العجائز في أغلب الأحيان: «نعم يا سيدتي، نعم يا سيدتي.»
وقالت السيدة العجوز: «لقد غادرت البيت يا مستر سوير منذ ثلاثة أيام مدعية أنها ستزور أختي، وهي عمة أخرى لها، تدير المدرسة الداخلية التي لا تبعد من دارنا أكثر من ثلاثة أميال، حيث تقوم شجرة من شجر «الوزال» وباب من خشب البلوط»، ووقفت السيدة العجوز لحظة لترقأ دموعها.
وقال بب وقد نسي كرامة مهنته من شدة اللهفة على سماع بقية القصة: «لتذهب شجرة الوزال إلى الشيطان يا سيدتي، أسرعي قليلا في الكلام، ضعي مزيدا يسيرا من البخار يا سيدتي، أرجوك.»
وأجابت السيدة العجوز ببطء: «وفي هذا الصباح، في هذا الصباح بالذات ...»
وعاجلها بب قائلا: «عادت يا سيدتي ... هل تراها قد عادت؟»
وأجابت السيدة العجوز: «كلا، لم تعد، ولكنها كتبت.»
وسأل بب في لهفة: «وماذا قالت في كتابها؟»
وأجابت السيدة العجوز: «يا مستر سوير، قالت: ما أريد منك أن تهيئ ذهن بنجمن له برفق وأناة، قالت، لقد نسيت كتابها في جيبي يا مستر سوير، ولكن «منظاري» قد تركته في المركبة، ولو حاولت أن أشرح لك ما في الكتاب دون منظاري لأضعت عليك وقتك. لقد قالت: يا مستر سوير باختصار إنها قد تزوجت.»
وقال المستر بب سوير - أو صاح قائلا على الأصح: «إيه؟»
ورددت السيدة العجوز الكلمة: «تزوجت.»
فلم يقف المستر بب سوير ليسمع مزيدا بل اندفع إلى الدكان وصرخ قائلا: «بب يا بني، لقد هربت.»
وكان المستر بن ألن نائما خلف المنضدة، ورأسه تحت ركبتيه بنصف قدم أو نحوه، فلم يكد يسمع تلك الصيحة المروعة حتى أسرع صوب المستر مارتن، فعقد حول يده ربطة عنق ذلك الخادم الصموت، مبديا عزمه على خنقه وهو في مكانه، وشرع فعلا في تنفيذ هذا العزم بتهور أكثر ما ينبعث غالبا عن اليأس، وبادر إلى تحقيقه بقوة شديدة، وبراعة جراحية.
وكان المستر مارتن رجلا قليل الكلام، لم يؤت ملكة البلاغة، ولا قوة البيان، فاستسلم لهذه العملية في هدوء ورضا ظاهرين بضع ثوان. ولكنه حين وجد أنها لن تلبث أن تهدده بخطر عاجل، وتؤدي به إلى نتيجة تعجزه عن طلب أجره، وغذائه، وغيرهما بعد الآن، أطلق كلاما غير مبين، وأرسل صرخة غير واضحة، وألقى بالمستر بنجمن على الأرض. وكان هذا لا يزال متعلقا بربطة عنقه بكلتا يديه، فلم ير سبيلا غير السقوط معه، ولبثا على هذه الحال يتصارعان، وإذا باب الدكان يفتح، إيذانا بقدوم زائرين لم يكن قدومهما متوقعا إطلاقا، ونعني بهما المستر بكوك والمستر صمويل ولر.
وكان أول خاطر استولى على المستر ولر حين رأى هذا المشهد، هو أن محل سوير - نوكمورف سابقا - استأجر المستر مارتن، لتجريعه أدوية قوية المفعول، أو إحداث نوبات تشنجية له، على سبيل التجربة فيه، أو إذاقته شيئا من السم بين حين وآخر لاختبار مدى تأثير بعض الأدوية الجديدة للعلاج منه، أو القيام بعمل ما في سبيل النهوض بعلم الطب، وإشباع اللهفة المتقدة في جوانح هذين الشابين اللذين ينتميان إلى المهنة، والرغبة المتحمسة في البحث والتطبيق والاختبار؛ ولهذا لم يشأ أن يتدخل، ووقف جامدا في مكانه هادئا كل الهدوء، يتأمل هذا المشهد، كأنه مشوق كل الشوق إلى معرفة النتيجة التي ستسفر عنها هذه التجربة العلمية. ولكن المستر بكوك لم ير في المشهد هذا الرأي، فبادر في الحال إلى الارتماء فوق المتصارعين المبهوتين بخفته المعهودة، ونشاطه المعروف، ونادى الواقفين بصوت مرتفع إلى التدخل.
وما لبث هذا الاستنجاد أن نبه المستر بب سوير من ذهوله، وكان إلى تلك اللحظة قد جمد في مكانه من هذه الجنة التي استولت على رفيقه، وتمكن المستر بكوك بمساعدته من إنهاض بن ألن حتى استوى على قدميه، ووجد المستر مارتن نفسه وحده على الأرض فنهض وراح يتلفت حوله.
وقال المستر بكوك: «يا مستر ألن! ما الخطب يا سيدي؟»
وأجاب المستر ألن بلهجة تحد خليط بكبرياء: «لا بأس يا سيدي!»
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى بب سوير: «ما الخبر، أهو مريض؟»
وقبل أن يتمكن بب من الجواب، تناول المستر ألن يد المستر بكوك وغمغم بصوت مفعم حزنا: «أختي، يا سيدي العزيز، أختي.»
وقال المستر بكوك: «أوه، أهذا هو كل ما في الأمر؟ أرجو أن نتمكن بسهولة من تدبير هذه المسألة، إن أختك في أمان وعافية، وأنا هنا يا سيدي العزيز لكي ...»
وهنا قاطعه المستر ولر، وكان إلى هذه اللحظة ينظر من خلال الباب الزجاجي، فقال: «آسف لمقاطعتي لهذه التدابير السارة، كما قال الملك عندما حل البرلمان، ولكن هنا سيدة عجوزا محترمة طريحة فوق البساط منتظرة عملية تشريح أو كهرباء، أو أي اختراع علمي آخر يعيد الحياة.»
وصاح المستر بن ألن: «لقد نسيت هذه عمتي.»
وقال المستر بكوك: «ويحي! يا للسيدة المسكينة! برفق يا سام، برفق.»
وقال سام ولر وهو يرفع السيدة إلى المقعد: «موقف غريب لعضو في الأسرة، هيا يا وكيل نشار العظام،
1
أحضر الفولايتلي!»
وكانت هذه العبارة الأخيرة موجهة إلى صبي المحل ذي الحلة الرمادية، وكان هذا قد ترك المركبة لعناية الجندي الحارس في الشارع، وأقبل ليعرف ما سبب هذه الجلبة، الولاتيللي.»
2
واستطاع الصبي ذو الحلة الرمادية، وبب سوير، والمستر بنجمن ألن الذي أخاف عمته حتى أغمي عليها، وعاد في تلك اللحظة مشفقا عليها، متلهفا على إفاقتها، استطاعا أخيرا ردها إلى صوابها، وعندئذ التفت المستر بن ألن بارتباك ظاهر إلى المستر بكوك، فسأله ما الذي كان يهم بأن يقوله، حين قوطع بنبأ هذا الحادث الأليم.
وتنحنح المستر بكوك وأدار عينه نحو الرجل الصموت العبوس سائق المركبة التي يجرها الحصان البدين، وقال: «أظن أننا هنا أصدقاء لا غريب بيننا؟»
وتذكر المستر بب سوير عندئذ أن الغلام واقف مفتح العينين مرهف الأذنين، فبادر إلى ذلك الصيدلي الناشئ فرفعه من طوق ردائه وألقاه خارج الباب، وعاد يؤكد للمستر بكوك أنه يصح له الآن أن يتكلم بغير حذر أو احتياط.
وقال المستر بكوك وهو يلتفت إلى بنجمن ألن: «إن أختك يا سيدي العزيز في لندن وهي في خير وسعادة.»
وأجاب المستر بنجمن ألن، وهو يطوح بذراعه: «إن سعادتها ليست هدفي يا سيدي.»
وقال بب سوير في أثره: «ولكن زوجها هو هدفي أنا يا سيدي، نعم سيكون هدفي يا سيدي على قيد اثنتي عشرة خطوة مني، وسأجعل منه هدفا بديعا، هذا الشقي الحقير السافل!»
وكان هذا الموقف في ذاته وعيدا يستحق الاحترام ويدل على العظمة والجلال، ولكن المستر بب سوير أضعف تأثيره باستطراده إلى كلام عام آخر عن كسر الرءوس، وفقأ الأعين، وهو قول مألوف متبذل، إذا قورن بذلك الوعيد الرفيع.
وقال المستر بكوك: «قف يا سيدي، وقبل أن توجه هذه النعوت إلى ذلك السيد، فكر وأنت مجرد من الهوى في مدى خطئه، وفوق ذلك تذكر أنه صديقي.»
وقال المستر بب سوير: «ماذا؟»
وصاح بن ألن: «علينا باسمه! اسمه!»
وأجاب المستر بكوك: «المستر نثنايل ونكل.»
وما كاد المستر بنجمن ألن يسمع ذلك الاسم حتى ألقى بمنظاره تحت كعب حذائه وحطمه، ثم التقط أجزاءه فوضعها في ثلاثة جيوب منفصلة، وشبك ذراعيه، وعض شفتيه، ونظر نظرة تهديد إلى معارف المستر بكوك الهادئة، ووجهه الساكن لا يبدو عليه أي انفعال.
وأخيرا تكلم المستر بنجمن ألن، فقال: «أنت إذن يا سيدي الذي شجعت على هذا الزواج وعملت على تحقيقه.»
وقاطعته السيدة العجوز قائلة: «وأظن أن هذا هو خادم السيد الذي ظل يحوم حول بيتي، ويحاول إيقاع خدمي في الفخ للتآمر على سيدتهم. يا مارتن.»
وقال الرجل العبوس وهو يتقدم نحوها: «نعم.»
قالت: «أهذا هو الفتى الذي رأيته في الزقاق وتحدثت إلي عنه في هذا الصباح؟»
فلم يكن من المستر مارتن المقل من الكلام كما قلنا إلا أن نظر إلى سام ولر وأومأ برأسه وزمجر قائلا: «هو الرجل»، وإذا المستر ولر الذي لم يكن يوما بالمزهو ولا بالمتفاخر يبتسم ابتسامة معرفة ومودة حين التقت عيناه بذلك السائق العبوس، وقال بأدب: أنه «قد عرفه من قبل.»
وصاح المستر بن ألن قائلا: «وهذا هو الإنسان الأمين الذي كدت أخنقه! وكيف اجترأت يا مستر بكوك فسمحت لهذا المخلوق بأن يستخدم في خطف أختي؟ إنني أطالبك يا سيدي ببيان في هذا الشأن.»
وصاح بب سوير بخشونة وهياج: «اشرح لنا هذه المسألة يا سيدي.»
وقال بن ألن: «هذه مؤامرة.»
وأضاف المستر بب سوير: «ومكيدة مدبرة.»
وقالت السيدة العجوز: «وخداع معيب.»
وقال مارتن: «وليست إلا متاعب.»
وقال المستر بكوك وقد رأى المستر بن ألن يتهالك على المقعد الذي يحجم فيه المرضى، ويستسلم للبكاء ويخرج منديله: «أرجوك أن تستمع لي، إنني لم أقدم أية معونة في هذه المسألة أكثر من حضوري اجتماعا واحدا جرى بينهما، ولم أستطع منعه، وخطر لي أن حضوري من شأنه أن يزيل أية تعليلات سيئة لهذا الاجتماع، لو لم أحضره بنفسي، هذا هو كل نصيبي من هذه المسألة، ولم أكن أظن مطلقا أن هناك تفكيرا في زواج عاجل.» وهنا أضاف قائلا، وهو يبادر إلى ضبط نفسه: «ولكن تذكر مع هذا أنني لا أقول: إنني كنت أمنعه لو أني عرفت أن النية متجهة إليه.»
وصاح المستر بن ألن قائلا: «أتسمعون هذا جميعا؟ أتسمعون هذا؟»
وقال المستر بكوك بهدوء وهو يتلفت حوله: «أرجو أن يسمعوه»، وهنا أخذ الدم يتصاعد إلى وجهه فأردف يقول: «وأرجو أن يسمعوا هذا الذي سأقوله أيضا يا سيدي، وهو أنني بعد الذي قيل لي عنك أعلن أنك لم تكن على حق في محاولة إكراه أختك والتأثير في ميولها قهرا وعنوة، بل لقد كان أولى بك أن تحاول بعطفك وسماحتك أن تنزل منها منزلة أقرب أقربائها الذين فقدتهم منذ طفولتها، أما عن صديقي الشاب، فأرجو أن أضيف أنه من كل وجهة من وجوه المزايا الدنيوية، ند لك على الأقل وكفؤك إن لم يكن أرفع شأنا، وإذا لم أسمع البحث في هذه المسألة يدور بما هو خليق به من الهدوء والاعتدال، فإني أرفض سماع أي كلام آخر حول هذا الموضوع.»
وهنا تقدم المستر ولر فقال: «أحب أن أبدي بضع ملاحظات إلى جانب ما عرضه اللحظة السيد الكريم وشرحه، وهي أن فردا في هذا الجمع دعاني في ثنايا كلامه مخلوقا.»
وتدخل المستر بكوك قائلا: «ليس لهذا علاقة ما بالمسألة يا سام، أرجوك أن تمسك لسانك.»
وأجاب سام: «لن أقول شيئا في هذه النقطة يا سيدي، وإنما أريد أن أقول هذا: ربما يظن هذا السيد أنه كانت هناك علاقة سابقة ولكن الواقع أنه لم يكن هناك شيء من هذا القبيل؛ لأن السيدة الشابة صرحت في بداية التعارف أنها لا تطيقه، فلم يحاول أحد إذن أن يفسد المسألة عليه، بل كان الأمر كما هو بالنسبة له، حتى ولو لم تلتق الشابة بالمستر ونكل، هذا ما أحببت أن أقوله يا سيدي، وأرجو أن يكون بال هذا السيد قد استراح من هذه الناحية.»
وساد السكون لحظة عقب هذه الملاحظات المواسية التي أبداها المستر ولر، ونهض المستر بن ألن أخيرا، بينما انبري المستر بب سوير رغم توكيدات سام وملاحظاته، يقسم مغلظ الأقسام بأنه سينتقم من ذلك العريس السعيد.
ولكن عندما تعقدت الأمور أشد التعقيد، وأنذر الموقف بأنه لن ينفرج، لم يلبث المستر بكوك أن وجد من السيدة العجوز نصيرا قويا، فقد تبين أنها تأثرت كثيرا بالطريقة التي ناضل بها عن ابنة أخيها، فأقدمت على تذكير المستر بنجمن ألن ببضع خواطر مرفهة مواسية، لتهدئة ثائرته، وكان أهمها أنه بعد كل ما جرى لا يزال الأمر حسنا ، ما دام لم يزدد سوءا، وأنه كلما قل الكلام، سهل الإصلاح وهان، وراحت تقسم أنها لا تدري أن الأمر سيئ بأية حال، وأن ما انتهى لا سبيل إلى بدئه من جديد، وإن ما لا يمكن علاجه، يتيسر احتماله، وما إلى هذه التوكيدات وأمثالها من الحجج الجديدة والأمثلة المعززة لها، فكان رد المستر بنجمن ألن عليها جميعا أنه لا يقصد أي انتقاص من مكانة عمته، أو امتهان لأحد من الحاضرين، ولكن ما دام الأمر كذلك، وما داموا تاركيه يمضي في طريقه، فإنه ليسره أن يكره أخته إلى الموت وبعد الموت كذلك.
وأخيرا، بعد أن كرر الفتى الناقم هذه العبارة خمسين مرة، عمدت السيدة العجوز فجأة إلى التحفز، وراحت تبدو رائعة جليلة، وهي تقول: إنها تريد أن تعرف ماذا جنت حتى لا تحترم سنها، ولا يوقر مقامها، وأنها ترجو وتلح على ابن أخيها الذي كانت تذكره قبل أن يولد بخمسة وعشرين عاما أو قرابتها، والذي عرفته حين لم تنبت سن واحدة في فمه، فضلا عن حضورها أول مرة يقص له الحلاق فيها شعره، واشتراكها في عديد المناسبات والحفلات في عهد الطفولة، وهي مناسبات تكفي في ذاتها، ومدى أهميتها، لإعطائها حقا في مودته لها، وطاعته لأمرها، وعطفه عليها إلى الأبد.
وبينما كانت السيدة العجوز مسترسلة في هذا العتب على ابن أخيها، كان بب سوير والمستر بكوك قد انصرفا إلى الغرفة الداخلية لحديث خاص بينهما، شوهد المستر سوير خلاله يلجأ مرارا إلى رفع زجاجة سوداء إلى شفتيه، فلم تلبث تقاطيع وجهه من أثرها أن اتخذت شيئا فشيئا سمات الفرح، بل التهلل والمرح، وأخيرا خرج من الغرفة والزجاجة في يده فقال: إنه يأسف جد الأسف؛ لأنه كان أحمق متهورا في تصرفه، وأنه يقترح شرب نخب المستر ونكل ومسز ونكل، وأنه أبعد ما يكون من الشعور بالحسد، وسيكون أول من يهنئهما بذلك الزواج الهني السعيد. وما كاد المستر بن ألن يسمع هذا القول حتى نهض فجأة من مجلسه، وتناول الزجاجة السوداء فشرب النخب بكل حماسة، وكان الشراب قويا باطشا فكاد لون وجهه يرتد مسودا كالزجاجة ذاتها. وأخيرا طافت الزجاجة حول الجمع حتى فرغت مما فيها، واشتدت حركة المصافحة وتبادل التهنئات، حتى لقد تنازل المستر مارتن ذو الوجه النحاسي فابتسم.
وقال بب سوير وهو يفرك يديه: «والآن سنستمتع بليلة فرح ومرح.»
وقال المستر بكوك: «آسف لأني مضطر إلى العودة إلى الفندق، فلم أعتد احتمال التعب في هذه الأيام، وقد نهكتني الرحلة وأتعبتني إلى أقصى حدود التعب.»
وقالت السيدة العجوز بلطف لا يقاوم: «هل لك في قدح من الشاي يا مستر بكوك؟»
وأجاب قائلا: «شكرا لك يا سيدتي، أوثر ألا أتناول شيئا.»
والواقع أن إعجاب السيدة العجوز كان السبب الأكبر الذي حمل المستر بكوك على الانصراف، فقد تذكر مسز باردل، وكانت كل نظرة من عيني السيدة العجوز ترسل العرق البارد يتصبب من سائر أوصاله.
ولما لم تجد أية وسيلة في إقناع المستر بكوك بوجوب البقاء، تم الاتفاق في الحال، بناء على اقتراحه، على أن يصحبه المستر بنجمن ألن في سفره لمقابلة والد المستر ونكل، وأن تكون المركبة بالباب في التاسعة من صباح اليوم التالي. واستأذن المستر بكوك في الانصراف، وتبعه صمويل ولر، وعاد إلى فندق «بش»، ومما يجدر ذكره هنا أن وجه المستر مارتن راح يتقلص بشكل شنيع وهو يصافح سام عند توديعه، وأنه أرسل ابتسامة، ويمينا في وقت واحد، عللهما الذين يعرفون غرائب أطواره، بأنه أراد بهما التعبير عن سروره البالغ بمحضر المستر ولر، وطلب التشرف بزيادة معرفته.
وقال سام حين وصلا إلى الفندق: «هل آمر بغرفة خاصة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «كلا يا سام، لا ضرورة، فكما أني تناولت العشاء في قاعة القهوة وسأبادر إلى الفراش، فلا يستحق الأمر إعداد غرفة خاصة، انظر يا سام هل في قاعة المسافرين أحد؟»
فانطلق المستر ولر ليرى، وعاد في الحال فقال: إنه ليس فيها سوى سيد أعور، وأنه هو ورب الفندق يتعاطيان «دنا» من شراب «البيشوب».
3
وقال المستر بكوك: «سأنضم إليهما.»
وقال المستر ولر وهو يتقدم سيده: «إن هذا الأعور يا سيدي «عميل» غريب، وهو «يدجل» على صاحب المحل يا سيدي حتى لم يعد يعرف هل هو واقف على حذائه أو على قبعته.»
وكان الشخص الذي عناه المستر ولر بهذا الوصف جالسا في أقصى القاعة حين دخل المستر بكوك. وكان يدخن في قصبة كبيرة من النوع الهولندي، وعينه الواحدة لا تفارق النظر إلى وجه رب الفندق، وهو شيخ لطيف المعشر مستدير الوجه، يبدو كأن الرجل الأعور كان يقص عليه منذ لحظة قصة عجيبة، بدليل صيحات الشيخ المتوالية بين هنيهة وأخرى، وقوله: «يا للعجب! ما كنت لأصدق شيئا كهذا! هذه أغرب قصة سمعتها في حياتي! ولا أحسبها ممكنة ولا جائزة الوقوع!» وما إليها من صيحات التعجب التي كانت تنبعث مرة واحدة من بين شفتيه، وهو يرد على نظرة الأعور وحدجته.
وقال الرجل الأعور للمستر بكوك: «خادمك يا سيدي، ليلة رائعة يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «هي كذلك فعلا»، وكان الخادم قد جاء في تلك اللحظة فوضع أمامه زجاجة صغيرة من البراندي وقليلا من الماء الساخن.
وبينما كان المستر بكوك يمزج البراندي بالماء التفت الرجل الأعور نحوه باهتمام ظاهر، وظل يتطلع إليه بين لحظة وأخرى، ثم سأله أخيرا: «أعتقد أنني رأيتك قبل الآن.»
وأجاب المستر بكوك: «لا أذكر.»
وقال الرجل ذو العين الواحدة: «حقيقة؛ لأنك لم تعرفني، وإنما عرفت أنا صديقين من أصدقائك كانا نازلين في فندق «البيكوك» (الطاووس)، في أيتنزول أيام الانتخابات.»
وصاح المستر بكوك: «آه! فعلا!»
ومضى الرجل يقول: «نعم، وكنت أحدثهما عن واقعة حال جرت لصديق لي يدعى «توم اسمارت»، ولعلك سمعتهما يتحدثان عنها.»
وقال المستر بكوك مبتسما: «كثيرا من المرار، وأظن أنه كان عمك؟»
وأجاب ذو العين الواحدة: «كلا، كلا، بل كان صديقا لعمي لا أكثر.»
وقال رب الفندق وهو يهز رأسه: «ولكن عمك كان بلا شك رجلا عجيبا.»
وأجاب ذو العين الواحدة: «أعتقد أنه كان كذلك، أو يصح أن أقول: إنه كذلك، وفي وسعي أن أقص عليكما أيها السيدان قصة عن هذا العم أعتقد أنها ستدهشكما.»
وقال المستر بكوك: «هل يمكن؟ دعنا نسمعها بكل سرور.»
وهنا سكب التاجر المتجول ذو العين الواحدة «شرابا» في كأسه فشربه، وجذب نفسا طويلا من القصبة الهولندية، ثم نادى سام ولر وكان هذا واقفا بقرب الباب، فقال له: إنه لا حاجة به إلى الانصراف إلا إذا أراد هو نفسه؛ لأن القصة ليست سرا، ثم أرسل نظره مليا إلى رب الفندق وبدأ يقص القصة التالية.
أي: الجراح.
يريد الفولاتايل “sal volatile”
أي: أملاح النوشادر لتفويق السيدة، وقد نطقها ولر محرفة كعادته.
شراب يشبه «الكوكتيل» وهو مزيج من خمر وبيض وسكر وتوابل.
الفصل التاسع والأربعون
قصة عم «التاجر المتجول»
قال التاجر المتجول: «كان عمي أيها السادة من أكثر خلق الله مرحا، وأبرعهم دعابة، وأشدهم فطانة وذكاء، وليتكم عرفتموه أيها السادة، لكني بعد التروي والتفكير، لا أتمنى لكم معرفته؛ لأنكم لو كنتم عرفتموه، لأصبحتم اليوم جميعا، في خطة الطبيعة، ومجرى الزمان، أقرب ما تكونون من الموت، إن لم تكونوا قد متم فعلا، فاضطررتم إلى أن تخلدوا إلى المقام في بيوتكم، وإيثاركم العزلة عن الناس، وهو ما كان يحرمني من متعة التحدث إليكم الآن. أيها السادة لوددت لو أن آباءكم وأمهاتكم عرفوا عمي، إذن لأولعوا حقا به ولا سيما أمهاتكم، وإني لواثق أنهن كن سيرحن عنه راضيات معجبات، وإذا كانت ثم صفتان فيه غالبتان على ما عداهما من الصفات وأنها لكثيرة متعددة، فهما الإقبال على شرب «البنتش» المشعشع، والغناء بعد العشاء، وأستميحكم معذرة عن الوقوف طويلا عند هذه الذكريات المحزنة للأقدار الراحلة، فإنكم لن تشهدوا رجلا كعمي في كل يوم من أيام الأسبوع التي تمر بنا في هذه الحياة.
ولقد كنت أبدا أعد من محامد عمي الكبرى أيها السادة، تلك الصداقة الوثيقة التي كانت بينه وبين صديقه الحميم توم اسمارت، ومن بين بيلسن واصلم التجاري بشارع كتنتن بحي «المدنية»، وكان عمي محصلا في شركة «تيجن وولبس»، ولكن رحلاته وأسفاره ظلت عهدا طويلا قريبة من رحلات توم اسمارت وسفراته أو تكاد تكون واحدة. وأحس عمي ميلا إليه لأول عهده بلقائه في ذات مساء، وشعر توم بميل نحو عمي كذلك، وكانا قد تراهنا على قبعة جديدة قبل تعارفهما بنصف ساعة، وكان الرهان على أيهما أحسن إعدادا لفنتين من «البنتش» وأسرع من صاحبه في اجتراعه، وقد حكم لعمي بأنه أبرعهما في إعداده، ولكن توم غلبه في سرعة شربه بما يملأ نحو نصف ملعقة ملح، وعادا فتناول كل منهما على حدة فنتين آخرين في صحة صاحبه، ومن ذلك العهد أصبحا صديقين حميمين على الدهر، إن في هذه الأشياء أيها السادة قدرا مقدورا هيهات لنا أن نجد منه المفر.
وكان عمي من ناحية الشكل أقصر قليلا من الحجم المتوسط، وأسمن كذلك بقليل من سائر الناس، ولعل وجهه كان أشد احمرارا هونا ما، وقد أوتي ألطف وجه رأيتموه أيها السادة وأكثر المعارف مرحا، كأنما هو أقرب ما يكون شبها بصورة «البتش»
1
وكان مليح الأنف والذقن، وكانت عيناه لا تكفان عن الاختلاج والبريق والاتقاد من المرح، وله ابتسامة ليست كابتساماتكم «الخشبية» الخلية من المعاني، ولكنها ابتسامة صادقة، مرحة، صادرة من سويداء القلب، وصفاء المزاج، لا يفتر وجهه لحظة عنها، وقد حدث يوما أن هوى من فوق مركبته، رأسا على عقب، فاصطدم بحجر من معالم الطريق، فلبث طريحا في مكانه، مضعضع الحواس مصابا بجرح في وجهه من بعض الأحجار الصغيرة التي كانت متراكمة بجانبه، حتى لو أن أمه، على حد تعبير عمي القوي ذاته، عادت إلى الأرض لما عرفته. والواقع أيها السادة أنني أشعر كلما فكرت في الأمر بأنها حقا ما كانت لتعرفه؛ لأنها ماتت حين كان عمي يبلغ من العمر عامين وسبعة أشهر، وأكبر ظني أن حذاءه الطويل، بغض النظر عن الحجارة التي جرحت وجهه، كان سيذهلها كثيرا، إذا نحن أغضينا عن وجهه الأحمر الوضاح اللطيف، ولكنه على كل حال لبث راقدا في ذلك الموضع، وقد سمعت عمي مرارا يقول: إن الرجل الذي التقطه روى كيف شهده مبتسما متهللا كأنما هوى من المركبة تسلية ولهوا، وأنه بعد أن حجموه، كان أول بوادر صحوه وأمارات مثابه إلى شعوره، قفزه فوق السرير وإرساله ضحكة مدوية في الفضاء، وهجومه على الفتاة التي كانت ممسكة بطست الحجامة لثما وطلبه شريحة من لحم الضأن وجوزة مخللة، وكان مولعا أيها السادة بالجوز المحفوظ، ويقول: إنه قد وجد أن الجوز إذا أخذ من غير خل جعل للجعة مذاقا طيبا شهيا.
وكانت أهم أسفار عمي في الخريف على سقوط أوراق الشجر، لتحصيل الديون، وتصدر إليه الأوامر بالسفر إلى الشمال، من لندن إلى أدنبره، ومنها إلى جلاسجو، ثم الأوبة إلى لندن، في مركب ذي شراع وأرجو أن تذكروا أن زورته الثانية لأدنبره كانت لمزاجه ومتعته الخاصة، فقد اعتاد الذهاب إليها لقضاء أسبوع أو نحوه، ورؤية أصدقائه القدامى وتناول الفطور مع هذا، والغداء مع ذاك، والعشاء مع ثالث، وطعمة الليل مع رابع، فكان الأسبوع كله حافلا بمتع ومآدب ومجالس سمر وشراب، ولست أدري هل أسهم أحدكم يوما أيها السادة في الاستمتاع بفطور اسكوتلندي شهي كريم، ثم الاشتراك في غداء خفيف لا يحوي أكثر من نصف «إردب» من محار البحر، وست زجاجات أو نحوها من الجعة، وزجاجة أو زجاجتين من الويسكي «لتختموا» بها الطعام، فإن كنتم قد استمتعتم بشيء من هذا أو نحوه فسوف توافقون على قولي أن الذهاب بعد ذلك إلى تناول عشاء يحتاج إلى «رأس قوي» هوفاما.
ولكن - بارك الله لكم في قلوبكم وحواجب أعينكم، أيها السادة، لقد كان ذلك كله شيئا تافها لا يذكر بالنسبة إلى عمي، فقد كان قوي «الشهية» حتى ليبدو ذلك لديه «لعب أطفال». ولقد سمعته يقول: إن في إمكانه أن يتفوق على أهل مدينة «ضندي» كلهم في أي يوم في كثرة الشراب، وينصرف إلى البيت غير مهتز ولا متعثر، ولا مترنح، مع أن أهل ضندي أيها السادة قد أوتوا رءوسا صلبة، ومعدا قوية، لا أحسبكم تلتقون بأمثالهم في أي بلد من البلاد الواقعة بين القطبين، فقد سمعت عن رجل من أهل جلاسجو، كان يشارب آخر من سكان «ضندي»، خمس عشرة ساعة في جلسة واحدة، وقيل لي: إنهما اختنقا معا في وقت واحد - وهو المنتظر أو قريب منه - ولكن مع فارق لا يذكر أيها السادة، وهو أن ذلك الشرب الرهيب لم يحدث أي أثر سيئ فيهما أو تبدو عليهما أمارات السكر الشديد.
وحدث في ذات ليلة خلال أربع وعشرين ساعة من الموعد الذي قرر فيه عمي العودة بالمركب إلى لندن، أن كان يتناول العشاء في دار صديق قديم يدعى «بيلي ماك»، أو شيئا من هذا القبيل مع لقب آخر من أربعة مقاطع، ويقيم في مدينة «أدنبره» القديمة، وقد اشتركت في العشاء زوجته وبناته الثلاث وولده الكبير، وثلاثة أو أربعة من الإسكوتلنديين الأشداء الغزار الحواجب دعتهم الأسرة تكريما لعمي وزيادة في البهجة والإيناس، وكان العشاء فخما، يحوي «سلمون» مقددا، وسمكا آخر من نوع «الرنكة»
2
ورأس خروف، وطبقا إسكتلنديا مشهورا عندهم يدعى «الهاجيس»، كان عمي أبدا يقول عنه: إنه يتلفت إليه، ويبحث عنه، كلما جاء هذا الصنف إلى المائدة، أشبه شيء بمعدة كيوبيد،
3
كما حوى العشاء أصنافا كثيرة جدا نسيت أسماءها، وإن كانت مع ذلك طيبة شهية، وكانت نساء الأسرة مليحات لطيفات، وكانت الزوجة من ألطف المخلوقات، وكان عمي صافي المزاج تماما، وكانت النتيجة أن البنات جعلن يقهقهن ويضحكن، والأم ترسل ضحكا صاخبا والرجل ومدعويه يزأرون زئيرا حتى احمرت منهم الوجوه طيلة الوقت، ولا أذكر تماما كم عدد «بواطي» الويسكي التي شربها كل منهم بعد العشاء، ولكني أعرف أن الولد الكبير، حوالي الواحدة بعد منتصف الليل كان قد اشتد به السكر فغاب عن حواسه وهو يحاول التغني بأول مقطع من أغنية معروفة، وكان عمي قبل ذلك بنصف ساعة الرجل الوحيد الذي ظل ظاهرا فوق المائدة، فخطر له أنه قد حان أن يفكر في الانصراف، ولا سيما أن الشرب كان قد بدأ من السابعة، حتى يتمكن من الوصول إلى الفراش في ساعة مناسبة، ولكنه اعتقد أن ليس من الأدب أن ينصرف على هذا النحو فانتخب نفسه للرياسة، بصوت واحد، وهو صوته، وتصدر المائدة، فصب شرابا في كأسه ونهض ليقترح الشرب في صحته، ونهض فألقى على نفسه خطبة بارعة حافلة بالثناء المستطاب والتحيات الصادقات، وشرب النخب بحماسة بالغة، ولكن لم يفق من النوم أحد، فتناول عمي قطرات قليلة أخرى، صرفا غير مشعشعة في هذه المرة، حتى يمنع الشراب الممزوج بالماء من الطغيان على معدته، وإحداث غثيان له، وألقى يدين عنيفتين على قبعته، وانطلق منصرفا.
وكانت الليلة شديدة الريح، حين أغلق عمي باب منزل الأسرة وأنزل قبعته على رأسه حتى لا تطيرها الريح ودس يديه في جيبيه، وتطلع ببصره ليتفقد أحوال الجو، وكانت السحب مندفعة صوب القمر بأقصى سرعتها، حتى حجبته تماما في لحظة ما، ثم تركته في لحظة أخرى ينبعث من خلالها متجليا بكل روعته، مرسلا ضياءه يعم كل ما حوله، ولا يلبث أن يعود فيغطيه بسرعة متزايدة غامرا الكون كله في ظلام، وقال عمي مخاطبا الجو: «هذا عمل غير نافع فعلا»، كأنما أحس أن ما فعله الجو والسحاب إهانة شخصية له، ومضى يقول بقوة: «ليس هذا بالجو المناسب لي في الذهاب إلى البيت، هذا لا ينفع بأي حال» وظل يردد هذه العبارة، حتى أصبح من المشقة عليه استرداد توازنه، لما أصابه من الدوار لإطالة التطلع ببصره إلى السماء. وانطلق مرحا مسرورا في سبيله.
وكانت دار «آل بيلي» في حي «كننجيت»، وكان عمي يريد الذهاب إلى الطرف الآخر من طريق «ليث» وهي مسافة تتجاوز ميلا بقليل، وكانت الدور على كلا جانبيه قوائم ذاهبات برءوسها في الفضاء المظلم كالعمالقة، ذوات وجهات لفح الزمان منها الألوان والطلاء، وشرفات ونوافذ تبدو كأنها تحاكي أبصار الأحياء، وتماثل أعين الناس، قوائم غائرات في المحاجر من طول العمر، وامتداد السنين، ولاحت له البيوت مؤلفة من ستة أدوار أو سبعة أو ثمانية، بعضها فوق بعض طبقات، كما يبني الولدان بيوتا من الأوراق وهي تلقي ظلالها السود على الطريق الوعر الصلب الأديم، وتحيل الليل المظلم أشد ظلاما، وكانت بضعة مصابيح مضاءة بالزيت متناثرة إلى مكان بعيد، ولكنها لم تكن تكشف إلا عن مدخل قذر إلى درب ضيق، وإلا عن سلم مشترك كثير المنعرجات، يربط بين مختلف الطباق، وراح عمي يرمق بنظره هذه الأشياء كلها رمقة الخبير الذي طالما ألم على أمثالها من قبل، فلم تعد تستحق الاهتمام، وهو يمشي في وسط الطريق واضعا كل إبهام من إبهاميه في جيب صداره، متسليا بين لحظة وأخرى بنتف من أغنية، يرفع بها عقيرته في سرور وحماسة ولذة، حتى أيقظ النوام في ذلك الحي الهادئ من أحلى نومة وجعلهم يستوون جلوسا راعشين في سررهم، حتى يتلاشى الصوت مبتعدا في الفضاء، مقنعي أنفسهم أنه لا بد من أن يكون ذلك الصوت صوت سكران لا يعي وهو راجع إلى بيته، فلا يلبثون أن يتغطوا ليدفئوا أنفسهم ويعودوا إلى النوم.
وإذا رأيتم أيها السادة أنني مدقق في وصف عمي وهو يسير في وسط الطريق واضعا إبهاميه في جيبي صداره؛ فما ذلك إلا لأن هذه القصة - كما اعتاد في أغلب الأحيان أن يقول، وهو على حق تماما - تبدو عادية لا غرابة مطلقا فيها، إذا أنتم لم تفهموا بوضوح من البداية أنه لم يكن مطلقا بالرجل الخيالي، النازع إلى التصورات الغريبة والأوهام. «وكذلك ظل عمي أيها السادة منطلقا وإبهاماه في جيبي صداره، متخذا مشرع الطريق لنفسه خاصة، ومترنما تارة بأبيات من أغنية غرام، وأخرى بأغنية سكر وخمر، وإذا ملهما معا، انبعث يطلق صفيرا منغما، حتى وصل إلى الجسر الشمالي «نورث بردج» الذي يصل في ذلك الموضع بالذات بين مدينة أدنبره القديمة وبين المدينة الجديدة، فوقف لحظة لينظر إلى تلك العناقيد الغريبة من المصابيح والأنوار المتراكمة المتلألئة كأنها الكواكب، المنبعثة من جدران الحصن القائم في ناحية، وتل كولتن من ناحية أخرى، كأنما تضيء حصونا، وقصورا في الفضاء، بينما كانت المدينة القديمة البديعة الشكل نائمة تغط في سبات عميق، وظلمة غامرة، وقصرها وكنيسة «هوليرود» وقد قام على حراستهما ليلا ونهارا، كما اعتاد صديق لعمي أن يقول: «قصر آرثر» الشامخ مطلا في نظرة عابسة قاتمة كبعض الجان على المدينة القديمة التي حرسها من قديم الزمان. أقول أيها السادة: إن عمي وقف في ذلك المكان لحظة ليتلفت حوله، ثم انثنى يحيي الجو ويشكر له أن رآه قد راق قليلا وصفا، وإن لبث القمر هابطا منحدرا، ثم عاد يسير في روعة وجلال كما كان من قبل متخذا مشرع الطريق لنفسه في أبهة بادية، وكأنه يود لو يلتقي بأحد يريد أن ينازعه ملكية ذلك الطريق، ولم يكن ثمة إنسان في ذلك الوقت بالمصادفة حتى ينازعه، فانطلق كالحمل الهادئ، ولا يزال إبهاماه في جيبي صداره.» «ولما وصل عمي إلى نهاية طريق «ليث» وجد نفسه مضطرا إلى اختراق قطعة كبيرة من الأرض الفضاء تفصله عن شارع قصير، ينعطف عنده ويذهب رأسا إلى مسكنه، وكان في تلك الأرض الفضاء، في ذلك العهد، فناء مسور يملكه مقاول مركبات، متعاقد مع مصلحة البريد على شراء مركباتها البالية، وكان عمي مولعا كل الولوع بالمركبات، الجديد منها والقديم، والتي منها بين بين، فلم يلبث أن خطر بباله أن ينحرف عن جادة الطريق لا لشيء سوى إلقاء نظرة على تلك المركبات من خلال السياج، وكانت نحو اثنتي عشرة منها كما يذكر متقاربات في داخل الفناء، مفككة الأوصال في حالة حزن ووحشة بالغة وكان عمي أيها السادة رجلا سريع الحماسة، شديد التدقيق، فلما وجد أنه لم يستطع الظفر بنظرة شاملة من خلال قضبان السور، انثنى يتخطاه، ويهبط بهدوء فوق محور دواليب قديم، وبدأ يتأمل المركبات باهتمام شديد.» «ومن المحتمل أن يكون الفناء قد حوى اثنتي عشرة منها أو من الجائز أن يكون العدد أكثر، فإن عمي لم يكن متأكدا كل التأكيد، فقد كان رجلا كثير التشكك في مسألة الأعداد، وحساب الأرقام؛ ولهذا لم يقطع برأي في عددها بالضبط، ولكنها كانت في ذلك الفناء متحاضنة متلاصقة في أشد ما تكون الوحشة، وأكأب ما يكون الانفراد، وكانت الأبواب منزوعة من مفاصلها وملقاة طرائح في كل مكان، والبطانات منحسرة ممزقة لم يبق منها إلا مزق متدلية هنا وهناك من مسمار صدئ، وذهبت المصابيح عنها، وتوارت العمد، وصدأ منها الحديد، وانمحى الطلاء، وجعلت الريح تصفر من خلال الثقوب البادية في الأخشاب الجرداء، والمطر المتجمع فوق السطوح يتساقط قطرات إلى أجوافها محدثا أصواتا حزينة جوفاء، فقد كانت تلك البقايا هياكل بالية لمركبات راحلة، تبدو في ذلك المكان القفر، وفي تلك الساعة من الليل، بشعة الصور نكراء.» «وأغمد عمي رأسه بكفيه وأنشأ يصور في خاطره زحام الخلق الذين كانوا منذ سنين يسافرون في تلك المركبات فأمسوا اليوم في الأحداث هامدين، أو تغيرت الدنيا لهم، وتقلبت بهم السنون، وتمثل في ذهنه عديد الركب الذين كانت تقلهم مركبة منها ليلة بعد ليلة، على مطال الأعوام، وفي مختلف الجواء، وما كانوا يتلهفون عليه من أنباء، ويتطلعون إليه من آمال، وما يؤكد الأساة لهم من صحة وأمان، وما يفاجأون به من سقام ومنايا، ومنهم التاجر، والزوجة، والعاشق والأرملة والأم والطالب، بل الطفل الصغير ذاته الذي يعدو إلى الباب، على دقة ساعي البريد ... وكم كان أولئك جميعا يتطلعون إلى وصول المركبة لاهفين واليوم أين هم، وماذا صنع الدهر بهم؟!» «وكان من عادة عمي أيها السادة أن يقول: إنه كان يفكر في ذلك كله في وقت واحد، ولكني أحسبه قد عرفه من بعض الكتب بعد ذلك؛ لأنه اعترف بصريح القول أنه أغفى وهو جالس فوق ذلك المحور القديم، ينظر إلى حطام تلك المركبات التالفة، وأنه أفاق من إغفاءته فجأة على ناقوس كنيسة يدق اثنتين، ولم يكن عمي مفكرا سريع التفكير، وإذا كان قد فكر في ذلك كله فلا ريب عندي في أن التفكير فيها لبث إلى الساعة الثانية والنصف على أقل تقدير، فلا عجب أيها السادة إذا اعتقدت جازما أن عمي قد أغفى دون أن يفكر في شيء إطلاقا.» «ومهما يكن من هذا الأمر فإن ناقوس الكنيسة كان قد دق اثنتين، فصحا عمي من إغفائه وفرك عينيه ووثب من فوق المحور القديم مدهوشا.»
ولم يكد الناقوس يؤذن الثانية حتى استحالت هذه البقعة القفر الهادئة إلى مشهد حياة ونشاط غير مألوف، وحركة نهاية في الغرابة، فإذا أبواب المركبات قد ردت إلى مفاصلها، والبطائن أعيدت إلى أماكنها، والمصابيح أضيئت، والوسائد والمعاطف قد وضعت على الرفوف، والحمالون يدفون بالرزم والحقائب في كل مستودع، والحراس يقطرون زكائب البريد، وساسة الخيل يلقون بدلاء مليئة بالماء على العجلات، وخلق كثير من الناس رائحون غداة، يركبون أعمدة في كل مركبة، والمسافرون قد وصلوا إلى الموضع، فسلموا ما لديهم من الحقائب، والخيل قد أسرجت، وبدا كل شيء باختصار يوحي بأن جميع مركبات البريد على أتم الأهبة للمسير. وفتح عمي عينيه أيها السادة على سعتهما إزاء هذا المشهد العجيب، حتى لقد ظل إلى آخر لحظة من حياته يعجب كيف تواتى له أن يغمضهما بعد ذلك.
وسمع صوتا، وشعر بيد على كتفه، وقال الصوت: «والآن، إنك محتجز لنفسك مقعدا في الداخل فيحسن بك أن تدخل.»
وتلفت عمي حوله قائلا: «أنا محتجز مقعدا؟!» - «نعم، بلا شك.» «ولم يستطع عمي أن يقول شيئا، فقد كان رهن دهشة متناهية، وكان أغرب ما في الأمر أن الزحام كان شديدا، وأن سيلا آخر من الوجوه كان يتدفق في كل لحظة ولا يدري عمي من أين أتوا حشودا وجموعا على تلك الصورة، كأنما قد انشقت الأرض عنهم، أو هبطوا من أقطار السموات، وراحوا يتوارون بذلك الشكل الغريب الذي أقبلوا به، فقد رأى عمي حمالا قد وضع عنه أحماله فألقاها في جوف المركبة وتلقى أجره، ثم دار بعينيه، وتلاشى كأن لم يغن منذ لحظات، وقبل أن يتمكن من التساؤل عجبا أين تراه ذهب، لاحت منه نظرة فإذا هو يبصر آخرين قد تراءوا أمامه وهم يرزحون تحت الحقائب والأمتعة الثقال التي كانوا ينوءون بها وتكاد تحطم ظهورهم حطما، وكان المسافرون أيضا في أزياء غرائب، بين سترات وأردية فضفاضة عريضة الحواشي ذوات أكمام طوال، ودون أطواق، وبين ضفائر وجدائل ذوات «عدائب» وأناشيط في أذيالها وأطرافها، حتى لقد وقف عمي حائرا مترددا لا يدرك من كل ذلك شيئا.» «وقال الذي تحدث إلى عمي من قبل: «والآن، ألا تنوي أن تدخل؟» «وكان يرتدي زي حراس المركبات ويضع ضفيرة صغيرة فوق رأسه، وله ردنان رحيبان، وهو يحمل مصباحا بإحدى يديه، وبندقية قصيرة ضخمة بالأخرى، كان يهم بإلقائها في صندوق سلاحه.»
وعاد ذلك الحارس يقول وقد رفع المصباح إلى وجه عمي: «ألست تريد أن تدخل يا جاك مارتن؟»
وأجاب عمي وهو يتراجع خطوة أو خطوتين: «ها، أهكذا من غير كلفة؟»
وقال الحارس: «هذا هو الاسم المكتوب في قائمة المسافرين.»
وقال عمي: «أليس فيها السيد فلان؟»
فقد شعر عمي أيها السادة بأن مناداة حارس لا يعرفه باسمه هكذا مجردا من أي احترام تصرف جريء لن ترضى عنه مصلحة البريد إذا علمت به.
وأجاب الحارس: «كلا، ليس في القائمة شيء كهذا.»
وقال عمي: «وهل الأجر مدفوع؟»
وأجاب الحارس: «بالطبع، مدفوع.»
