ميزان الأصول في نتائج العقول
«المختصر»
تصنيف
الشيخ الإمام علاء الدين شمس النظر أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي
(المتوفى سنة ٥٣٩ هـ) متعه الله من علمه
حققه وعلق عليه وينشره لأول مرة
الدكتور محمد زكي عبد البر
الأستاذ بكلية الشريعة - جامعة قطر
ونائب رئيس محكمة النقض بمصر (سابقا)
ناپیژندل شوی مخ
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: ١٧]
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧]
مقدمة / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقْديم
الحمد لله على ما وهبنا من نعمائه، ونحمده على ما أعطانا من آلائه، ونثني عليه الخير أعظم ثنائه.
والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله: بعثه هاديًا، وبشيرًا، ونذيرًا، الناسخ بشرعه كل شرع غابر.
ورضي الله عن أصحابه، الذين حازوا قصب السبق في نصرة الشريعة الغراء والحنيفية السمحة البيضاء، الباذلين نفوسهم في سبيل الله لإعلاء الدين والإيمان.
وأثاب الله من تبعهم بإحسان، الباذلين جهودهم في استنباط الأحكام، والبالغين ذروة الكمال في تبيان الحلال والحرام.
أما بعد - فإن إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر يسرها أن يشاركها في مهمتها الأفراد والجماعات، فإن التراث الإسلامي، في كل مناحي المعرفة في، حاجة، لإحيائه ونشره، إلى جهود المئات بل الأُلوف.
وإنه ليسرها أن تقدم للعالم الإسلامي هذا العمل الرفيع المستوى، تحقيقًا وتعليقًا وطباعة، وهو نشر مخطوطة (ميزان الأصول في نتائج العقول - المختصر) لأول مرة، من تأليف الأصولي الفقيه المتكلم الإمام علاء الدين السمرقندي من علماء القرن السادس الهجري، وتحقيق الدكتور محمد زكي عبد البر الأُستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر. وقد سبق للمحقق نفسه أن نشر، لأول مرة أيضًا، مخطوطة "تحفة الفقهاء" للمؤلف نفسه، عندما كان أُستاذًا بكلية الشريعة في جامعة دمشق سنة ١٣٧٧ هـ - ١٩٥٨ م، في ثلاثة أجزاء، فقوبلت بالترحيب من الجامعات، إذ قررت كلية الشريعة بجامعة دمشق وكذا كلية الشريعة في عمان بالأردن تدريسه فيها. كما سبق لإدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر أن نشرت للمحقق نفسه كتابًا قيمًا بعنوان "تقنين الفقه الإسلامي". والكتاب الذى نقدمه اليوم يمتاز بما امتازت به "التحفة" من ترتيب وحسن عرض للأقوال المختلفة، وبيان وجه الخطأ أو الصحة في هذه الأقوال، مما ييسر على القاريء الإلمام بالموضوع في سهولة ويسر، وخصوصًا في هذا العلم -علم الأصول- الذي اتسم، في نظر بعض الناس، بالصعوبة لفظًا ومعنى.
مقدمة / 7
وقد قدم المحقق لنشر هذا الكتاب بمقدمة عن المؤلف، وعن الكتاب ونسخه ومنهجه في النشر، كما آثر أن ينشر تقديم أُستاذه وأحد أساتذة الجيل - المغفور له الشيخ علي الخفيف لكتاب "التحفة"، إحياء لذكرى هذا الرجل العظيم، ونفعًا للناس بما جاء في هذا التقديم من علم غزير وتوجيه سليم.
وموضوعات الكتاب هي موضوعات علم "أُصول الفقه". وقد رتبه المؤلف على أربعة فصول، الأول: (في بيان الأحكام). والثاني: "في بيان ما يعرف به الأحكام". والثالث: "التعارض بين الأدلة". والرابع: "أهلية الأحكام".
ولم يقتصر المحقق، أثابه الله، على مجرد نشر الكتاب مصححًا موثقًا، بل ترجم للأعلام، وشرح الألفاظ الغامضة، وفي بعض الأحيان يورد عبارات موضحة للمعنى إذا غمضت العبارة - كل ذلك من المصادر الأصلية المعتمدة.
وإننا لنرجو أن يمنح الله -بفضله وكرمه- المحقق القوة والتيسير كي ينشر بقية كتب الإمام "علاء الدين السمرقندي" محققة معلقًا عليها على هذا النحو الرفيع من الضبط والتعليق والنشر.
وهذا االكتاب، بين يدي القاريء، ينطق بما بذل فيه من جهد، حتى جاء موضوعًا وشكلًا، على هذا المستوى الرائع.
ولابد أن نشيد أيضًا بإدارة النشر بمطابع الدوحة الحديثة التي حملت عبء نشر هذا الكتاب، وقامت به على هذه الدرجة العالية من الكمال - أثاب الله أصحابها ومديرها، ووفقهم إلى جلائل الأعمال.
وإنا لندعو الله بصالح الدعاء، للمؤلف وللمحقق ولكل من يعين على نشر تراثنا الإسلامي- إنه سميع مجيب. وأن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه ويجعلنا مفاتيح خير في نشر العلم، وخدمة أهله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين.
