د جغرافیایي یادداشتونه
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
ژانرونه
18
وكان الفينيقيون يرون في ذلك رأي غيرهم من الشعوب مع كونهم أدخلوا البحر في تاريخ العالم. وبينما نشاهد اليوم التجارة مترتبة على الملاحة، منوطة بها في المعاملات، كانت على عكس ذلك في الزمن القديم، برية محضا، فلا نرى أنه خطر على بال أحد أن يصرف القناطير المقنطرة لفتح قناة كقناة سويس أو قناة بناما، فإن نظرت مثلا إلى الحميريين، وكان لا يفصلهم عن مصر إلا بحر صغير، ترى أنهم كانوا يفضلون على هذا السفر القصير في بحر القلزم طريقا بعيدة، كانت القوافل تتبعها فتسير على سيف البحر إلى وادي موسى، ثم إلى غزة، وهي الطريق التي كان يسلكها العرب إلى زمن أبي سفيان، وإلى أوائل تاريخ الهجرة، ولعلهم لم يختاروا البحر للأخطار التي كانت تتهددهم في البحر الأحمر، والسفر فيه صعب لكثرة صخوره، وتعدد مجاريه وشواطئه الرملية، فضلا عما كان في سواحله من القرصان أو اللصوص، الذين يهجمون على الغرقى فينهبونهم أو يستعبدونهم.
19
من أراد أن يدرك ما أكسب سورية سابقا حسن موقعها من المنافع الاقتصادية - حيث كانت الطريق الواصلة بين الشعوب - يجب عليه أن يجرد فكره عما استفدناه اليوم من الأحوال الحاضرة، وترقي المواصلات البحرية التي أضحت في عهدنا الطريق اللاحبة التي تضم الأمم العاملة إلى بعضها، كما صرح بذلك آخرا جلالة الملك ليوبلد الثاني ملك بلجكة.
إن أقرب الطريق وآمنها لتجارة الهند قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح، إنما كانت الطريق البرية على مسير وادي الفرات، أما في وقت الحروب، فكثيرا ما كانت تنسد هذه الطريق المثلى بين البحر المتوسط وخليج العجم في وجه القفول التجارية، فتستبدلها بطرق أخرى كثيرة العقبات ذات أخطار جمة، وهي طريق بحر القلزم أو جزيرة العرب، لكن هذا البحر لم يتجاسر أحد أن يتجشم أخطاره قبل أن يتوفق هيبالوس إلى اكتشاف الرياح المنظمة، التي تعرف ب «المواسم»،
20
وذلك في القرن الأول للمسيح، ومذ ذاك الحين فقط جرت بحرا معاملات بين الهند وسواحل اليمن ومرافئ بحر القلزم مباشرة، أما الطريق البرية التي كانت تقطع صحاري العرب، فهي التي أكسبت أهل الجزيرة غنى وازدهارا، لا سيما السابئين والنبط والحميريين والقريشيين.
والفضل كل الفضل للفينيقيين؛ إذ سبقوا فأدركوا ما للطريق البرية من عظم الشأن، فإن ثروة الهند ومرافق الشرق الأقصى ما كانت لتجد سبيلا أوفق تجري فيه لتبلغ إلى مركز العالم المتمدن، وأدركوا فوق ذلك أنه أجدى إليهم ربحا لو استلموا تلك المحصولات الجليلة في محطاتها البعيدة؛ ليخففوا بذلك عناء القوافل، ويقتصروا بعض المراحل من طرقها الطويلة؛ رغبة في ضبط البضائع والتصرف فيها قبل غيرهم. ومما فطر عليه آل فينيقية ارتياحهم إلى الدلالة، فإنهم كانوا نعم السماسرة، يتوسطون بين الباعة والمشترين ولا يريدون بينهم وبين الباعة وسيطا، فتتضاعف بذلك أرباحهم؛ إذ يشترون رخيصا ويبيعون غاليا، فعليهم المعول في كل المعاملات التجارية لا يزاحمهم فيها أحد، ولا يقف المراقب على حقيقة متاجراتهم، وبذلك أضحوا أرباب التجارة يدركون كنه أسرارها، ولا يفوتهم شيء من وجوهها.
وهذه المتاجرات عينها حدت بالفينيقيين إلى تجهيز القوافل البرية وقيادتها، فنالوا بذلك قصبة السبق على من سواهم؛ لأن الطرائق التجارية في سالف الأزمان كانت مباينة لطرائقها اليوم،
21
ناپیژندل شوی مخ