وقال عمي: «إذن هيا: في أي مركبة أدخل؟» «وقال الحارس وهو يشير إلى مركبة قديمة الطراز مخصصة للسفر بالبريد بين أدنبره ولندن، وقد أنزل سلمها لكي يصعد عيله الركاب: هذه قف، ها هم أولاء المسافرون الآخرون؛ ليدخلوا هم أولا.» «وما أن قال الحارس هذا، حتى بدا القوم في الحال أمام عمي، ومن بينهم سيد في مقتبل العمر يضع ضفيرة مزدانة بالمساحيق، ويرتدي سترة زرقاء صافية كأديم السماء، مزخرفة الأطراف بالفضة، عريضة الحواشي، مبطنة بقماش خشن من البكرام، وقد ظهر اسم «تيجن وولبس» على البفتة المطبوعة، والصدار، فعرف عمي أيها السادة، كل الأقمشة والمواد المصنوعة منها في الحال، وكان ذلك الشاب يلبس سراويل قصيرة إلى الركبتين ويغطي جوربيه الحريريين بنوع من اللفائف، وينتعل حذاء بمشبك، ويزين ردنيه عند المعصمين بكشكشة مزركشة، ويضع قبعة مثلثة الزوايا فوق رأسه، وسيفا مستدق الطرف إلى جانبه. وكانت أطراف صداره متدلية إلى فخذيه، وأذيال ربطة عنقه تبلغ الخاصرة، وقد تقدم بجلال واتزان إلى باب المركبة، فحسر عن رأسه، وأمسك بالقبعة فوقه على طول ذراعه، هازا خنصره في الهواء كما يفعل بعض الناس حين يتناولون قدحا من الشاي، ثم لصق قدميه إحداهما بالأخرى، وانحنى انحناءة وقورا مهيبة، ثم مد يده اليسرى، وكان عمي يهم بالتقدم ليتناولها في كفه مصافحا، ولكنه أدرك أن هذه اللفتات لم تكن موجهة إليه ، بل إلى شابة تراءت في تلك اللحظة عند أسفل السلم مرتدية ثوبا من القطيفة الخضراء قديم الطراز ذا خصر طويل، وصدرية، ولم تكن على رأسها قبعة، بل كانت حاجبته بغطاء من الحرير الأسود، وقد وقفت لحظة متلفتة حولها قبل دخول المركبة، فكشفت في استدارتها عن وجه جميل، لم ير عمي أيها السادة وجها في مثل جماله، ولا في الصور والرسوم، وصعدت المركبة وهي ممسكة طرف ثوبها بإحدى يديها، حاسرة عن ساقين وقدمين لم يكن عمي كما اعتاد أن يقول ويشفع القول بأغلظ الأيمان، كلما قص القصة، يصدق أن تكون السيقان والأقدام يوما بذلك الجمال والكمال ما لم يرها رأي العين.» «ولكن عمي بنظرة واحدة إلى ذلك الوجه الجميل رأى الحسناء تلقي عليه نظرة توسل ورجاء، وأدرك أنها تبدو مروعة واقعة في خطب شديد. ولاحظ أيضا أن ذلك الشاب ذا الجديلة المجملة بالطلاء كان رغم ترائيه بالأدب الجم، والشهامة الرائعة، في معاملة النساء، واحترام الغيد، قد أمسكها بشدة من معصمها، حين دخلت المركبة، وتبعها هو في الدخول، على الأثر، وكان بين الركب رجل قبيح الصورة إلى حد غير مألوف، وضع على رأسه ضفيرة كثيفة سوداء وارتدى حلة خوخية اللون، وتمنطق بسيف ضخم، وانتعل حذاء طويلا يرتفع إلى حقويه، وقد جاء فجلس بجانب الحسناء، فانزوت على مقربة منه في ركن، فلم يلبث عمي أن تأكد أن الخاطر الأول الذي بدا له في محله، وهو أن هناك كيدا يكاد، وأن ثمة أمرا غامضا يوشك أن يقع، أو كما اعتاد أبدا أن يقول: إن هناك مسمارا رخوا فالتا في مكان ما، ومن العجيب كل العجب أن تصح في الحال نية عمي على نجدة الحسناء ولو استهدف لأي خطر، إذا كانت حقا بحاجة إلى المنجد والنصير.» «وصاح الشاب وهو يضع يده على سيفه حين دخل عمي المركبة: الموت والبرق!» «وزأر السيد الآخر: الدم والرعد، وانثنى يخرج سيفه، ويوجه به طعنة إلى عمي دون مقدمات ولا تمهيد، ولم يكن عمي يحمل سلاحا، ولكنه ببراعة بالغة راح يختطف من فوق رأس الرجل الدميم الجهم قبعته المثلثة الأركان، فتلقى بها سنان سيفه في جوفها وطبق جانبيها وأمسك بها بقوة وبأس شديد.» «وصاح الرجل القبيح الصورة مخاطبا رفيقه، وهو يحاول جاهدا استرداد سيفه: انخسه من الخلف!» «وصرخ عمي وهو ينزع أحد حذاءيه ويلوح بكعبه مهددا: «أحسن به ألا يفعل، وإلا أخرجت مخه، إن كان له مخ، أو فدغت جمجمته إن لم يكن له»، وأقبل عمي يستجمع كل ما أوتي من قوة، وينتزع السيف من قبضة ذلك الرجل الدميم، ويطوح به من النافذة، وعندئذ صرخ الشاب: الموت والبرق مرة أخرى، ووضع يده على مقبض سيفه بوحشية ظاهرة وهياج شديد، ولكنه لم يخرجه من قرابه، ولعله أيها السادة كما اعتاد عمي أن يقول، خشي أن يروع السيدة الحسناء.» «وقال عمي وهو يتخذ في تؤدة وأناة مجلسه: والآن أيها السيدان، لست أريد موتا ببرق أو غير برق، في حضرة السيدة، وحسبنا ما كان من دم ورعد في رحلة واحدة، فلنجلس إذا تكرمتم في أماكننا كما يجلس الركاب الهادئون في داخل مركبة. أيها الحارس، التقط سكين القطع التي يملكها هذا السيد.» «ولم يكد عمي يفوه بهذه الكلمات حتى ظهر الحارس عند نافذة المركبة، وسيف الفتى في يده، ورفع مصباحه ونظر بجد إلى وجه عمي، وهو يسلم السيف، ولشد ما كانت دهشة عمي، إذ رأى على ضوء المصباح جمعا جامعا من حراس المركبات مزدحمين حول النافذة، وكل منهم يتفرس مليا في وجهه، إذ لم يكن قد رأى في حياته بحرا زاخرا كهذا من الوجوه البيضاء، والأجسام الحمر، والأعين المتفرسة المحدقة فيه، فذهب يقول لنفسه: هذا أغرب شيء رأيته في حياتي. اسمح لي يا سيدي أن أرد إليك قبعتك.»
وتلقى الرجل الدميم قبعته المثلثة الأركان في صمت ونظر إلى الثقب الذي بدا في وسطها نظرة المتفحص، وأخيرا لصقها فوق ضفيرته بجد بالغ، ووقار شديد، أفسده إلى حد ما بعطس خفيف انتابه في تلك اللحظة فأزاح القبعة مرة أخرى عن مكانها فوق هامته. «وصاح الحارس حامل المصباح وهو يصعد إلى مقعد صغير في المؤخرة: كل شيء كامل، وانطلقت المركبة، وانثنى عمي يطل من النافذة، وهي خارجة من الفناء، فتبين له أن المركبات الأخرى بسائقيها وحراسها وخيلها وركابها جميعا، راحت تدور وتلف معا في دوائر بحركة وئيدة، وسرعة لا تتجاوز خمسة أميال في الساعة، فكاد عمي يتميز من الغيظ أيها السادة، فقد كان رجلا ذا صلة بالتجارة، ويشعر بأن حقائب البريد لا يصح العبث بها، وأسر في نفسه أن يقدم مذكرة في هذا الشأن إلى مصلحة البريد، بمجرد وصوله إلى لندن.» «ولكنه في اللحظة الراهنة ترك خواطره وأفكاره منشغلة بالحسناء الجالسة في أقصى ركن من المركبة، حاجبة وجهها بغطاء رأسها، بينما جلس قبالتها السيد ذو السترة الزرقاء، وبجانبها السيد الآخر في الثوب الخوخي اللون، وهما يراقبانها باهتمام شديد، فإن هي حركت أطواء خمارها، ألقى الرجل الدميم السحنة يده فوق سيفه بحركة واضحة يسمعها عمي، كما تيسر له أن يسمع أنفاس الآخر؛ لأن الظلام كان شديدا فلم يستطع رؤية وجهه. ويخيل إليه أنه قد انتفخ وهم بأن يأكلها في لقمة واحدة، فازداد عمي انتباها وغضبا فانتوى أن يرقب هذا المشهد إلى نهايته، مهما تكن النتيجة، فقد كان عمي أخا صبابة، تعجبه الأعين النجل، وتفتنه الوجوه الملاح، وتستبيه السيقان والأقدام الجميلة. وجملة القول لقد كان عمي مولعا بالجنس اللطيف كله، وهو ولع يجري في دم الأسرة أيها السادة، وأنا كذلك.» «وحاول عمي مختلف الحيل ليجتذب إليه أنظار الحسناء، أو على كل حال جر السيدين الغريبين إلى الحديث، ولكن محاولاته ذهبت سدى، فإن السيدين أبيا أن يتحدثا، والحسناء لم تجسر على النظر إليه، فجعل يخرج رأسه على فترات من نافذة المركبة، ويصيح مسائلا لماذا لا تسرع المركبة في سيرها، وظل يصيح حتى بح صوته، دون أن يعير أحد صيحاته تلك أقل اهتمام، فأسند ظهره إلى مقعده، وراح يفكر في الوجه الجميل والساقين والقدمين الفاتنتين، فكان ذلك خيرا وأجدى، إذ روح عنه الملالة من طول الوقت، وأنساه التعجب من أمره، والتفكير في وجهته، وكيف وجد نفسه في ذلك الموقف الغريب، وإن لم يكن ذلك مزعجا لخاطره كثيرا، ولا هو على كل حال مثار قلق في نفسه، فقد كان عمي أيها السادة رجلا حرا سهلا حواما رحالة لا يأبه بشيء، ولا يحمل للدنيا هما.» «ووقفت المركبة فجأة، وقال عمي: «ها! ما الذي أتت به الريح الآن؟» «وقال الحارس وهو ينزل السلم: انزل هنا!» «وصاح عمي: هنا؟» «وأجاب الحارس: نعم، هنا» «وقال عمي: لن أفعل شيئا كهذا.» «وقال الحارس: حسن جدا، فلتبق إذن في مكانك.» «وقال عم: سأفعل.» «وأجاب الحارس: ليكن.» «وأعار الركب الآخرون هذا الحوار اهتماما كبيرا، ولما رأوا أن عمي مصمم على البقاء في مقعده، انفلت الشاب من أمامه منكمشا ليعاون الحسناء على النزول، بينما كان الرجل الآخر الدميم الخلقة يتفحص الثقب الذي في قمة قبعته المثلثة الأركان، وفيما كانت الحسناء تمر بعمي وثوبها يحف به، ألقت أحد قفازيها في يده وهمست له وشفتاها لصق وجهه حتى لقد أحس حرارة أنفاسها تهب على أنفه، كلمة واحدة، وهي «النجدة!»، وإذا عمي أيها السادة يقفز في الحال من المركبة بشدة متناهية جعلتها تهتز فوق «لوالبها» اهتزازا.»
وقال الحارس حين رآه قد هبط الأرض: آه، هل غيرت رأيك إذن؟ «ولبث عمي ينظر إليه بضع ثوان، متشككا، مترددا، هل ينتزع بندقيته منه فيطلقها في وجه الرجل ذي السيف الطويل، ويضرب الآخر بمؤخرها على أم ناصيته، ويختطف الحسناء منصرفا بها في غمرة الدخان وذوائبه المتصاعدة؟» «ولكنه بعد إعمال الفكر عدل عن هذه الخطة، إذ بدت له أقرب ما تكون إلى حركة «مسرحية» عند التنفيذ، فلم يلبث أن قنع باقتفاء الرجلين الغريبين، وكانا قد انطلقا، وهما محيطان بها من كلا الجانبين، فدخلا بيتا قديما كانت المركبة قد وقفت قبالته، وعرجا على الردهة، فتبعهما إليه.» «وكان ذلك البيت دون سائر الدور العتيقة المهدمة، والمساكن الخربة المهجورة التي شهدها عمي في حياته، أكثرها تداعيا، وأهجرها أفقا، فقد بدت كأنها كانت في سالف الدهر ملهى كبيرا، وإن تهدمت سقوفه في عدة مواضع منه، وتداعت مدارجه وتحطم سلمه العالي، وكانت في الحجرة التي دخلاها موقدة كبيرة، وبدت المدخنة مسودة من كثرة السخام الذي علا أديمها، ولكن لم تكن النار في الموقدة مشتعلة، ولا مرسلة وهجا ولا ضياء، ولا تزال ذرات الرماد الناعم الأبيض متناثرة حولها، وإن أمست باردة، والظلام حالكا غامرا مرهوبا.» «وقال عمي، وهو يدير العين فيما حوله: «يخيل إلي أن مركبة بريد تسير بسرعة ستة أميال ونصف ميل في الساعة، ثم تقف فترة غير محدودة بباب جحر كهذا هو أمر غريب لا عهد لأحد به. وسأعرف الناس به، وأكتب إلى الصحف عنه.» «وكان عمي قد فاه بهذه الكلمات بصوت جهير، وصراحة لا تحفظ فيها ولا احتياط، لكي يجر الرجلين الغريبين إلى الحديث إذا أمكن، ولكن أحدا منهما لم يعره التفاتا، بل ظلا يتهامسان وهما يهمهمان ناحيته، ويزمجران له، وكانت الحسناء في أقصى الحجرة، وقد تجاسرت مرة فلوحت بيدها، كأنما تلتمس منه المعونة.» «وأخيرا تقدم الغريبان قليلا وبدأ الحديث بجد.» «وقال الفتى ذو السترة الزرقاء: أحسبك يا صاح لا تعرف أن هذه حجرة خاصة؟» «وأجاب عمي: كلا، لا أعرف يا هذا، ولكن إذا كانت خاصة، وقد أعدت لهذه المناسبة بالذات، فإني أعتقد أن الحجرة العامة يجب أن تكون مريحة جدا.»
وانثنى يجلس في مقعد ذي مسند مرتفع، وينظر إلى الرجل نظرة متفحصة؛ ليقيسهما قياسا صحيحا بعينيه، حتى ليتيسر لمصانع «تجن وولبس» للغزل والنسيج أن تزوده بقدر من قماش القطن يكفي لحلة كاملة، فلا تزيد ولا تنقص بوصة واحدة، عن هذا القياس الذي قدره. «وصاح الرجلان به في نفس واحد وهما يمسكان بسيفهما: اخرج من هذه الحجرة.» «وقال عمي وهو لا يبدي أي علامة على أنه فهم مرادهما: إيه؟» «وعاد الرجل المنكر الطلعة يقول، وهو يسحب سيفه الكبير ويشهره في الفضاء: اخرج من الحجرة وإلا فأنت في الهالكين.» «وصاح الآخر ذو الرداء الأزرق بلون السماء، وهو يشهر سيفه كذلك ويتراجع خطوتين أو ثلاث خطوات: ليسقط إذن! ليسقط!»
وأرسلت المرأة صرخة عالية ، وكان عمي معروفا في كل حين بالشجاعة البالغة، وحضور البديهة، ورباطة الجأش، وكان في الوقت الذي تراءى فيه غير مكترث بما يجري على عينيه، قد راح يجيل بصره فيما حوله بخبث ومكر، ملتمسا مقذوفا أو سلاحا للدفاع عن نفسه، فإذا هو في تلك اللحظة التي امتشق الغريبان فيها سيفيهما، يبصر في ركن المدخنة خنجرا قديما ذا مقبض في جراب صدئ، فهجم عليه بقفزة واحدة فتناوله في كفه واستله، ورفعه بجرأة فوق رأسه، وصاح بالمرأة أن تقف بمعزل، وقذف الرجل ذا الرداء الأزرق بالمقعد، والآخر ذو الرداء الخوخي، بالجراب، وانتهز الاضطراب الذي حدث عقب هاتين الحركتين، فانقض عليهما انقضاضة واحدة.» «وهناك أيها السادة قصة قديمة، لا يزيدها سوءا أنها حقيقة لا زيف فيها، عن سيد «أيرلندي» بديع في مقتبل الشباب، سئل يوما هل يستطيع العزف على الرباب، فأجاب بأنه لا يشك في أنه مستطيع ذلك، ولكنه ليس واثقا تماما؛ لأنه لم يجرب ذلك من قبل إطلاقا، وهو مثل ينطبق على عمي في مناجزته الغريبين بذلك الخنجر المصلت في يمينه، فلم يحمل يوما في كفه سيفا، اللهم إلا مرة حين كان يمثل «رتشارد الثالث» على مسرح خاص. وكان الاتفاق يومئذ قد تم على أن يطعن رتشموند من الخلف، دون إبداء أي حركة، أو إظهار نزوع إلى قتال، ولكنه كان في ذلك الموطن الذي نحن بسبيله يجول ويصول حيال رجلين بارعين في اللعب بالسيف حاذقين لفنون الكر والفر، وهو المهاجم المتوقي، والطاعن المتوثب، والضارب المجيد المتصرف تصرف المناجز الجسور، وإن كان إلى تلك اللحظة لا يدري شيئا من مطالب هذا الفن ومستوجباته ولم يؤت أقل فكرة عنه، وهو ما يدل على صدق المثل القديم، القائل: أيها السادة، إن المرء لا يعرف يوما ما في إمكانه أن يفعل، حتى يبلو ويجرب، وإن المعرفة ثمرة الاختبار.» «وكانت جلبة القتال مروعة، فقد انطلق المناجزون الثلاثة يرسلون مغلظ الأيمان كالجنود، وأسيافهم تحدث صليلا مترددا مدويا، كأن كل السكاكين والمدى وأدوات القطع التي في سوق «نيو بورت» مقعقعة من تشابكها واصطدامها معا، ولم تكد المعركة تبلغ الذروة، حتى حسرت الحسناء القناع عن محياها - أكبر الظن أنها لم تفعل ذلك إلا لتشجيع عمي وإلهاب حميته - وكشفت عن وجه يخطف حسنه بالأبصار، حتى ليقدم على مقاتلة خمسين رجلا لمجرد الظفر بابتسامة منه، ويسلم نفسه إلى الموت راضيا، ولقد أتى بالعجائب قبل أن ينحسر القناع عن تلك الطلعة الباهرة، ولكنه بعد أن شهدها وبهره جمالها، ارتد جنا مصورا، وعفريتا مريدا، مذهوب اللب هاذيا.» «وفي تلك اللحظة حانت من الشاب ذي الردأة الزرقاء نظرة إلى الخلف، فرأى الشابة حاسرة عن وجهها، فأطلق صرخة غضب وغيرة، ووجه سيفه إلى صدرها الجميل، وسدد ذبابته إلى قلبها، وإذا بعمي يرسل صيحة هلع ارتج البيت منها ارتجاجا، ولكن الحسناء تنحت قليلا واختطفت السيف من كف الشاب قبل أن يسترد توازنه، ودفعت به إلى الجدار، وأنفذت النصل فيه إلى المقبض، وحجزته في مكانه، وتركته لا يريم، ولا يستطيع حراكا، وكان ذلك مثلا رائعا يحتذى، فهجم عمي، وهو يرسل صرخة انتصار مدوية، ويحشد قوة غلابة لا سبيل إلى مقاومتها، فأرغم مناجزه على التراجع، في الاتجاه ذاته، وأطلق الخنجر القديم في قلب زهرة حمراء كبيرة كانت في صداره، فجعله يتسمر ويجمد في مكانه بجانب صاحبه، حيث وقفا أيها السادة يهزان أذرعهما وسوقهما حولها، من شدة الألم، كتلك الدمى التي نراها في دكان اللعب، والتي تحركها الخيوط والحبال، وما برح عمي بعد ذلك الحادث يقول: إن هذه الوسيلة هي أضمن الوسائل التي عرفها للغلبة على العدو والتخلص منه، وإن كان ثمة اعتراض واحد عليها، وهو من ناحية الأكلاف؛ لأنها تقتضي فقدان سيف لقاء كل رجل يقهر فيعجز عن أية مقاومة أو نضال.» «وصاحت الحسناء وهي تعدو نحو عمي فتطوق عنقه بذراعيها الجميلتين: إلى المركبة، إلى المركبة، فلعلنا ناجيان.» «وصاح عمي قائلا: لعلنا! ولم تقولين: لعلنا يا عزيزتي، هل من أحد آخر يراد قتله؟» «وكان عمي أيها السادة قد شعر عندئذ بشيء من الاستياء؛ لأنه كان يعتقد أن قليلا من المغازلة في هدوء مستحب مستطاب عقب هذا التقتيل، ولو على سبيل التنويع، أو تغيير الموضوع.» «وقالت الحسناء: ليست أمامنا لحظة واحدة نضيعها هنا، فإن هذا (مشيرة إلى الفتى الأزرق الرداء) هو الابن الوحيد لمركيز فيلتوفيل الكبير النفوذ والجاه.»
وقال عمي وهو ينظر ببرود إلى الشاب وهو مسمر جامد في مكانه لصق الجدار شبه الدمية التي وصفناها: ولكني أخشى يا عزيزتي ألا يرث يوما هذا اللقب؛ لأنك قطعت ذنبه يا حبيبتي.
وقالت الحسناء وقد أضاءت تقاطيع وجهها من شدة الغضب: لقد انتزعني هذان الشقيان من أهلي وأصحابي، وكان هذا المنكود سيتزوجني بالإكراه قبل أن تنقضي ساعة واحدة. «وقال عمي وهو يلقي نظرة احتقار على وريث فيلتوفيل المتحضر: لعنة الله عليه وعلى جرأته.» «وقالت الحسناء: ولعلك حزرت مما رأيته بعينيك أن الرجلين كانا على استعداد لقتلي إذا توسلت إلى أحد أن يمد إلي يد النجدة، ونحن هالكان لا محالة إذا اهتدى شركاؤهما إلينا هنا، وقد يكون تأخرنا في هذا المكان دقيقتين عائقا لا رجاء لنا في التغلب عليه، فإلى المركبة، إلى المركبة. وارتمت في أحضان عمي، وقد طغت عليها مشاعرها، والجهد البالغ الذي بذلته في التغلب على مركيز فيلتوفيل الشاب حتى سمرته في مكانه، فتناولها عمي واحتملها إلى باب البيت، فإذا المركبة واقفة بخيلها الأربعة الدهم الطوال الأذيال المتموجة المعارف، وهي مسرجة مهيأة للمسير، ولكن بلا سائق، ولا حارس، ولا سائس عند رءوسها.» «وأرجو أيها السادة ألا أكون ظالما لذاكرة عمي حين أعلن رأيي فيه، فأقول: إنه سبق أن تناول نساء في أحضانه، وإن كان أعزب لم يبن بواحدة منهن، وأعتقد حقا أنه كان من عادته تقبيل الساقيات في الحانات، وأعرف أنه في حادثة أو حادثتين شوهد، كما ثبت من أقوال أشهاد يعتد بأقوالهم، ولا يعرف الكذب عنهم، وهو يحتضن ربة حانة بشكل ظاهر واضح، وأنا في إيراد هذه الواقعة إنما أريد أن أبين إلى أي حد غير مألوف كانت تلك الحسناء قد أثرت فيه، حتى استولت على لبه بلا شك واستبته استباء ، وقد اعتاد أن يقول: إنه شعر حين ترامى شعرها الأسود الأثيت على ذراعه، واستقرت عيناها الجميلتان السوداوان على وجهه، عندما أفاقت من غشيتها، باضطراب شديد، وهياج عصبي غريب، جعلا ساقيه ترجفان من تحته، ولكن لعمري من ذا الذي يستطيع أن ينظر إلى عينين ناعمتين فاحمتين، ولا يحس إحساسا غريبا كهذا، أنا أيها السادة لا أستطيع، بل في الحق إني لأخاف أن أنظر إلى بعض هذه العيون ...» «وغمغمت الحسناء قائلة: إنك لن تتركني أبدا.» «وقال عمي: أبدا، وكان يعني ما قال حقا.» «وقالت الحسناء: يا منقذي العزيز، أيها المنقذ الرحيم الشجاع الكريم.» «وقال عمي مقاطعا: حسبك.» «وقالت: ولماذا؟» «وقال: لأن ثغرك يبدو وأنت تتكلمين من فرط الحسن بحيث أخشى أن أتهور فأقبله.» «ومدت الحسناء يدها كأنما تحذره من أن يفعل وقالت: استغفر الله لم تقل شيئا بل ابتسمت، وأنت حين تنظر إلى شفتين من أعذب الشفاه في العالم وتشهدهما تفتران برفق عن ابتسامة فاتنة ماكرة، وأنت منهما قريب، ولا أحد حاضر أمركما، لن تجد وسيلة أفضل لتوكيد إعجابك بشكلهما الجميل ولونهما البديع من البدار إلى تقبيلهما. وهذا ما فعله عمي، وإني أجل ذلك منه وأكبره من أجله.» «وصاحت الحسناء مجفلة: صه، صوت عجلات وسنابك خيل.» «وأصغى عمي ثم قال: هي كذلك.» «وكانت لعمي إذن سماعة لصوت العجلات ومواقع الحوافر، ولكن بدا له أن تلك الأصوات توحي بأن عدة خيول ومركبات قادمات نحوهما من مكان سحيق، وإن استحال عليه تقدير عددها، فقد كان الصوت أشبه بحركات خمسين ضابطة في كل مركبة ستة خيول مسرجة.» «وصاحت الحسناء وهي تشبك يديها: إنهم مقتفون أثرنا، مطاردونا لا رجاء لي سواك.» «وكان وجهها الجميل ينم عن رعب شديد جعل عمي يعتزم في الحال عزمته، ويقرر في نفسه نيته، فراح يرفعها إلى جوف المركبة، ويسري عن نفسها، ويرسل الطمأنينة إلى جوانحها، ويضم شفتيه مرة أخرى إلى شفتيها، ويشير إليها بأن تغلق النافذة اتقاء البرد، ويصعد هو إلى مكان السائق.» «وصاحت الحسناء: قف يا حبيبي!» «وقال عمي من مكانه: ماذا جرى؟» «قالت: أريد أن أتحدث إليك: أريد أن أقول كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط يا أعز إنسان لدي.» «قال: هل أهبط من موضعي؟» «ولكنها لم تحر جوابا، وإنما ابتسمت مرة أخرى، وكانت هذه الابتسامة أيها السادة تفوق الأخرى بلا شك، فتحيلها كلا شيء فهبط عمي من فوق المقعد في خطف البرق.» «قال وهو ينظر من النافذة: وما هي هذه الكلمة يا عزيزتي؟» «وكانت الحسناء قد انحنت إلى الأمام مصادفة في تلك اللحظة ذاتها، فبدت لعمي أجمل وأفتن مما كانت من قبل، وكان منها قريبا جدا أيها السادة. فهو في الواقع أولى بأن يعرف، وأحرى به خبيرا.» «قال: وما هي يا عزيزتي؟» «قالت: أتعدني أنك لن تحب على الدهر أحدا سواي، وأنك لن تتزوج يوما غيري؟» «وأقسم عمي جهد أيمانه أنه لن يتزوج امرأة سواها آخر الحياة، فردت رأسها عن النافذة وأغلقتها، ووثب هو إلى مكان السائق، واعتدل في مجلسه، وتناول السوط من فوق سطح المركبة، وضرب به الحصان الأول عن يساره فانطلقت الخيول الأربعة الطوال الأذناب المتدفقة المعارف بسرعة خمسة عشر ميلا في الساعة، وهي تجر مركبة البريد القديمة وراءها، كالعاديات ضبحا، والموريات قدحا، لا تلوي على شيء.» «واشتدت الجلبة خلفهما، وكلما أسرعت مركبة البريد المسير، ازدادت الأصوات صخبا، وزادت المسافة قربا بينها وبين المطاردين لها، رجالا وخيلا وكلابا حاشدين.» «وكانت الضوضاء مرعبة، ولكن صوت الحسناء كان أعلى جرسا منها، وهي تستحث عمي صارخة: أسرع، أسرع!» «وانطلقت المركبة بهما مارقة تجتاز أشباح الشجر، فتحيلها أشبه شيء بالريش في مهاب ريح صرصر، وما فتئت الحسناء تصيح به: أسرع، أسرع.» «وفي حماسة اللحظة، وحرج الموقف، ركل عمي بقدمه مؤخر المركبة ... فوجد الصبح قد تنفس، وتبين له أنه جالس في الفناء الذي يملكه تاجر المركبات فوق مقعد السائق في مركبة بريد قديمة، وهو يرعش من البرد والبلل ويضرب بقدميه لتدفئتهما.» «وترجل وراح يتطلع بلهفة في جوف المركبة إلى الغادة الحسناء ولكن وا أسفاه! لم يجد للمركبة بابا ولا مقعدا ولا متكأ . لقد كنت خاوية مجرد «محارة» فارغة.» «ولا ريب في أن عمي أدرك حق الإدراك أن في الأمر سرا يجهله، وأن كل شيء جرى تماما كما اعتاد أن يروي ولبث بارا بقسمه العظيم الذي أقسمه لتلك الغادة الحسناء، فرفض عدة ربات حانات صالحات للزواج وقضى أخيرا نحبه أعزب لم يبن منهن بواحدة.» «وكان أبدا يقول: إنه من الغريب أن يكتشف من مجرد تخطيه السور، بمحض المصادفة، أن أشباح مركبات البريد، والخيل، والحراس، والسائقين والركاب، اعتادت القيام بهذه الرحلات المنظمة في كل ليلة، وكان من عادته أن يضيف قائلا: إنه مؤمن بأنه الشخص الوحيد على قيد الحياة الذي أخذ مسافرا في إحدى تلك الرحلات، وأنا أعتقد أنه كان على حق أيها السادة؛ لأنني على الأقل لم أسمع بشيء كهذا عن أحد سواه.»
وقال رب الفندق وكان قد أصغى إلى القصة كلها باهتمام شديد: «إني لأعجب ماذا تحمل أشباح مركبات البريد في حقائبها وزكائبها؟»
وأجاب التاجر المتجول: «الخطابات الميتة
4
طبعا.»
وقال رب الفندق: «آه! آه! مؤكد! ولكن هذا لم يخطر لي ببال أبدا.»
punch
وهو شخصية تمثيلية مرحة يشبه «القرجوز» عندنا ولكن وجهه جميل وردي.
Finnan had dock .
إشارة إلى شدة الشهية.
يعبر الإنجليز عن الخطابات المهملة التي لا يهتدى إلى أصحابها بأنها ميتة. وقد أثبتناها هنا بعد الكلام على الأشباح والعفاريت مراعاة للنظير.
الفصل الخمسون
كيف بادر المستر بكوك إلى تأدية مهمته، وكيف عززه من البداية مساعد لم يكن في الحسبان مطلقا؟ ***
وأعدت الخيل في الموعد المضروب، وهو الساعة التاسعة إلا ربعا من صباح اليوم التالي، واتخذ كل من المستر بكوك وسام ولر مقعده من المركبة، فجلس أولهما في جوفها، والآخر في خارجها، وأمر السائق بالذهاب أولا إلى مسكن المستر بب سوير، لاصطحاب المستر بنجمين ألن.
ولم تكن دهشة المستر بكوك قليلة حين وقفت المركبة بالباب ذي المصباح الأحمر المنقوش عليه بأحرف واضحة «سوير-نوكمورف سابقا» فشهد، وهو يطل برأسه من النافذة، ذلك الغلام ذا الحلة السوداء منهمكا في إيصاد الباب، على غير المألوف في تلك الساعة من الصباح، فلم يلبث أن استخلص من هذا المشهد أمرا من اثنين، فإما أن صديقا مريضا من أصدقاء المستر بب سوير قضى نحبه، وإما أن المستر بب سوير نفسه قد أفلس.
وقال المستر بكوك للغلام: «ما الذي جرى؟»
وأجاب الغلام وقد مط فمه حتى امتد بعرض وجهه: «لا شيء يا سيدي.»
وانثنى المستر بب سوير يقول وقد ظهر فجأة لدى الباب يحمل حقيبة صغيرة من الجلد قذرة بالية بإحدى يديه، ويضع فوق ذراعه معطفا خشنا وملفعة: «لا بأس! إنني ذاهب يا صاح!»
وصاح المستر بكوك: «أنت!»
وأجاب بب سوير: «نعم، وسنجعل منها تجريدة منظمة، وأنت يا سام! ترقب وانتظر! وبعد أن استرعى أنظار المستر ولر على هذا النحو المختصر، دفع بالحقيبة الجلد في العربة وتولى سام في الحال تحريكها حتى استقرت تحته، وهو ينظر إلى ما يجري بإعجاب شديد. وحاول المستر بب سوير بعد ذلك الدخول بمساعدة الغلام في معطفه الخشن، وحشر نفسه فيه حشرا؛ لأنه كان ضيقا عليه نوعا ما، ثم تقدم إلى نافذة المركبة، وأدخل رأسه من خلالها، وانثنى يرسل ضحكات صاخبة.»
وقال وهو يسمح دموعه بأحد كميه: «يا لها من بداية! أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك بشيء من الارتباك: «يا سيدي العزيز، لم تكن لدي أية فكرة عن مرافقتك لنا.»
وأجاب بب وهو يمسك المستر بكوك من عروة ردائه: «نعم، وهذا هو الشيء الطريف فيها، هذه هي النكتة!»
وقال المستر بكوك: «آه! النكتة؟»
ومضى بب سوير يقول: «نعم، بطبيعة الحال، هذا هو لب الموضوع، وصميمه كما ترى؛ لأترك العمل يعنى بنفسه ما دام قد صمم على ألا يعنى بي.» وبهذا الشرح لسر إغلاق المحل، راح المستر بب سوير يشير إليه، ويعاود نوبة الضحك المصطخب.
وقال المستر بكوك بلهجة جد شديدة: «يا عجبا! ما أحسبك بلا شك من الجنون بحيث تترك مرضاك بلا أحد يعنى بهم.»
وأجاب بب: «ولم لا؟ ما دمت سأوفر بهذه الوسيلة، فليس من بينهم أحد يدفع أبدا.» وفضلا عن هذا - وهنا غض من صوته حتى جعله مخافتة بسر - «لن يضاروا بهذا الغياب في شيء؛ لأن الأدوية كادت تنفذ، ولست قادرا على زيادة حسابي في الحالة الراهنة، وكنت سأضطر إلى إعطائهم «كلوميل»
1
على طول الخط، وكان من المؤكد أنه سوف لا يناسب فريقا منهم، المسألة إذن سليمة من كل وجه.»
وكانت هذه فلسفة، وقوة منطق في ذلك الرد، لم يكن المستر بكوك يتوقعهما، فسكت لحظة ثم أردف يقول بلهجة أقل جدا من قبل: «ولكن هذه المركبة يا صديقي العزيز لا تتسع إلا لاثنين، وأنا مرتبط مع المستر ألن.»
وأجاب بب: «لا تحمل همي مطلقا، فقد رتبت كل شيء، فسأقاسم سام المقعد بيننا، انظر إن هذا الإعلان الصغير سيلصق على باب المحل وقد كتب فيه: سوير-نوكمورف سابقا! الاستعلامات تطلب من مسز كربس الساكنة على الناصية. وهذه السيدة هي أم غلامي، وقد أوصيتها أن تقول إذا سئلت عني: إن المستر سوير متأسف كل الأسف، فقد اضطر في الصباح الباكر إلى الذهاب للاشتراك في استشارة مع أكبر الجراحين في البلاد؛ لأنهم لم يستطيعوا الاستغناء عنه، وأصروا على دعوته مهما كلفتهم؛ لأن الحالة تستوجب إجراء جراحة ضخمة.» ومضى بب يختم شرحه قائلا: «والحقيقة إذن أن غيبتي ستنفعني أكثر مما تضرني، وإذا وصلت إلى الصحف، كانت سببا في ثرائي وعلو شأني، ها هو ذا بن! هيا اقفز إلى المركبة!»
وبهذه الكلمات السريعة راح المستر بب سوير يدفع السائق جانبا، ويعاون صديقه على الدخول، ويغلق الباب، ويرفع السلم، ويلصق الإعلان بباب الحانوت، ثم يغلقه ويضع المفتاح في جيبه، ويثب فوق المقعد، ويصدر الأمر بالمسير، وكل ذلك في سرعة بالغة غير مألوفة، فلم يتسع الوقت أمام المستر بكوك لأن يفكر هل ينبغي للمستر بب سوير الذهاب معهما أو لا؛ لأن المركبة انطلقت، وقد أصبح المستر بب سوير فعلا شريكا في الرحلة، بل جزءا منها لا يتجزأ.
ولبث بب الماجن واضعا منظاره الأخضر الذي يلازمه في المهنة، على عينيه، حريصا على الهدوء والجد والوقار، لا ينطق إلا بنكات «شفوية» لإضحاك المستر صمويل ولر وحده وتسليته. عندما انطلقت المركبة تخترق شوارع برستل ودروبها، ولكن ما كادت تجاوز بهم المدينة إلا الخلاء حتى خلع عنه منظاره، ووقاره كذلك، وانثنى يؤدي أنواعا منوعة من الدعابات والأمازيح العملية، يرمي بها إلى اجتذاب أنظار السابلة، ويجعل المركبة ومن حوت باعث عجب بالغ، ومدعاة دهشة غير عادية، وكان من بين هذه الحركات التي جعل يؤديها، أو قل أقلها ظهورا؛ تقليده صوت «بوق» شديد الدوي، مستطيل النفير واصطناع راية خفاقة من منديل حريري أحمر ربطه بعصا. وجعلها ترفرف في الفضاء بين حين وآخر، مشفوعة منه بحركات وإشارات تنم عن الجرأة المتناهية والتحدي التام.
وقال المستر بكوك، وقد وقف عن الكلام في وسط حديث هادئ رزين مع «بن آلن» جعل يشير فيه إلى عديد سجايا المستر ونكل ومواهب شقيقته: «يا للعجب، ما الذي يجعل كل الذين نمر بهم يحملقون فينا أبصارهم على هذه الصورة؟»
وأجاب بن آلن بشيء من الاعتزاز والفخار: «حسن منظرنا؛ لأنهم لم يألفوا رؤية هذا المظهر الرائع في كل يوم.»
وقال المستر بكوك: «جائز، قد يكون الأمر كذلك.»
وأكبر الظن أن المستر بكوك كان سيمضي في محاولة إقناع نفسه بأن الأمر حقا كذلك، لو لم تحن منه في تلك اللحظة نظرة من النافذة، فيتبين له منها أن نظرات المارة إنما تنم عن شيء أبعد ما يكون عن الدهشة الهادئة، وأن هناك إشارات برقية كثيرة تتبادل بينهم وبين أشخاص خارج المركبة، وخطر له عندئذ أن تلك الإشارات قد تكون إلى حد ما ذات صلة بشكل المستر بب سوير المضحك.
وقال المستر بكوك: «أرجو ألا يكون صاحبنا الممراح سمعنا في عبثه ونزقه فوق المقعد الخلفي.»
فأجاب بن آلن: «كلا، يا عزيزي كلا، إن بب أهدأ إنسان على وجه الأرض، إلا حين تستثار حماسته.»
وهنا طرق سمعهما صوت بوق مستطيل أو شبيهه، تلته هتافات وصيحات، بدت كأنها منبعثة من حلق أهدأ إنسان على وجه الأرض ومن رئتيه، أو بصريح القول، من المستر بب سوير نفسه.
وتبادل المستر بكوك والمستر بن ألن نظرات بليغة الدلالة، وخلع أولهما قبعته وأطل من النافذة حتى كاد يخرج منها إلى خاصرته، وتمكن أخيرا من إلقاء نظرة على صديقه العابث الماجن.
وكان المستر بب سوير جالسا، لا فوق المقعد الخلفي، بل فوق سطح المركبة، منفرج الساقين على آخر انفراجهما، واضعا قبعة المستر صمويل ولر على جانب من رأسه، وحاملا بإحدى يديه قطعة ضخمة من الشطائر وفي الأخرى زجاجة متوسطة الحجم، وهو مقبل على الطعام والشراب بشهوة شديدة، وكان يدخل أحيانا على هذا المنظر شيئا من التنويع لنفي الملالة بإطلاق زمجرة بين الفينة والفينة، أو تبادل مداعبات لطيفة مع أي غريب مار من الطريق، وكان العلم القرمزي مربوطا بإحكام بقضيب المقعد الخلفي، بينما راح المستر صمويل ولر وهو متجمل بقبعة بب سوير، جالس في الوسط، «يفحص»
2
شطيرة مثلها، بإقبال ونشاط، وتدل سحنته على رضا تام عن هذه الحركات والتصرفات.
وكان هذا كافيا لإثارة غضب رجل يحرص على آداب اللياقة والكرامة كالمستر بكوك، ولكن ذلك لم يكن وحده العامل المثير للاستياء، فقد مرت بهم في تلك اللحظة مركبة ملأى بالمسافرين في الداخل والخارج، وكانت دهشتهم لهذا المشهد جلية واضحة، كما كانت تهاني أسرة أيرلندية ظلت محاذية المركبة وهتافات أصحابها المستمرة، صاخبة مدوية، ولا سيما عميدها، فقد بدا كأنما اعتقد أن هذه الحركات جزء من موكب سياسي في فرح أو اغتباط بنصر مبين.
وصاح المستر بكوك وهو في هياج شديد: «يا مستر سوير، يا مستر سوير.»
وأجاب ذلك السيد وهو يطل من جانب المركبة بكل ما في العالم من هدوء: «نعم!»
وقال المستر بكوك: «هل جننت يا سيدي؟»
وأجاب بب: «كلا، ليس لدي ذرة من الجنون، ولكني فرح مسرور.»
وصاح المستر بكوك بعجب: «فرح مسرور! يا سيدي أنزل هذا المنديل الأحمر المعيب من فضلك، إنني مصر يا سيدي، أنزله قلت لك.»
وقبل أن يتدخل سام، أسرع المستر بب سوير فأنزل بكل رشاقة ذلك العلم فوضعه في جيبه وأومأ بأدب إلى المستر بكوك، ومسح فم الزجاجة ثم رفعها إلى شفتيه، ليقول بغير حاجة إلى الكلام إنه خصص هذه الرشفة من الشراب ليتمنى له غاية السعادة والرفاهية، ثم أعاد السداد بكل عناية إلى فم الزجاجة وأطل برفق على المستر بكوك وأخذ قضمة من الشطيرة وهو يبتسم.
وقال المستر بكوك، ولم يكن غضبه العارض مانعا له من التأثر بهدوء بب وامتلاكه سكينة نفسه: «أرجوك أن تكف عن هذا العبث.»
وقال بب وهو يعود إلى تبادل القبعتين مع المستر ولر: «لا، لا، لم أكن أقصد أن أفعل ذلك، ولكني شعرت بابتهاج شديد من هذه المركبة فلم أتمالك إرادتي.»
وقال المستر بكوك: «فكر في منظرنا هذا، واحرص ولو قليلا على المظاهر.»
وأجاب بب: «آه، بلا شك، هذا أمر لا يليق فعلا، انتهى يا سيدي.»
واطمأن المستر بكوك لهذا التوكيد، فأدخل رأسه ورفع زجاج النافذة، وما كاد يستأنف الحديث الذي قطعه عليه المستر بب سوير، حتى أجفل قليلا من ظهور شيء صغير أسود اللون مستطيل الشكل خارج زجاج المركبة، جعل يدق عليه دقات متوالية، كأنما هو في لهفة على الدخول.
وصاح المستر بكوك: «ما هذا؟»
وقال المستر بن ألن وهو ينظر إلى ذلك الشيء من خلال منظاره باهتمام: «إنه يبدو كزجاجة وأحسبها لبب.»
وكان هذا الظن صادقا، فقد عمد بب إلى الزجاجة فربطها في طرف العصا وراح يدق زجاج النافذة بها مبديا بهذه الحركة رغبته في إشراك صديقيه الجالسين في جوف المركبة في الشرب منها، رعاية للرفقة، وحرصا على الانسجام العام.
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى الزجاجة: «ما العمل؟ إن هذه الفعلة أكثر عبثا ونزقا من الأخرى.»
وأجاب المستر بن ألن: «أظن أن أحسن شيء هو أن نأخذها، انتقاما منه وتشفيا فيه، أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك: «هو كذلك، هل أجذبها؟»
وأجاب بب: «أعتقد أن هذا هو أنسب إجراء يمكن أن نتخذه.»
وكان هذا الرأي متفقا ورأي المستر بكوك تماما، فأنزل زجاج النافذة برفق، ونزع الزجاجة من العصا، وسحبت هذه إلى أعلى، وسمع صوت المستر بب سوير وهو يرسل ضحكة مجلجلة من أعماق قلبه.
وقال المستر بكوك وهو يلتفت إلى رفيقه والزجاجة في يده: «ما أشد مجون هذا الكلب!»
وأجاب المستر ألن: «هو كذلك فعلا.»
وقال المستر بكوك: «ولا يستطيع الإنسان أن يغضب منه.»
وأجاب بنجمن ألن: «هذا مستحيل.»
وكان المستر بكوك خلال تبادل العواطف على هذا النحو قد نزع السداد وهو شارد الخاطر وفتح الزجاجة.
وسأل بن ألن بغير اكتراث: «ما نوع الشراب الذي تحويه؟»
وأجاب المستر بكوك بغير اكتراث مماثل: «لا أدري، إنه شراب تشتم منه على ما أظن رائحة بنتش باللبن.»
قال بن: «أحقا؟»
وأجاب المستر بكوك دون أن يجزم برأي ثابت تحفظا وحرصا مخافة أن يكون مخطئا: «أظن أنه كذلك، ولكن لا تنس أنني لا أستطيع أن أقول جازما قبل أن أذوقه.»
وقال بن: «يحسن أن تفعل، فلا بأس من أن نعرف نحن أيضا ما هو.»
وأجاب المستر بكوك: «هل تظن ذلك؟ فليكن، وما دمت تريد أن تعرف، فلا مانع عندي طبعا.»
وبادر المستر بكوك وهو الذي يرغب على الدوام في التضحية بشعوره تحقيقا لرغبة صاحبه، كشيمته أبدا وديدنه، إلى أخذ رشفة طيبة منه ليتذوق ما في الزجاجة.
وقال بن ألن وهو يعاجله في شيء من القلق ونفاد الصبر: «ما هو؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يلعق شفتيه: «غريب، لا أكاد أعرف من رشفة واحدة»، وهنا تمهل لحظة ثم عاد بعد رشفة أخرى يقول: «أي نعم إنه بنتش فعلا.»
وتبادلا النظرات، وابتسم المستر بن ألن، ولكن المستر بكوك لم يبتسم، وقال هذا بشيء من القسوة: «إذا نحن لم ندع فيها قطرة واحدة، فإنه يستحق منا هذا الجزاء.»
وأجاب بن ألن: «هذا هو عين ما خطر لي.»
وقال المستر بكوك: «أحقا؟ إذن هأنذا أشرب في صحته»، وأقبل هذا السيد البديع على الزجاجة فجذب منها جذبة طيبة، وناولها لبن ألن، فلم يتردد هذا في احتذاء حذوه، وهنا أصبحت الابتسامات متبادلة وأخذ البنتش الممزوج باللبن يجترع شيئا فشيئا حتى الثمالة.
وقال المستر بكوك وهو يصفي آخر قطرة: «إن نكاته ودعاباته في الحقيقة مسلية جدا، وهي على كل حال لطيفة للغاية.»
وأجاب المستر بن ألن: «إنك محق.» وشرع يدلل على أن المستر بب سوير من أظرف الناس في العالم وأبرعهم دعابة بتشنيف سمع المستر بكوك ببيان مسهب معزز بالأمثلة، يقص فيه كيف شرب حتى وردته الحمى من فرط السكر فحلق شعر رأسه وكاد يمضي في سرد ماضيه اللطيف الحافل بالمجانة، لولا أن وقفت بهم المركبة بباب فندق «بل» في باركلي هيث لتغيير الخيل.
وقال بب وهو يطل عليهما من النافذة: «أريد أن أقول: هل سنتغدى هنا؟»
وقال المستر بكوك: «نتغدى! كيف هذا ونحن لم نقطع سوى تسعة عشر ميلا وأمامنا سبعة وثمانون ونصف أخرى.»
وقال المستر بب سوير: «وهذا سبب يقتضي تناول شيء يعيننا على احتمال التعب.»
وأجاب المستر بكوك وهو ينظر إلى ساعته: «آه، مستحيل أن نتغدى في منتصف الساعة الثانية عشرة صباحا.»