خادم العلم
عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
مُدِيرُ إدَارة إحْيَاء التراث الإسْلامي
مقدمة / 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلمَة افتتَاحيَّة (١)
لا يمكن لشيء -أي شيء- أن يستقل بحاضره عن ماضيه، فالماضي هو الذي يحوي سر النشوء والتطور، وهو الذي يهدي إلى الخصائص والصفات، وهو بهذا يكشف عن طريق المستقبل. فالماضي هو أساس الحاضر والمستقبل، ولا يمكن لشيء أن يعيش منبت الصلة عن ماضيه. وهذا القول يصدق في الجماد والحيوان والإنسان، ويصدق في الأفراد والجماعات. ولقد كان لكل أُمة من الأمم التي دخلت في الإسلام من بعد، ماضيها، بما فيه من أسرار وصفات وخصائص وعلائق، تختلف في أُمة عنها في أُخرى، بل تختلف في الأمة الواحدة من طائفة إلى أُخرى. فلما جاء الإسلام جمع هذه الأمم، التي دخلت فيه، على أُسس واحدة، فوحد بينها، فيما يجب، وبالقدر الذي يجب التوحد فيه، من عقيدة واحدة، وغاية في الحياة ومن الحياة واحدة، فصهر هذه الأمم جميعًا في بوتقته، وأخرج منها الأمة الإسلامية، بعد أن وحد بين طوائف العرب وجعل منها الأمة العربية. ولكن هذه الأمم لم تنقطع صلاتها بتاريخها قبل الإسلام، لأن ذلك غير ممكن، ومن ثم كان لها تاريخ قبل الإسلام، وتاريخ بعد الإسلام، وكانت دولة الإسلام قوية، فظلت الدولة الإسلامية متراصة متحدة متكاتفة، لا تذكر تاريخها الأول إلا كطور من أطوار حياتها جاء الإسلام فطفر بها منه درجات إلى أعلى، فهي لا تذكر ماضيها ذكر حنين عودة إليه وإنما تذكره ذكر عبرة وتدبر. ولكن شاء قدر الله أن يأتي على الدولة الإسلامية ضعف المسلمين في عقيدتهم وأخلاقهم، فضعفت، واختلط الأمر على بعض أبنائها -إما جهلًا منهم وإما بتأثير الأجانب- فنسبوا هذا الضعف إلى الإسلام، ومن ثم ارتفعت أصوات في
_________
(١) نقلا عن "تحفة الفقهاء" للمؤلف نفسه، التي حققها ونشرها لأول مرة محقق هذا الكتاب نفسه (مطبعة جامعة دمشق، ١٣٧٧ هـ - ١٩٥٨ م)
مقدمة / 9
كل أُمة بالعودة إلى أصل قومها قبل الإسلام، من فرعونية أو آشورية أو غيرهما. وهي دعوات خطيرة تبغي تنحية الإسلام عن أن يكون أصلًا في حياتها، إلى أن يكون عرضًا جانبيًا لا يمسكها من الأساس، وإنما يربط بينها ربطًا غير موجّه، كرابطة اللون مثلًا، ومن ثم وجب على المخلصين محاربة هذه الدعوات، ومن وراءها من مسلمين جهلاء، وغير مسلمين يمكرون بالإسلام وبالمسلمين. فلكل أُمة مسلمة أن تذكر تاريخها قبل الإسلام، وأن تلتمس منه أسباب القوة، ولكن عليها أن تكمل ذلك بذكر الإسلام وما أضاف من أمجاد إلى أمجادها، وما دفع بها إلى أمام، وما وحد بينها وبين أخواتها، وما وصلت بها هذه الوحدة من عظمة، ثم تواصل السير مع أخواتها -أُمة واحدة- إلى أمام مستمسكة بالإسلام، بانية نهضتها عليه.
القرآن هو حبل الله المتين الذي جذب العرب المتفرقين في البوادي، المختلفين في الطبع والعادة والدين واللهجة، وسلكهم في أُمة واحدة، وجمعهم على دين واحد، وشريعة واحدة، ولسان واحد، وجمعهم على خُلُق واحد، ونهج في الحياة واحد، فكوَّن منهم دولة بعد أن أعطاهم عناصرها. وبالقرآن خرج العرب من بلادهم غازين: يفتحون في الشرق وفي الغرب، وتستسلم لهم قلاع الروم وحصون فارس. وبالقرآن دخل الناس في دين الله، ودولة الإسلام، أفواجًا. وعلى القرآن أقام العرب -والمسلمون- علومهم. فلما وهنت صلة العرب والمسلمين بالقرآن، وهنت دولتهم، وضعفت شوكتهم، واستذلهم من لم يرحمهم. وكما صلح أولنا يصلح آخرنا. ولا ملجأ لنا - في حياتنا السياسية، الداخلية والخارجية، وفي حياتنا الإجتماعية، والتعليمية، والتشريعية -إلا القرآن. فالقرآن- وهذه نعمة كبرى اختص الله بها الأمة الإسلامية - قد نظم الدين والدنيا: فحدَّ الصلة بين المسلم وبين ربه، ونظم العلاقة بين المرء وبين أُسرته في أحواله الشخصية. ورسم أُسس معاملاته مع أفراد مجتمعه ودولته، ووضع منهج السياسة، في السلم والحرب، بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية. والقرآن، لغة وعقيدة وشريعة، هو وحده القادر على أن يجمع بين المسلمين في مختلف أقطارهم. والقرآن، عقيدة وشريعة، هو وحده الذي يربط بين الدول الإسلامية: يشهد ذلك بالحس من زار البلاد العربية والإسلامية، فما يتلى القرآن إلا وتجتمع القلوب وتزول فوارق الجنس واللون والدم والمكان والمجتمع، فيلتفت الصيني إلى المراكشي ويناديه: أخي! فأى قوة أُخرى تصنع مثل هذا الصنيع؟
مقدمة / 10
فالقرآن إن أردنا الدين، أو الدنيا، أو أردناهما معًا هو ملجؤنا: منه نستمد أُصول الأخلاق، وأُصول السياسة، وأُصول التشريع، وأُصول التربية والتعليم.
والقرآن لا يحول بيننا وبين الأخذ في مضمار الحياة الحديثة، فما وضع إلا أُصولًا، وما سن إلا قواعد.
ولسنا نقصد بقصرنا كلامنا على القرآن إنكار غيره من أُصول، ولكن لأنه الكتاب الأكبر الذي ترجع إليه هذه الأصول، وعنه تتفرع، وإليه ترد.
فإلى القرآن، إن أردنا ديننا ودنيانا، نتخذه شعارًا ومبدأ وموئلًا وميزانًا: فنحتفظ بخصائصنا التي تميزنا عن غيرنا فلا ننماع، ونمسك بالحبل الأوحد المتين الأبدي الذي يربطنا، من الفؤاد، بالدول العربية والإسلامية، ثم لا يضيرنا في علاقاتنا بالدول الأخرى.
