بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن
ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)
المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(المتوفى ٩١١ هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الطبعة الأولى: ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
عدد الأجزاء: ٣
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مصدر الكتاب نسخة مصورة قام الشيخ الجليل نافع - جزاه الله خيرا - بتحويلها
وقام الفقير إلى عفو ربه الكريم القدير بتصويبه
والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول عبيد الله سبحانه عبد الرحمن بن جال الدين السيوطي عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه أرحم الراحمين:
الحمد لله الذي جعل معْجزَاتِ هذه الأمَّةِ عَقْلِيَّةً؛ لفَرْطِ ذَكائهم، وكمال
أفهامهم، وفَضْلِهم على مَنْ تقدمهم، إذ معجزاتهم حِسيّة لبلاَدتهم، وقلَّةِ
بَصِيرتهم، نَحْمَده سبحانه على قوله لرسوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وخَصّه بالإعانةِ على التبليغ فلم يقدر أحدٌ منهم
على معارَضَتِه بعد تَحَدِّيهم، وكانوا أَفصحَ الفصحاءِ وأبلَغ البلغاء، وأمهلهم طولَ السنين فعجزوا.
وقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
فأخبر تعالى أَنَّ الكتابَ آية من آياتِه قائمٌ مقامَ معجزاتِ غيره من الأنبياء
لفَنَائها بفَنَائهم.
وكانوا أحرصَ الناسِ على إطفاء نُورِه، وإخفاء، أمْرِهِ، فلو كان
في مقدرتهم معارضَتُه لعدلوا إليها تقويةً لحججهم، بل عَدلوا إلى العِنَادِ تارةً
وإلى الاستهزاء أخرى، فتارةً قالوا: ساحِر، وتارة قالوا: أساطيرالأولين.
كلّ ذلك مِنْ تَحَيّرِهم، ثم رضوا بتحكيم السَّيْفِ في أعناقهم، وسَبْيِ ذَرَارِيهم، وحُرمهم، واستباحة أموالهم، فنصب لهم الحَرْبَ ونصبوا له، وقتَل مِنْ عِلْيَتِهمْ
1 / 3
وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بأن يَاتُوا بسورةٍ واحدة وآياتٍ يسيرة، إذ هي أنْقَض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغُ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعِهِ مِنْ بَذْلِ نفوسهم وخروجهم من أوطانهم، مع أنهم أشدّ الخَلْق أَنَفَةً، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سَيِّدُ عملهم، فحين لم يجدوا حِيلَةً ولا حجًّة قالوا له: أنْتَ تعرف مِنْ حال الأمم ما لا نَعْرِف، فلذلك يمكنُك ما لا يمكننا.
فقال لهم: هاتوها مفتريات لتَبْكِيتهم، فلم يرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر، ولا طبع منه أو تكلّفه، ولو تكلَّفَة لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد مَن يستجيره ويحميه، نصْرَةً لدِينهم، بل أظهر الله دينَه، وخرق العادةَ في أسلوبِ كلامهِ وبلاغته وحلاوتهِ، حتى التَذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهْوِ في لهوِهم، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر، كما قال ﷺ: " ما مِن الأنبياء نَبِيءٌ إلاّ أعطي من الآيات، ما مثْله آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي
أوتيته وَحْيًا أوْحَاه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يَوْمَ القيامة ".
فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي أدى الأمانةَ، ونصح أمّتَه
إلى رشدهم وهدايتهم، فهو أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضِيَ الله تعالى عن
أصحابه وأتباعِه الذين نَصَروة بأنفسهم وأموالهم.
أما بعد فإنَّ إطلاقَ السَّلَفِ ﵃ على كلامِ اللهِ أنه محفوظ في
الصّدور، مقروءٌ، بالألسنة، مكتوب في المصاحف هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليس يعنون بذلك حلولَ كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك، وإنما يريدون أنَّ كلامَه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان، وكلام الجَنَان، وكتابة البنَان، فهو موجود فيها حقيقة وعِلْمًا لا مدلولًا، لأنَّ الشيءَ له وجودات أربع: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، ووجود في اللسان، ووجود بالبَنَان، أي بالكتابة بالأصابع، فالوجودُ الأول الذات الحقيقي، وسائر الوجَودات إنما هي باعتبار الدلالة والفَهْم.
