وفي الواقع، أيها السادة، إذا لم يكن قد حان وقت الجلاء منذ زمن وإذا لم يحن وقت الجلاء عندما يتقرر مصير الشعوب فمتى يحين؟
إذا رجعنا إلى كتاب المستر جلادستون الذي أرسله إلى المرحوم مصطفى كامل باشا سنة 1896 فإننا نراه يقول فيه إن زمن الجلاء قد حان منذ سنين، فإذا كان هذا التصريح قد صدر سنة 1896 من المستر جلادستون وهو رئيس الوزارة البريطانية الذي وقع في عهده الاحتلال سنة 1882، وشيخ الأحرار في إنجلترا، فقوله هذا له وزنه وله قيمته. أما نحن أيها السادة فنعتبر أن زمن الجلاء قد حان منذ سنة 1882، أي من السنة التي وقع فيها الاحتلال؛ لأنه وقع بغير مبرر وبغير سبب.»
إلى أن قلت: «هناك عنصر آخر يؤيد هذه القضية، وهو أن تطور الأفكار العالمية واتجاه الشعوب إلى المثل العليا في خلال هذه الحرب يعتبر وجود قوات حربية أجنبية بصفة مستمرة في أي بلد من البلاد لا يتفق مع استقلال هذا البلد وكرامته القومية، فهذا الاتجاه الجديد يؤيد قضية الجلاء ويجعلها قضية ناجحة.
ومهما قيل، أيها الزملاء الأعزاء، بالنسبة لمصر من أن وجود القوات البريطانية الحربية إنما يقصد به الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، فلا أظن مطلقا أن الأوضاع الصحيحة والمنطق السليم يتفقان مع هذا التعليل، كما أعتقد أنه لم يعد يتفق مع التطور العالمي الذي أشرت إليه، والذي لا يسمح مطلقا بأن تكون العلاقة مع الشعوب مبنية على وجود قوات حربية أجنبية في البلد المستقل؛ خصوصا أن بريطانيا العظمى قد ارتضت في معاهدة الآستانة سنة 1888، وفي معاهدة لوزان سنة 1923، الوضع السليم لضمان حرية الملاحة في قنال السويس بما لا يتفق مع وجود قوات أجنبية لضمان هذه الحرية؛ ذلك لأن معاهدة سنة 1888 وهي معاهدة الآستانة التي اشتركت في التوقيع عليها بريطانيا العظمى قررت أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وقررت أن الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس يجب أن يوكل أمره إلى مصر وإلى القوات المصرية، وكان لها - كما نص في المعاهدة - أن تستعين عند اللزوم إذا لم تكن قواتها كافية للدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، كان لها أن تستعين بقوات تركية. فلما جاءت معاهدة لوزان التي أبرمت في يوليو سنة 1923 بين تركيا وبين بريطانيا العظمى وحلفائها، أقرت الأحكام الواردة في معاهدة سنة 1888 مع تنازل تركيا عن كل حق لها في مصر والسودان، نص على هذا صراحة في معاهدة لوزان، ومعنى ذلك انفراد مصر بالدفاع عن حرية الملاحة في القنال. إذن فالوضع الصحيح الذي ارتضته بريطانيا هو أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وحياد قنال السويس يقتضي حياد الأرض التي يمر بها، وأن حياد قنال السويس يجب أن يكون في كفالة مصر وحدها؛ لأنه بتنازل تركيا عن كل حق لها بمصر والسودان أصبحت مصر منفردة بمعاهدة دولية بضمان حرية الملاحة في القنال. وهذا هو الوضع السليم الذي يجب أن نطالب به، فإذا ما بقيت جنود أجنبية بحجة الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس فلا يكون الغرض الحقيقي منها هو هذا، وإنما يكون لها غرض آخر لا يتفق مع أبسط قواعد الاستقلال ولا مع كرامة البلاد.
أيها الزملاء الأعزاء! ذكرت ما ربحته قضية الجلاء في خلال الحرب، ويلزمني أن أنوه أيضا بأن مذكرة المعارضة الأخيرة
3
التي تقدمت إلى بعض المراجع السياسية تؤيد أيضا قضية الجلاء؛ لأن أول المطالب التي طلبتها المعارضة في هذه العريضة هو جلاء الجنود البريطانية عن الأراضي المصرية.»
وهنا اعترضني أحد الشيوخ الوفديين قائلا: وهل يمكن المطالبة بالجلاء الآن؟
فأجبته بكل بساطة: «إننا نطالب به منذ سنة 1882!»
ثم قلت: «والآن أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول بهذه المناسبة إن هذا المطلب تقاربت الأحزاب على المناداة به، أما نحن - المعارضين القدماء - فنعتبر الجلاء مبدأ لا مطلبا فحسب، ونعتبره عقيدة لا وسيلة للمعارضة فحسب، هو وسيلة للمعارضة ولكنه إلى جانب ذلك عقيدة، وهو مبدأ؛ ولذلك فإننا لا نقبل المعاهدة بدونه.»
ناپیژندل شوی مخ