مصر له ناصره نیولې تر جنګه
مصر من ناصر إلى حرب
ژانرونه
مقدمة
المقدمة
لقاءات مع ناصر
مصر: زمن الفتنة
محمد أنور السادات
ملاحظات على هوامش كتاب
مقدمة
المقدمة
لقاءات مع ناصر
مصر: زمن الفتنة
ناپیژندل شوی مخ
محمد أنور السادات
ملاحظات على هوامش كتاب
مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر
مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر
من أرشيف سفير
تأليف
فلاديمير فينوجرادوف
تقديم
فلاديمير بيلياكوف
ترجمة
ناپیژندل شوی مخ
أنور إبراهيم
مقدمة
اعتدت منذ أيامي الأولى في البعثة إلى الاتحاد السوفييتي للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة موسكو الحكومية؛ أن أزور المكتبات لجمع ما تيسر من الكتب في تخصصي؛ «تاريخ الأدب الروسي» (أي الأدب الروسي الكلاسيكي قبيل ثورة 1917م).
كانت ردهات الجامعة أيضا مكانا مميزا للحصول على كافة إصدارات دور النشر السوفييتية، فضلا عن الإصدارات الجامعية وإصدارات أكاديميات العلوم في كافة التخصصات، وقد لفت انتباهي وفرة الكتب التي تتناول دراسة مصر والمنطقة العربية في مجالات التاريخ والفنون والسياسة والأدب، وهنا لم يكن أمامي سوى أن أتخير من بينها ما رأيت أنه على درجة من الأهمية للباحثين والمؤرخين وطلاب العلم.
وقد بدأت فور عودتي في ترجمة عدد من المقالات في المجلات والدوريات، جمعتها لاحقا في كتاب، ثم شرعت في ترجمة كتب في التاريخ والسياسة، وهي كتب تضم بين صفحاتها وثائق مجهولة بالنسبة لنا نظرا لثراء الأرشيف الروسي بهذه المخطوطات. الآن أقدم عبر «مؤسسة هنداوي» المحترمة حصيلة ما أنجزته خلال سنوات طويلة من العمل في ترجمات صدرت عن دور نشر مرموقة، وجدت جميعها صدى جيدا لدى القراء والباحثين وأساتذة الجامعات المهتمين.
أنور إبراهيم
القاهرة 2021م
المقدمة
في العشرين من أكتوبر عام 2011م، احتفلت جمعية الدبلوماسيين الروس بالذكرى التسعين لميلاد واحد من أبرز أعضائها؛ فلاديمير ميخايلوفيتش فينوجرادوف (2 أغسطس 1921م، فينيتسه، 21 يونيو 1997م، موسكو). وفي الكلمة التي ألقاها الابن الأكبر لفينوجرادوف، ألكسندر فلاديميروفيتش، أشار إلى وجود العديد من المخطوطات في أرشيف والده، وهي مخطوطات لم تنشر من قبل، وتتعلق على وجه الخصوص بعمله سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى كل من مصر وإيران.
وما إن انتهت الأمسية حتى توجهت إلى ألكسندر فلاديميروفيتش معبرا له عن اهتمامي بهذه المخطوطات. وقد عرض علي قائمة كبيرة من الأعمال ذات الأهمية، نصف دستة منها تخص مصر، حيث عمل فلاديمير ميخايلوفيتش بها بدءا من أكتوبر عام 1970م وحتى أبريل 1974م بوصفه سفيرا مفوضا فوق العادة للاتحاد السوفييتي. وحيث إنني كنت شديد الاهتمام بالأمر، فقد طلبت منه أن يسمح لي بالتعرف على هذه المخطوطات وأنا على يقين أنها تمثل قيمة كبرى لقطاع عريض من الجمهور.
ناپیژندل شوی مخ
أطلق فلاديمير فينوجرادوف على الفترة التي عمل فيها سفيرا لدى مصر اسم «زمن الفتنة»، وكان محقا في ذلك؛ فقد كان مستقبل مصر آنذاك، والتي فقدت لتوها جمال عبد الناصر، الزعيم البارز لحركة التحرر الوطني، يكتنفه الغموض. وقد بدأ أنور السادات، الذي خلف ناصر في منصب الرئيس، بدأ شيئا فشيئا في تغيير سياسة البلاد. وها هي مصر تتحول أكثر فأكثر من التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي باتجاه التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال ذلك كانت النوايا الحقيقية للرئيس تتخفى في كثير من الأوقات وراء التأكيدات على الولاء للنهج الناصري. كانت مصر بحاجة إلى دعم الاتحاد السوفييتي، وقد ترك التعاون مع بلادنا في العديد من المجالات أثره الإيجابي على الجزء الأكبر من السياسيين المصريين وعلى المصريين البسطاء. خلاصة القول، في هذا الوقت تحديدا، تشكل اتجاه التطور القادم لمصر، واستمر، مع القليل من التعديلات، حتى أحداث يناير 2011م.
في غضون ذلك، تناولت المراجع الروسية في مطلع السبعينيات الأحداث التي وقعت في مصر بالدراسة، وإنما على نحو اتسم بالعمومية.
1
والكتاب الوحيد الذي ظهر باللغة الروسية، والذي يعود إلى هذه الفترة كان مكرسا لحرب أكتوبر 1973م، أضف إلى ذلك أن مؤلفه كان مصريا.
2
أما التراث الذي تركه فلاديمير فينوجرادوف فيمثل قيمة أكبر بالنسبة لنا.
إلى القاهرة جاء فلاديمير ميخايلوفيتش يحمل على كتفيه خبرة عظيمة في العمل الدبلوماسي؛ خمس سنوات سفيرا لبلاده لدى طوكيو (1962-1967م)، وثلاث تلتها شغل فيها منصب نائب وزير خارجية الاتحاد السوفييتي. كان مهتما بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، بمشكلات العلاقات السوفييتية المصرية، فضلا عن أنه أولى مستقبل مصر نفسها اهتماما بالغا. كان يتابع الصحافة المحلية يوميا، ويلتقي بسياسيين مصريين وأجانب بانتظام. كان يدرس الوضع «من داخله»، وهو جانب شديد الأهمية.
واصل فلاديمير فينوجرادوف عمله الدبلوماسي بنجاح بعد عودته إلى بلاده بعد أن أنهى خدمته بالقاهرة، ليصبح منذ عام 1977م وحتى 1982م سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى إيران. وهناك كان شاهدا على أحداث الثورة الإسلامية التي وقعت في عام 1979م، وهو ما يتحدث عنه في عمله الأساسي الذي يحتفظ به في أرشيفه. ثم، وعلى مدى سنوات، يرأس وزارة خارجية جمهورية روسيا الاتحادية.
ثلاثة من أربعة أعمال يضمها هذا الكتاب؛ «لقاءات مع ناصر»، «محمد أنور السادات: رتوش على صورة»، و«تعليقات على هوامش كتاب محمد حسنين هيكل (الطريق إلى رمضان)»
3
ناپیژندل شوی مخ
كتبها «في حينه» فلاديمير فينوجرادوف في عام 1975م فور عودته من القاهرة، وهو ما تؤكده التواريخ المسجلة على المخطوطات. وهي تنشر هنا للمرة الأولى عن النص المكتوب بالآلة الكاتبة بتحرير المؤلف. أما فيما يتعلق بالعمل المعنون «مصر: زمن الفتنة. مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي»، فقد كتب على الأرجح في منتصف الثمانينيات (لا توجد تواريخ على المخطوطة)، وهو ما تؤكده، على وجه الخصوص، بعض النصوص التي تم الاستشهاد بها مما كتبه عام 1975م، ثم التنويه في الخاتمة إلى أحداث مثل اتفاق كامب ديفيد ووفاة السادات. نشرت «مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي» للمرة الأولى في العدد الثاني عشر من مجلة «زناميا» («الراية») عام
4
1988م، ثم نشر جزء منها في كتيب فلاديمير فينوجرادوف «مشاهد من العمل الدبلوماسي».
5
وقد أضيف بالكامل في كتاب مذكرات فلاديمير فينوجرادوف الذي نشر بعد وفاته.
6
وقد رأيت أنه من المناسب إضافة هذا العمل أيضا لهذا الكتاب؛ إذ بدونه تصبح صورة مصر في عام 1970م ناقصة. وهو ينشر هنا استنادا إلى نسخة مكتوبة بالآلة الكاتبة طبق الأصل من مخطوطة المؤلف.
من الجائز أن يختلف قارئ اليوم مع بعض تقديرات المؤلف، لكن أعمال فينوجرادوف هي وثائق زمنه، رؤية شاهد عيان لأحداث حددت لزمن طويل مصير مصر نفسها والصراع العربي الإسرائيلي أيضا . وهنا تكمن بلا شك أهمية هذه التقديرات.
فلاديمير بيلياكوف
لقاءات مع ناصر
ناپیژندل شوی مخ
رأيت ناصرا للمرة الأولى في ظروف استثنائية؛ ففي فبراير عام 1970م كلفت باستدعاء مراد غالب،
1
سفير مصر لدى موسكو، وقلت له: «الآن، نحن في النصف الأول من اليوم، وأنا أبلغك بناء على طلب الرئيس ناصر أنه سيصل إلى موسكو في زيارة سرية، وسوف نتوجه معا من الوزارة مباشرة إلى المطار لاستقباله.»
لم يبد غالب اندهاشا. كان يعلم أن ناصرا لا يولي ثقة لشفرة جهازه الدبلوماسي، ولعله لم يكن يوليها أيضا لبعض العاملين في الجهاز. وبالفعل لقد طلب ناصر أن نرتب الأمر بحيث لا يعرف بزيارته أحد من المصريين في موسكو عدا السفير وحده. ذهبت مع السفير إلى المطار وهناك شاهدت ناصرا للمرة الأولى.
كانت المباحثات في موسكو ناجحة. تم تسليم مصر أسلحة جديدة للدفاع الجوي، وكان من الضروري إرسال أطقم سوفييتية إلى مصر بصفة مؤقتة.
لم يفكر ناصر بعد عودته إلى القاهرة أن يوقف ما عرف باسم «حرب الاستنزاف». استمر تبادل إطلاق النيران عبر القناة، بينما راح الإسرائيليون يوجهون ضرباتهم الجوية إلى المناطق المصرية في العمق. لم يؤد هذا الوضع إلى نتائج عملية في تغيير عناد إسرائيل، وإنما زادت الموقف توترا. أما الضحايا من الجانب المصري فقد راحوا، بشكل رئيسي، هباء.
في هذا الوقت أدار الاتحاد السوفييتي مباحثات مكثفة مع الأمريكيين بهدف إيجاد حلول سلمية للصراع
Conflict
في الشرق الأوسط. وقد سارت الأمور بشكل سيئ؛ بسبب الموقف المتعنت الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان مؤيدا تماما لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، فقد أظهر العرب أيضا تطرفا تجاه الموقف المتشدد من جانب إسرائيل، فلم يوافقوا، كما بدا، على الصياغات المعقولة في التسوية السياسية.