وبهذا تعرف أنَّ التلاوةَ غير المتلوّ، والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب، لأنَّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث، والثاني منها قديم لا نهاية له.
1 / 4
وقد أفرد علماؤنا ﵃ بتصنيف إعجاز القرآن، وخاضوا في وجوهِ إعجازِه كثيرًا، منهم الخطابي، والرمّاني، والزَّمْلَكاني، والإمام الرازي، وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقِلاني، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين.
والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن
إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن
وصفها، وكالملاحة.
وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما.
وقال الأصبهاني في تفسيره: اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه.
والثاني بصرف الناس عن معارضته، فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه.
أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم، قال تعالى: (قرْآنًا عَرَبِيًّا) .
(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ) . ولا بمعانيه، فإن كثيرًا منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) .
وما هو في القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد،والإخبار بالغيب، فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم، ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بالمغيب
سواء كان بهذا النظم أو بغيره، مورَدًا بالعربية أو بلغة أخرى، بعبارة أو إشارة، فإذًا فالنظم المخصوص صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصره، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالقرط والخاتم والسوار، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها، لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد، فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتمًا،وإن كان العنصر مختلفًا.
وإن اتخذ خاتم وقرْط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا.
قال: فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المحصوص.
1 / 5
وبيان كون النظم معجزًا يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم
مخالف لما عداه من النظم.
فنقول: مراتب تأليف الكلام خمس:
الأول: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث
الاسم والفعل والحرف.
والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض، فتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جيعأ في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.
والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مَبَادٍ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم.
والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له السجع.
والخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن، ويقال له الشعر.
والمنظوم إما محاورة، ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة، فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص.
والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم لشيء منها، يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم.
ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) .
تنبيهًا على أن تأليفه ليس على هيئة نظْم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى.
قال: وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضًا إذا
اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة كانت محمودة أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم
مناسبات خفية واتفاقات فعلية، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف
1 / 6
فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مباشرتها، فيقبلها بانشراح صدر
ويزاولها بقلبه.
فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني
بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا
لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهيًا صرفهم عن ذلك.
وأيُّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة، مصروفة في الباطن عنها.
فإن قلت: هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة أم لا؟
فالجواب ظهور ذلك على النبي ﷺ يعلم ذلك، ضرورة، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال.
قال أبو الحسن الأشعري: والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم
إعجازه إلا استدلالًا، وكذلك من ليس ببليغ.
فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.
فإن قلت: إنما وقع العجز في الإنس دون الجن؟
فالجواب أن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله تعالى: (قلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنْس وَالْجِنّ.
..
) تعظيما لشأنه، لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرِض إجماع الثقلين، وظاهر بعضهم بعضا، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم: بل وقع للجن أيضًا والملائكة منويون في الآية، لأنهم لا
يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن.
وقال الرُّماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر في الآية على ذكر الجن
والإنس، لأنه ﷺ كان مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة.
1 / 7
فإن قلت: قد قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢) .
وقد وجدنا فيه اختلافا وتفاوتا في الفصاحة، بل نجد فيه الأفصح والفصيح.
والجواب أنه لو جاء القرآن على غير ذلك لكان على غير
النمَط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتم الحجة في الإعجاز، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلًا: أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري، لأنه يقول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرًا على النظر، وكان نظري أقوى من نظرك، فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح مني المعارضة.
وقيل: إن الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون - مع أن الشعر الموزون من الكلام رتْبَته فوق رتبة غيره - إن القرآن منبع الحق، وجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخييل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق، وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله نبيه ﷺ عنه، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب: شِعْريّة.
وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متَدَيِّن صادق اللهجة مُفْلق في شعره، وأما ما
وجِد في القرآن مما صورته صورة الموزون
فالجواب عنه أنْ ذلك لا يسمى شعرًا، لأن من شرط الشعر القصد، ولو كان شعرًا لكان من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعرًا، فكان الناس كلهم شعراء، لأنه قل أن يخلو كلام أحد عن ذلك.
وقد ورد ذلك على الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته
والطعن عليه، لأنهم كانوا أحرص شيء على ذلك، وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصْوى في الانسجام.
وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعرًا.
وأقل الشعر بيتان "فصاعدا.