* * *
وإذا كان البناء على الإسلام هو الأصل، فإنه يجب أن نتجه إلى تراثه فنجمعه في إخلاص وقوة، وننشره على الناس في أمانة، وندعو الناس إليه في إيمان ويقين أن العودة إليه، والبناء عليه، هو الهضبة المستقرة التي ارتفعت بنا عن أغوار الماضي، ولن يعلو لنا بناء مستقر إلا عليها.
ومنذ الماضي اهتم المسلمون، أفرادًا وجماعات وحكومات، بذلك. وقد بذل الأفراد الذين اتجهوا إلى هذا وسعهم، وكذا الجماعات الأهلية. ولم تنفرد أُمة إسلامية بهذه العناية، بل وجد التراث الإسلامي من يهتم به وينشره على الناس في كل البلاد الإسلامية من الشرق إلى الغرب، مما يدل على التجاوب في هذه البلاد التى جمع بينها الإسلام، ووحد بين أهلها في منازعهم وأهوائهم.
وإنا لندعو أن تهتم الحكومات الإسلامية، والجامعة العربية، بنشر المخطوطات الإسلامية فما تغني الجهود الفردية في هذا الصدد، وننبه إلى وجوب أن يوكل هذا العمل إلى ذويه، وأن يرسم للعمل منهاج معين قائم على أساس علمي، حتى يؤتي المجهود ثمرته.
مقدمة / 11
أما نحن فإن إيماننا بالفقه الإسلامي يزداد على الأيام قوة. وكل ما نرجوه أن يأخذ الله بيدنا إلى ما نبغي من خدمة شريعته، وأن يقوي فينا هذا الإحساس، وأن يؤتينا العزم والتوفيق والرشاد.
والكتاب الذي ننشره اليوم هو "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندي: عثرنا عليه أثناء الاطلاع على مخطوطات الفقه الإسلامي، لتحضير رسالتنا للدكتوراه. وقد راعنا هذا الكتاب وعزمنا منذ يومئذ على القيام بنشره، وسنتكلم على الكتاب ومؤلفه ومنهجنا، في المقدمة التالية للتقديم الذي تفضل به أُستاذنا الجليل الشيخ على الخفيف. وإنا لنرجو أن يكون باكورة نتبعها بنشر مخطوطات أخرى (١). والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
القاهرة في مايو سنة ١٩٥٥.
الدكتور محمّد زكى عَبدِ البرّ
_________
(١) وقد وفقنا الله سبحانه ويسر لنا نشر "تحفة الفقهاء" لأول مرة في ثلاثة أجزاء. وها نحن اليوم -بمعونة الله ﷾ ننشر لأول مرة أيضًا كتابه "ميزان الأصول".
مقدمة / 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقْديم (١)
للأستاذ الجليل
الشيخ/ عَلي الخَفيف
أُستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق
بجامعة القاهرة
ووكيل تلك الكلية سابقًا
من خير ما يقدم المرء لأمته أن ينشر بعض ما طواه الزمن من تراث علمي كان فيما مضى ركنًا من أركان نهضتها، ومظهرًا من مظاهر عزتها وحضارتها، وثمرة يانعة من ثمار حياتها وثقافتها.
وخير ما يحييه ويبعثه من ذلك ما كان متصلًا بحياتها الإجتماعية وروابطها الإقتصادية والسياسية، يقوم عليه أمنها وتطيب به حياتها وذلك هو الفقه.
ولقد كان الفقه الإسلامي من أهم الأُسس والعوامل التي ساهمت في بناء الأمة الإسلامية وتكوين حضارتها واتساع عمرانها وامتداد سلطانها وانضواء الشعوب المختلفة تحت لوائها، لأنه فقه يقوم على العدالة ويشرع الحقوق ويصونها ويكفل الحرية ويلائم الفطر السليمة ويزيل الفوارق ويقضي على الطبقات ويساير التطور ويمسك بالأصول والقواعد العادلة، لا تسيطر عليه شهوات الأفراد ولا أطماع الأحزاب والجماعات ولا يخضع لهوى الأمراء والرؤساء، ذلك بأنه مستمد من شرع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وإرشاد من رسول أمين لا ينطق عن الهوى، ولا يحيد عن الحق، فجاء أول ما جاء ثابت
_________
(١) كتبه أستاذنا الجليل المغفور له الشيخ علي الخفيف تقديمًا لكتاب "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندي صاحب هذا الكتاب "ميزان الأصول" ونحن نعيد نشره هنا لفائدته - وتحية لذكرى أستاذنا الجليل طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه.
مقدمة / 13
القواعد راسخ الأساس سليم المبادئ صحيح النتائج متفقًا مع الأعراف الصحيحة والعادات الحسنة والأخلاق الكريمة، يهدف إلى الإصلاح لا الهدم، ويدعو إلى السمو وينأى بجانبه عن الركود والقعود.
ولقد كان هذا الفقه وليدًا لقيام الدولة الإسلامية وظهور دينها، منه استمدت أصوله وأحكامه، وبقدر حاجتها تعددت فروعه وامتدت أغصانه، فكان في عهده الأول على قدر الحاجة إليه حلولًا لما حدث من مسائل وما اشتجر من خلاف وما وجد من نزاع في تلك البيئة القصيرة المدى المحدودة الرقعة المتقاربة الأركان البدوية الحياة الخشنة العيش المتجانسة الميول والعادات، حتى إذا نعم عيشها ونما ثراؤها واتسعت أطرافها وامتدت حدودها فشملت أقطارًا وضمت أُممًا ودولًا تختلف في عاداتها وتقاليدها ومعيشتها وأناظيمها (١) وأقاليمها وأجوائها، نما الفقه الإسلامي بنمائها واتسع بإتساعها وامتدت فروعه بإمتداد حدودها وآتى أُكله وبدأت حلوله تقوم على أُصول تدرس وترتد إلى قواعد تبحث ومبادئ تؤسس وعندئذ تم للفقه الإسلامي نموه واكتمل له ازدهاره فتنوعت بحوثه وتفرعت مسائله
واتسعت جوانبه وامتدت حدوده وتعددت فروعه.
