ومن تهكم الأقدار ومن المؤلم حقا أن زعيم الحركة التي قامت في الأصل لتخليص الجيش من سيطرة شرذمة من الشراكسة، يغتبط بوقوع مصر تحت سيطرة الإنجليز . وكانوا يوم أن أدلى بهذا الحديث قد مضى عليهم عشرون عاما قضوا فيها على استقلال البلاد وحريتها، وسلخوا السودان عنها، وجعلوا أملاكها ومرافقها نهبا مقسما بينهم وبين الدول الاستعمارية، واغتصبوا سلطة الحكم وأفسدوا الجيش والإدارة والتعليم والأخلاق في البلاد.
وبعد، فلم أكن أريد أن تصل المناقشة إلى هذه التفاصيل. ولكن ردود عبد السميع أفندي قد اقتضت ذلك، وجعلتني أعيد البحث فيما أدلي به من حجج في مقالاته، وكنت أود أن أقتنع بها، ولكنها لم تزدني إلا اقتناعا بالرأي الذي وصلت إليه من قبل، وهو أن الثورة العرابية في دورها الثاني كانت مع شديد الأسف صفحة محزنة من تاريخ مصر الحربي والقومي ...
هذا ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وكشف فيه الرجال والمواقف والأدوار، ونبه الأذهان إلى مجريات الأمور في الدور الثاني للثورة العرابية، ولقد كان من بين الرجال الذي تنبهوا مبكرا لذلك، والدي محمد سلطان باشا؛ فقد ظل مؤازرا للثورة العرابية باعتبارها ضمير الأمة وصوت الشعب، إلى أن جاءه رجال الثورة ليطلبوا منه، باعتباره رئيس البرلمان، أن يدعو إلى جلسة لعزل الخديوي، فلما سألهم عمن سوف يشغل مكانه بعد عزله حتى يقرر البرلمان ذلك، لم يلبثوا أن اختلفوا وتناحروا وادعى كل واحد منهم أنه الأحق بالأريكة الخديوية. وربما كان هذا هو الموقف الذي أسلم أبي للمرض، فقد غاب صوت العقل في المناقشات التي دارت بينه وبين رجال الثورة العرابية، واندفعوا رغم تحذيره بأن هذا الاندفاع قد يؤدي إلى أسوأ العواقب.
فلما وقعت الواقعة اشتدت العلة وسافر إلى سويسرا ومنها إلى جراتس في النمسا؛ حيث قضى نحبه عام 1884.
الفصل الثالث
كانت والدتي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها بعد عندما مات والدي في مدينة جراتس بالنمسا.
إنني ما زالت حتى الآن أتذكر يوم وصل إلينا نعي والدي الحبيب. ثم أيام الحزن العميق التي اجتزناها، والسنين المدلهمة الطويلة التي جلل فيها السواد كل أثاث المنزل ورياشه.
لقد وقع الخبر مثل الصاعقة على رأس والدتي، وما زلت أذكر صورتها وهي طريحة الفراش يعودها الأطباء من آن لآخر، وكانوا يأخذونني أنا وأخي فنقف بجانب فراشها، وإذ ذاك تنظر إلينا بحزن ثم تخنقها العبرات وتدس رأسها تحت الغطاء، وهي تقول: أبعدوا الطفلين عني! ...
وعندما كنا نذهب إلى الغرفة المجاورة ... عند والدة أخي إسماعيل ... التي كنا نناديها باسم «ماما الكبيرة» ... كنا نشاهد منظرا أقسى لشابة أخرى فقدت ابنها قبل وفاة زوجها، ففقدت كل أمل في الحياة، ومرضت مرضا ألزمها الفراش طوال السنوات الثماني التي عاشتها بعد ولدها، وعندما كان يلح عليها من حولها لترك الفراش وترييض جسمها، كانت تذعن في النهاية تحت إلحاحهم، فتتمشى من غرفة إلى أخرى، وكنا نفرح لذلك كثيرا ونجري أمامها مهللين مصفقين، فتعلوا شفتيها القرمزيتين - بفعل الحمى - ابتسامة باهتة واهنة ممزوجة بالأحزان التي تنبع من أعماق قلبها. كنت أحب هذه السيدة حبا عظيما، وكانت تبادلني الحب وتعطف علي، وكانت هي الوحيدة التي تجاذبني الحديث بصراحة في مختلف الأمور والشئون، وقد لاحظت ما كنت أحاول أن أخفيه من آلام نفسية؛ بسبب تفضيل أخي علي سواء من جانب والدتي أو أهل البيت جميعا، فكانت تحاول أن تقنعني بأن هذا ليس تفضيلا، ولكن لأن الولد هو الذي يحمل اسم الأسرة وهو الذي يحمل مسئوليتها.
وكان بيتنا مفتوحا لكل زائرة ولكل قاصد، ذلك أن والدتي كانت خيرة وديمقراطية، ولذلك كان منزلها لا يكاد يخلو من الضيوف يوما واحدا، وكثيرا ما كانت تطول تلك الضيافة نظرا لما يجده الضيوف من حسن الوفاء وكرم المعاملة، وكثيرا ما وفد الزائرون فجأة، في الأوقات المناسبة وغير المناسبة. ولذلك كانت مائدتنا مستعدة دائما لاستقبال الضيوف، وكانت الغرفة معدة لإقامة النازلين، وكثيرا ما كنت أثور على هذا التطفل الذي يضطرني إلى ترك غرفتي لإحدى الضيفات أو قبولها شريكة لي فيها، وكنت دائما أفضل الحالة الأولى؛ لأنني أتألم من بعض الروائح ومن عدم تجدد هواء غرفتي.
ناپیژندل شوی مخ