وقِيل الرجز لا يسمى شعرًا أصلا.
وقيل:أقل ما يكون من الرجز شعرًا أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال.
1 / 8
قال الغزالي: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف
الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه بعضه بعضًا، أو لا يشبه أوله آخره، أو بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، وهو مختلف النّظْم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منَزة عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم يناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق بمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفُهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمراسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، ثم في أصل الفصاحة، حتى يشتمل على الغَثّ والسمين، ولا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأغراض على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يذمون الجبْنَ ويسمونه ضَعْفًا، وتارة يمدحونه ويسمونه حزمًا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها
صرامة، وتارة يذمونها ويسمونها تهورًا.
ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف
الأغراض والأحوال.
والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر
عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه
أخرى، فيوجب ذلك اختلافًا في كلامه بالضرورة، فلا يصادَف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة - وفي مدة نزول القرآن - فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد.
وقد كان النبي ﷺ بشرًا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
1 / 9
فإن قلت: هل يقال إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟
فالجواب ليس شيء من ذلك معجزًا في النظم والتأليف، وإن كان معجزًا
كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب.
وإنما لم يكن معجزًا لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز.
وقد ذكر ابن جنيّ في الخاطريات في قوله تعالى: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) .
أن العدول عن قوله: وإما أن نلقي لغرضين:
أحدهما - لفظي، وهو المزاوجة لرؤوس الآي.
والثاني - معنوي، وهو أنه تعالى أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم على موسى، فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منهم في إسنادهم الفعل إليه.
تم أورد سؤالا، وهو أنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان، فنذهب بهم
هذا المذهب من صنعَة الكلام.
وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون
الخالية إنما هو معرَّب عن معانيهم، وليس هو بحقيقة ألفاظهم.
ولهذا لا يشك أن قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) .
إن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.
قال أبو حيان التوحيدي: سئل بُندار الفارسي عن موضع الإعجاز من
القرآن، فقال: هذه مسألة فيها حَيْف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولكم موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقدت حقيقته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا ئشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوِله، وأهدى لقائله، وليس
1 / 10
في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت
البصائر عنده.
فإذا علمت عَجْزَ الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟
لكنا نذكر بعضها تَطَفلآَ على من سبق، فإن كنتُ لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعَدّ من فرسانهم لعَمْرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف
بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن كانت بعض الأوجه لا تعد عن إعجازه
فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك.
فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه في دار كرامته بخلق سَمْع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم، فإنه منعه في هذه الحياة الدنيوية لذيذَ المناجاة له بسبب ذنوبه، مصداقه قوله تعالى: (سأصْرِف عَنْ آياتِي الّذِينَ يتَكَبَّرونَ فِي الْأرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) .
وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى ﵇ أنه كان يسد أذنيه لئلا
يسمع كلام الخلق، إذ صار عنده أشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة، حتى لم يكن يستطيع سماعه بِحِدْثان ما ذاق من اللذات التي لا يحاطنها ولا
تكيَّف عند سماع كلام من ليس كمثله شيء جل وعلا.
ولولا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن
أن يأنس إلى شيء من المخلوقات أبدًا، ولما انتفع به أحد، فسبحانه من لطيف، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله!
ومن أعجب الأمر في هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدمًا
محضًا عند اطلاعها من ذي الجلال عما اطلعت عليه، لولا أنه أثبتها وأمسكها، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر - وإن من الأبدال - أنه رأى مرة في نومه حوراء كلمته فبقي نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلامًا إلا تقيأه.
فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذي هو
من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام
1 / 11
الناس، إذ لا تجد من يتقيأ من سماع صوت الحمير أو الكلاب، ولو سمعته إثر
سماعك أفصح كلام وأعذبه، فكيف نسبة كلام الخلق إلى كلام الخالق الذي
جلّ عن المثل في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقال أيضًا ﵁: دخلت مسجد نبيء بالإسكندرية بالديمان، فوجدت النبيء المدفون هناك قائمًا يصلي، عليه عباءة مخططة، فقال: تقدم فَصَلِّ!
قلت له: تقدم أنت فَصَلِّ.
قال: إنكم من أمة نبيء لا ينبغي لنا التقدم عليه.
