فما دمت، يا نفس، فى عالم الطبيعة فلا تطلبى منه لذة ولا تتشاغلى بمحسوس عن التعلم والتصور والتمثل والبحث والاستكشاف لجميع ما قصدت له من مطالبك وآرابك لتكفى العودة والرجوع على اكتساب العلم. فإذا تشوقت يا نفس إلى اللذات والسرور الدائم فانزعى لباسك الكدر وتهذبى من أوزار جسمك، وتنقى من الأشياء المخالفة لجوهرك. ثم صيرى إلى عالم اللذات الحقيقية والسرور الدائم، والبسى حللك الذاتية، وتصورى بصورك الجوهرية الدائمة الباقية التى أنت مشاهدة لتشكيلاتها ومثالات أنواعها وأنت فى عالم الكون والفساد.
فتيقنى يا نفس جميع ما قد شرحته لك واعقليه. واعلمى يا نفس أن مهلكات الأمور ثلاثة أجناس: أولها الشرك وسائر أنواعه، والظلم وسائر أنواعه، والتلذذ وسائر أنواعه. ويجمع هذه الأجناس وسائر أنواعها كلها أصل واحد — وهو حب الدنيا. فتحرزى، يا نفس، من الدنيا وأعرضى عنها، وانظرى إليها بعين الخائف الوجل منها. وكونى منها كالطائر الذى عرف الفخ المنصوب وفطن له فانحرف عنه وحذره. واعلمى يا نفسى أن تحرزك وهربك من جنس الشرك يذهب بك إلى مرتبة التوحيد، وأن تحرزك من جنس الظلم يذهب بك إلى رتبة النور والصفاء والتهذيب والتمحيض، وأن تحرزك من جنس التلذذ يريحك من مقاساة الخوف والحزن والجهل والفقر. فتيقنى يا نفس حقيقة هذه المعانى، واعلمى صحتها تنجى وتسلمى من الهلكة.
مخ ۶۲