كان الفقه الإسلامي أول ما وجد عبارة عن طائفة من الأحكام والفتاوي التي صدرت من الرسول صلوات الله وسلامه عليه فيما عرض عليه من خلاف وما استفتي فيه من مسائل لا يتجاوزها إلى غيرها وكان فيها حاجات الناس يومئذ وكان وجوده بينهم كفيلًا بتكميل أي نقص وسد أية حاجة، فإذا حدث ما لم يكن قد رفع إليه فزعوا إليه فقضى بينهم فأسلموا لقضائه ولم يكن لهم فيه خيرة ولا عنه محيد.
ثم انضم إلى هذه الطائفة بعد وفاته ﷺ ما استنبطه أصحابه من أحكام وفتاوي لما استجد من الحوادث وما نزل بهم من وقائع مما لم يحدث ولم ينزل بهم في زمنه ﷺ مسترشدين بأحكامه وفتاويه التي حفظوها عنه مستهدين بهديه حين كان يشرع لهم ويقضي بينهم ويجتهد لهم.
وكانت هذه الطائفة من الأحكام تمتاز عن الأولى بالكثرة وتعدد الآراء ووجود الخلاف وكان أصحابها يعملون بها بظن أنها توافق حكم الله وإن احتملت أن تكون
_________
(١) جمع "أنظومة" أي الأنظمة أو النظم (القاموس والمعجم الوسيط).
مقدمة / 14
على خلافه - وكان وجود الخلاف نتيجة لتعدد المفتين وعدم عصمتهم واتساع الدولة الإسلامية بدخول بلدان وأُمم غير عربية في الإسلام.
ثم انضم إلى هاتين الطائفتين بعد ذلك طائفة ثالثة من الأحكام والفتاوي صدرت عن تلاميذ الصحابة من التابعين وتابعيهم ممن درسوا على الصحابة وأخذوا الفقه عنهم أو عمن أخذ عنهم. ثم جاء بعد هؤلاء من الفقهاء والأئمة المجتهدين من فرغ لدراسة الفقه واستنباط قواعده ووضع أُصوله ومبادئه، ورد الأحكام والفتاوي الموروثة إليها، وتفريع المسائل المختلفة عليها، ووضعت فيه المؤلفات ونظمت المناظرات حتى كان من كل ذلك نتاج طيب لا تفارقه جدته ولا تذبل نضرته ولا ينقطع مدده، يتسع لحاجات كل أُمة ويساير تطور كل زمن ولا يستعصي عن الإستجابة إلى المصالح، وكان له فى الأمة الإسلامية آثاره المحمودة في حياتها الإجتماعية ونهضتها الثقافية ووحدتها السياسية ومكانتها الخلقية - إلى أن كان من الحوادث والنوازل ما شغل الناس فصرفهم عنه وتركوا العمل به والبحث فيه وادعى العلم به بعد ذلك جهلة اتخذوه مرتزقًا ووسيلة إلى المال والتقرب من الأمراء والحكام واكتساب الجاه من ذلك التقرب، فوصموه بما هو براء منه ولوثوه بآرائهم وأقوالهم وأفعالهم، ونسبوا إليه النقص بسوء سياستهم، فكان ذلك حجابًا حجبه عن الناس حقبًا طويلة، وساعد على ذلك ظهور عصبية عمياء لآراء لا تقوم على حجة، وأحكام لا تستند إلى دليل ولا تصلح للناس، وكان من وراء ذلك خلافات أدت إلى فرقة فرقت بين الناس بقدر ما حدث بينهم من خلاف وما تعدد من مذاهب إلى أن استقر الأمر أخيرًا لبعضها واندرس باقيها فلم يبق منها إلى اليوم من له مكانة واتباع سوى مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك بن أنس ومذهب الشافعي ومذهب أحمد ومذهب الزيدية ومذهب الإمامية الإثنى عشرية وقد يضاف إلى ذلك مذهب الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الخارجي.
وهذه المذاهب هي مذاهب الجمهور الإسلامي في جميع الأقطار، وقف عند اتباعها ونبذ ما عداها وجافى من عمل بغيرها على ما قد يكون له من قوة في الدليل وما قد يكون فيه من صلاحية وملاءمة للزمن وترفيه على الناس، وذلك منهم تعصبًا بدون حجة وابتداعًا وتركًا للسنة إذ لم يكن معروفًا في عهد السلف الصالح بل ولا في عهد أصحاب هذه المذاهب نفسها. ذلك لأنهم لم يجتهدوا ولم يستنبطوا ليحملوا الناس على اتباعهم وتقليدهم بل كان
مقدمة / 15
للناس يومئذ الخيرة في استفتاء من يشاؤون ممن تطمئن إليه أنفسهم وإلى العمل بفتياهم ضمائرهم حين لا يستطيعون أن يصلوا إلى حكم الله بإجتهادهم ونظرهم.
كان كل ذلك سببًا في دفن هذا التراث المجيد وتراكم الأتربة عليه مع طول الزمن حتى خفي على كثير من الناس وبعد على المشترعين منهم إلى هذا الوقت إذ ظهرت النهضة العلمية الفقهية الإسلامية في البلاد الشرقية وبخاصة مصر نتيجة لنمو الوعي القومي فيها وبعث الحركة العلمية الثقافية والتلفت إلى الماضي المجيد والرغبة في ترسمه مع شيوع الفكرة الإستقلالية والشعور بالحاجة إلى التكتل الإسلامي دفعًا لتسلط الأجنبي وضيمه واضطهاده واستغلاله وظهور الرغبة في توجيه البلاد الإسلامية إلى تهيئة أسباب الوحدة بينها في الثقافة والتشريع والإقتصاد والسياسة العامة وليس أصلح لتوحيد القانون فيها من اللإلتجاء إلى الفقه الإسلامي واتخاذه أساسًا لقوانينها، منه استمدادها وعليه يكون قيامها.
عن كل هذا نظر الناس إلى ماضيهم فرأوا سنا الفقه الإسلامي ونوره يشع من تحت ما تراكم فوقه من أنقاض فأخذ الفقهاء في بعثه وتوطيء أكنافه وتعبيد سبله وإظهاره للناس بثوب بهي قشيب حتى يكون لهم منه في حاضرهم مستمد لتشريعهم ومعين لقوانينهم بدلًا من الإلتجاء إلى تشريع أجنبي عنهم لم يوضع لهم ولا يتلاءم مع ماضيهم وحاضرهم ولا يتفق مع أخلاقهم وعاداتهم ولا يتمشى مع معتقداتهم وتقاليدهم.