لقد تراكم عدد من الأسئلة: إلى أي مدى يمكن للمصريين أن يذهبوا في سبيل تسوية الوضع، الذي ينبغي أن يقوم على انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م؟ وهل سيتفق الجانبان على «وقف حالة الحرب»، أم أنهما سيكونان على استعداد للمضي قدما من أجل إقرار «حالة السلام»؟ ومتى يمكن لهذه الحالة أن تسود؟ كان من المفترض أن تتم جدولة خطة التسوية، بحيث يتم الانسحاب على مرحلتين. فمتى يمكن أن تحل، فرضا، حالة السلام عند انسحاب آخر جندي إسرائيلي من الأراضي المصرية، أم، ربما، بعد إتمام المرحلة الأولى من انسحاب هذه القوات؟ ثم ما الالتزامات التي ينبغي على الجانب المصري أن يؤديها بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، عند صياغة شروط السلام؟ هل يمكن، على سبيل المثال، أن يصل إلى التعهد بعدم السماح بقيام أعمال عدائية من أراضيها ضد إسرائيل؟ وأخيرا، هل كان السؤال مطروحا بشأن مواصلة «حرب الاستنزاف»؛ فهذه «الحرب» كانت تعوق محاولات التسوية، بل كانت تعوق، في الواقع، دخول وحدات الدفاع الجوي السوفييتية. فهل كان من الممكن وقفها ولو لفترة محدودة؟
ناپیژندل شوی مخ
كل هذه الأسئلة وغيرها كان من المقرر مناقشتها مع ناصر، على الرغم من أن فكرتنا في السابق كانت تتلخص في محاولة التوصل أولا إلى اتفاق مع الأمريكيين، ثم إبلاغ ناصر بعد ذلك للحصول منه على موافقته، أو على إجراء بعض التعديلات. كان ناصر يتعامل مع كل الصياغات التي كان يتصور أن من شأنها إضعاف موقف مصر بشعور من الحسرة والألم. كان وزير خارجيتنا (أندريه جروميكو، المؤلف) يرفض الذهاب إلى مصر، حيث إنه اضطر عدة مرات قبل ذلك للحديث مع ناصر بشأن هذه الموضوعات، ولكنها لم تسر على ما يرام. وقد رشحني للذهاب إليه وهو ما تمت الموافقة عليه.
وهكذا، حصلت على تفويض بمحاولة الاتفاق مع ناصر على عدد من القضايا المهمة والدقيقة. وقبل أن تحلق الطائرة بي قال لي وزير خارجيتي، إنه إذا نجح التفويض ولو بنسبة 10٪ فإن ذلك يعتبر نجاحا. لم تكن الوصية ملهمة كثيرا! وها نحن ننطلق إلى ناصر.
مارس عام 1970م، الزيارة الأولى لي للقاهرة. عندما وصلنا علمنا أن والد ناصر قد توفي، وأن من المنتظر أن يستقبلنا بعد يومين. وقد كرسنا هذين اليومين في محاولة الاتفاق مقدما على جميع القضايا مع وزير الخارجية محمود رياض
2 (ما عدا قضية إمكانية وقف «حرب الاستنزاف» بطبيعة الحال). وقد تباحثنا طويلا معه، وبدا لنا أننا أقنعناه، على الرغم من أنه، كما كان يحدث دائما، كان لديه قدر لا يستهان به من الشك وعدم الثقة في أي حل سوى الحلول العسكرية كوسيلة للتوصل إلى التسوية. وفي نهاية مباحثاتنا كان الشيء الوحيد الذي استطاع رياض أن يعدنا به هو إبلاغ فحوى حوارنا لناصر ولا شيء غير ذلك.
استقبلنا ناصر في بيته في هليوبوليس المقام في منطقة عسكرية. وكان البيت من الداخل غاية في البساطة والتواضع.
استقبلنا ناصر بكل بشاشة وترحاب. أجلسني إلى جواره على أريكة وقال لي إنه قرأ الملف الذي أعطاه إياه رياض بشأن المباحثات التي أجراها معي. وأعرب عن موافقته على طرحنا للقضية وأوضح أننا على حق؛ فإننا إذا تحدثنا عن السلام، فيجب علينا أن نتحدث عنه بصوت مسموع وليس همسا. إنه رجل سلام، ولير الجميع ذلك، ومن ثم فليس لديه مانع أن يعتبر مصر، في حالة إذا ما انسحبت القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، ليست فقط في حالة إنهاء حالة الحرب، وإنما في «حالة سلام» مع إسرائيل. وكان يعلم أن قراره هذا لن يلقى، على أقل تقدير، قبولا جماهيريا لدى البلاد العربية، فضلا عن مصر نفسها. ربما يظهر هناك رافضون، لكن الرجل كان على يقين من صحة رأيه، فضلا عن صلابة موقفه. وقال إن وضع مصر ومكانة رئيسها يتوقفان على قدرتي على السماح لنفسي باتخاذ حتى هذه القرارات التي قد تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى من جانب الشعب، ومن ثم لا تجد لديه قبولا.
وقال ناصر إنه بالنسبة لفرض حالة السلام فإنني أتفهم قلق الأصدقاء السوفييت جراء إحساسهم برغبة مصر في سحب البساط من تحت أقدام خصومنا المشتركين، وطموحها في التسلح ورغبتها في تدمير إسرائيل. في الواقع فإن البعض يمكنه أن يؤكد أن على إسرائيل ألا تسحب قواتها؛ لأنها لن تعرف ما سيكون عليه الوضع بعد انسحابها؛ سلام أم شيء ما آخر. ولكي يزول هذا الشك، فإنه على أتم استعداد للموافقة معنا على أن يحل السلام فورا بعد إنجاز المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية، بشرط ألا تستمر المرحلة الثانية من الانسحاب النهائي لفترة طويلة، عندئذ سيكون بإمكان الإسرائيليين أن يسحبوا، بشكل نهائي، قواتهم في ظروف سلمية بالفعل، وهو تنازل كبير من جانب العرب؛ إذ يعني نظريا أن مصر ستوافق على أن تكون في حالة سلام مع إسرائيل، على الرغم من أن القوات الإسرائيلية سوف تكون موجودة لبعض الوقت على الأراضي المصرية، ولكنها ستكون في حالة انسحاب.
أما بالنسبة لمسألة التزامات الجانبين في حالة قيام السلام، فكان ناصر يدرك أن من الضروري هنا حرمان العدو من استخدام ورقة عدوانية مصر؛ ولذلك فهو يوافق على تسجيل هذه النقطة، من بين نقاط أخرى، تفيد أن البلدين سوف لن يسمحا بأية أعمال عدوانية من أراضي أي منهما ضد أراضي الآخر. وقال ناصر إن من المحتمل أن يهاجمني الفلسطينيون لهذا السبب، ولكني لا أخشى ذلك، ما دام الحديث سوف يدور حول «الشروط النهائية للسلام»، والذي سيتضمن الحديث أيضا عن حل مسألة الفلسطينيين.
أعربت عن امتناني لناصر على قراره وأخبرته أنه سوف يساعدنا في نضالنا المقبل من أجل مصالح البلاد العربية.
بعد ذلك قلت إن لدي تكليفا حساسا آخر، لم يكن بإمكاني مناقشته مع محمود رياض. وهنا، عرضت عليه حججنا وتقديراتنا بشأن «حرب الاستنزاف»، وكانت هذه أصعب لحظة واجهتها. كان ناصر يربط هذه «الحرب» بالعديد من شعاراته السياسية، التي كان يستخدمها لتحقيق أهدافه السياسية سواء داخل البلاد أو خارجها.
ناپیژندل شوی مخ
أنصت ناصر إلى حججي جميعا باهتمام، وكنت قد أعددتها مسبقا بطبيعة الحال. وفي نهاية حديثي أخبرته أيضا بقرب وصول وحدات عسكرية سوفييتية.
استغرق ناصر في التفكير، تريث ونظر إلي باهتمام مقطبا جبينه على نحو ما لبرهة لم تطل، ثم قال بعدها: «حسنا، موافق على وقف إطلاق النار على ألا يطول الأمر. فإذا لم يتخذ الإسرائيليون والأمريكيون خلال هذه الفترة خطوات عملية في اتجاه التسوية، فسوف نبدأ الحرب من جديد. وبالطبع لا ينبغي أن يعرف الإسرائيليون والأمريكيون بما دار بيننا من حديث. يمكنك أن تقول لهم إنه إذا أوقفت إسرائيل غاراتها في عمق مصر فإنك ترى أن مصر قد تشرع في وقف حرب الاستنزاف. أما إذا سئلت حول ما إذا كنت موافقا على ذلك فسوف أجيب بأننا لم نتحدث في هذا الأمر.» وهنا، انفرجت أسارير ناصر.
تنفست الصعداء (بيني وبين نفسي بالطبع)، فقد نجح التفويض بنسبة 100٪.
وطوال الحديث الذي استمر بيننا بعد ذلك راح ناصر يطور فكرة أن الصراع في الشرق الأوسط لا يعد صراعا بين الدول العربية وإسرائيل، وإنما هو في الواقع صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وذكر ناصر أن الصراع العربي الإسرائيلي يبدو كما لو كان ناشئا عن هذا الصراع الأساسي العالمي بين السوفييت وأمريكا.
كان من الممكن بالطبع أن يؤدي قبول هذه الفكرة إلى استنتاجات خاطئة على المستوى النظري، فضلا عن المستوى العملي الخالص. وعلى الفور رحت أفكر لماذا طرح ناصر هذه المسألة: ترى هل طرحها لكي يختبر قناعاته الشخصية، وخاصة أن هذه المسألة التي طرحها بنفسه كانت رائجة رواجا كبيرا في الأوساط ذات النزعة القومية في مصر؟
قلت لناصر «إنني لا أتفق معه في أفكاره»، فنظر إلي دهشا، وقال: «هكذا؟!» ثم عرض علي أن أطرح وجهة نظري.
قلت إن الاتحاد السوفييتي ليس شريكا، ولن يكون، في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي هو صراع بين قوى التحرر الوطني، القوى التقدمية بقيادة مصر، والقوى الرجعية - إسرائيل - تدعمها الولايات المتحدة. وحيث إن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع بين قوى التقدم والرجعية، فليس من المستغرب أن الاتحاد السوفييتي يدعم القوى التقدمية، بينما تدعم الولايات المتحدة الأمريكية بحكم طبيعتها القوى الرجعية. استمع إلي ناصر بانتباه تام وحاول أن يطرح حججا إضافية، ولكنه في النهاية وافق على ما قلته. وما زلت حتى الآن لا أعرف لماذا طرح ناصر هذه المسألة ليوافق في النهاية. صحيح أنه قال، في نهاية حديثنا، إن أحدا في مصر لم يعارضه حتى الآن، ولعلني الأول الذي فعل ذلك. قال ذلك في سياق الدعابة، ولكن الواضح أن قوله لم يكن على سبيل المزاح.
فيما بعد كانوا يقولون لي إن ناصرا كان راضيا عما دار بيننا من حديث وجدل. كان الرجل نفسه لا يحب أن يعارضه أحد بطبيعة الحال، لكن المحيطين به، وهم يعلمون عنه ذلك، اشتطوا في الأمر، فكانوا يردون دائما بالإيجاب وكان ذلك يثير غضبه.
