(1) في البرلمان الأول (سنة 1924)
صدر الدستور في 19 أبريل سنة 1923، وقانون الانتخاب الأول في 30 من هذا الشهر، واستعدت الأمة للانتخابات العامة عقب صدور الدستور مباشرة. وإذ كان الانتخاب وقتئذ على درجتين فقد حدد لانتخاب المندوبين الثلاثينيين يوم 27 سبتمبر سنة 1923، ولانتخاب النواب يوم 12 يناير 1924، ولإعادة الانتخاب يوم 17 منه عند عدم حصول المرشح في اليوم الأول على الأغلبية المطلقة؛ أي النصف زائدا واحدا من أصوات المندوبين الحاضرين.
واهتمت الأمة بالانتخابات بدرجتيها اهتماما عظيما دل على ارتقاء النضج السياسي في البلاد، وتتبع الناس بلهفة إجراءات التمهيد للانتخابات، وتألفت اللجان الشعبية في مختلف المدن والقرى، وكان معظمها من لجان «الوفد».
وكانت الدلائل تدل على أن الوفد سينال الأغلبية الساحقة في الانتخابات «وقتئذ»؛ فشخصية سعد زغلول وزعامته للأمة والمنزلة التي نالها في نفوس المصريين كانت وحدها كفيلة بهذا الفوز، ولا غرو فقد تركزت فيه الثورة لأنه كان زعيمها، وكان نفيه مرتين مما زاد الشعب تعلقا به والتفافا حوله وتلبية لندائه في الترشيح للانتخابات، وبخاصة لأن عودته الثانية من المنفى كانت قبيل الانتخابات بمدة وجيزة، فكان ترشيح الوفد «وقتئذ» يضمن في الغالب فوز كل من يتقدم للانتخابات.
ظهر فوز الوفد أول ما ظهر في الانتخابات الثلاثينية ؛ فإن معظم المندوبين الثلاثينيين كانوا من أنصاره، وممن تعاهدوا على انتخاب مرشحيه للبرلمان، فكان ذلك إيذانا بفوز الوفد في انتخابات النواب والشيوخ.
ولم يكن يزاحم الوفد في الانتخابات سوى عدد قليل من مرشحي الحزب الوطني والأحرار الدستوريين وبعض المستقلين؛ إذ لم تكن قد كثرت الأحزاب بعد في البلد كما حدث بعد ذلك، وكان مرشحو الحزب الوطني يعتمدون على مبادئهم وماضيهم في الجهاد، أما مرشحو الأحرار الدستوريين والمستقلون فكانوا يعتمدون في مناطقهم على عصبياتهم العائلية ونفوذهم الشخصي.
لمست تيار الوفد الجارف في هذه الانتخابات؛ فقد رشحت نفسي في دائرة مركز المنصورة معتمدا على الله ومستندا إلى مبادئي وشخصيتي وماضي في الحركة الوطنية، وكان الوفد قد رشح ضدي علي بك عبد الرازق من أعيان المنصورة.
وقد تألفت لجنة وطنية لتأييد ترشيحي أخذت تجوب الدائرة وتوزع المنشورات على المندوبين والناخبين للدعوة إلى انتخابي. ويطيب لي، وقد مضى أكثر من ربع قرن على تلك الحوادث، أن أدون أسماء من أذكرهم من أعضاء هذه اللجنة، اعترافا بما لهم علي من فضل في نجاحي في هذه المعركة الهائلة، وهم: الحاج محمد عبد البر، سيد أفندي علي، الأستاذ عبد المجيد البيومي، صالح أفندي الطنطاوي، الأستاذ محمود السيد عقل «بك المستشار بمحكمة الاستئناف الآن»، الأستاذ حسين فهمي الصباغ، الأستاذ محمد عبد الرحمن، الأستاذ عبد الحميد الطوبجي، الحسيني أفندي العسقلاني، الأستاذ علي عبد الله، الشيخ إبراهيم جمعة، مصطفى أفندي أبو الوفا، الشيخ أحمد السعيد الجمل، إسماعيل أفندي هواش، صالح أفندي رمزي، حامد أفندي عبد المجيد، شكري أفندي صادق ... إلخ، وفي الحق إنهم عانوا متاعب كثيرة في الطواف بالدائرة والمرور على كل مندوب أو ذي مكانة في بلده وإقناعهم بانتخابي، وكنت أمر أنا أيضا معهم، مجتمعين أو منفردين، وألقى أحيانا ترحيبا وأحيانا إعراضا، ولم يحصل لي أذى بفضل الله؛ فإن مخالفي في الرأي كانوا في الجملة يحترمونني شخصيا. وقد وزعت على جميع مندوبي الدائرة وذوي الرأي والمكانة فيها مؤلفاتي التي ظهرت إلى ذلك الحين، وهي: «حقوق الشعب»، و«نقابات التعاون الزراعية»، و«الجمعيات الوطنية»، فكان لها أثر كبير في تزكيتي وتقدير المندوبين والناخبين لي.
وكان لطلبة الدقهلية لجنة تسمى «لجنة الطلبة العامة بالدقهلية» ساهمت في المعركة الانتخابية، وكان أعضاؤها يزكون مرشحي الوفد في دوائر المديرية، ولكنهم استثنوا دائرة مركز المنصورة، فمع أنهم كانوا في الغالب وفديين، آثروني على مرشح الوفد وعملوا ذلك بوازع من ضميرهم ووجدانهم. وكان لانضمامهم إلى جانبي أثر محمود في نجاحي، وحفظت لهم هذا الجميل على مدى السنين، وقد صاروا الآن من رجالات القضاء أو المحاماة أو الطب، أذكر منهم: الأستاذ أحمد كمال «بك المستشار بمحكمة الاستئناف»، الأستاذ حسين حسني المحامي، الأستاذ علي السعدني «القاضي الآن»، الأستاذ عبد الحميد خلاف «القاضي»، الأستاذ محمود البحيري «رئيس النيابة»، الدكتور زكي منتصر، الأستاذ بدوي حمودة «بك المستشار بمجلس الدولة الآن»، الأستاذ محمد عاشور سكرتير عام شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، الأستاذ عبد الخالق الطنطاوي المفتش بالأوقاف، الأستاذ عباس رمزي وكيل النيابة ... إلخ.
وبدأت المعركة الانتخابية تقريبا منذ أبريل سنة 1923، أي من يوم صدور الدستور وقانون الانتخابات، واستمرت إلى 12 يناير سنة 1924، أي يوم الانتخابات، فكانت معركة طويلة المدى، حامية الوطيس، عانيت فيها متاعب جسيمة؛ إذ كان مطلوبا مني أن أمر على المندوبين في بلادهم وإقناعهم شخصيا باستحقاقي لثقتهم. وقد أصبت أثناء الحملة بمرض التيفوئيد في يونيو سنة 1923، ولزمت الفراش نحو شهرين، اشتد بي خطر المرض في خلالهما، حتى أذن الله لي بالشفاء. كتب أخي المرحوم أمين بك في جريدة «الأخبار» بالعدد الصادر يوم 27 يوليو سنة 1923 النبذة الآتية تحت عنوان «شفاه الله»: «لزم الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي المحامي بالمنصورة الفراش منذ أيام لمرض انتابه، ويسرنا أن نعلن بأن الأطباء قرروا زوال الخطر عنه وأن صحته آخذة في التحسن، فنحمد الله على لطفه في قضائه وقدره ونسأله الشفاء التام.»
ناپیژندل شوی مخ