ولقد بدأت هذه الحركة المباركة بوضع قوانين مصرية في بعض مسائل الأسرة ومشاكلها لم يتقيد فيها واضعها بمذهب أبي حنيفة الذي كان عليه العمل في مصر فوضع القانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ في أحكام نفقة الزوجية والعدة والتطليق للعجز عن النفقة والتفريق بعيب في الزوج وأحكام المفقود والقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ في أحكام الطلاق والتطليق للضرر ولغيبة الزوج وحبسه وبعض أحكام النسب والعدة والمهر وسن الحضانة وبعض أحكام المفقود ووضع القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤٦ في بعض مسائل الأوقاف مما جأر فيه الناس بالشكوى وطلبوا الخلاص منه ووضع القانون رقم ٧١ لسنة ١٩٤٦ في أحكام الوصية ووضع القانون رقم ٧٧ لسنة ١٩٤٣ في أحكام الميراث، وأُلفت لجان لوضع قانون عام في مسائل الأحوال الشخصية وهي مرحلة جديدة خطتها مصر وانتقلت منها إلى بعض البلاد الشرقية كسورية فوضع فيها قانون في الأحوال الشخصية "الزواج والطلاق والعدد والنفقات والنسب والحضانة
مقدمة / 16
والرضاع والأهلية والنيابة المالية والوصية والميراث" وتونس فوضع فيها قانون لمسائل الأحوال الشخصية. وإنها لمرحلة تؤذن بعهد جديد في البلاد الشرقية: عهد توحيد التشريع فيها وسن القوانين لها على أُسس من الشريعة الإسلامية شريعة الأسلاف والأوطان ومصدر كثير من العادات والتقاليد والأخلاق - عند ذلك يعود لهم مجدهم وتقوى وحدتهم وتشتد إصرتهم وتجتمع كلمتهم فترجع إليهم قوتهم ويعود لهم سلطانهم ويتم لهم استقلالهم في شتى نواحي جهودهم ومضطربهم في هذه الحياة حياة الجد والكفاح والمثابرة والقوة والسلطان والغلب.
وإن في قيام الدكتور محمد زكي عبد البر بإخراج هذا الكتاب - كتاب "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي من فقهاء القرن السادس الهجري ونشره في الناس -سليمًا، محققًا، مضبوطًا- لمساهمة منه محمودة في بناء هذه النهضة الفقهية المباركة المرتقبة الثمرة نهضة إحلال التشريع الإسلامي على وضعه الصحيح في البلاد الشرقية محل التشريع الوضعي الغربي وبخاصة إذا لوحظ أن ذلك قد جاء في عهد عُهد فيه بالقضاء في مسائل الأحوال الشخصية على وفق الشريعة الإسلامية إلى رجال القانون الوضعي - قضاة المحاكم المصرية - فكانوا بسبب ذلك في حاجة إلى الرجوع والنظر في كتب الشريعة والإتصال بالفقه الإسلامي والتزود منه والتعرف بأُصوله وحكمه وأغراضه - وكل هذا يحتاج إلى كتب في الفقه جامعة ميسرة لا يمل طولها ولا يفوت الغرض بسبب إيجازها. ولذا كان الدكتور محمد زكي عبد البر موفقًا حين اختار هذا الكتاب وحين اتجهت نفسه في هذا الوقت إلى نشره فالكتاب من ناحية موضوعه مجموعة قيمة من أحكام مذهب أبي حنيفة في كل أبواب الفقه مقارنة في كثير من مسائله بمذهب الشافعي فيها أحيانًا وبمذهب مالك أحيانًا أُخرى على وضع تجنب فيه مؤلفه الطول الممل والإختصار المخل.
وهو من ناحية ترتيبه وعرضه للمسائل وتفريعها وردها إلى أُصولها أقرب ما يكون إلى ما انتهى إليه التأليف في العصر الحاضر من استعراض لمسائل الأبواب جملة وترتيبها ترتيبًا منطقيًا تقودك فيه كل مسألة إلى المسألة التي تليها بحيث تجدها متصلة بها وبما قبلها كإتصال الحلقة في السلسلة فلا تكاد تشعر في الباب بإنتقال مفاجيء من موضوع إلى آخر لا يتصل به بل تحس كأنك لا تزال في موضوعك الذي بدأته وذلك ما يعين على جمع الفكر واتصال النظر وفهم الموضوع واستيعابه من جميع أطرافه.
مقدمة / 17
وهو من ناحية أُخرى سهل الأسلوب بين العبارة لا تشعر فيه بتعقيد ولا بخفاء بل يلازمك ما قرأت فيه ظهور المعنى وجلاء المراد ووضوح الغرض.
لهذا كان اختيار الدكتور محمد زكي عبد البر اختيارًا موفقًا إذ أنه بهذا الاختيار أتاح لمن لم يتعود القراءة في الكتب الفقهية ولم يمرن على أسلوبها الاصطلاحي أن يأخذ منه الفقه الإسلامي وأن يتفهم مسائله كما أتاح للمعاهد العلمية الإسلامية فرصة اختيار كتاب قيم لدراسة فقه أبي حنيفة بإستيعاب غير ممل وأن تجد فيه طلبتها من ناحية الترتيب وسهولة العبارة وحسن العرض مما يوفر الزمن لطالب البحث ويجنبه أن يضيعه في فهم الأساليب وحل رموزها وتفهم عبارتها والكشف عما يراد منها.
وإني لأرجو إذا تم طبعه أن ييسر للناس البحث فيه بوضع فهارس له تفصيلية على النمط العصري المعروف في كتب الفقه الوضعي. إنه بذلك يستحق شكرًا فوق شكر وثناء بعد ثناء ويخدم الفقه الإسلامي خدمة لا تقل عن خدمته في نشر هذا الكتاب.