بانتهاء الحوار، استدعى ناصر المصورين الذين قاموا بالتقاط عدد من الصور للذكرى، ثم رافقني حتى مدخل البيت وودعني بحرارة، ثم وقف معنا مرة أخرى أمام المصور. اقترح ناصر علي البقاء ثلاثة أيام أخرى لزيارة الأقصر وأسوان لمشاهدة آثار البلاد، حيث إني أزور مصر للمرة الأولى، لكني كنت مضطرا للعودة إلى موسكو ووعدته بالحضور مرة أخرى إلى القاهرة.
لم أتوقع بالطبع أن يقول لي محمد حسنين هيكل، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف، وهو يتأمل هذه الصورة التذكارية وعليها توقيع ناصر: «لقد قال ناصر عدة مرات بعد سفرك: لا أفهم لماذا قدمت تنازلات كثيرة على هذا النحو لفينوجرادوف.» وأنا أيضا لا أعرف. لقد كانت تنازلات بالفعل، ولكنها كانت لصالح مصر نفسها.
ناپیژندل شوی مخ
كنت معجبا بناصر بصورة واضحة. كان ثمة قوة ما وثقة تنبعثان منه. لم يكن الأمر هنا مجرد كرم ضيافة نتيجة للتربية أو لكونه رب البيت. كنت أشعر بالحماس يمور بداخله، بل والميل إلى الشجار في الحديث. كان على ما يبدو راغبا في كسب مشاعر الصداقة، وربما اختبار محدثه بأن ينعطف بحدة أثناء الحديث، ثم يرى إن كان محدثه سوف يشعر بالارتباك والحيرة.
في صيف عام 1970م، جاء ناصر إلى موسكو مرة أخرى للعلاج، وعندما استقبلته في مطار فنوكوفو أصابتني هيئته التي تشي بالمرض بالدهشة. كان ناصر عريض المنكبين، طويل القامة، متين البنية، لكن وجهه لم يكن بسمرته، وإنما كان شاحبا بدرجة ما، معتلا، وفي عينيه ألم دفين. كان عليه أن يبتسم وأن يصافح مستقبليه. لا أدري إن كان قد تعرف علي، أظن أنه لم يعرفني. ألقى نظرة علي، صحيح أنه صافحني، ابتسم، لكنه كان يبتسم للجميع.
إبان المباحثات التي جرت في الكرملين، كان ناصر يتصرف كما لو كان بين صحبة حميمة، بحرية وفي غير تكلف. كان يستجيب ببساطة للدعابة. كان يقظا، بل كان شديد اليقظة عندما يستمع إلى ما يقوله القادة السوفييت. أما عندما كان الأمر يتعلق بمطالبه فكان يستخدم المنهج التالي؛ كان يعرض في البداية الموقف الذي يمثل الأساس لأسباب هذه المطالب، وكان في سياق ذلك يتحدث بإخلاص يأسر النفوس، فيقول على سبيل المثال: انتبهوا، ليس لدي أسرار أخفيها عنكم. بعدها يكون الوضع على النحو التالي: لقد أخبرتكم عن الوضع برمته، والآن عليكم اتخاذ القرار. كان أسلوبا مرضيا في كثير من الأحيان، ولكنه كان يؤدي إلى نتائج جيدة. وفي الواقع كان هو الأسلوب الضروري في سياق هذه العلاقات الودية التي سادت بين الاتحاد السوفييتي ومصر في تلك الفترة، الإخلاص الحقيقي، وليس الرغبة في الحصول على أي شيء وبأي وسيلة.
تسنى لي أثناء المباحثات أن أرافقه في السيارة. كان الحوار معه شيقا دائما، حيث يتيح الفرصة للتعرف عليه كإنسان. لقد سر سرورا كبيرا عندما علم أن كلينا كان لديه في فترة الشباب نفس الولع برياضة كرة السلة، وأن لدينا في الوقت الحالي نفس الهواية وهي التصوير السينمائي. وقد اشتكى لي ناصر أنه لم يعد لديه وقت كاف لكي يقوم بتنظيم الأفلام التي التقطها، وهي المشكلة المشتركة التي يعاني منها كل هواة التصوير السينمائي.
ذات مرة، تطرق إلى الحديث عن إذاعتنا. قال: «لماذا تفتقد إذاعتكم المهارة في بث الأخبار الدولية؟ إنها تذيعها متأخرة وغير شيقة، والأهم أنها غير مؤثرة. كم تخسرون بسبب ذلك! إنني أحمل دائما معي راديو ترانزستور موجه دائما على الخدمة الدولية لبي بي سي. الإنجليز يذيعون الأخبار كل ساعة بإيجاز ووضوح لمدة من سبع إلى عشر دقائق؛ ولهذا فإن العالم بأسره يستمع إليهم. لماذا لا تدبرون أمر هذه الإذاعة؟ سيكون الأمر أكثر أهمية لو استمعنا إلى موسكو بدلا من لندن.»
وفي مناسبة أخرى طرح علي سؤالا، قال: «لماذا لا تريدوننا أن نتحدث علنا عن المساعدات العسكرية السوفييتية لمصر؟ إن أعداءنا يعرفون ذلك، فلماذا إذن لا يعرف أصدقاؤنا وأصدقاؤكم بشأنها؟ ما دامت هذه المساعدات معروفة لأعدائنا فمن الضروري أن يعرف أصدقاؤنا بها. أنا على يقين أننا نخسر سياسيا بسبب ذلك.»
أثناء وجوده في موسكو تلقي ناصر نبأ مصرع خمسة طيارين من بينهم طيارون سوفييت في مصر، أسقط الإسرائيليون طائراتهم. كان الأكثر إيلاما بالنسبة له، أن الحادث جاء نتيجة استخدام الطيارين الإسرائيليين لأبسط أشكال المناورات. بعبارة أخرى، فإن طيارينا والطيارين المصريين وقعوا في فخ بدائي. وكانت المسئولية في ذلك تقع على عاتق التوجيه الأرضي. لقد شعر ناصر بالألم الشديد جراء مصرع الطيارين. وكان يقول لي دائما إنه كان يعرفهم جميعا شخصيا، وإن مصر لا تمتلك الكثير من مثل هؤلاء الطيارين الأكفاء.
كان ناصر موجودا في موسكو للعلاج عندما انتهى التحليق القياسي لرائدي الفضاء نيكولايف وسيفوستيانوف في الفضاء الكوني. وقد تمت دعوة ناصر ومرافقيه إلى حفل استقبال كبير في قاعة جيورجيفسكي بقصر الكرملين الكبير. وفي هذا اليوم تلقيت اتصالا هاتفيا يفيد أن ناصرا يود أن ينعم على نيكولايف وسيفوستيانوف بأعلى وسام مصري وهو «قلادة النيل»، وأن يقلدهما هذه الأوسمة أثناء الحفل. وقد طلب مني أن أشرح هذا الموقف. وقد حاولت أن أرتب هذا الأمر مع المعنيين لكنهم جميعا كانوا يقابلونه بالرفض. كانوا يزعمون أن التكريم أمر ممكن أن يكون مقبولا، ولكن لا داعي لمنح الأوسمة في حفل يقام في الكرملين. وقد أبلغنا ناصر بذلك، ولكنه غضب وقال إنه لن يذهب إلى حفل الكرملين لأنه مريض. وهنا اضطررنا لإرسال سفيرنا سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف إلى بارفيخو، حيث يقيم ناصر؛ ليخبره مباشرة أن ذهابه أمر لا بد منه. وقد حضر ناصر حفل الاستقبال، والحقيقة أنه فعل ذلك بعد أن أمر ياوراه أن يحملا معهما الأوسمة على أية حال. وهكذا جاءا يحملان علبتين كبيرتين. حاولت أن أقنع القيادة المنوطة بتنظيم الحفل نفسه، شارحا لهم الموقف؛ إذ إن ناصرا كان يقف متأهبا في انتظار السماح له بتقليد الأوسمة للأبطال، وقد نجحت في ذلك، ولكنهم أخبروني أن الأمر سيتم بطبيعة الحال، ولكن بعد برهة.
منذ هذه اللحظة لم أر ناصرا مطلقا.
كان علي فقط أن أقوم بمهمة حزينة؛ أن أشارك في الوفد الرسمي الذي رأسه ألكسي كوسيجين لحضور جنازة ناصر، وفي نفس توقيت الوفاة تم تعييني سفيرا لدى مصر.
ناپیژندل شوی مخ
فبراير 1975م، موسكو
مصر: زمن الفتنة
مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي
في حياة الدول التي حصلت على استقلالها منذ زمن غير بعيد نسبيا، هناك فترات صعود وهبوط، حركة سريعة على الطريق إلى أهداف مرسومة، ثم توقف، أو حتى خروج عن الطريق المرسوم. وأحيانا، تتحرك الأحداث إلى الخلف بصورة مؤقتة. أمور كثيرة تتوقف على صلابة السياسة الداخلية للنظام، وعلى مدى تأثير القوى الخارجية المختلفة، وفي بعض الأحيان على رجال الدولة الذين يجدون أنفسهم تحت ضغط الظروف أو بنزوة التاريخ على رأس الدولة. هؤلاء يحصلون على حقوق كثيرة في التأثير في سياسة الدولة.
وبسبب ذلك كله يتغير أحيانا منهج السياسة الخارجية تجاه الدول الأخرى.
وبالنسبة لعلاقتنا بمصر، الدولة الأكبر في الشرق العربي، كانت هناك فترات توقفت فيها هذه العلاقة على التغيرات الداخلية في مصر ذاتها.
لقد تسنى لكاتب هذه المذكرات أن يشتغل بقضايا العلاقات مع مصر منذ عام 1967م،
1
منها أربع سنوات تقريبا (1970-1974م) عمل فيها سفيرا لدى هذه الدولة، ثم رئيسا مشاركا في اتفاقية جينيف للسلام في الشرق الأوسط. أما الانطباعات التي تركتها لدي هذه الأحداث فهي كثيرة. كان من الواضح تماما، وبشكل خاص، الدور الذي لا تحسد عليه، الذي قامت به السياسة الأمريكية، باستغلالها للوضع الداخلي لمصر بعد وفاة ناصر لتتغلغل في الشرق الأوسط، وفي مصر بالدرجة الأولى. لقد كشف سلوك السياسيين الأمريكيين في تلك الفترة الأساليب الوقحة التي استخدموها، وبأي قدر من السهولة تخلوا عن التزاماتهم وعن الاتفاقات التي وقعوها. لقد قدم أنور السادات، الذي أصبح رئيسا لمصر بعد الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر، المساعدة الأكبر للأمريكيين في سياستهم في الشرق الأوسط.
لقد أصبح الشرق الأوسط، كما كان سابقا، واحدا من أكثر «النقاط الساخنة» على كوكبنا، وأصبحت أهم المهام السياسية على الساحة الدولية هي تسوية النزاع في الشرق الأوسط، و«تفكيك التكتلات»، إذا جاز القول، بالطرق السياسية السلمية وضمان حياة سلمية لكل سكان المنطقة.
