فالممعن في اتباع الشهوات، والمعرض عن النظر في المعقولات، شقيّ في الدنيا باتفاق، وشقيّ في الآخرة عن الفرق الثلاث، إلا عند شرذمة من الحمقى، لا يؤبه لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يعدون في جملة العقلاء رأسًا. فقد تبين أن الاستعداد للآخرة بالعلم والعمل ضروري في العقل، وإن المقصر فيه جاهل.
فإن قلت: فما بال أكثر الناس مقصرين فيه وهم مؤمنون بالآخرة؟ فاعلم أن سبب ذلك الغفلة عن التفكير في هذه الأمور التي ذكرناها فإن تلك الغفلة مطردة عليهم، مستغرقة لأوقاتهم، لا ينتهون عنها ما دامت الشهوات متوالية، وهي كذلك. وإنما المنبه عليها واعظ، زكي السيرة، وقد خلت البلاد عنه، وإن فرض على ندور لم يلتفت إليه، وإن التفت إليه ووقع الإحساس به في الحال، وحسن العزم على التجرد للطاعة في الاستقبال، هجمت عقب ذلك شهوة من الشهوات وأزالت أثر التنبيه، وأعادت حجاب الغفلة، وعاد العاقل لما نهى عنه. ولا يزال هكذا شأن كل واحد إلى الموت، وعند ذلك لا يبقى له إلا التحسر بعد الفوت، ولا يغني ذلك عنه شيئًا فنعوذ بالله من الغفلة، فإنها منشأ كل شقاوة.
1 / 193