" يا بني، اتقّوا إلهكم بالليل والنهار، وإيّاكم وما يدعو إلى الاعتذار، ودعوا قفو المحصنات تسلم لكم الأمهات، وإياكم والبغي على قومكم تعمر لكم الساحات، ودعوا المراء والخصام تسلم لكم المروءة والأحلام، تحبَّبوا إلى العشائر تهبكم العمائر، وجودوا بالنوال تنم لكم الأموال، وإياكم ونكاح الورهاء فإنها أدوأ الداء، وأبعدوا من جار السوء داركم، ومن قرين الغيّ مزاركم، ودعوا الضغائن فإنها تدعو إلى التباين، ولا تكونوا لآبائكم ضرَّارا، حيّاكم ربكم، وسدّد أمركم ".
قالوا: وجمع الحارث بن كعب بنيه حين حضرته الوفاة، فقال: " يا بني، عليكم بهذا المال فاطلبوه أَجمل الطلب، ثم اصرفوه في أجمل مذهب، فصلوا به الأرحام، واصطنعوا منه الأقوام، واجعلوه جنة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم، فإن بذلة تمام الشرف، وثبات المروءة، وإنه ليسود غير اليد، ويؤيّد غير الأيَّد حتى يكون عند الناس نبيلا نبيها، وفي أعينهم مهيبا؛ ومن اكتسب مالا فلم يصل به رحما، ولم يعط منه سائلا، ولم يصن به عرضا بحث الناس عن أصله، فإن كان مدخولا هرتوه وهتكوه، وإن لم يكن مدخولا ألزموه ودبّيه، واكسبوه عرقا لئيما حتى يهجّنوه به ".
وقال لابنه أشعت، وهو يوصيه:
أَبنيّ أَباك يوما هالك ... فاحفظ أباك رياسة وتقلُّبا
وإِذا لقيت كتيبة فتقدَّما ... إِن المُقدَّم لا يكون الأَخيبا
تلقى الرياسة أو تموت بطعنة ... والموت يأتي من نأَى وتجنَّبا
قالوا: دعا المنذر ابنه النعمان، وهو غلام شاب، فقال: " يا بنيّ، إن لي فيك رأيا دون غيرك من لدي، فإني آمرك بما أمرني به والدي، وأنهاني عما نهاني عنه والدي، آمرك بالذلّ في عرضك، وذلك أن تكون ذلولا بالمعروف، وعليك بالانخداع في مالك، وأُحبُّ لك خلوة اللّيل وطول السَّمر، وأكره لك إخلاف الصديق، واطّراف المعرفة، واتهاك عن ملاحاة الحلماء ومواح السفهاء، إن لك عقلا وجمالا ولسانا، فاكتس من ثناء الناس ما يؤيد جمالك، ودع الكلام وأنت عليه قادر، وليكن لك من عقلك خبئ تدَّخره أبدا ليوم حاجتك.
ثم قال:
إنَّ ظنِّي بمن أَمرتُ بأَمري ... حسنَ إن أَعانت الأذنان
باستماع وما ظفرت بشيء ... إن نبا مقولي عن النعمان
قد تفرَّست في بنيّ وفيه ... فإذا الأمر ليس بالمتداني
فلئن تمّ ما أُؤَمل فيه ... ما له في بني الملوك مدان
وله ألظُّ في الجمال وفي العقل ... وحظّ من مهلة ولسان
قالوا: وأوصى مالك بن المنذر البجلي بنيه، وكان قد أصاب دما في قومه، فخرج هاربا بأهله حتى أتى بهم بني هلال، فلما احتضر أوصى بنيه، وأمرهم أن يعطوا قومه النِّف من حدثه الذي أَحدثه فيهم، وقال: " يا بني، قد أتت عليّ ستون ومائة سنة ما صافحت بيميني يمين غادر، ولا قنعت نفسي بخلّة فاجر، ولا صبوت بابنه عم لي ولا كنَّة، ولا طرحت عندي مومسة قناعها، ولا بحثُ لصديق لي بسرِّي، وإني لعلي دين شعيب النسبي، ﷺ، وما عليه أحد من العرب غيري، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مرّ، فاحفظوا وصيتي، وموتوا على شريعتي، إلهكم فاتقوه يكفكم المهم من أموركم، ويصلح لكم أعمالكم، وإياكم ومعصيته، ولا يحل بكم الدمار، وتوحش منكم الديار.
يا بني، كونوا جميعا، ولا تفرقوا، فتكونوا شيعا، فإنّ موتا في عزّ خير من حياة في ذلٍّ وعجز، وكلُّ ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، الدهر صرفان، فصرف رخاء، وصرف بلاء، واليوم يومان، فيوم حبره، ويوم عبره، والناس رجلان، فرجل معك، ورجل عليك، وزوّجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهنّ الماء، وتجنّبوا الحمقاء، فإن ولدها إلى أفن ما يكون، إنه لا راحة لقاطع " يعني القرابة ".
وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوّهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة، التفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة الدخول فيها، العمل بالسوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث إلمام الهمّ، وانتهاك الحرمة تزيل النعمة، عقوق الوالدين يعقب النكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد، النصيحة لا تهجم على الفضيحة، احتمال الحقد يمنع الرِّفد، لزوم الخطية يعقب البلية، سوء الرِّعة يقطع أسباب المنفعة، الضغائن تدعو إلى التبايم.
ثم قال:
1 / 38