ناپیژندل شوی مخ
كانت فكرة حل الصراع بالطرق المنفردة بهدف فرض شروط غير متكافئة على الدول العربية (ومن أجل ذلك كان من الضروري إبعاد الاتحاد السوفييتي عن المشاركة في التسوية)، فكرة غير واقعية رفضها المجتمع الدولي منذ زمن بعيد، حيث إنها لم تكن لتؤدي إلى سلام حقيقي.
لقد اتفقت الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكدت من جديد بالإجماع على أن وسيلة حل الصراع في الشرق الأوسط تتمثل في ضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط تشارك فيه الدول المعنية في المنطقة؛ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مصر وإسرائيل والدول الأعضاء في مجلس الأمن.
1
وصلت إلى بيتي عائدا من وزارة الخارجية ذات مساء بارد موحل يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 1970م. قالت زوجتي: لقد اتصلوا بك للتو يطلبون سرعة الاتصال بهم. اتصلت، وتبين لي ضرورة العودة فورا، لماذا؟ غير معروف. آنذاك، كنت أقوم بالإشراف على عمل قسمي الشرق الأوسط والأدنى.
علمت في غرفة النائب فاسيلي فاسيليفيتش كوزنيتسوف، النائب الأول لوزير الخارجية، بالخبر الذي تلقاه على الفور من القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى مصر (كانت تسمى آنذاك الجمهورية العربية المتحدة) فلاديمير بروفيرييفيتش بولياكوف. لقد توفي ناصر فجأة، رئيس مصر ورئيس وزرائها، زعيم الأمة المصرية، القائد التقدمي للعالم العربي، الصديق الكبير للاتحاد السوفييتي.
كان نبأ مفاجئا ومحبطا، وقد جرى استدعاء بولياكوف على الفور إلى مقر رئيس الجمهورية. كانت حالة من الهرج تسود المكان، ولدهشة بولياكوف، لم يوله أحد اهتماما تقريبا، ثم أخبروه أنه «لا حاجة لوجوده». وعندما عاد إلى السفارة، علم أن ناصرا قد توفي. في هذا اليوم، ودع ناصر رؤساء الدول العربية بعد مؤتمر ناجح أقامته القاهرة أوقف بفضله الصراع الدموي بين الأشقاء الفلسطينيين والسوريين من جانب، والأردن من جانب آخر. وقد شعر بوعكة صحية في المطار، وبعد أن عاد إلى المنزل، ازدادت حالته سوءا.
لم أصدق ما حدث. أحد الحاضرين في مكتب كوزنيتسوف رأى أن من المحتمل أن يكون الخبر غير صحيح. ولكن، إذا بهم يحضرون لنا برقية تؤكد رسميا أن الأمر قد وقع بالفعل، وأن ناصرا لم يعد بيننا.
تذكرت لقاءاتي مع ناصر في موسكو، وفي القاهرة. كان يفيض قوة وثقة، فضلا عن ذلك حبا للصداقة.
لكن ذلك لم يكن سوى انطباعاتي الشخصية عنه؛ فما تزال هناك تصورات أخرى تحجب الآن، على غير إرادة مني، تصوراتي السياسية عنه. لقد غادر الحياة القائد العظيم لأكبر أمة عربية، الرجل الذي قاد الثورة وقاد شعبه على طريق التقدم المستقل.
إن التحولات التقدمية في مصر، سواء في الريف أو في المدن، ولصالح العمال، ترتبط جميعها باسم ناصر. وهو الذي أنشأ المنظمة الجماهيرية المعروفة باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان يفكر في تأسيس حزب أراد أن يسميه «طليعة الاشتراكيين».
ناپیژندل شوی مخ
لقد قاده منطق النضال المخلص من أجل مصالح شعبه، من أجل الاستقلال الوطني بالدرجة الأولى، قاده إلى الإيمان بضرورة عقد صداقة أخوية متينة بين الشعبين المصري والسوفييتي، وبأهمية بناء علاقات قوية مخلصة بين مصر وبلادنا.
وبتأثير مصر التقدمية، تم طرد الإمبريالية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط. كان العالم العربي، الذي استيقظ على الاستقلال، مفعما بالعزيمة على تحديد مصيره بنفسه دون مستشارين من الخارج اعتادوا على إدارة شئون الشرق الأوسط. وكان ناصر واحدا من الذين أسسوا ما عرف باسم «حركة عدم الانحياز». باختصار، كان ناصر رجلا يمتلك سمعة عالمية رفيعة.
لقد طرح رحيل ناصر قضايا عديدة، سواء فيما يتعلق بصمود النظام ومواصلة الخطط الداخلية، أو، من ثم، التطوير المستمر للسياسة الخارجية لمصر، والتي كانت قائمة في ظروف إزالة آثار العدوان ضد الشعوب العربية من الفلسطينيين والمصريين والسوريين والأردنيين واللبنانيين وغيرهم.
في الحقيقة، كانت سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ورائها، ضد مصر، وبالتالي ضد ناصر. كان ذلك، إذا جاز لنا القول، «عدوانا خارجيا على الثورة» موجها ضد مصر باعتبارها القوة الأساسية والأكبر والأكثر تأثيرا وتقدمية للشعوب العربية ككل؛ ولذلك فإن أمورا كثيرة في نهاية سبتمبر عام 1970م أصبحت، برحيل ناصر، متوقفة على مواصلة منهج مصر، أو بتعبير أدق، على من سيرأس البلاد بعد رحيل ناصر.
واصلنا العمل طويلا في مكتب ف. ف. كوزنيتسوف، وتفرقنا بعد منتصف الليل بكثير.
في صباح الثلاثين من سبتمبر، غادرت مطار فنوكوفو-2 طائرة خاصة من طراز إيل-68 تحمل على متنها وفدا سوفييتيا لحضور جنازة ناصر، كان على رأس الوفد ألكسي نيكولايفيتش كوسيجين، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي. وضم الوفد قائد الأركان العامة للاتحاد السوفييتي، مارشال الاتحاد السوفييتي م. ف. زاخاروف وأنا، بصفتي نائبا لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي، وكذلك الجنرال ف. ف. أوكونيف، كبير المستشارين العسكريين السوفييت، الذي كان قد عين لتوه في هذا المنصب. وف. ب. بولياكوف القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية والذي كان موجودا آنذاك في القاهرة. وفي صباح نفس اليوم، تم اتخاذ قرار بطلب موافقة حكومة جمهورية مصر العربية على تعييني سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى القاهرة. وكان القائم بالأعمال المؤقت برأس السفارة لمدة تزيد على شهر بعد وفاة سفيرنا الدبلوماسي المحنك سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف.
هبطت بنا الطائرة وسرعان ما بدأ الظلام يزداد حلكة. جمهور غفير أحاط بالطائرة، لم يكن باستطاعتنا أن نتبين من هم. هبطنا سلم الطائرة كيفما اتفق نحو ظلام دامس. لم يكن هناك من ضوء سوى شعاع يصدر من هنا أو هناك من أجهزة الإضاءة الخاصة بمصوري السينما والتليفزيون، عندئذ كانت تتراءى لنا ظلال رءوس الجمهور القلق. وعلى الفور انتقلت إلينا مشاعر الاضطراب والعصبية التي اكتنفت ليل القاهرة.
استطعنا ونحن على سلم الطائرة رؤية السادات وهو يستقبل الوفد السوفييتي (كان نائبا للرئيس آنذاك) وبصحبته محمد فوزي وزير الحربية وعلي صبري وشخص آخر. غرق ألكسي كوسيجين في أحضان المصريين الباكين، ثم بدأ الحراس يهرولون إلى الأمام باتجاه ما (لعلهم اتجهوا نحو السيارات). مرة أخرى، وجدنا أنفسنا وسط الزحام في الظلام. رحت أساعد ماتفي فاسيليفيتش زاخاروف على التماسك. دلفنا إلى سيارة ما كبيرة على زجاجها الأمامي أرقام . جلسنا ثم انحشر شخص ما إلى جوارنا. - إلى أين؟ - خلف الآخرين، إلى حيث يذهبون.
شقت السيارات طريقها وسط الزحام، واحدة تلو الأخرى، مغادرة المطار لتتخذ طريقها نحو المدينة.
خيل إلي أن القاهرة خرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع. إلى أين هم ذاهبون. كان الناس يلتصقون بالحافلات وعربات الترام. كانوا يصيحون ويهتفون بقوة معبرين عن مشاعرهم بإشارات ما. العديد منهم كانوا يبكون ويرفعون أيديهم إلى السماء. كان الجو حارا ورطبا وخانقا. كانت كل هذه المشاهد والأصوات معا تخلق انطباعا بأن شيئا ما غير طبيعي يحدث.
ناپیژندل شوی مخ
أنزلونا، كوسيجين وزاخاروف وأنا في محل إقامة السفير السوفييتي على شاطئ النيل، غير بعيد عن السفارة، بينما نزل باقي الرفاق في فندق «هيلتون» على الضفة الأخرى للنهر.
وفي نفس الليلة التقى ألكسي كوسيجين بالسادات، بعدها توجه لتقديم واجب العزاء لأرملة ناصر. ولدى عودة ألكسي كوسيجين تساءل، وقد استغرق في التفكير، عما يعنيه هتاف الجماهير المتكرر: «ما تسيبناش.» ماذا كانوا يعنون بذلك؛ أسرة الراحل، الدولة، أم الشعب المصري؟ لماذا انفجر هذا الرجاء؟
ذهبت إلى وزير الخارجية محمود رياض، ثم إلى رئيس تحرير جريدة «الأهرام»، وهو في نفس الوقت وزير الإرشاد القومي محمد حسنين هيكل، الصحفي الشهير، وكانت تربطني به علاقة قديمة.
كان رياض يبكي. ماذا سيبقى لنا بعد ناصر؟ تعاليمه، حزبه، رفاقه في الفكر؟ هل سيتحمل الناصريون الخسارة، وهل سننتظر إلى أن يقوم خصوم ناصر ونهجه السياسي بامتلاك زمام الأمور في الداخل والخارج.
قال هيكل وعيناه مغرورقتان بالدموع: «لا أصدق، لا أصدق. أنتم الأصدقاء الأوفياء لناصر ما زلتم هنا، بينما هو توفي لتوه. أمر جيد أن يكون أول من وصل هم أفضل أصدقائه. لقد كان ناصر يفكر منذ فترة قريبة أن يلتقي بك، حتى إنه أعرب عن رغبته في أن يتم تعيينك سفيرا لدى القاهرة.» انتفض جسدي دون رغبة مني. لقد حان الوقت لأن أخبر هيكل بشأن تعييني، كنت أعلم أن كوسيجين موجود الآن لدى السادات وسوف يحدثه في ذلك.
