كانت الأعياد والمواسم من أكثر عوامل بشرنا وسرورنا ... وكنا ننتظرها بفارغ الصبر ونستعد لها من قبل حلولها بمدة طويلة، وكنا نهتم بإعداد ثيابنا لهذه المناسبات، ولكن كثيرا ما كانت هذه الثياب تنغص علي وتعكر صفوي وتسلبني بهجة العيد وفرحته إذا ما حيكت على خلاف ما كنت أود. وكان يزيدنا حزنا وألما إنني لا أستطيع أن أجهر بذلك، فقد كان علي دائما أن أتسلمها صاغرة شاكرة دون إبداء أية ملاحظة أو اعتراض.
وكلما فكرت أنه كان من السهل تحاشي ما ينغص علي من جراء ذلك أو غيره من الأسباب، وددت لو أن العادات وقتئذ كانت تسمح للصغار بإبداء ما يجول بأنفسهم في شيء من الصراحة ... فالصراحة هي أساس حسن التفاهم بين الناس ... وقد حرمتني تلك العادات والتقاليد القديمة من التمتع بمزاياها وفوائدها، بحجة أنه لا يليق بالصغير أن يعارض أو يبدي رأيا، وإنما يجب عليه أن يأخذ كل ما يقال قضية مسلما بها، وأن يتقبل كل ما يعرض عليه دون مناقشة أو معارضة.
ولقد كانت والدتي - رحمها الله - محافظة متمسكة بالتقاليد ... وكانت ميالة إلى الخير والإحسان، ولذلك كان للفقراء في كل أعيادنا نصيب كبير من برها ... ففي ليلة السابع والعشرين من رجب، تحتشد جموع السائلين في الشارع على جانبي الطريق دون سابق دعوة إليهم، بل بحكم عادتهم في مثل هذا اليوم. وكانت والدتي تنزل إلى صحن الدار الفسيح لتشارك بنفسها في إعداد الفت واللحم والأرز ... وكانت الأبواب تفتح لأفواج السائلين فوجا بعد فوج، حتى يشبع الجميع ويحمل كل منهم في وعائه عشاء زوجته وأولاده وأهل بيته.
كان هذا المنظر يؤلمنا ويؤثر فينا، إذ كنا نرى بين هؤلاء المتسولين الضرير والأعرج والمقعد والمريض والعجوز ... فكنا نطلب من والدتنا أن تأمر بإعطاء من كان يستدر عطفنا بسوء حالته نقودا أكثر من غيره.
وكان لكل منا متسول أو أكثر يتردد بعد ذلك يوميا تقريبا. وكان متسولي رجلا مبتور الساق، وكان ينبهني إلى وجوده بقوله: «يا رب» ... وكان هناك أيضا مداح يدعى «عبد الرحيم» وكان خفيف الروح، يرتجل المدائح والمواويل وقد ظل يتردد على منزلنا إلى أن تقدمت به السن، فخصصنا له مرتبا شهريا، ويطول استمرار هذا الحال حوالي أربعين عاما، كان يعتبر نفسه كأحد المستحقين فيطالبنا بكل ما يلزمه، وقد توفي إلى رحمة الله عام 1938.
وكذلك كانت تفعل والدتي في ليلة النصف من شعبان وبعد انتهائنا من إطعام الفقراء، كنا نجتمع في غرفة واسعة، وتأتي «الشيخة جلسن» لتجلس في وسط الغرفة وتقرأ علينا دعاء نصف شعبان، ونحن نردد بصوت عال، وكان لهذا الدعاء في نفوسنا رهبة وروعة.
أما في ليلة القدر، فقد كنا نتوضأ قبل النوم ونصلي، ثم يترقب كل منا ظهور «طاقة النور» التي يستجاب الدعاء عند ظهورها، حتى يغلبنا النعاس.
وعندما كان يحل عيد الفطر ... كنا نستيقظ في الصباح الباكر، ونرتدي ثيابنا الجديدة ... ثم نخرج لزيارة أصدقائنا، وكنا نمضي باقي النهار في منزل ثابت باشا نلعب في حديقته، أو كان أولاده يأتون عندنا، وكانوا أقرب جيراننا.
وكنا نترقب عيد الأضحى الذي تنحر فيه الذبائح، فنستيقظ مبكرين لنرى توزيع اللحوم على المستخدمين والفقراء. وكانت «دادتي» تعد لنا الكبد المحمرة للإفطار قائلة: إن السنة تقضي بأن نذوق لحم ذبائح العيد.
وكانت الاستعدادات لعاشوراء تبدأ قبل موعدها بيومين أو ثلاثة أيام، وكنا نحن الصغار نشترك في نقش الصحون والأواني بالزبيب والصنوبر والجوز والفستق، وكانت الأسر الكبيرة تتبادل إهداء العاشوراء، وكم كان منظر الشوارع جميلا وهي مزدحمة بحاملي هدايا العاشوراء ما بين رائح وغاد، وجميعهم في ملابسهم الشاهية أو الحرير يتمنطقون بأحزمة جميلة ويحملون على رءوسهم الصواني ذات الغطاءات الزاهية.
ناپیژندل شوی مخ