وقال بب: «ليكن شيئا نصطبر به، فهو الشيء المطلوب تماما. يا هذا! طعام خفيف لثلاثة أشخاص في الحال، واحجز الخيل ربع ساعة، قل لهم أن يضعوا كل ما لديهم من اللحوم الباردة، على المائدة، وزجاجة من الجعة، ودعنا نذق أحسن ما عندكم من نبيذ الماديرا.» وبعد أن أصدر المستر بب سوير هذه الأوامر بكل عظمة وضجة ونشاط أسرع إلى داخل الفندق ليشرف على التدابير، ولم تنقض بضع دقائق حتى عاد وأعلن أن كل شيء على غاية ما يرام.
وكان الطعام في الواقع أقوى مبرر لذلك الثناء المستطاب الذي أبداه بب فأقبلوا عليه يؤدون له حقه من الإنصاف، ولم يقتصر ذلك على بب سوير بل شمل المستر بن ألن والمستر بكوك على السواء، وراحوا جميعا يأتون بسرعة على زجاجة الجعة والنبيذ، ثم عادوا بعد أن أسرجت الخيل إلى مقاعدهم، وقد ملأوا الزجاجة القديمة بخير بديل من البنتش باللبن الذي كان فيها، على قصر الوقت الذي أعدت فيه، وأطلق بب سوير «البوق»، ورفع العلم الأحمر، دون أن يجد من المستر بكوك في هذه المرة أقل اعتراض.
وأمام فندق «هب بول» في «توكسبوري » وقفت المركبة بهم ونزلوا لتناول الغداء. فجيء إليهم بمزيد من الجعة المعبأة في الزجاج وقدر أوفر من «الماديرا» إلى جانب شيء من البورت، وهنا ملئت الزجاجة السوداء للمرة الرابعة، ولبث المستر بكوك والمستر بن ألن في سبات عميق من أثر تلك الأشربة مجتمعة، مسافة ثلاثين ميلا، بينما راح بب والمستر ولر فوق المقعد الخلفي يغنيان.
وكان الظلام قد غمر الأفق حين غالب المستر بكوك النوم، وتمكن من الإطلال من النافذة، فإذا الأكواخ القائمة على جانب الطريق، والسواد الذي يغمر كل شيء تستطاع رؤيته على عتمة الغسق وفحمة الأفق، والدروب المليئة بالرماد والفحم الرجيع وتراب الطوب، ووهج الأفران من مكان بعيد، وذوائب الدخان الكثيفة، المنبعثة من شواهق المداخن، الحاجبة كل ما حولها من الأشياء، ووميض الأنوار النائية، والمركبات الموسوقة وهي تسير وئيدة، رازحة تحت أحمالها الثقال من أسياخ الحديد وهي تهتز وتتلاقى فتحدث صليلا ظاهرا، وأعبائها المكدسة من السلع والبضائع الضخمة، كل هذه تنم عن سرعة المقترب من المصانع الكبرى التي تملأ جنبات مدينة برمنجهام المشهورة.
وفيما كانت المركبة تجلجل بهم خلال الدروب الضيقة المؤدية إلى قلب تلك المدينة العاجة الشديدة الضوضاء، بدت مشاهد العمل وأصواته ومناظره أشد وطأة على الحواس، وأكثر طغيانا على المشاعر، وتراءت الشوارع مزدحمة بالصناع والعمال، وترددت أصدية الكد والكدح في كل مكان، وسطعت الأضواء من النوافذ الطوال في الطباق العالية، وراحت أصوات الآلات والعجلات تهز الجدران هزا، وبدت النيران، التي كان لهيبها الممتقع الباهت يلوح للعين من أميال بعيدة، متوهجة مضطرمة في مصانع المدينة ومعاملها المترامية المدى، وكانت أصوات المطارق والأبخرة المتصاعدة، وجلجلة الآلات الثقال والمحركات الضخمة هي الموسيقى المنبعثة من كل ناحية ذاهبة أنغامها المصطخبة في أجواز الفضاء.
وكان السائق يمرق بالمركبة من خلال الشوارع المفتوحة، وقبالة الحوانيت الجميلة الساطعة الأضواء، القائمة بين أرباض المدينة وبين فندق «أولد رويال»، قبل أن يبدأ المستر بكوك يفكر في المهمة الدقيقة الشاقة التي حملته إلى ذلك المكان.
ولم يكن مجيء المستر بب سوير من تلقاء نفسه مخففا من مشقة المهمة ودقتها في شيء، والحق يقال: إن المستر بكوك أحس أن صحبته لهما في هذه الرحلة، على ما فيها من لطف ومسرة لم تكن شرفا يسره التماسه، بل الواقع أنه كان مرتضيا أن يدفع بسرور قدرا كبيرا من المال في سبيل إبعاد المستر بب سوير بغير إبطاء إلى أي مكان لا تقل المسافة بينه وبين هذه المدينة عن خمسين ميلا.
ولم يكن قد سبق للمستر بكوك الاتصال شخصيا بالمستر ونكل الكبير، وإن كان قد راسله مرة أو مرتين بالبريد، وكانت ردوده هو مرضية على أسئلته بشأن أخلاق ابنه وسلوكه، فلا عجب إذا هو شعر باضطراب؛ لأن لقاءه لأول مرة مصطحبا بب سوير وبن ألن، وهما سكرانان إلى حد ما لم يكن أصلح ولا أرجح وسيلة يصح أن يتوسل بها لكي يظفر بتقديره واستمالته إليه.
وقال المستر بكوك وهو يحاول إعادة الطمأنينة إلى خاطره: «ولكن من المحتم أن أبذل أقصى جهدي، ولا بد لي من لقائه الليلة؛ لأني وعدته بذلك، وإني لبار بموعدي، فإذا أصرا على مصاحبتي، فلأجعلن الحديث موجزا ما استطعت، ولأقنعن بالأمل في تحاميهما تعريض نفسيهما للفضيحة والمعاب لمصلحتهما هما نفسهما.»
وفيما كان يناجي النفس بهذه الأفكار وأمثالها، وقفت المركبة بباب فندق «أولد رويال»، وبعد أن استيقظ بن ألن قليلا من نوم مذهل عميق وتولى المستر صمويل ولر سحبه من طوقه، نزل المستر بكوك من المركبة، وتقدم غلام في الفندق بهم إلى حجرات مريحة، وبادر المستر بكوك إلى سؤال الغلام عن مقر المستر ونكل.
وأجاب الغلام قائلا: «قريب منا يا سيدي، لا يبعد أكثر من خمسمائة ياردة. إن المستر ونكل «ناظر الرصيف» يا سيدي، رصيف القناة يا سيدي، وداره لا تبعد، نعم يا سيدي لا تبعد، أكثر من خمسمائة ياردة يا سيدي»، وهنا أطفأ الغلام شمعة وتظاهر بإضاءتها مرة أخرى؛ لكي يهيئ للمستر بكوك الفرصة لتوجيه أية أسئلة أخرى إذا شاء.
وقال الغلام وهو يشعل الشمعة حين يئس من صمت المستر بكوك: «هل تأمرون بشيء الآن يا سيدي ؟ قهوة أو شاي يا سيدي، غداء يا سيدي؟» - «لا شيء الآن.» - «جميل جدا يا سيدي، هل تحب أن تأمر بإعداد عشاء يا سيدي؟» - «لا شيء في هذه اللحظة.» - «جميل جدا يا سيدي.»
ومشى الغلام برفق إلى الباب، ولكنه وقف ثم استدار وقال بلطف بالغ: «هل أرسل الوصيفة المكلفة بحجرات النوم أيها السادة؟»
وأجاب المستر بكوك: «افعل إذا أحببت.»
وقال الغلام: «بل إذا أحببت أنت يا سيدي.»
وقال بب سوير: «وأحضر قليلا من ماء الصودا.»
وقال الغلام: «ماء الصودا يا سيدي؟ سمعا وطاعة يا سيدي»، وما لبث الخادم أن توارى منصرفا، كأنه قد أزيح عنه عبء ثقيل كان يشغله، حين تلقى أخيرا أمرا بإحضار شيء ما، وإذا قلنا: توارى فلا عجب؛ لأن المعروف عن غلمان الفنادق أنهم لا يمشون، ولا يجرون بل إن لهم مقدرة خاصة، لم يؤتها أحد من الناس، وهي الاختفاء عن العين، والتسلل قبل أن يشعر بهم مخلوق.
وظهر شيء من أعراض النشاط والإفاقة من النوم على المستر بن ألن عقب تناول الصودا وقبل إلحاح صاحبيه عليه في وجوب غسل وجهه ويديه، وقيام سام بتنفيض ثوبه، وبعد أن فرغ المستر بكوك وبب سوير أيضا من إصلاح ما أفسدته الرحلة من هندامهما، انطلق الثلاثة ذراعا لذراع إلى دار المستر ونكل، وقد مضى بب سوير يعبق الجو بدخان التبغ وهو ذاهب في سبيله.
وكانت دار المستر ونكل على مسيرة ربع ميل من الفندق، في شارع كبير، وهي دار مشيدة بالطوب الأحمر ذات ثلاث مدارج بالقرميد، وعلى الباب لوح نحاسي تشع منه بأحرف كبار كلمتان، وهما «المستر ونكل»، ويبدو رخام السلم ناصع البياض، والطوب الأحمر قاني الحمرة ويلوح البيت نظيفا آية في النظافة، وهنا وقف المستر بكوك، والمستر بنجمن ألن، والمستر بب سوير، على دقة العاشرة.
وجاءت خادم رشيقة على طرق الباب تفتحه فأجفلت حين أبصرت أولئك الثلاثة الغرباء.
وسألها المستر بكوك: «هل المستر ونكل هنا يا عزيزتي؟»
وأجابت الفتاة: «إنه اللحظة يهم بتناول العشاء يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «خذي من فضلك هذه البطاقة إليه، ونبئيه أنني آسف لإزعاجه في هذه الساعة المتأخرة، ولكني متلهف على لقائه الليلة ولم أصل إلى المدينة إلا منذ لحظة.»
ونظرت الفتاة إلى بب سوير مستحيية متهيبة؛ لأنه راح يبدي إعجابه بمفاتنها بعدة حركات وإشارات عجيبة، ويلقي نظرة على القبعات والمعاطف المعلقة في الردهة، ونادت خادما أخرى لتحرس الباب، ريثما تصعد هي إلى الطبقة العليا من البيت، ولم تلبث الحارسة أن أعفيت من الحراسة؛ لأن الفتاة عادت على الأثر، واستسمحت السادة لتركهم وقوفا في الطريق، وتقدمتهم إلى غرفة خلفية مفروشة الأديم تبدو وسطا بين غرفة مكتب وبين غرفة ثياب، كان أنفع ما فيها وأجمل رياشا منضدة، ومغسلا، ومرآة للحلاقة، ورفا للأحذية، ومقلعا لها، وكرسيا عاليا، وأربعة مقاعد، ومنضدة، وساعة جدار قديمة تملأ كل ثمانية أيام، وفوق رف المصطلى أبواب خزانة حديدية غائرة، وتزدان الجدران برفين للكتب، والتقويم، وعدة ملفات من أوراق علاها الغبار.
وقالت الخادم وهي تشعل مصباحا وتبتسم ابتسامة جذابة للمستر بكوك: «آسفة أشد الأسف لترككم وقوفا بالباب يا سيدي، ولكني لم أكن أعرفكم، وفي المدينة خلق كثير من الشرد الهيم لا يجيئون إلا ليروا ما في إمكانهم أن يضعوا أيديهم عليه حتى لقد ...»
وعاجلها المستر بكوك قائلا بلطف: «لا داعي مطلقا لأي اعتذار يا عزيزتي.»
وقال بب سوير مداعبا وهو يبسط ذراعيه ويطفر من جانب إلى آخر، كأنما يريد أن يمنع الفتاة من الخروج: «لا موجب لأقل اعتذار يا عزيزتي.»
ولكن هذا التلطف الشديد لم يلن مطلقا من جد الفتاة؛ لأنها أبدت في الحال رأيها في المستر بب سوير، قائلة: إنه «مخلوق شنيع»، وحين أمعن في المغازلة وألح، راحت تطبع أناملها الحسان في وجهه خدشا، وقفزت من الغرفة قفزا، وانصرفت وهي تشبعه مقتا واحتقارا.
وما أن حرم المستر بب سوير من محضر الفتاة، حتى انثنى يتلهى بفتح الدرج ورؤية ما فيه، والبحث في قماطر المائدة، والتظاهر بأنه يحاول فتح الخزانة، ويعبث بالتقويم فيجعل وجهه إلى الجدار، ويجرب أحذية المستر ونكل الكبير فينتعلها فوق حذائه، وغير ذلك من مختلف صنوف العبث بكل ما في الغرفة من الأثاث، فكان ذلك كله يبعث في نفس المستر بكوك أشد الاستنكار والألم، ويثير في نفس المستر بب سوير ما يعدلهما من المرح والسرور.
وأخيرا فتح الباب، ودخل الحجرة رجل نحيل كبير السن في حلة بنية اللون، وله رأس ووجه يبدوان مماثلين لرأس ونكل الصغير ووجهه إلا أنه كان أصلع الهامة، وكان يحمل بطاقة المستر بكوك بإحدى يديه، وماثلة من الفضة بالأخرى.
وقال المستر ونكل الكبير وهو يضع الماثلة ويبسط يده: «المستر بكوك، كيف حالك يا سيدي؟ أرجو أن تكون موفور العافية. يسرني لقاؤك، تفضل بالجلوس يا مستر بكوك، وهذا السيد هو ...»
وعاجله المستر بكوك قائلا: «صديقي المستر سوير، وصديق ابنك.»
وأجاب المستر ونكل الكبير، وهو ينظر إلى بب سوير نظرة عابسة: «أرجو أن تكون أنت بخير يا سيدي.»
سفر مستر بب.
وأجاب بب سوير: «سالم يا سيدي كركيزة الحلة المثلثة الأرجل.»
وقال المستر بكوك: «وهذا السيد الآخر كما سترى بنفسك حين تقرأ الكتاب الذي وكلت في حمله إليك ذو صلة وثيقة، أو أولى بي أن أقول: إنه صديق حميم لولدك ويدعى ألن.»
وسأل المستر ونكل وهو يشير بالبطاقة إلى بن ألن، وكان النوم قد استولى عليه فلم يعد يبدو منه غير ظهره وطوق ردائه: «أتعني ذلك السيد؟»
وهم المستر بكوك بالرد على هذا السؤال وذكر اسم المستر بنجمن ألن كاملا والتوسع في سرد مزايا، لولا أن عمد المستر بب سوير الماجن إلى تنبيه صاحبه من نومه إلى حرج الموقف، بعرك الجزء اللحمي من ذراعه عركا شديدا جعله يقفز صارخا، ولم يكد يدرك فجأة أنه في حضرة غريب، حتى تقدم وراح يهز يد المستر ونكل هزة مودة شديدة بكلتا يديه نحو خمس دقائق، وهو يغمغم بكلمات متقطعة غير مفهومة، للتعبير عن سروره العظيم برؤيته، والسؤال بكرم وحفاوة هل يحب أن يتناول شيئا بعد رياضته الطويل أم يفضل الانتظار إلى أوان العشاء.» وما كاد ينتهي من هذه الغمغمة حتى جلس وانثنى يتلفت حوله محملقا ذاهلا كأن ليس لديه أية فكرة عن المكان الذي هو فيه، والحق أن ذلك كان هو الواقع.
وكان ذلك كله مثارا لارتباك المستر بكوك الشديد، ولا سيما بعد أن فطن إلى الدهشة الواضحة المعالم على وجه المستر ونكل الكبير، من هذا السلوك الشاذ - ولا نقول العجيب - الذي بدا من رفيقيه، ولكي ينهي الموقف في الحال، أخرج كتابا من جيبه، وقدمه إلى المستر ونكل وهو يقول: «إن هذا الكتاب يا سيدي مرسل إليك من ولدك، وسترى من فحواه أن سعادته ورغده مرتهنان بعطفك الأبوي ورعايتك وحنانك. فهلا تفضلت علي فقرأته بكل هدوء وسكينة، وبحثت فيه بعدئذ معي بالروح والشعور اللذين يستحق الكتاب البحث فيه بهما. وإنك لتحكم بنفسك في مدى خطورة قرارك بالنسبة إلى ابنك، وشدة لهفته على معرفته، بقدومي عليك، بلا سابق إعلان، في هذه الساعة المتأخرة»، وهنا راح ينظر إلى رفيقيه نظرة عابرة، ثم أضاف قائلا: «وفي هذه الظروف غير الملائمة.»
وبهذه المقدمة وضع المستر بكوك في يدي المستر ونكل الكبير الذي استولت عليه الدهشة إلى أقصى حد، أربع صفحات مكتوبة على ظاهرها وباطنها، ومستفيضة بأرق ما يكون التكفير، والتماس الصفح، والاستعطاف، ثم عاد إلى مجلسه، وطفق يرقب بلهفة حركة وجه الرجل واختلاجاته، وهو في لهفة حائرة في الواقع، ولكن براحة ضمير وطمأنينة سريرة، شأن الرجل الذي يشعر بأنه لم يفعل شيئا يقتضي شفاعة أو يحتاج إلى اعتذار.
وقلب الشيخ ناظر الرصيف، الكتاب بين يديه وتطلع إلى ظاهره، وباطنه، وجانبيه، وتناول صورة الغلام البدين المرسوم على «الخاتم» بفحص دقيق، ورفع بصره إلى وجه المستر بكوك، ثم جلس فوق الكرسي الطويل، وقرب المصباح منه، وفض الغلاف، ونشر الكتاب، ورفعه إلى النور، وتهيأ للقراءة.
وفي تلك اللحظة بالذات، انثنى المستر بب سوير - وكان مجونه قد هدأ بضع دقائق - يضع يديه فوق ركبتيه ويؤدي حركات بوجهه، على نحو ما يفعل الماجنون والمهاذير، وصادف أن حانت نظرة من المستر ونكل من فوق حافة الخطاب، إلى المستر بب سوير نفسه ، فكف عن القراءة، وذهب به الظن - وله العذر - أن تلك الحركات إنما أريد بها السخرية منه والهزؤ به، فحدج بب بنظرة عابسة متجهمة جعلت وجه ذلك العابث الماجن يعود شيئا فشيئا إلى اتخاذ سمات المذلة والاضطراب.
وقال المستر ونكل بعد صمت رهيب: «هل تكلمت يا سيدي؟»
وأجاب بب، ولم يعد على وجهه لذلك العبث أثر، سوى اشتداد احمرار خديه: «كلا يا سيدي.»
وعاد المستر ونكل يقول: «هل أنت متأكد يا سيدي أنك لم تتكلم؟»
وأجاب بب: «أي نعم يا سيدي كل التأكد.»
وقال الشيخ في لهجة توكيد وغضب: «لقد ظننتك قد تكلمت. ألعلك نظرت إلي يا سيدي؟»
وأجاب بب بأدب متناه: «كلا يا سيدي، إطلاقا.»
وقال المستر ونكل: «يسرني أن أسمع ذلك يا سيدي.»
وعاد الشيخ بعد أن تجهم لبب الذي انزوى خجلان مستحييا، تجهما مقترنا بترفع شديد، عاد إلى الكتاب فأدناه من النور، وبدأ يقرأه باهتمام.
ولبث المستر بكوك يحدق فيه مليا بعينه، حين انتهى من قراءة آخر سطر في ذيل الصفحة الأولى، وبدأ يطالع السطر الأول من الصفحة الثانية، ومنها آخر سطر في هذه الصفحة إلى أول سطر في الصفحة الثالثة، ومن آخر سطر في الصفحة الثالثة إلى أول سطر في الرابعة، فلم يدرك على وجهه أي تغير يمكن أن ينم عن خافية شعوره عند علمه بنبأ زواج ابنه، وكان المستر بكوك يعرف أن هذا النبأ وارد في بضعة الأسطر الأولى من ذلك الكتاب.
وقرأ الشيخ الكتاب إلى السطر الأخير، ثم طواه كما كان بكل ما يتصف به رجل الأعمال من حرص ودقة، وفي اللحظة التي كان المستر بكوك يتوقع فيها أن يشهد فورة شعور شديدة من الشيخ، انثنى هذا يغمس قلما في الدواة ويقول بكل هدوء كأنه يتحدث عن مسألة عادية محض: «ما عنوان نثنايل يا مستر بكوك؟»
وقال هذا: «فندق جورج والرخم في الوقت الحاضر.»
وأجاب الشيخ: «جورج والرخم، وأين ذاك؟» - «جورج يارد شارع لومبارد.» - «أفي المدينة هو؟» - «نعم.»
ومضى الشيخ في رفق وسكون يكتب العنوان على ظهر الكتاب، ثم وضعه في الدرج وأغلقه، وقال وهو يهبط من الكرسي العالي ويدس مجموعة المفاتيح في جيبه: «أظن أن ليس ثمة شيء آخر يقتضي احتجازنا يا مستر بكوك؟»
وأجاب هذا السيد الودود العطوف في دهشة غاضبة: «لا شيء آخر يا سيدي العزيز. لا شيء آخر! إلا من رأي تبديه في هذا الحدث العظيم المتصل بحياة صديقنا الشاب؟ ألا من توكيد أحمله إليه، لاستمرار حبك له، ورعايتك لشأنه؟ ألا من شيء يقال له ليفرحه ويطمئنه، ويدخل السرور على فؤاد الفتاة المتلهفة التي تلتمس عنده الهناءة وتنشد العون؟ يا سيدي العزيز، فكر في الأمر وتدبر.»
وأجاب الشيخ: «سأفكر، ولكن ليس لدي الآن شيء أقوله. إنني رجل أعمال يا مستر بكوك، فليس من شأني مطلقا التسرع في الالتزام بشيء في أي أمر من الأمور، ومما رأيته من هذا كله لا تروقني الظواهر، إن ألف جنيه ليست بالشيء الكثير يا مستر بكوك.»
وهنا تدخل بن ألن، وكان قد استيقظ في تلك اللحظة وعرف أنه قد أضاع الألف الجنيه التي كانت له بلا أقل جهد: «أنت على حق يا سيدي، أنت رجل ذكي فطن، يا بب إنه لرجل عليم خبير هذا!»
وقال المستر ونكل الكبير وهو ينظر بسخرية وازدراء إلى بن ألن، وكان هذا يهز رأسه هزا عنيفا: «يسرني يا سيدي أنك تنصفني بهذا الإقرار.» وهنا التفت إلى المستر بكوك ومضى يقول: «والواقع يا مستر بكوك أنني حين أذنت لابني بالتجوال في المدائن لقضاء عام أو نحوه في التنقل بين الناس، ورؤية أخلاقهم، واختبار طبائعهم - وهو ما فعله بإشرافك - حتى لا يدخل معترك الحياة غلاما ساذجا ليس له من التجارب أكثر من تلميذ في مدرسة داخلية، ولا فطانة فيه لأخاديع الناس وأحابيلهم، لم أساومه في ذلك ولم أشارطه، وهو يعرف ذلك حق المعرفة، فإذا أنا تنكرت له من أجله، فلا حق له في الدهشة مني والعجب، وسيسمع مني رأيي يا مستر بكوك، طاب ليلك يا سيدي! يا مارجرت افتحي الباب.»
وكان بب سوير طيلة الوقت يكرز بكوعه المستر بن ألن ليقول قولا كريما، فلم يكن منه عندئذ إلا أن اندفع بلا أدنى نذير، أو تمهيد، في بيان موجز، وإن كان بليغا مليئا بالحماسة والانفعال، فقال وهو ينظر إلى الشيخ بعينين قاتمتين فاترتين، ويهز ذراعه اليمنى بشدة، رافعا خافضا: «سيدي أحرى بك أن تخجل من نفسك.»
وأجاب المستر ونكل الكبير: «أنت بالطبع خير من يحكم في الموضوع؛ لأنك شقيق السيدة والآن حسبنا. وأرجو أن تكتفي بهذا يا مستر بكوك. طاب ليلكم أيها السادة.»
وتناول الشيخ الماثلة وفتح باب الغرفة وأشار بأدب إلى الدهليز.
وقال المستر بكوك وهو يزم شفتيه ويطبق أسنانه ليقمع غضبه؛ لأنه شعر بمدى الأثر البالغ الذي سوف يحسه صديقه الشاب: «ستندم على هذا الذي كان منك يا سيدي.»
وأجاب المستر ونكل الكبير بهدوء: «إن رأيي في الوقت الحاضر يختلف عن رأيك، مرة أخرى أيها السادة أتمنى لكم ليلة طيبة.»
ومشى المستر بكوك بخطى غضاب إلى الطريق، وكذلك فعل المستر بب سوير الذي بهت لقرار الشيخ وتصرفه، وتدحرجت قبعة المستر بن ألن فوق مدارج السلم على الأثر، وتبعها هو مباشرة، وانصرف الثلاثة صامتين بلا عشاء إلى مراقدهم، ومضى المستر بكوك قبل أن يهبط وادي الكرى يقول لنفسه: إنه لو كان يعرف من قبل أن المستر ونكل الكبير رجل أعمال من هذا النوع المفرط في الجمود لكان من المرجح كل الترجيح ألا يتولى هذه المهمة التي أوفد من أجلها إليه.
calomel
نوع من الدواء، مركب من الزئبق وغاز الكلور.
أي: يأكل.
الفصل الحادي والخمسون
كيف كان لقاء المستر بكوك برجل يعرفه من قديم، وكيف يشعر القارئ بأنه مدين بالشيء الكثير مما سيجده من الاهتمام البالغ بشأن رجلين مشتغلين بالحياة العامة، وشديدي البأس والسلطان، لتلك الظروف الموفقة التي جمعت بين المستر بكوك وبينهما. ***
ولم يكن النهار الذي طلع على المستر بكوك، حين نهض من فراشه، في الثامنة، منتظرا أن يسري عن نفسه، أو يرفع من روحه ونشاطه، أو يخفف من ضيق الصدر الذي أحدثته نتيجة سفارته، والاكتئاب الذي استولى عليه. فقد كانت السماء قاتمة، والجو مكفهرا، والهواء رطبا باردا، والشوارع مبللة موحلة، والدخان متجمعا متكاثفا فوق رءوس المداخن، كأنما أعوزته الشجاعة وفقد الجرأة، على التصاعد في أطباق الفضاء، والمطر يتساقط بطيئا متراخيا، كأنما لا يجد روحا إلى التدفق والانسكاب، وقد بدا «ديك» من الديكة المدربة على الشجار، في فناء الاسطبل، فاترا لا ينزع كعادته إلى الحركة، ولا يستروح إلى النشاط، متوازنا في كآبة على إحدى ساقيه في ركن، كما ظهر حمار تحت السقيفة مطأطئ الرأس، تنم سحنته الساهمة الكالحة عن التفكير في الانتحار، ولم تكن العين تقع في الشوارع على شيء غير المظلات، ولا تسمع الأذن غير أصوات الأحذية الخشبية ورشاش المطر.
ولم يتخلل طعام الفطور غير حديث قصير، وحتى المستر بب سوير نفسه شعر بتأثير الجو وما جرى في الليلة الماضية من اهتياج، ووصف ما به في لغته الخاصة بقوله: «إنه سطيحة»، تعبيرا عن الفتور والخمود، وكذلك كان المستر بن ألن، والمستر بكوك.
وعكف الجماعة في انتظار عودة الجو إلى الصفاء على قراءة الصحيفة المسائية الواردة من لندن، وإعادة قراءتها باهتمام شديد، لا يلجأ الناس إليه إلا في حالات الفراغ التام من كل عمل، أو لهو، ولم يبق بوصة واحدة من البساط المفروش في الحجرة إلا ديست بالأقدام من كثرة الجيئة والذهاب في أرجائها، كما كثر الإطلال من النوافذ إلى حد يشعر بأنه أضحى واجبا إضافيا فرض عليهم فرضا، وابتدأوا الحديث في مختلف الشئون ثم انقطعوا عن متابعتها سآمة وضجرا حتى حانت الظهيرة، ولما يتحسن الجو، فلم يسع المستر بكوك إلا أن يدق الجرس بعزم ويأمر بإعداد المركبة.
وكانت الطرق كثيرة الأوحال، وتساقط الرذاذ أشد مما كان من قبل، والوحل والماء يرتفعان فيصدمان نوافذ المركبة إلى حد مزعج للراكبين في جوفها، والجالسين خارجها، ولكن الشعور الغالب على هذا الإزعاج، بأن الحركة والمسير والتنقل أهون وطأة على النفس من الاحتجاز في غرفة قاتمة، والإطلال على المطر البليد في الطريق القفر، جعلهم متفقي الرأي حين انطلقت بهم المركبة على أن هذه النقلة كانت خيرا وأجدى، يتساءلون من العجب كيف تراخوا في الإقدام عليها كل ذلك الوقت الطويل، ولم يعمدوا من البداية إليها.
وعندما وقفوا لتغيير الخيل في «كفنتري» كانت الأبخرة المتصاعدة من الجياد متكاثقة إلى حد حجب شبح السائس عن أبصارهم، وإن بلغ أذانهم صوته وهو يعلن من خلال الغمام أنه ينتظر الظفر «بالمدلاة الذهبية» من الجمعية الخيرية في اجتماعها القادم لتوزيع الجوائز، جزاء له على مبادرته إلى نزع القبعة عن رأس السائق؛ لأن الماء المتساقط من حاشيتها كان حتما مغرقة لولا سرعة بديهته، وبداره إلى انتزاعها من فوق هامته، وتجفيف وجهه وهو يلهث متقطع الأنفاس، بحزمة من القش.
وقال المستر بب سوير، وهو يرفع طوق سترته، ويسحب طرف الملفعة عل فمه لكي يحصر البخار المتصاعد من كأس من البراندي فرغ في تلك اللحظة من ابتلاعها: «هذا شيء لطيف.»
وأجاب سام بهدوء: «جدا.»
وقال بب: «ولكن لا يبدو عليك اهتمام به.»
وقال سام: «لا أرى فائدة ما في اهتمامي به.»
وقال بب: «هذا سبب مسكت على أية حال.»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، إن الواقع هو الحق، كما قال الشاب الوجيه بلطف حين وضعوا اسمه في كشف أرباب المعاشات؛ لأن جد زوجة خال أمه أشعل في ذات مرة قصبة تبغ الملك من علبة ثقاب صغيرة.»
وقال المستر بب سوير باستحسان: «هذه فكرة ليست رديئة يا سام.»
وأجاب سام: «هذا هو ما كان يردده الشاب الوجيه من يوم قبض المعاش إلى بقية العمر.»
وراح سام يسأله، وهو ينظر إلى السائق، بعد صمت قصير، مخافتا بصوته كأنه يهمس بسر: «ألم تدع مرة وأنت تتمرن على «نشر العظام» للكشف على أحد السائقين؟»
وأجاب بب: «لا أذكر أني دعيت في يوم من الأيام.»
قال: «ألم تكشف مرة على سائق في المستشفى وأنت مار على المرضى، كما يقال عن الأشباح والعفاريت؟ ألم تفعل؟»
وأجاب بب: «كلا، لا أظنني فعلت.»
قال سام وهو يواصل استجوابه: «ألم تعرف مقبرة حوت قبر سائق أبدا، أو رأيت سائقا ميتا في يوم من الأيام؟»
وأجاب بب: «كلا، لم يحدث.»
وقال سام فرحا طروبا بانتصاره: «كلا!، لم يحدث، ولن يحدث، وهناك شيء آخر يستحيل على الإنسان أن يراه، وهو الحمار الميت، فما رأى إنسان حمارا ميتا في يوم من الأيام، اللهم إلا ذلك السيد الذي كان مرتديا سراويل قصارا من الحرير الأسود ويعرف أن المرأة الشابة كانت تربي «جديا» ولكنه كان حمارا فرنسيا، وأغلب الظن أنه لم يكن حمارا من الحمير الأصيلة.»
وقال بب سوير: «وما علاقة هذا كله بالسائقين؟»
وأجاب سام: «انتظر، لست أريد أن أجزم كما يفعل العقلاء بأن السائقين والحمير مخلدون لا يموتون أبدا، أقنع أنا بالقول: أنهم عندما يشعرون بأنهم تيبسوا وعجزوا عن تأدية العمل، يركبون معا وينطلقون، كل سائق مع اثنين من الحمير كما جرت بذلك العادة، ولا يعرف أحد من الناس ماذا صار إليه أمرهم، ولكن من المرجح جدا أنهم يذهبون ليتمتعوا في دنيا أخرى، ما دام الناس لا يرون في حياتهم حمارا ولا سائقا متمتعا ولا واجدا راحة في دنيانا هذه!»
وأفاض سام في شرح هذه النظرية العلمية الرائعة وأورد عدة إحصاءات غريبة، واستشهد بكثير من الوقائع على صحتها، وبذلك صرف الوقت في الكلام والدعابة حتى وصلوا إلى «ضنتشرتش» حيث ظفروا بسائق آخر لم يبلله المطر، وجياد مستريحة لم تجهد بعد، وكانت الوقفة التالية في دفنتري والتالية في «تاوسستر»، وكان المطر في نهاية كل مرحلة منها أشد مما كان في بدايتها.
وقال بب سوير محتجا وهو ينظر من النافذة حين وقفت بهم المركبة أمام فندق «سرسنزهد» (رأس العربي) في «تاوسستر»: «اسمعا، إن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر.»
وقال المستر بكوك، وهو يصحو من إغفاءة قصيرة: «يا للعجب! إني أراك مبتلا.»
وأجاب بب: «آه! وأنت ألست كذلك؟ إنني فعلا مبتل قليلا، بل ربما أكون في رطوبة تسبب لي بعض التعب.»
وكان بب في الواقع مبللا تتساقط قطرات المطر من رقبته، ومرفقيه وردنيه، وثيابه، وركبتيه، كما كانت ملابسه تلمع من البلل، حتى ليخطئ الناظر فيحسبها حلة مفصلة كاملة من المشمع.
وقال بب، وهو يهز جسده ويرسل رشاشا من الماء حوله، كأنه كلب من كلاب «نيوفاوند لاند» خرج لتوه وساعته من تحت الماء: «أحسبني فعلا مبللا.»
وقال بن: «أظن أنه من المتعذر متابعة السفر الليلة.»
وقال سام ولر وقد جاء ليشترك في الحديث: «بلا نزاع يا سيدي، إنها لقسوة على الحيوانات أن يطلب ذلك إليها، إن في هذا الفندق مراقد يا سيدي»، والتفت إلى سيده ومضى يقول: «كل شيء هنا نظيف ومريح، والعشاء طيب يا سيدي، وفي الإمكان تهيئته في نصف ساعة؛ فرختان وضلع من لحم العجول، وفاصوليا، وحلوى ... ونظافة وترتيب؛ ولهذا يحسن يا سيدي أن تبقى حيث أنت، إذا جاز لي أن أشير بشيء، طاوعني يا سيدي، كما يقول الطبيب.»
ومن محاسن المصادفات أن يظهر رب الفندق في تلك اللحظة؛ ليؤكد أقوال المستر ولر عن استعداد الفندق وتوافر مطالب الراحة فيه، ويؤيد توسلاته بعدة حركات وإشارات كئيبة عن رداءة الطرق، والخوف من تعذر الظفر بخيل أخرى في المرحلة التالية، واليقين التام بأن المطر سيستمر طول الليل، والاطمئنان إلى إقلاع السماء عن المطر في الصباح، وعودة الجو إلى الصفاء، وغير ذلك من الكلام المغري الذي اعتاد الناس سماعه من أرباب الفنادق ومديريها.
وقال المستر بكوك: «ليكن، ولكني مضطر إلى إرسال كتاب إلى لندن بأية وسيلة من الوسائل، حتى يسلم في الصباح الباكر، وإلا فلا مندوحة لي عن السفر على ما فيه من مغامرة ومكاره.»
وابتسم رب الفندق جذلا، وقال: إنه ليس ثمة شيء أسهل ولا أيسر من أن يضع السيد الكتاب في غلاف سميك أسمر ويرسله بالبريد، أو في المركبة الحافلة التي ستقوم الليلة من برمنجهام. وإذا كان السيد شديد الرغبة في إرساله بكل سرعة ممكنة فما عليه إلا أن يكتب على غلافه «يسلم فورا»، فإن ذلك كفيل بإعطاء الكتاب الاهتمام المطلوب، أو أن يدفع لحامله نصف كراون زيادة لتسليمه على الفور، وهذا أكثر من الطريقة السابقة ضمانا.
وقال المستر بكوك : «جميل جدا، إذن فلننزل هنا.»
وصاح رب الفندق لغلامه: «أضئ الأنوار في قاعة الشمس يا جون، وأوقد النار، إن السادات مبتلون، من هنا أيها السادة، ولا تشغلوا بالكم بأمر السائق الآن، فسأرسله إليكم حين تدقون الجرس طالبيه. والآن يا جون، الشموع!»
وأحضرت الشموع، وحركت الجذوات في الموقدة، وألقيت الأخشاب فيها من جديد، ولم تنقض عشر دقائق أخرى حتى كان الغلام يفرش الغطاء فوق الخوان استعدادا للعشاء، وأسدلت الأستار، وبدأت النار تتوهج، وبدا كل شيء على نحو ما يبدو أبدا في جميع الفنادق الإنجليزية الحسنة، كأن المسافرين كانوا مرتقبين قبل مقدمهم، ووسائل الراحة معدة لهم قبل وصولهم ببضعة أيام.
وجلس المستر بكوك إلى منضدة جانبية فكتب في عجلة رقعة إلى المستر ونكل، ينبئه فيها أن الأحوال الجوية هي التي عاقته عن السفر، ولكنه سيكون بلا شك في لندن في اليوم التالي؛ ولهذا يؤجل الحديث عما جرى حتى يلتقيا، ولم يزد في كتابه عن هذا النبأ العابر، ووضع الرقعة في غلاف سميك وأرسله إلى مكان الشراب على يد المستر صمويل ولر.
وترك سام الكتاب لربة الفندق، وانكفأ لتنظيف حذاء سيده، بعد أن جفف ثيابه على نار المطبخ، وحانت منه نظرة في فرجة باب مفتوح نصف فتحة، فلمحت عينه مشهد رجل ذي رأس أصفر كلون الرمل، وأمامه على المنضدة رزمة كبيرة من الصحف وهو مكب على مطالعة مقال افتتاحي في عدد منها، وقد بدت على أنفه غضبة ساخرة، وغمرت معارف وجهه أمارات واضحة تنم عن الترفع والاحتقار.
وقال سام: «ها! إنني أعرف هذا الرأي وهذه التقاطيع، وهذا المنظار أيضا، وهذه القبعة العريضة الحاشية كذلك. هذه ريح «ايتنزول» وإلا كنت رومانيا.»
وانتابت سام سعلة مزعجة في الحال، افتعلها لاجتذاب نظر الرجل، فانتبه هذا على صوتها ورفع رأسه ومنظاره، وكشف عن معارف وجه المستر بت محرر «الغازيت ايتنزول».
وقال سام وهو يتقدم وينحني بالتحية: «معذرة يا سيدي! إن سيدي هنا يا مستر بت.»
وصاح بت وهو يجر سام على الحجرة ويغلق الباب، وقد بدت على وجهه سمات رعب غريب وإشفاق ظاهر: «صه، صه!»
وقال سام وهو يتلفت حوله مذهولا: «ما الخبر يا سيدي؟»
وأجاب بت: «لا تهمس همسة واحدة باسمي، فنحن في ناحية تابعة لحزب الصفر ولو عرف أهلها المتحمسون السريعو الهياج أنني هنا لمزقوني إربا.»
وسأل سام: «لا تقل هذا هل تمزق إربا حقا يا سيدي؟»
وأجاب بت: «سوف أكون فريسة حنقهم، والآن يا فتى، ما أنباء سيدك؟»
وقال سام: «إنه نازل الليلة هنا في طريقه إلى المدينة مع صاحبين له.»
وسأل بت بعبسة قليلة: «وهل المستر ونكل أحدهما؟»
وأجاب سام: «كلا يا سيدي، إن المستر ونكل مقيم في بيته الآن، لقد تزوج.»
وصاح بت بحدة مروعة: «تزوج!» ووقف عن الكلام، وابتسم ابتسامة مكفهرة وأضاف قائلا في صوت منخفض مفعم بالتشفي: «هذا جزاء حق!»
وبعد أن نفس عن صدره ذلك الحقد الدفين، وكشف عن انتصاره في حرب باردة على عدوه الذي سقط في المعركة، بتلك النفثات القاسية، راح يسأل سام عن صديقي المستر بكوك، هل هما من «الزرق»؟ وما كاد يتلقى منه ردا شافيا بالإيجاب، وكان سام لا يقل معرفة بهذه المسائل ونحوها عن بت نفسه، حتى وافق على الذهاب معه إلى غرفة المستر بكوك، حيث لقي ترحابا صادقا به، وتم الاتفاق معه على حفلة عشاء، وإصدار الأمر في الحال بإعدادها.
وقال المستر بكوك بعد أن جلس بت بقرب الموقدة وخلع القوم أحذيتهم المبللة، ولبسوا نعالا جافة: «والآن هل الأمور سائرة على ما يرام في ايتنزول؟ ألا تزال صحيفة «الانديبندنت» تصدر؟»
وأجاب بت: «إن الصحيفة يا سيدي لا تزال تطلع في مشيتها، وهي ماضية في طريقها الأنكد وئيدة عارجة، ممقوتة محتقرة حتى من القليلين الذين يشعرون بوجودها المعيب المشين، مختنقة من كثرة المقاذر التي تفيض بها، عمياء صماء من استنشاقها وأوساخها، وقد أخذت هذه الجريدة الخاملة القذرة، وهي تجهل لحسن حظها حالها المهينة السوأى، تغرق سريعا في أوحالها الناعمة التي تسوخ فيها الأقدام، وهي أوحال تجعلها تبدو راسخة المكانة عند السفلة والأرذال من أفراد المجتمع، ولكنها مع ذلك تعلو فوق رأسها، ولن تلبث حتى تبتلعها.»
وتمهل المحرر لحظة ليتمالك أنفاسه عقب إلقاء هذا «البيان»، الذي كان جزءا من مقاله الافتتاحي في عدد الأسبوع الماضي، وانثنى ينظر بهيبة وجلال إلى بب سوير.
قال: «أنت شاب يا سيدي.»
وأومأ المستر بب سوير إيماءة إيجاب.
وانثنى إلى المستر بن ألن فقال: «وأنت كذلك يا سيدي.»
وأقر بن هذا الاتهام الرقيق.
وقال بت: «وكلاكما قد أشربت نفسه حب المبادئ «الزرقاء»
1
التي عاهدت الشعب على تأييدها والنضال في سبيلها ما حييت.»
وأجاب بب سوير: «والله لست أدري بالدقة شيئا عن هذا ونحوه، إنني ...»
وقاطعه بت وهو يسحب كرسيه إلى الخلف: «ليس من الصفر يا مستر بكوك، إن صاحبك ليس من الصفر يا سيدي؟»
وأجاب بب: «كلا، كلا، أنا في الوقت الحاضر مزيج من كل الألوان.»
وقال بت بلهجة رهيبة: «متردد، مذبذب، أحب أن أريك سلسلة من ثماني مقالات يا سيدي ظهرت في أعداد «الغازت ايتنزول»، وأظن أن في إمكاني أن أقول: إنك لن تلبث بعد قراءتها أن تقيم آراءك على أساس ثابت من المبادئ «الزرقاء» يا سيدي.»
وأجاب بب: «وأجرؤ أن أقول: إنني سأرتد «أزرق» كل الزرقة قبل أن آتي على نهايتها بوقت طويل.»
ولبث المستر بت ينظر إلى بب سوير مستريبا بضع ثوان، ثم انثنى إلى المستر بكوك فقال: «هل اطلعت على الفصول الأدبية التي ظهرت على فترات من الوقت في «الغازت ايتنزول» خلال الثلاثة الأشهر الماضية، والتي أثارت الاهتمام الشديد والإعجاب البالغ، إن لم أقل: الإعجاب العام؟»
وأجاب المستر بكوك وقد شعر بشيء من الارتباك لهذا السؤال: «الواقع أنني كنت مشغولا إلى حد كبير بمسائل أخرى فلم تواتني في الحقيقة فرصة لمطالعتها.»
وقال بت عابسا: «لا بد لك من مطالعتها يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «سأفعل.»
ومضى بت يقول: «لقد ظهرت في صورة عرض شامل لكتاب عن «علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين» يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «عجبا! بقلمك؟ أرجو أن يكون الأمر كذلك.»
وقال بت باعتزاز: «من قلم ناقدي يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «يخيل إلي أنه موضوع عريض.»
وأجاب بت وهو يتظاهر بأشد مظاهر الحكمة: «جدا يا سيدي، وقد أضطر إلى تناوله بالبحث والاطلاع بناء على رغبتي في دائرة المعارف البريطانية إلى حد «التخمة»، كما هو الاصطلاح الشائع، وإن كان يعبر بالضبط عن المعنى المقصود.»
وقال المستر بكوك: «فعلا! لم أكن أعرف أن هذا المؤلف القيم يحوي أية معلومات عن علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين.»
ومضى بت يقول وهو يلقي كفه على ركبة المستر بكوك، ويتلفت حوله مبتسما ابتسامة التفوق العقلي: «لقد قرأ عن مادة ما وراء الطبيعة في باب «الميم»، وعن الصين في باب «الصاد» وجمع المعلومات التي تواتت له من هذين البابين يا سيدي.»
ولم تلبث معارف المستر بت أن اتخذت مزيدا من «التعاظم» عقب ذكر البحث المستطيل، والدراسة الوافية، التي اقتضاها ذلك الموضوع العويص، حتى لقد اضطر المستر بكوك إلى الانتظار بضع دقائق قبل أن يجرؤ على معاودة الحديث، حين رأى وجه الصحفي قد بدأ، يهدأ شيئا فشيئا ويعود إلى اتخاذ سمت الرفعة المألوفة منه، فتشجع وانثنى يسأله قائلا: «هل من بأس في سؤالي ما هو الهدف العظيم الذي جاء بك كل هذه الشقة البعيدة من موطنك؟»
وأجاب بت بابتسامة هادئة: «هو الهدف ذاته الذي يحفزني دائما إلى بذل جهودي الجبارة يا سيدي، وأعني به مصلحة بلادي.»
وقال المستر بكوك: «لقد ظننت أنها مهمة عامة.»
وأجاب بت: «نعم، هي كذلك يا سيدي»، وهنا أقبل على المستر بكوك وهمس له بصوت أجوف أجش «إن حفلة رقص سيقيمها «الصفر» يا سيدي في برمنجهام مساء غد.»
وصاح المستر بكوك: «يا عجبا!»
وأردف بت: «أي نعم، ومأدبة عشاء أيضا.»
وعاد المستر بكوك يقول مندهشا: «لا تقل كلاما كهذا.»
ولكن بت أومأ إيماءة تطير وإشفاق.
