يا يزيد، إذا لم تصب الرشد وتطلع ذا الحق فإني قد أوطأت لك المنابر، وأذللت لك أهل العز، وأخضعت لك رقاب العرب، وكفيتك الرحلة والترحال، وجمعت لك ما لم يجمع واحد، وإني لست أخاف أن ينازعك في هذا الأمر إلا ثلاثة نفر، الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
فأما ابن عمر فرجل وقذته العبادة، وتخّلى من الدنيا وشغل نفسه بالقرآن، ولا أظنه يقاتل إلا أن يأتيه الأمر عفوا، وأما الذي يجثم جثوم الأسد، ويروغ روغان الثعلب، وإن أمكنته فرصة وثب فابن الزبير، فإن هو فعل فاستمكنت منه فقطِّعه إربا إربا إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك تقبل قلوبهم إليك، وأما الحسين بن علي فإن له رحما وحقا وولادة من رسول الله ﷺ، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه عليك، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو كنت صاحبه لعفوت عنه.
وحدثونا، أنه كان عند معاوية خمسة رهط حين حضرته الوفاة، الضحاك ابن قيس الفهريّ، ومسلم بن عقبة المرّي، وثور بن معن السلميّ، وزياد بن عمرو ابن معاوية العقيلي، والنعمان بن بشير الأنصاري، فقال: " بلّغوا يزيد عني السلام، وقولوا له، انظر أهل الحجاز فإنهم قومك وعشرتك، فأكرم من قدم عليك منهم، وصل من غاب، وانظر أهل الشام فإنهم جندك، فأكرمهم، وإذا هاجك هيج فارمه بهم، فإن فتح عليك فارددهم إلى بلادهم، فإنهم إن يسكنوا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم.
وزعموا أنه كان يحوَّل في مرضه الذي مات فيه، وهو يقول: إنكم لتحوّلون جسدا حولا قلَّبا إن ينج من النار غدا فهو الرجل كل الرجل، وله يوم من ابن الأدبر طويل " يعني حجرا وأصحابه ".
ثم أنشد:
لقد جمعت لكم من جمع ذي حسب ... وقد كفيتكم الترِّحال والنَّصبا
وابن الأدبر حجر بن يويد الكندي.
فلما مات معاوية، فدفن، دخل زياد بن عمرو العقيلي على يزيد، فقال: - يا أمير المؤمنين، مضى ابن أبي سفيان فردا لشأنه، وخلِّفت، فانظر بعده كيف تصنع، أقمنا على المنهاج، واركب محجّة السداد، فأنت المرتجي والمفزع.
فقال يزيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، إيّاه أستعين، وعليه توكلت، ونعم الوكيل.
وصية الربيع بن خُثيم: وحدثونا عن إسرائيل قال، أوصى الربيع بن خُثيم، وأشهد الله عليه، وكفى بالله شهيدا وجازيا لعباده الصالحين ومشيبا، أني رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، وبالقرآن إماما، وأني أرضى لنفسي ولمن أطاعني أن يعبد الله في العابدين، ويحمد الله في الحامدين وينصح لجماعة المسلمين.
وقال هرم بن حيان لما حضرته الوفاة، وقيل له، أوصِ.
فقال: لا أدري ما أوضي، ولكن بيعوا درعي، فاقضوا ديني، فإن لم يف فبيعوا فرسي، فإن لم يتمّ فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل، ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى ... لهو خير الصابرين.
فقال قتادة: أوصي والله بجماع الأمر، ومن أوصى بما أوصى الله به فقد أبلغ.
وصية عبد الملك بن مروان قالوا: لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه، فأوصاهم، فقال: " يا بني، أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف، وأزين حلية، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حقّ الكبير، وإياكم والاختلاف والفرقة، فإن بها هلك الأولون قبلكم، وذلّ ذوو العدد والكثرة، انظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه جنتَّكم الذي به تستجنون، ونائبكم الذي عنه تفترُّون، أكرموا الحجّاج فإنه وطَّأ لكم المنابر، وكونوا عند القتال أحرارا، وعند المعروف منارا، وكونوا بني أمّ بررة، إحلولوا في مرارة، ولنوا في شدّة ".
قال: ثم رفه رأسه إلى الوليد، فقال: يا وليد، لا أعرفّنك إذا وضعتني في حفرتي تمسح عينيك وتعصرهما فعل الأمة، ولكن إذا وضعتني في حفرتي فشمِّر واتَّزر، والبس جلد النَّمر، ثم اصعد المنبر، فادع الناس إلى البيعة، فمن قال كذا، فقل كذا.
وأومأ إليه، من قال: لا، فاقتله.
ثم بعث إلى خالد وعبد الله ابني يزيد بن معاوية فقال: - أتعلان لم بعثت إليكما؟ - قالا: نعم، يا أمير المؤمنين، لترينا عافية الله إياك.
- قال: لا ولكن لأسلكما، هل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء، فأقيلكما.
- قالا: معاذ الله يا أمير المؤمنين.
- قال: والله. لو قلتما غير ذلك لضربت أعناقكما.
فقاما، فخرجا.
1 / 51