وما هي إلا ساعة حتى دخل أمين مال القدماء فشارك الناس فيما هم فيه، ثم تطور الحديث وأخذ مجرى آخر غير ما كان عليه. طلب رئيس القدماء من السيد بوسن أمين مال القدماء أن يدفع فرنكات 150 في مقابل تلقي ابنه دروسه بالخلدونية ستة أشهر، وأن يبقيها أمانة عند رئيس القدماء إلى أن يقتطع باسمه وصلا، فما كان منه إلا أن أدخل يده في جيبه وسلم المقدار إلى رئيس القدماء. وإذ ذاك صاح رئيس الخلدونية ضاحكا: سترى اسمك في الجرائد معلنا عنه أنه تبرع على الخلدونية بمائة وخمسين فرنكا لأن الخلدونية تعطي دروسها مجانا. وعندها قال رئيس القدماء: بل أحتجزها للقدماء كشيء متبرع به عليها من أمين مالها.
فكانت مشادة بين الأخوين الرئيسين فيها كثير من الدعابة والجد؛ كل يدعي أن جمعيته جديرة به. ولم يحسم الخلاف إلا بكلمة من سي بوسن بأنه يتبرع على كل من الجمعيتين بهذا المقدار. وهنا كان هتاف ودعوات وبسمات، انهالت على رأس أمين المال قبل الرئيسين الحاضرين ممزوجة بشيء من اللهو البريء. وإذ ذاك قام الأخ زين العابدين السنوسي معلنا للجماعة نبأ جديدا عن سي حمودة بوسن كما يقول الأخ بتعبيره. هذا النبأ هو أن «سي حمودة» تبرع بمبلغ قدره ثلاثة آلاف فرنك لتكون جائزة تخصص لبحث أدبي يتسابق فيه الأدباء التونسيون، وزاد على ذلك مخاطبا أمين المال: «إنني يا سي حمودة العزيز، ويا نوبل تونس الكريم، سأخصص لك ولجائزتك صحيفة من «العالم» تحلى برسمك ويجعل عنوانها هكذا: «جائزة بوسن». كما يستعمل الغربيون «جائزة نوبل»، من دون تحلية ولا زيادة.»
ولقد هزتني أريحية هذا الرجل الفاضل النبيل الطيب القلب بصورة لم أستطع طبع عواطفي، فنهضت من مكاني وجلست إزاءه أشكره على مبراته. وبعد ذلك أخذنا في تعداد أسماء الأفراد الذين يستحسن أن تتكون منهم لجنة التحكيم. فعددنا أفرادا كان من بينهم الأخ زين العابدين السنوسي بطلب منه وإلحاح في ذلك، وإثر ذلك قال الأخ زين العابدين السنوسي: «سأحدثكم بنبأ جائزة أخرى أدبية، ولكنها دون هذه في المنزلة، هي جائزة مالية تبرع بها فاضل آخر لتنشيط الأدب، وإن كان في استطاعة هذا الفاضل أن ينشطه بأكثر مما نشطته به؛ إذ إنه مثر وفي الدرجة الأولى من الثراء.» ثم قال موجها خطابه لحضرة أمين المال: «ولكن الله لم يرزقه ثراء في قلبه على نسبة ثراء جيبه. أما أنت يا سي حمودة الغالي، فقد أعطاك الله ثروة في القلب، وأخرى مثلها في الجيب». فقال له ذلك الرجل الطيب القلب: «عدي عن ذا يا سي الزين». ثم قال الأخ زين العابدين: وفي عزمي أن أفتح اكتتابا حتى تصير الجائزة ثلاثة آلاف فرنك أخصصها لمسابقة روائية تونسية، وتكون الجائزة جائزة «العالم». وفي ذلك الوقت تذكر أنه قد نبهه قيم القدماء إلى أن رجلا يريد مقابلته، فذهب.
ولما خرج التفت إلي سي حمودة بوسن وقال: «إن سي زين العابدين يقول كثيرا وأنا أخاف من المكثرين». فقلت له: إن سي الزين يقول كثيرا ولا يعمل. ثم ندمت على تسرعي بمثل تلك الجملة؛ لأن الأخ زين العابدين نشيط كالنملة، حريص كالأرض، ولا يصبح قوالا غير عامل إلا إذا لم يجد مجالا للعمل. فإنه يندفع في القول الكثير وكأنه يعلل بذلك نفسه الظامئة، وآماله الفساح.
ولما عاد الأخ زين العابدين كان مبتهجا ضاحكا. وصاح بقيم القدماء: «هات أربع كاسات طرنجية والدفع علي». ولما شربناها خرجنا، وأنا مبتهج أعظم الابتهاج؛ إذ رأيت الناس في تونس قد أخذوا يشفقون على الأدب، ويعملون على تشجيعه والنهوض به إلى مستواه بمختلف الوسائل. ثم افترقنا ونفسي تفكر بالأوساط التونسية، فإذا بي ما ألتفت إلى ناحية من نواحي الحياة التونسية إلا وأجد فيها نشاطا وحركة ونهوضا مما يبشر بأننا الآن في عصر انتقال وتطور ستشمل حركته كل ضروب الحياة في تونس. حقق الله الأمل، فقد طال هذا الظلام!
الثلاثاء 7 جانفي 1930
أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة من يطوف مجاهل الأرض، ويجوب أقاصي المجهول، ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا.
غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسرة النوم الناعمة، فإذا جاء الصباح وحدثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام، وحدثهم في أناشيده عن خلجات النجوم ورفرفة الأحلام الراقصة بين التلال، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا من يفقه أغاني روحه.
الآن أدركت أنني غريب بين أبناء بلادي. وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر، فترتل أغاني أرواح الشباب المستيقظة، وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد ...
ناپیژندل شوی مخ