حضر الجنازة رؤساء الدول ورؤساء الوزراء والشخصيات الحكومية البارزة، وقد طلب معظمهم أن يلتقوا برئيس الوفد السوفييتي، وأخبرني ألكسي كوسيجين أن السادات وافق على الفور على تعييني سفيرا، وأنه قد بات علي منذ اللحظة أن أحضر المباحثات جميعا بوصفي السفير السوفييتي الجديد. كانت الفكرة الرئيسية التي راحت تؤرق كل الشخصيات العربية كما قالوا لنا: إن مصر ينبغي ألا تفقد دورها القيادي أيا كان من سيصبح رئيسا لها، وإن مصر يجب أن تظل زعيما للعالم العربي؛ ولهذا فإن على المصريين أن يختاروا رئيسا يمكنه أن يواصل قضية ناصر، وفي هذه الحالة فقط لن تسقط الراية العربية المشتركة من يد مصر. فكرة صائبة، ولكن من بخلاف المصريين أنفسهم بمقدوره أن يحل هذه المسألة؟
تلقينا أنباء تفيد بأن الطامحين لمنصب الرئيس هم السادات في المقام الأول وكذلك حسين الشافعي، وهو واحد من القيادات الموجودة ومن ذوي الميول الإسلامية، وعلي صبري السياسي الشهير الذي تم تصنيفه باعتباره «يساريا». كما تردد الحديث عن مرشحين آخرين مثل الدكتور محمود فوزي، أحد أقدم الدبلوماسيين المصريين وأكثرهم خبرة، وزكريا محيي الدين الذي يعد سياسيا برجوازيا من الجناح اليميني، وآخرون.
كان ناصر قد قام، قبيل وفاته، بإدخال بعض التعديلات في المناصب القيادية، ويقال إنه لم يكن يحب أن يشغل المسئول مقعدا واحدا لمدة طويلة، ومن ثم يكتسب نفوذا فائقا. وقد عين السادات في منصب نائب الرئيس، بعد أن ظل هذا الرجل «غير مرضي عنه» لبعض الوقت. وهكذا شاءت الصدفة أن يكون أنور السادات في هذا المنصب عند وفاة ناصر.
من المعروف أن السادات لم يكن ينتمي إلى السياسيين الذين يتميزون بسعة الفكر. كان عضوا بتنظيم «الضباط الأحرار» الذي كان يرأسه ناصر عند قيام انقلاب عام 1952م، والذي انتهى بإزاحة الملكية، وهو الانقلاب الذي أيده الكادحون المصريون، والذي استحق أن يسمى بحق ثورة. وعلى الجانب الآخر، كان السادات هدفا لسخرية الضباط نتيجة ثقافته المحدودة وتواضع معارفه؛ ولهذا فقد راح يحاول تعويض هذا النقص بالتكلف والاصطناع والتظاهر بالتدين. كان رجل مكائد من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، ولم يكن شخصا مستقيما صريحا، وكان يرى الآخرين متآمرين. كان دساسا ولم يكن ثوريا. هكذا رآه المصريون الذين كانوا يعرفونه جيدا.
كان اختيار مرشح للرئاسة الأمر الأكثر مسئولية وخاصة في ظل الظروف التي كانت تمر بها مصر، حيث تلعب شخصية الزعيم دورا كبيرا لا حدود له، وحيث حقوق الرئيس كثيرة وصلاحياته واسعة وفقا للتقاليد، أوسع بكثير مما في الدول الغربية على سبيل المثال. ولهذا فقد استمرت اجتماعات السياسيين المصريين مدة طويلة؛ إذ كان من الضروري التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف. كان الجميع يدركون شيئا واحدا، وهو أنه ليس هناك نظير لناصر، وأن خليفته لا يمكن أن يطاوله. استمر الصدام بين المرشحين، وسرعان ما وصلوا، كما أخبرونا، إلى أن القرار يجب أن يكون في الوقت الحالي قرارا أقل ضررا وأكثر منطقية. وقالوا إن التناول البراجماتي في هذا الأمر قد لعب فيه عزيز صدقي الدور الأكبر، وصدقي هو رجل اقتصاد موهوب يتمتع بالتفكير الواضح، وكان آنذاك هو الوزير الأسبق للصناعة والتجارة. كان أكثر الحلول بساطة، هو ترك الجدل بشأن ترشيح رئيس دائم، وليكن نائب الرئيس، أنور السادات، هو الرئيس ولو مؤقتا، ثم لنبحث الأمر فيما بعد.
ناپیژندل شوی مخ
وقد أكد لنا السادات أن هذا هو بالفعل القرار الذي اجتمعت عليه القيادة؛ الرئيس هو أنور السادات، على أن يصبح الدكتور محمود فوزي رئيسا للوزراء. كان فوزي قد عمل مع ناصر (وهو يرضي مصالح القطاع البرجوازي في المجتمع)، ويكون نواب الرئيس هم علي صبري (المجموعة اليسارية) وحسين الشافعي (المجموعة الإسلامية). وهكذا تم إرضاء الجميع.
كانت الشمس تصب نارها بلا رحمة من سماء مصر الزرقاء الخالدة. بدأت الحرارة في الازدياد منذ الصباح. الأول من أكتوبر هو يوم الدفن. سوف يتم نقل النعش وبداخله ناصر بطائرة مروحية إلى جزيرة الزمالك، حيث مقر مجلس قيادة الثورة السابق الواقع مباشرة على النيل. كان الأمر رمزيا. سوف تصل إلى هنا الوفود الأجنبية، وسوف يسيرون في موكب يعبر الجسر إلى الجانب الأيمن من النيل وحتي مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ثم يتجه الموكب إلى الجزء الشرقي من المدينة؛ هليوبوليس، إلى مكان الدفن في مسجد شيد حديثا، ويقع بالقرب من البيت الذي عاش فيه ناصر. على هذا النحو تحددت المراسم.
كانت الظروف المرعبة التي مرت بها القاهرة في الأيام السابقة ماتزال محسوسة وعلى نحو أقوى من ذي قبل. زحام، جماهير غفيرة تملأ الشوارع. كانت المدينة تعج بضجيج لا يهدأ بسبب الملايين من الحناجر الغاضبة. كان تعداد القاهرة وضواحيها يبلغ ثمانية ملايين نسمة، أضيف إليهم مليونان من البشر جاءت بهم قطارات مزدحمة (اعتلى الناس أسطح العربات والجرارات ودرجات السلم).
اصطف في محيط سفارتنا خارج السياج جنود يحملون دروعا من الخشب ويمسكون بعصي في أيديهم (في حالة وقوع هجوم من الجماهير). فكرت، ولماذا يهاجموننا؟ ومن الذي سيهاجمنا؟
كان من المفترض أن يكون الجسر بدءا من ناحيتنا وحتى جزيرة الزمالك معزولا ومفتوحا للمرور للضيوف الأجانب فقط، لكنه كان مكتظا بالناس، الذين كادوا يتدلون من أسوار الجسر. لم يكن من الممكن فعل أي شيء تجاههم، لا صراخ جنود الشرطة ولا التلويح بالعصي. كان البعض يضرب، والبعض الآخر يكتفي بالتهديد. أما الزمالك فكانت تقع على مرمى حجر منا، عبر المجرى الضيق لنهر النيل الذي لا يزيد عرضه هنا على أكثر من 40 إلى 50 مترا.
وصل هيكل ليلتقي بالوفد السوفييتي، وكان مكلفا بمرافقتنا، لكن وفدنا كان معزولا.
كان الجسر الفاصل بيننا وبين الزمالك مقطوعا حتى يبعدوا الجمهور عن الجانب الأيسر للنيل. ظل هيكل والمصريون المرافقون له يواصلون الاتصال تليفونيا دون انقطاع، وفي النهاية، أبلغونا أنهم سيرسلون لنا زورقا وإلا فإننا لن نصل أبدا. قطعنا ما لا يزيد على مائتي متر بواسطة الزورق حتى وصلنا إلى مرسى الزمالك أمام المبنى مباشرة، حيث تقرر أن تبدأ الجنازة منه. خصصوا لنا غرفة مستقلة، ثم جاءنا السادات وعلي صبري وظلوا معنا بالفعل طوال الوقت. ومن حين لآخر كان رؤساء الوفود الأجنبية الأخرى من الرؤساء آنذاك؛ الأتاسي (رئيس سوريا)، مكاريوس (رئيس قبرص)، النميري (رئيس السودان)، بو مدين (رئيس الجزائر)، ديميريل (رئيس وزراء تركيا)، هويدي (رئيس إيران)، إعتمادي (رئيس أفغانستان)، حسين (ملك الأردن)، ريتشاردسون (وزير الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية)، عرفات (رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)، جو مو-جو (ممثل جمهورية الصين الشعبية) وآخرون، كانوا يأتون لتبادل التحية مع ألكسي كوسيجين.
كنا نسمع أزيز المروحية المحلقة فوق رءوسنا، وسرعان ما استدعونا إلى الفناء الداخلي للمبنى، حيث وضع في وسطه نعش خشبي بسيط مغلق وملفوف بعلم الدولة المصرية، وقد أحاط به عدد من الضباط الشبان راحوا يبكون وينشجون بحرقة، وإلى جوارهم عدد من الأفراد في ملابس مدنية. حاول بعض العسكريين إبعادهم بلا جدوى. كان هناك شخص ما يحاول إعادة انضباطهم مصدرا إليهم أوامر ما، لكنهم لم يستجيبوا.
في نهاية الأمر، تلقت الوفود الأجنبية الدعوة للخروج من المبنى إلى الشارع، وهنا سار الجميع فيما يشبه الطابور، لكن أحدا لم يكن بإمكانه أن يلتزم بالنظام، فكان على الوفد أن يجد موطئ قدم. كان وفدنا في المقدمة.
وأخيرا، بدأ موكب الجنازة في السير من يسارنا، مجموعة صغيرة من الجنود يحملون أكاليل الزهور، خلفهم ستة خيول تجر عربة مدفع وضع عليها النعش. كان الجنود السائرون يبكون مثلهم مثل رفاقهم فوق ظهور الخيل. راح الموقف يزداد اضطرابا ومن ثم إثارة للأعصاب حتى أصبح المشهد هستيريا.
ناپیژندل شوی مخ
كان من المفترض أن تسير الوفود الأجنبية خلف عربة المدفع، ولكن هيهات؛ لقد اندفعت الجماهير العارمة التي لا يعرف أحد من أين جاءت. كان من المستحيل تدارك الأمر. في الواقع، كنا نندمج في الموكب بقوة، وسرعان ما ازداد الزحام. كان الناس يتدافعون وهم يخشون السقوط على الأرض. إن سقوط المرء هنا معناه أن تسحقه الأقدام حتى الموت. حملت الجماهير ألكسي كوسيجين إلى مكان ما في الأمام بعيدا عنا، أما أنا فقد احتواني زحام أشبه ما يكون بالدوامة. وها أنا أرى ثلاثة وجوه شاحبة كساها الرعب أعرفها جيدا هم رؤساء وزراء تركيا وإيران وأفغانستان؛ ديميريل وهويدي وإعتمادي، دفعت بهم الحشود بعيدا تماما، تماسكت موليا ظهري بقوة في مواجهة القادمين من خلفي مفسحا بمرفقي طريقا لنفسي، متشبثا بأقدامي في الأرض بكل قوة. كنت مدفوعا من الخلف، وبفضل دفاعي توفرت أمامي مساحة صغيرة من الأرض اندفع إليها رؤساء الوزراء الثلاثة.