ولم يكن المستر بكوك يعرف الشيء الكثير عن السياسة المحلية، وإن كان قد تراءى في دهشة بالغة من هذا النبأ الذي أسره بت إليه، فلم يستطع إدراك مدى خطورة المؤامرة المنكرة التي يشير إليها حق الإدراك، ولاحظ المستر بت ذلك عليه فأخرج العدد الأخير من «الغازت» وتولى بنفسه قراءة الفقرة التالية:
مؤامرة «الصفر» من وراء ستار
وقد رأينا في الأيام الأخيرة حية معاصرة تنفث سمها الزعاف، محاولة عبثا وبلا أمل تلويث سمعة نائبنا المحترم، وممثل دائرتنا العظيم، النائب المستر أسلمكي الذي تنبأنا قبل ظفره بمركزه الحالي ومكانته السامية بوقت طويل أن يصبح في يوم من الأيام - كما هو الآن - أشرف عنوان لبلاده، وأكبر موضع فخارها وأن يمسي أيضا بطلها الهمام، ومحمدتها المشرفة. نقول: إن هذه الحية المعاصرة أحبت أن تلهو على حساب تكريم رفيع أراد ناخبوه المعتزون به إقامته لذلك الرجل المجيد، وهو تكريم زعمت تلك المنكودة التي نترفع عن ذكر اسمها أن النائب المحترم المستر أسلمكي نفسه تبرع بأكثر من ثلاثة أرباع المال الذي جمع لهذه المأدبة، من طريق صديق من أصدقاء الخادم الموكل بشرابه، فهلا رأت هذه الحية الزاحفة أن ذلك، حتى مع افتراض صحته، لا يزيد النائب المحترم المستر أسلمكي إلا محبة بين الناس، وسناء باهرا إن صح أن لهذه المحبة، وذلك السناء، مكانا لمزيد؟ وهلا خطر لهذه العمياء الضالة أن هذه الرغبة الجميلة المؤثرة في تلبية رغبات الناخبين، تكسبه إلى الأبد معزة مكينة في قلب كل مواطن من مواطنيه الآخرين الذين ليسوا شرا من الخنازير، أو بعبارة أخرى، الذين لا يحاكون في المهانة والحقارة زميلتنا ذاتها؟ ولكن لا عجب، فتلك هي ضلالة صحيفة «الصفر»، وأباطيلها المهينة، وأخاديعها السافلة التي تلوذ بالجحور والمكامن. ولم تكتف بهذه الأضاليل وحدها، بل مضت تعلن عنها في الخارج، وتكشفها للناس كافة في البلاد، وفي إمكاننا الآن أن نقرر وقد هالنا ما عرفنا، وحفزنا ما اكتشفنا إلى مناشدة البلاد وشرطتها الحماية. نقول: إن في إمكاننا الآن أن نقرر أن هناك استعدادات تتخذ في هذه اللحظة لإقامة حفلة راقصة من الصفر في بلدة من لونهم وسط إقليم من الصفر، يشرف عليه منظم منهم، ويحضره أربعة من غلاوة الصفر في البرلمان، وسيكون الدخول برقاع من عند الصفر. فهل ترى الزميلة الأثيمة تفزع وتجفل من كشف الستار عن هذا الجرم؟ فلتفزع ولتجفل من الحقد العاجز، ونحن نكتب العبارة التالية: سنكون هناك.
وطوى بت الصحيفة وقد أحس جهدا بالغا وانثنى يقول: «هاك يا سيدي، هذه هي حقيقة الأمر وواقعه.»
ودخل رب الفندق والخادم في تلك اللحظة يحملان العشاء، فبادر المستر بت إلى وضع إصبعه فوق شفته، إشارة إلى أنه يعد حياته في يد المستر بكوك ويعتمد على كتمان السر. وكان بب سوير وبنجمن ألن قد استولى النعاس عليهما خلال قراءة تلك النبذة من «الغازت» والمناقشة التي تلتها، ولكنهما استيقظا على مجرد الهمس بتلك الكلمة الساحرة، واللفظة الطلسمية «العشاء»! في أذنيهما، فأقبلا عليه بشهية متحرقة يتبعها بالطبع هضم سريع، وصحة جيدة، وخادم واحد في خدمة هذه الثلاث مجتمعة.
وهبط المستر بت خلال العشاء وفي المجلس الذي أعقبه، إلى الحديث فترة قصيرة عن شئونه الخاصة، فنبأ المستر بكوك أن هواء ايتنزول لم يوافق زوجته فسافرت في رحلة لزيارة عدة مدن مشهورة بمياهها المعدنية، طلبا للاستجمام والشفاء من السقام. وكانت تلك الكلمات تعبيرا لطيفا في كشف حقيقة الأمر، وهي أن مسز بت نفذت ما كانت قد أكثرت من التهديد به، وهو الانفصال، فتركت المنزل، طبقا للاتفاق الذي تولى شقيقها «الملازم» المفاوضة فيه وأقره المستر بت، وهجرت الحياة معه هجرة بغير رجعة، وأخذت معها حارستها «الأمينة»، راضية بنصف الإيراد السنوي والأرباح التي تجتمع له من تحرير الجريدة وبيعها.
وبينما كان المستر بت العظيم يواصل الحديث في هذا الموضوع وغيره من الموضوعات، وينعشه من وقت إلى آخر بشذرات مختلفة من كتاباته الخاصة العظيمة، وقفت في رحبة الفندق مركبة عامة لإنزال الطرود، قبل مواصلة المسير إلى البلاد المجاورة، وأطل من نافذتها رجل غريب عبوس الوجه، وطلب أن يعرف هل يتيسر له إذا لم يواصل السفر إلى بغيته، وأراد المبيت في الفندق إلى الصباح، أن يجد فراشا وسريرا.
وأجاب رب الفندق: «بلا شك يا سيدي.»
وقال الغريب، وكان يبدو عليه أنه المستريب المتشكك عادة: «أستطيع؟ هل أستطيع حقا؟»
وأجاب رب الفندق: «بلا شك يا سيدي.»
قال: «جميل، أيها السائق أنا نازل هنا، أيها الحارس، علي بحقيبتي القماش!»
وبعد أن حيا الركب الآخرين تحية خاطفة، نزل من المركبة، فإذا هو سيد يميل إلى القصر، خشن الشعر فاحمه، مقصوص بشكل قنفخي جعله واقفا قائما فوق رأسه كله، وتلوح عليه سمات العجرفة، وحدة العينين وكثرة اختلاجهما، وينم مظهره في الجملة عن شدة اعتداده بنفسه وشعوره بالسمو المتناهي على الناس جميعا.
وأعطي ذلك الغريب الغرفة التي كانت قد خصصت في الأصل للمستر بت الوطني الغيور، ولاحظ الخادم في دهشة صامتة، غرابة الاتفاق بين الرجلين، فلم يكد هذا النزيل الجديد يرى الشموع قد أضيئت، حتى دس يده في جوف قبعته، فأخرج إحدى الصحف، وبدأ يقرأها بتلك السخرية المزيجة بالغضب التي بدت على وجه بت وتقاطيعه الجليلة منذ ساعة فقط، وكادت تشل حركة الخادم وتقضي على نشاطه، كما لاحظ أن سخرية المستر بت أثارتها صحيفة كتب اسمها في رأسها وهو «ايتنزول انديبندنت»، وأن سخرية هذا السيد أيضا أثارتها صحيفة تدعى «غاريت ايتنزول».
وقال الغريب: «أرسل رب الفندق.»
وأجاب الغلام: «سمعا وطاعة يا سيدي.»
ودعي رب الفندق فجاء.
وسأل السيد: «هل أنت رب الفندق؟»
وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.»
قال: «هل تعرفني؟»
وأجاب صاحب الفندق: «لم يتح لي هذا الشرف يا سيدي.»
قال: «إن اسمي سلرك.»
وأمال رب الفندق رأسه قليلا.
وعاد الرجل يردد القول بكبرياء وزهو: «اسمي سلرك، هل عرفتني الآن يا رجل؟»
وهرش رب الفندق رأسه ونظر إلى السقف ثم إلى الغريب وابتسم ابتسامة واهنة.
وعاد الغريب يسأله بغضب: «هل تعرفني يا رجل؟»
وأبدى رب الفندق جهدا شديدا، وأجاب أخيرا: «والله يا سيدي لست أعرفك.»
وقال الغريب وهو يضرب المنضدة بجمع كفه: «يا إله السموات! ثم يقولون: إن هذه هي الشهرة!»
وخطا رب الفندق خطوة أو اثنتين نحو الباب، وجعل الغريب يتبعه ببصره، ومضى يقول: «هذا هو ما يجزى به جهد السنين ودرس الأعوام في سبيل مصلحة الجماهير ، أنزل من المركبة مبللا متعبا، فلا تتدافع الحشود المتحمسة لتحية بطلها العظيم، ولا تقرع النواقيس لاستقباله، ولا يجد ذكر اسمه استجابة من الصدور الجياشة، والنفوس المتقدة.» وهنا مضى المستر «سلرك» في هياج وحنق يروح ويغدو في الحجرة قائلا: «إن هذا ليكفي لأن يجف المداد في الأقلام، ويحمل المرء على اعتزال الجهاد، والتنحي عن النضال آخر الحياة.»
وقال رب الفندق، على سبيل التلميح: «هل قلت يا سيدي براندي بالماء؟»
وأجاب المستر سلرك وهو ينقض عليه بغضب شديد: «قلت: روم! أليست لديك نار مشبوبة في مكان ما؟»
قال: «يمكننا أن نوقد نارا في الحال يا سيدي.»
ولكن المستر سلرك قاطعه قائلا: «وهي نار لن ترسل أوارا ولا تبعث دفئا قبل موعد النوم، هل هناك أحد في المطبخ؟»
ولم يكن فيه أحد، فقد انصرف الجميع، وأوصدت أبواب الفندق بقية الليل، ولا تزال في المطهى نار متقدة متلظية.
وقال المستر سلرك: «سأشرب رومي الممزوج بالماء بجانب نار المطبخ»، وانثنى فتناول قبعته وجريدته، وتسلل في أثر رب الفندق إلى ذلك المكان الوضيع، وألقى بنفسه على متكأ قريب من الموقدة، وعاد إلى اتخاذ سيمياء السخرية، وبدأ يقرأ ويشرب في وقار وصمت.
وفي تلك اللحظة كان شيطان مريد من شياطين الشر والسوء، يحلق فوق الفندق، فحانت منه التفاتة من الفضول وحب الاستطلاع لا أكثر ولا أقل، فأبصر «سلرك»، وهو جالس جلسة المستريح المطمئن بجوار نار المطبخ، وألمت عيناه ببت وهو نشوان من الشراب في غرفة أخرى، فلم يلبث أن هبط عليها بسرعة لا يتصورها العقل، ودخل في رأس المستر بب سوير في الحال، فوسوس له في سبيل تحقيق غرضه الخبيث أن يقول: «لقد تركنا النار تخبو فاشتد القر على غير العادة عقب المطر، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يرعش: «هو كذلك فعلا.»
وقال بب سوير والشيطان الخبيث لا يزال يدفعه ويحفزه: «لا أحسن ثمة بأسا من تدخين لفافة كبيرة بجانب موقدة المطبخ، هل من بأس؟»
وأجاب المستر بكوك: «بالعكس، أعتقد أنا أن ذلك سيريحنا كثيرا، ما قولك يا مستر بت؟»
وأبدى المستر بت استعدادا لإقرار تلك الفكرة، فنهض المسافرون الأربعة في الحال، وقد حمل كل منهم كأسه بيده، وانطلقوا إلى المطبخ، يتقدم موكبهم سام ولر ليهديهم إلى الطريق.
وكان الغريب لا يزال يقرأ، فتطلع ببصره، وأجفل، بينما تولى الذعر المستر بت، فأجفل كذلك.
وهمس المستر بكوك: «ما الخطب؟»
وأجاب بت: «هذا الحيوان الزاحف.»
وقال المستر بكوك وهو يتلفت حوله مخافة أن يطأ بقدميه خنفساء سوداء كبيرة أو عنكبوتا ضخما: «أي حيوان زاحف تعني؟»
وهمس بت وهو يمسك المستر بكوك من ذراعه ويشير إلى الغريب: «هذا الحيوان الزاحف «سلرك» رئيس تحرير الانديبندنت.»
وقال المستر بكوك مخافتا بصوته: «لعل من الصواب أن نرجع.»
وأجاب بت، وقد تملكته جرأة الخمر، أو شجاعة «القدر» على سبيل التورية:
2 «مستحيل، لا يمكن أبدا.»
ومضى يتخذ مجلسه فوق المتكأ المقابل. واختار عددا من الأعداد التي تحويها الرزمة، وبدأ «يباري» خصمه ويجاريه في القراءة.
وقد راح المستر بت طبعا يقرأ «الانديبندنت» وكان المستر سلرك يقرأ بالطبع «الغازت»، فلم يلبث كلاهما أن ذهب يعبر بصوت مسموع عن احتقاره لمقال الآخر، بضحكات مريرة وحركات اشمئزاز سافر بأنفه، ثم ما لبثا أن تدرجا إلى الكلام الصريح، والتشاتم العلني، كقولهما: سخيف، منكود، بشع، مهاتر، وغد، قذر، وسخ، ماء المجاري. وغيرها من السباب المماثل.
وشاهد المستر بب سوير والمستر بن ألن أعراض هذه الكراهية المتبادلة، والخصومة الواضحة، بشيء من السرور أضاف لذة جديدة إلى متعة التدخين، فجعلا يشدان من اللفافتين أنفاسا قوية، وما كادا يسترخيان، حتى انثنى المستر بب سوير يقول موجها الخطاب بأدب إلى المستر سلرك: «هل تسمح لي بإلقاء نظرة على جريدتك يا سيدي حين تفرغ منها؟»
وأجاب سلرك، وهو ينظر إلى بت نظرة شيطانية: «لن تجد ما يعوضك يا سيدي عن تعب القراءة في هذا الشيء المحتقر المهين.»
وقال بت وهو يتطلع ببصره في حنق شديد، ويرعش في كلامه من فرط الغضب: «ستتناول هذه بعد لحظة ها! ها! وستطرب لقحة هذا، المخلوق.»
وكان كل من الرجلين قد شدد في النطق بكلمة «شيء»، ولفظة «مخلوق»، وأخذ وجههاهما يتقدان تحديا واستخفافا.
وقال بت، وهو يتظاهر بأنه يخاطب بب سوير: «إن فحش هذا الرجل التعس يبعث في النفس اشمئزازا لا يوصف.»
وهنا قهقة المستر سلرك ضاحكا من أعماقه وطوى الصحيفة؛ لكي يتمكن من قراءة نهر آخر براحة، وقال: إن هذا الأحمق يسليه فعلا.
وقال بت، وهو متغير اللون من القرنفلي إلى الأرجواني: «ما أشد حماقة هذا المخلوق وضلالته!»
وقال سلرك متسائلا بب سوير: «هل قرأت يوما شيئا من سخافة هذا الرجل يا سيدي؟».
وأجاب بب: «أبدا هل هو رديء إلى هذا الحد؟»
وقال سلرك: «بشع! بشع!»
وصاح بت عندئذ، وإن لبث يتراءى منشغلا بالقراءة: «أحقا؟ يا للعجب، هذا فظيع، وأي فظاعة.»
وقال سلرك وهو يقدم الجريدة إلى بب: «لو استطعت الخوض في هذا المستنقع من الشر والخبث بضع خطوات، ورأيت كيف تكون المهانة، واللغو، والزور، والبهتان، والرياء، فلعلك واجد بعض الجزاء عن العناء في ضحكة من أسلوب هذا الثرثار الجاهل بالنحو والصرف.»
وقال المستر بت وهو يرفع بصره عن الصحيفة ويرعش من فرط الغضب: «ما هذا الذي قلته اللحظة يا سيدي؟»
وأجاب سلرك: «وما شأنك أنت وما قلت يا سيدي؟»
وقال بت: «هل قلت: ثرثار جاهل بالنحو والصرف؟ أقلت هذا يا سيدي؟»
وأجاب سلرك: «نعم قلته، وأزيد أيضا عليه. فدم «أزرق» إن كنت تستحسن هذا الوصف ها! ها!»
ولم يجب المستر بت بكلمة عن هذه الإهانة المقترنة بالضحك، بل طوى في تؤدة نسخة «الانديبندنت» وبسطها بكل هدوء، وألقاها تحت حذائه فوطئها بقدمه وبصق فوقها، بكل احتفال وسكون، ثم ألقى بها إلى النار، وهو يقول منثنيا عن الموقدة: «هذا مكانها يا سيدي، وهذا هو سبيلي في معاملة الثعبان الذي يصدر، لولا أنني لحسن حظه ممنوع من هذا بسلطان القوانين القائمة في بلادي.»
وصاح سلرك، وهو ينهض من مجلسه: «أتعامله هكذا يا سيدي؟ إنه لن يلجأ مطلقا إلى هذه القوانين في حالة كهذه، تعامله بهذه الوسيلة يا سيدي!»
وقال بب سوير : «مرحى! مرحى!»
وتبعه المستر بن ألن فقال: «لا شيء أعدل من هذا.»
وعاد سلرك يردد بصوت مرتفع قوله: «أتعامله بهذه الطريقة يا سيدي!»
وحدجه المستر بت بنظرة احتقار لو وقعت على مرسى سفينة لفلقته.
ومضى الآخر يردد كلمته ذاتها بصوت أشد ارتفاعا: «أتعامله بهذه الوسيلة يا سيدي!»
وأجاب بت: «لن أفعل يا سيدي.»
وقال سلرك بلهجة تقريع: «آه! لن تفعل يا سيدي، أتسمعون هذا أيها السادة؟ ولا يريد أن يقول: إنه «خائف»، كلا بل إنه لن يفعل، ها! ها!»
وأجاب المستر بت وقد هاجته هذه السخرية: «إنني أعدك يا سيدي ثعبانا، وانظر إليك يا سيدي نظري إلى رجل وضع نفسه خارج سياج المجتمع، بتصرفه المتناهي في القحة، وسلوكه المعيب للغاية، وسيرته المقيتة بين الناس، ولا أراك شخصيا وسياسيا يا سيدي إلا أنك ثعبان لا أقل.»
ولم ينتظر محرر «الانديبندنت» الهائج الغاضب ليستمع إلى نهاية هذا التشنيع الشخصي؛ لأنه أمسك بحقيبة القماش المحشوة بالمنقولات، فلوح بها في الهواء، في اللحظة التي تولى فيها بت بظهره، وتركها تسقط في حركة دائرة فوق رأسه، من ركنها الذي يحوي فرشاة شعر صلبة، فأحدثت صوتا حادا في أرجاء المطبخ وجعلته يخر في الحال على الأرض.
وصاح المستر بكوك حين رأى بت ينهض ويمسك بمجراف النار: «أيها السيدان، فكرا في العاقبة بحق السماء! النجدة ... يا سام ... الغوث ... ليتدخل بعض الناس في الأمر.»
وهرع المستر بكوك وهو يطلق هذه الصيحات المتعطفة فوقف بين المتشاجرين الهائجين في اللحظة التي تلقي فيها حقيبة القماش في جنبه، والمجراف في الجنب الآخر، وسواء كانت الخصومة بين ممثلي الرأي العام في ايتنزول قد أعمت بصيرتيهما، أو أدركا بالفطانة - لأن كلا منهما المفكر المنطيق - مدى الفائدة التي تعود من قيام شخص ثالث بينهما؛ ليتحمل الضربات المتبادلة كلها، فلا نزاع في أنهما لم يكترثا أقل اكتراث بالمستر بكوك، بل راح كل منهما يتحدى مناجزه، ويتراشقان بالحقيبة والمجراف بمنتهى الاستهتار وأشد الاستخفاف. وكان المستر بكوك بلا شك سيصاب بآلام شديدة لقاء تدخله الكريم، وتوسطه بدافع الإنسانية، لو لم يبادر المستر ولر على صيحات سيده في تلك اللحظة، فيتناول زنبيلا مليئا بالمواد الغذائية، فيوقف الشجار بإلقائه فوق هامة بت العظيم، ويمسك بكتفيه بقوة شديدة ليمنعه من الحركة.
وصاح سام ببب سوير وبن ألن قائلا: «انزعا هذه الحقيبة من ذلك المجنون الآخر»، وكان الشابان قد وقفا لا يفعلان شيئا غير اللف حولهما والدوران، وقد حمل كل منهما في يده مشرطا من صدفة سلحفاة، وهو على استعداد لحجم أول رجل منهما يسقط مجندلا.
وعاد سام يصيح قائلا: «أكفف أيها المخلوق القصير التعس عن التلويح بهذه الحقيبة وإلا خنقتك في جوفها.»
وريع محرر «الاستقلال» من هذا الوعيد واستخذى، ولهثت أنفاسه من الجهد، فترك السلاح ينزع منه، وعمد المستر ولر إلى انتزاع المجراف من بت وأطلق سراحه منذرا متوعدا.
وقال سام في نذيره: «اذهبا إلى فراشكما بكل هدوء، وإلا حملتكما إليه بنفسي، وجعلتكما تعاودان القتال مكممين، كما لو كان أمامي عشرة أو أكثر من أمثالكما في شجار كهذا أو شبهه. وأنت يا سيدي تكرم بالابتعاد من هنا.»
وكان الخطاب الأخير موجها إلى المستر بكوك، وتناول سام ذراعه، ومشى به، بينما سيق الصحفيان المتنافسان إلى سريريهما، وتولى رب الفندق نقل كل منهما على حدة، تحت إشراف المستر بب سوير، والمستر بنجمن ألن، وهما لا يكفان عن تبادل كلمات الوعيد الدموي وتحديد مواعيد غامضة للقتال المميت في غداة اليوم التالي. ولكنهما حين سكنا بعد الغضب، وترويا بعد التهور، بدا لهما أن في إمكانهما أن يتقاتلا ويتبارزا فوق القرطاس، ويسنا القلم، أفضل وأبرع من التقاتل بحد الحسام، وشرعا في غير توان يتبادلان خصومة مميتة من الغداة، ودوت أرجاء ايتنزول كلها بأنباء بسالتهما التي ظهرت على صفحات الجريدتين.
وسافر كل منهما في مركبة مستقلة في الصباح الباكر قبل أن يتحرك أحد من النزلاء من سريره، وكان الجو قد صحا، فعاد الرفاق في عجلتهم مولين وجوههم شطر لندن.
يقصد مبادئ حزب «الزرق»، وقد مر بنا في الفصل الثالث عشر أن ايتنزول يتنازعها حزبان: «الصفر» و «الزرق».
معنى «بت» القدر أو الجرة التي توضع فيها الخمر - «وشجاعة القدر»
pot-vailiant
هي الجرأة التي يحدثها الشراب عند الثمل فالتعبير هنا «تورية».
الفصل الثاني والخمسون
حدث خطير في أسرة ولر، وسقوط المستر استيجنز الرجل الأحمر الأنف ... وأفول نجمه قبل الأوان. ***
ورأى المستر بكوك أنه من الخير أن يرجئ اللقاء بين بب سوير وبن ألن، وبين العروسين، حتى يتأهب هذان كل الأهبة للاجتماع بهما، وأحب أن يغني عن «أرابلا» حرج هذا اللقاء ما استطاع، فاقترح أن ينزل هو وسام من المركبة في موضع قريب من فندق «جورج والرخم»، وأن يتخذ الشابان لهما مقرا في مكان ما إلى حين، فوافقا على هذا الاقتراح بكل ارتياح، وبدأ إخراجه إلى حيز التنفيذ، فذهب المستر بن ألن، والمستر بب سوير إلى حانة منعزلة من حانات الجعة في أقصى ناحية من الضاحية، كان أسماهما في الأيام الخالية كثيرا ما يظهران خلف باب محل الشراب مكتوبين بالطباشير على رأس خط مستطيل من الأرقام والحسابات لبيان ما عليهما من ثمن للشراب.
واستقبلت الخادم الحسناء سام لدى الباب وهي تقول: «ويحي يا مستر ولر.»
وأجاب سام، وقد تنحى لكي يتقدم سيده فيبتعد حتى لا يسمعه: «لقد كنت أتمنى أن تكون «ويحي» هذه كلمة أخرى، كقولك: عزيزي، مثلا ما أعذبك وأجملك من مخلوقة يا ميري.»
وقالت ميري: «لك الله يا مستر ولر، أي كلام فارغ هذا الذي تقوله؟ امتنع يا مستر ولر.»
وقال سام: «أمتنع عن ماذا يا عزيزتي؟»
وأجابت الخادم الحسناء: «عن هذا، هيا، امض في سبيلك»، وراحت بعد هذه النصيحة تدفعه نحو الجدار، قائلة: إنه قد أفسد نظام قبعتها وأتلف تسريحة شعرها.
واستتلت قائلة: «ومنعتني أيضا عما كنت أريد أن أقوله، إن هنا خطابا ظل ينتظر قدومك منذ أربعة أيام، وقد وصل بعد سفرك بنصف ساعة وفوق ذلك، قد كتب على غلافه: عاجل.»
وقال سام: «وأين هو يا حبيبتي؟»
وأجابت ميري: «عندي، أنا محتفظة به حتى تعود، ولولا ذلك لفقد من وقت طويل، هاك هو ذا، إنه أكثر مما تستحق.»
وبهذه العبارات، عقب عدة شكوك ومخاوف أبدتها الفتاة في حركات حلوة مغرية جميلة، والدعوات إلى الله أن يهديها إلى مكان الخطاب، راحت تخرجه من خلف صدار بديع من الحرير، وأسلمته إلى سام فتناوله فقبله في جرأة بالغة وإخلاص.
وقالت ميري وهي تسوي أطراف ثوبها الجميل، وتتظاهر بأنها لم تدرك القصد: «يا إلهي، أراك قد أحببته في الحال إذ تناولته.»
فلم يرد المستر ولر على قولها بأكثر من غمزة من طرف عينه، لا يفي أي وصف مهما كان بليغا بتصوير معانيها، أو التعبير عن أدنى فكرة عنها، ومضى يجلس بجانبها فوق مقعد النافذة، وفض الكتاب وألقى نظرة على ما فيه.
وصاح سام: «ها! ما هذا كله؟»
وقالت ماري وهي تطل من فوق كتفه: «أرجو ألا يكون فيه ما يسوء.»
وقال سام وهو يتطلع إليها: «بارك الله في عينيك هاتين!»
وقالت المليحة: «دعك من عيني، خير لك أن تقرأ الكتاب.»
وما أن قالت ذلك حتى تركت عينيها تبرقان بريق مكر وفتنة وجمال لا سبيل إلى مقاومتها.
وأنعش سام نفسه بقبلة، ومضى يقرأ الكتاب التالي:
المركيس جران، في دوركن
الأربعاء
عزيزي صمويل
1 ...
إنني آسف جدا لسروري بحمل أنباء سيئة فإن امرأة أبيك أصيبت ببرد بسبب تهورها في الجلوس مدة طويلة فوق الحشيش الرطب تحت وابل المطر؛ لتسمع عظة «راع» لم يتمكن من إنهاء كلامه إلا في ساعة متأخرة من الليل؛ لأنه كان قد أكثر من البراندي الممزوج بالماء، فلم يتيسر له الانقطاع عن الكلام إلا بعد أن أفاق قليلا من السكر، وهو ما استغرق عدة ساعات، وقال الطبيب: إنها لو كانت بلعت البراندي والماء بعد هذه الجلسة الطويلة لا قبلها، لكانت شحمت عجلاتها، وأمكن شفاؤها بأي طريقة، وكان والدك يؤمل أن تعود إلى حالتها الطبيعية كالعادة، ولكنها عندما وصلت إلى حيث يدور الطريق غلطت ومشت في طريق غير الطريق الصحيح، فنزلت منحدر بسرعة لا مثيل لها، ورغم مبادرة الطبيب إلى إعطائها الدواء، لم تنفع فيها أية حيلة، فدفعت «عوايد المرور» في المكان الأخير قبل الساعة السادسة مساء أمس بعشرين دقيقة، بعد أن قطعت السفر في الوقت المناسب مع (بابا)، الذي يعتقد أن ذلك كان راجعا بعض الشيء إلى أنها لم تكن تحمل متاعا كبيرا في تلك الرحلة الطويلة، وبابا يقول لك: إذا أمكنك الحضور لمقابلته يا سامي فسوف يكون ممتنا لك كثيرا؛ لأنني أشعر بوحشة وحدي يا «صموفيل» - ملحوظة: إنه يصر على تهجيتها بهذا الشكل؛ لأنه هو الصح - ولديه مسائل كثيرة تحتاج إلى تسوية وأنا متأكد أن سيدك الذي أنت عنده سوف لا يمانع بالطبع، إنه لا يمانع يا سامي؛ لأني أعرفه جيدا، ووالدك يرسل إليه السلام وأنا منضم إليه، ودمتم لوالدكم إلى الأبد يا صموفيل والسلام ختام.
نوني فلر
وقال سام: «هذا خطاب غير مفهوم، فمن يعرف ماذا يقصد بكل ما تكرر فيه من «هو» و«أنا» لا يمكن أن تكون هذه كتابة والدي بنفسه، اللهم إلا الإمضاء بهذه الحروف الكبيرة، فهي وحدها بخطه.»
وقالت الخادم المليحة: «لعله وجد أحدا يكتبه له ثم أمضاه بعد ذلك.»
وقال سام وهو يعيد قراءة الكتاب، ويقف بين فقراته ليفكر: «تمهلي لحظة لقد قلت عين الجد، فقد كتب الرجل كلاما معقولا عن الحادثة بطريقة مناسبة، ولكن الوالد وقف على كتفه فأفسد الكلام كله وزاده تعقيدا بما أدخله عليه من كلامه، هذا هو ما يفعله بعينه، وأنت على حق يا عزيزتي ميري.»
وبعد أن أقنع سام نفسه على هذا النحو، عاد فقرأ الكتاب من أوله إلى آخره مرة أخرى، وبدا عليه أن استطاع تكوين فكرة واضحة عما فيه لأول مرة، وأنشأ وهو يطوي الكتاب يقول ساهما واجما: «وهكذا ماتت المخلوقة المسكينة، إنني لحزين عليها، فقد كانت طيبة لولا أولئك الرعاة الذين أحاطوا بها، إنني حزين جدا عليها.»
وقد فاه المستر ولر بهذه الكلمات وهو كاسف البال متأثر، حتى لم يسع الفتاة المليحة إلا أن تغض من عينيها وتبدو واجمة مكفهرة.
وعاد سام يقول وهو يضع الكتاب في جيبه بزفرة رفيقة: «وعلى كل حال لقد كان ذلك مقدرا، والمقدر كائن، كما قالت السيدة العجوز بعد أن تزوجت بخادمها. لم تكن ثمة حيلة، أليس كذلك يا ميري؟»
وهزت ميري رأسها وزفرت هي الأخرى.
وقال سام: «لا بد لي من استئذان «الإمبراطور» في الغياب.»
وزفرت ميري مرة أخرى، فقد كان الكتاب مؤثرا جدا.
وقال سام: «إلى اللقاء!»
وأجاب المليحة وهي تشيح بوجهها: «إلى اللقاء.»
قال سام: «ألا تسلمين باليد؟»
ومدت المليحة يدها، وكانت - رغم أنها خادمة - كفا صغيرة رقيقة ونهضت لتنصرف.
وقال سام: «لن يطول غيابي.»
وقالت ميري، وهي تطوح برأسها في الفضاء أرق تطويحة ممكنة: «إنك أبدا غائب، فلا تكاد تعود يا مستر ولر حتى تذهب ثانية.»
وأدنى المستر ولر المليحة من صدره، وأقبل على حديث هامس، لم يكد يمضي فيه شوطا، حتى تولت بوجهها إليه وسمحت بأن تنظر صوبه، وحين افترقا، وجدت أن لا مندوحة لها على أية حال أن تذهب إلى غرفتها لإصلاح قبعتها الصغيرة وجدائل شعرها، قبل أن تفكر في المثول بين يدي سيدتها، فانطلقت وهي تنعم على سام بوفرة من هزات الرأس والبسمات من فوق سياج السلم وهي صاعدته.
وقال سام للمستر بكوك حين أبلغه فحوى كتاب أبيه وقصة مصابه: «ولن أغيب أكثر من يوم أو يومين يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «غب ما اقتضت الضرورة الغياب، ولك مني الإذن كاملا.»
وانحنى سام شاكرا.
ومضى المستر بكوك يقول: «ونبئ أباك يا سام أنني على أتم الاستعداد والرغبة في تقديم أية معونة في إمكاني إذا تسنى لي أن أعاونه في مصابه.»
وأجاب سام: «شكرا يا سيدي، سأنبئه يا سيدي.»
وافترق السيد والخادم بعد تبادل عبارات المودة والتعاطف.
وفي تمام الساعة السابعة نزل صمويل ولر من مقعده بجانب السائق في مركبة حافلة تمر من حي «دوركنج» حين وقفت عن المسير على مبعدة بضع مئات من الأمتار من حانة «المركيز جرانبي»، وكان المساء قرا، والشارع الصغير يلوح مقفرا قاتما كئيبا، ووجه المركيز في الرسم المعلق فوق الباب تبدو عليه من سمات الحزن والكآبة ما لم يكن من قبل باديا عليه، وهو يتحرك ذهابا وجيئة مع الريح ويرسل أنينا محزنا كأنين الحداد على الراحلين، وكانت الأستار مسدلة، والشرفات مغلق بعضها، ولم يكن في المحل أحد من أولئك الزبائن المطيلي الجلوس الذين يجتمعون عادة بقرب الباب، والمكان ساكن مهجور.
ولم يجد سام أحدا يستطيع أن يلقي عليه أسئلة تمهيدية، فدخل برفق، ودار بعينه فيما حوله فأبصر في الحال أباه على قيد خطوات منه.
وكان ذلك «الأرمل» جالسا إلى منضدة مستديرة صغيرة الحجم في الغرفة الضيقة القائمة خلف مكان الشراب، يدخن في قصبته، مطرق الرأس يتطلع بعينيه إلى النار، وبدا لسام أن الجنازة شيعت في ذلك اليوم بالذات، فقد رأى على قبعته التي كانت باقية فوق رأسه شريطا يبلغ طوله ياردة ونصف ياردة، متدليا منها فوق مسند المقعد، مهملا لا يجد من يرفعه من تراخيه. وكان المستر ولر شاردا سارح الخاطر ساهما، حتى لقد ناداه سام باسمه عدة مرات ولكنه لبث يدخن، هادئا ذاهلا، فلم ينتبه أخيرا من شروده إلا حين وضع سام راحة كفه فوق كتفه.
وقال المستر ولر: «سامي، مرحبا.»
وقال سامي وهو يعلق قبعته فوق المشجب: «لقد ناديتك عدة مرات ولكنك لم تسمعني.»
وأجاب المستر ولر وهو لا يزال ينظر إلى النار مفكرا: «لم أسمعك فعلا يا سامي، كنت سارحا.»
وقال سامي وهو يقرب معقده من النار: «في أي شيء تسرح؟»
وأجاب الوالد: «كنت سارحا فيها يا صموفيل.»
وهنا هز المستر ولر رأسه ناحية مقبرة «دوركنج» تفسيرا صامتا لقوله وإشارة إلى المرحومة المسز ولر.»
وواصل سامي حديثه قائلا وهو ينظر إلى ابنه بجد بالغ من فوق قصبته، كأنما يريد أن يؤكد له أنه مهما تبدو أقواله غريبة شاذة لا يمكن أن تصدق، فقد فاه بها في هدوء وبعد تفكير وروية: «لقد كنت أفكر يا سامي في أنني أولى بأن أحزن وآسف على فراقها على كل حال.»
وأجاب سام: «وهذا هو ما يجب عليك.»
وأومأ المستر ولر إيماءة الموافقة على هذا الشعور، ثم عاد يطيل النظر إلى النار، ويتوارى في وسط دخان كثيف، ويفكر تفكيرا عميقا.
وعاد يقول وهو يطرد الدخان بيده بعد صمت طويل: «لقد كانت كلماتها معقولة يا سامي ووجيهة جدا.»
وقال سام: «أي كلمات؟»
وأجاب الشيخ: «الملاحظات التي أبدتها قبل مرضها.»
وسأل سام: «وما هي؟»
فقال الشيح، كلام في هذا المعنى: «قالت: يا ولر، إنني أخشى ألا أكون قد فعلت لك ما كان أولى بي أن أفعله، فأنت رجل حنون كريم القلب، وكان في وسعي أن أجعل بيتك أكثر سعادة ورغدا، ولكني بدأت أدرك الآن - بعد فوات الأوان - أنه إذا أرادت المرأة المتزوجة أن تكون متدينة، فلتبدأ أولا بتأدية واجباتها نحو بيتها، فتجعل كل من حولها سعيدا هنيا، وإذا أرادت أن تذهب إلى الكنيسة، أو المعبد، أو ما أشبه بهما، في المواقيت المقررة للعبادة، فلتحرص على ألا تجعل من هذا التدين عذرا تبرر به فراغها وإهمالها وإمعانها في رغباتها، وقد فعلت أنا ذلك، فأضعت الوقت والمادة فيهما أكثر من أي امرأة سواي، ولكني أرجو يا ولر حين أرتحل من هذه الدنيا أن تفكر ذلك التفكير الذي كنت تفكره قبل أن أعرف هؤلاء الناس، وكما رأيتني يومئذ على سجيتي وطبعي، فقلت لها وقد فاجأتني يا صمويل بهذا القول الأليم: نعم، لا أنكر يا بني أنها أخذتني به على غرة. قلت: سوزان، لقد كنت زوجة طيبة كريمة علي كل الطيبة، ونهاية الكرم، فلا تقولي مثل هذا القول، وتشجعي يا عزيزتي ولا تحزني، وعيشي حتى تشهديني أكسر دماغ استيجنز. فابتسمت لهذا القول يا صموفيل - وهنا كبت الشيخ بقصبة تبغه زفرة شاهقة، وانثنى يقول: ولكنها مع كل هذا ماتت.»
وقال سام على سبيل تقديم مواساة يسيرة للتخفيف عن أبيه، بعد فترة صمت استغرقت ثلاث دقائق أو أربع، قضاها الشيخ في هز رأسه يمنة ويسرة، ومواصلة التدخين في أسف ووجوم: «نعم، يا معلم، نحن كلنا لها، يوما.»
وقال المستر صمويل الكبير: «هذا محتم يا سامي، هذا أمر لا بد منه.»
وقال سام: «إن يد الله وتقديره من وراء هذا كله.»
وأجاب الوالد، وهو يومئ إيماءة موافقة حزينة: «بالطبع، وإلا ماذا كان ناقلو الموتى يفعلون، لولا هذا يا سامي؟»
وسرح المستر ولر الكبير في ذلك الوادي الفسيح من الخواطر والأفكار الذي فتحت هذه الفكرة بابه، فوضع القصبة فوق المنضدة وراح يحرك جذوات النار بوجه كاسف غارق في التفكير.
وبينما كان الشيخ في سرحته تلك، جاءت طاهية بضة في ثياب الحداد، كانت من قبل تروح وتغدو حول مكان الشراب، فألقت حين تسللت إلى الغرفة عدة نظرات على سام تدل على أنها تعرفه، ووقفت خلف كرسي أبيه، معلنة قدومها بسعلة خفيفة، لم تكد تتبين أنه لم يفطن إليها، حتى أتبعتها سعلة أخرى أعلى من الأولى صوتا.
وقال المستر ولر الكبير وقد ألقى المحراك من يده وهو يتلفت حوله، ويبادر إلى سحب مقعده بعيدا من الموقدة: «نعم! ماذا جرى الآن؟»
وقالت المرأة البضة ملاطفة: «هيا تناول فنجانا من الشاي أيها الرجل الصالح.»
وأجاب المستر ولر في شيء من الانفعال: «كلا، لا أريد، سأراك.» وهنا أسرع في ضبط نفسه. فقال بصوت منخفض: «فيما بعد.»
وقالت المرأة، وهي ترفع بصرها: «ويحي! ويحي! لكم تغير الشدائد نفوس البشر!»
وتمتم المستر ولر قائلا: «لن يغير ما بي بعد اليوم غير هذا الذي جرى، والطبيب.»
وقالت المرأة البضة: «ما رأيت في حياتي حقا رجلا غضوبا حادا بهذا الشكل.»
وأجاب الشيخ: «لا بأس، كل هذا في مصلحتي، وهي الفكرة ذاتها التي خطرت للتلميذ النادم عندما مدوه، وضربوه ليهدئوا بالضرب خاطره.»
وهزت المرأة البضة رأسها هزة رثاء وعطف وانثنت إلى سام تسأله ألا ينبغي لأبيه حقا أن يحاول التسرية عن نفسه، وألا يستسلم لهذا الحزن الذي استولى عليه قائلة: «لا يخفى عليك يا مستر صمويل أنه سيشعر بوحشة، كما قلت له أمس، فلا يمكن أن يتوقع إلا ما هو كائن ولكن يجب أن يتشجع ويتأسى. وأنا واثقة أننا جميعا راثون لحاله، شاعرون بمصابه، ومستعدون لعمل أي شيء من أجله، وما من أمر في هذه الدنيا يا مستر صمويل إلا وله علاجه، وهذا هو عين ما قاله لي رجل فاضل كبير عند وفاة المرحوم زوجي.» وهنا وضعت المرأة البضة يدها فوق فمها وسعلت مرة أخرى ونظرت بحنان إلى الشيخ.
وقال هذا بجد وهدوء: «لست بحاجة اللحظة إلى سماع شيء من كلامك، فهلا تكرمت بالانصراف؟»
وأجابت المرأة البضة: «أنا متأكدة يا مستر ولر أنني ما تكلمت إلا من قبيل الشفقة.»
وقال المستر ولر: «لا يبعد يا سيدتي! يا صموفيل خذ السيدة إلى الباب وأغلقه في أثرها.»
ولم يفت هذا التلميح المرأة البضة فغادرت الغرفة في الحال وأغلقت الباب بعنف خلفها، وأسند المستر ولر ظهره إلى المقعد وهو يتصبب عرقا.
وقال لفتاه: «اسمع يا سامي، إذا أنا بقيت هنا وحدي أسبوعا آخر، أسبوعا آخر يا بني، فسوف تتزوجني هذه المرأة بالقوة والإكراه قبل انقضائه.»
وقال سام: «يا للعجب! أهي مولعة بك إلى هذا الحد؟»
وأجاب والده: «مولعة! لقد عجزت عن إبعادها عني، ولو كنت مغلقا علي في خزانة واقية من النار، وعليها علامة «البراهمة» لما عز عليها أن تهتدي إلى وسيلة للوصول إلي يا سامي.»
وقال سام وهو يبتسم: «ما أحسن حظك، إذا كانت النساء هكذا متهافتات عليك.»
وأجاب المستر ولر وهو يحرك النار بقوة: «أنا لست في مقام التباهي بذلك، ولكن الموقف شنيع، حتى ليضطرني فعلا إلى ترك البيت والفرار من هذا البلد، فما كادت امرأة أبيك المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة حتى أرسلت إلي امرأة عجوز «علبة مربى»، وأخرى علبة «فالوذج» وثالثة جرة كبيرة من نقيع اصطنعته من الشاي المخلوط بالبابونج، وجاءت به تحمله بنفسها»، وتمهل المستر ولر ليبدي منتهى الاشمئزاز ثم تلفت حوله وأردف قائلا: «وكلهن أرامل يا سامي عدا صاحبة الشاي والبابونج فهي شابة في الثالثة والخمسين.»
فكان جواب سام نظرة ماجنة. وراح الشيخ يكسر قطعة من الفحم متأبية على الكاسر، وهو يلوح من شدة الانفعال والحقد كأنه إنما يكسر رأس واحدة من تلك الأرامل.
وأنشأ يقول: «وباختصار يا سامي أشعر بأنني لست آمنا في أي مكان غير مقعد السائق في المركبة.»
وقال سام: «وكيف تكون أكثر أمانا فيه من أي موضع سواه؟»
وأجاب المستر ولر وهو يطيل النظر في وجه ابنه: «لأن السائق إنسان ممتاز؛ لأنه يستطيع أن يفعل دون ريبة ما لا يجوز للآخرين أن يفعلوه؛ ولأنه أيضا قد يكون على أحسن حال من المودة مع المسافرات ولو ثمانين ميلا، ولا يخطر ببال أحد أنه يقصد الزواج بأي واحدة منهن، فهل في وسع أي إنسان آخر يا سامي أن يقول هذا القول؟»
وقال سام: «صحيح، إن هناك شيئا في هذا الكلام.»
ومضى المستر ولر في تأييد قوله بالحجة فقال: «لو كان سيدك سائقا، فهل تظن أن المحلفين كانوا يدينونه إذا فرضنا أن المسألة وصلت فعلا إلى هذا الحد البعيد؟ أنا واثق أنهم ما كانوا يحكمون هذا الحكم.»
وقال سام بلهجة أقرب إلى الانتقاص من هذه الحجة: «وما الذي كان سيمنعهم؟»
وأجاب المستر ولر: «تسألني لماذا! لأن ذلك كان يتعارض مع ضمائرهم، فإن السائق المحترف المنظم هو نوع من الحلقة الواصلة بين «العزوبة» والزوجية، وهذا هو ما يعرفه كل رجل عملي.»
وقال سام: «ما هذا الذي تقوله! هل تقصد أنهم محظوون عند الناس جميعا فلا أحد يمكن أن يستغلهم.»
وأومأ والده مؤمنا على قوله، ومضى يقول: «ولست أدري كيف يحدث هذا، ولكني أعتقد أن للسائقين الذين يسافرون بالمركبات العامة في رحلات طويلة فتنة، وجاذبية، تجعلهم دائما منظورا إليهم، بل يصح لي أن أقول: إنهم معبودو كل امرأة شابة، في كل بلدة يمرون بها، ولا أعرف السبب، وكل ما أعرفه هو أن هذا هو الذي يحدث فعلا، هو تدبير وضعته الطبيعة أو صرف لها كما كانت المرحومة امرأة أبيك المسكينة تقول عادة.»
وقال سام وهو يصحح كلام أبيه: «تقصد أن تقول: «تصرفات» الطبيعة.»
وأجاب المستر ولر: «جميل جدا يا صموفيل، تصرفات الطبيعة، إذا كنت ترى أن هذه الكلمة أحسن وأفضل، ولكني اعتدت أن أسميه «صرفها»، كما رأيته مكتوبا على المحال التي يعطونك فيها أدوية بالمجان إذا أنت أحضرت الزجاجة الفارغة من عندك هذا هو كل ما في المسألة.»
وانثنى المستر ولر بعد هذه الكلمات يملأ قصبته مرة أخرى ويشعلها، ويتخذ سمات التفكير فيمضي قائلا: «ولهذا يا بني لا أرى من المستحسن أن أبقى هنا لأتزوج سواء رضيت أو لم أرض، وبما أني لا أحب أن أبتعد كلية عن أفراد هذا الجنس اللطيف في المجتمع، فقد عزمت على أن أسوق المركبة القديمة التي ندعوها «الأمان»، وأعود إلى السكنى في فندق «بل سوفاج»؛ لأنه مسقط رأسي يا سامي.»
وقال سام: «والعمل هنا، ما العمل فيه؟»
وأجاب الشيخ: «العمل هنا يا صموفيل، واسم المحل، والشهرة، والبضاعة، والأثاثات كلها سأبيعها «بالممارسة»، ومن هذا المال، سوف أضع مائتين من الجنيهات باسمك تنفيذا لوصية المرحومة امرأة أبيك قبل وفاتها بقليل، في ذلك الشيء الذي يسمونه ماذا يا سام؟»
وقال سام: «أي شيء تعني؟»
وأجاب الوالد: «ذلك الشيء الذي يرتفع ويهبط في حي العمل والتجارة.»
وقال سام: «هل تقصد العربات الحافلة؟»
وأجاب المستر ولر: «هراء! ليس هذا، إنما أقصد تلك الأشياء التي تتقلب أسعارها من وقت إلى آخر، وتتصل نوعا ما بالدين العام وأذونات الخزانة، وما أشبه بها.»
وقال سام: «آه! تقصد الأوراق المالية.»
وأجاب المستر ولر: «آه، الأوراق المالية! سأضع مائتي جنيه باسمك لاستثمارها يا صموفيل بسعر «الفائدة» أربعة ونصف في المائة.»
وقال سام: «كان كريما من المرأة العجوز أن تفكر في أمري على هذه الصورة. إنني مدين لها كثيرا لهذا الجميل.»
ومضى المستر ولر يقول: «وأما الباقي فسأودعه باسمي أنا، وحين أرحل من الطريق سيؤول إليك، فاحرص على ألا تنفقه كله مرة واحدة يا بني، واحذر أن تدع أرملة تظفر منه بشيء وإلا ضعت.»
وعاد المستر ولر بعد هذا التحذير إلى قصبته وقد هدأ وجهه وسكن خاطره كثيرا، عقب مكاشفة ابنه بهذه المسائل.
وقال سام: «أسمع دقا بالباب.»
وأجاب أبوه بكل سكينة وكبرياء: «ليدقوا ما شاءوا.»
وامتثل سام لأمر والده، فلم يذهب ليرى من الطارق، ولكن الدق تكرر مرارا، وكانت الدقة الأخيرة طويلة المدى، فسأل سام أباه لماذا يريد منع الطارق من الدخول.
