معجز احمد
اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
ژانرونه
بلاغت
يقول: هذا عتابك في الظاهر، ولكنه محبة لك، يعني لم أعاتبك إلا من محبتي إياك، فكلامه كالدر في الحسن والرونق والصفاء، وإن كان في الصورة كلامًا، وهو كقول أبي تمام:
تخال به مبردًا عليك محبرّا ... وتحسبه عقدًا عليك مفصّلا
والمصراع الأول من قول القائل:
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ومثل لآخر:
نعاتبكم يا أمّ عمرو لحبّكم ... ألا إنّما المقلىّ من لا يعاتب
فلما أنشد هذه القصيدة وانصرف، اضطرب المجلس، وقال له نبطي كان في المجلس: اتركني أسعى في ذمه، فرخص له في ذلك، والنبطي هو السامري، وفيه يقول أبو الطيب:
أسامريّ ضحكة كلّ رائي ... فطنت وأنت أغبى الأغبياء
صغرت عن المديح فقلت أهجى ... كأنّك ما صغرت عن الهجاء
وما فكّرت قبلك في محالٍ ... ولا جرّبت سيفي في هباء
فانصرف المتنبي فوقف له رجاله سيف الدولة في طريقه ليغتالوه، فلما رآهم أبو الطيب؛ وتبين السلاح تحت ثيابهم أمكن يده من قائم سيفه، وجاءها حتى خرقها، فلم تقدم عليه، ثم أنفذت الطير إلى أبي العشاير في أمره، فأنفذ عشرة من خاصته، فوقفوا بباب سيف الدولة أول الليل، وجاءه الرسول على لسان سيف الدولة، فسار إليه، فلما قرب منهم ضرب راجل منهم - بين أيديهم - إلى عنان فرسه، وسل أبو الطيب السيف، فوثب الراجل وتقدمت فرسه به الجيل، فعبر قنطرة كانت بين أيدهم واجترهم إلى الصحراء، فأصاب أحدهم نحرة فرسه بسهم فأنفذه، فانتزع أبو الطيب السهم، ورمى به. واستقلت الفرس وتباعد بهم ليقطعهم عن مدد - إن كان لهم - ثم رد عليهم بعد أن فنى النشاب، فضرب أحدهم فقطع الوتر وبعض القوس، وأسرع السيف في ذراعه ووقفوا على المضروب، فسار وتركهم. فلما يئسو منه، قال له أحدهم في آخر الوقت: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال: ومنتسب عندي إلى من أحبه وللنبل حولي من يديه حفيف الأبيات........ .
وعاد أبو الطيب إلى المدينة في الليلة الثانية مستخفيًا فأقام عند صديق له، والمراسلة بينه وبين سيف الدولة متصلة، وسيف الدولة ينكر أن يكون فعل ذلك، أو أسر به فعند ذلك قال أبو الطيب:
ألا ما لسيف الدّولة اليوم عاتبا ... فداه الورى أمضى السّيوف مضاربا
ألا تنبيه وما للاستفهام على جهة الإنكار، وعاتبا نصب على الحال ومضاربا نصب على التمييز، والعتب: أدنى الغضب.
يقول: ما باله اليوم قد عتب علي، جعل الله الورى فداء له، وقوله: أمضى السيوف مضاربا: هذه الجملة في موضع نصب على الحال، أي فداه الورى في هذه، أي في حال كونه أمضى السيوف.
وما لي إذا ما اشتقت أبصرت دونه ... تنائف لا أشتاقها وسباسبا!
التنائف: جمع تنوفة، وهي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف. والسباسب: جمع سبسب وهو الفضاء الواسع.
يقول: ما لي إذا ما اشتقت إلى لقائه حال بيني وبينه إعراضه. أقام عتب سيف الدولة مقام المفاوز التي يحتاج أن يقطعها، حتى يصل إلى مراده، كما أن المفاوز مانعة لمن أراد الحاجة، فكذلك عتبه مانع من مراده.
وقيل: ضرب التنائف والسباسب: مثلا للصد والمباعدة.
وقد كان يدني مجلسي من سمائه ... أحادث فيها بدرها والكواكبا
أي ماله أبعدني عن مجلسه؛ بعد أن كان يقربني منه، ويجعلني من جلسائه؟! لما جعله بدرًا جعل مجلسه سماء وجعل خصاله وأفعاله كواكب، وكذلك جعل ندماءه كواكب سمائه، والهاء في فيها وفي بدرها تعود إلى السماء.
حنانيك مسئولًا، ولبّيك داعيا ... وحسبي موهوبًا وحسبك واهبًا
حنانيك: أي تحننًا بعد تحنن، ومعناه الرحمة، معناه أسألك رحمة بعد رحمة وأرجو أن تضاعف على النعمة، ولبيك: أي إجابة بعد إجابة إذا دعوتني وحسبي موهوبًا: أي حسبي من جميع هباتك، أن تهب لي نفسي، وقيل: يكفني ما وهبت من المال، وحسبك واهبًا: أي كملت في هذه الصفة، فالكفاية واقعة في كونك واهبًا، لا يزاد معك إنسان آخر يكون واهبًا، وقيل: حسبك من جميع المناقب أن تكون واهبًا نفسي مني، ونصب حنانيك ولبيك على المصدر. أو بفعل مضمر، ونصب مسئولا وداعيًا وموهوبًا وواهبا على الحال.
أهذا جزاء الصّدق إن كنت صادقًا؟ ... أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا؟
1 / 279