مسكينة هاته النفوس ما أصغرها وأحقرها وأضيق آفاقها! كنا اليوم بدروس الأستاذ «مسيو لاموت» الذي ندرس عليه دروس «العقود المسماة». ولما جاء الأستاذ، وأراد الشروع في درسه، أراد أن يحدثنا عن «العقل الباطن» و«العقل الواعي» اللذين طالما حدثنا عنهما. وفتح جريدة «السياسة الأسبوعية» ودعا أجهرنا صوتا لتلاوة فصل بها يتعلق بالموضوع وبسطه. وما إن أخذ التلميذ في تلاوة الفصل، وأخذ الأستاذ في تبيينه حتى رأيت بسمات هازئة ووجوها سائمة وملامح متضجرة؛ ذلك لأنها نفوس ألفت أن تعيش في منطقة ضيقة من مناطق الحياة والتفكير، لا تستطيع أن تحيا في سواها أو تعدوها. لم تألف غير علوم «جامع الزيتونة» وأساليبه. ولم تقرأ من غير ذلك إلا دروس الحقوق. مسكينة هاته النفوس مسكينة ...!
وبعد أن أتم الأستاذ درسه. خرجت صحبة رفيقين أحدهما مدرسي مثقف ثقافة عربية طيبة، والآخر زيتوني. وأخذنا نتحدث عن أعمال العقل الباطن في الحلم.
فقال صاحبي: إنه حل مسألة هندسية غامضة في نومه، مع أنه لم يستطيع حلها في يقظته، رغما عن تفكيره فيها أسبوعا كاملا. فحدثته أنا عن نظمي الشعر في المنام، وقصصت عليه أنني نمت مرة فرأيت منظرا غاية في الروعة والبهاء وسحر الجمال، دفعني إلى أن أقول الشعر فيه.
رأيت أولا أن في الأفق قطعا من الغيوم منثورة، ويحيط بكل قطعة إطار من نور كلون الشفق، ثم تلاشى هذا المنظر، فإذا بي في قصر منفرد وبجانبي غادة رعبوب مرخاة الذوائب، وعلى السماء حجاب من غمامة كثيفة بيضاء. ثم انهل المطر من السماء وفاض من الأرض، ولكن بكيفية غريبة لم أشاهدها ولن أشاهدها. ذلك أن السماء لم تكن تمطر مطرا عاديا، ولكنه مطر يشابه رغوة الموج في بياضه، وكانت الأرض تفيض بمثل تلك الأمواج التي تخالط ما تنزله السماء، فكان من اختلاطهما منظر عجيب رائع لا أستطيع أن أصفه ولا أن أنساه.
وقال صديقي: إنه كثيرا ما شاهد النجوم قد تألفت وتراكبت وتألف منها كلام مسطور يخيل إليه أنه يحتوي سر العالم.
فقلت له يا صديقي: «إنني لا أظن الأحلام إلا ضربا من تعلات الحياة التي تكون لنا في يقظتنا آمالا وفي سناتنا أحلاما، فالعقل الباطن الذي تختزن فيه صورة من صور الآمال البعيدة، لا بد أن يحتال على إظهارها كشيء حقيقي، ولو في عالم الأحلام. فالنجوم والتفكير المتواصل فيها، ومسألة نفسك عن سر العالم، هو الذي جعلك تشاهد في أحلامك ذلك المشهد الغريب. وشغفي بجمال الطبيعة وأهوالها هو الذي أعطاني في الحلم تلك الصورة الغريبة وذلك المرأى البهيج.»
ثم انتقل بنا الحديث إلى «السدم» وأقسامها، وجاذبيات النجوم، ثم إلى فلسفة أنشتاين الفيلسوف الألماني الكبير، هاته الفلسفة التي تحاول أن تقلب ما اطمأنت إليه أدمغة الفلاسفة والطبيعيين رأسا على عقب، هاته الفلسفة التي مثلها في الفلسفة المادية مثل الفلسفة «اللا أدرية» في مذاهب الفلسفة الأخرى.
الأربعاء 5 فيفري 1930
ذهبت إلى القدماء صحبة بعض الرفاق الأدباء، فوجدت هناك طائفة من الإخوان. وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن تلك المعركة التي حمي وطيسها ليلة الأمس. وحدثنا الأخ عثمان الكعاك عن المواضيع التي عينتها كلية الآداب بفرنسا لمن يريدون الإحراز على شهادة التبريز «اقريقاسيون» في الآداب العربية ومن بينها: (1)
الشعر الغرامي في الأدب الجاهلي. وما هي ميزاته وخصائصه؟ (2)
ناپیژندل شوی مخ