وهمس المستر ولر وهو بادي الخوف: «صه! لا تهتم يا سامي إنها إحدى أولئك الأرامل، ربما.»
وإذ كان أحد لم يحفل بذلك الدق المتوالي، فإن الزائر المجهول عقب فترة قصيرة تجرأ ففتح الباب وأطل منه، ولم يكن الرأس الذي ظهر من الفتحة اليسيرة رأس أنثى، ولكنه كان رأس المستر استيجنز بفروعه السود الطوال ووجهه الأحمر، فما كاد المستر ولر يلمحه حتى سقطت القصبة من يديه.
وانثنى السيد المحترم ففتح الباب شيئا فشيئا بشكل غير محسوس إطلاقا، حتى جعل الفتحة من السعة بحيث تسمح لبدنه النحيل بالدخول، وتسلل إلى الغرفة وأغلق بابها في أثره بكل عناية ورفق، وتقدم نحو سام، فرفع يديه وعينيه، وتعبيرا صامتا عن حزنه الذي لا يوصف من جراء هذا المصاب الجلل الذي منيت به الأسرة، وحمل المقعد العالي المظهر إلى الركن الذي اعتاد الجلوس فيه بجوار الموقدة، فاقتعد حافته، وأخرج منديلا أسود فوضعه على عينيه.
وكان المستر ولر خلال ذلك كله قد أسند ظهره إلى مقعده فاتحا عينيه على سعتهما، وواضعا يديه فوق ركبتيه، وقد بدت على وجهه سمات الدهشة الغامرة المذهلة، بينما جلس سام قبالته في صمت تام، مترقبا في لهفة بالغة، ختام هذا المشهد.
وظل المستر استيجنز واضعا منديله الأسود على عينيه بضع دقائق، وهو يبكي ويئن طويلا، ثم ما عتم أن تغلب على شعوره بجهد جهيد، فأعاد المنديل إلى جيبه وزرره، ثم حرك النار، ثم فرك يديه، ونظر إلى سام.
قال وهو يبدد ذلك السكون الطويل بصوت خافت: «آه، يا صديقي الشاب، إنه لمصاب أليم.»
وأومأ سام إيماءة خفيفة.
وأردف المستر استيجنز: «وإذا حل بالرجل الغضوب أيضا فإن القلب ليدمى!»
وسمع سام أباه يغمغم ببعض القول، بسبيل جعل «الأنف» يدمى، ولكن المستر استيجنز لم يسمع شيئا.
وقرب المستر استيجنز مقعده من سام وهمس قائلا: «أتعرف أيها الفتى هل تركت لعمانويل شيئا؟»
وقال سام: «ومن هو عمانويل هذا؟»
وأجاب المستر استيجنز: «الكنيسة، كنيستنا، جمعيتنا يا مستر صمويل .»
وقال سام بلهجة قاطعة: «لم تترك للجمعية شيئا، ولا للراعي شيئا، ولا «للبهائم» شيئا، ولا للكلاب أيضا.»
ونظر المستر استيجنز بمكر إلى سام، ورمق الشيخ بعينه كذلك، وكان هذا جالسا مغمضا جفنيه كأنه نائم.
وعاد المستر استيجنز يقرب مقعده مرة أخرى فقال: «ولا شيء لي أنا يا مستر صمويل؟»
وهز سام رأسه.
وقال المستر استيجنز وقد ارتد وجهه شاحبا: «أعتقد أن هناك شيئا لي. فكر يا مستر صمويل، ألا من تذكار صغير؟»
وأجاب سام: «ولا ما يعادل ثمن مظلتك القديمة هذه.»
وقال المستر استيجنز مترددا بعد تفكير عميق: «ألا يجوز أن تكون قد أوصت الرجل الغضوب بي خيرا يا مستر صمويل.»
وأجاب سام: «أعتقد مما قاله أن هذا جائز جدا لقد كان يتكلم عنك منذ هنيهة.»
وقال المستر استيجنز وقد عاد وجهه يتهلل: «أحقا؟ آه، أراه قد تغير، وأحسبنا سنعيش الآن معا في وئام، أليس كذلك يا مستر صمويل؟ وفي إمكاني أن أعني بممتلكاته في غيابك عناية تامة، أليس كذلك؟»
وسكت المستر استيجنز يرتقب الجواب، بعد أن أرسل زفرة مستطيلة، وأومأ سام برأسه، وأطلق المستر ولر الكبير صوتا غير مألوف، لا هو بأنين، ولا شهيق، ولا زفير، ولا تنهد، ولا زمجرة، بل صوتا يجمع بين تلك الأربعة كلها في نبرات واحدة.
وفهم المستر استيجنز أن هذا الصوت ينم عن ندامة فتشجع، وتلفت حوله، وفرك يديه، وبكى، وابتسم، وعاد يبكي، ثم مشى برفق فاجتاز الغرفة إلى رف في ركن كان يذكره حق الذكرى، فتناول من فوقه قدحا كبيرا ووضع فيه بكل تؤدة أربع قطع من السكر، وعندئذ وقف يتلفت حوله، وتنهد بحزن شديد، وتقدم بخطى رفيقة إلى محل الشراب، ولم يلبث أن عاد بالقدح ممتلئا إلى نصفه «روما» من نقيع الأناناس وتقدم نحو الوعاء الذي كان يئز في مرح فوق النار فمزج الشراب، وحركه، وارتشفه، وجلس، ثم أخذ جذبة طويلة من الروم المشعشع، وأمسك ليسترد أنفاسه.
وكان المستر ولر الكبير لا يزال يبدي محاولات غريبة شاذة ليتراءى نائما، فلم ينبس بأية كلمة طيلة هذه الفترة، ولكنه ما كاد يرى استيجنز يقف عن الشراب ليسترد أنفاسه، حتى انقض عليه فاختطف القدح من يده، وألقى ببقية الروم والماء فوق وجهه، ورمى القدح ذاته في الموقدة، وتناول السيد المحترم من طوق ردائه بقوة، ومضى يركله فجأة بقدميه ركلا شديدا، شافعا كل ضربة من حذائه الطويل بلكمات ولطمات عنيفة فوق أوصاله وعينيه وسائر أجزاء بدنه.
وصاح قائلا: «يا سامي اكبس قبعتي فوق رأسي جيدا.»
وامتثل سام البار أمر أبيه فكبس رأس الوالد في القبعة بشريطها المستطيل، فعاد هذا الركل والضرب بخفة متزايدة، وسقط هو والمستر استيجنز من خلال مكان الشراب، ثم من الممر، حتى الباب الخارجي، ثم إلى الشارع، والركل مستمر متزايد عنيفا، كلما ارتفع الحذاء المستطيل ثم هوى.
وكان المنظر جميلا مثيرا لأشد الضحك، فقد ظل الرجل الأحمر الأنف يتلوى في قبضة المستر ولر ويرعش جسمه كله من شدة الألم كلما توالت الركلات سراعا، بل كان المشهد أشد إثارة، حين راح المستر ولر بعد نضال شديد، يدخل رأس المستر استيجنز في مسقى ممتلئ ماء لشرب الخيل، ويمسك به كذلك حتى كاد الرجل يختنق.
وصاح المستر ولر: «هاك!» وقد ألقى بكل ما فيه من قوة في ركلة أصابت موضعا حرجا أشد الحرج عندما تركه أخيرا يسترد رأسه من جوف الحوض. ومضى الشيخ يقول: «هيا، أوفد أي أحد من أولئك الرعاة الكسالى؛ لكي أدقه أولا فأعمل منه هلاما ثم أغرقه بعد ذلك، يا سامي! كفك لتساعدني على الدخول، واملأ لي كأسا صغيرة من البراندي، فإني ألهث يا بني.»
هذا الخطاب من المستر ولر الكبير، وهو مكتوب على قدر علمه الضئيل بالهجاء؛ ولهذا جاء مليئا بالأغلاط وقد راعى المؤلف ذلك، ورأينا أن نراعيه نحن في النقل كذلك ما استطعنا.
الفصل الثالث والخمسون
يصف خاتمة المستر جنجل وجب ترتر، إلى جانب عمل كبير في ذات صباح في ميدان «جريز ان»، وينتهي بدق متكرر بباب المستر بركر. ***
ولما أقدم المستر بكوك أخيرا على أنباء أرابلا بتلك النتيجة غير المرضية التي أسفرت عنها زيارته لبرمنجهام بعد أن مهد لهذا النبأ بعض التمهيدات اللطيفة، وأكد لها مرارا أنه ليس ثمة أقل سبب يدعو إلى الاكتئاب، لم تلبث أن ذرفت الدمع وأجهشت بالعبرات، وأبدت أسفها البالغ أن تكون هي السبب لهذه القطيعة بين أب وابنه.
وقال المستر بكوك بحنان: «إن الذنب ليس ذنبك يا ابنتي العزيزة، لقد كان من المستحيل التنبؤ بأن ذلك الشيخ سيعارض معارضة شديدة في زواج ابنه، كما لا يخفى.» ونظر إلى وجهها المليح وأردف يقول: «إنني متأكد أنه خالي الذهن من السرور الذي أبى إلا أن يحرم نفسه منه.»
وقالت أرابلا: «رآه، يا عزيزي المستر بكوك، ماذا نحن صانعون إذا هو أصر على غضبه علينا؟»
وأجاب المستر بكوك وهو منشرح: «صبرا يا عزيزتي حتى يفكر ويتدبر، ويعدل عن رأيه الأول.»
وعادت أرابلا تقول: «ولكن يا عزيزي المستر بكوك ماذا تكون حال ناثانيال إذا امتنع أبوه عن معونته؟»
وأجاب المستر بكوك: «في هذه الحال يا حبيبتي سأجرؤ على التنبؤ بأنه سوف يجد عندئذ صديقا آخر لن يتردد في معاونته على تنظيم أحواله والبدء في العمل لمستقبله.»
ولم يحسن المستر بكوك كثيرا في إخفاء دلالة هذا القول، ففطنت أرابلا إلى المراد منه، فطوقت عنقه بذراعيها، وقبلته قبلات بر وشكر، ومضت تنتحب أشد من قبل.
وقال المستر بكوك وهو يتناول يديها: «لا عليك، لا عليك، كفكفي الدمع، سنطيل المقام هنا بضعة أيام أخر لنرى هل يكتب أو يعني بالرد على كتاب زوجك، فإن لم يفعل فإن في خاطري عدة خطط تكفي أية واحدة منها لإسعادكما في الحال، فلا عليك يا بنية، لا عليك!»
وبهذه الكلمات ضغط المستر بكوك يدها برفق وطلب إليها أن ترقأ دموعها، ولا تزعج خاطر زوجها، فلم تلبث أرابلا، العاقلة الأريبة، التي تعد في مصاف خير النساء في هذا العالم وفضلياتهن، أن وضعت منديلها في حقيبتها الصغيرة. ولم يكد المستر ونكل يوافيهما حتى انثنت تبدي بريق تلك البسمات المشرقة وتينك العينين الباهرتين اللتين فتنتاه من قبل وأسرتا فؤاده .
وفي صباح اليوم التالي مضى المستر بكوك يناجي خاطره بقوله: «إن هذه لحال مزعجة لهذين الزوجين الشابين، فلأذهب إلى مكتب بركر ولأستشره في الأمر.»
وكان ثمة حافز آخر يقتضي المستر بكوك الذهاب إلى ذلك المكتب في ميدان «جرايز ان»، وهو رغبته الشديدة في إجراء تسوية مالية مع ذلك المحامي الطيب الحدب، بلا تأخير طويل، فتناول فطورا سريعا، وبادر إلى تنفيذ عزمته، فلم تكن الساعة قد دقت بعد العاشرة، حين وصل إلى «جرايز ان».
وكانت قد بقيت عشر دقائق أخرى على تمام العاشرة، في اللحظة التي كان فيها يصعد السلم إلى مكتب وكيله، فلم يكن الكتبة قد وصلوا بعد فوقف لقضاء الوقت بالتطلع من نافذة السلم.
وكان الضياء المشرق في ذلك الصباح الصافي، في أحد أيام شهر أكتوبر، قد جعل الدور القديمة القاتمة نفسها تسطع قليلا، وبعض النوافذ المغبرة تلوح فرحة بهيجة المشهد في أشعة الشمس الساطعة عليها، فرأى كاتبا بعد كاتب قد أقبل مسرعا إلى الساحة، من بعض المداخل المتفرقة إليها، وهو ينظر إلى ساعة الجدار المعلقة في البهو العام، فيزيد في سرعته، أو ينقص منها، تبعا لموعد ابتداء العمل في المكتب الذي يعمل فيه، ولم يلبث الذين كان موعد وصولهم النصف بعد التاسعة أن نشطوا فجأة في مسيرهم، بينما خفف القادمون عادة في العاشرة من خطاهم، فمشوا بطاء كأنهم أهل الوجاهة والمحتد. ودقت الساعة العاشرة، فازداد تدفق الكتبة على المبنى وهم سراع مبادرون، وكل منهم أشد تصببا بالعرق من سابقه، وكانت أصوات المفاتيح في الأقفال وفتح الأبواب المغلقة تتردد في كل ناحية، وبدت الرءوس من النوافذ كأنها جاءت إليها بسحر ساحر، واتخذ حراس الأبواب أماكنهم لنوبة النهار، وجاءت الغسالات في أخفافهن مسرعات، وراح ساعي البريد يعدو من بيت إلى بيت، واشتدت الحركة والعجيج في تلك «الخلية» الكبيرة المليئة بمكاتب المحامين.
وقال صوت من الخلف: «لقد أتيت مبكرا يا مستر بكوك.»
وأجاب هذا السيد وهو يلتفت وراءه، ويتبين صديقه القديم: «آه، يا مستر لوتن.»
وقال لوتن وهو يخرج مفتاحا من نوع «البراما» من جيبه. له غطاء مستدير صغير لمنع الغبار: «المشي السريع مدفئ للجسم، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك، وهو يبتسم للكاتب الذي بدا أحمر الوجه من حرارة المشي السريع: «الظاهر أنك تشعر بأنه كذلك.»
وأجاب لوتن: «الحقيقة أنني قطعت المسافة مسرعا، فقد كانت الساعة التاسعة والنصف وأنا أخترق «البوليجن»، ولكني قد وصلت قبل قدومه، فلا يهم إذن شيء بعد ذلك.»
وبهذا الخاطر الذي أزال المستر لوتن به انزعاجه، وأرسل الطمأنينة إلى نفسه، انتزع المفتاح من القفل، وفتح الباب، ودس المفتاح في جيبه والتقط الخطابات التي ألقاها ساعي البريد من خلال فتحة الصندوق، وأشار إلى المستر بكوك بالدخول، وفي لمح البصر خلع رداءه ولبس رداء خشنا أطلعه من الدرج، وعلق قبعته وأخرج بضع صفحات من الورق المقوى «الكرتون» وورق النشاف، واحتجز القلم خلف أذنه ومضى يفرك يديه في ارتباك شديد.
وأنشأ يقول: «هكذا ترى يا مستر بكوك أنني الآن مستعد تماما. فقد لبست سترة المكتب، وأخرجت المسند والنشاف، فليأت وقت ما يعجبه. أليست معك ولا كمية صغيرة من السعوط؟»
وأجاب المستر بكوك: «كلا، ليس معي.»
وقال لوتن: «متأسف، ولكن لا بأس، سأذهب في الحال وأحضر زجاجة من الصودا. قل لي يا مستر بكوك، هل أبدو غريبا حول العينين؟»
ووقف المستر بكوك يتطلع إلى عيني لوتن من مسافة قريبة، ثم قال: إنه لا يرى شيئا غريبا حول العينين.»
وقال لوتن: «الحمد لله! لقد أطلنا السهر في حانة «الاستامب» الليلة البارحة، وأنا في هذا الصباح منحرف المزاج قليلا. وبهذه المناسبة أقول: إن بركر بحث في مسألتك خلال اليومين الماضيين.»
وسأل المستر بكوك: «أي مسألة؟ هل تعني مسألة الأتعاب المطلوبة من مسز باردل؟»
وأجاب المستر لوتن: «كلا، ليس هذا ما أقصد، بل أعني مسألة ذلك العميل الذي دفعنا باسمه عشرة شلنات من كل جنيه كان به مدينا بعد الخصم، وأضفنا المبلغ المدفوع في حسابك، وأخرجناه من سجن «فليت» كما تعلم، وبدأنا نبحث في تدبير اللازم لإرساله إلى دمرارا.»
1
وقال المستر بكوك في عجلة : «آه، المستر جنجل، وماذا تم في أمره؟»
وعاد لوتن يقول وهو يصلح من قلمه: «لقد تم تدبير الأمر، ويقول وكيل الشركة في لفربول إن لك عليه عدة مآثر حين كنت في العمل، وأنه يسره أن يقبله إذا أوصيت به.»
وقال مستر بكوك: «هذا حسن، ويسرني سماعه.»
وقال لوتن وهو يمسح ظهر القلم استعدادا لثقبه من جديد: «ولكني أقول: إن الشخص الآخر رخو.» - «أي شخص آخر؟» - «ذلك الخادم، أو الصديق، أو كائنا من يكون، وأنت عارفه، أقصد ترتر.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «آه! لقد كنت دائما أعتقد أنه عكس ما وصفته به.»
وأجاب لوتن: «لقد كان هذا هو رأيي بالذات من القليل الذي رأيته منه، وهذا يدل على أن المرء كثيرا ما ينخدع، ولكن ما رأيك في ذهابه «هو» أيضا إلى دمرارا؟»
وصاح المستر بكوك من فرط الدهشة: «ماذا! ويرفض ما عرض عليه هنا!»
وأجاب لوتن: «لقد قابل ما عرضه عليه بركر وهو ثمانية عشر شلنا في الأسبوع، وترقيته إذا هو أحسن السلوك، قابل هذا العرض بالرفض، وقال: إنه لا بد له من الذهاب مع الآخر، وما زالا ببركر حتى كتب مرة أخرى، فأعطوه شيئا في المكان عينه، وإن قال بركر: إن الذي عرض عليه ليس حسنا إلى الحد الذي يعطى للسجين المرسل إلى مستعمرة «نيو ساوث ويلز» إذا هو بدا عند الكشف عليه في حلة جديدة.»
وقال المستر بكوك وعيناه تبرقان: «يا له من أحمق، يا له من أحمق.»
وأجاب لوتن وهو يجدد سنان القلم، وقد بدت أمارات الاحتقار والازدراء على وجهه: «بل إنه لشر من ذلك وأسوأ، إنها خسة متناهية كما ترى، وهو في تبرير موقفه يقول: إنه الصديق الوحيد الذي أتيح له في هذا العالم، وأنه متعلق به، وما إلى هذه الشفائع وأمثالها. والصداقة شيء جميل جدا في ذاته، ونحن جميعا على مودة وصداقة وعلاقة طيبة في حانة «الإستامب» مثلا، وإذا اجتمعنا على الشراب، ودفع كل منا حسابه، ولكن الإضرار بالنفس لأجل خاطر الغير، شيء سخيف، وعمل لا مبرر له، وليس لأي امرئ في هذه الحياة غير شيئين يستحقان التعلق بهما. أولا أو رقم (1) هو نفسه، ورقم (2) النساء. هذا هو رأيي، ها! ها!» وختم المستر لوتن قوله هذا بضحكة صاخبة، كانت مزيجا من ممازحة وسخرية، ولكنها لم تطل، إذ ارتفع صوت مواقع قدمي المستر بركر فوق السلم، فبادر الكاتب إلى كرسيه العالي بخفة عجيبة كل العجب، وأكب على الورق وراح يكتب منهمكا في كنايته.
وكان السلام المتبادل بين المستر بكوك ومستشاره القضائي حارا ووديا، ولكن ما كاد العميل يستقر في المقعد الرحيب في غرفة محاميه، حتى سمعا دقا بالباب وصوتا يسأل: «هل بركر هنا؟»
وقال بركر: «صه! هذا أحد صاحبيك المتشردين، جنجل نفسه يا سيدي العزيز، هل تحب أن نقابله؟»
وسأل المستر بكوك بتردد: «ما رأيك أنت؟»
وأجاب بركر: «أرى أنه يحسن بك أن تراه. أنت يا هذا، ما اسمك؟ تعال، ادخل.»
وامتثالا لهذه الدعوة الجافة الخلية من كل احتفال أو سلام، تقدم جنجل، وفي أثره جب، ولكن لم يكد الأول يلمح المستر بكوك حتى وقف في شيء من الارتباك.»
وقال بركر: «حسن، ألا تعرف هذا السيد؟»
وأجاب جنجل وهو يتقدم خطوات: «لدي أسباب قوية تعرفني به. المستر بكوك، مدين له بأكبر الصنائع والأفضال، منقذ الحياة، جعل مني رجلا، لن تندم يوما يا سيدي على ما صنعت.»
وقال المستر بكوك: «يسعدني أن أسمعك تقول ذلك، إنك لتلوح أحسن كثيرا مما كنت.»
وأجاب جنجل وهو يهز رأسه: «والفضل لك يا سيدي، تغيير شديد، سجن فليت الملكي، مكان غير صحي، سفر، إلى أقصى حد»، وكان جنجل في زي حسن، وهندام نظيف وكذلك بدا جب الذي وقف خلفه يحملق ببصره في وجه المستر بكوك، بسحنة كالحديد.
وسأل المستر بكوك بصوت خافت محاميه: «ومتى سيسافران إلى ليفربول؟»
وقال جب، وهو يتقدم خطوة: «في السابعة من مساء اليوم يا سيدي، في المركبة الحافلة التي تغادر المدينة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «وهل حجز لكما مكان؟»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي.»
قال: «وهل عزمت عزما أكيدا على الذهاب؟»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي.»
وانثنى المستر بركر يقول متجها إلى المستر بكوك بصوت مرتفع: «أما مسألة الأمتعة التي لا غنى لجنجل عن أخذها معه، فقد أخذت على عاتقي شخصيا اتخاذ التدابير لاقتطاع مبلغ صغير من مرتبه كل ثلاثة شهور، لمدة سنة واحدة، وهو كاف لأداء نفقات تجهيزه بما هو بحاجة إليه، إنني لا أوافق مطلقا على أن تتولى أنت عمل أي شيء له، يا سيدي العزيز، بل تتركه لمجهوده وحسن سلوكه.»
وقال جنجل بلهجة قاطعة: «بلا شك، تفكير سليم - رجل عمل - هذا حق - تماما».
ومضى بركر يقول دون اكتراث بملاحظات جنجل: «وقد اتصلت بدائنه، للإفراج عن ملابسه المرهونة حين كان في السجن، ودفعت عنه أجر السفر، فكان مجموع المال الذي خسرته في سبيله أكثر من خمسين جنيها».
وقال جنجل في عجلة: «لم يخسره - سأدفعه كله - مسألة عمل - وحساب - سأسدده إلى آخر درهم - الحمى الصفراء جائز - ليس لي فيها حيلة - أما إذا لم». وهنا تمهل المستر جنجل، فضرب قمة قبعته بعنف شديد، ومر بكفه على عينيه، ثم جلس.
وتقدم جب بضع خطى فقال: «إنه يقصد أن يقول: إنه إذا لم تمته الحمى فسوف يرد المال كله، وثق أنه فاعل يا مستر بكوك إذا ظل حيا، وسأتولى الرقابة على السداد، فإني على يقين أنه مسدده، وفي وسعي أن أقسم اليمين على ذلك.»
وقال المستر بكوك، وكان قد رمق بركر بعشرات من النظرات العابسة والتجهمات؛ ليمنعه من الاسترسال في تعداد الصنائع والجمائل، والمحامي لا يعبأ بعبوسه ويأبى إلا المضي في التعداد: «حسن، حسن، ولكن لتحرص بعد اليوم فلا تلعب في مباريات «كريكت» خطرة يا مستر جنجل، ولا تجدد معرفتك بالسير توماس بليزو، ولا أكاد أشك في أنك ستحافظ على صحتك.»
وابتسم المستر جنجل لهذه «المغامز» وإن بدا رغم ابتسامه مرتبكا لا يدري كيف يكون الجواب، فلم يسع المستر بكوك إلا أن يغير الموضوع، فانثنى يقول: «ألا تعرف ماذا صنع الله بصديق آخر لك، صديق أكثر ذلك وضعة ، كنت قد رأيته في روشستر؟»
وسأل جنجل: «هل تقصد جيمي الكئيب؟» - «نعم.»
وهز جنجل رأسه فقال: «مجرم بارع - شخص غريب الأطوار - عبقري ألعبان - إنه شقيق جب.»
وصاح المستر بكوك: «عجبا، شقيق جب! إنني حين أنظر الآن إليه من قرب، أفطن إلى الشبه بينهما.»
وقال جب بنظرة مكر مختبئة في ركني عينيه: «لقد كان الناس دائما يعدوننا شبيهين قريبي الشبه يا سيدي، وإن كنت أنا في الحقيقة أكثر جدا بطبيعتي، أما هو فلم يعرف الجد في حياته، وقد هاجر إلى أمريكا يا سيدي لكثرة مطاردة الناس له في حياته، وبحثهم المستطيل عنه، مما لا يريح المرء ولا يهنأ له عيش من جرائه، ومن ذلك الحين لم يسمع أحد عنه شيئا.»
وقال المستر بكوك مبتسما: «ومن أجل هذا لم أتلق منه «قصة من صميم الحياة»، وعد أن يرسلها إلي في ذات صباح، حين بدا كأنما يفكر في الانتحار بإلقاء نفسه من فوق جسر روشستر، ولا أحسبني بحاجة إلى السؤال هل كان في ذلك حزينا حقا أو متصنعا؟»
وأجاب جب: «إنه يستطيع أن يتصنع أي شيء يا سيدي، فلتعد نفسك سعيدا جدا إذ نجوت منه بسهولة، فهو حتى في المودة، وتوثق الصلات، ليروح أشد خطرا من ...»، وهنا نظر جب إلى جنجل، وتردد، ثم أردف أخيرا يقول: «من - مني أنا نفسي!»
وقال بركر وهو يختم كتابا كأن قد فرغ من كتابته: «أسرة فيها خير ... أسرتك يا مستر ترتر.»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي، كثيرا جدا.»
وقال المحامي ضاحكا: «أرجو أن تخيب رجاءها، خذ هذا الكتاب وسلمه إلى الوكيل عند وصولك إلى ليفربول، وإني لأنصح لكما أيها السيدان ألا تستخدما ذكاءكما المفرط، وعلمكما الواسع، في جزائر الهند الغربية، فإن تركتما هذه الفرصة تفلت منكما، فأنتما أحق بالشنق، وأني لعلى يقين أنكما ستشنقان، والآن يحسن بكما أن تتركانا أنا والمستر بكوك وحدنا؛ لأن لدينا موضوعات أخرى سنتحدث فيها، والوقت ثمين»، ونظر بركر صوب الباب، برغبة ظاهرة في جعل فترة الوداع قصيرة بقدر الإمكان.
وكان الوداع في الواقع قصيرا مختصرا من جانب جنجل، فقد شكر المحامي في بضع كلمات سريعة على الحدب والاستعداد العاجل اللذين أبداهما في مساعدتهما، ثم التفت إلى المحسن إليه فوقف بضع ثوان مترددا لا يدري ماذا عسى أن يقول، أو يفعل. وبادر جب ترتر إليه ليغني عنه هذا الارتباك، فانحنى للمستر بكوك انحناءة شاكرة، وتناول صاحبه برفق من ذراعه، ومشى به منصرفا.
وما أن أغلق الباب عقب خروجهما حتى أنشأ المستر بركر يقول: «صاحبان فاضلان!»
وأجاب المستر بكوك: «أرجو الله أن يصبحا كذلك. ما رأيك فيهما؟ هل تحسبهما سينصلحان أبدا ويستقيمان؟»
وهز بركر كتفيه هزة المتشكك، ولكنه حين فطن إلى نظرة المستر بركر النامة عن القلق وخيبة الأمل، مضى يقول: «إن أمامها فرصة بلا شك، واستقامتهما جائزة، وأرجو أن تكون هذه الفرصة طيبة، وليس من شك في أنهما الآن نادمان تائبان، ولكنك تعلم أيضا أنهما لا يزالان يذكران المتاعب والمحن التي ألمت بهما من وقت قريب، فهي قائمة إلى الساعة في خاطرهما، ماثلة في ذاكرتهما، وليس في إمكاني ولا إمكانك أن نقطع برأي فيما سيكون من أمرهما إذا أصبحت هذه الذكريات قديمة، وذهبت من خاطرهما نسيا منسيا، إن هذه مشكلة لا نستطيع لها حلا.»
وهنا وضع المستر بركر يده على كتف المستر بكوك وأردف قائلا: «ومع ذلك يا سيدي العزيز إن هدفك لمشرف، ومرادك كريم جدير بالإكبار، مهما تكن العاقبة، وإني لتارك لمن هم أحجى مني وأكبر عقولا أن يقدروا هل ذلك النوع من البر الذي يحاط بأشد الحذر، ويقترن بأبلغ بعد النظر، حتى لا يكاد يتم؛ لئلا يقع صاحبه في ضلال، أو ينتهي منه إلى خدعة أو بأذى لعزته وجرح لكرامته، هو إحسان حقا، أو زهو باطل في هذا العالم، وتظاهر بالبر، وهو ليس منه في شيء، ولكن إذا عمد هذان المخلوقان إلى ارتكاب جريمة سطو غدا، فإن رأيي في عملك سيظل كما هو، رفيعا عظيما.»
وعقب هذه العبارات التي ألقاها المستر بركر بحرارة وجد أشد مما عرف عادة بين رجال القانون ، راح يدني مقعده من مكتبه، ويستمع إلى قصة عناد المستر ونكل الكبير كما مضى المستر بكوك يرويها له.
وهز المستر بركر رأسه هزة النبوءة وقال: «أمهلوه أسبوعا.»
وقال المستر بكوك: «هل تعتقد أنه سيرجع عنه؟»
وأجاب بركر: «أظن ذلك، فإذا لم يرجع، فلنجرب ماذا سيكون من العروس نفسها وتأثيرها في نفسه، لقد كان هذا هو أول عمل يلجأ إليه أي إنسان سواك.»
وكان المستر بركر يتناول قدرا من السعوط مصحوبا باختلاجات وتقلصات غريبة في عضلات وجهه، للتعبير بها عن قوة تأثير الغيد وسلطانهن، حين سمعت أصوات في المكتب الآخر بين أسئلة وأجوبة، وخطوات لوتن وهو يمشي إلى الباب فيطرقه طرقا خفيفا.
وصاح المحامي الصغير الجسم: «ادخل.»
ودخل الكاتب، وأغلق الباب وراءه بحركة غريبة كل الغرابة.
وقال بركر: «ما الخبر؟»
وأجاب لوتن: «أنت مطلوب يا سيدي.»
وقال بركر: «ومن الذي يطلبني؟»
ونظر لوتن إلى المستر بكوك وسعل.
وعاد المستر بركر يسأل: «من الذي يطلبني، ألا تستطيع الكلام يا مستر لوتن؟»
وأجاب هذا قائلا: «إنه يا سيدي ددسن ومعه فج.»
وقال المحامي وهو ينظر في ساعته: «يا للعجب العجاب، لقد عينت لهما الساعة الحادية عشرة والنصف للقدوم إلى هنا لتسوية مسألتك يا مستر بكوك، فقد أعطيتهما تعهدا بالدفع، وقاما من جانبهما بتبرئة ذمتك فأفرج عنك. إن الموقف حرج يا سيدي العزيز كما ترى، فماذا أنت فاعل؟ فهل تحب أن تدخل الحجرة الملاصقة؟»
وكانت الحجرة الملاصقة هي نفس الحجرة التي دخلها ددسن وفج، فكان جواب المستر بكوك أنه سيبقى حيث هو؛ وخاصة لأن من واجب الرجلين أن يستحيا من لقائه وجها لوجه، ولا يستحي هو من مواجهتهما. وهنا طلب إلى المستر بركر أن يلاحظ هذه النقطة بالذات، وقد احمر وجهه وبدت عليه بوادر الغضب والانفعال.
وأجاب المستر بركر: «حسن جدا، حسن جدا يا سيدي العزيز، ولكني أحب أن أقول شيئا واحدا، وهو أنك إذا كنت تنتظر من ددسن أو فج أن ينظر إليك، أو إلى أحد سواك، وجها لوجه، ويشعر بحياء أو يبدي أعراض خجل أو اضطراب فأنت مخدوع، بل أنت أسلم رجل رأيته في حياتي نية وأشدهم طيبة. أدخلهما يا مستر لوتن.»
وانصرف لوتن وهو يبتسم، وعاد على الأثر يعلن الشريكين بحكم الأسبقية، ددسن أولا، وفج وراءه.
وقال بركر لددسن وهو يشير بقلمه إلى المكان الذي كان المستر بكوك جالسا فيه: «أعتقد أنك رأيت المستر بكوك.»
وقال ددسن بصوت مرتفع: «كيف أنت يا مستر بكوك؟»
وصاح فج: «يا للعجب! كيف حالك يا مستر بكوك؟ أرجو أن تكون بخير يا سيدي. أعتقد أنني رأيت هذا الوجه»، وراح فج يسحب كرسيا ويتلفت حوله مبتسما.
وأحني المستر بكوك رأسه قليلا ردا على هذه التحيات، ورأى فج يخرج حزمة من الأوراق من جيب ردائه فنهض من مقعده ومشى إلى النافذة.
وقال فج وهو يفك الرباط الأحمر الذي يحيط بالرزمة الصغيرة، ويبتسم مرة أخرى ابتسامة أرق من الأولى: «لا حاجة بالمستر بكوك إلى القيام من مكانه يا مستر بركر، فهو عليم حق العلم بهذه الإجراءات، ولا أظن أن هناك أسرارا بيننا! ها! ها! ها! ها!»
وقال ددسن: «لا أظن أن هناك أسرارا كثيرة ها! ها! ها!» وضحك الشريكان معا، بمرح وسرور، كدأب الذين يتوقعون أن يتسلموا نقودا في أغلب الأحايين.
وقال فج بذلك المجون المعروف عن معاشر أمثاله، حين نشر أوراقه بين يديه: «سنطالب المستر بكوك بأن يدفع ثمن وقوفه من بعيد لينظر إلينا، إن جملة الأتعاب هي مائة وثلاثون جنيها وستة شلنات وأربعة بنسات يا مستر بركر.»
وأقبل فج وبركر على مقارنة الأوراق، ومراجعة الصفحات وتقليبها، عقب هذا البيان الذي ألقاه فج عن قيمة الأرباح والخسائر، بينما راح ددسن يقول بلطف للمستر بكوك: «لا أظنك تبدو بتلك البدانة ذاتها التي كنت تبدو بها حين حصل لي السرور بلقائك آخر مرة يا مستر بكوك.»
وقال المستر بكوك وكانت عيناه ترسلان نظرات غضب محتدم فلا تحدث تلك النظرات أقل أثر في نفس هذين النصابين الماكرين: «ربما لا يا سيدي، أعتقد أنني لا أبدو كما كنت قد أرهقني وآلمني «المجرمون» من عهد قريب يا سيدي.»
وهنا سعل بركر سعلة شديدة وسأل المستر بكوك: ألا يحب أن يقرأ جريدة الصباح؟ فرد هذا على السؤال برفض قاطع.»
وقال ددسن: «هذا صحيح، أعتقد أنك تألمت في سجن «فليت»، فهو يحوي شذاذا وقوما منكرين، وأين كنت فيه نازلا يا مستر بكوك؟»
وأجاب السيد الذي قاسى كثيرا: «كانت لي حجرة في الدور الذي يقع فيه المقهى.»
وقال ددسن: «آه، حقا، أعتقد أن هذا جناح لطيف جدا.»
وأجاب المستر بكوك بجفوة: «جدا.»
وكان ذلك كله يجري بهدوء يجعل أي امرئ أوتي مزاجا سريع التأثر في ظروف كهذه، أجنح إلى الغضب، وأنزع ما يكون إلى الهياج. ولكن المستر بكوك كبت غيظه بجهد جهيد، ولكن حين انثنى بركر يكتب صكا بالمبلغ المطلوب، وأخذه فج فوضعه في محفظة صغيرة، مبتسما ابتسامة فوز وانتصار تغمر تقاطيع وجهه المليء بالبثور، وتنتقل في الوقت ذاته إلى وجه ددسن العبوس، لم يلبث المستر بكوك أن أحس الدم يتصاعد إلى خديه في شدة الغضب.
وقال فج وهو يرد المحفظة إلى موضعها ويضع قفازه في كفيه: «والآن يا مستر ددسن، أنا تحت أمرك.»
وأجاب ددسن وهو ينهض: «جميل جدا ... أنا على أتم الاستعداد.»
وقال فج وقد هدأ «الصك» من خاطره: «إنني جد سعيد بمعرفة المستر بكوك، وأرجو ألا يكون رأيك فينا سيئا يا مستر بكوك كما كان عندما حظينا أول مرة بلقائك.»
وقال ددسن بلهجة ذي الفضل الذي أوذي في فضله، وأسيء من قبل إليه: «أرجو ألا يكون كذلك، ويقيني أن المستر بكوك قد عرفنا الآن أحسن مما كان يعرفنا، ومهما يكن رأيك في أهل مهنتنا، فإني أؤكد لك يا سيدي أنني لا أضمر لك سوءا في نفسي أو تشفيا، من أثر ذلك الشعور الذي رأيت من المناسب أن تبديه في مكتبنا في فريمتر كورت بحي كورنهل، في ذلك الحادث الذي أشار إليه زميلي منذ لحظة.»
وقال فج بلهجة صفح متناه: «كلا! كلا! ولا أنا أيضا.»
وعاد ددسن يقول: «إن تصرفنا غني بنفسه عن كل بيان، وأرجو أن يجد في ذاته ما يبرره في كل موقف، لقد قضينا في هذه المهنة أعواما، يا مستر بكوك، تشرفنا فيها بثقة عدة عملاء من أحسن طراز، طاب صباحك يا سيدي.»
وقال فج في أثره: «صباحا طيبا يا مستر بكوك» وراح يتأبط مظلته، وينزع قفاز يده اليمنى، ومد يد التراضي لذلك السيد الثائر المحنق، ولكن هذا انثنى يلقي يديه تحت ذيل ردائه، وينظر إليه نظرات دهشة وسخرية.
وعندئذ صاح بركر: «يا لوتن، افتح الباب.»
وقال المستر بكوك: «انتظر لحظة، سأتكلم يا مستر بركر.»
وقال هذا وهو في حالة عصبية من الإشفاق طيلة ذلك الحديث من أوله: «أرجوك يا سيدي العزيز أن تدع المسألة تستقر حيث استقرت، أرجوك يا مستر بكوك!»
وأجاب المستر بكوك في عجلة: «لن يمنعني شيء يا سيدي من الكلام - يا مستر ددسن، لقد وجهت لي بعض الملاحظات.»
والتفت ددسن حوله، وأحنى رأسه بهدوء وابتسم.
ومضى المستر بكوك يقول وهو يكاد يكون متقطع الأنفاس: «لقد وجهت إلي بعض الملاحظات، وبسط شريكك لي يده، واتخذتما لهجة الصفح والرفعة، وهو إمعان آخر منكما في القحة والجرأة لم أكن أتوقعهما من أحد حتى ولا منكما.»
وصاح ددسن: «ما هذا يا سيدي؟»
وردد فج قوله: «ما هذا يا سيدي؟»
وواصل المستر بكوك قوله: «ألا تعرفان أنني كنت ضحية كيدكما وفريسة مؤامراتكما، وهل تعرفان أنني أنا الرجل الذي ظللتما تسجنانه وتسرقانه، وهل تعرفان أنكما كنتما الوكيلين عن المدعية في قضية باردل وبكوك؟»
وأجاب ددسن: «نعم يا سيدي، نعرف ذلك.»
وتبعه فج وهو يضرب بيده على جيبه، ولعلها جاءت قضاء وقدرا: «بالطبع نعرف ذلك يا سيدي.»
وقال المستر بكوك، وهو يحاول لأول مرة في حياته إبداء حركة اشمئزاز واحتقار بشفتيه وأنفه، فلم يوفق مطلقا في محاولته: «أراكما تتذكران ذلك برضا وارتياح، وقد كنت منذ وقت طويل في لهفة على أن أقول لكما بصريح العبارة عن رأيي فيكما، وكان أولى بي أن أترك هذه الفرصة تمر، احتراما لرغبات صديقي بركر، ولكن هذه اللهجة التي عمدتما فجأة إليها، ورفع الكلفة في الحديث معي بشكل متبجح، أقول: إن هذه الألفة الوقحة التي أبديتماها يا سيدي»، وهنا التفت إلى فج بحركة موحشة جعلته يتراجع صوب الباب مسرعا.
وقال ددسن، وكان أضخم القوم كلهم بدنا، ولكنه وقف خلف فج محتميا، وانثنى يتكلم من فوق رأسه وهو شاحب اللون مصفره: «خذ حذرك يا سيدي، دعه يهاجمك يا مستر فج، ولا تقابل هجومه بهجوم مثله مهما يكن من الأمر.»
وقال فج وهو يتراجع أكثر من قبل، حتى اطمأن شريكه إلى أن تراجعه جعله يقترب من المكتب الخارجي شيئا فشيئا: «كلا! كلا! لن أقابل هجومه بمثله.»
واستتلى المستر بكوك، مستعيدا خيط الكلام الذي كان قد بدأه: «إنكما شريكان متعادلان كل التعادل، في اللصوصية والإجرام والتلاعب بالقضايا والعبث بالقانون.»
وهنا تدخل بركر قائلا: «كفى! ألا يكفي هذا؟»
وأجاب المستر بكوك: «إن الأمر كله يتلخص في كلمات، وهي أنهما لصان سافلان مجرمان متلاعبان بالذمم.»
وقال بركر بلهجة إرضاء بالغ: «كفى، لقد قال يا سيدي العزيزين كل ما كان في نفسه أن يقوله. فالآن تفضلا. يا لوتن هل ذلك الباب مفتوح؟»
وأجاب لوتن وهو يضحك من بعيد: «إنه كذلك.»
ومضى الرجل القصير النحيل يقول وهو يدفع ددسن وفج على كره منهما، نحو الباب: «طاب صباحكما، طاب صباحكما - أرجوكما يا سيدي العزيزين - يا مستر لوتن، الباب! من هنا يا سيدي العزيزين، يا مستر لوتن، الباب، لماذا لا تسمع؟»
وقال ددسن وهو ينظر صوب المستر بكوك ويضع القبعة فوق رأسه: «إذا كان في إنجلترا قانون يا سيدي، فسوف تنال عقابك على هذا الذي قلته.»
وصاح المستر بكوك: «إنكما لسافلان.»
وقال فج: «تذكر يا سيدي أنك ستحاسب على هذا حسابا عسيرا.»
وواصل المستر بكوك قوله، دون أقل مبالاة بهذا الوعيد الموجه إليه: «إنكما لصان مجرمان متلاعبان.»
وجرى إلى رأس السلم، وهما يهبطانه، صائحا: «أيها اللصوص!» وتخلص من لوتن وبركر وأطل برأسه من نافذة السلم وهو يصيح «لصوص!»
ولما رد رأسه عنها كان وجهه باسما هادئا، وعاد إلى المكتب في رفق وسكون قائلا: إنه قد شعر عندئذ بأنه قد أزاح عبئا ثقيلا كان جاثما فوق صدره، ولكنه الساعة مستريح تماما ومسرور السرور كله.
ولم يقل بركر شيئا حتى أفرغ كل ما في حق السعوط وأرسل لوتن ليملأه، وإذا نوبة ضحك تستولي عليه، وتستمر خمس دقائق، وعندئذ راح يقول: إنه كان يظن أنه أولى به أن يغضب، ولكنه لم يستطع أن يفكر في هذه المسألة جديا إلى الآن، ولكنه سيفعل حين يتمكن.
وقال المستر بكوك: «حسن، والآن دعنا نسوي ما بيننا.»
وأجاب بركر بضحكة أخرى: «من النوع الأخير ذاته؟»
وقال المستر بكوك وهو يخرج محفظة جيبه ويهز وكيله بيده هزة المودة والوفاء: «ليس منه تماما، إنما أقصد مجرد «تسوية مالية» إنك قد أسديت إلى عدة صنائع ليس في إمكاني الوفاء بها في يوم من الأيام، ولست أريد أن أفي بها؛ لأني أوثر أن أظل لك مدينا.»
وبعد هذه المقدمة أكب الصديقان على حسابات ومستندات مختلفة، تولى فحصها بركر بنفسه، وبادر المستر بكوك إلى أدائها مشفوعة بكثير من آيات الاحترام والود.
وما كادا يصلان إلى هذه النقطة حتى سمعا دقا عنيفا بالباب مزعجا أشد الإزعاج، ولم يكن دقة مزدوجة عادية بل كان دقات مفردة مستمرة غير منقطعة، فتوالى الطرق واحدا في أثر واحد، كأن المطرقة ذاتها مصابة بحركة دائمة أو كأن الطارق قد نسي أن يدعها قليلا، ثم يعاودها على فترات.
وقال بركر منزعجا: «يا عجبا! ما عسى أن يكون هذا؟»
وقال المستر بكوك: «هذا دق بالباب» كأن الأمر يحتاج إلى أقل شك.
ولكن جواب المطرقة كان أسرع وأبلغ من كل كلام؛ لأنه استمر بقوة مدهشة وجلبة صاخبة دون أن يكف لحظة واحدة.
وقال المستر بركر وهو يدق جرسه: «يا لله! إننا سنزعج بيت القضاء كله. يا مستر لوتن ألا تسمع هذا الدق؟»
وأجاب الكاتب: «سأرد عليه في الحال يا سيدي.»
وبدا كأن الطارق قد سمع ذلك الجواب، ولكي يعلن أنه من المستحيل أن ينتظر أكثر مما انتظر، أرسل زئيرا مرعبا مدويا.
وقال المستر بكوك، وهو يضع يديه على أذنيه لكيلا يسمع: «هذا شيء مرعب.»
وصاح بركر: «أسرع يا لوتن، إني أخشى أن يتحطم الزجاج.»
وكان لوتن عندئذ يغسل يديه في غرفة مظلمة فخف إلى الباب، وأدار الأكرة، فأبصر شبحا سنصفه لك في الفصل التالي.
مكان في استراليا في مستعمرات إصلاح المجرمين والمشبوهين.
الفصل الرابع والخمسون
يصف من هو الطارق، ويحوي شئونا أخرى من بينها أمور شيقة عن المستر سنودجراس وسيدة في مقتبل الشباب، وهي أمور ليست بأي حال غير ذات صلة بهذه القصة ... ***
وكان الشيء الذي تراءى لعيني الكاتب المندهش غلاما - غلاما بدينا إلى حد عجيب - يرتدي حلة الخدم، وقد وقف مستويا فوق ممسحة الأرجل مغمض العينين كأنه نائم، ولم يكن الكاتب قد شهد في حياته غلاما بدينا إلى هذا الحد، في قافلة مسافرة أو في غير قافلة، وزاده عجبا لبدانته ذلك الهدوء الذي كان يبدو على هيئته، ولا يتناسب عقلا مع ما كان يرتقب من ذلك الطارق العنيف الذي كان ملحا في دقاته.
وقال الكاتب: «ما خطبك؟»
ولكن الغلام الشاذ لم يحر جوابا، وإنما أومأ مرة وخيل إلى الكاتب أنه كان يرسل «شخيرا» خافتا.
وسأله الكاتب: «من أين جئت؟»
ووقف الغلام لا يأتي بحركة ولا إشارة، بل كان يتنفس بمشقة بالغة.
وأعاد الكاتب السؤال ثلاث مرات، ولكنه لم يتلق جوابا، فهم بإغلاق الباب، وإذا الغلام يفتح عينيه فجأة، ويغمز بهما عدة مرات، ثم يعطس، ويرفع يده كأنه يهم بتكرار الدق، ولكنه إذ وجد الباب مفتوحا، أرسل بصره حوله مندهشا، وأخيرا جعله يستقر على وجه المستر لوتن.
وسأل الكاتب بغضب: «أي شيطان جعلك تدق الباب بهذه الطريقة؟»
وقال الغلام بصوت خافت مهوم: «أي طريقة؟»
وأجاب الكاتب: «كأربعين سائقا من سائقي عربات الركوب.»