قال: قلت له: بحق هذا النبي - وقد وضع فمه على فمي إجلالا للفظة النبي كي لا تبرز في الهواء - قال: فتقدمت وصليت.
فانظر إلى هذا المصاب الحالّ بنا في عدم احترامنا لذكر هذا الرسول
والكتاب المنزل عليه، فقف به على قدم الاعتذار، واكشف رأس التَجَبّر
والاستكبار، ونادِ بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)، لعلك تسمع كلامه إذ
تشفعتَ إليه بكلامي فأنت من المقبولين، وتنال بذلك الفوز مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين، وحاشاك نسيان أخيك الجالب لك من أسرار كلامه تعالى ما تزيد فيه حلاوته والنظر فيه يزيدك لى محبة.
*******
(من وجوه الإعجاز)
الوجه الأول من وجوه إعجازه
وكيف لا وقد احتوى على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا
أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة.
قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكتَاب مِنْ شَيْء) .
وقال: (وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتَابَ تِبْيَانًا لكلً شيْء) .
وقال ﷺ: ستكون فتن.
قيل: وما المخرج منها، قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.
أخرجه الترمذي وغيره.
وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن مسعود، قال: من أراد العلم فعليه
بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين.
1 / 12
قال البَيْهَقِي: يعني أصول العلم.
وأخرج البيهقي عن الحسن، قال: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع
علومها أربعة منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة في الفرقان.
وقال الإمام الشافعي ﵁: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع
السنة شرح للقرآن.
وقال أيضًا: جميع ما حكم به النبي ﷺ فهو مما فهمه من القرآن.
ويؤيده قوله ﷺ: " إني لا أحِلّ إلا ما أحلّ الله في كتابه، ولا أحَرِّم إلا ما حرم الله في كتابه ".
أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم.
وقال سعيد بن خبَيْر: ما بلغني حديث عن رسول الله ﷺ على وجه إلا وجدتُ مِصْداقه في كتاب الله.
وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقال الشافعي أيضًا: لَيْسَتْ تَنْزِل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله
الدليل علي سبيل الهدى فيها.
فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداءً بالسنة، قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب
الله في الحقيقة، لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول ﷺ، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة: سَلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.
فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن
1 / 13
حذيفة بن اليمان عن النبي ﷺ أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.
وحدثنا سفيان عن مِسْرَ بن كِدَام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن
شهاب، عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
وأخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشِمَة والمستوشمة، والمتنَمِّصَات والْمُتَفَلِّجات للحسن، المغَيًرات خلق الله.
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت له: بلغني أنك لعنت كيْتَ وكيت! فقال: ومالي لا ألعن مَنْ لعنه رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله، فقالت: "قد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول".
قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه.
أما قرأت: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
قالت: بلى.
قال: فإنه قد نهى عنه.
وحكى ابن سرَاقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد، أنه قال: ما
شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله ﷿، فقيل: فأين ذكر الخانات، قال في قوله ﷿: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) .
فهي الخانات.
وقال ابن برّجَان: ما قال النبي ﷺ
من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قَرب أو بعد، فَهمَه مَنْ فَهمَهُ، وعَمِيَ عنه من عمي، وكذا كل ما حكم أو قضى به، وإنما يدركه الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهّمه الله، حتى
إن بعضهم استنبط عمْر النبي ﷺ ثلاثًا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) .
فإنها رأس ثلاث وستين سورة وأعقبها بالتغابن في فقده.
وقال أبن أبي الفضل المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم
يحط بها علمًا حقيقة إلا واهبها والمتكلم بها، ثم رسول الله ﷺ: ما خلا ما استأثر به
1 / 14
سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء
الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، حتى قال: لو ضاع لي عِقَال بعير لوجدته في كتاب الله.
ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك، من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه، فسمّوا القراء.
واعتنى النحاةُ بالمعرب منه والمبنيِّ من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة
وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال واللازم
والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما تعلق به، حتى إن بعضهم أعرب
مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظا
يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حُكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأعمل كلّ فكره، وقال بمقتضى نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وقِدَمه، وبقائه، وقدرته وعلمه، وتنزهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما
1 / 15
يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنبطوا منها أحكام اللغات من الحقيقة
والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار، والنص والظاهر والمجمل، والمحكم
والمتشابه، والأمر والنهي، والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيحَ النظر وصادقَ الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرَّعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنًا، وسموه بعم الفروع وبالفقه أيضًا.