كان موكب الجنازة يتحرك على نحو عشوائي؛ تارة في هذا الاتجاه وتارة في اتجاه آخر، تارة تندفع إلى الأمام، وتارة أخرى تتوقف تماما، وقد تعالى الصراخ والعويل. وفجأة يتوقف الموكب من جديد. صيحات قوية. وإذا بنا أمام مجموعة من الأفراد قادمين من الاتجاه المعاكس. كانوا يلوحون بأيديهم يطلبون أن نفسح لهم الطريق. ومن ورائهم بدا جمع آخر يرفع كرسيا جلس عليه السادات مغمض العينين دون حراك، وقد راحت ذراعاه تتأرجحان في الهواء. كان على الموكب أن يتوقف إذ كان التقدم أمرا لا جدوى من ورائه. ضاع رفاقنا في الزحام. تلفت حولي؛ السادات حملوه إلى البيت. ترى ما الذي حدث للرئيس الجديد؟ في الأمام، راحت الجموع الغفيرة الباكية في التراجع وسط عمود كثيف من التراب، أما خلف الجسر فكان هناك ما يقرب من مليون من البشر لا يزالون يحتشدون.
أبعد الضيوف الأجانب إلى مدخل الجزيرة ونصحوهم بعدم الاستمرار في السير لخطورة الموقف. أبلغت ألكسي كوسيجين بما حدث للسادات، فعبر عن دهشته وأرسل على الفور رئيس قسم المراسم في وزارة خارجيتنا ب. ل. كولوكولوف وكان ضمن الوفد، للاستعلام عما حدث، لكن المصريين تكتموا الأمر، ثم أبلغونا «سرا» أن السادات في حالة سيئة، فضلا عن علي صبري أيضا الذي ساءت حالته قبل ذلك بمجرد وصول النعش وبداخله جثمان ناصر، وأن الأخير تحت الرعاية الطبية، وقد ازدادت حالة السادات سوءا عندما اكتشف غياب نائب الرئيس. وقد أحضروا السادات إلى الغرفة التي يرقد فيها علي صبري. رقد الرجلان في غرفة واحدة وكان كل منهما يختلس النظر إلى رفيقه بين الفينة والأخرى، وتوجها بالشكر إلى الرفاق السوفييت على اهتمامهم.
عدنا بعد ذلك إلى السفارة على متن الزورق البخاري.
في اليوم التالي، الثاني من أكتوبر، عقدت القيادة المصرية لقاءات عمل مع الوفد السوفييتي. أود أن أطرح هنا بعض الملاحظات؛ فقد أكد الجانب السوفييتي من جديد أن خطنا في تطوير التعاون قائم بيننا كما كان في عهد ناصر، قويا مخلصا، وأن يكون قادرا على الاستمرار، بطبيعة الحال، في إطار المصالح المتبادلة. وقد أعرب ألكسي كوسيجين عن إيمانه بأن القيادة الجديدة للبلاد سوف يكون باستطاعتها القضاء على الفكرة التي يروجها أعداء مصر حول إمكانية حدوث فراغ في كل من السلطة والأفكار والحسم في اتخاذ القرار. إن النهج الثابت والمستمر لقضية ناصر، إلى جانب التفاف القيادة بأكملها حول هذا النهج الذي يؤيده الشعب، واحترام العالم أجمع لمصر والعمل المنسجم للقيادة، سوف يساعد بلا شك على تجاوز كل المصاعب بما فيها إزالة آثار العدوان الإسرائيلي عام 1967م.
وفي معرض رده على ألكسي كوسيجين أكد السادات أن ناصرا هو صديقه وأخوه ومعلمه، وأن القيادة المصرية لن تسمح بوقوع أية صراعات، وأن الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وهي ميراث ناصر، سوف تزداد قوة ومنعة. وقد تناولت اللقاءات أيضا عددا من القضايا العملية التي تمس العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي، وقيام بلادنا بالمساعدة في حل عدد من المشكلات.
وفي اليوم التالي غادر الوفد السوفييتي مصر في طريقه إلى موسكو. عدت إلى القاهرة في الثالث عشر من أكتوبر بصحبة زوجتي بصفتي سفيرا مفوضا فوق العادة للاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية. استقبلني في المطار معارفي القدامي الرفاق؛ المستشار السفير فلاديمير بولياكوف والمستشاران فاديم كيربيتشينكو، ألكسندر أرلوف، بافل أكوبوف، والملحق العسكري بحري نيكولاي إيفلييف. أود أن أذكر هنا أن هؤلاء الرفاق المخلصين كانوا جميعا من المختصين البارزين، وإلى جانبهم كان هناك أيضا عدد من الدبلوماسيين الشباب، ولكنهم كانوا هم أيضا على درجة كبيرة من الكفاءة؛ مثل يوري كابرالوف، فافا جوليزادي، روبرت توردييف، شكلوا جميعا العمود الفقري للسفارة، الذي حمل على عاتقه العبء الأكبر للعمل المضني على مدى السنوات التالية، عندما بات من الواضح تماما أن الرئيس السادات قد انتهج نهجا مخالفا للنهج الذي سار عليه ناصر، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، فتحول بمصر من معسكر المناضلين النشطاء ضد الإمبريالية إلى داعم لها وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن إدراك هذا النهج واتخاذ الإجراءات المناسبة تجاهه في الوقت المناسب لم يكن أمرا سهلا. كان على السفارة أن تعاني كثيرا من المواقف الصعبة لاحقا.
2
بعد عشرة أيام من وصولي إلى القاهرة، وبعد عدد من المذكرات، أبلغتنا وزارة الخارجية المصرية أن الرئيس السادات مستعد لقبول أوراق اعتمادي. تمت المراسم آنذاك في جو غاية في البساطة، بل إنه لم يؤخذ في الاعتبار تبادل الكلمات على النحو التقليدي المتبع. على أن الحدث لفت انتباه وسائل الإعلام فامتلأت قاعة الاستقبال في قصر القبة - المقر الرسمي للرئيس المصري - بالمصورين ومصوري السينما والتليفزيون. انتهزت هذه الفرصة لألقي كلمة أوجزت فيها العلاقات الأخوية التي تربط الاتحاد السوفييتي بمصر، وعن تعاطفنا العميق تجاه الشعب المصري، وثقتنا في استمرار العلاقات بين بلدينا على نفس النحو المثمر كما كانت على عهد الرئيس الراحل ناصر، وأكدت في كلمتي على استعداد بلادنا لدعم مصر وقيادتها في المجالات جميعا، ودفع التعاون بين البلدين قدما. وقد رد الرئيس السادات بكلمة مقتضبة أعرب فيها عن تأكيد متانة علاقات الصداقة المصرية السوفييتية.
ناپیژندل شوی مخ
وفي سياق الحديث الذي أعقب تسليم أوراق الاعتماد عبر الرئيس السادات عن رغبته في استمرار التعاون الوثيق بيننا وعقد لقاءات منتظمة معه.
بعد الانتهاء من تسليم أوراق الاعتماد توجهت بنفس ملابسي الرسمية إلى قبر ناصر في المسجد الجديد الجميل الواقع على مقربة من بيته الذي عاش فيه، وهناك كان بانتظاري طاقم دبلوماسيي السفارة بأكمله وقد أحضروا إكليلا من الزهور عليه شريط كتب عليه باللغتين العربية والروسية: «إلى جمال عبد الناصر من سفارة الاتحاد السوفييتي لدى الجمهورية العربية المتحدة.» وقد أثار قيام السفير السوفييتي بوضع إكليل من الزهور على قبر ناصر على إثر قيامه بتسليم أوراق اعتماده للرئيس الجديد اهتماما كبيرا من جانب الصحافة والتليفزيون، فضلا عن تجمع العديد من سكان الحي في المكان. كنت أود بذلك أن أرسخ تقليدا وأن أؤكد على تواصل العصور.
وعلى الرغم من أن المصريين يعيشون على مساحة لا تتجاوز من 3-4٪ فقط من إجمالي مساحة البلاد، على شريط ضيق يمتد بمحاذاة النيل، فإن دلتا هذا النهر تشغل عدة مئات من الكيلومترات، بالإضافة إلى أراض شاسعة تقع على تخوم البحر المتوسط مباشرة، فإن البلد ذاتها، شعبها ، ماضيها، حاضرها، تترك في النفس، بطبيعة الحال، أثرا هائلا لا ينمحي. لقد بادت إنجازات الحضارتين اليونانية والرومانية على نحو أو آخر، بينما بقيت الحضارة المصرية القديمة ظاهرة في آثارها الخالدة. وعن هذه المعجزات التاريخية خطت مئات الكتب، ولا يزال بالإمكان كتابة مجلدات أخرى. ولهذا، وعلى الرغم من رغبتي في مشاركة الآخرين إعجابي بهذه الحضارة، فإنني لن أفعل ذلك، فهو أمر يدخل في اختصاص أناس آخرين. أشير هنا إلى انطباع لشدة ما أبهرني مفاده أن المصريين المعاصرين لا يشعرون أنهم ورثة هذا الماضي التليد. إن الكثير منهم يفتخر وحسب أنه يعيش في هذا البلد الذي تصادف أن ظهرت فيه في زمن ما أشياء عجيبة من شأنها أن تجذب إليها الناس من شتى أنحاء العالم.
وفي نفس الوقت، كان هناك أمر آخر أثار إعجابي أيضا وهو الإحساس الواضح بشعور المصريين، حتى البسطاء منهم، بأنهم سادة هذا البلد، وكان هذا الشعور يتجلى في الكثير من الأمور، سواء الكبيرة أو الصغيرة، وخاصة في السلوك اليومي وفي الأحاديث العادية والحميمة وفي كرم الضيافة التلقائي البعيد عن التكلف، وكذلك في التفاؤل وعزة النفس، وأخيرا في القدرة على تحمل المصائب بروح ساخرة. ليس من قبيل المصادفة أن شاعت هذه الطرفة الساخرة التي تقول إن نابليون هزم في مصر بفضل النكات التي استهدفه بها المصريون. وفي هذا السياق، راح المصريون يلاحقون السادات بالنكات منذ أن تولى منصب الرئيس. واحدة منها ذات مغزي خفي تقول: إن الرئيس السادات استقل سيارة الرئيس الراحل ناصر، وعند مفترق الطرق سأله السائق: إلى أين نتجه؟ يمينا أم يسارا؟
فسأله السادات باهتمام: وفي أي اتجاه كان يسير ناصر؟
أجاب السائق: «يسارا.»
عندئذ قال السادات: «حسنا، أعط إشارة الدوران إلى اليسار، ثم .. انطلق يمينا.»
كان مما أثار دهشتي أيضا هذه المشاعر الودية الجارفة التي يكنها المصريون للروس ، وخاصة تجاه الخبراء الذين كانوا يشاركونهم العمل في بناء محطة القوى الكهرومائية العملاقة في أسوان، وفي بناء مجمع الحديد والصلب في حلوان بالقرب من القاهرة، وفي المصانع الأخرى والمشروعات الزراعية، وفي الجيش بطبيعة الحال. كان سد أسوان يبدو من الطائرة على هيئة مشط نصف دائري مغروس وسط صحراء صفراء حارة مترامية الأطراف تتدفق المياه منه بلون الصلب الرمادي، ومن خلفه ترامت بحيرة عملاقة هي «بحيرة ناصر»، ومن الناحية الأخرى امتد نهر النيل شريطا قاتم اللون.
