مؤسس مصر حديثه
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
ژانرونه
وفي الناحية الأخرى كان محمد علي الذي بسط نفوذه على كثير من البلاد، ولكن كان احتفاظه بها في مقابل شروط مجحفة. كيف لا وقد كان يؤدي الإتاوة التي تتجدد كل عام ويستولي عليها السلطان سنويا؟!
وكان الباشا يعرف أنه أصبح هرما، وأنه لا يرجو أن يفسح له الأجل طويلا، فجعل يسائل نفسه عما يكون مصير ممتلكاته ومصير أسرته بعد انتقاله إلى الدار الباقية، ولم يكن يخالجه أي شك في أن انتقاله من على المسرح السياسي سوف يكون بمثابة إشارة لخصومه لتجديد محالفاتهم القديمة لا لإعادة سوريا وحدها إلى قبضة السلطان ووضعها تحت نفوذه المباشر، بل واستعادة القطر المصري أيضا، وإذ ذاك يطاردون أسرته انتقاما من مسلك كبيرها ومؤسسها حيال السلطان. كما أن الولايات التي بذل فيها من الجنود ما بذل لتحسين الإدارة ونشر المعارف والعلوم سوف تقتسم بين باشوات من الطراز القديم، فلا يكون لهم هم إلا أن يمتصوا دماء الأهالي ويستلبوا ما عندهم من حطام ونشب قبل افتضاح الأمر وإحالتهم إلى الاستيداع. وفي الحق لقد تكهن محمد علي بأن أسرته وإصلاحاته لن يطول أجلهما بعد وفاته، وأن الأمس سوف يصبح منسيا، كما أن العمل الذي وقف حياته وجهوده عليه سوف يتلاشى كأن لم يكن، وكلما تقدمت به السنون كلما ازداد يقينا بأن عمله ما زال غير ثابت، وأنه يخشى عليه من تقلبات الأزمان وتصرفات الحدثان.
ولقد دلت العلاقات بين السلطان وبين الباشا بعد انتهاء الحرب مباشرة إلى أي حد كان صلح قوتاهية صلحا أجوف لا قيمة له؛ فقد كانت هناك مسألة الإتاوة، فحتى بعد أن تحدد مقدارها وانتهى البحث فيها ظل السلطان متمسكا بدفع المؤخرات التي رفض محمد علي دفعها رفضا باتا. وحدث أنه في أثناء البحث في مسألة الزيادة أن انتهز محمد علي فرصة زواج إحدى أميرات البيت السلطاني، فأرسل إلى الآستانة مندوبا خاصا متظاهرا برفع تهاني الباشا، بينما كانت مهمته الحقيقية ترمي إلى أكثر من ذلك. وذهب المندوب تصحبه حاشية عددها اثنا عشر شخصا، وقد زوده محمد علي بالتعليمات بأن يتظاهر في الآستانة «بكافة مظاهر الأبهة التي تليق بإحدى الوزراء» فيوزع ما قيمته مليون قرش بشكل هدايا،
1
وكلف المندوب في الوقت نفسه بأن يبين للسلطان محمود بأنه طالما بقي خسرو في الديوان فإنه لن ينفك عن تسوئة سلوك الباشا، وأن السلطان لو أصدر أمره الكريم بإبعاد الصاري عسكر عن ديوانه السامي؛ فإن الباشا لن يكتفي بالمواظبة على أداء الإتاوة في مواعيدها ... بل يدفع شطرا كبيرا من المؤخرات التي يطالب السلطان بها، وقد كان المظنون أن يجتمع في الآستانة لهذه المناسبة عدد كبير من كبار خصوم خسرو، وبذلك تكون الفرصة سانحة،
2
وعلى كل، فلم تفشل البعثة فقط في تحقيق غايتها، بل لقد كان وجودها في الآستانة بمثابة فرصة لتوجيه الإهانات والعبارات الجارحة إلى مرسلها محمد علي، مثال ذلك أنه لم يسمح لرئيسها حبيب أفندي أن يضع علما على قاربه، ولا أن تكون له «تندة» ليتقي بها حرارة الشمس، كذلك لم يسمح للعمال الذين تولوا عملية التجديف في القارب بأن يؤدوا مهمتهم بالشكل المألوف عندما ينقلون شخصا له مركز هام. وقد كانت نتيجة ذلك كله أن كثيرين من ذوي الحيثيات في الآستانة خشوا الذهاب إلى مقره لزيارته علنا ولم يستقبلوه في منازلهم إلا خفية، بل إن السلطان نفسه تذمر عندما علم بأن بحارة القارب الذي أقله إلى الآستانة صعدوا الأسكلة ورددوا قولهم: «على الطراز الأوروبي» اعترافا بكرمه عندما وزع بينهم هبات تقدر بخمسين ألف قرش.
3
وأخيرا تم الاتفاق في خلال سنة 1834م على مسألة الإتاوة، وذلك بأن يؤدى المبلغ السنوي وتهمل المؤخرات بتاتا، على أن ذلك الترتيب لم يشف عن أي تحسين حقيقي فيما بين السلطان محمود ومحمد علي من العلاقات المضطربة الغامضة؛ فإن الأول مثلا لم يدع فرصة تمر إلا وانتهزها لإثارة الاضطرابات والقلاقل في سوريا، ولقد سبق أن أدخل إبراهيم في هذه الولاية نظام الخدمة العسكرية الإجبارية مع بعض إجراءات لحماية السكان المسيحيين، وبذا أثار عوامل السخط بين طبقات الشعب، ثم تجمعت العاصفة وانفجر مرجل الثورة في المنطقة الواقعة حول القدس، وتحرجت الحالة وأصبحت من الخطورة، بحيث رأى الباشا بأن يذهب لزيارة سوريا بشخصه. ولم يكن هناك أقل ريب في أن الثورة إنما كانت بإيعاز أشخاص معينين كانوا يعملون لحساب الآستانة، ويمكن من الحادث الآتي الذي وقع في نابلس استنتاج الغاية التي كانوا يبشرون لها؛ فلقد صعد أحد الأتراك إلى مأذنة أحد المساجد وجعل يصيح بأعلى صوته: «ألم يعد ثمة وجود للديانة الإسلامية؟! هل تلاشت وعفا أثرها؟! ... ألسنا عثمانيين؟! فليهرع كل من يحب النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