مصر او شام په تېرو او اوسنيو وختونو کې
مصر والشام في الغابر والحاضر
ژانرونه
وقد انتقلت دعوة الشيخ إلى الشام، فاستجاب لها فيه السيد عبد الرحمن الكواكبي الحلبي صاحب كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» اللذين ضمنهما وصف ما كانت عليه البلاد إذ ذاك من اضطراب وفوضى في السياسة والاجتماع، ودعا إلى ما دعا إليه الأفغاني من تحطيم تلك القيود التي قيدت البلاد بها. ولما اضطرت الظروف الشيخ محمد عبده إلى أن يجيء إلى الشام ويقيم في بيروت، وجد في البلاد مرعى خصبا لآراء الشيخ الأفغاني فعمل على إحيائها، وقد التف السوريون حوله سنة 1885م يتلقون عنه دروس العلم والحكمة والخير.
ولما طلب الوالي مدحت باشا إلى الشيخ الإمام تنظيم شئون المدرسة التي كان أسسها في بيروت، وضع لها الشيخ منهجا صحيحا معتمدا على مبادئ أستاذه الأفغاني، فانقلبت المدرسة انقلابا جديدا، وأخذ الشيخ يقضي كل نهاره في المدرسة، وفي أثناء إقامته فيها ألف «رسالته» القيمة في التوحيد وشرح لطلابه «نهج البلاغة» و«ديوان الحماسة» و«مقامات البديع»، وقرأ طائفة من الكتب القيمة على النابغين من تلاميذه مثل كتاب «الإشارات» لابن سينا وكتاب «التهذيب» في المنطق.
وقد كانت دروس الشيخ في بيروت تغص بالتلاميذ والناس يتقاطرون عليها من شتى الأنحاء، وقد أحدثت إقامة الشيخ في بيروت انقلابا عظيما، فقد كان الشيوخ قبله يدرسون تدريسا آليا ولا يفتشون عن فائدة الطلاب ولا هم لهم إلا قبض المرتبات، فلما رأوا نشاطه وغيرته حاولوا أن يقلدوه ويعملوا عمله، فمنهم من نجح ومنهم من أخفق، ومهما يكن من شيء فإن الجميع بدلوا خطتهم السابقة وبذلوا جهودا لم يكونوا باذليها لولا وجود الشيخ.
وبوجود الشيخ في ديار الشام أصبحت تلك الديار منارا يشع نوره، فقد كان الشيخ لا يقصر جهده على تثقيف التلاميذ، بل كان يتصل بالرجال ويوجههم توجيها صحيحا، ويبحث لهم عن علة تأخر الشرق، فيقول في بعض كلماته: «أما العلم الذي نحس بحاجتنا إليه، فيظن قوم أنه علم الصناعة، وما به إصلاح مادة العمل في الزراعة والتجارة مثلا، وهذا ظن باطل، فإننا لو رجعنا إلى ما يشكوه كل منا نجد أمرا وراء الجهل بالصناعات وما يتبعها، إن الصناعة لو وجدت بأيدينا نجد فيها عجزا عن حفظها، وإن المنفعة تتهيأ لنا ثم تنفلت؛ فالشيء في نفوسنا، فنحن نشكو ضعف الهمم وتخاذل الأيدي وتفرق الأهواء والغفلة عن المصلحة الثابتة، وعلوم الصناعات لا تفيدنا دفعا لما نشتكيه، فمطلوبنا وراء هذه العلوم ألا وهو العلم الذي يمس النفس؛ وهو علم الحياة البشرية، والعلم المحيي للنفوس؛ هو علم أدب النفس، وكل أدب لها فهو الدين، فما فقدناه هو التبحر في آداب الدين، وما يحسن من أنفسنا طلبه هو التفقه في الدين، ولا أريد أن نطلب علما محفوظا ولكنا نطلب علما مرعيا ملحوظا، وما أودعته الديانة من الآداب النفسية والكمالات الروحية لم يختلف في صحته أحد من البشر حتى من يظن نفسه غير آخذ بالدين. فإذا استكملت النفس بآدابها عرفت مقامها من الوجود وأدركت منزلة الحق في صلاح العالم، فانتصبت لنصره وأيقنت بحاجتها إلى مشاركتها في الموطن والملة، فأخذت بالفضيلة الجامعة للفضائل، وهي ما يعبر عنها بحب الوطن والدولة والملة، ولا نريد من الحب ميلا خياليا، ولكنا نريد منه ميلا يبعث على العمل كما يرشد إليه الدين والأدب. فمتى تحلت النفوس بهذه الفضيلة أبصرت مواقع حاجاتها فاندفعت إلى طلبها وطرقت لها كل باب لا ترجع حتى تظفر أو يدركها الأجل.»
