معضلات مدنیت نوې
معضلات المدنية الحديثة
ژانرونه
غير أنه لا يجب أن نغفل عن أن استجماع ضروب من المعرفة النظامية اليقينية في تأثير النظامات على الحياة الإنسانية وعلى الأخلاق؛ ينتج علما غير التاريخ، ينتج علم السياسة، وعلم السياسة علم أهمل النظر فيه إهمالا كبيرا، حتى إنك لا تجد من علم يدعى بحق علم سياسة الأمم . وكل ما في علم السياسة، على ما هو اليوم، من حق، عبارة عن بضع نظريات وضعها فلاسفة من أهل النظر في فترات من الأزمان، تتباعد بمقدار تباعد علم السياسة عن أن ينال من النظام الاجتماعي بأثر صحيح في العصر الحاضر. والحق أن علم السياسة يقع في جو فاصل بين علمين: علم الجماعات العام، أي علم الاجتماع من جهة، وبين علم حكم الشعوب العملي من جهة أخرى.
إن وظيفة علم الاجتماع على ما حددها الاجتماعيون تنحصر في الإفسار عن حقيقة الانقلابات الاجتماعية، مطبقة على سنة ما من سنن الكون، كسنة النشوء مثلا، وهي سنة عامة، ومن أجل أنها عامة تعجز دائما عن إرشاد الأمم إلى خير سبيل يسلك إلى الصلاح والتقدم من الوجهة العملية الصرفة.
كذلك تجد أن العلاقة بين سنة النشوء وبين علم السياسة كالعلاقة بين علم الحياة العام وبين علم الطب، فإن علم الحياة في حين أنه يكشف عن قوانين الحياة الخاصة بكل الكائنات العضوية يعجز عن أن يعالج التغيرات المرضية التي تنتاب الجسم الحي، وهذه هي الحال في علم الاجتماع، فإنه بينما يكشف عن السنن الطبيعية التي تخضع لها الجماعات، يعجز عن أن يزودنا بما نستطيع به أن نرشد جماعة ما من الجماعات إلى سبيل الخير والصلاح.
إن علم الاجتماع ليس من طبيعته أن ينصرف إلى معرفة الرغبات والشهوات الخفية، ولا المصالح المادية، ولا المعتقدات التي يجب أن تصبح موحدة الأطراف مسوقة في طريق واحد، قبل أن تتمكن أية جماعة من أن تخطو إلى درجة أعلى من درجات الارتقاء. بل على العكس من ذلك تجد أن علم الاجتماع طالما يلقي في روعنا أن وراء الظواهر الاجتماعية المشاهدة تكمن يد القضاء والقدر، مؤثرة خلال الدهور متخذة من الذوات البشرية ألاعيب مفقودة الإرادة مستنيمة لحكم الغيب.
أما إذا رجعت إلى حكم الشعوب العملي، فإنك تجده عبارة عن صورة من صور التدجيل والخداع البعيد عن حكم الفلسفة والآداب، وأنه من قصر النظر وضعف الإدراك بحيث لا يمكن أن يتخذ كوسيلة من وسائل الإرشاد عن المستقبل، وأكبر دليل على ذلك أن وجهة نظره محصورة في البحث وراء مصالح فئة خاصة من الناس والوقوع على ما يسد مطامعها ويرضي شهواتها وينقع غلة تعطشها إلى الحطام ويهدئ ثورة عدائها لبقية الفئات التي تتكون منها الجماعة التي تحكمها، وأن هذه الفئة المختارة تنزع دائما إلى أن تقيس قوتها وعظمتها بمقدار ما تستطيع أن تخرج من قوانين ونظامات ترضي أكبر قسم من مصالحها الدنيوية.
