حنفي
المذكرة الثانية عشر
محسوبك حنفي - أيها القارئ - وضع إمضائه الكريمة على أوراق كثيرة، فمقالاتي كل أسبوع «مثلا» وأقوالي في محاضر المخالفات، والدربكة والضرب في أقسام البوليس، وطلبات التوظيف التي كنت أقدمها للوزارات قبل أن أتربع على دست عربتي، وخطاباتي الخصوصية «غرامية كانت أو جدية» والأخيرة هذه تنطوي تحتها تجديد السلفيات أو المطالبة بحقوق قديمة، كل هذه الأوراق أضع إمضائي عليها، ولكني لم أكن أحلم يوما من الأيام أن أضع إمضائي على كمبيالة كشاهد، وأن أتقاضى على هذه المهمة أجرة العربة نصف جنيه «لفة الجزيرة» مع ركنة صغيرة، وورقة من ذات الخمسة جنيهات كأتعاب؛ لوضعي إمضائي الكريمة «كشاهد».
لم أكن شاهد ملك - أيها القراء - بل كنت «شاهد المرابي» والخواجا فيتا رجل الله أعلم بما ينطوي تحت طيبته الظاهرية، وديع إلى النهاية، يسمع حلو الكلام كما يسمع مرة بإحساس واحد ، بكرش متوسط، لا يعلم إلا الله عدد الضحايا التي ضاعت في سبيل العناية به، يتحلى بخاتم ألماسي كبير، ودبوس لرباط الرقبة بزمردة جميلة، وسلسلة وساعة ذهبية دقاقة، وكل هذه الحلي لم يشترها الخواجة فيتا من جواهرجي، وإنما امتلكها بطريق الرهن، كانت في يد غيره، فانتقلت إلى يده البيضاء، البعض «بربع الثمن» والباقي فوايظ، وعلى عينيه نظارة ذهبية تساعده على النظر، لقد ضعفت تلك العيون الجميلة من كثرة «التحقيق» في الإمضاءات والتحقق من الفائدة، وكتابة الخطابات والإنذات.
معارفه وزبائنه أكثرهم مستحقين في أوقاف، يتقاضون مالهم من يد الخواجة فيتا، وله توكيل يبرزه في وزارة الأوقاف كل شهر؛ يصل به إلى غرضه، ويتمكن من أخذ ماله ونص.
ركب معي من السكاكيني ذات صباح، ومعه شاب في سن الخامسة والأربعين، أعرفه اسما بصالح أفندي، وأعرف عنه أنه «سمير أنس وخدام إخوان»، وخط الشيب فوديه، ولكن قلبه لا يزال شابا، صنعته في هذه الحياة جودة الحديث وحدة اللسان وتفهيم من يقع في يده من الشباب «الواقع» قدرته على إنجاز أي عمل، وهكذا يحيط نفسه بسياج يخاله الإنسان منيعا، فإذا تخطاه رأى بدل الحصن المنيع سهلا تخطته الركاب، وجعلته الأيام موطئا للأقدام.
ووصلنا إلى سبلندد بار فأمر الخواجة «أركان حربه» فنزل باحثا عن «حسن بك» وأبو علي هذا هو المجني عليه قانونا «داخل الدائرة المرنة يا حبيبي».
وجيء به، أقول جيء به؛ لأنه لا يملك حتى قوة الإرادة في السير من كرسيه إلى العربة، وركب في الوسط، وأمرني الأب فيتا فمررنا على الكافيه دي لابيه، ونزل هو يبحث قليلا ثم عاد قائلا: نفوت على الكافيه ريش، ناخد معانا الخواجة فيكتور.
فرد عليه أبو صلاح قائلا: علشان إيه؟ - بس لئن عبد الفتاح مش موجود هنا، علشان نمضي مع حسن بك يا سيدنا.
تصور، ماذا كان جواب أبو صلاح؟ تصور أن يدي فلت منهما السرع إذ سمعته يقول: ما فيش لزوم يا خواجة فيتا، معانا الأسطى حنفي، منا وعلينا، راجل يقرأ ويكتب على ذوقك، مش كده يا بو محمود؟
ناپیژندل شوی مخ