في فبراير عام 1971م، تم الاحتفال رسميا بانتهاء العمل في السد ومحطة الكهرباء التي راحت تعطي آنذاك نصف الطاقة الكهربائية التي تنتجها أفريقيا كلها. عزفت الأوركسترا ورفرفت الأعلام وعلقت الملصقات وعقدت اللقاءات الجماهيرية. انتهى بناء المشروع العملاق الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الاتحادية إفشاله؛ وذلك بفضل المساعدة النزيهة التي قدمها الاتحاد السوفييتي، الذي كان عليه القيام بحل المشكلات العلمية والفنية. لقد أقدم ناصر في شجاعة على التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي، وها هي أسوان وقد أصبحت تمثل قمة هذا التعاون. لقد باتت أسوان رمزا للحكمة الاقتصادية وإصرار ناصر، فضلا عن أنها جسدت رؤيته السياسية.
لقد تسنى للسادات افتتاح السد ومحطة القوى الكهربائية. وعلى اللوحات التذكارية التي أقيمت على السد ومحطة الكهرباء تخليدا لهذا الحدث البارز اختفت أية إشارة للاتحاد السوفييتي ودوره في تشييدها؛ فقد كتب: «بمشيئة الله ومساعدة أصدقائنا قمنا ببناء السد العالي الذي افتتحه الرئيس محمد أنور السادات.» من هؤلاء الأصدقاء؟ لعل أحفاد المصريين يبحثون بأنفسهم. لكننا رأينا مقدار الفرحة الصادقة التي حيا بها البناة المصريون أصدقاءهم الروس أثناء الاحتفال. كان المصريون يعلمون جيدا ما الذي قدمه الاتحاد السوفييتي؛ مصدرا هائلا للطاقة، ضوءا في البيوت، أمانا من الجفاف والفيضانات، وفرة في صيد الأسماك، آلاف الفرص للعمل ...
ناپیژندل شوی مخ
وبنفس مشاعر الفرح الصادق، قابل المصريون السوفييت لحظة تدشين أول سفينة صيد بنيت في مصر في ترسانة الإسكندرية التي أنشئت بمساعدة الاتحاد السوفييتي، حتى إن المصريين قاموا بتسلق أبراج الأوناش والجلوس على الخطاطيف المتأرجحة.
وأمام الساحة الصغيرة التي جرت فيها مراسم تدشين السفينة ذبح المصريون وفقا لتقاليدهم الشعبية، عجلا، وراح العشرات من العمال يغمسون أكفهم في الدم الطازج ابتهاجا بهذا الحدث الكبير.
لعل المهمة الأولى التي يحرص كل سفير جديد على القيام بها هي إقامة العلاقات والروابط مع الشخصيات القيادية المحلية ورؤساء البعثات الدبلوماسية، وهؤلاء عددهم ليس بالقليل، وهو ما يعني في الواقع زيارات تتلوها زيارات، فضلا عن ضرورة استقبالهم عندما يقومون برد الزيارة. إنه جهد غير عادي، خاصة عندما تقع أحداث أو تنفجر مشكلات لا تحتمل الانتظار، وهذه كانت تزداد يوما بعد الآخر.
لقد نجحت في وقت قصير في التعرف، بالدرجة الأولى، على غالبية الشخصيات القيادية في البلاد، ومن بينهم علي صبري وحسين الشافعي، نائبا الرئيس، والدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء (وهو واحد من أقدم السياسيين منذ عهد الملك السابق فاروق)، ومحمود رياض وزير الخارجية، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وشعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية (وكان في الواقع المنسق لنشاط المخابرات ومكافحة التجسس)، وعدد آخر من الشخصيات. كان هؤلاء هم المقربون من ناصر في سنواته الأخيرة.
كانوا أناسا ودودين للغاية، بعث بهم ناصر عدة مرات إلى موسكو وكانوا يشاركونه في المباحثات، وقد توطدت بيني وبينهم علاقات عمل جيدة.
لم يكن ذلك كافيا، بطبيعة الحال؛ لكي أحيط بالأوضاع في البلاد بشكل تام. لقد كانت معظم الأمور تتوقف على الرئيس نفسه. جدير بالذكر أن السادات أكد لألكسي كوسيجين ولي أيضا أن العلاقات بين بلدينا لن يمسها أي تغيير، بل إنها ستزداد قوة ورسوخا.
على أنه سرعان ما تراكمت السحب في الأفق. وفي لمح البصر اختفت لدى الرئيس الجديد الصراحة والثقة في علاقاته بنا، تلك الصفات التي ميزت ناصر ليحل محلهما الشك والسخط لسبب أو آخر.
كانت ظاهرة غريبة استمرت لفترة ما دون تفسير؛ فالاتحاد السوفييتي آنذاك لم يغير سياسته الودية البناءة تجاه مصر، ولم يكن هناك تصرف واحد ملموس يمكن أن يعكس أي شكل من أشكال التغير.
ترى هل كان ذلك يعني تغيرا في مزاج ونهج وسياسة الرئيس الجديد؟ لم يكن من السهل مطلقا الإجابة آنذاك، بشعور بالمسئولية، على هذا السؤال البالغ الأهمية بل والحاسم إذا جاز التعبير. وتمثلت صعوبة الإجابة أيضا في أن غالبية الشخصيات السياسية ورجال الدولة الذين ظلوا في مناصبهم بعد رحيل ناصر كانوا متمسكين بعلاقاتهم الودية تجاه الاتحاد السوفييتي. على أنه وبعد مرور شهرين أو ثلاثة، بدأ جزء من هؤلاء المسئولين - وهو جزء ضئيل في الواقع - في ترديد أقاويل السادات المتعسفة وافتراءاته على الاتحاد السوفييتي، وهي أقاويل لا تقوم على أساس، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل العسكرية. وفجأة، إذا بنا أمام مقال في صحيفة أو في إحدى المجلات، حيث يعمل نفر من أصدقاء السادات أو شركائه في الفكر، يتحدث عن نقص صفقات الأسلحة السوفييتية أو عن تدني المستوى الفني لها، ويخلص «الخبير المجهول» إلى أن أجهزة الكمبيوتر توصلت إلى أن «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة مع إسرائيل لا يستفيد من ورائها سوى الاتحاد السوفييتي. لم تكن هذه الحملات لتهدف إلا إلى بذر روح الهزيمة لدى المصريين وتشكيكهم في قواتهم المسلحة وإهالة التراب على أصدقائهم. كان هذا التوجه الملفق والمصطنع واضحا تمام الوضوح؛ فالمصريون، فضلا عن أعدائهم ذاتهم، كانوا يعلمون جيدا قدر المساعدات الهائلة التي قدمتها بلادنا من أجل رفع القدرة الدفاعية للجيش المصري والمساهمة الحاسمة في دعمه والوصول بها إلى مستوى قتالي رفيع.
على أن البعض لم يدرك على الفور أن هذا التوجه قد بدأ مبكرا للغاية بهدف تبرير تراجع مصر عن نضالها ضد الإمبريالية والقيام بتلك التغييرات في السياسة الداخلية والخارجية التي أضمرها السادات ثم أقدم على تنفيذها مؤخرا.
ناپیژندل شوی مخ
وفي الوقت نفسه، أصبح الخلاف واضحا بين الرئيس والغالبية الكبرى من القيادات، التي كانت تشغل مناصب بارزة في الحكومة وفي الاتحاد الاشتراكي العربي. وفي الشأن الداخلي، قاد الرئيس اتجاها يهدف إلى التقليص الحاد لنشاط ومهام الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان هو المنظمة السياسية الجماهيرية الوحيدة في مصر، والتي كانت قائمة على أسس أيديولوجية تقدمية. وإذا كان ناصر يحلم بأن يخرج من رحم هذه المنظمة تنظيما سياسيا باسم «طليعة الاشتراكيين»، فإن السادات قد سعى إلى حله.
أدرك السادات بسرعة أنه لن يستطيع أن يخضع بمفرده اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، فقد تشكلت داخل هذه اللجنة منذ ناصر ما يمكن اعتباره قيادة سياسية جماعية. وعلى سبيل المثال، فقد انتهت واحدة من أفكار السادات الطموحة في اتخاذ خطوات عملية نحو إقامة وحدة فيدرالية تجمع كلا من مصر وسوريا وليبيا (الجمهوريات العربية الفيدرالية) تحت قيادة مصر، بطبيعة الحال، انتهت بالنسبة له في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي بحالة من الفوضى. كانت هذه الفكرة الفجة والتي طرحت، علاوة على ذلك، دون تشاور مع أي من قيادات البلاد، مثارا للسخرية بين أعضاء هذه اللجنة، وهو ما أثار سخط السادات بالطبع الذي رأى أن على الجميع أن يمتثلوا لكل ما يقول.
تسنى لي حضور مؤتمرين عجيبين عقدهما الاتحاد الاشتراكي العربي؛ الأول في نوفمبر عام 1970م، حضره أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الذين تم انتخابهم في عهد ناصر. امتلأت قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، حيث عقد المؤتمر، بجمهور ارتدى غالبيته ملابس بسيطة راحوا يتصرفون بحرية ودون تكلف، بينما تصاعدت في القاعة أعمدة دخان السجائر، وعبر هذا الدخان وعلى نحو فني تسللت أشعة المصابيح المصاحبة للكاميرات التي أخذت في التقاط الأفلام التسجيلية وصور الوجوه والشخصيات الحاضرة في المكان. كان الموقف بأكمله يخلق انطباعا مباشرا بأن الحضور هم بالفعل ممثلو الشعب الذي نال استقلاله غير بعيد، وربما، لم يكونوا يمثلونه بدقة كما كان ينبغي، ولكنهم كانوا أناسا واثقين من أنفسهم بعد أن أصبحوا سادة في بلادهم، وأنهم ما داموا كذلك فسيجدون حتما الطريق الصحيح.
في يوليو من عام 1971م، كان الجمهور الذي حضر مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في قاعة الاحتفالات الكبرى مختلفا تماما. كان أغلبهم من الذين يميلون في الواقع لنهج السادات المعادي لعبد الناصر. نفس القاعة تشهد الآن أناسا يرتدون ملابس فاخرة، معتدين بأنفسهم على نحو ظاهر، على الرغم من حضور شخصيات أخرى في ملابسهم الشعبية، وتعكس ملامحهم روح البساطة، وإن كانوا هنا يمثلون أقلية لا تأثير لها. اتسمت كل الكلمات التي ألقيت بالرتابة والسطحية واتفقت على تمجيد السادات، وبالطبع فقد جاءت خالية من كل مضمون، على الرغم من أن المؤتمر كان مطالبا بتبني برنامج للعمل القومي، قام على إعداد وثيقته عزيز صدقي ومحمد حسن الزيات، وكلاهما كانا من قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي.