وقال الغلام: «لأن سيدي قال لي: ألا أسكت عن الدق حتى يفتح لي الباب، خوفا من أن يغلبني النوم.»
وقال الكاتب: «حسن، أية رسالة جئت بها؟»
وأجاب الغلام: «إنه تحت.»
وقال لوتن: «من هو؟»
قال: «سيدي ، إنه يريد أن يعرف هل أنت هنا؟»
وخطر للمستر لوتن في هذه اللحظة أن يطل من النافذة، فأبصر مركبة مكشوفة تقل رجلا ضخما متقدما في العمر، يتطلع في لهفة بالغة، فتجرأ وأشار إليه، فإذا الشيخ يقفز منها في الحال.
وقال لوتن للغلام: «أهذا الذي في المركبة سيدك؟»
فأومأ الغلام إيماءة الإيجاب.
ولم تعد حاجة إلى مواصلة الأسئلة، فقد ظهر عندئذ الشيخ «واردل»، وكان قد أخذ السلم جريا، وحيا لوتن مسرعا ودخل مهرولا غرفة المستر بركر.
وصاح الشيخ: «منذا أرى؟ المستر بكوك! يدك يا بني! لماذا لم أسمع إلا أمس الأول بقصة تعذيبك لنفسك بدخول السجن؟ ولماذا تركته يفعل ذلك يا بركر؟»
وأجاب هذا بابتسامة وشم السعوط: «لم تكن لي فيه حيلة يا سيدي العزيز، أنت تعرف مبلغ عناده.»
وقال الشيخ: «بالطبع أعرف، بالطبع أعرف، ولكني مع ذلك أشعر بسرور صادق لرؤيته، ولن أتركه يغيب عن ناظري بعد الآن، في عجلة.»
وبهذه العبارات عاد واردل يهز يد المستر بكوك، وفعل قبل ذلك مع بركر، وتهالك على مقعد رحيب، ووجهه الأحمر المشرق يشع بسمات، وسمات صحة وعافية.
وأنشأ واردل يقول: «لقد وقعت أحداث جسام، هات سعوطك يا بركر، يا بني، إنها لأحداث لم يجر مثلها في أيامنا الخالية. لقد تغيرت الدنيا، إيه؟»
وسأل المستر بكوك: «ماذا تعني؟»
وأجاب واردل: «أعني؟! أعتقد أن الفتيات أصبحن جميعا مجنونات، وقد تقول: إن هذا نبأ ليس جديدا، وربما كان كذلك، ولكنه مع ذلك صحيح.»
وسأله المستر بركر: «ما أحسبك جئت إلى لندن بالذات، دون مدائن العالم كلها، لتقول لنا هذا يا سيدي العزيز.»
وأجاب واردل: «كلا، ما جئت لكي أقول هذا فقط، وإن كان السبب الأول في قدومي، كيف حال أرابلا؟»
وأجاب المستر بكوك: «في خير حال، وإني لواثق أنها ستسر بلقائك.»
وقال واردل: «يا لها من فتاة صغيرة معرضة عن حبيبها ذات عينين كحلاوين! لقد كنت أفكر في الزواج بها أنا نفسي في يوم من الأيام. ولكني فرح مغتبط بزواجها.»
وقال المستر بكوك: «وكيف وصل إليك النبأ؟»
وأجاب واردل: «جاء إلى ابنتي بالطبع، فقد كتبت أرابلا أمس الأول تقول: إنها تزوجت خلسة دون موافقة والد زوجها، فذهبت أنت لتأتي منه بالموافقة وإن كان رفضه لم يمنع القران، كما قصت عليها بقية الرواية ودقائقها، فرأيت أنه قد حان أن أقول شيئا جديدا لابنتي، فقلت: إن من أفظع الفظائع أن يتزوج الأولاد دون رضا آبائهم، وكلاما من هذا القبيل، ولكني والله لم أستطع أن أحدث أي تأثير في نفسيهما، فقد قالتا: إنه لأفظع منه كثيرا أن يكون زفاف بلا «شبينات»، وكأني في محاولة إقناعهن كنت أعظ جو نفسه.»
وكف الشيخ عن الكلام هنا لكي يضحك، ولما ضحك كفايته واصل الحديث قائلا: «ولكن يبدو أن ليس هذا هو أحسن ما في القصة، إنه ليس إلا نصف الغزل والكيد والتآمر الذي كان يحدث في كل يوم، لقد كنا نمشي فوق «ألغام» خلال الأشهر الستة الأخيرة، وإذا «الألغام» تنفجر أخيرا.»
وقال المستر بكوك وقد ارتد وجهه شاحبا: «ماذا تعني؟ أرجو ألا يكون قد وقع زواج سري آخر؟»
وأجاب المستر واردل: «كلا! كلا! ليس الأمر سيئا إلى هذا الحد.»
وسأل المستر بكوك: «ماذا إذن؟ أليس لي في الأمر شأن؟»
وقال واردل: «هل أرد على هذا السؤال يا بركر؟»
وأجاب المحامي: «إذا لم تورط نفسك بالرد عليه.»
وقال واردل: «بل لك فيه شأن.»
وسأل المستر بكوك في لهفة: «وكيف؟ ومن أية ناحية؟»
وأجاب واردل: «في الحقيقة إنك «لشاب» متحمس ملتهب المشاعر حتى أكاد أخاف من الكلام معك، ولكن إذا جاء بركر فجلس بيننا ليحميني من الأذى، اجترأت فتكلمت.»
وقام الشيخ فأغلق الباب، وتحصن بقدر آخر من سعوط بركر، وشرع السيد الكبير يفضي إليه بالنبأ العظيم فيقول: «الواقع أن ابنتي بللا التي تزوجت الفتى ترندل كما تعرف.»
وعاجله المستر بكوك نافد الصبر: «نعم، نعم، نعرف ذلك.»
ومضى الشيخ يقول: «لا ترعبني هكذا من البداية. إن ابنتي بللا بعد أن رأت أختها أميلي قد أوت إلى فراشها شاكية من «صداع» ألم بها عقب أن قرأت على سمعي كتاب أرابلا، جاءت فجلست بجانبي مساء ذلك اليوم وبدأت تتحدث عن مسألة زواج أرابلا وأنشأت تقول: «والآن يا أبتي، ما رأيك في هذه المسألة؟» قلت: أحسبها يا عزيزتي شيئا جميلا، وأرجو أن تنتهي بخير. وقد رددت على سؤالها بهذا الشكل؛ لأني كنت في تلك اللحظة جالسا قبالة النار أتناول شرابي مفكرا ساهما، وقد أدركت أن التفوه بكلمة لم أحسب حسابها من وقت إلى آخر، سيحملها على مواصلة الحديث. أن ابنتي صورتان طبق الأصل من أمهما العزيزة، وكلما تقدمت بي السنون زدت ميلا إلى الجلوس وحدي معهما؛ لأن صوتيهما وملامحهما تعود بي إلى أسعد فترة في حياتي، وتردني عندئذ شابا كما كنت في تلك الأيام، وإن لم أبلغ ما كنت بالغه يومئذ من الخفة والمراح، وقالت بللا بعد صمت قصير: إنه زواج حب يا أبتي. قلت: نعم يا عزيزتي، ولكن أمثال هذا الزواج لا تبدو دائما أوفره سعادة.»
وقاطعه المستر بكوك بحماسة قائلا: «أنا أشك في هذا، أنبهك إلى ذلك!»
وأجاب واردل: «جميل جدا، فلتشك في أي شيء تشاء حين يأتي دورك للكلام، ولكن لا تقاطعني.»
وقال المستر بكوك: «أرجوك المغفرة.»
وأجاب واردل: «هي لك، وقالت بللا وقد احمر وجهها قليلا: إنني ليؤسفني يا أبتي أن أراك تعارض في الزواج الذي يأتي ثمرة الحب، قلت وأنا ألاعب وجنتها في رفق كما يفعل رجل خشن كبير مثلي أو في إمكانه أن يفعل. لقد كنت مخطئا، وكان أولى بي ألا أقول ما قلت يا عزيزتي؛ لأن زواج أمك كان كذلك، وزواجك كان أيضا من هذا النوع. وقالت بللا: ليس هذا ما أعنيه يا أبتي، الواقع أنني أردت أن أتحدث إليك عن أميلي»، وهنا أجفل المستر بكوك.
وقال واردل وقد كف عن الحديث: «ما الأمر الآن؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا شيء، امض في حديثك»
ومضى واردل يقول فجأة: «إنني لا أحسن سرد القصص، فلأنته منها سريعا، توفيرا للوقت؛ ولهذا أقول بإيجاز، واختصار: إن بللا تشجعت أخيرا فنبأتني أن أميلي في هم شديد، وأشجان بالغة، وأنها هي وصديقك الشاب سنودجراس يتكاتبان ويتراسلان باستمرار منذ عيد الميلاد الماضي، وأنها كانت تنتوي بحكم الواجب الفرار معه، تقليدا حسنا لصديقتها القديمة ورفيقتها في المدرسة، لولا شعورها بشيء من تبكيت الضمير، لفرط عطفي المستمر على كليهما، فأدركا أنه يحسن بهما أولا مجاملتي بسؤالي هل لي اعتراض ما على زواجهما بالطريقة المألوفة. هذه هي الحكاية يا مستر بكوك، والآن هلا تكرمت فرددت عينيك إلى حجمهما الطبيعي، وأسمعتني رأيك فيما ينبغي عمله فأكون لك من الشاكرين!»
وكان للطريقة الحادة التي اتخذها ذلك الشيخ المرح في النطق بهذه الجملة الأخيرة ما يبررها ويقتضيها، فقد كان وجه المستر بكوك يبدو متغيرا، شاعت أمارات الذهول فيه، وظهر عليه الارتباك، فكان غريب المنظر غير مألوفه، وجعل يردد في عبارات متقطعة ذاهلة: «سنود جراس! منذ عيد الميلاد الماضي!» وكانت هذه أول ما انفرجت عنه شفتا هذا الرجل الذاهل.
وقال واردل: «منذ عيد الميلاد الماضي، آه، هذا كلام واضح جدا، ولا بد من أننا كنا نضع على أعيننا منظارا رديئا، وإلا فكيف لم نكتشف ذلك من قبل؟»
وقال المستر بكوك وهو شارد اللب مفكر: «لا أفهم ذلك، في الحق لست مستطيعا أن أفهمه.»
وأجاب الشيخ بحدة: «ولكنه كلام واضح لا يصعب فهمه. ولو كنت أصغر سنا مما أنت لعرفت السر من عهد بعيد.» وعاد واردل بعد تردد قصير يقول: «وفوق هذا فإن الحقيقة التي لا شك فيها أنني منذ أربعة أشهر أو خمسة جعلت ألح على أميلي أن تجتهد ما استطاعت - لجهلي التام بهذه المسألة؛ ولأني لا أحب مطلقا أن أرغم شعور الفتيات على أي ميل إلى شيء لا يرتضينه - في الاستجابة لتودد شاب مهذب من جيراننا، واستقباله برضا وحظوة، ولست أشك في أنها كما تفعل الفتيات أرادت أن ترفع من قيمتها وتزيد من حماسة المستر سنودجراس وحرارة لهفته، فراحت تصور المسألة في أزهى الألوان، وتجلوها في ألمع الظلال وأفتن الصور، حتى وصلا معا إلى الاعتقاد بأنهما حبيبان مضطهدان معذبان تعسان، فلا خلاص لهما ولا منجاة إلا الزواج سرا، أو الانتحار بالفحم، والسؤال الآن هو ماذا ينبغي أن تفعله؟»
وقال المستر بكوك: «وما الذي فعلته أنت؟»
قال: «أنا؟»
وأجاب المستر بكوك: «أعني ماذا كان منك حين نبأتك ابنتك المتزوجة بهذه القصة؟»
قال: «آه، كنت أبله بالطبع وتهوست.»
وهنا تدخل بركر وكان قد أصغى إلى هذا الحوار وهو يلوي سلسلة ساعته ليات مختلفة، ويعرك أنفه عركات شديدة كأنما يريد الثأر منه والتشفي فيه ويبدي أعراضا أخرى للقلق، ونفاد الصبر فقال: «هذا صحيح، وطبيعي جدا، ولكن كيف؟»
وأجاب واردل: «استسلمت لغضب شديد حتى أرعبت أمي فاستولت عليها نوبة إغماء.»
وقال بركر: «هذا تصرف حكيم. ثم ماذا؟»
وأجاب الشيخ: «وظللت طيلة اليوم التالي متململا ثائرا، محدثا إزعاجا شديدا، حتى تعبت أخيرا من تكدير نفسي وجلب الشقاء على جميع الذين حولى، فاستأجرت مركبة من «ماجلتن» وشددت إليها خيلي، وجئت إلى المدينة، بحجة اصطحاب أميلي للقاء أرابلا.»
وقال المستر بكوك: «مس واردل إذن معك هنا؟»
وأجاب واردل: «بلا شك يا سيدي، وقد نزلنا في فندق أوزبورن في «الأدلفي» حيث هي في اللحظة الراهنة، ما لم يكن صاحبك المقدام قد فر بها عقب خروجي في هذا الصباح.»
وقال بركر: «إذن لقد رضيت؟»
وأجاب واردل: «أبدا، لقد ظلت تبكي وتنتحب من ذلك الحين، حتى كانت الليلة الماضية بين الشاي وموعد العشاء، إذ مضت تتراءى بأنها تكتب خطابا فتظاهرت من جانبي أنني لا أعرف شيئا.»
وقال بركر، وهو ينقل عينه بين وجه المستر بكوك المفكر الساهم وبين وجه المستر واردل القلق المتلهف، ويتناول عدة قبضات متوالية من ذلك «المنبه» الأثير لديه: «أحسبك تطلب نصيحتي في هذا الأمر، أليس كذلك؟»
وأجاب واردل وهو ينظر إلى المستر بكوك: «أظن ذلك.»
وقال هذا: «بلا شك.»
وأنشأ بركر يقول وهو ينهض ويدفع بالمقعد إلى الخلف: «إذن استمعا. إن نصيحتي أن تنصرفا معا، مشيا على القدم، أو راكبين، أو منطلقين بأية وسيلة من وسائل الانتقال؛ لأنني تعبت منكما، واذهبا فتحادثا معا في هذا الأمر، فإذا جاء الغد ، ولم تستقرا فيه على شيء، فتعاليا أنبئكما بما ينبغي لكما أن تفعلاه.»
وقال واردل وهو لا يدري هل يبتسم أم يستاء من هذه اللهجة: «هذا رأي مريح.»
وعاد بركر يقول: «بوه! بوه! يا سيدي العزيز إنني أعرفكما أكثر مما تعرفان نفسيكما. وأعلم أنكما قد سويتما المسألة فعلا، وفصلتما فيها اللحظة.»
وأخذ بركر بعد هذا القول يدفع بحق السعوط صدر المستر بكوك أولا، ثم صدر المستر واردل، وراحوا جميعا يضحكون، وكان السيدان الأخيران أشدهم ضحكا، فعادا يتصافحان باليد دون سبب ظاهر أو داع معين.
وقال واردل لبركر، وهو يمشي معهما إلى الباب: «ستتعشى الليلة معي.»
وأجاب بركر: «ليس في إمكاني أن أعد يا سيدي العزيز، ليس في إمكاني أن أعد، ولكني سأطل في المساء على كل حال.»
وقال واردل: «سأنتظرك في الخامسة، والآن يا جو!» وبعد جهد أمكن إيقاظ «جو» من سباته، فانصرف الصديقان في مركبة المستر بركر، وكان لها مقعد في الخلف لمجلس الغلام البدين إشفاقا عليه، ولو أنه كان يجلس على سلم العربة؛ لتدحرج من فوق مقعده وقتل نفسه في أول غفوة تستولي عليه.
ودرجت بهما المركبة إلى فندق «جورج والرخم» فوجدا أن أرابلا ووصيفتها قد بعثتا في طلب مركبة أجرة عقب تلقي رقعة صغيرة من أميلي تعلن فيها قدومها إلى المدينة، واستقلتاها في الحال إلى حي «الأدلفي». وكان لدى واردل عمل في العاصمة، فأرسلا المركبة والغلام البدين إلى الفندق، لإبلاغ القوم أن المستر واردل والمستر بكوك سيعودان معا في الخامسة لتناول العشاء.
وعاد الغلام بهذه الرسالة، فنام نومة هادئة في مجلسه من المركبة، وهي تدرج به فوق أديم الطريق المرصوف بالأحجار، كأنه نائم فوق فراش وثير يهتز من تحته اهتزازا على زنبرك ساعة، وبمعجزة أو أعجوبة استيقظ من تلقاء ذاته حين وقفت المركبة، فنفض نفسه نفضة قوية لتنبيه حواسه، وصعد لتأدية رسالته.
ولست أدري أكانت تلك الهزة قد أربكت حواسه، أم نبهتها ونظمتها، أم أيقظت في نفسه قدرا كبيرا من الأفكار الجديدة، حتى أنسته الآداب المألوفة والعرف العام ، أم أنها قد عجزت عن أن تمنعه من النوم وهو يصعد مدراج السلم - وهو أمر جائز أيضا - فالذي لا شك فيه أنه اندفع نحو قاعة الجلوس دون أن يدق الباب مستأذنا، فإذا هو يبصر سيدا يطوق خصر سيدته الصغيرة، وهو جالس جلسة المحب الوامق بجانبها فوق الأريكة، بينما تظاهرت أرابلا ووصيفتها بأنهما منشغلتان بالإطلال من نافذة في أقصى ركن من القاعة، فما كاد الغلام يشهد هذا المنظر الغريب، حتى أطلق صيحة دهشة، وأرسلت النساء في أثره صرخة، وانفرجت شفتا السيد عن سباب ولعنة، وجرى ذلك كله معا في لحظة واحدة.
وقال السيد - ولا حاجة بنا إلى القول: أنه المستر سنودجراس: «أيها المخلوق المنكود، ماذا تريد هنا؟»
وأجاب الغلام البدين وهو مروع بكلمة واحدة وهي: «سيدتي.»
وسألته أميلي، وهي تدير رأسها نحوه: «ماذا تريد مني أيها المخلوق الأبله؟»
وأجاب الغلام البدين: «سيدي والمستر بكوك قادمان إلى هنا للعشاء في الخامسة.»
وقال المستر سنودجراس وهو يحملق البصر في الفتى الذاهل المروع: «انصرف من الحجرة!»
وأردفت أميلي في عجلة: «كلا، كلا، كلا، عزيزتي بللا، دبريني، ما العمل؟»
واجتمعت أميلي والمستر سنودجراس وأرابلا وميري معا في ركن من القاعة، فتشاوروا في الأمر وتهامسوا بضع لحظات، بينما كان الغلام البدين يداعب النعاس عينيه.
وقالت أرابلا أخيرا، وهي تنظر إليه بابتسامة ساحرة: «يا جو! كيف حالك؟»
وتبعتها أميلي قائلة: «إنك ولد طيب يا جو، لن أنساك يا جو.»
وقال المستر سنودجراس في أثرها وهو يتقدم نحو الغلام المبهوت، ويتناول يديه: «لم أكن أعرفك قبل الآن يا جو، هذه خمسة شلنات لك يا جو!»
وقالت أرابلا: «وأنا مدينة لك يا جو بخمسة أخرى للمعرفة القديمة.» وراحت تنعم بابتسامة ثانية أشد فتنة وسحرا، على هذا «المتهجم» البدين.
وكان الغلام بطيء الإدراك فبدا في أول الأمر مرتبكا لا يدري سببا لهذا التحول الفجائي إلى الرضى عنه والعطف عليه، ولبث محملقا متلفتا في فزع غريب، وأخيرا بدأت تلوح على وجهه العريض أعراض ابتسامة متناسبة مع حجم سحنته، ثم راح يدس كل نصف كراون في كل جيب في جيبيه، ويدخل كفه إلى المعصم فيه، ثم انفجر ضاحكا ضحكة جشاء كانت هي الأولى والأخيرة في حياته.
وقالت أرابلا: «أحسبه قد فهمنا.»
وقالت أميلي: «يحسن أن نقدم إليه شيئا يأكله في الحال.»
وكاد الغلام يضحك مرة أخرى حين سمع هذا الاقتراح، ولم تلبث ماري بعد تهامس قصير أن تركت الجماعة وقالت: «إنني عازمة على مؤاكلتك اليوم يا سيدي إذا لم يكن لديك مانع.»
وقال الغلام بلهفة: «تعالي من هنا، إن هناك فطيرا بديعا باللحم!»
ومشى الغلام في المقدمة يهبط السلم وهي في أثره، تفتن قلوب الخدم والغلمان، وتثير غضب الخادمات، حتى وصلا إلى قاعة الطعام، فإذا الفطير الذي تحدث الغلام عنه بلهفة وحماسة، وإذا بجانبه كذلك شريحة لحم وصحفة من البطاطس وجرة من الجعة الخفيفة.
وقال الغلام: «اجلسي، آه يا عيني، ما أبدع وما أبهج! إنني جائع أشد الجوع.»
وبعد أن ملى العين بلذة لا توصف، خمس مرات أو ستا، من وجه الفتاة، جلس عند رأس المائدة الصغيرة، واتخذت ميري مجلسها قبالته.
وقال الغلام وهو يغمس السكين والشوكة إلى المقبضين: «هلا تناولت شيئا من هذا؟»
وأجابت ميري: «قليلا إذا تفضلت.»
وقدم لها الغلام قطعة صغيرة واستأثر هو بقطعة كبيرة، وهم بأن يقبل على الطعام، وإذا هو فجأة ينثني عنه، ويدع يديه وهما ممسكتان بالسكين والشوكة تتراخيان فوق ركبتيه، ويغمغم بصوت بطيء: «أقول: ما ألطفك!»
وكان هذا القول منه بلهجة إعجاب تسر الخاطر وإن بقيت في عيني الغلام نظرة المنهوم المفترس، وهي نظرة تكفي لجعل هذه التحية مزدوجة.
وقالت ميري متظاهرة بالخجل: «عجبا يا جوزف! ماذا تعني؟»
وعاد الغلام يسترد شيئا فشيئا مكانه فوق المقعد، ويجيب بزفرة عميقة ولبث بضع لحظات مفكرا، ونهل نهلة طويلة من الجعة، ثم عاد يتنهد، وأهوى بعد ذلك على الفطير بنهم شديد.
وقالت ماري بعد صمت طويل: «ما ألطف مس أميلي!»
وكان الغلام قد أجهز على الفطير، فحدق في وجه ميري بصره وأجاب قائلا: «أعرف واحدة ألطف منها.»
وقالت ميري: «أحقا؟»
وأجاب الغلام بحماسة غير مألوفة منه: «نعم حقا!»
قالت: «وما اسمها؟»
قال: «وما اسمك؟»
قالت: «ميري.»
وأجاب الغلام: «هذا هو اسمها، وأنت هي» ومضى يبتسم ليزيد التحية قوة، وجعل عينيه وسطا بين الغمز والحول، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه أراد أن يغازلها.
وقالت ماري: «لا ينبغي لك أن تكلمني بهذا الشكل، أظنك لا تقصد.»
قال: «ألا أقصد حقا - اسمعي.»
قالت: «نعم.»
قال: «هل ستأتين إلى هنا بانتظام؟»
قالت وهي تهز رأسها: «كلا، إنني منصرفة الليلة، ولكن لماذا؟»
وأجاب الغلام البدين بحرارة: «آه، لو أتيت لاستمتعنا وحدنا على الوجبات معا!»
وقالت ميري وهي تطوي غطاء المائدة مصطنعة الحياء: «لعلي سآتي أحيانا لكي أراك، إذا أنت تفضلت علي بهذا.»
وراح الغلام البدين ينقل عينه من صحفة الفطير إلى طبق اللحم، كأنما اعتقد أن الفضل المطلوب لا بد أن يكون متصلا بشيء مما يؤكد، ثم أطلع نصف كراون من أحد جيبيه وأطال النظر إليه في عصبية ظاهرة.
وقالت ميري وهي تنظر بمكر إلى وجه السمين: «ألا تفهم مرادي؟»
وعاد ينظر إلى نصف الكراون، وقال بصوت خافت: «كلا.»
وقالت ميري: «إن السيدتين تريدان منك ألا تقول شيئا للشيخ عن ذلك الشاب ووجوده في الحجرة، وأنا أيضا أريد ذلك منك.»
وقال الغلام البدين، وكأنما قد هدأ باله كثيرا فأعاد نصف الكراون إلى جيبه: «أهذا هو كل ما في الأمر؟ بالطبع لن أقول شيئا.»
وقالت ميري: «المسألة هي أن المستر سنودجراس مولع بمس أميلي، ومس أميلي مولعة به، فإن أنت قلت شيئا للشيخ، فسوف ينقلكم جميعا إلى الريف البعيد، فلا تعود ترى أحدا.»
وقال الغلام البدين بقوة: «كلا، كلا، لن أقول شيئا.»
وقالت ميري: «هذا جميل منك، والآن قد حان لي أن أصعد لأساعد مولاتي على الاستعداد للعشاء.»
وقال الغلام البدين ملحا متوسلا: «لا تذهبي الآن.»
وأجابت ميري: «لا بد، إلى الملتقى حتى حين.»
وإذا الغلام البدين، في حركة عبث ومجون كما تفعل الفيلة يبسط ذراعيه لينتهب قبلة، وإذ لم يكن الانفلات منه يقتضي خفة كثيرة، فقد استطاعت فاتنته الحسناء أن تتوارى قبل أن يرد ذراعيه إلى جنبيه، وأقبل من فرط استيائه يلتهم رطلا أو نحوه من الشواء وهو شارد الخاطر، هائج العاطفة، وما لبث أن هبط في سبات عميق.
وكان هناك شيء كثير يقال في قاعة الجلوس، وخطط مختلفة تناقش أو ترسم خطوطها للفرار والزواج إذا ظل الشيخ واردل مقيما على قسوته، حتى لم يبق إلا نصف ساعة على موعد العشاء، حين نهض المستر سنودجراس مودعا، وذهبت السيدتان إلى مخدع أميلي لترتديا ثيابهما استعدادا للجلوس إلى المائدة، وتناول العاشق قبعته، وانصرف من الحجرة، ولكنه لم يكد يخرج من الباب حتى سمع صوت واردل وهو يتحدث بجرس مرتفع، فأطل من فوق السلم فرآه، وشهد بعض الناس في أثره، وهم يصعدون. ولم يكن المستر سنودجراس يعرف شيئا عن الفندق، فلم يلبث من الارتباك أن عاد مسرعا إلى الحجرة التي خرج منها، واجتازها إلى غرفة أخرى كانت قد أعدت غرفة نوم للمستر واردل نفسه، وأغلق برفق الباب، في اللحظة ذاتها التي دخل فيها الأشخاص الذين لمحهم على السلم حجرة الجلوس. فإذا هم المستر واردل، والمستر بكوك، والمستر نثنايل ونكل، والمستر بنجمن ألن، ولم يجد مشقة في تمييزهم من أصواتهم.
ميري والفتى البدين.
وقال المستر سنودجراس لنفسه وهو يبتسم: «الحمد لله على أني عرفت بحضور البديهة كيف أتحاماهم»، ومشى على أطراف قدميه إلى باب آخر بقرب السرير، وهو يقول: إن هذا الباب يفضي إلى الردهة أيضا، وفي إمكاني أن أتسلل بهدوء وأمان وأنصرف.»
ولم يكن هناك إلا عائق واحد يحول دون هذا التسلل الذي كان يرجوه، وهذا العائق هو أن الباب كان مغلقا، والمفتاح منزوعا من قفله.
وقال المستر واردل وهو يفرك يديه: «دعنا نذق اليوم أحسن ما لديكم من النبيذ يا غلام.»
وأجاب غلام الفندق: «سأحضر أحسن ما لدينا منه يا سيدي.»
قال: «وأبلغ السيدتين أننا وصلنا.» «سمعا وطاعة يا سيدي.»
وقد تمنى المستر سنودجراس أحر التمني وأصدقه لو أن السيدتين عرفتا أنه هو الذي وصل إلى هذا المأزق، وخطر له مرة أن يجترئ فيهمس من ثقب القفل مناديا «يا غلام»، ولكن بدا له أن من المرجح أن يأتي غلام آخر إلى نجدته - فتكون الطامة، كما تذكر حادثا مماثلا لهذا الموقف الذي وجد نفسه فيه، وهو اكتشاف رجل منذ أيام مختبئا في إحدى الحجرات بفندق مجاور، وظهر نبأ الحادث في النهر المخصص لحوادث «الشرطة» في تلك الصحيفة الصباحية فتهالك فوق حقيبة سفر كبيرة وقد تولته رعشة شديدة.
وقال واردل وهو ينظر في ساعته: «لن ننتظر بركر دقيقة واحدة، إنه على مواعيده لحفيظ، وسيأتي إذا قصد المجيء فعلا، أما إذا لم يقصد فلا فائدة من الانتظار ها! أرابلا!»
وصاح المستر بنجمن ألن: «أختي!»، وطواها في عناقة «غرامية» متناهية.
وقالت أرابلا، وقد غلب عليها هذا المظهر من الحب: «آه، يا بن، أيها العزيز، ما أشد رائحة التبغ التي تعبق منك.»
وقال المستر بنجمن ألن: «أحقا، يا بلا؟ لعلي كذلك.»
ولعله كذلك فعلا، فقد جاء لتوه من مجلس جمع من طلبة الطب، قضوا فترة في تدخين ومرح في غرفة صغيرة حول نار كبيرة.
قال: «ولكني في ابتهاج بلقائك، بارك الله فيك يا بلا.»
وقالت أربلا وقد انحنت إلى الأمام لتقبل شقيقها: «حسبك، لا تمسك بي مرة أخرى يا عزيزي بن؛ لأنك تطبق على صدري إطباقا.»
وعند هذا الحد من الصلح والتراضي انثنى المستر بن ألن يترك لعواطفه وتأثير لفافات التبغ الطوال وحميا الشراب سبيل الغلبة عليه، فأدار عينيه في وجوه الحاضرين وقد بلل الدمع منظاره.
وصاح واردل وهو باسط ذراعيه: «ألا شيء يقال لي أنا؟»
وهمست أرابلا: «بل الشيء الكثير» وهي تتلقى عناق الشيخ وتهانيه. وتردف قائلة: «إنك لغليظ القلب جامد الشعور قاس مخيف!»
وأجاب الشيخ باللهجة ذاتها: «وإنك لصغيرة متمردة، وأخشى أن اضطر إلى منعك من دخول بيتنا، إن أمثالك ممن يتزوجن رغم أنف كل إنسان لا ينبغي أن يتركن طليقات في المجتمع.» وهنا أضاف الشيخ بصوت مرتفع: «ولكن تعالي، اجلسي بجانبي إلى العشاء. يا جو! يا عجبا له، إنه يقظان!»
وكانت دهشة الشيخ بالغة حين تبين فعلا أن الغلام في صحو ظاهر، كما يبدو من عينيه المفتوحتين على سعتهما، تبدوان كأنهما ستظلان كذلك، كما كان في منظره خفة ورشاقة لا يفهم السر فيهما، فقد جعل يضحك ويبتسم كلما التقت عيناه بعيني أميلي أو أرابلا، بل لقد قال واردل: إنه في وسعه أن يقسم أنه قد رآه مرة يغمز بطرف ناظريه.
وكان هذا التغير الذي طرأ على حركات الغلام البدين وسكناته، راجعا إلى ازدياد شعوره بأهميته، والمركز الذي أحرزه من إشراك السيدتين له في أسرارهما وائتمانه عليها، فكانت تلك الضحكات والابتسامات والغمزات الكثيرة منه بمثابة توكيدات أبداها في تواضع ليشعرهما بالاعتماد على إخلاصه، والركون إلى أمانته. ولكن هذه الرموز والإشارات جاءت منه أدنى إلى إثارة الشبهة من إخمادها، وكانت مربكة لهما إلى حد ما أيضا، فكانت أرابلا تجيب عنها من لحظة إلى أخرى بعبسة من وجهها، أو هزة من رأسها، ولكن الغلام البدين لم يفهم منها إلا أنها «تلميح» له بوجوب الانتباه والحيطة، فراح يعبر عن فهمه لها على هذا النحو بمضاعفة الضحك والابتسام والغمز بعينيه.
وقال المستر واردل بعد أن بحث عبثا في جيوبه: «يا جو، هل تراني وضعت حق السعوط فوق المتكأ؟»
وأجاب الغلام البدين: «كلا يا سيدي.»
قال: «آه! تذكرت، لقد تركته على منضدة الزينة في هذا الصباح، اجر إلى الحجرة الملاصقة فأحضره.»
وذهب الغلام البدين إلى الحجرة الأخرى، وما أن غاب نحو دقيقة حتى عاد بحق السعوط، وبوجه أشد شحوبا مما يكون وجه غلام بدين يوما ما.
وصاح المستر واردل: «ما شأن هذا الغلام؟!»
وأجاب جو بعصبية: «لا شيء يا سيدي.»
وقال الشيخ: «هل رأيت أرواحا؟»
وأردف بن ألن: «أو تناولت أشربة روحية؟»
وهمس واردل من فوق المائدة: «أظنك أصبت كبد الحقيقة، إن الغلام ثمل وأنا متأكد من هذا.»
وأجاب بن ألن أنه يعتقد ذلك، وكان مثله الخبير بهذا المرض، فلا غرو إذا شعر واردل بصواب ما لبث نصف ساعة يراود خاطره، وهو أن الغلام سكران.
وغمغم واردل: «ألق بالك إليه بضع دقائق، فلا نلبث أن نعرف هل هو كذلك فعلا أو لا.»
وكان الغلام السيئ الحظ قد تبادل بضع كلمات مع المستر سنودجراس، فقد توسل هذا إليه أن يستعين سرا بصديق على إنقاذه من هذا المأزق الذي هو فيه، ثم دفع به هو وحق السعوط، مخافة أن يكون طول غيابه مدعاة إلى اكتشافه. وفكر الغلام قليلا وقد بدا الاضطراب الشديد على وجهه وذهب يبحث عن ميري.
ولكن ميري كانت قد انصرفت عقب معاونة سيدتها على ارتداء ثيابها، فعاد الغلام إلى الحجرة وهو أشد اضطرابا مما كان قبل.
وتبادل واردل والمستر بن ألن النظرات.
وقال واردل: «يا جو!» - «نعم، يا سيدي.» - «لماذا خرجت اللحظة؟»
ووقف الغلام ينظر يائسا في وجوه الجميع وقال متلعثما إنه لا يعرف.
وقال واردل: «آه! لا تعرف؟ خذ هذا الجبن إلى المستر بكوك.»
وكان المستر بكوك في أحسن حال من الصحة والمرح والابتهاج على العشاء، وكان في تلك اللحظة مسترسلا في حديث مع أميلي والمستر ونكل، وهو يهز رأسه ويحنيه بكل أدب، توكيدا لأقواله، ويلوح في رفق بيسراه تعزيزا لآرائه وملاحظاته، ووجهه طافح بالبشر والبسمات، فتناول قطعة جبن من الصحفة، وهم بالالتفات لمعاودة الحديث، وإذا الغلام البدين ينحني حتى جعل رأسه محاذيا رأس المستر بكوك، وراح يضغط بإبهامه فوق كتفه، ويحرك تقاسيم وجهه أقبح ما شوهد من الحركات في حفلة تمثيل صامت في عيد الميلاد.
وقال المستر بكوك مجفلا: «ما أغرب ... ولكنه لم يتم كلماته، إذ رفع الغلام صلبه، وقد هبط في سبات عميق، أو تظاهر به.»
وسأل واردل: «ماذا جرى؟»
وأجاب المستر بكوك وهو ينظر بقلق إلى الغلام: «إن هذا الغلام لشاذ غريب كل الغرابة، وقد يكون عجيبا أن أقول: إنه يبدو أحيانا مذهولا إلى حد ما أو مجنونا، ولكني أقسم أن الأمر كذلك.»
وصاحت أميلي وأربلا معا في وقت واحد: «أوه، يا مستر بكوك لا تقل ذلك.»
وقال المستر بكوك وسط صمت عميق ونظرات وجوم عام: «لست متأكدا بالطبع، ولكن تصرفه في هذه اللحظة معي في الواقع مزعج جدا.» وهنا صاح المستر بكوك: «آه!» وقفز فجأة مطلقا صرخة قصيرة، واستتلى يقول: «أرجوكما معذرة أيتها السيدتان، ولكنه في هذه اللحظة بالذات وخز ساقي بآلة حادة، الواقع أنه لا يؤمن جانبه.»
وزأر المستر واردل بغضب: «إنه سكران، دق الجرس، نادوا الخدم، إنه سكران.»
وقال الغلام وهو يجثو عند قدميه حين أمسك سيده برقبته: «أنا لست سكران! أنا لست سكران.»
وقال الشيخ: «إذن أنت مجنون، وهو شر وأدهى، نادوا الخدم.»
وأجاب الغلام البدين وقد بدأ ينتحب: «أنا لست مجنونا، أنا عاقل.»
وسأل المستر واردل غاضبا: «إذن لماذا تخز ساق المستر بكوك بآلة حادة ما دمت عاقلا؟»
وأجاب الغلام: «لم يشأ أن ينظر إلي، وكنت أريد أن أكلمه.»
وقالت أصوات كثيرة في نفس واحد: «وماذا كنت تريد أن تقول له؟»
ووقف الغلام يزفر وينظر إلى غرفة النوم، ثم عاد يزفر ويمسح دمعتين بعقدتي خنصريه.
وقال واردل وهو يهزه: «ماذا كنت تريد أن تقول له؟»
وصاح المستر بكوك: «قف واسمح لي أن أسأله بنفسي.»
ماذا كنت تريد أن تقوله لي يا بني المسكين؟
وأجاب الغلام: «أريد أن أهمس لك.»
وقال واردل: «أحسبك تريد أن تقطع أذنه بأسنانك. لا تقترب منه. إنه شرير. دق الجرس، ودعوهم يأخذوه من هنا إلى الطابق الأسفل.»
وفي اللحظة التي أمسك فيها المستر ونكل حبل الجرس ليدقه، وقف عن دقه، حين رأى علامات الدهشة البالغة على الوجوه، فقد بهت القوم أن رأوا العاشق الأسير يخرج من غرفة النوم، بادي الاضطراب، وينحني انحناءة عامة لهم.
وصاح واردل وهو يرفع كفه عن رقبة الغلام، ويتراجع إلى الوراء مبهوتا: «ها! ما هذا!»
وقال المستر سنودجراس معللا: «لقد كنت مختبئا في الغرفة المجاورة يا سيدي منذ عودتكم.»
وقال واردل بلهجة عتاب وتأنيب: «يا ابنتي أميلي، إنني أمقت الحقارة والغش. إن هذا أمر نكر لا مبرر له إطلاقا، ومحرج أشد الإحراج، وما كنت مستحقا هذا من جانبك يا أميلي، ما هذا حقا بجزائي لديك!»
وقالت إملي: «يا أبت العزيز، إن أرابلا تعرف، وكل واحد هنا يعرف، وجو يعرف أن لا ضلع لي في هذا الاختباء، آي أغسطس بحق السماء أناشدك أن تشرح جلية الأمر.»
وكان المستر سنودجراس منتظرا حتى يسمع له قول، فلم تكد أميلي تناشده الكلام، حتى أنشأ يقص كيف وقع في ذلك الحرج، وكيف كان الخوف من أن يثير خلافا عائليا شديدا قد دفعه إلى تجنب لقاء المستر واردل عند دخوله، وكيف لم يكن مراده أكثر من الانصراف من باب آخر، ولكنه وجده مقفلا فاضطر إلى البقاء رغم أنفه. وقال: إنه لموقف أليم ذلك الذي أحيط به، ولكنه الساعة أقل أسفا له؛ لأنه أتاح له الفرصة للاعتراف أمام أصدقاء الطرفين بأنه يحب ابنة المستر واردل حبا شديدا مخلصا صادقا، وأنه فخور بأن يعترف على رءوس الأشهاد بأن ذلك الحب متبادل، وأنه لن ينسى، وإن بعدت الشقة بينه وبينها آلاف الأميال، أو فرقت بينهما المحيطات المترامية، تلك الأيام الهنية التي مضت منذ أول عهده، وما إلى ذلك ونحوه.
وانحنى المستر سنودجراس بعد إلقاء كلام في هذا المعنى، ونظر إلى قمة قبعته وتقدم نحو الباب لينصرف.
وهنا صرخ واردل قائلا: «قف، وقل لي باسم كل ما هو ...»
وعاجله المستر بكوك برفق، وكان يعتقد أن ما سيأتي أدهى وأمر: «بكل ما هو سريع الاشتعال.»
وقال واردل، متقبلا هذا النعت بديلا مما كان يهم بأن يفوه به: «باسم كل ما هو سريع الاشتعال، لماذا لم تنبئني بهذا كله من أول الأمر؟»
وتبعه المستر بكوك فقال: «أو تسره لي مثلا؟»
وهنا انبرت أرابلا للدفاع: «عجبا، عجبا، ما جدوى هذا السؤال كله الآن، وبخاصة بعد أن كنت واضعا عينك وقلبك الطموح على خطيب أكثر منه مالا وأعز نسبا، وأنت إلى جانب ذلك الهائج المتنمر كما تبدو الساعة، حتى ليفرق الجميع منك رعبا، عداي أنا. ألا تقدم وصافحه واطلب له عشاء كرما منك وفضلا؛ لأنه يلوح جائعا، وهلم اسع علينا بالنبيذ ولا تبطئ؛ لأنك لن تطاق حتى تشرب زجاجتين منه على أقل تقدير.»
وجذب الشيخ الكريم أرابلا من أذنها، وقبلها بغير تردد ثم قبل ابنته كذلك بحب شديد، وهز يد المستر سنودجراس بحرارة.
وأنشأ الشيخ يقول بسرور: «إنها على حق في نقطة واحدة على كل حال، وهي طلب الشراب، دقوا الجرس ليأتوا لنا بالنبيذ!»
وجاء النبيذ وجاء معه بركر في الوقت ذاته، وتناول المستر سنودجراس الطعام على مائدة جانبية، ولم يكد يأتي عليه حتى قرب مقعده من أميلي دون أدنى معارضة من الشيخ الكبير.
وكان المساء بديعا، وبدا المستر بركر النحيل القصير صافي المزاج إلى حد عجيب، وأقبل يقص نوادر هزلية مختلفة ويغني أغنية جدية، لا تقل إثارة للضحك من أقاصيصه ونوادره، ولاحت أرابلا فاتنة، وظل المستر واردل ممازحا مداعبا، وكان المستر بكوك في أشد حالات الانسجام، بينما راح المستر بن ألن صخابا يرسل الزئير إثر الزئير، كما لبث العاشقان صامتين، وانطلق المستر ونكل يكثر من الكلام، وظل السرور مرفوفا بجناحيه فوق الجميع.
الفصل الخامس والخمسون
كيف تولى المستر سلمون بل بمعاونة لجنة منتخبة من سائقي المركبات يدبر شئون المستر ولر الكبير. ***
وقال المستر ولر مخاطبا ابنه في صباح اليوم التالي لتشييع الجنازة: «اسمع يا صموفيل، لقد وجدتها، لقد كنت أعتقد أنها هناك.»
وسأل سام: «ما هي التي اعتقدت أنها هناك؟»
وأجاب المستر ولر: «وصية امرأة أبيك يا سامي التي بمقتضاها سوف تتخذ التدابير التي قلت لك عنها في الليلة الماضية بشأن المال.»
وسأل سام: «ألم تكن قالت لك: أين وضعتها؟»
وأجاب المستر ولر: «أبدا لم تخبرني قط بشيء عنها، فقد كنا نصفي خلافاتنا الصغيرة، وكنت أشجعها وأواسيها وأقوي روحها فنسيت أن أسألها عنها، ولست أدري هل كنت أسألها عنها حتى لو تذكرتها؛ لأنه ليس لطيفا مطلقا يا سامي أن تنطلق في الكلام عن أملاك أحد وأنت ترعاه في مرضه، إن ذلك لأشبه بمساعدة راكب في خارج المركبة سقط منها فجأة بينما أنت تدس يدك في جيبيه، وتسأله في مسرة كيف حاله.»
وبهذه الاستعارة التي صور بها مراده ، راح المستر ولر ينزع محفظة جيبه فيفتحها ويخرج منها ورقة قذرة من أوراق الخطابات، نقشت عليها حروف مختلفة متزاحمة متلاصقة في اضطراب عجيب.
وقال المستر ولر: «هذه هي «الوثيقة» يا سامي، وجدتها في علبة شاي سوداء صغيرة على الرف العلوي في غرفة الشراب، وكانت قد اعتادت أن تحفظ أوراق النقد فيها قبل زواجها يا صموفيل، فقد رأيتها وهي ترفع الغطاء لتدفع حسابا كان عليها، عدة مرات. يا لها من مسكينة! لقد كان ممكنا أن تملأ كل علب الشاي التي في المحل بالأوراق المالية، ولا تجد في ذلك تعبا؛ لأنها لم تكن تخرج منها شيئا كثيرا في الأيام الأخيرة، إلا في الليالي التي تجتمع فيها جمعية «منع المسكرات» التي جعلت شرب «الشاي» أساسا، تضع فوقه المشروبات الروحية.»
وسأل سام: «وماذا تقول الوصية؟»
وأجاب الوالد: «ما قلته لك يا بني تماما، فيها مائتا جنيه أسهما وسندات بسعر مخفض باسم ابن زوجي صموفيل، وكل ما بقي من تركتي بجملته وأنواعه وأوصافه لزوجي المستر توني ولر الذي عينته المنفذ الوحيد لوصيتي.»
وقال سام: «أهذا كل شيء؟»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو كل ما فيها، وأظن أنه حق ومريح لي ولك بصفتنا الطرفين الوحيدين، فلا بأس إذن من إلقاء هذه الورقة في النار.»
وصاح سام: «ماذا تريد أن تفعل يا مختل؟ وراح ينتزع الورقة منه، وكان أبوه بسلامة نية قد أخذ يحرك جذوات النار استعدادا لتأييد القول بالفعل. وأردف سام قائلا: «يا لك من منفذ وصية بديع! أهكذا؟»
وقال المستر ولر وهو يتلفت حوله عابسا ولا يزال المحراك في يده: «وما المانع؟»
وأجاب سام: «المانع؟! لأنه لا بد من إثبات الوراثة، وتأدية اليمين، وشهادة الشهود، وكل الإجراءات الرسمية المتعلقة بالتركات.»
وألقى المستر ولر المحراك من يده مبهوتا وقال: «هل تقول جدا؟»
ووضع سام الوصية في أحد جيبيه بكل حرص وأفهم أباه بإشارة من عينيه أنه يقصد ما يقول وأنه جاد فيه كل الجد.
وأجاب المستر ولر بعد أن فكر لحظة: «إذن استمع إلى، هذه مسألة لا ينفع فيها سوى صاحبنا صديق كبير القضاة. يجب أن يتولى المسألة صاحبنا «بل» يا سامي؛ لأنه الرجل الحلال لكل عقدة في القانون فلنقدم القضية في الحال يا سامي أمام محكمة التفاليس.»
وصاح سام منفعلا: «لم أر في حياتي عجوزا مخرفا كهذا. كل مخه ممتلئ بمحاكم الجنايات، ومحاكم التفاليس، وعدم الوجود في مكان الحادث، وكل ما هو هزر وكلام فارغ. الأفضل أن تذهب فترتدي ثياب الخروج، لنذهب إلى المدينة ونقضي هذه المسألة، بدلا من الوقوف للوعظ والإرشاد فيما لا تفهم منه شيئا.»
وأجاب المستر ولر: «جميل جدا يا سامي، إنني مستعد لأي عمل ينهي هذه المسألة بسرعة يا سامي، ولكن افهم مني يا بني شيئا واحدا، وهو أن لا نستشير فيها غير «بل»، «بل» وحده، لا أحد سواه.»