هذا وإذا كان الدكتور محمد زكي عبد البر قد قام بهذا العمل الجليل في محيط الفقه الإسلامي فاستحق عليه الشكر، فإنه إلى ذلك قد ضرب لزملائه وأقرانه من رجال القانون خير مثل وسن لهم أحسن سنة في الإقبال على البحث في الفقه الإسلامي ونشر كتبه القيمة المفيدة التي أتى عليها الزمن فخبا نورها وزال من بين الكتب المعروفة اسمها - ففي ذلك إنماء لثقافتهم التشريعية وإعلاء لمنزلتهم القانونية وإظهار لكنوز أسلافهم التشريعية - وفق الله رجال القانون إلى إحياء الفقه الإسلامي ونشره وإلى خدمته وبعثه.
القاهرة في يناير ١٩٥٦
عَلي الخَفيفْ
مقدمة / 18
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقَدمَة
نقدم لهذا الكتاب بكلمات ثلاث:
الأولى: عن صاحب الكتاب.
والثانية: عن الكتاب نفسه.
والثالثة: عن نسخ الكتاب، ومنهجنا في النشر.
أولًا: المؤلف (١)
صاحب هذا الكتاب هو علاء الدين محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي. ومن سوء الحظ أن هذا الرجل العظيم، رغم الإعتراف بجلالته وعلمه، لم يحظ بالدراسة الكافية، ولم يخلف لنا كتاب التراجم ما يغني في معرفة أحواله. وقد بذلنا جهدًا في سبيل الحصول على المعلومات التالية، راجين أن يسعدنا الحظ فنحصل على ما يكمل الصورة، فنبينها واضحة في طبعة أُخرى. وسنكون شاكرين لمن يمدنا من الباحثين بشيء مفيد في هذا الصدد.
أما أصحاب التراجم فما ذكروه قد لخصه صاحب الفوائد البهية فقال: "محمد بن أحمد ابن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء أُستاذ صاحب البدائع: شيخ كبير فاضل جليل القدر، تفقه على أبي المعين ميمون المكحولي، وعلى صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي، وكانت ابنته فاطمة الفقيهة العلامة زوجة علاء الدين أبي بكر صاحب البدائع، وكانت تفقهت على أبيها، وحفظت تحفته، وكان زوجها يخطئ فترده إلى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب
_________
(١) الكلام على المؤلف منقول عما كتبناه عنه في مقدمة التحفة (١: ١٢ - ٢٢) مع "تغيير لفظي طفيف اقتضاه المقام.
مقدمة / 19
البدائع كانت تخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها (١) ". وقال صاحب طبقات الحنفية في ترجمة علاء الدين الكاساني: إنه (أي الكاسانى) "تفقه على محمد بن أحمد السمرقندي المنعوت علاء الدين، وقرأ عليه معظم تصانيفه، مثل التحفة في الفقه وغيرها من كتب الأصول، وزوجه شيخه ابنته فاطمة الفقيهة العالمة، وكانت حفظت التحفة تصنيف والدها، وطلبها جماعة من ملوك بلاد الروم فامتنع والدها، ولزم الكاساني والدها، واشتغل عليه، وبرع في علمي الأصول والفروع وصنف البدائع، وهو شرح التحفة، وعرضه على شيخه فأزداد به فرحًا، وزوجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك، فقال الفقهاء في عصره: شرح تحفته وزوجه ابنته" (٢).
هذا ما نجده في كتب التراجم عنه. أما بلده، وكنيته، وتاريخ مولده، وتاريخ وفاته، وأحداث حياته، فلم نجد من ذلك إلا متفرقات نجمعها فيما يلي:
اسمه وكنيته: ذكر في "الفوائد البهية" أنه "محمد بن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء". وذكر في "كشف الظنون" عند الكلام على "التحفة" أنه الإمام الزاهد "علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي" وعند الكلام على "مختلف الرواية" أنه الإمام "علاء الدين محمد بن عبد الحميد المعروف بالعلاء". وذكره "رفيع الدين الشرواني" في "طبقات أصحاب الإمام الأعظم أبي حنيفة" فقال: "ركن الأئمة عبد الكريم السمرقندى صاحب تحفة الفقهاء". وذكره صاحب "طبقات الحنفية" (٣) عند ترجمة علاء الدين الكاساني بأنه "محمد بن أحمد السمرقندي المنعوت علاء الدين" وذكره السيد محمد راغب الطباخ في كتابه "أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (٤) " بإسم: "محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء". وفي "معجم المطبوعات العربية والمصرية" ليوسف الياس سركيس (٥): "أبو بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي سنة ٥٤٠" وذكره "صاحب الجواهر" فقال: "محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء" كما ذكر في موضع آخر (٦) ما يأتي: " محمد بن أحمد بن أبي حامد السمرقندي
_________
(١) اللكنوي، الفوائد البهية، ص ١٥٨.
(٢) المخطوط ١٧٩ مجاميع بدار الكتب المصرية، ولم يعرف مؤلفه.
(٣) المخطوط ١٧٩ مجاميع بدار الكتب المصرية، ولم يعرف مؤلفه.
(٤) الطبعة الأولى، سنة ١٣٤٣ هـ. - ١٩٢٥ م.- حـ ٤ ص ٢٦٥.
(٥) طبعة ١٣٤٦ هـ - ١٩٢٨ م، ص ١٠٤٦.
(٦) حـ ٢ ص ٢٨.
مقدمة / 20
أبو أحمد - قال السمعاني: نزيل بخارى، إمام فاضل في الفتوى والمناظرة والأصول والكلام، كتب إلي الإجازة ومات ببخارى غرة جمادى الأولى سنة ٥٣٩".