وتَلَمَّحَتْ طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا
أخبارهم، ودوّنوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير
والتبشير، وذكْر الموت والْمَعَاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار، فصولًا من المواعظ، وأصولًا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
واستنْبَط قوم مما فيه من أصول التعبير مثْلَ ما ورد في قصة يوسف في
البقرات السمَان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عزّ عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فَمِنَ الْحِكَم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرْف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: (وَأمُرْ بِالْعُرْفِ) .
وأخذ قوم ما في آية المواريث من ذكر السِّهَام وأربابها وغير ذلك، وسموه
الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثَّمْن
حسابَ الفرائض ومسائل العَوْل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
1 / 16
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحِكَم الباهرة، في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه
المواقيت.
ونظر الكتابُ والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحُسْن
السياق، والمبادي والمقاطع، والخالص، والتلوين في الخطاب، والإطناب
والإيجاز، وغير ذلك، فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أربابُ الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان
ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور، والخوف، والهيبة، والأنس والوحشة، والقَبْض والبسط، وما أشبه ذلك - هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخَر من علوم الأوائل، مثل، الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك.
أما الطبُّ فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون
باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة.
وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله: (وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) .
وعرّفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوثَ الشفاء للبدن بعد
اعتلاله في قوله: (شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) .
ثم زاد على طلب الأجساد طِبَّ القلوب وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السماوات
والأرض وما بثّ فيها في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ففي قوله: (انْطَلِقُوا إلى ظِل ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ.
..) .
وأما الجدَل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول
1 / 17
بالموجب والمعارضة، وغير ذلك، شيئًا كثيرًا.
ومناظرة إبراهيم نُمْرُود ومحاجّته قومه أصل في ذلك عظيم.
وأما الجَبْر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مُدَد وأيام وأعوام
لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة الدنيا، وما
مضى، وما بقي، مضروب بعضها في بعض.
وأما النِّجامة ففي قوله: (أو أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) .
وقد فسره بذلك ابن عباس.
وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، كالخياطة في
قوله: (وَطَفِقَا يخْصِفَان عليهما) .
والحِدَادة: (آتُوني زُبَرَ الحديد) .
(وَألَنَّا له الْحَديد) .
والبناء في آيات.
والنًجارة: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِاعْيُنِنا) .
والغَزْل: (نقضَتْ غَزْلَها) .
والنسج: (كمثَلِ العَنْكَبُوت اتًخَذَتْ بَيْتًا) .
والفِلاَحة: (أفرأيْتُمْ مَا تَحْرُثون) .
والصيد في آيات، والغَوْص: (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) .
(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) .
والصياغة: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) .
والزّجَاجَة: (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) .
(مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) .
والفخارة: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) .
والملاحة: (أما السفينة) .
والكتابة: (علَّم بالقلم) .
والْخَبْز: (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا)
والطبخ: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)
والغسل: (وثيابك فَطَهرْ) .
والقِصَارة: (قال الحواريون)، وهم القصّارون.
والجزارة: (إلا ما ذَكَّيْتُمْ) .
والبيع والشراء في آيات.
، الصبغ: (صِبْغَةَ اللهِ) . (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) .
والحجارة: (وتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بيوتًا)
1 / 18
والكيالة والوزن في آيات.
والرّمْي: (وما رمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ) .
(وأعِدُّوا لهم ما استطعتُمْ مِنْ قوة) .
وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع
ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . انتهي من كتاب المرسي ملخصًا.
وقال ابن سراقة في وجوه إعجاز القرآن: ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب
والجمع والقسمة والضرب، والموافقة والتأليف، والمناسبة والتصنيف، والمضاعفة،ليعلم بذلك أهلُ العلم بالحساب أنه ﷺ صادق في قوله: إن القرآن ليس من عنده، إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تَلَقَّى أهْلَ الحساب وأهلَ الهندسة.
وقال الراغب: إن الله تعالى كما جعل نبوءة النبيين بنبينا ومولانا محمد ﷺ مختتمة وشرائعهم بشرعته من وجه مُنْتَسخة، ومن وجهٍ متممة مكملة جعل كتابه المنزل عليه متضمنًا لثمرة كتبه التي أولها: أولئك على هُدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
وقوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) .
وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه - مع قلة الحجم - متضمن للمعنى الجم، بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلات الدنيوية عن استيفائه، كما نبه عليه بقوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) .
فهو وإن كان لا يخلو الناظر فيه من نور ما يوريه ونفح ما يوليه:
كالْبَدْرِ من حيث التفتَّ رَأيْتَه ... يُهْدِي إلى عينيك نورًا ثاقبا
كالشمس في كَبِد السماء وضوءُها ... يَغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم، قال: قيل لموسى
﵇: يا موسى، إنما مثل كتاب أحمد في الكتب المنزلة بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مَخَضْتَه أخرجت زُبْدته.
1 / 19
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما
وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف، على عدد كَلِم القرآن مضروبة
في أربعة، إذ لكل كلمة ظَهْر وبطن، وحد ومقطع.
وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينهما من روابط، وهذا مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله.
وأتم علوم القرآن ثلاثة: توحيد. وتذكير. وأحكام.
فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات، وصرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله.
والتذكير منه الوعد
والوعيد، والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن.
والأحكام منها التكاليف كلها، وتبيين النافع والضار، والأمر والنهي والندب، ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن، لأن فيها الأقسام الثلاثة.
وسورة الإخلاص ثلثه، لاشمالها على أحد الأقسام الثلاثة، وهو التوحيد.
قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في كتاب "الإمام في أدلة الأحكام"
معظم آي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جليلة.
ثم من الآيات ما صرح فيها بالأحكلام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط إما
بأن ضَمّ إلى آية أخرى، كاستنباط صحة أنْكِحة الكفار من قوله: (وامرأتُه
حَمَّالَةَ الحَطَب) .
وصحة صوم الجُنب من قوله: (فَالآنَ بَاشِرُوهُن) ... إلى قوله: (حتى يتبيَّنَ لكم الْخَيْط ...) الآية.
وإما به كاستنباط أنَّ أقلَّ الحَمْلِ ستة أشهر من قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) .
مع قوله: (وفِصَالُه في عاميْنِ) .
قال: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر، وتارة بالإخبار مثل:
(أُحلَّ لكم) .
(حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ) .
(كُتِبَ عليكم الصيام) .
وتارة بما رتب عليها في العاجل والآجل من خير وشر، أو نفع أو ضر.
وقد نوعّ الشارعُ ذلك أنواعًا كثيرة، ترغيبا لعباده، وترهيبا وتقريبا إلى
أفهامهم، فكل فعل عظَّمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعِلَه لأجله، أو أحبّه
1 / 20
أو أحب فاعله أو رَضي به، أو رَضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب، أو أقسم به أو بفاعله، كالإقسام بالشَّفْع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوّامة، أو نَصَبه سببا لذكره لعبده، أو لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنُصْرَة فاعله، أو ببشارته، أو وصف فاعله بالطيّب، أو وصف الفعل بكونه معروفًا، أو نَفَى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نَصبَ سببًا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول لحصوله، أو وصفه بكونه قُرْبة، أو بصفة مدح، كالحياة والنور والشفاء - فهو دليل على مشروعيته المشركة بين الوجوب والندب.
وكلّ فعل طلب الشارع تركه أو ذمه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقَت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله أو الرضا به، أو عن فاعله، أو شبّه فاعله بالبهائم أو الشياطين، أو جعله مانعًا من الهدَى، أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جُعِل سببًا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس أو نجس، أو بكونه فِسْقا أو إثمًا، أو سببًا لإثم أو رجس، أو لَعْن أو غضب، أو زوال نعمة أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة أو خِزْي، أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو الاستهزاء به أو سخريته، أو جعله للَه سببًا لنسيانه فاعله، أو وصَفَ نفسبما بالصبر عليه، أو بالحم، أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعِلَه بخبث أو احتقار، أو نسبَه إلى عمل
الشيطان، أو تزيينه أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلمًا أو بغيًا، أو عدوانا أو إثمًا، أو تَبَرَّأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سببًا لخيْبَة فاعله عاجلًا أو آجلًا، أو رتّب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعلَه بأنه عدوّ لله أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه: لا ينبغي هذا أو لا يكون، أو
1 / 21