وأجاب سام: «أنا لا أريد أحدا آخر، والآن هل أنت آت أو لا؟»
وأجاب المستر ولر: «انتظر دقيقة يا سامي» وأقبل الشيخ يتلفع بملفعته أمام المرآة المعلقة في النافذة، وبدأ بمجهود عجيب متناه في العجب، يحاول ارتداء ثيابه الخارجية، ثم أردف قائلا: «يا سامي صبرا لحظة واحدة يا سامي، فإنك عندما تكبر وتبلغ عمر أبيك سوف لا تدخل في ثياب بالسهولة التي تدخل بها الآن يا بني.»
وأجاب الفتى: «إذا لم يتيسر لي ذلك أسهل من هذا، فلا لبستها إذن ولا وضعتها فوق جسدي.»
وقال المستر ولر بكل وقار السن ورزانته: «أنت تتصور هذا الآن، ولكنك ستجد كلما أصبحت أعرض أنك أمسيت أعقل، فإن العرض والحكمة يا سامي ينموان معا على الدوام.»
وفيما كان المستر ولر يلقي بهذه الحكمة الصادقة التي لا تخطئ، والتي أتت ثمرة خبرة السنين الطوال، ومشاهداتها، راح يحاول بحركة التواء بارعة، إدخال الزر الأخير في سترته إلى عروته، وبعد أن تمهل بضع ثوان ليسترد أنفاسه نفض قبعته بمرفقه، وأعلن أنه على استعداد للمسير.
وأنشأ يقول وهما راكبان في طريق لندن إلى وجهتهما: «إن أربعة أدمغة خير من اثنين يا سامي، ولما كانت هذه البركة إغراء شديدا لرجل القانون ، فالأفضل أن نأخذ معنا صديقين من أصدقائي، ينقضان عليه في الحال إذا أتى عملا غير سليم، وهما بعض الذين أوصلوك إلى سجن «فليت» قبل الآن.» وهنا غض صوته قليلا وأضاف يقول: «إنهم أحسن خبراء بالخيل يمكن أن تلتقي بهم في الحياة.»
وسأل سام: «وهل هما خبيران بالمحامين أيضا؟»
وأجاب الوالد: «إن الرجل الذي يستطيع أن يكون رأيا صحيحا في الحيوان يستطيع تكوين رأي صحيح في أي شيء»، وكان هذا التقرير القاطع من القوة والجزم بحيث لم يحاول سام قلب النظرية أو إدحاضها.
وعملا بهذا الرأي الحصيف استعان الأب والابن بخدمات الرجل «المرقط» الوجه واثنين آخرين من السائقين مفرطين في البدانة - وأكبر الظن أن المستر ولر هو الذي اختارهما، أخذا بحكمته القائلة: إن العرض والحكمة مقترنتان. وانطلق الجمع إلى الحانة الواقعة في شارع «برتيوجل» حيث أوفدوا رسولا إلى محكمة التفاليس المجاورة للبحث عن المستر سلمون بل ودعوته إلى الحضور في الحال.
ووجد الرسول المستر سلمون بل لحسن الحظ في المحكمة، يلهو لقلة الأعمال، وينعش نفسه بطعام يسير من اللحم البارد والبقسماط والقديد.
وما أن همس الرسول له في أذنه بالرسالة حتى دس الطعام في جيبه مع مختلف الأوراق والمذكرات المتعلقة بالمهنة، وسارع بقطع الطريق بفرح شديد حتى لقد وصل إلى الغرفة قبل أن يتمكن الرسول من مغادرة المحكمة.
ورفع المستر بل يده إلى قبعته وقال: «أيها السادة أنا في خدمتكم جميعا، ولست أقول ذلك لأتملقكم أيها السادة ولكن ليس في العالم كله خمسة أناس آخرين كان يمكنني أن أترك المحكمة من أجلهم اليوم.»
وقال سام: «إيه؟ أمشغول جدا؟»
وأجاب بل: «مشغول! بل قل: «مثقل» بالعمل إلى أقصى حد، كما كان صديقي كبير القضاة يقول لي مرارا أيها السادة، كلما فض الجلسة عقب سماع العرائض المرفوعة إلى مجلس اللوردات. يا له من مسكين! لقد كان أشد الناس حساسية بالتعب، وكان يحس بثقل تلك القضايا المستأنفة إحساسا غير عادي، حتى لقد ذهبت بي الظنون أكثر من مرة إلى القول: بأنه كان موشكا أن يرزح تحتها وينوء بحملها. أي: والله، هذا كان شعوري فعلا.»
وهز المستر بل رأسه وتمهل، وعندئذ لكز المستر ولر الكبير جاره، كأنما يطلب إليه أن يلاحظ صلات المحامي بالكبراء، وانثنى يسأله هل عادت واجبات كبير القضاة على صحته بآثار سيئة، أو أصابت صديقه الكبير بمرض.
وأجاب بل: «لا أظن أنه شفي منها تماما أو الواقع أنني متأكد أنه لم يشف أبدا منها، وكانت عادته أن يقول لي: عجبي لك يا بل كيف يتواتى لك احتمال هذا العمل الشاق الذي تقوم به؟ هذا لغز لا أفهمه، فكنت أجيب قائلا: وأنا أيضا، لا أكاد والله أدرك كيف أقوم به، فكان يقول وهو يتنهد وينظر نحوي بشيء من الحسد - الحسد الودي كما لا يخفى عليكم أيها السادة، مجرد حسد الأصدقاء؛ ولهذا لم أكن أجد منه بأسا - إنك لأعجوبة يا بل، أعجوبة. آه لو كنتم عرفتموه أيها السادة لأحببتموه كثيرا، أحضري قليلا من الروم لي يا عزيزتي لا يزيد على ثلاثة بنسات.»
وكان الخطاب الأخير موجها إلى الخادمة بلهجة حزن كظيم، وانثنى يتنهد وينظر إلى حذائه، ثم إلى السقف، وكان الروم قد حضر في تلك اللحظة فاجترعه اجتراعا.
وعاد يقول، وهو يقرب كرسيا من المائدة: «ولكن رجل القانون لا يملك حق التفكير في علاقاته الخاصة حين تطلب إليه المساعدة القانونية، وبهذه المناسبة، أيها السادة لقد حدث منذ آخر لقاء لنا هنا حادث أليم أسفنا له وذرفنا العبرات.»
وأخرج المستر بل منديلا من جيبه، حين وصل إلى كلمة «العبرات»، ولكنه لم يستخدمه إلا في مسح قطرة صغيرة من الروم كانت معلقة فوق شفته العليا.
ومضى يقول: «لقد قرأت النعي يا مستر ولر في «الأدفرتيزر» وا حر قلباه! لم تكن تجاوزت الثانية والخمسين وا أسفاه! تصور يا سيدي.»
وكانت هذه الكلمات الأخيرة التي تنم عن روح طبعت على التأمل والتفكير موجهة إلى الرجل المرقط الوجه، التقت عينا مستر بل مصادفة به بعينيه، وكان إدراك ذلك الرجل للأمور إلى القبض على أحد، أن الحجز بالطرق الودية يغني كما تعلمون. أظننا هنا أصدقاء كلنا؟
وقال المستر ولر لابنه: «أعطني الوثيقة يا سامي.»
وأخذ الوصية من ابنه، وكان هذا يبدو مسرورا بالحديث إلى حد مدهش، وقال للمحامي: «إن ما نطلبه يا سيدي هو إثبات صحة هذه الورقة.»
وقال بل مصححا: «تقصد ثبوت الوراثة يا سيدي، ثبوت الوراثة.»
وأجاب المستر ولر بحدة: «إثبات، ثبوت، كلاهما سيان، وإذا كنت لا تفهم يا سيدي ما أقصد فاسمح لي أن أقول: إنني سأجد من يفهمني.»
وقال بل بحلم واستكانة: «لا أقصد إساءة يا سيدي، لا إساءة.» وألقى نظرة على الورقة وأضاف قائلا: «يبدو لي أنك المنفذ.»
وأجاب المستر ولر: «نعم أنا يا سيدي.»
وسأل بل وهو يبتسم ابتسامة التهنئة: «وأظن أن هؤلاء السادة الآخرين هم الورثة؟ أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ولر: «سامي وارث، أما هؤلاء السادة الآخرون فهم أصدقائي جاؤوا ليتأكدوا أن كل شيء يسير في الطريق الصحيح شبه محكمين.»
وقال بل: «آه، جميل جدا لا مانع عندي طبعا، ولكني محتاج قبل ابتداء العمل إلى شيء كخمسة جنيهات مثلا ها! ها! ها!»
وبعد البحث قررت اللجنة أن لا مانع من دفع الجنيهات الخمسة مقدما، فأخرج المستر ولر المبلغ المطلوب، وتلت ذلك مشاورات طويلة في غير شيء معين، جعل المستر بل خلالها يثبت للسادة المحكمين ويبين لهم بصورة أرضتهم جميعا وأقنعتهم كل الإقناع، أن المسألة كانت ستتعرض لتصرفات غير صحيحة، وتتخذ طريقا غير مستقيم، لو لم يسند أمرها إليه، لأسباب لم يوضحها، ولكنها بلا شك أسباب كافية. وبعد أن انتهى المستر بل من هذه النقطة الخطيرة الشأن، انثنى ينعش نفسه، ويجدد نشاطه بثلاث شرائح من اللحم، وأشربة من نقيع الشعير - الجعة - وأخرى من الكحول، على حساب «التركة» ثم انصرف الجميع إلى المحكمة.
وفي اليوم التالي عادوا إلى المحكمة أيضا حيث حدث نزاع طويل مع سائس جيء به شاهدا، وكان ثملا فرفض أن يؤدي اليمين المصطلح عليها في هذه الحالات، وأبى إلا أن يقسم أقساما نابية، مما كان فضيحة أمام الوكيل ونائبه، وتعددت الزيارات للمحكمة في الأسبوع التالي، كما قصدوا مرة إلى إدارة ضريبة التركات، واقتضى ذلك تحرير أوراق وإقرارات للإذن بالتصرف والمصادقة عليه، وعمل «جرد» لما في المحل من أمتعة ومنقولات واحتاج الأمر إلى غدوات تؤكل، ووجبات عشاء تقدم، وعدة أشياء نافعة تهيأ، وأكداس من الورق تجمع، حتى بلغ من ذلك كله أن أصبح المستر بل وصبيه والحقيبة الزرقاء من التضخم والسمن بحيث لم يعد أحد تقريبا يعرف الرجل ولا الصبي ولا الحقيبة، ولطالما ترددا بها على شارع برتيوجل، منذ بضعة أيام.
وأخيرا، وبعد إنجاز كل هذه المسائل الجسيمة تحدد يوم لبيع الأسهم والسندات ونقل ملكيتها، ومقابلة السيد ويكلنز فلاشر السمسار في سوق الأوراق المالية، حيث يقيم في مكان مجاور للمصرف، وكان المستر سلمون بل هو الذي زكاه لهذا الغرض.
وكانت هذه المقابلة بمثابة عيد أو مهرجان، فتجمل القوم بأحسن ثيابهم، ومسح المستر ولر حذاءه الطويل ونظفه، ونظم هندامه بعناية خاصة، ووضع الرجل المرقط في عروة ردائه زهرة كبيرة من نوع «الداليا» ذات عدة أوراق، كما زان السائقان الآخران ردائيهما بزهرات من الغار وغيره من أزاهر النباتات الدائمة الاخضرار، وقد بدا ثلاثتهم في ثياب الأعياد، أي: إنهم اشتملوا بثياب ترتفع إلى الأذقان، ولبسوا أكبر قدر ممكن من الملابس، وهي الفكرة السائدة بين معاشر السائقين، عن قولنا: «الزي الكامل» منذ اخترعت المركبات إلى يومنا هذا.
وكان المستر بل منتظرا في المكان المعهود، والموعد المضروب، وكان هو كذلك قد لبس قفازا وقميصا نظيفا بدا طوقه ونهاية كمه عند المعصم ناصلتين من كثرة الغسيل.
وقال بل وهو يتطلع إلى الساعة المعلقة فوق الجدار: «الساعة الآن الثانية إلا ربعا، فإذا أمكننا أن نقابل المستر فلاشر في الساعة الثانية والربع، كان هذا أحسن الأوقات لمقابلته.»
واقترح الرجل ذو الوجه المرقط: «ما قولكم أيها السادة في نهلة من الجعة؟»
وقال السائق الثاني: «وقطعة صغيرة من اللحم البارد.»
وأضاف الثالث: «أو قليل من المحار» وكان هذا سيدا خشن الصوت ينهض على ساقين مفرطتين في الاستدارة.
وقال بل: «مرحى، مرحى! على سبيل الاحتفال بتهنئة المستر ولر بمناسبة انتقال الملكية إليه، آه؟ ها! ها!»
وأجاب المستر ولر: «أنا موافق جدا يا سادة. اضرب الجرس يا سامي.»
وفعل سام ذلك، ولم تلبث أن جاءت الجعة واللحوم والمحار وأقبل القوم عليها فأدوا لها حقها من الإنصاف. ونحسب من الأمور المثيرة للاستياء أن يحدث شيء من التمييز، حين يكون كل مشترك في الطعام ناشطا له مقبلا عليه، ولكن إذا كان منهم أحد قد أظهر قوة أكبر من الآخرين، فقد كان ذلك الشخص هو السائق الخشن الصوت، فقد أخذ قدرا بالغا من الخل مع المحار دون أن ينم عن أقل تأثر أو انفعال.
وقال المستر ولر وهو يحرك كأسا من البراندي بالماء بعد أن وضع كأسا منه أمام كل واحد منهم عقب إزالة محار الفارغ: «يا مستر بل سيدي، لقد كنت أعتزم أن أقترح نخب المال في هذه المناسبة، ولكن صموفيل همس لي قائلا ...»
وهنا صاح المستر صمويل ولر وكان قد أتى على نصيبه من المحار في صمت، قائلا بابتسامات هادئة، وصوت مرتفع: «مرحى!»
وواصل والده حديثه قائلا: «لقد همس لي قائلا: إنه من الخير أن نخصص الشراب لنخبك مع دعواتنا لك بالنجاح والتوفيق، ولشكرك على الطريقة التي اتبعتها في إنهاء هذه المسألة على خير، فلنشرب في صحتك إذن يا سيدي.»
وتدخل السيد ذو الوجه المرقط بغتة فقال بحماسة: «قف هنالك! وانظروا جميعا نحوي أيها السادة!»
ونهض السيد ذو الوجه المرقط بعد أن فاه بتلك العبارة ونهض الجميع كذلك، واستعرض الوجوه، ورفع ببطء يده، وأخذ كل منهم حتى السيد المرقط الوجه، نفسا طويلا، ورفع كأسه إلى شفتيه. وفي الحال أنزل السيد ذو الوجه المرقط يده، وهبطت الأقداح في أثره على المائدة فارغة. ومن المستحيل وصف الأثر المدهش البالغ الذي أحدثه هذا الاحتفال العجيب، فقد جمع كل عناصر العظمة على ما حوى من روعة وجلال ووقار.
وأنشأ المستر بل يقول: «جميل جدا أيها السادة، وكل ما في وسعي أن أقوله: إن هذه الأمارات الدالة على الثقة تسر بلا شك نفس رجل القانون وتثلج صدره، ولست أحب أن أقول شيئا تشتم منه رائحة الأنانية أيها السادة، ولكني في غاية السرور من أجلكم لمجيئكم لي، هذا هو كل ما أريد أن أقول. واعتقادي الجازم أنكم لو كنتم ذهبتم إلى عضو من أصاغر رجال المهنة لوجدتم أنفسكم حيارى في ضلال مبين، ولما وصلتم إلى هذا الاحتفال الذي نقيمه الآن. إنني أؤكد لكم ذلك بوصفه حقيقة وواقعا، ولكم وددت لو أن صديقي اللورد كبير القضاة كان اليوم حيا فشاهد مبلغ إدارتي وحسن تصرفي في هذه القضية، ولست أقول ذلك عن تفاخر، ولكني أعتقد مع ذلك أيها السادة أنه لا يصح لي أن أضايقكم بشيء من هذا القبيل، إنني هنا أيها السادة عادة إذا طلبتموني وجدتموني، فإذا لم أكن هنا، ولا في الناحية الأخرى من الطريق، فهذا هو عنواني، وسترون أن أتعابي زهيدة ومعقولة، وأن ليس في وسط المحامين أحد أكثر رعاية لعملائه مني، وأرجو أن أكون على شيء من العلم بمهنتي أيضا، فإن سنحت لكم فرصة لتزكيتي عند أحد من أصحابكم، كنت لكم من أصدق الشاكرين، وهم أيضا حين يعرفونني، في صحتكم أيها السادة.»
وبعد أن عبر بهذه الطريقة عن عواطفه وضع ثلاث بطاقات مكتوبة أمام أصحاب المستر ولر، وعاد ينظر إلى الساعة، وقال: إنه قد حان لهم أن ينصرفوا، وعلى أثر هذا التلميح دفع المستر ولر الحساب، وانطلق الجميع - منفذا ووريثا ومحاميا وشهودا - صوب حي الأعمال في المدينة.
وكان مكتب السيد ولكنز فلاشر السمسار في سوق الأوراق المالية في الطبقة الأولى من عمارة خلف مصرف إنجلترا، بينما كانت داره في بركستون، واسطبل حصانه ومركبته في موضع مجاور، وكان سائس المستر ولكنز فلاشر في طريقه إلى حي «وست اند» لتسليم بعض القنائص التي جمعت من الصيد، وكان كاتب المستر ولكنز فلاشر قد ذهب لتناول الغداء، فلم يكن ثمة أحد غير المستر ولكنز فلاشر في المكتب حين دق المستر بل وصحبه الباب، فصاح بنفسه قائلا: «ادخل.»
وقال بل: وهو ينحني انحناء ظاهرا: «طاب صباحك يا سيدي. نريد أن ننفذ شيئا من التحويل إذا تفضلت.»
وقال المستر فلاشر: «آه! تفضلوا ادخلوا. اجلسوا لحظة، سأتفرغ لكم حالا.»
وقال بل: «شكرا لك يا سيدي، لا مدعاة للعجلة، خذ لك كرسيا يا مستر ولر.»
واتخذ هذا كرسيا، واختار سام صندوقا، وتناول المحكمان ما استطاعا أن يجداه وراحوا جميعا يتطلعون إلى التقويم المعلق فوق الجدار وجريدة أو جريدتين كانتا معلقتين فوقه كذلك، وهم جاحظو الأعين من الإكبار كأن الجريدتين من أروع رسوم العباقرة الخالدين.
وقال المستر ولكنز فلاشر، مواصلا الحديث الذي كان المستر بل قد قطعه بدخوله إلى حين: «إني لمستعد أن أراهنك عليه بست من زجاجات النبيذ الأحمر - الكلاريت - إذا شئت المراهنة.»
وكان هذا القول موجها إلى شاب رشيق يضع قبعته على اليمين من رأسه، وهو منحن فوق المكتب يقتل الذباب بالمسطرة، بينما كان السيد ولكنز فلاشر يوازن نفسه فوق ساقي مقعد طويل، ويطعن بسن المبراة علبة ورق اللصق، فينفذ السن بين لحظة وأخرى ببراعة بالغة في وسط ورقة صغيرة حمراء لاصقة خارج العلبة، وكان كل من السيدين يرتدي صدارا مفتوحا وطوقا مستديرا وحذاء صغيرا، ويلبس خواتيم كبيرة، وساعة دقيقة الحجم وسلسلة صخمة، وكل هندامه آية في التناسق ومناديله عباقة برائحة زكية.
وقال الآخر: «أنا لا أراهن أبدا بست زجاجات، ولكني أقبل المراهنة باثنتي عشرة.»
وأجاب السيد ولكنز فلاشر: «وأنا قابل يا سمري، اتفقنا!»
وقال الآخر: «من النوع الأصيل.»
وأجاب ولكنز فلاشر: «طبعا.» ودون الرهان في دفتر صغير له ممسك قلم ذهبي كما دونه الآخر في دفتر مماثل ذي ممسك قلم ذهبي كذلك.
وقال المستر سمري: «لقد رأيت في هذا الصباح إعلانا عن «بفر»، يا للشيطان المسكين! لقد فصلوه من المحل.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «أراهنك بعشرة جنيهات لخمسة على أنه سيقطع رقبته.»
وأجاب المستر سمري: «وأنا قبلت الرهان.»
وقال المستر ولكنز فلاشر، وقد لاحت عليه علائم التفكير: «قف! أنا مستدرك، فمن الجائز أن يشنق نفسه.»
وأجاب المستر سمري وهو يخرج ممسك القلم الذهبي مرة أخرى: «حسن جدا، لا مانع عندي من مجاراتك في هذا السبيل، لنقل مثلا أن الرهان على أنه «سيتخلص» من نفسه.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «سيقتل نفسه في الحقيقة.»
وأجاب المستر سمري: «وهو كذلك، ولنقيد الرهان على هذا الشرط، وأخذ يكتب: فلاشر عشرة جنيهات لخمسة. الرهان: بوفر سيقتل نفسه، والآن لنتفق على المدة التي سيقتل فيها نفسه.»
واقترح المستر ولكنز فلاشر: «أسبوعين.»
وقال المستر سمري، وقد وقف عن الكتابة لحظة ليقتل ذبابة بالمسطرة: «لعنة الله. كلا لنقل أسبوعا.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «لنقسم الفرق قسمين فنقول: عشرة أيام.»
وأجاب المستر سمري: «لتكن عشرة أيام.»
ودون الرجلان في دفتريهما الصغيرين القول: بأن بفر سيقتل نفسه في غضون عشرة أيام، أو يدفع المستر ولكنز فلاشر إلى المستر فرانك سمري مبلغ عشرة جنيهات، وإذا قتل بوفر نفسه في هذه المدة فيدفع المستر فرنك سمري خمسة جنيهات إلى المستر ولكنز فلاشر بدلا من العشرة.
وقال المستر ولكنز فلاشر: «إنني متأسف جدا لإفلاسه، لقد كان يقيم مآدب فاخرة.»
وقال المستر سمري: «ونبيذ معتق أيضا، وسنرسل ساقينا غدا إلى المزاد؛ ليلتقط لنا بعض الزجاجات التي تسمى (64).»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «يا لك من شيطان، إن الساقي الذي في خدمتي ذاهب كذلك، أراهنك بخمسة جنيهات على أن خادمي سيزايد على خادمك.»
وقال الآخر: «وأنا قبلت الرهان.»
ودون الرهان الجديد في الدفترين الصغيرين بالقلمين ذوي الممسكين الذهبيين، وكان المستر سمري عندئذ قد «قتل» كل الذباب، ودون كل الرهان، فانطلق إلى المصفق ليرى سير المضاربات.
وهنا تواضع المستر ولكنز فلاشر فاستمع لطلبات المستر سلمون بل، وبعد أن ملأ بعض الأوراق المطبوعة، طلب إلى الجمع أن يتبعوه إلى المصرف، ففعلوا، وكان المستر ولر وأصحابه الثلاثة محملقي الأبصار في كل ما يمر بهم في دهشة لا حد لها، بينما كان سام يقابل كل شيء بهدوء لا يزعجه مزعج.
واجتازوا فناء يعج جلبة وصخبا وحركة، ومروا باثنين من البوابين يناسب زيهما آلة إطفاء الحريق الحمراء التي كانا يدفعانها على عجلاتها إلى ركن فيه، حتى دخلوا إلى المكتب الذي سينجز فيه عملهم، حيث تركهم بل والمستر فلاشر وقوفا بضع لحظات، ريثما صعدا إلى إدارة الوصايا.
وهمس ذو الوجه المرقط للمستر ولر الكبير: «ما هذا المكان؟»
وأجاب منفذ الوصية مخافتا بصوته: «مكتب المستشار.»
وسأل السائق الأجش الصوت: «ومن هؤلاء السادة الجلوس خلف المنصات؟»
وأجاب المستر ولر: «هؤلاء فيما أظن هم الذين يقال عنهم: صغار المستشارين، أليس كذلك يا صموفيل؟»
وسأله سام باحتقار: «هل تظن أن صغار المستشارين أناس أحياء يأكلون ويشربون؟»
وأجاب المستر ولر: «ومن أين لي أن أعرف لقد حسبت أنهم يشبهون هؤلاء ومن هم إذن؟»
وأجاب سام: «هؤلاء هم الكتبة.»
وسأل الوالد: «ولماذا تراهم جميعا يأكلون الشطائر؟»
وأجاب سام: «لأن ذلك واجبهم وجزء من النظام ذاته، وهم يفعلونه هنا على الدوام، طول النهار!»
وما كاد المستر ولر وأصحابه يقضون لحظة في التفكير في هذا النظام الفريد الذي يتصل بالحركة المالية في البلاد، حتى وافاهم بل والمستر فلاشر، فاقتاداهم إلى ناحية من المنصة كتب فوقها على لوح أسود مستدير الحرف «و» بشكل ظاهر.
وهنا قال المستر ولر وهو يلفت نظر بل إلى ذلك اللوح: «لماذا يضعون هذا الحرف فوق ذلك اللوح؟»
وأجاب بل: «هذا هو الحرف الأول من اسم المتوفاة.»
والتفت المستر ولر إلى المحكمين فقال: «اسمعوا هنا شيء خطأ، إن «الواو» هي اسمنا نحن هذا لا ينفع.»
وقرر الحكام من فورهم أن الإجراءات لا يمكن أن تتخذ تحت حرف «الواو»، وكان أكبر الظن أن المسألة كانت ستتأخر وتتعطل يوما آخر على الأقل، لولا تلك المبادرة، التي قد تبدو لأول وهلة سلوكا جافيا من جانب ولد في حق والده، فقد بادر سام فأمسك والده من ذيل سترته وجذبه إلى المنصة واحتجزه أمامها حتى انتهى من إثبات توقيعه على وثيقتين، وكانت عملية التوقيع بالنسبة لما اعتاده المستر ولر من كتابة الحروف غليظة كالمطبعة، مسألة شاقة وتستغرق وقتا وجهدا، حتى لقد استطاع الكاتب المختص تقشير ثلاث تفاحات وأكلها في الفترة التي قضاها المستر ولر في الإمضاء.
وأصر المستر ولر الكبير على بيع نصيبه في الحال، فانتقلوا من المصرف إلى سوق الأوراق المالية فوقفوا بالباب الخارجي، وهنا غاب المستر ولكنز فلاشر لحظة ثم عاد يحمل صكا على مصرف سميث - بين سميث بمبلغ خمسمائة وثلاثين جنيها، وهو القدر الذي يستحقه المستر ولر بسعر السوق من رصيد المال الذي ادخرته زوجته الثانية، بينما تم تحويل المائتي جنيه نصيب سام إلى اسمه، ولم يكد المستر ولكنز فلاشر يتناول عمولته، ويلقي بالمال في جيبه بغير اكتراث، حتى عاد أدراجه إلى مكتبه.
وكان المستر ولر في مبدأ الأمر مصرا على صرف الصك جنيهات ذهبية، رافضا قبول شيء سواها، ولكن الحكمين أفهماه أن هذا سيقتضي دفع نفقات «زكيبة» صغيرة لحملها فيها إلى البيت، فرضي أخيرا قبول المبلغ أوراقا من فئة الخمسة الجنيهات.
وقال المستر ولر وهم منصرفون من المصرف بعد قبض المال: «إن لدينا أنا وابني موعدا خاصا في عصر اليوم، وأحب أن أنهي هذه المسألة وأغسل يدي منها، فلنذهب إلى مكان ما حيث نستطيع تصفية الحساب.»
ولم يلبثوا أن اهتدوا إلى غرفة هادئة، وتم البحث في الحسابات ومراجعتها، وتولى سام دفع حساب «بل»، وقال الحكمان «بشطب» بعض المفردات، وعلى الرغم من أن المستر بل قد صرح عقب توكيدات وأيمان أنهم كانوا في المراجعة قساة في الواقع عليه، فإن هذه «العملية» كانت أحسن عملية قانونية أتيحت يوما له، وقد عاش بعدها ستة أشهر ينفق منها على مسكنه وطعامه وغسيل ملابسه.
وتناول الحكمان كأسا، وتصافحا ثم انصرفا فقد كان لا بد لهما أن يخرجا بعرباتهما من المدينة في تلك الليلة، ورأى اللطيفة التي كان المستر بكوك ينظر بها إليها، حين فرغت من قولها، ولكن المؤكد أنها أطرقت وجعلت تفحص ركن مبذلتها الرشيقة الصغيرة فحصا أدق مما يبدو أن الحاجة تدعو إليه.
وقال المستر بكوك: «نبئيهما أن في إمكانهما المجيء إلى هنا في الحال.»
وبدا على الفتاة الارتياح للخلاص من هذا الموقف فأسرعت منصرفة لإبلاغ رسالتها.
وانثنى المستر بكوك يروح في الحجرة ويغدو مرتين أو ثلاثا، وعرك ذقنه بيسراه، وهو يبدو مستغرقا في التفكير.
وراح يقول لنفسه بعد لحظة بصوت رفيق وإن كان حزينا إلى حد ما: «جميل، جميل، هذه هي أحسن وسيلة لمجازاته على إخلاصه لي ووفائه، فليكن ذلك إذن على بركة الله. فذلك هو مصير كل شيخ وحيد، كل الذين من حوله ينشئون علاقات جديدة، وصلات مختلفة، ويتركونه في النهاية وحده، ولا يحق لي أن أتوقع شيئا غير ذلك.» وهنا أردف يقول وهو أكثر تهللا وابتساما: «كلا، كلا، أن توقع أكثر من هذا أثرة، وجحود، وكفر بالصنيع، أولى بي أن أغتبط وأهنأ أن تواتت لي الفرصة لكي أطمئن على مصيره هو كذلك أني بلا ريب لمغتبط سعيد.»
وفيما كان المستر بكوك مستغرقا في هذه الخواطر ونحوها دق الباب ثلاثا أو رباع قبل أن ينتبه إلى دقاته. وما كاد يجلس ويستعيد إشراقه وتهلل أساريره كعادته، حتى أذن للقادمين في الدخول، فدخل سام يتبعه والده.
وبادره المستر بكوك قائلا: «يسرني أن أراك قد عدت يا سام. كيف حالك يا مستر ولر؟»
وأجاب الشيخ الأرمل: «بخير، وشكرا يا سيدي، أرجو أن تكون بعافية يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «كل العافية، أشكرك.»
وقال المستر ولر: «لقد أردت أن أتحدث إليك قليلا يا سيدي، إذا كان في الإمكان أن تستغني عن خمس دقائق أو نحوها لسماع قولي يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد. يا سام، قدم إلى والدك كرسيا.»
وقال المستر ولر: «شكرا يا صموفيل، ها هو الكرسي هنا - وراح يحمل مقعدا بنفسه، ويقول وهو يضع قبعته على أرض الغرفة، حين اتخذ مجلسه: «إن اليوم لصاف بشكل غير مألوف يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: إنه لكذلك إلى حد بديع. يوم لطيف حقا مناسب لهذا الفصل من السنة.»
وقال المستر ولر: «أنسب جو رأيته في حياتي يا سيدي.»
وهنا انتابت الشيخ نوبة سعال شديد لم تكد تفارقه حتى مضى يهز رأسه ويغمز بعينيه ويبدي عدة إشارات توسل وحركات تهديد ووعيد لابنه، ظل سام ولر ممتنعا عن رؤيتها في عناد وإصرار .
وأدرك المستر بكوك أن الشيخ مرتبك فتظاهر بأنه منشغل بقطع حواف صفحات كتاب كان موضوعا بجانبه، وانتظر مليا حتى يصل المستر ولر إلى الإفصاح عن غرضه من زيارته. وقال المستر ولر وهو ينظر بغضب إلى ابنه: «ما رأيت في حياتي ولدا قاسيا مثلك يا صموفيل، ولا ابنا شنيعا بهذا الشكل.»
وسأل المستر بكوك: «ماذا فعل يا مستر ولر؟»
وأجاب الوالد: «إنه لا يريد أن يبدأ الكلام يا سيدي، وهو يعرف أنني عاجز عن التعبير عما أريد، عندما تكون هناك مسألة تحتاج إلى العمل، بل يقف وينظر إلي وأنا جالس هنا، مضيع شيئا من وقتك الثمين، ويجعلني هدفا للمشاهدة، بدلا من أن يسعفني ولو بحرف واحد، هذا عقوق يا صموفيل»، وهنا انثنى يمسح عرقه، «ليس هذا برا من الأبناء بآبائهم مطلقا.»
وأجاب سام: «لقد قلت: إنك ستتكلم، فمن أين لي أن أعرف أنك انتهيت قبل أن تبتدئ؟»
وأجاب الوالد: «كان في إمكانك أن ترى أنني قد عجزت عن الابتداء، إنني سائق على الجانب الخاطئ وداخل على الحواجز، ومرتبك، ومع ذلك كله لا تمد يدك لمساعدتي. أنا خجلان منك يا صموفيل.»
وقال سام وهو ينحني انحناءة خفيفة: «الحقيقة يا سيدي أن المعلم سحب ماله.»
وقال المستر ولر وهو يهز رأسه مرتاحا راضيا: «حسن جدا يا صموفيل، حسن جدا، لم أكن أقصد الكلام بشدة معك يا سامي. حسن جدا، هذا هو المطلع الحسن الذي يصح الابتداء به. هيا إذن أدخل في الجد حالا. جميل جدا يا صموفيل.»
وانثنى المستر ولر يكرر هز رأسه عددا غير مألوف من المرات، للتعبير عن فرط ارتياحه وسروره، وانتظر مرهفا سمعه لابنه حتى يواصل الكلام.
وقال المستر بكوك مشفقا من أن يطول الحديث أكثر مما كان ينتظر: «اجلس يا سام!»
وعاد سام ينحني ثم جلس، وبينما راح أبوه يتلفت حوله، مضى هو يقول: «إن المعلم سحب يا سيدي خمسمائة وثلاثين جنيها.»
وهمس المستر ولر الكبير قائلا: «بفئات مخفضة.»
وقال سام: «لا يهم كثيرا أنها بفئات مخفضة أو غيرها ، المبلغ هو خمسمائة وثلاثون جنيها. أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ولر: «هو كذلك يا صموفيل.»
ومضى سام يقول: «كما أضاف إلى هذا المبلغ ثمن المحل ونفقات العمل.»
وأردف أبوه في أثره: «والإيجار، وخلو الرجل، والبضاعة، والأخشاب، والمنقولات.»
وأكمل سام الحساب بقوله: «يعني في الجملة ألفا ومائة وثمانين جنيها.»
وقال المستر بكوك: «أحقا؟ يسرني أن أسمع هذا، وأهنئك يا مستر ولر بهذا التوفيق.»
وقال المستر ولر وهو يرفع يده دلالة على الاستنكار: «انتظر لحظة يا سيدي، استمر يا صموفيل!»
وقال سام في شيء من التردد: «وهو يريد أن يضع هذا المبلغ في حرز حريز، أو مكان أمين، وهذه هي رغبتي أنا أيضا؛ لأنه إذا تركه لديه فسوف يذهب يقرض الناس، أو يستثمره في اقتناء الخيول، أو يضيع أغلبه فيما لا يفيد أو يتحول إلى ممياء فرعونية بأي شكل كان.»
وقال المستر ولر مسرورا كأن سام يشيد بحكمته، ويمتدح بعد نظره أكبر المديح: «جميل جدا يا صموفيل، جميل جدا.»
واستتلى سام، وهو يشد بعصبية حافة قبعته: «ولهذه الأسباب قبض المبلغ اليوم وجاء إلى هنا معي ليقول، أو على الأقل ليعرض، أو بعبارة أخرى لكي ...»
وهنا عاجله المستر ولر الكبير وقد نفد صبره فقال: «لكي أقول هذا: وهو أن المبلغ لا نفع لي منه؛ لأنني عازم على الرجوع إلى سوق المركبات العامة بانتظام، ولا أجد مكانا أحفظه فيه إلا إذا دفعت لحارس المركبة أجرا على حراسته، أو وضعته في أحد جيوب المركبة، فيكون ذلك إغراء للركاب الجالسين في جوفها، فإذا تكرمت يا سيدي فحفظته لي عندك كنت لك من الشاكرين.» وهنا تقدم إلى المستر بكوك وهمس له في أذنه: «ربما يساعد قليلا على مصاريف ذلك الحكم، وكل ما أريد أن أقوله هو أن تحفظه لديك إلى أن أطلبه.» وراح المستر ولر يضع محفظة جيبه في يدي المستر بكوك، وتناول قبعته، وجرى منصرفا من الغرفة بخفة قلما تنتظر من شيخ بدين مثله.
وصاح المستر بكوك بجد قائلا: «أمسكه يا سام، ألحق به، أعده في الحال ! يا مستر ولر، تعال، ارجع!»
وتبين سام أن لا سبيل إلى مخالفة الأمر، فأمسك أباه من ذراعه وهو يهبط السلم وصحبه بالقوة والإكراه.
وقال المستر بكوك وهو يتناول الشيخ من يده: «يا صديقي الكريم، إن ثقتك الصادقة بي لتتملك نفسي وتطغى على مشاعري.»
وأجاب المستر ولر بعناد: «لا أرى داعيا إلى شيء كهذا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أؤكد لك يا صديقي الكريم أن لدي من المال ما لا حاجة لي يوما به، بل أكثر مما يجوز لشيخ في مثل سني أن يعيش حتى ينفقه.»
وقال المستر ولر: «لا يعرف أحد كم في إمكانه أن ينفق حتى يجرب.»
وأجاب المستر بكوك: «ربما، ولكني لست أنوي تجربة شيء كهذا، وأكبر ظني أنني لهذا السبب لن أحتاج؛ ولهذا أرجوك أن تسترد مالك يا مستر ولر.»
وقال المستر ولر بنظرة استياء: «حسن جدا اسمع مني يا سامي، إنني سأفعل بهذا المال فعل المتهور البائس، أي والله مثل المتهور البائس.»
وأجاب سام: «خير لك ألا تفعل.»
وفكر المستر ولر لحظة قصيرة، ثم زر رداءه بعزم بالغ، واستتلى يقول: «سأفتح موقف مرور.»
وصاح سام مندهشا: «تفتح ماذا؟»
وأجاب المستر ولر وهو مطبق أسنانه: «موقف مرور! سأقف بجوار مكان العوائد، فودع يا صموفيل أباك فإني سأكرس بقية أيامي في مكان العوائد.»
وكان هذا النذير مروعا كل الترويع، كما بدا المستر ولر صادق العزيمة على تنفيذه، بعد أن تأثر أشد التأثر من رفض المستر بكوك إجابته إلى سؤاله، حتى اضطر الشيخ بعد التفكير في الأمر لحظة، إلى مراجعة قراره، فقال: «حسن، حسن يا مستر ولر، سأحفظ المبلغ لدي، وفي وسعي أن أفعل به خيرا مما قد يكون في وسعك أنت.»
وتهلل وجه المستر ولر وقال: «هذا هو الكلام البديع، في إمكانك طبعا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك، وهو يضع المحفظة في الدرج ويقفله: «انتهينا فلنتحدث في شيء آخر، إنني شاكر لك من كل قلبي يا صديقي الكريم، والآن اجلس، فإني أريد أن أسألك نصيحة.»
ولم يلبث الضحك الذي انبعث في صدره من نجاته وانتصاره في هذه الزيارة، ذلك الضحك الذي لم يقتصر أثره العصبي على وجهه، بل جاوزه إلى ذراعيه وساقيه، وجميع أجزاء بدنه، وهو يشهد المستر بكوك يضع المحفظة في الدرج ويقفله، أن تحول فجأة إلى وقار شديد، حين سمع تلك العبارة الأخيرة.
وقال المستر بكوك: «انتظر في الخارج لحظة يا سام من فضلك.»
وانسحب سام في الحال.
وبدا المستر ولر حكيما متزنا على غير عادته، ولاحت أمارات الدهشة الشديدة عليه، حين بدأ المستر بكوك الحديث بقوله: «لا أظنك يا مستر ولر نصيرا لفكرة الزواج، أليس كذلك؟»
وهز المستر ولر رأسه، وعجز عن الكلام عجزا تاما، وتمثلت له أخيلة وأفكار غامضة عن أرملة شريرة عرفت كيف تغرر بالمستر بكوك، وتنجح في خداعه فكاد يختنق، ولا يحير قولا.
وقال المستر بكوك: «ألم تصادف في طريقك إلى هنا مع ولدك فتاة صغيرة.»
وأجاب المستر ولر باقتضاب: «نعم رأيت فتاة صغيرة.»
وقال: «وما رأيك فيها الآن؟ أجب بصراحة يا مستر ولر، ما رأيك فيها؟»
قال بلهجة الناقد: «أعتقد أنها بضة جدا، وحسنة الصورة.»
وأجاب المستر بكوك: «هي كذلك، وما رأيك في أدبها وسلوكها، كما يدل عليها ما رأيته منها؟»
وأجاب المستر ولر: «لطيفة جدا ومريحة.»
ولم يظهر المعنى الذي أراده المستر ولر بهذه الصفة الأخيرة التي ذكرها، ولكن كان الواضح من اللهجة التي قيلت بها أنها تعبير عن رضى، فاكتفى المستر بكوك بذلك واستنار من حيث الموضوع.
وقال: «إنها تهمني كثيرا يا مستر ولر.»
وسعل المستر ولر.
ومضى المستر بكوك يقول: «أقصد أنني مهتم بمستقبلها، وأود أن تتوافر لها الراحة والرفاهية والرغد، هل فهمت مرادي؟»
وأجاب المستر ولر: «بكل وضوح»، وإن لم يفهم بعد شيئا.
وعاد المستر بكوك يقول: «إن هذه الفتاة متعلقة بابنك.»
وصاح الوالد: «بصموفيل ولر؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم.»
وقال المستر ولر بعد تفكير قصير: «طبيعي، طبيعي وإن كان مزعجا، لا بد لسامي من الحرص والاحتياط.»
وسأل المستر بكوك: «وماذا تقصد بهذا؟»
وأجاب الشيخ: «يجب أن يكون حريصا فلا يقول لها شيئا، ومحاذرا فلا ينساق معها في لحظة بريئة فيقول ما قد يؤدي به إلى الاتهام بخلف الوعد. إن الرجل منا لا يأمن يوما على نفسه منهن يا مستر بكوك إذا هن قصدن الكيد له، وأنت لا تدري كيف تملكهن، وبينما أنت تفكر كيف يتم لك امتلاكهن، يكن هن قد امتلكنك، وأنا نفسي يا سيدي قد تزوجت بهذا الشكل أولا، وجاء سامي ابني ثمرة تلك الحركات.»
وقال المستر بكوك: «إنك لا تشجعني كثيرا على الانتهاء مما أردت أن أقوله، ولكن يحسن بي أن أتمه في الحال، إن هذه الفتاة ليست فقط متعلقة بابنك يا مستر ولر، ولكن ابنك أيضا متعلق بها.»
وقال المستر ولر: «والله إن هذا لخبر عجيب يطرق أذن والد، حقا إنه لكذلك.»
وأجاب المستر بكوك دون تعليق على عبارة المستر ولر الأخيرة: «لقد لاحظتهما في عدة مناسبات، ولا يخامرني أي شك في حقيقة أمرهما، فافرض أنني راغب في ربطهما برباط الزوج والزوجة، ومساعدتهما على الاستقرار في عمل ما أو وضع، يرجى أن يعيشا منه عيشة راضية، فما قولك في هذا يا مستر ولر؟»
وتلقى المستر ولر في أول الأمر فكرة زواج من يهتم بأمره، ويحرص على مصيره، بتصعير الوجه وتقليب السحنة اشمئزازا واستنكارا، ولكن المستر بكوك مضى يحاجه في هذه النقطة ويردد القول بأن ميري ليست أرملة، وما زال به حتى أخذ شيئا فشيئا يلين ويسلس قياده، ذلك أن المستر بكوك له كثيرا من السيطرة على مشاعره، وكان المستر ولر نفسه قد تأثر من قبل بجمال ميري وحسن منظرها، بل كان في الواقع قد غمز لها بعينيه غمزات أنفى ما تكون للأبوة، فلم يسعه أخيرا إلا أن يقول: إنه لا يستطيع معارضة أمر يرتضيه المستر بكوك ويميل إليه، وأنه يسعده كل الإسعاد أن ينزل على نصيحته، فما أن سمع المستر بكوك ذلك منه حتى بادر في فرح شديد إلى أخذه بكلامه ودعوة سام إلى المثول في حضرته.
وقال المستر بكوك وهو يستعد للكلام : «اسمع يا سام. لقد كنت أنا ووالدك نتحدث عنك.»
وقال المستر ولر بلهجة الرعاية والعطف والتوكيد: «نعم، عنك يا صموفيل.»
واستتلى المستر بكوك: «لست أعمى يا سام إلى الحد الذي يمكن أن يقال: إنني لم أشهدك منذ عهد بعيد تطوي الجوانح على شيء أكثر من مجرد الشعور الودي نحو وصيفة مسز ونكل.»
وقال المستر ولر بعين اللهجة الأولى، كأنه قاض يحكم في قضية: «هل سمعت هذا يا صموفيل؟»
وأجاب سام موجها القول إلى سيده: «أرجو يا سيدي ألا يكون ثمة بأس في اهتمام شاب بفتاة لا ينكر أحد عليها أنها حسنة الشكل والسير والسلوك.»
وقال المستر بكوك: «لا بأس طبعا.»
وقال المستر ولر بلطف ولكن بعظمة وجلال: «لا بأس مطلقا.»
واستتلى المستر بكوك: «حاشا أن أفكر في استنكار سلوك طبيعي كهذا، ولكني أريد أن أساعد في تحقيق رغباتك في هذا الشأن؛ ولهذا تحدثت قليلا مع أبيك ووجدت أنه يرى رأيي.»
وقاطعه المستر ولر قائلا على سبيل التفسير: «ما دامت السيدة غير أرملة.»
وتبعه المستر بكوك قائلا وهو يبتسم: «ما دامت السيدة غير أرملة، فإني أريد أن أطلقك من القيد الذي يفرضه عليك مركزك الحالي، وأبين لك حقيقة شعوري وتقديري لإخلاصك وسجاياك الكثيرة، بتمكينك من الزواج بهذه الفتاة في الحال، وكسب رزقك ورزق أسرتك في حرية واستقلال.» وهنا اضطرب صوت المستر بكوك وتلعثم منطقه قليلا، ولكنه أردف يقول بصوته المألوف: «وسأعتز وأهنأ يا سام بأن أجعل مستقبلك وآمالك في الحياة موضع عنايتي الخاصة ومظهر شعوري بالعرفان.»
وساد سكون، وما لبث سام أن قال بصوت خافت متهدج، ولكنه قوي ثابت: «إنني شاكر لك يا سيدي أجزل الشكر كرمك الخليق بمثلك، ولا شبيه له بين الناس، ولكن هذا لا يمكن.»
وصاح المستر بكوك في دهشة: «لا يمكن!»
وصاح مستر ولر في مهابة: «يا صموفيل!»
وكرر سام قوله بصوت أكثر ارتفاعا من ذي قبل: «نعم، يا سيدي أقول: إن هذا غير ممكن. ماذا سيكون مصيرك أنت يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «إن التغيرات التي حدثت أخيرا يا صديقي العزيز بين أصحابي ستغير أسلوبي في الحياة كل التغيير، ثم إنني بدأت أشيخ، وأحتاج إلى الراحة والهدوء. لقد انتهت يا سام جولاتي في العالم ومطافي.»
وقال سام في لغة المنطق، ولهجة الحوار: «من أين أعرف هذا يا سيدي، إن هذا هو تفكيرك الآن، ولكن افرض أنك غيرت رأيك، وهو شيء غير بعيد؛ لأنك لا تزال تحيا بروح الخامسة والعشرين وشبابها، فما عسى أن يكون مصيرك من غيري؟ إن هذا غير ممكن يا سيدي، غير ممكن.»
وقال المستر ولر مشجعا: «جميل جدا يا صموفيل، إن في هذا لحكمة بالغة.»
وقال المستر بكوك وهو يهز رأسه: «لقد تكلمت بعد طول التروي والتفكير يا سام، وبالثقة الأكيدة أني سأبر بعهدي. وأحرص على كلمتي، لقد أطبقت على مشاهد جديدة ووصلت جولاتي إلى آخرها.»