ويظهر لنا أن ما ذكره "صاحب الجواهر" في الموضع الأخبر بقوله: "محمد بن أحمد ابن أبي حامد السمرقندي أبو أحمد" خطأ نشأ عن إختصاره فقد ورد في كتاب "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" لتقي الدين عبد القادر التميمي الغزي الحنفي (١) ما يأتي: "محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء: تفقهت عليه ابنته فاطمة العالمة الصالحة، وكانت تحفظ التحفة، وستأتي إن شاء الله تعالى. وتفقه عليه أيضًا زوجها أبو بكر الكاساني صاحب كتاب البدائع. وسيأتي له زيادة في ترجمة تلميذه أبي بكر حامد السمرقندي أبو أحمد - قال السمعاني: نزيل بخارى، إمام فاضل في الفتوى والمناظرة والأصول والكلام، كتب إلي بالإجازة ومات ﵀ في بخارى سنة ٥٣٩" فاختصار القرشي في الجواهر جاء مخلًا إذ ما قاله السمعاني راجع إلى المترجم وهو محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي، وليس إلى تلميذه أبي بكر حامد السمرقندي أبو أحمد.
فصاحب التحفة هو "محمد بن أحمد بن أبي أحمد" وهو ما ذكره الكاساني في البدائع (٢) وما جاء في مقدمة التحفة. وهو أيضًا صاحب هذا الكتاب: "ميزان الأصول". ويلقب بعلاء الدين ويكنى بأبي بكر وقد يكنى بأبي منصور والغالب الأول. كما أن البعض سماه عبد الكريم.
بلده (٣): هو من سمرقند كما تدل نسبته إليها. وسمرقند مدينة مشهورة فيما وراء النهر (نهر سيحون) وهي قصبة "الصغد" وقد أطنب ياقوت في معجم البلدان في مدح سمرقند حتى قيل إنه ليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أنزه ولا أحسن من سمرقند. وقد يسمى إقليم الصغد إقليم سمرقند. فتكون سمرقند مدينة وإقليمًا. ولعل نسبته إلى سمرقند الإقليم لا إلى سمرقند المدينة إذ جاء في أنساب السمعاني أنه أقام ببخارى ومات فيها. وبخارى مدينة في الصغد أو في إقليم سمرقند، وبين بخارى ومدينة سمرقند بحساب القدماء سبعة أيام وسبعة وثلاثون فرسخًا (٤).
_________
(١) المخطوط ٥٥ حليم بدار الكتب المصرية - حـ ٢: ٣٨٧/ ٢.
(٢) حـ ١، ص ٢.
(٣) راجع: معجم البلدان لياقوت. ودائرة المعارف الإسلامية.
(٤) في المنجد: الفرسخ ثلاثة أميال هاشمية. وقيل: اثنا عشر ألف ذراع. وهي تقريبًا ثمانية كيلو مترات.
مقدمة / 21
وليس عندنا تاريخ مفصل عن سمرقند (١)، ولكن الثابت أنها كانت تحتل موقعًا ممتازًا بين الشرق والغرب، أيام الحضارة القديمة، وقد تقلبت عليها مدنيات مختلفة، من صينية وفارسية وتركية وإسلامية. وكان لابد أن يكون لهذا الموقع الممتاز وللمدنيات التي وفدت على الإقليم أثره في أبنائه، وقد كان. فمن ذلك الإقليم خرج - على سبيل المثال - البخاري صاحب الجامع الصحيح، وأبو منصور الماتريدي مصحح عقائد أهل السنة وهو منسوب إلى ما تريد، وهو حي في سمرقند، وآل برهان (ومنهم صاحب المحيط البرهاني) وغيرهم. فمن بلاد هذا الإقليم، كبخارى ومرو وسمرقند، خرج كثير من العلماء الذين أبدعوا وخلدوا بما تركوا من تراث إسلامي نفيس (٢).
وممن نسب إلى سمرقند:
١ - إسحاق بن محمد بن إسماعيل أبو القاسم الحكيم السمرقندي: أخذ الفقه والكلام عن أبي منصور محمد الماتريدي، ولقب بالحكيم لكثرة حكمته وموعظته. وصحب أبا بكر الوراق ومشايخ بلخ في زمانه، وأخذ عنهم التصوف. وقد تولى قضاء سمرقند أيامًا طويلة. وتوفي سنة ٣٤٢ هـ (٣).
٢ - الحسن بن داود بن رضوان أبو علي السمرقندي: درس بنيسابور على أبي سهل الزجاج. وأخذ عنه عن أبي الحسن الكرخي. وكان أحد الفقهاء المتقدمين في النظر والجدل. وقد مات سنة ٣٩٥ هـ (٤).
٣ - محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمود السمرقندي السنجاري: كان شيخًا كبيرًا وعالمًا متبحرًا. ولد بسمرقند سنة ٦٧٥ هـ وبعد ما بلغ رتبة الكمال ساح في البلاد ثم أقام بماردين ودرس وصنف وأفتى إلى أن مات بها في رمضان سنة ٧٢١ هـ وله كتاب "عمدة الطالب لمعرفة المذاهب" جمع فيه المذاهب الأربعة ومذاهب داود والشيعة (٥).
_________
(١) ذكر في الجواهر المضيئة (٢: ٨٧) أن لأبي حفص عمر بن محمد النسفي (٥٣٧ هـ ـ) كتابًا اسمه "القند في تاريخ سمرقند". ولم نعثر عليه.
(٢) في الفوائد البهية (ص ٢١١) أن أبا نصر الدبوسي منسوب إلى دبوسية وهي قرية بسمرقند.
(٣) الفوائد البهية للكنوي، ص ٤٤.
(٤) الفوائد البهية للكنوي، ص ٦٠.
(٥) الفوائد البهية للكنوي، ص ١٧٥.
مقدمة / 22
٤ - محمد بن نصر بن منصور بن علي بن محمد بن محمد بن الفضل أبو المعالي العامري الخطيب بسمرقند، تفقه على الشيخين: صدر الإسلام محمد بن محمد، وفخر الإسلام علي بن محمد البزدويين. وكان إمامًا. وقد ولد سنة ٤٠٥ هـ. ومات بسمرقند سنة ٥٥٥ هـ (١).
٥ - محمد بن اليمان السمرقندي: إمام كبير. عدوه من طبقة أبي منصور الماتريدي. له كتاب "معالم الدين والرد على الكرامية" وغير ذلك. مات سنة ٢٦٨ هـ (٢).