فأنت ترى أن السيد الإمام لم يقصر عمله على تهذيب الناشئة البيروتية، بل كان يدعو الرجال إلى طريق الفلاح الذي كان يدعو إليه أستاذه، ومن يعرف حال سورية قبل مجيء الإمام إليها من الجهل والفساد ثم يعرف الحركة الوطنية التي قام بها أحرار سورية لتحرير بلادهم من النير التركي؛ يتحقق له أن تلك الثورة التحريرية ما كانت إلا استجابة لدعوة الشيخ الإمام رحمه الله، وهذا أثر جديد من آثار مصر على الشام لن تنساه أبد الدهر، وقد كان للشيخ الإمام حلقات في بيته كان يؤمها طلاب الحق من جميع الفرق والنحل، وقد كان يخاطب كلا على قدر عقله ويعمل على توحيد الصفوف ولم الشمل بعد أن فرقتهم السياسة التركية الظالمة.
قال فيه شكيب أرسلان: «كنت ترى جميع الفرق والنحل والطوائف بدون استثناء تزدحم حول ذلك المنهل المعذب، وكان هو لسعة عقله وعلو إدراكه وإحاطة نظره يتفاهم مع كل قبيل منهم كأنه نشأ فيهم، وكان يحضر مجلسه علماء السنة ومجتهدو الشيعة وعقلاء الدروز ونبهاء المسيحيين واليهود، وكان كل أولئك لا يجدون غضاضة في التردد عليه، بل إن مجلسه لم يكن يخلو من الملاحدة الذين كانوا يقصدون إليه ليسمعوا آراءه في الإلهيات والأديان، فكان الأستاذ يناظرهم بكل تؤدة ويحل لهم المشكلات التي كانوا إذا سألوا عنها غيره من العلماء أعجزهم الجواب عنها، فكنت تراهم منصتين إليه حيارى أمامه لا يدرون ماذا يقولون، مع أنهم قبل حضورهم في مجلسه قد آلوا أنهم يعجزونه كما أعجزوا غيره.»
ولما عزم الشيخ على ترك الشام حزنت عليه البلاد وودعته بقلوب حزينة، كما ودعها هو بحزن كثير لأنه كان يرغب أن يطول مكثه حتى يرى ثمرة غرسه بعينه. ولم يترك الشيخ الديار الشامية حتى خلف فيها تلاميذ فحولا نشروا مبادئه وعملوا على تحقيقها، نذكر منهم السيد الكواكبي والشيخ بدر الدين النعساني والسيد نعوم اللبكي، ولكل واحد من هؤلاء كلمة في الشيخ تدل على مكانته عنده، وها نحن أولاء نسوق إليه هذه الكلمات.
قال المغفور له بدر الدين النعساني: «إن الإسلام لم ينجب بعد ابن تيمية غير محمد عبده، وإن لمحمد عبده فضلا على الإسلام في الديار الشامية هو أجل بكثير من فضله على مصر، إن الله حبا مصر بجمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي، فأما جمال الدين فقد بث فيها العقل الصحيح، وأما عرابي فقد دعاها إلى الثورة على الظلم. والشام لولا محمد عبده وإقامته القصيرة فيها لكانت تتخبط في الجهل والضلال والعبودية، فبفضل الشيخ وبفضل دروسه تفتحت عيون أهلها.»
وقال السيد عبد الرحمن الكواكبي وقد سأله الخديوي عباس حلمي عن الإمام: «إن أفريقية أخرجت كثيرا من العلماء في العلوم والفنون المختلفة دون الفلسفة، ولكنها أخرجت فيلسوفا واحدا بذ جميع الفلاسفة وهو ابن خلدون، وكذلك مصر أخرجت من لا يحصى من العلماء دون الفلاسفة والحكماء، ثم أخرجت أخيرا حكيما فاق جميع الحكماء، وهو الشيخ محمد عبده.»
وقال السيد نعوم اللبكي في كلمة يرثي الإمام بها: «إن مصاب النصارى بالإمام ليس لأنه كاتب وليس لأنه خطيب وليس لأنه لغوي، بل لأنه هو الذي استخدم كل ما وضعت الطبيعة فيه من القدرة في سبيل إصلاح الإسلام، فهو مصلح الإسلام، ومن أصلح الإسلام فقد أصلح الشرق، فمحمد عبده هو مصلح الشرق.»
ناپیژندل شوی مخ