وأجاب سام: «جميل جدا، ولكن هذا هو أقوى داع يقتضي أن يكون بجانبك أحد يفهمك ويواسيك ويوفر لك أسباب الراحة، أما إذا كنت تريد شخصا أكثر صقلا وألمع بريقا، فلا مانع لدي، اتخذ من ترى، واختر من تشاء، ولكن بصرف النظر عن الأجر أو دونه، والمهلة أو بغيرها، والغداء أو لا غداء، والسكن أو غير السكن، سيبقى سام ولر الذي استأجرته من الفندق القديم في الضاحية، بجانبك وفي جوارك، مهما يكن من شيء، فدع كل شيء، وكل إنسان، يفعل ما هو فاعل، ويقض ما هو قاض، ولتأت الأحداث بأسوأ السوء، فلن يثنيني شيء عن عزمي!»
وما كاد سام ينتهي من هذا البيان الذي ألقاه وهو في أشد حالات التأثر والانفعال، حتى نهض المستر ولر من مقعده، ناسيا كل اعتبارات الزمان والمكان واللياقة وراح يلوح بقبعته فوق رأسه، ويهتف ثلاثة هتافات مدوية.
وقال المستر بكوك حين عاد المستر ولر إلى مجلسه خجلان مستحييا من حماسته: «ولكنك يا صديقي العزيز مضطر حتما إلى التفكير في هذه الشابة أيضا.»
وأجاب سام: «لقد فكرت فعلا فيها يا سيدي، وتكلمت معها، وشرحت لها موقفي، وهي مستعدة أن تنتظر حتى أستعد أنا الآخر ، وأعتقد أنها ستنتظر، فإن لم تفعل فليست بالمرأة التي أتطلع إليها، ولن أتردد في التخلي عنها، لقد عرفتني من قبل يا سيدي، ولقد عقدت عزمي، فلن يثنيني عنه ثان.»
ومن ذا الذي يستطيع أن يغالب ذلك العزم؟ ليس في مقدور المستر بكوك أن يفعل. فقد أحس في تلك اللحظة من الاعتزاز وسمو الأحاسيس والاعتداد بهذه العلاقة المجردة من الغرض، هذا التفاني البريء من جانب صديقيه الصغيري الشأن ما لا تستطيع أن تثيره في أعماق فؤاده عشرة آلاف اعتراض من أكبر العظماء في هذه الحياة.
وبينما كان هذا الحديث يدور في غرفة المستر بكوك، وصل إلى الفندق شيخ قصير القامة نحيف في ثياب بنية اللون، يتبعه حمال يحمل حقيبة سفر صغيرة، فاحتجز غرفة للمبيت، وسأل غلام الفندق هل تنزل به سيدة تدعى مسز ونكل، فكان رد الغلام طبعا بالإيجاب.
وسأل الشيخ الصغير الجسم: «وهل هي وحدها؟»
وأجاب الغلام: «أعتقد ذلك يا سيدي، وفي إمكاني أن أدعو إليك وصيفتها إذا ...»
ولكن الشيخ أجاب في عجلة: «كلا، لا أريدها، بل خذني إلى غرفتها دون ذكر اسمي.»
وقال الغلام: «ماذا يا سيدي؟»
وسأل الشيخ: «هل أنت أصم؟»
وأجاب الغلام: «كلا يا سيدي.»
قال: «اسمع إذن من فضلك، هل أنت سامع الآن؟» - «نعم يا سيدي.» - «حسن، خذني إلى غرفة مسز ونكل دون ذكر اسمي.»
وانثنى الشيخ بعد أن أصدر هذا الأمر يدس خمسة شلنات في كف الغلام ويتفرس في وجهه.
وقال الغلام: «في الحقيقة يا سيدي، لا أدري يا سيدي هل ...»
وعاجله الشيخ قائلا: «آه، أرى أنك ستفعل ذلك. فمن الخير أن تعجل هيا، اقتصادا في الوقت.»
وكان يبدو على الشيخ من الهدوء والثبات ما جعل الغلام يدس الشلنات الخمسة في جيبه، ويمضي به فيصعد السلم بغير كلمة أخرى.
وقال الشيخ: «أهذه هي الغرفة؟ لك أن تذهب من حيث أتيت.»
وامتثل الغلام للأمر وهو في عجب بالغ، من عسى أن يكون ذلك الرجل وماذا يريده، وانتظر الشيخ حتى توارى الغلام فدق الباب.
وقالت أرابلا: «ادخل !»
وغمغم الشيخ لنفسه قائلا: «صوت رخيم على كل حال، ولكن رخامة الصوت ليست شيئا.» قال هذا وهو يفتح الباب ويدخل الغرفة، وكانت أرابلا جالسة تطرز، فنهضت عند رؤية رجل غريب مرتبكة قليلا، ولكن ارتباكها كان جميلا لا شائبة فيه.
وقال الغريب وهو يدخل ويغلق الباب في أثره: «أرجو يا سيدتي ألا تنهضي من مجلسك - مسز ونكل فيما أعتقد؟»
وأومأت أرابلا إيجابا.
وقال الشيخ وهو ينظر إليها بفضول ظاهر: «مسز نثنايل ونكل التي تزوجت بابن الشيخ الذي يقيم في برمنجهام؟»
وأومأت أرابلا مرة أخرى وتلفتت حولها بقلق كأنها لا تدري، هل تطلب غوثا أو لا حاجة بها إليه.
وقال الشيخ: «أراني قد فاجأتك يا سيدتي.»
وأجابت أرابلا وهي في دهشة متزايدة: «لا يسعني إلا أن أعترف بأنني قد فوجئت شيئا ما.»
وقال الغريب: «سأتخذ مقعدا إذا سمحت يا سيدتي.»
واتخذ مجلسا، وأخرج علبة منظاره من جيبه، فأخرج المنظار بكل هدوء منها وأقامه فوق أنفه.
وانثنى يقول وهو يطيل النظر إلى أرابلا حتى بدأت تنزعج: «ألا تعرفينني يا سيدتي؟»
وأجابت أرابلا متهيبة: «كلا يا سيدي.»
وقال الشيخ وهو يربت ساقه اليسرى: «طبعا لا - وأنى لك معرفتي - ولكنك مع ذلك تعرفين اسمي يا سيدتي.»
وقالت أرابلا وهي راجفة وإن لم تدر السبب: «أحقا؟ هل لي أن أسألك عنه؟»
وأجاب الشيخ، وهو لا يزال مطيلا النظر إلى وجهها: «ستعرفينه حالا يا سيدتي، هل كان زواجكما من عهد قريب يا سيدتي؟»
وقالت أرابلا بصوت لا يكاد يكون مسموعا، وقد ألقت تطريزها جانبا، وبدا الاضطراب يستولي على خاطرها، من فكرة قامت في ذهنها من قبل، ثم لم تلبث أن تملكتها: «نعم يا سيدي.»
قال: «ودون أن تشيري على زوجك بوجوب استشارة أبيه أولا، وهو كما أظن يعتمد على معونته؟»
وهنا رفعت أرابلا منديلها إلى عينيها.
واستتلى الغريب يقول: «ودون محاولة التأكد بأي وسيلة غير مباشرة ما عسى أن يكون شعور ذلك الشيخ من ناحية أمر سوف يشعر بطبيعة الحال باهتمام شديد به؟»
وقالت أرابلا: «لا أستطيع أن أنكر ذلك يا سيدي.»
ومضى الشيخ يقول: «ودون أن يكون لك ما يكفي لأن يكفل لزوجك معونة ثابتة لقاء المنافع الدنيوية التي تعرفين أنها كانت تعود عليه إذا هو تزوج استجابة لرغبات أبيه، إن هذا هو ما يدعوه الأولاد والبنات حبا منزها من الغرض، حتى يرزقوا هم أولادا وبناتا وعندئذ يختلف رأيهم فيه وتتباين نظرتهم إليه!»
وتقاطرت العبرات واكفة من عيني أرابلا، وأنشأت تعتذر وتلتمس الشفاعة بأنها صغيرة غفل لم تجرب الحياة، وإن حبها هو وحده الذي حملها على أن تخطو هذه الخطوة التي فزعا إليها، وأنها حرمت من نصيحة أبويها وإرشادهما منذ نعومة أظفارها تقريبا.
وقال الشيخ مخففا من حدة لهجته: «لقد كان هذا خطأ، خطأ كبيرا، كان حمقا وخيالا وتصرفا غير عملي.»
وأجابت أرابلا المسكينة وهي تنتحب: «لقد كان الخطأ خطئي يا سيدي، وأنا المذنبة.»
وقال الشيخ: «هراء! لم يكن ذنبك على ما أظن ولا خطأك أنه وقع في حبك.» وهنا نظر إليها بمكر وأردف قائلا: «وإن كان خطأك فعلا؛ لأنه لم يكن له في الأمر حيلة ولا منه بد.»
وكانت هذه اللفتة الصغيرة، أو الطريقة الشاذة التي استعان الشيخ بها على إظهارها، أو تغير أسلوبه ولهجته، إلى الرفق واللطف، أو كل هذه العوامل مجتمعة، هي التي انتزعت من أرابلا ابتسامة بدت على ثغرها، وسط عبراتها المنهمرة.
وانثنى الشيخ يسأل فجأة وهو يغالب ابتسامة بدت آتية حثيثا إلى وجهه: «وأين زوجك؟»
وأجابت أرابلا: «إنني منتظرة قدومه من لحظة إلى أخرى يا سيدي، فقد ألححت عليه في الخروج إلى الرياضة في هذا الصباح، حين بدا مغتما مهموما؛ لأنه لم يتلق كتابا من أبيه.»
وقال الشيخ: «أتقولين: إنه المغتم المهموم؟ إنه بذلك لخليق!»
وقالت أرابلا: «أعتقد أن شعوره بالهم هو من أجلي، وإني لمحزونة له يا سيدي أبلغ الحزن إن كنت السبب الوحيد في هذا الموقف الأليم الذي أحاط به.»
وقال الشيخ: «لا تحزني له ولا تبتئسي يا عزيزتي من أجله، فهو الذي صنع بنفسه ما صنع، وإني لفرح ، أي نعم إني لمسرور فعلا فيما يتعلق به.»
وما كادت هذه الكلمات تخرج من شفتي الشيخ حتى سمعت مواقع أقدام فوق السلم، وفطنت إليها أرابلا والشيخ معا، فارتد الصغير الجسم وجهه شاحبا، وحاول جاهدا أن يبدو هادئا رابط الجأش، فنهض من مجلسه، في اللحظة التي دخل فيها المستر ونكل.
وصاح هذا متراجعا من فرط الدهشة: «أبي!»
وأجاب الشيخ الصغير الجسم: «نعم، يا سيدي، والآن ماذا تريد أن تقول لي يا سيدي؟»
ولبث المستر ونكل صامتا.
وقال الشيخ: «أرجو يا سيدي أن تكون قد استحييت من نفسك؟»
ولكن المستر ونكل ظل على صمته.
وسأل الشيخ: «هل أنت مستح من نفسك أم لا يا سيدي؟»
وأجاب المستر ونكل وهو يدخل ذراع أرابلا في ذراعه: «كلا، يا سيدي لست مستحييا من نفسي ولا من زوجتي أيضا.»
وصاح الشيخ متهكما ساخرا: «ما شاء الله!»
وقال المستر ونكل: «إنه ليحزنني أنني فعلت ما أوهن من محبتك لي يا سيدي، ولكني في الوقت ذاته أقول: إنه ليس ثمة ما يدعوني إلى الاستحياء من اتخاذ هذه السيدة لي زوجة، ولا في اتخاذك لها ابنة.»
وقال الشيخ بصوت مختلف: «هات يدك يا نات وقبليني يا حبيبتي، إنك رغم كل شيء لابنة ابن
1
صغيرة فاتنة كل الفتنة!»
ولم تنقض بضع دقائق حتى ذهب المستر ونكل للبحث عن المستر بكوك، وجاء به، وقدمه إلى أبيه، فتصافح الشيخان خمس دقائق متصلة.»
وأنشأ المستر ونكل الكبير يقول في صراحة خالية من المجاملة: «أشكرك يا مستر بكوك من أعماق قلبي على عطفك على ابني وجملة صنائعك له، إني رجل متسرع، وقد كنت في لقائنا الأخير مغيظا ومأخوذا على غرة، والآن قد ذهب عني الغيظ ورضيت وزيادة بعد أن حكمت بنفسي ورأيت بعيني. فهل أزيدك معاذير يا مستر بكوك؟»
وأجاب هذا قائلا: «ولا معذرة واحدة، لقد فعلت الشيء الوحيد الذي كنت بحاجة إليه لتتم سعادتي.»
وتلت ذلك مصافحات أخرى لبثت خمس دقائق، واقترنت بجملة من الخطب والتحيات والمدائح، كانت على ما حوت من مجاملة وثناء مقترنة بروح الصدق والإخلاص.
وكان سام قد صحب والده رعاية لحق الأبوة إلى حانة «بل سفج» وعند عودته لقي الغلام البدين في فناء الفندق، وكان قد جاء يحمل رسالة من أميلي واردل.
وقال جو وقد بدا كثير الكلام على غير عادته: «أقول: ما أجمل ميري! أليست جميلة؟ إنني أحبها كثيرا، أحبها!»
ولكن المستر ولر لم يرد عليه ردا شفويا، بل أطال النظر إليه، وهو مأخوذ من كلامه هذا، ثم سحبه من رقبته إلى الركن، وأطلقه بركلة لا أذى منها، بل ركلة لطيفة تكريمية»، وانطلق سام بعدها في سبيله صافرا.
يقصد «كنة».
الفصل السادس والخمسون
حل نادي بكوك، وخاتمة سعيدة للجميع
ولبث المستر بكوك وسام ولر أسبوعا كاملا عقب قدوم المستر ونكل السعيد يقضيان النهار كله خارج الفندق، ولا يعودان إليه إلا أوان العشاء، وقد بدت عليهما أمارات غموض وخطورة غريبة لا تتفق مع طبيعتهما. وكان واضحا أن هناك أعمالا ذات شأن كبير كانت في دور التنفيذ، وإن كثرت التخمينات وتضاربت الأقوال في حقيقة نوعها، وخافية مرادها، فذهب فريق - ومن بينهم المستر طبمن - إلى القول: بأن المستر بكوك يعتزم الزواج، ولكن هذه الفكرة لقيت اعتراضا شديدا عليها من السيدات، بينما كان فريق آخر يميل إلى الاعتقاد بأنه يفكر في رحلة بعيدة، فهو في الوقت الحاضر منشغل بإعداد العدة لذلك السفر، ولكن هذا الرأي أيضا وجد من ينفيه قطعا ويكذبه، فقد راح سام يقول لماري بلهجة جازمة حين مضت تسأله وتمعن في استجوابه: إنه ليس ثمة نية في القيام برحلات جديدة. وأخيرا، بعد أن لبثت الأذهان حيرى متسائلة ستة أيام طوال، وظلت العقول هائمة في أودية الحدس والتخمين، أجمع القوم على وجوب مطالبة المستر بكوك بشرح سر مسلكه، ومصارحتهم بدواعي غيابه كل هذا الوقت الطويل عن مجالس أصحابه المعجبين به؛ ولهذا الغرض وجه المستر واردل الدعوة إلى أفراد هذه الندوة جميعا لتناول الطعام على مائدته في «الأدلفي»، وبعد أن أديرت الكئوس مرتين بدأ دور الكلام، فانبرى ذلك السيد الكبير في السن يقول: «إننا جميعا في قلق شديد ونريد أن نعرف ما الذي فعلناه من سوء أدى بك إلى هجران مجامعنا والإخلاد إلى رياضتك في معزل منا.»
وقال المستر بكوك: «أحقا أنتم في قلق؟ إنه لمن غرائب الاتفاق أنني كنت منتويا اليوم بالذات الإدلاء ببيان تام في هذا الشأن، فإذا تكرمتم علي بكأس أخرى من النبيذ رويت فضولكم.»
وتناقلت الأكف الكئوس في حماسة بالغة، وانثنى المستر بكوك يقول، وهو يدير عينيه في وجوه أصحابه ويبتسم ابتسامة وضاحة متهللة: «إن كل هذه التغيرات التي جرت بيننا، وأعني بها الزواج الذي تم، والزواج الآخر الذي سيتم، وما سيؤديان إليه من تغيرات، اقتضت مني أن أبادر من فوري إلى التفكير الجدي في خططي ومصيري، فقر رأيي على الإيواء إلى مكان هادئ جميل في بعض أرياض لندن، وهداني التوفيق إلى مسكن يتفق مع خيالي كل الاتفاق، فاتخذته وأثثته، وهو الآن على أتم الاستعداد لانتقالي إليه، وفي نيتي أن أنتقل في الحال داعيا الله أن يمد في فسحة الأجل حتى أقضي في أكنافه عدة سنين في ظلال السكينة والعزلة الهادئة، يروح عني خلال الحياة محضر أصحابي، ويتبعني في الممات، تذكرهم للأيام الخاليات التي عشتها معهم على محض المودة والوفاء.»
وهنا تمهل المستر بكوك، فسرت حول المائدة موجة خافتة من الغمغمة والهمس.
وواصل المستر بكوك حديثه قائلا: «ولهذا البيت الذي اخترته في «ضلوتش» بستان فسيح الجنبات، ويقع في حي من ألطف الأحياء القريبة من المدينة، وقد جهزته بكل ما يكفل الرفاهية، والراحة التامة، وقد أكون جمعت إلى ذلك بعض الرواء، ولكني تارك ذلك لحكمكم، وسيصحبني سام إليه، وقد استأجرت بفضل تزكية بركر مديرة للبيت - وهي عجوز جدا - وعددا من الخدم الذين تعتقد أنها سوف تحتاج إليهم، وفي نيتي أن «أدشن» هذه العزلة الصغيرة بحفلة يهمني كثيرا أن تقام في المسكن الجديد، وأود - إذا لم يكن لدى المستر واردل مانع - أن يكون قران ابنته في مسكني الجديد، في اليوم الذي تبدأ ملكيتي فيه»، وهنا بدا التأثر عليه فأردف يقول : «ذلك أن سعادة الشباب كانت ولا تزال أكبر متعة في حياتي، وإن قلبي ليمتلئ دفئا وحرارة حين أشهد سعادة أعز أصحابي تتجلي تحت سقف بيتي.»
وعاد المستر بكوك يتمهل، بينما انثنت أميلي وأرابلا تجهشان بالعبرات.
واستتلى مستر بكوك قائلا: «وقد اتصلت بالنادي شخصيا ومن طريق المراسلة، وأبلغتهم ما أنا مقدم عليه، وكان النادي في فترة غيبتنا الطويلة قد عانى كثيرا من جراء المنازعات الداخلية فيه، وجاء سحب اسمي منه مع ظروف مختلفة أخرى فأدى إلى إغلاقه، واليوم لم يعد لنادي بكوك وجود.»
وغض المستر بكوك من صوته ومضى يقول: «ولن آسف يوما على أن قضيت الشطر الأكبر من العامين الماضيين في الاختلاط بصنوف متباينة، وأنماط مختلفة، من الطبائع البشرية وصور عدة من أخلاق الناس، وإن كان هذا البحث من جانبي عن كل طريف وجديد قد بدا لكثير من الخلق تافها لا يؤبه به. وكنت قد قضيت حياتي الماضية كلها أو جلها متوفرا على الأعمال والبحث عن الغنى والتماس اليسار، ولكني في هذين العامين الأخيرين قد ألممت بعدة مشاهد وألوان من الصور لم تخطر يوما ببالي، وانبثقت لخاطري انبثاق الفجر في مطالع الضياء، وهي مشاهد وصور أرجو أن يتسع بها نطاق تفكيري، وينصقل بها وجداني، وتتهذب بها مداركي. وإن كنت قد فعلت خيرا قليلا، فحسبي عزاء أنني لم أفعل أذى كثيرا، وإن أكثر مغامراتي وجولاتي لن تكون سوى مورد ذكريات طيبة لي، ومجال تفكير في أعوامي الباقية. وليبارككم الله جميعا!»
وعلى أثر هذه الكلمات ملأ المستر بكوك الكأس واشتفها جملة واحدة بيد راعشة، وقد نديت عيناه، حين نهض أصحابه نهضة رجل واحد وشربوا نخبه من أعماق أفئدتهم.
ولم يحتج الأمر إلى استعدادات كثيرة لإقامة حفل قران المستر سنودجراس، فقد كان الفتى يتيما من أبويه وكان المستر بكوك وصيا عليه وهو قاصر حتى شب عن الطوق، فكان هذا السيد عليما بما يملكه الشاب، وما ينتظره من مستقبل. وحين عرف المستر واردل مقدار ما يملكه، وحساب ما قد يرتقبه، أبدى ارتياحه. وكان أي بيان آخر لذلك الشيخ الكريم مرضيا، لما كان تفيض به نفسه من مرح، وتمتلئ به جوانحه من حدب وعطف، فراح يضفي على أميلي جزءا طيبا من ماله، وتقرر أن يكون الزواج بعد أربعة أيام من ذلك التاريخ، وهي مهلة قصيرة للاستعداد جعلت ثلاث حائكات وحائكا يبلغون من السرعة في العمل حدود الجنون.
واستأجر الشيخ واردل خيلا للمركبة وانطلق من الغداة لإحضار أمه إلى المدينة، فما كادت العجوز تعرف النبأ منه، بطريقته المتهورة، حتى أغمي عليها، ولكن لم تلبث أن أفاقت من غشيتها، فأمرت بإعداد الثوب الحريري المزركش ووضعه في الحقيبة بغير توان، وأنشأت تقص قصصا مماثلة عن زواج كبرى بنات المرحومة السيدة توليمجلوار واستغرقت ثلاث ساعات في روايتها، ولم تكن قد جاوزت بعد نصفها.
وكان من المتعين إبلاغ مسز ترندل أنباء الاستعدادات التي تجري في المدينة، ولكنها كانت معتلة الصحة، فتولى المستر ترندل الأمر بنفسه، مخافة أن يكون الخبر أقوى من أن تحتمله ولكن تبين أن الأمر ليس كذلك؛ لأنها ما كادت تعلم به من زوجها حتى كتبت إلى بلدة «ماجلتون» تطلب إرسال قبعة جديدة وثوب حريري أسود، وأعلنت عزمها على حضور القران، فلم ير المستر تراندل بدا من دعوة الطبيب، فكان رأيه أنها أعرف منه بما تحس، فكان ردها أنها تحس ألا ضير عليها من الذهاب، وأنها قد انتوته، وعندئذ لم يسع الطبيب، وكان حكيما بعيد النظر يعرف مصلحته كما يعرف مصلحة غيره من الناس، إلا أن يقول: إن احتجازها في البيت قد يؤذيها بالملالة والانفعال أكثر مما يؤذيها الذهاب، فيحسن أن تذهب إذن، وفعلا ذهبت وعني الطبيب بأمرها فأرسل ستة أصناف من الأدوية لتتناولها في الطريق.
وكان واردل إلى جانب هذه المشاغل ونحوها قد عهد إليه بكتابين صغيرين إلى فتاتين صغيرتين كان مطلوبا منهما أن تكونا للعروس وصيفتين، ولكنهما حين تلقتا الدعوتين هاجتا وحنقتا؛ لأنهما لم تعدا شيئا لهذا الحدث الخطير، وليس أمامهما متسع من الوقت لإعداده، وهو ظرف جعل أبويهما يحمدان الله عليه ويغتبطان في سرهما به ، ولكن لم يمنع ذلك تناول بعض الأكواب القديمة بشيء من الإصلاح والتهذيب، وتفصيل قبعات جديدة، حتى بدت الفتاتان كما كان ينتظر منهما أن تبدوا. وفيما كانتا تبكيان في أثناء الاحتفال بالإكليل عند كل موضع يحسن فيه البكاء، وترعشان حيث يستحب الرعش كان منظرهما وسلوكهما موضع إعجاب المشاهدين.
ولا يعرف أحد على وجه اليقين كيف وصل القريبان الفقيران إلى لندن ... هل جاءا سعيا على الأقدام وخلف المركبات متعلقين، أو التقطتهما مركبة نقل، أو حمل كل منهما الآخر تناوبا. ولكن الواقع أنهما جاءا قبل أن يدق واردل والذين استبقوا معه باب مسكن المستر بكوك في صباح يوم الزفاف وهما مفعما الوجهين ابتسامات وإيماضات، وعليهما قميصان نظيفان.
ولكنهما وجدا ترحابا صادقا؛ لأن الغنى والفقر لا أثر لهما في نفس المستر بكوك، وبدا الخدم جميعا خفافا متلببين، وكان سام في حال لا مثيل لها من المرح والحماسة والهياج، بينما كانت «ميري» تسطع جمالا، وأشرطة أنيقة.
وخرج «العريس» وكان قد جاء فأقام في البيت يومين أو ثلاثة أيام قبل موعد القران، فقصد في جلال واتزان إلى كنيسة «ضلوتش» لاستقبال العروس، وقد صحبه المستر بكوك، وبن ألن، وبب سوير، والمستر طبمن. ووقف سام ولر في خارج الكنيسة وقد وضع في عروة ردائه وردة بيضاء، حبته بها مالكة فؤاده، واشتمل بحلة جديدة فاخرة أعدت لهذه المناسبة، وكان في استقبالهم آل واردل، وأهل ونكل، والعروس والوصيفتان وآل ترندل، ولم تكد حفلة الإكليل تتم، حتى استقل الجميع المركبات لتناول الفطور في دار المستر بكوك، حيث كان المستر بركر في انتظارهم.
وكانت الغمائم الخفاف التي تغمر الجزء الديني من حفل القران قد انقشعت، فتطلقت الوجوه فرحا، وساد البشر الطلعات، فلم يعد أحد يسمع غير التهاني والمديح وكلمات الإعجاب، وكان كل شيء جميلا بهيا، العشب الناضر في مدخل الدار والبستان المنسق خلفها، والحوض الصغير لحفظ النباتات، وقاعة الطعام، وحجرة الجلوس والمخادع وحجرة التدخين، وفوق تلك كلها المكتبة بألواحها الزيتية ومقاعدها المريحة وخزائن الكتب العجيبة، ومناضدها الغريبة، والكتب التي لا عد لها ، والشرفة الفسيحة المطلة على العشب النضير، والمشهد الذي يفتن الألباب، حيث تبدو الدور الصغيرة متناثرة في مختلف أرجائه، تكاد الأشجار تحجبها عن العيان ثم السدول والأستار والبسط والمقاعد والأرائك وكل ما هو جميل وضاء مرتب، يدل على نهاية في حسن الذوق، وجودة الاختيار، حتى لقد مضى كل إنسان في الجمع يقول: إنه لحائر لا يدري أيها أحق بأشد الإعجاب.
وفي وسط ذلك كله وقف المستر بكوك وضاح المحيا بالبسمات، في مشهد لا يقوى قلب رجل، ولا مهجة امرأة، ولا فؤاد وليد، على الامتناع عن الإسهام في هذه السعادة البادية من حوله، والفرح العام المحيط به، وكان هو أسعد الجمع وهو يصافح الأيدي مرارا، ويكرر هز الأكف تكرارا، ويحيي الناس عودا على بدء، ومرة بعد أخرى، فإن لم يستعن بيديه على تحياته، ومصافحاته، انثنى يقلبهما بلذة، ويفركهما بفرح، ويدور في كل ناحية، ويتلفت في كل جهة، وعند كل بادرة، من سرور أو فضول، أو لهفة، ويوحي إلى كل نفس بنظرات الإحساس بالغبطة والابتهاج.
وأعلن الفطور، وتقدم المستر بكوك إلى السيدة العجوز، وكانت قد أكثرت من القول عن السيدة تولينجلوار، فمشى بها إلى رأس مائدة مستطيلة، بينما اتخذ واردل مجلسه عند طرفها الآخر، ووزع الباقون أنفسهم على جانبيها ووقف سام خلف مقعد سيده، وما أن انقطع الضحك، وكف الحديث، حتى حمد المستر بكوك ربه، ثم تمهل لحظة، ودار بعينيه حوله، وكانت الدموع تتقاطر فوق خديه من فرط السرور.
فلندع صديقنا الشيخ يستمتع بلحظة من لحظات السعادة الصرف النقية التي إذا نحن ذهبنا نلتمسها، فلا بد من أن نجد شيئا منها، يرفع من نفوسنا، في هذه الحياة الفانية. إن في هذه الأرض ظلالا قاتمة، ولكن أنوارها أقوى من ظلمتها، وضياءها أشد من حلكتها، وقد نرى في دنيانا أناسا كالخفافيش والبوم، أوتوا أعينا أحد بصرا في الظلام الدامس، منها في الأنوار الباهرة، فلنقنع نحن الذين لم نؤت هذه القوى البصرية، بمتعة تملية العين بآخر نظرة وداعية من أصدقائنا في الخيال الذين قضينا معهم ساعات وحدتنا، وخلونا إليهم في فترات عزلتنا، وأضواء الدنيا ساطعة بكل بهائها حولهم، وأنوار الرغد تشع عليهم من كل مكان.
لقد قدر على أكثر الذين يختلطون بالعالم، ويبلغون عنفوان الحياة، أن يكسبوا عديدا من الأصحاب الصادقين، ثم يفقدوهم على مر الأيام وتبعا لسنن الطبيعة، كما قدر على معاشر الكتاب ومؤرخي الأحداث، أن يخلقوا لهم صحابا في عالم الخيال ثم يفقدونهم طوعا لخطط الفن ومطالبه، وليس هذا وحده نهاية شقوتهم، وآخر مدى ألمهم؛ لأنهم مطالبون أيضا بتقديم بيان عما انتهى إليه أمر أولئك الصحاب الوهميين.
ونحن امتثالا لمقتضيات هذا العرف - وإنه بلا نزاع عرف سيئ، وتقليد قبيح - لا يسعنا إلا أن نضيف هنا بيانا ختاميا موجزا عن كل فرد من أفراد الجمع الذين أحاطوا بالمستر بكوك في ذلك اليوم المشهود.
فأما المستر ونكل وعروسه فقد عمدا بعد أن رضي الشيخ عنهما ووطأ من أكنافه لهما، إلى الانتقال فترة قصيرة إلى المقام في بيت جديد لا يبعد أكثر من نصف ميل من دار المستر بكوك، بينما اشتغل المستر ونكل في حي الأعمال وكيلا أو مراسلا لأبيه واستبدل بثوبه القديم لباسا مألوفا في المدينة وراح يبدو بعد ذلك على الدوام في زي المسيحيين المتحضرين.
وأقام المستر سنودجراس وزوجته في ضيعة «دنجلي دل» حيث ابتاعا مزرعة صغيرة وعكفا على الزرع والضرع، للعمل والمتعة، أكثر منه للربح، ولا يزال المستر سنودجراس، بسبب شرود خاطره أحيانا وخلوه إلى تفكيره، مشهورا إلى يومنا هذا بأنه الشاعر الكبير في زمرة أصحابه ومعارفه، وإن لم نجده قد نظم شيئا يشجع على هذا الاعتقاد، ولا يزال هناك فريق كبير من ذوي المكانة البارزة في ميادين الأدب، والفلسفة، ونحوهما يحتلون مكانا رفيعا، ويستمتعون بشهرة عالية، وإن لم يجد الناس لهم كتبا، ولا تواليف، أو يظفروا منهم بثمرات القريحة.
وأما المستر طبمن، فلم يكد أصحابه يتزوجون ويرى المستر بكوك قد أخلد إلى العزلة، حتى اتخذ مسكنا له في «رتشمند» حيث هو إلى اليوم مقيم لا يكف عن الرواح والغدو خلال أشهر الصيف في الشرفة ممتلئا شبابا ومرحا أكسباه إعجاب كثيرات من الغيد العوانس اللاتي يسكن في الحي، ولكنه لم يعاود يوما أن يحوم حول الحي، مخافة الوقوع فيه، ولم يتقدم إلى واحدة منهن.
وأما المستر بب سوير، فقد ظهر اسمه في «الغازيت» الرسمية، طبيبا مسموحا له بمزاولة المهنة، فسافر إلى «البنغال» مصطحبا المستر بنجمن ألن، بعد أن عينا طبيبين جراحين في شركة الهند الشرقية، وقد أصيب كل منهما بالحمى الصفراء أربع عشرة مرة، ففكرا في تجربة الامتناع عن الشراب قليلا، وقد صلح أمرهما، وتحسنت صحتهما، من ذلك التاريخ.
وطفقت مسز باردل تؤجر الغرف لعدة عزاب كثيري الكلام، والاستطراد في الحديث، وتظفر منهم بربح كبير، ولكنها لم ترفع إلى الآن أية قضايا للنكث بوعود القران، ولا يزال وكيلاها ددسن وفج منصرفين إلى أعمالهما، كاسبين منها موردا كبيرا، ولا يزال الناس عامة يعدونهما أشد المحتالين في دنيا الاحتيال.
وبر سام ولر بعهده فقضى عامين أعزب، وقضت المرأة التي تتولى إدارة شئون البيت نحبها في ذلك الحين، فرفع المستر بكوك ميري إلى مكانها الشاغر مشترطا الزواج بالمستر ولر في الحال، فرضيت دون اعتراض أو امتناع، وأن وجود وليدين ممتلئين صحة وعافية يلعبان ويرتعان في البستان؛ ليحمل على الظن بأن سام أصبح رب أسرة.
ولبث المستر ولر الكبير اثني عشر شهرا في قيادة إحدى المركبات العامة، غير أنه اضطر إلى الاعتزال حين أصيب بالنقرس، ولكن المال الذي كان مودعا جوف المحفظة الصغيرة كان قد وظف واستثمر لأجله بفضل رعاية المستر بكوك وحكمته، فأصبح يدر عليه قدرا من الإيراد يكفيه في معتزله، ولا يزال يقيم عليه ويحيا في حانة بديعة بقرب «شوترز هل»، حيث أصاب احترام الشرب والجلاس لصدق نبوءاته، وهو لا يكف عن الإشادة بفضل المستر بكوك، ولا يفتأ يحس مقتا للأرامل لا يستطيع مغالبته أو الانثناء عنه.
وظل المستر بكوك نفسه مقيما في داره الجديدة، يقضي ساعات فراغه في إعداد المذكرات التي قدمها بعد ذلك أمين النادي الذي كان في سالف الدهر ذائع الصيت، أو في الاستماع إلى سام ولر وهو يقرأ عليه بصوت جهير، ويشفع ما يقرأ بما يعن لقريحته من الملاحظات، وهي أفاكيه لم تفتر عن إمتاع المستر بكوك بلذة بالغة، وكان المستر بكوك قد تعب كثيرا في بداية الأمر من كثرة إقبال المستر سنودجراس، والمستر ونكل، والمستر تراندل عليه في الفينة بعد الفينة، يلتمسون منه أن يكون «أبا» في العماد لولدانهم، ولكنه اعتاد الآن ذلك وألفه وأصبح يؤديه على أنه عمل مألوف، وعادة جارية، ولم يشعر يوما بسبب يدعوه إلى الندامة على ما أفاء به على المستر جنجل؛ لأنه هو وجب ترتر أصبحا على مر الأيام عضوين فاضلين في المجتمع، وإن ظلا ممتنعين أبدا عن العودة إلى مسرح حياتهما القديم ومغرياته الماضية. وقد أمسى المستر بكوك اليوم شيخا هرما كبيرا، وإن حرص على شباب روحه، ولا يزال يشاهد وهو يتطلع إلى الألواح والرسوم في معرض «ضلوتش» أو مستمتعا بالرياضة والمشي في تلك الضاحية البهيجة في يوم صاف، ونسيم عليل. وقد أضحى معروفا من جميع أهل الفاقة حوله، وكلما مر على ملأ منهم بادروا إلى رفع قبضاتهم له في احترام شديد، وبات الولدان عابديه، كما أحبه الناس جميعا في ذلك الموضع، وجعل في كل عام يذهب ليشترك في حفلات سرور عند الشيخ واردل ويحضر مآدبه الشيقة، يصحبه سام الأمين الذي لا يفارقه والذي ربطته بسام علاقة ثابتة مقيمة متبادلة لا شيء يستطيع فصم عراها غير الموت.
بيان بالأعلام والأماكن الواردة بالكتاب
الأدلفي
Adelphi
الأدفرتيزر
the, Advertiser
ألفرد جنجل
Alfred Jingle
آن
Ann
أنجلو سايرس بنتم
Angelo Cyrus Bantam
أنتوني هم
Anthony Humm
أرابلا ألن
Arabella Allen
آرثر
Arthur
أوجستس سنودجراس
Augustus Snodgrass
أيرسليه
Ayresleigh
بيلي ماك
Bailie Mac
بنتم
Bantam
برثولميو
Bartholmew
بارنول
Barnwell
زقاق بل
Bell Alley
فندق بل
the, Bell
باركلي هيث (مروج باركلي)
Berkeley Heath
فندق بل سفج
Bell Savage
البنغال
Bengal
بنجمن ألن
Benjamin Allen
بس
Bess
بتسي مارتن
Besty Martin
بيل سطمبس
Bill Stumps
بل
Bill
برمنجهام
Birmingham
بيلسن
Bilson
بيلسن واصلم
Bilson & Slum
بلاك بوي
Black Boy
الأمير بلادود
بليزيس
Blazes
مستر بلوتن من أولدجيت
Mr. Blotton of Aldgate
بلندربور
Blunderbore
بوب سوير
Bob Sawyer
خليج بتني
Botany Bay
بفر
Boffer
بوتس
Boots
بولدوج
Boldwig
مس بولو
Miss Bolo
دون بولارو فزجج
Don Bolaro Fizzgig
براما
Bramah
بريك لين
Brick Lane
برستل
Bristol
بريكستون
Brixton
برومتن
Brompton
براون
Brown
بري سانت إدموندز
Bury St. Edmonds
مسز بادجر
Mrs. Budger
مسز بنكن
Mrs. Bunkin
فندق بش (الدغل)
The Bush
بزفز
Searjeant Buzfuz
تل كولتن
Calton Hill
كمبرول
Camberwell
كامدن
Camden
كننجيت
Cannongate
شارع كتنتن
Catenton Street
تشاتم
Chatam
تشانسري لين
Chancery Lane
تشيبصايد
Cheapside
تشلمزفورد
Chelmsford
تشلزي
Chelsea
دونا كريستينا
Donna Christina
الكرونيكل (الأخبار)
the, Chronicle
كلابم جرين
Clapham Green
كلير ماركت
Clare Market
كليفتن
Clifton
مستر ومسز كلبنز
Mr. & Mrs. Cluppins
كلبي
Cluppy
كوبهم
Cobham
مسز كرنل
Mrs. Colonel
الملك كول
King Cole
شارع كولمن
Coleman Street
كورنهل
Cornhill
كفنتري
Coventry
كفنت جاردن (سوق الخضر في لندن)
Covent Garden
مسز كرادوك
Mrs. Craddock
مستر كرولي
Mr. Crawley
مسز كربس
Mrs. Cripps
كروكي
Crooky
كرشتن
Crushton
دانزج
Dantzig
ديفونشير سايدر
Devonshire Cyder
داف
Daph
ديوجينيس
Diogenes
ددسن وفج
Dodson & Fogg
دمكنز
Dumkins
ضمبلنج
Dumpling
ضبلي
Dubbley
داولر
Dowler
دبدن
Dibdin
ضلوتش
Dulwich
دنجلي دل
Dingley Dell
ديكن
Deacon
دمرارا
Demerara
دوركنج
Dorking
ضنتشرتش
Dunchurch
دفنتري
Daventry
دوفر
Dover
ضندي
Dundee
مسرح دروري لين
Drury Lane Theatre
دك
Dick
إبنزر
Ebenezer
إملي - إميلي
Emily
أبيقور
Epicurus
إدورد تشبمن
Edward Chapman
إليزابث طبنز
Elizabeth Tuppins
إليزابث جبكنز
Elizabeth Jupkins
إليزابث مفنز
Elizabeth Muffins
إيتنزول
Eatanswill
إدنبره
Edinburgh
عمانويل
Emmanuel
شارع «فليت ستريت»
Fleet Street
حصن بت
Fort Pitt
فندق فرنيفال
Furnival’s Inn
فيزكن
Fizkin
فيروركس
Fireworks
مستر فنكي
Mr. Funky
محكمة فريمن
Freeman’s Court
شارع فرنجدن
Farringdon Street
سجن فليت
the, Fleet
فوكس أندرذهل
Fox-under-the-hill
مركيز فيلتوفيل
Marquess, Filletoville
سير جفري ماننج
Sir Geoffrey Manning
جورج كروكشنك
George Cruickshank
جراندي
Grandee
شارع جوزول
Goswell Street
جرين
Green
جوين
Gwynn
جرندي
Grundy
جريفسند
Gravesend
جرمر
Grummer
جريجز
Griggs
جبرائيل جرب
Gabriel Grub
شارع جوار
Gower Street
جرويز
Garaways
جلد هول
Guildhall
الماركيز جرانبي دوركنج
Markis Granby Dorking
جنتر
Gunter
جاي فوكس
Guy Fawkes
جورج يارد
George Yard
سانت جورجز فيلدز
St. George’s Fields
المركيزة جرانبي
Marchioness, O’Granby
جلاسجو
Glasgow
جريز ان
Gray’s Inn
هامستد
Hampstead
هورنزي
Hornsey
هايجيت
Highgate
هنط
Hunt
هيلنج
Heyling
هطلي
Hutley
هنري بلر
Henry Beller
هولبورن كورت
Holborn Court
هاريس هبكنز
Harris Hopkins
هوليرود
Holyrood
هولبورن
Holborn
هاونزلو هيث
Hounslow Heath
فندق هب بول
the, Hop Pole
هاوندزديتش
Houndsditch
إيزابللا
Isabella
إيبسويتش
Ipswich
أيزك (اسحق)
Isaac
جوزيف اسمجرز
Joseph Smiggers
جنكز
Jinkins
جو
Joe
جونو
Juno
جاك بمبر
Jack Bamber
جب تروتر
Job Trotter
جكسن
Jackson
جنكس
Jinks
جوناس مج
Jonas Mudge
مستر جون سموكر
Mr. John Smauker
جمي
Jemmy
كنزنجتن
Kensington
لذربوتل
Leatherbottle
ليو هنتر
Leo Hunter
لوتن
Lowton
لفي
Liffey
سوق لدنهول
Leaden’all Market
لانت ستريت
Lant Street
ميدان لانجام
Langham Place
لد هوديبراس
Lud Hudibras
طريق ليث
Leith Walk
لفربول
Liverpool
شارع لومبارد
Lombard St.
لنكنز ان فيلدز
Lincoln’s Inn Fields
ضيعة مانور
Manour Farm
مرايا لوبز
Maria Lobbs
مراعي مولين
Mullin’s Meadows
ملر
Miller
مارثا باردل
Martha Bardell
مارتن
Martin
مرشالسي
Marshalsea
مينز
Minns
مدواي
Medway
حانة ماجباي واسطمب
Magpie & Stump
ماجنس
Magnus
مايل إند
Mile End
مارلبره
Marlborough
مس متينتر
Miss Matinter
مسز مضبري
Mrs. Mudberry
لورد مطنهد
Lord Mutanhed
مالارد
Mallard
موردلن
Mordlin
مستر مزل
Mr. Muzzle
مجلتن
Muggleton
مرجريت
Margaret
المورننج هرالد (اسم صحيفة)
Morning Herald, the
ماديرا
Madeira
مونتاجيو
Montague place
ميري
Mary
ميفنز
Mivins
نادي نمرود
Nimrod Club
نوروك
Norwich
نثنايل ونكل
Nathaniel Winkle
نثنايل بيبكن
Nathaniel Pipkin
نوكس
Noakes
نبكنز
Nupkins
نوكمورف
Nockemorf
ندي
Noddy
نيوفاوندلاند
Newfoundland (سجن) نيوجيت
Newgate
نورث بردج (الجسر الشمالي)
North Bridge
نيو بورت
Newport
نات
Nat
ندي
Neddy
نيو ساوث ويلز
New South Wales
مستر نامبي
Mr. Namby
فندق أوزبورن
Osborne’s Hotel
أولد رويال
Old Royal
بكوك
بودر
بنتنويل
أفلاطون
فيثاغورس
بنتش
بين
بركر
بمكن
بانكراس
برسيفال
مسز بركنهام
Mrs. Porkenham
فنكي
بليني
برفل
مستر بت
Mr. Pott
فندق بيكوك
كنيسة القديس بول
St. Paul’s Cathedral
مستر بروزي
Mr. Prosee
شارع برتيوجل (البرتغال)
بوركن
بل (سلمون)
البوليجن (اسم مكان)
مستر برايس
Mr. Price
رمزي
Ramsey
ريتشارد أبويتش
Richard Upwich
مستر ومسز رادل
Mr. & Mrs. Raddle
روتشستر
Rochester
ريتسمند
Richmond
ريتشارد
Richard
منتزه ريجنس
Regency Park
مسز روجرز
Mrs. Rogers
ميدان رسل
Russel Square
روبنصن كروزو
Robinson Crusoe
حي الرولز
the, Rules
سام ولر (سامي)
Sam Weller (Sami)
سلمون لوكاس
Solomon Lucas
سويفت
Swift
إستراود
Stroud
سيدليتز
Seidlitz
سمكن
Samkin
صري
Surrey
سومرز تاون
Somers Town
سيمور
Seymour
اسميثي
Smithie
سميذرز
Smithers
كونت سمورلتورك
Count Smorltork
دكتور سلامر (سلام)
Dr. Slammer (Slam)
إسترجلز
Struggles
ستيبل
Staple
الليدي اسنفنف
Lady Snuphanuph
سلمينتوكنز
Slummintowkens
مستر سلاشر
Mr. Slasher
مسز ساندرز
Mrs. Sanders
مستر ستيجنز
Mr. Stiggins
ساوثورك
Southwark
ستوكس
Stokes
ستايلز
Stiles
اسنبن
Mr. Snubbin
اسكمبن
Skimpin
ستيرليه
Stareleigh
سوبونز
Miss Sawbones
سمري
Simmery
شوترزهل
Shooter’s Hill
سميث
Smith
القديس سايمن
Saint Simon
مستر سنكس
Mr. Snicks
سرجنتز ان
Sergeant’s Inn
مستر سلمون بل
Mr. Solomon Pell
استمبي
Stumpy
سمسن
Simpson
حانة الاسطمب
The Stump
سوزان
Susan
سلرك
Slurk
اسلمكي
Slumkey
سرسنزهد (رأس العربي)
Saracen’s Head
سماوتش
Smouch
ساره
Sarah
شكسبير
Shakespeare
سمانجل
Smangle
تراسي طبمن
Tracy Tupman
طايبرن
Tyburn
توم كمينز
Tom Cummins
توم سمارت
Tom Smart
توني ولر
Tony Weller
الملازم تابلتون
Lieutenant Tappleton
سير تومس كلابر
Sir Thomas Clubber
تومكنز
Tomkins
توملينسون
Tomlinson
طبي
Tuppy
ليدي تولنجلوار
Lady Tollinglower
توماس جروفن
Thomas Groffin
طمسن
Thompson
توماس برتن
Thomas Burton
ميدان تافستوك
Tavistock Square
تادجر
Tadger
توم وايلد سبارك
Tom Wildspark
مستر طكل
Mr. Tuckle
توم
Tom
تيوكسبري
Tewkesbury
المستر توم روكر
Mr. Tom, Roker
تومس بليزو
Thomas, Blazo
تاوسستر
Towcester
صحيفة الادفرتيزر
Tizer
تمي
Tommy
تربن
Turpin
التايمز (صحيفة)
The Times
مستر ترندل
Mr. Trundle
وينكل
Winkle
هوايتشابل
Whitechapel
هوايتهول
Whitehall
وليم
William
وست جيت هاوس
Westgate House
وكس
Wicks
ويلموت سنايب
Wilmot Snipe
ويذر فيلد
Witherfield
هوايت هورس سلر
White Horse Cellar
مسز وجزبي
Mrs. Wugsby
مستر وفرز
Mr. Whiffers
ويفن
Whiffin
مسز وطي
Mrs. Watty
ولكنز فلاشر
Wilkins Flasher
القديس ووكر
Saint Walker
هوايت كروس ستريت
Whitecross Street
زينون
Zeno
زفير
Zephyr
ناپیژندل شوی مخ