176

مذکرات هدی شعراوي

مذكرات هدى شعراوي

ژانرونه

نعم إن شخصية قاسم كانت شخصية بارزة عظيمة تزاحمت فيها صفات جمة، صفات القانوني الحكيم، والمصلح الخطير، والأديب القدير، والوطني الغيور، وكان حلية تلك الصفات شجاعته وإقدامه.

أيها السادة ... إذا حيينا في قاسم كل تلك المواهب الممتازة، ولا سيما بلاءه الحسن في تحرير المرأة، فلأننا نعتقد أن شعوره بواجب تحريرها وقيامه بالدفاع عنها والدعوة إلى تعليمها، لم يدفعه إليه مجرد احترامه للعدل والإنصاف فحسب بل وخالص حبه لمصر وتفانيه في رفع شأنها بين الأمم الحية، وهذه الغاية هي غايتنا نفسها التي ننشدها نحن معشر السيدات من وراء نهضتنا النسائية، ولو أمهله الموت وقدره قومه وأنصفه خصومه حينما شرع يطالب بتحرير المرأة ليتمم سلسلة إصلاحه، لخطت مصر خطوات واسعة من عشرين سنة مضت. ولكن القدر أبى علينا أن نتمتع بمواهبه السامية، فحاربه خصومه وخذله قومه وعاجلته المنية فكان موته خطبا فادحا، وقد كان من أمضى الأسلحة التي استعملها خصوم قاسم ضد مبدئه ما توهموه من تناقض بين رده على الدوق داركور وبين كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة، إذ إنه في كتابه الأول يدافع عن عادات بلاده ويحبذ تقاليدها، وفي كتابه الثاني يطالب بتحرير المرأة وفك قيودها. ولم يفهموا أنه في الحالة الأولى كان مدفوعا بعوامل الإصلاح والإخلاص لبلاده بعد تفكير عميق وبحث دقيق فيما يقتضيه النهوض، وكان مثله في رده مثل الرجل الأبي إذ مس شرفه بكلمة جارحة، دفعه إباؤه للزود عن كرامته، حتى إذا هدأ روعه وعاد إليه رشده، شرع يبحث في حقيقة ما وجه إليه. فإذا تبينه أمرا واقعا عمل على تداركه واستئصاله.

قرأ قاسم كتاب الدوق داركور «مصر والمصريين» الذي انتقد فيه كاتبه عاداتنا انتقادا مرا، وشنع علينا تشنيعا قاسيا، وحمل على الحجاب ونتائجه ومعاملة رجالنا لنسائنا حملة شعواء، قرأ قاسم ذلك الكتاب، فمرض عشرة أيام عقب قراءته لشدة تأثره وتألمه. ولعل بعض هذا التألم نشأ عن اكتشاف حقائق مؤلمة في غضون هذا النقد وكأنه لم ينتبه إليها من قبل بحكم العادة التي نشأ عليها، ومن ذلك الحين نبتت في نفسه فكرة تحرير المرأة المصرية وتعليمها انقيادا للحق وخضوعا لسنن الرقي.

وإذا علمتم أيها السادة أن هذا البناء الذي نحتفل فيه اليوم لإحياء ذكرى قاسم، شيده أحد خصومه بل أشدهم تمسكا بالقديم، أعني به ذلك المصلح الكبير والاقتصادي العظيم الذي يعد في طليعة رجال التطور ببلادنا، إلا وهو مدير بنك مصر محمد طلعت بك، فإذا علمتم ذلك، سلمتم بأن شأن كل مصلح الخضوع لسنن التقدم والرقي.

أيها السادة ... إذا تسنى لبني مصر أن يقيموا التماثيل لأولي الفضل من عظمائهم، وجب عليهم أن يذكروا أن قاسما في طليعة المصلحين المخلصين.

أيها السادة ... يظن البعض أن تعليم المرأة وإعطاءها حريتها يذهب بشيء من مميزاتها الطبيعية ويدخل في طباعها شيئا من الخشونة والرجولة، وقد وقع قاسم في خطأ ذلك الظن عند رده على الدوق داركور، إذ قال في دفاعه عن موضوع المرأة وهو يقارن بين الشرقية والغربية المتعلمة: (إن منظر الأم البارة يملك عواطفي ... ومنظر المرأة وهي قائمة بشئون بيتها يسرني، ولكني حينما أشاهد امرأة تبادرني وكتابها في يدها وتهز يدي بعنف صارخ: كيف الحال يا صديقي؟ أشعر نحوها بشيء لا يبعد عن النفور).

وقد تعلمون أيها السادة أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه.

وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.

هذا عدا ما تجنيه الأمة من الفوائد العظيمة التي تنتج من تناسب الجنسين في كل مظاهر الحياة، ولست أشك في أن قاسما أدرك هذه الحقيقة أخيرا، فكانت من العوامل التي دفعته للمطالبة بتحرير المرأة وتعليمها، فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن المرأة وعن الوطن خير الجزاء.

خلفاء قاسم أمين

ناپیژندل شوی مخ