يا نفس! تأملى حكمة مبدع هذه الأشياء واعتبرى بها، واعلمى أن الإنسان لم يخلق لمعنى من المعانى إلا للعلم والعمل به، وكذلك الثمرة الطيبة لم تخلق إلا للأكل. فكما أن عنقود العنب يبدأ وهو لا يصلح لشىء مما يراد له، ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى حد الحموضة العذبة فيكون حينئذ يصلح لبعض ما يراد منه، لا لكله؛ ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى حد الكمال فى جميع المعانى التى لها يراد، فيتكامل حينئذ — فكذلك الإنسان المحسوس يبدأ إلى عالمه وهو لا يصلح لشىء من المعانى التى تراد منه، ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى المعنى الذى به يصلح أن يكون متعلما، لا عالما. فإذا ارتاض بهذه الرتبة وردت إليه المادة الكبرى الكاملة المكملة فتجعله حينئذ عالما عاملا فيكمل حينئذ. وكذلك الإنسان المعقول إنما هو القوة الآتية فى العضو الواردة مع المنى إلى الرحم ثم حينئذ ترد إليه القوة المصورة التى يمكن أن تصوره بتوسط الأجرام الإلهية. فإذا صار عقلا بالقوة ذا غضب وشهوة وردت إليه حينئذ القوة الثانية المتممة التى هى عقل بالفعل فسارت به إلى حد الكمال فحينئذ تكون جميع أسبابه بالفعل بعد أن كانت فى الابتداء: لا بالفعل، ولا بالقوة. ثم انتقل إلى مرتبة كان فيها بالقوة، ثم ذهب من رتبة القوة إلى رتبة الفعل والكمال فصار حينئذ فاعلا كاملا، مصورا متصورا، ممثلا متمثلا. — واعلمى يا نفس أن التأمل لهذه المعانى دليل على لطيف حكمة مبدع العالم جل جلاله وتقدست أسماؤه.
يا نفس! إن المبدع جل اسمه كالناطق الفائض بما عنده من المعانى والجواهر كلها للمستمعين منه؛ وليس كل المستمعين يفهمون عن التكلم، بل منهم من يحتاج إلى ترجمان يؤدى إليه ووسيط يتوسط بين الناطق والسامع، وذلك لضعف تصور السامع عن فهم القول. ومن هو كذلك فهو أعجمى لا يفهم حاجته إلا بترجمان يفسر له حقيقة القول. فلا تكونى، يا نفس، من الجواهر المحتاجة إلى الوسائط: فإن الترجمان ربما خان فى تعبير الكلام، وغير القول وحرفه — فاخرجى يا نفس من رتبة العجومية إلى رتبة الفصاحة، واقتنى، يا نفس، العلم قبل العمل، ومعرفة الثمرة قبل غرس الشجرة، لتحققى بالقول الثبوت على العلم قبل العمل، فإن لك فى ذلك راحة كبيرة وفائدة عظيمة.
[chapter 3: 3] الفصل الثالث
يا نفس! إن الأعراض الحالة فى الجوهر الكثيف عدمت الاتفاق، وأتت إلى الاختلاف والمضادة، فتحرزى يا نفس منها وانحرفى عنها: فهى المعنى الذى حذرته والخوف الذى خوفته.
مخ ۶۴