٦ - ناصر الدين بن يوسف أبو القاسم الشهيد الحسين السمرقندي: إمام عظيم القدر، قوي العلم. له تصنيفات كثيرة المنافع منها "النافع" وهو مختصر في الفقه، و"الملتقط" في الفتاوي و"خلاصة المفتي" و"كتاب الأخصاف" و"مصابيح السبل" وغير ذلك - قيل: توفي سنة ٦٥٦ وقيل سنة ٥٥٦ هـ (٣).
٧ - نصر أبو الليث الحافظ السمرقندي: توفي سنة ٢٩٤ هـ، وهو متقدم على أبي الليث إمام الهدى المتوفى سنة ٣٧٣ هـ (٤).
وقد دخل العرب سمرقند وعلى رأسهم قتيبة بن مسلم سنة ٩١ هـ. (٧٠٩ م) وهي الآن تابعة للتركستان التي هي جزء من الإتحاد السوفييتي وتنقصنا المعلومات عنها.
وفي الفوائد البهية (٥) أن سمرقند معرب من "شمر كند". وفي دائرة المعارف الإسلامية أن المقطع الثاني من الإسم وهو "قند" عبارة عن كلمة فارسية معناها المدينة أما المقطع الأول فلا يؤدي وحده معنى.
مولده ووفاته: لم نعثر على تاريخ مولده. أما تاريخ وفاته فقد ذكر السمعاني أنه توفي سنة ٥٣٩ هـ. وذكر يوسف سركيس أنه توفي سنة ٥٤٠ هـ. وذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون" عند الكلام على مصنفه "مختلف الرواية" أنه توفي سنة ٥٥٢ هـ. وعند الكلام على كتابه "ميزان الأصول" أنه توفي سنة ٥٥٣ هـ.
_________
(١) الفوائد البهية للكنوى، ص ٢٠٢.
(٢) الفوائد البهية للكنوى، ص ٢٠٢.
(٣) الفوائد البهية للكنوي، ص ٢١٩ - ٢٢٠.
(٤) الفوائد البهية للكنوي، ص ٢٢١.
(٥) الفوائد البهية للكنوى، ص ٤٤.
مقدمة / 23
والظاهر لنا أن وفاته كانت سنة ٥٣٩ هـ. فقد ذكر ذلك السمعاني قائلًا: إنه (أي السمرقندي) كتب له الإجازة (انظر فيما تقدم ص: ش) أما الأقوال الأخرى فلم تنسب إلى أحد معاصر أو صاحب صلة بالمؤلف، بل لم تنسب إلى شخص ما.
مشايخه: ذكر أصحاب التراجم أنه تلقى العلم على اثنين من مشاهير العلماء، أولهما هو صدر الإسلام أبو اليسر البزدوي (١)، والثاني هو أبو المعين المكحولي النسفي (٢).
أما أُستاذه الأول فقد أخذ العلم عن إسماعيل بن عبد الصادق (٣) عن أبي محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (٤) عن أبي منصور الماتريدي (٥) عن أحمد بن إسحاق أبي بكر الجوزجاني (٦) عن موسى بن سليمان أبي سليمان الجوزجاني (٧) عن محمد ابن الحسن الشيباني (٨) صاحب أبي حنيفة. كما أخذ (أُستاذه الأول) العلم عن أبي يعقوب
_________
(١) هو محمد بن محمد بن عبد الكريم بن موسى أبو اليسر صدر الإسلام البزدوي: كان بارعًا في العلوم فرعًا وأصلا.
وقد انتهت إليه رياسة الحنفية فيما وراء النهر وتوفي ببخارى سنة ٤٩٣ هـ. (الفوائد، ص ١٨٨ وكذا ص ١٢٥) وذكر علاء الدين في كتابه "ميزان الأصول" ما يفيد أنه تتلمذ على علي بن محمد البزدوي إذ قال: "وقال أستاذي الشيخ الإمام الزاهد علي بن محمد البزدوي ﵀" المتوفى سنة ٤٨٢ هـ (الفوائد: ١٢٤ - ١٢٥) "ميزان الأصول" الأصل ٧٧/ ٢ - انظر فيما بعد ص: ٤٠١
(٢) هو ميمون بن محمد بن محمد بن المعتمد بن محمد بن مكحول أبو المعين المكحولي النسفي. كان إمامًا فاضلا. وهو صاحب كتاب "تبصرة الأدلة" و"تمهيد قواعد التوحيد" و"المناهج" و"شرح الجامع الكبير".
وقد توفي سنة ٥٠٨ هـ. (الفوائد: ص ٢١٦. والجواهر، - حـ ٢ ص ١٨٩ و٢٦٧).
(٣) هو إسماعيل بن عبد الصادق بن عبد الله الخطيب البناري - من أعمال قومس، ويقال بالفارسية "كومس" من بسطام إلى سمغان. كان فقيهًا ورعًا وله ابن فقيه اسمه ميمون (الفوائد: ٤٦).
(٤) جد فخر الإسلام البزدوي وصدر الإسلام أبي اليسر (الفوائد: ١٨٨).
(٥) هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين. له كتاب التوحيد وكتاب المقالات، وكتاب أوهام المعتزلة ورد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي، ورد الإمامة لبعض الروافض والرد عل القرامطة، ومآخذ الشرائع في الفقه والجدل في أصول الفقه وغير ذلك وقد مات سنة ٣٣٣ هـ. وماتريد (أو ماتريت) محلة بسمرقند - ذكره السمعاني (الفوائد: ١٩٥). وانظر الهامش ٤ ص ٣.
(٦) نسبة إلى جوزجان بلدة مما يلي بلخ. وكان عالمًا جامعًا بين الفروع والأصول. وله كتاب الفرق والتمييز وكتاب التوبة (الفوائد: ١٤).
(٧) تلميذ محمد بن الحسن، وقد كتب مسائل الأصول والأمالي. وكان مشاركًا لعلي بن منصور. وقد عرض عليه المأمون القضاء فلم يقبل. وقد توفي بمد المائتين، وله السير الصغير والنوادر وغير ذلك (الفوائد: ٢١٦).
(٨) هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، وناشر مذهبه، وصاحب الكتب الستة المعروفة بكتب ظاهر الرواية أو الأصول، لروايتها بطريق الشهرة أو التواتر، وهي: المبسوط، والجامع الكبير، =
مقدمة / 24