وقد خرجنا في اليوم التالي لوصولنا باريس لمشاهدة بعض حوانيتها الكبيرة والتوصية على ما يلزمنا من المحلات الشهيرة، وكم عجبت عندما رأيت محلات الأزياء الكبرى تعرض الملابس على فتيات جميلات أنيقات ... ولم يكن في هذا العرض مجرد الترغيب في شراء الملابس، بل فيه دروس للمشترية تمكنها من تمييز ما يلائم هذه الملابس من باقي اللوازم التي تحتاجها لتكملة أناقة الملبس، وكذلك تستطيع أن تنتقي الألوان المناسبة للون شعرها وبشرتها.
وقد صادف ذلك يوم مهرجان الزهور في غابة بولونيا، فكان طريق الأكاسيا غاصا بالمتفرجين والمتفرجات من المشاة والجالسين على جانبي الطريق، وكانت عربات الزهور تمر مكسوة بأنواع الأزهار المختلفة وأمامها وخلفها عربات تقل السيدات والرجال في أبهى زينة وأجمل ملبس. وكانوا يتراشقون بالأزهار والورود تغمرهم البهجة ويرفرف عليهم السرور، بينما كان المشاة والواقفون يجمعون الأزهار التي تتساقط من العربات ويكونون منها باقات لأنفسهم يزينون بها منازلهم وغرفهم الصغيرة، فمن طابع الأوروبيين ميلهم الشديد للأزهار وتقديرهم لها وحبهم فيها باعتبارها غذاء لأرواحهم، حتى إن معظم الفقراء لا يبخلون على أنفسهم بشراء بعض الأزهار يزينون بها بيوتهم أو يحلون بها صدورهم.
وقد تطوع شقيقي في أن يكون دليلنا مدة إقامتنا في باريس، فكان لنا خير دليل وأكبر معين؛ لأنه كان يعرف كل مرافقها وضواحيها ومنتزهاتها ودور التمثيل والفنون الجميلة والمتاحف والسرايات الملكية القديمة والتاريخية، وكان ذلك يرجع إلى ما يتحلى به من حسن الذوق وتقدير الأشياء حق قدرها، ولذلك كان وجوده معي يكسبها جمالا في عيني فوق جمالها ويزيد من تقديري لها، وهو ما لم أعد أشعر به من بعده.
كم كنت أرتاح لوجودي بجانب شقيقي في الزيارات التي كنا نقوم بها في باريس، لاتفاق شعورنا وميولنا في تقديرنا للفن والعلم والجمال وتقارب أذواقنا، وأظن أنه هو أيضا كان يشعر مثلي بكثير من الغبطة لمرافقتي له ... وكم شق علي زيارة تلك الأرجاء بدونه من بعده، وكم فقدت من رونقها في نظري كلما حاولت أن أستعيد الذكرى.
وباريس هي الصفحة المنشورة من سجل تاريخ الفرنسيين ؛ حيث يشب الفرنسي في أية بيئة ملما منذ نعومة أظفاره بتاريخ بلاده، قبل أن يدخل المدارس ويتعلم هذا التاريخ في الكتب ... ولذلك تراه فخورا بتاريخها المجيد، حريصا على خلود هذا المجد، وليس هذا فحسب، بل ترى الشعب الفرنسي يطوف بكل القصور الأثرية والميادين التاريخية ودور الآثار والعلم والمتاحف الفنية والكنائس والمعابد التي تفتح له أبوابها في أيام العطلات.
وقد أعجبني في باريس كل شيء حتى شراسة أخلاق الرعاع فيها؛ لأنها لا تخلو من خفة الروح وتعبر عن شخصية لا تكلف فيها ولا تغيير، فالفرنسيون أشخاص متفردون بعبقريتهم، مستقلون في أفكارهم وطباعهم وأعمالهم وصفاتهم وحتى في عيوبهم، ولذلك تجدهم محافظين على شخصيتهم، فخورين بها، متباهين بحريتهم، متفانين في تقديسها.
ومع ذلك فقد تألمت من نتائج التطرف في تلك الحرية في بدء عهدي بزيارتها، إذ كنت أظن أن الصغير والكبير من كل طبقة في تلك الأمة على جانب عظيم من الرقة وحسن المعاملة ... وأذكر بهذه المناسبة إنني عندما أردت لأول مرة زيارة أحد حوانيت باريس الكبرى في يوم حدد لتخفيض أثمان البضائع، وجدت على أبواب الحانوت زحاما شديدا، فوقفت عند الباب لأمكن بعض الداخلين من المرور مجاملة كما هي عادتنا في بلاد الشرق، ظانة أنه سيأتي دوري وأجد من بين الداخلين من يرد لي تلك المجاملة، ولكني لاحظت للأسف أنه لم يشعر بوجودي أحد، ورأيتني مدفوعة بشدة بين تلك الأمواج المتلاطمة من الأجسام البشرية، تتقاذفني موجة وتتلقاني أخرى باللكم والسير على قدمي، فكادت تنهمر دموعي على خدي من هذا التسابق الرهيب، وثم وجدت نفسي أمام منضدة محوطة بالمتفرجين والمتفرجات وقد مددت يدي بلطف إلى قطعة من القماش أعجبتني، ولكن سرعان ما اختطفتها من يدي إحدى المتفرجات بغلظة حتى كادت الدموع تفر من عيني مرة أخرى، ولكني كتمت تأثري حتى لا يضحكوا أو يسخروا مني ... وأخيرا خرجت من المحل بعد أن اتخذت من ذراعي مجذافين أستعين بهما على النجاة من تلك اللجج البشرية المتراصة.
مثل هذه الأشياء لم ترقني أول الأمر، ولكنني انتهيت منها إلى أن أفهم أن التزاحم في الحياة هو سبب نهضة تلك الأمم وتفوقها، وإن كان ذلك مظهرا من مظاهر الأنانية ... وأن تسامح الشرق ورقة شعوره هما سبب تأخره واضمحلاله، رغم ما في ذلك من نبل ودعة.
ولقد بقينا في باريس مدة شهر أو أكثر، وكنا قد قصدناها لاستشارة الأطباء، وكان في عزمنا في البداية ألا تمتد إقامتنا بها أكثر من أسبوعين، ولكن المدة طالت دون أن نشعر بها؛ لأن تغيير الهواء والمعيشة كان لهما أفضل الأثر على صحتنا جميعا. وقد عزمنا بعد ذلك على السفر إلى «ابنيول دي لورن» بناء على مشورة البروفيسور «روبان» الذي أكد لنا أن مياه تلك الجهة مفيدة جدا بالنسبة لما كنت أشكوه من عدم انتظام الدورة الدموية، وهو ما كان يسبب لي كل الآلام التي كنت أقاسيها ... وكان أخي قد نوى الرحيل إلى «البوي دودوم» في الوقت نفسه، فغادرنا جميعا الفندق في صباح واحد.
بعد عودتي من أوروبا، وقعت أحداث هامة في مصر. ومن ذلك ما وقع يوم 20 فبراير 1910، وهو إطلاق الرصاص على بطرس غالي باشا رئيس النظارة، من فتى يدعى إبراهيم ناصف الورداني، المنتمي للحزب الوطني، وذلك عند مغادرة الرئيس لنظارة الخارجية في الساعة الواحدة بعد الظهر ... وكان هذا من أبرز الأحداث السياسية التي وقعت في تلك الفترة.
ناپیژندل شوی مخ