" اسمعوا مني، فإني أرى أمري بعد اليوم صائر لغيري، وقد زعم أهلي أنهم خافوا على الوهم، وأنا اليوم خبير بصير، إن النصيحة لا تهجم على فضيحة، أما أول ما أنهاكم عنه فأنهاكم عن محاربة الملوك، فإنهم كالسَّيل بالليل، لا تدري كيف يأتيه، ولا من أين يأتيك، وإذا دنا منكم الملك واديا فاقطعوا بينكم وبينه واديين، وإن أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك وإن أذنوا لكم، فإن من رعاه غانما لم يرجع سالما، ولا تحقرن شرا فإن قليله كثير، واستكثروا من الخير فإن زهيده كبير، اجعلوا السلام محياة بينكم وبين الناس، ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وروا منه ما يرى منكم، واجعلوا عليه حدَّكم كلَّه ومن تكلَّم فاتركوه، ومن أسدى إليكم خيرا فاضعوا له، وإلا فلا تعجزوا أن تكونوا مثله، وعلى كل إنسان منكم بالأقرب إليه، يكفي كلُّ إنسان ما يليه، وإذا التقيتم على حسب فلا تواكلوا فيه، وما أظهرتم من خير اجعلوه كثيرا، ولا ير رفدكم صغيرا، ولا تنافسوا السؤدد، وليكن لكم سيِّد، فإنه لابد لكل قوم من شريف، ومن كانت له مروءة فليظهرها، ثم قومه أعلم، وحسبه بالمروءة صاحبا، ووسعوا الخير وإن قلَّ، وافنوا السرَّ يمت، ولا تنكحوا دنيا من غيركم فإنه عار عليكم، ولا يحتشمنَّ شريف أن يرفع وضيعه بأياماه، وإياكم والفاحشة في النساء فإنها عار أبدٍ وعقوبة غدٍ، وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل وتزين النسل، وأسلموا ذا الجريرة بجريرته، ومن أبى الحق فاعلقوه إياه، وإذا عييتم بأمر فتعاونوا عليه تبلغوا، ولا تحضروا ناديكم السَّفيه، ولا تلجوا بالباطل فيلجّ بكم ".
قالوا: وعاش ابن حممة الدوسي، واسمه كعب، أو عمرو، أربعمائة سنة غير عشر سنين، فقال:
كبرتُ وطال العمر حتَّى كأنَّني ... سليم أَفاع، ليلة غير مودع
فما الموت أَفناني ولكن تتابعت ... عليَّ سنون من مصيف ومربَعِ
ثلاثُ مئين قد مررن كواملا ... وها أنذا أَرتجي مرَّ أَربعِ
وأصبحت مثل النَّسرِ طارت فراخه ... وإِذا رام تطايرا يقلن له وقع
أُخبِّرُ أَخبار القرون الَّتي مضت ... ولا بدَّ يوما أَن يطار بمصرعي
وقلوا: وعاش كهمس بن شعيب الدوسي أربعين ومائة سنة، فقتله تأَبَّط شرا الفهمي.
وكهمس الذي يقول:
أَلا ربَّ بهب يخطر الموت دونه ... حويت وقرنٍ قد تركت مجدَّلا
وخيلٍ كأسراب القطا قد وزعتها ... بخيل تساقيها ثمالا متمَّثلا
ولَّذات عيش قد لقيت وشدَّة ... صبرت لها جاشي ولم أكُ أَعزلا
ومستلحم فيه الأسنَّة شرَّع ... دعاني أَن يصاب ويقتلا
سعيت إِليه سعي لا وهن القوى ... ولا عاجز لا يستطيع التحللا
فنفَّست عنه الخيل وانتشت نفسه ... وقد عاين الأبطال أَخول أَخولا
وقد عشت حتّى مللت معيشتي ... وأَيقنت حقَّا أَن سأَلقى الموكلا
وألا نجاة لا مريء من منيَّةٍ ... ولو حلَّ في أَعلى شماريخ يذبلا
قالوا: وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ابن زيد مناة أربعين ومائة سنة، وقال:
ما رغبتي في آخر العيش بعد ما ... أكون رقيب البيت لا أتغيب
إذا ما أردت أَن أَقوم لحاجة ... يقول رقيب حافظ، أين تذهب
فيرجعه المرمى به عن سبيله ... كما ردَّ فرخ الطائر المتربب
وقال أيضا:
إنَّ مصاد بن جناب قد ذهب ... أَدرك من طول الحياة ما طلب
والموت قد يدرك يوما من هرب
وقال أيضا:
للموت ما نغذى وللموت قصرنا ... ولا بد من موت وإن نُفس العمرُ
فمَن كان مغرورًا بطول حياته ... فإنِّي جميل أَن سيصرعه الدَّهر
فليس بباق إِن سأَلت ابن مالك ... على الدهر إلا من له الدَّهرُ والأَمرُ
قالوا: وعاش مسافع بن عبد العزَّى الضَّمري ستين ومائة سنة، وقال:
جلست غديَّة وأَبو عقيل ... وعروة ذو النَّدى وأبو رياح
1 / 9