وانتبهت على صيحة المحامي وهو يقول: اركن شمالك على الكونتننتال يا أسطى.
سرت بعد ذلك، وأنا متأكد أن الأغلبية تتهم غيري بكتابة المذكرات مع أني صارحتهم القول باسمي ومهنتي، ولا ينقص إلا أن أكتب لهم نمرتي، وهنا تقع المصيبة على رأسي أنا فقط، وينتج من ذلك أن رواية مضحكة تبدأ في كل شارع، وكل موقف ومع كل عربجي، فلا يركب الزبون إلا بعد أن يتحقق من نمرة العربية وشخصية العربجي ليأمن على سره من لسان أبو محمود الطويل.
على ذكر المظاهرات، لقد رأيت وشاهدت عيناه - أيها القارئ - فصولا وروايات تكاد تشبه حوادث ألف ليلة وليلة، فكنت أرى بعيني إشارات المواعيد بينه وبينها، والمظاهرة في «حموها» أو تبادل الابتسامات أثناء مرور جنازة شهيد من الشهداء.
كم حملت عربتي بين الهرج والمرج والصياح زبونا من المنادين «بالاستقلال التام» إلى ميعاد بينه وبين «وليفة وطنية»! فنسير إلى خارج البلد ليتشاكيا: الغرام، والنواح، والألم، والبعد على حساب القضية المحترمة، ويقضيان ساعة على المبدأ القائل: «ساعة لقلبك، وساعة لربك، وساعة للوطن.»
ويظهر أن هذا المبدأ كان منتشرا حتى بين الأدمغة الكبيرة، فقد ركب معي من أعرف عنه بروز الشخصية، لا تقام حفلة إلا وله فيها مجال، لا يتم مشروع إلا وله فيه كلمة، ركب معي من شبرد في أيام الشدة - أيام المظاهرات - وبينما أنا داخل شارع المناخ أنادي بأعلى صوتي «أوعى الملف» أوقفني سعادته بإشارة من إنسان على الرصيف.
قلت: إنسان! وسأصفه للقارئ؛ ليعلم حقيقته ... أمثال هذا الآدمي تراهم في أوجه المجالس، يلبسون أنظف وأليق الملابس، ساعاتهم ذهبية، وخواتمهم ماسية، جيوبهم دائما عامرة، كأن لهم ريع ينفقون منه ولا ريع، ينامون إلى منتصف النهار، ويسهرون الليل، إذا سألت عن الواحد، قيل لك: هذا خدام إخوانه، جدع ومهاود، خبير بالجنس اللطيف، وبالاختصار نسميه نحن «مفتاحجي» فبعد أن سلم صاحبنا على زبوني المحترم قال له: أما يا سيدنا البيه عندي لك حاجة النهاردة لكن «هدية». - مين يا ترى؟
همس في أذنه اسما، خيل لي أني سمعته، فقال صاحبنا: أنا مشغول جدا في الميعاد ده ؛ لأن جلسة هامة تستدعي وجودي، ومع كل يمكن أقدر آجي. - إذا اسمح لي «يا إكسلانس» إني أكلم فلان بك في هذا الموضوع؛ أحسن الفرصة تضيع. - أنا متشكر على كل حال يا أبو علي، طول عمرك «جلاب المليح».
وسرنا فأوصلت سيدنا البيك إلى ... وأنا لا أتعجب إلا من صاحبنا الوجيه «البيرا» الذي استوقفنا في طريقنا ... وكم في البلد من أمثاله، يتوسدون الراحة ويأكلونها «أتة محلولة» يتكلم معك حتى إذا مر بالحديث ذكر الشرف والأدب ومكارم الأخلاق، هب يتكلم بأفصح ما سمع آدمي، تراه يشكو الأزمة، ووقوف الحال مع أن تقلبات «أجعص بورصة في أمريكا» لا تأثير لها على بضاعتهم.
يرجع مرجوعنا يا سيدي القارئ إلى ميدان الأوبرا، أيام سافر الوفد لأول مرة، والقاهرة قد أخرجت من بيوتاتها مجموعات مختلفة من سيدات وعذارى وعيال وبنات وخلافه، وتصور محسوبك بعربتي في وسط هذا الخليط من أتوموبيلات وعربات ملاكي «ووردناري» ومعي عائلة مكونة من أربعة أنفار من الجنس اللطيف طبعا، والعلم المصري يرفرف علينا، ونحن نسير بكل بطئ بين الهتاف المتواصل والمظاهرات المختلفة.
وابتدأت الإشارات والابتسامات اللاسلكية بين شاب من الشبان الناهض، وإحدى زبائني، ورأيته وقد اقترب بسرعة البرق حتى صار بجانب عربتي، وانتهز فرصة مرور مظاهرة أخرى، وفي أثناء الهتاف الذي كان يصم الآذان كان «الشاطر محمد» ينادي مع الهاتفين بصوت عال، ويتكلم مع ست الحسن والجمال بصوت واطي بالشكل الآتي: ليحيا الاستقلال التام. - عاوز أكلمك، عاوز أشوفك. - لتحيا السيدة المصرية. - كلمني في التلفون. - ليحيا الوفد المصري. - نمرة التليفون كام؟
ناپیژندل شوی مخ