من أجل هذا تجد أن الفرق بين علم السياسة الإثباتي - على أنه لم يوجد بعد - وبين قواعد حكم الشعوب العملي على الطريقة الشائعة، كالفرق بين علم الطب الصحيح الذي يبحث في خصائص القوى الحيوية والأعضاء التي يتكون منها الكائن الحي ومنافعها وعلاقاتها ووظائفها الفيزيولوجية، وبين طب الرقى والتمائم والتعاويذ؛ منشأ الأول العلم اليقيني الثابت، ومنشأ الثاني الجهل والحدس والضرب في مجالي الظنون، واستخدام أضعف ناحية من نواحي النفس الإنسانية في سبيل النفع الذاتي الموقوت.
من هنا تأتي ضرورة علم السياسة، على أن يحصر همه في البحث وراء تأثير العقائد والنظامات وصور الحكومات على سعادة الإنسان، وأن يثقف عقلية الشعوب تثقيفا يستغله في المستقبل رجال السياسة العملية بأن يولوا الشعوب وجهة ترضى عنها تلك الآمال التي تجيش بها صدور المصلحين.
على أننا إذا نظرنا نظرة نقد وتحليل وجدنا أن النظامات المدنية ليست إلا نتاج تلك الأفكار التي تخرجها رءوس الناس، والانفعالات التي تفيض بها مشاعرهم، كما أن الفكرات والعواطف والانفعالات في أكثر أمرها ليست سوى نتاج ما تغرس النظامات في طبائع الناس من صفات، لهذا قد يعترض معترض بأننا إذا نظرنا في تأثير النظامات على الجماعات من غير أن ننظر في تأثير الجماعات على النظامات، فإنما نتورط في أمر لا مفر معه من أن ندلف بقدمنا في منحى من التفكير ناقص غير ذي أسلوب، فيه من الضبط والدقة ما تتطلب عويص تلك المسائل التي نعكف على النظر فيها.
غير أن نظرة تأمل غير مكدودة بالتقاليد ولا معنتة بالعكوف على الفروض، لتعرفنا أن دراسة تأثير النظامات على الجماعات أمر يتناوله العلم والبحث الاختباري، في حين أن تأثير الإنسان والجماعات على النظامات أمر طالما أفلت من يد النظر العلمي، بل إن شئت فقل بحق إنه أمر لن يخضع لروح العلم الحديث. وفي الحق أننا نستطيع أن نبحث عمليا تأثير نوابغ الأزمان الماضية على النظامات، ونستطيع أن نعرف تأثير بوذا ويوليوس قيصر ولوثر وكلفن وروسو وفولتير وكوندورسيه على نظامات الأزمان التي تقدمتهم والتي ولدوا ونشئوا تحت سلطانها. غير أنه ليس من الحق في شيء أن ندعي كشف حجب الغيب عن الزمان الذي سوف يظهر فيه نابغة العصر المقبل، أو نتقصى صور النظامات التي سوف يولد خاضعا لسلطانها وسلطتها، أو نعرف إلى أي حد سوف يذهب نبوغه في التأثير عليها والتحوير في قواعدها، ومبلغ معرفتنا بذلك لا يعدو مبلغ تكهننا عن الزمان الذي سوف يقع فيه أي استكشاف علمي قبل أن توفق الأفهام إلى الوصول إليه، لهذا نقول بأن تأثير النوابغ ذوي العبقرية على المستقبل لن يعرف ولن يمكن التكهن به، ذلك من الأشياء التي سوف تظل متروكة لمشيئة الأقدار.
نخلص من مجمل هذا بنتيجة واحدة، هي أن تأثير نوابغ الأزمان الفارطة على النظامات يمكن أن تتبع آثاره، في حين أن تأثير نوابغ المستقبل على نظامات الأزمان المنتظرة لن يعرف ولن يمكن التكهن به، لهذا نقول ونقول بحق: إن النظر في تأثير النظامات على الإنسان أو تأثير الإنسان على النظامات، حتى ولو كان ممكنا، لن يحبونا بنعمة الاستعماق في تعرف حقيقة الحاضر أو يكشف لنا الأستار عن خبايا المستقبل. •••
ناپیژندل شوی مخ