" إن أحمق الحمق الفجور، وأمثل الأشياء ترك الفضول، وقلة السَّقط لزوم الصواب، وخير الأمور مغبَّة ألاَّ تني في استصلاح المال، وإياك والتبذير فإن التبذير مفتاح اليؤس، ومن التواني والعجز نتجت الهلكة، وأحوج الناس إلى الغنى من لا يصلحه إلا الغنى - وأولئك الملوك -، وحبُّ المديح رأس الضياع، وفي المشورة صلاح الرعية ومادة الرأي، ورضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير بجهدك، ولا تحفل سخط من رضاه الجور، ومعالجة العقاب سفهٌ، وتعوَّد الصَّبر، لكل شيءٍ ضراوة، فضرِّ لسانك بالخير، وتوكَّل بالمهمّ، ووكِّل بالصغير، وأخِّر الغضب فإن القدرة من ورائك، وأقل الناس في البخل عذرا أقلُّهم تخوُّفا للفقر، وأقبح أعمال المقتدرين الانتقام، جاز بالحسنة، ولا تكافئ بالسَّيِّئة، فإن أغني الناس عن الحقد من عظم خطره عن المجازاة، وإن الكريم غير المدافع إذا صال بمنزلة اللئيم البطر، من حسد من دونه قلّ عذره، ومن حسد من فوقه فقد أتعب نفسه، من جعل لحسن الظَّنِّ نصيبا روَّح عن قلبه، وأصدر به أمره ".
وكتب الحارث بن أبي شمر الغسَّاني ملك عرب الشام إلى أكثم بن صيفي بن رباح، أن هرقل نزل بنا، فقامت خطباءُ غسّان فتلقَّته بأمر حسن، فوافقه، فأعجب به، فعجب من رأيهم وأحلامهم، وأعجبني ما رأيت منهم، ففخرت بهم عليه، فقال: هذا أدبي فإن جهلت ذاك فانظر، هل بجزيرة العرب مثل هؤلاء حكمة، وعقولا، وألسنة.
فكتب إليه أكثم: " إن المروءة أن تكون عالما كجاهل، وناطقا كَعييّ، والعلم مرشدة، وترك ادّعائه ينفي الحسد، والصَّمت يكسب المحبَّة، وفضل القول على الفعل لؤم، وفضل الفعل على القول مكرمة، ولم يلزَّ الكذب بشيء إلا غلب عليه، وشرّ الخصال الكذب، والصَّديق من الصِّدق سمِّىَ، والقلب يتّهم وإن صدق اللسان، والانقباض من الناس مكسبة للعداوة، والتقرُّب من الناس مجلبة لجليس السُّوءِ، فكن من الناس بين المنقبض والمسترسل، وخير الأمور أوساطها، وأفضل القرناء المرأة الصالحة، وعند الخوف حسن العمل، ومن لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من علمه زاجر " أي لم يحفل بمرشد "، ومن أهمل نفسه أمكن عدوَّه " أو قال تمكن من عدوه " على أسوأ عمله، وفسولة الوزراء أضرُّ من بعض الأعداء، وأوَّل الغيظ الوهن ".
قالوا: وكتب النعمان بن المنذر إلى أكثم، وذكر ملك من ملوك فارس رجال العرب وعداوة بعضهم لبعض، وحالهم في بلادهم، فقال الفارس: هذا لخفّة أحرمهم، وقلّة عقولهم.
فكتب إلى أكثم أن اعهد إلينا أمرا نعجب به فارس ونرغبهم به في العرب.
فكتب أكثم: " لن يهلك امرؤ حتى يضيِّع الرأي عند فعله، ويستبدّ على قومه بأموره، ويعجب بما ظهر من مرؤته ويغترّ بقوَّته، والأمر يأتيه من قومه، وليس للمختال في حسن الثناء نصيب، والجهل قوة الخرق، والخرق قوة الغضب، وإلى الله تصير المصائر، ومن أتى مكروها إلى أحد فبنفسه بدأ، إن الهلكة إضاعة الرأي، والاستبداد على العشيرة يجرُّ الجريرة، والعجب بالمروءة دليل على الفسولة، ومن اعترّ بقوته فإن الأمر يأتيه من فوقه، لقاء الأحبة مسلاة للهم، من أشرّ ما لا ينبغي إعلانه ولم يعلن للأعداء سريرته سلم الناس عليه، والعيُّ أن تكلَّم يفوق ما تسدّ به حاجتك، وينبغي لمن عقل ألا يثق بإخاء من لم تضطرّه إليه حاجة، وأقلُّ الناس راحة الحقود، ومن أتى على يديه غير عامد فأعفه من الملامة " أو اللائمة "، ولا تعاقب على الذنوب إلا بقدر عقوبة الذنب فتكون مذنبا، ومن تعمد الذَّنب لم تحل الرحمة دون عقوبته، والأدب رفق، والرفق يمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة، وخير العفو ما كان مع القدرة، ومن سوء الأدب كثرة العتاب، ومن اغترّ بقوَّته وهن، ولا مروءة لغاشّ، ومن سفه حلمه هان أمره، والأحداث تأتي بغتة، وليس في قدرة القادر حيلة، ولا صواب مع العجب، ولا بقاء مع بغيٍ، ولا تثقنَّ بمن لم تختبره ".
أخبرن أبو ورق قال، حدثنا أبو حاتم قال، وذكر ابن الكلبي، عن عيسى ابن لقمان، عن محمد بن حاطب الجمحي قال: عاش ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم ابن عمرو بن هصيص مائتي سنة، ولم يشب شيبة قط، وأدرك الإسلام فلم يسلم.
وقد اختلف في إسلامه، فقالت نائحته بعد موته:
من يأمن الحدثان بعد ... ضبيرة السهميِّ ماتا
سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا
1 / 7