ألقى السادات الخطاب الرئيسي. كان خطيبا متكلفا، قرأ الجزء الأكبر من خطابه بشكل استعراضي تمثيلي بارع، بينما راح يلقي بكل ورقة جانبا وإن لم يستطع أن يتلاعب بالبرنامج، حتى راحت الأوراق تقع من على المنصة إلى الأرض، ولم يكن السادات يلاحظ ذلك. ساد الصمت، وإذا به ينظر إلى الأوراق نظرة بليدة ويقلبها ذات اليمين وذات اليسار بطريقة توحي بوضوح أنه يسخر من البرنامج. كان من المعروف أن السادات غير راض في قرارة نفسه عن هذا البرنامج الذي كان يستشرف دعم قدرات القطاع العام واتخاذ إجراءات إصلاحية وتقدمية أخرى. وفي النهاية غمغم قائلا: «ما دام مشروع البرنامج موجودا بين يدي الأعضاء فلا حاجة للحديث عنه.» وهكذا لاذ السادات بالصمت ولم يطرح أي رقم.
بالمناسبة، تم استبدال «بالبرنامج» برنامج آخر تماما عضده مساعدوه الجدد بشدة باعتباره الدواء الناجع والشامل، وهو برنامج «الانفتاح» أمام رأس المال الأجنبي والمحلي.
والآن لنعد إلى أحداث نهاية عام 1970م ومطلع عام 1971م.
أشخاص بعينهم هم الذين يصنعون السياسة، وهم الذين يضعونها موضع التنفيذ؛ أي إن السياسة تنعكس من خلال تصرفات أشخاص محددين، وكان من الواضح منذ الأيام الأولى لتولي السادات منصب الرئيس أن جماعة من الذين كانوا يشغلون مناصب قيادية في عهد عبد الناصر قد اتخذوا موقفا مخالفا لنهج السادات. وعلى رأس هؤلاء، علي صبري نائب الرئيس، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وضياء الدين داود أمين الدعوة والفكر باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية ، ومحمد فايق وزير الإعلام، وآخرون من قيادات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي وأمناء التنظيم في القاهرة والمدن الكبرى. وعلى الرغم من التباين والاختلاف تنظيميا بين كل هؤلاء، فإن المجموعة كانت تمثل عقبة أمام طموحات الرئيس الشخصية والتي كان يخفيها حتى عن أقرب المقربين له.
كان علي صبري يمثل الخطر الأكبر بالنسبة للسادات بسبب تفوقه الواضح عليه في الثقافة والتعليم والأفق السياسي. وفي 28 مارس 1971م أصدر السادات قرارا جمهوريا أزاح بموجبه ودون سبب واضح علي صبري من منصبه نائبا للرئيس. وكان السادات قد أبلغني بهذا القرار قبل نشره بيومين في محاولة منه لمعرفة رد فعلي تجاهه. وقد أخبرته أن «من الصعب علي التعليق على قرار اتخذه الرئيس. الأمر الوحيد الذي وددت أن أفعله هو أن أذكركم بالأمنيات الطيبة التي أبداها كوسيجين منذ نصف عام للقيادة المصرية عن ضرورة العمل بألفة وتضافر وتفادي الانشقاق في القيادة.» وعندها أخبرني السادات بلهجة حازمة أن القرار تم اتخاذه بالفعل.
لم يبد السادات أي اهتمام بالقضايا الداخلية، وعلى رأسها التنمية الصناعية والزراعية والنقل ورفاهية السكان وتطوير الثقافة. كانت القضايا الخارجية هي شاغله الشاغل، وأهمها قضية إزالة آثار العدوان الإسرائيلي وكل ما يرتبط بها من قضايا.
ناپیژندل شوی مخ
كان السادات يرى في نفسه خبيرا عسكريا أيضا، ولكنه كثيرا ما كان يستخدم المعلومات الخاطئة التي كان جنرالاته يمدونه بها.
لم تتوقف حدة الخلافات بين السادات والقيادات الأخرى على القضايا الداخلية بقدر ما احتد حول القضايا الخارجية؛ فعلى أثر توليه منصب الرئاسة طرح السادات شعار «ليكن عام 1971م عاما للحسم». وقد فعل ذلك بصورة منفردة ودون تشاور مع أي من القيادات الأخرى. ويعني الحسم هنا إعادة شبه جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل نتيجة لعدوان 1967م، إلى مصر. وحيث إن الإسرائيليين لم ولن يفكروا في إعادة الأراضي التي احتلوها طواعية؛ فقد كان السبيل الوحيد هو إعلان الحرب على إسرائيل.
واقع الأمر أن ذلك كان بمثابة إعلان مسبق من السادات أن مصر ستخوض الحرب ضد إسرائيل عام 1971م. كان السادات يسعى من وراء هذا الشعار إلى ابتزازنا أيضا: «لقد أعلنت هذا الشعار وعلى الاتحاد السوفييتي أن يساعدني في تحقيقه.» وعندما قلنا له: «إن الاتحاد السوفييتي صديق لمصر، ولكننا كنا نود لو أن الرئيس قاسمنا الخطط المحددة المتعلقة (بعام الحسم)، وهل تم وضع كل شيء في الحسبان؟ وما مستوى القدرات القتالية الذي وصلت إليه القوات المسلحة المصرية؟ وما إلى ذلك.» كان السادات يجيب في ضيق وإيجاز: «هذا مجرد شعار سياسي، أما باقي القضايا الأخرى فهي من اختصاص العسكريين المحترفين.» من المستحيل أن نصف هذا التصرف من جانب الرئيس بالتصرف الجاد. وفي هذا السياق، قال لي هيكل في تلك الأيام: لم يحدث مطلقا في التاريخ أن دولة أعلنت أنها ستشن حربا على دولة أخرى في العام الفلاني. إما أن هذا الأمر من قبيل الهزل، وإما أنه جريمة. أما المصريون فقد صموا آذانهم عن الأمر؛ فكم من شعارات أطلقت!
لقد بلغ الخلاف ذروته بين القيادات المصرية عندما تطرق الأمر إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لقد تم بالفعل طرد الإمبريالية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط في عهد الرئيس عبد الناصر. أما بعد رحيله، فأصبح معروفا للجميع هذه الاتصالات التي يجريها السادات مع المسئولين الأمريكيين دون أن يطلع بها قيادة البلاد الآخرين. كانت هذه الاتصالات تتم بمساعدة عملاء المخابرات الأمريكية
CIA
المتسترين وراء لافتة «قسم رعاية المصالح الأمريكية» التابع للسفارة الإسبانية. فبعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة أوكلت رعاية المصالح الأمريكية إلى السفارة الإسبانية، وتم رفع العلم الإسباني فوق مبنى السفارة الأمريكية، حيث راحت مجموعة من الأمريكيين، محسوبين على كوادر السفارة الإسبانية، تعمل بداخلها. لكن الأسرار لا تختفي طويلا؛ فقد أخبرني بذلك بعض القادة المصريين في سياق لقاءات العمل معهم، وقد اعتراهم إحساس بالخوف عن إمكانية عودة الأمريكيين إلى الشرق الأوسط مجددا. وكان أكثر ما يخيفهم هو خبر الزيارة المرتقبة لروجرز وزير خارجية أمريكا إلى القاهرة. كان من الواضح أنهم يربطون بين هذه «المبادرة» وبين حدوث تحول ما في نهج السادات. وعند لقاءاتي بالرئيس كنت أذكر له ، بطبيعة الحال، ما دار بيني وبين القيادات المصرية الأخرى. وكان السادات يسارع بالقول: «أعلم، أعلم، لقد أحاطوني علما بذلك.» كان علي أن أتوخى الحذر وقد استشعرت وجود خلافات على مستوى القيادة في البلاد. وفي نهاية لقاء جرى بيني وبين السادات في شهر مارس، وربما في شهر أبريل عام 1971م، سألت السادات على نحو يبدو عارضا: «قل لي من فضلك من هم أفضل أصدقائك الذين يمكنني التحدث معهم بصراحة تامة؟» فأجاب السادات قائلا: «محمد فوزي (وزير الحربية)، شعراوي جمعة، سامي شرف» (وكان قبل ذلك يذكر علي صبري أيضا). وقد سألني بدوره: «ولماذا تسألني يا سيادة السفير؟» أجبت: «أردت ببساطة أن أكون على ثقة فيمن أتعامل معهم.» كان السادات - بالمناسبة - يرسل في هذه الفترة إلى موسكو علي صبري ومحمد فوزي وشعراوي جمعة وسامي شرف لإجراء مباحثات مهمة هناك، مقدما إياهم كل مرة للقيادة السوفييتية باعتبارهم أصدقاءه المخلصين.
عندما وصل روجرز إلى القاهرة أصبح من الواضح أن السادات قد تعمد أن يجري معه، على نحو استعراضي، محادثات منفصلة؛ مما اضطر وزير خارجية مصر آنذاك محمود رياض إلى الجلوس ما يقرب من ساعتين في غرفة جانبية. ومن القاهرة توجه روجرز رأسا إلى تل أبيب، بينما وصل منها في نفس الوقت إلى القاهرة سيسكو نائب وزير الخارجية الأمريكية وبصحبته موظف صغير في الخارجية الأمريكية يدعى ستيرز، وقد التقى بهما السادات وعلى انفراد أيضا. وقد نالت صيحة الدهشة التي أطلقها روجرز بعد أن أعلن الرئيس السادات موقفه من قضايا الشرق الأوسط شهرة واسعة والتي قال فيها: «لا أستطيع أن أطلب المزيد من مصر!» وقد حملت هذه العبارة معني ملتبسا.
كان السادات يدرك أن «مغازلته» للأمريكيين لا يمكن أن تمر مرور الكرام؛ فقد طرح علي السادات عدة مرات أثناء أحاديثه معي اقتراحا بعقد اتفاقية صداقة وتعاون بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وطلب مني أن أبلغ موسكو بهذا الاقتراح (بالمناسبة فقد ظهرت هذه الفكرة للمرة الأولى في عهد الرئيس عبد الناصر). على أن نبرة الرئيس آنذاك كانت تشي بأنه لا يعقد آمالا كبارا على الإطلاق على قبول اقتراحه، وأنه لا يولي أهمية لقبول اقتراحه في ظل الوضع الراهن آنذاك. كان من الواضح أن الرجل يبني حساباته على الرفض؛ إذ كان الرفض يمثل له - لسبب ما - أهمية ما .
في الحادي عشر من مايو 1971م، كنت في ضيافة السادات في مقر إقامته في الجيزة القائم على ضفة النيل بالقرب من سفارتنا. مكثت هناك لساعة متأخرة من الليل. رحنا نتبادل الحديث، بينما راحت رجال الرئيس المحببة لديه تركض حولنا وتقفز على الأريكة حيث نجلس متلمسة أطراف أقدامنا. كان السادات يقوم بإبعادها بكسل واضح وقد راح يشتكي من المصاعب والإجهاد اللذين يعاني منهما، قائلا لي إنه يحب الجلوس وحيدا في الظلام ليلا بالقرب من المياه مستسلما للتفكير. تطرقنا للحديث إلى موضوعات عديدة. عند نهاية اللقاء، طرحت عليه مرة أخرى سؤالي السابق حول أصدقائه الثقات، فابتسم قائلا: «يمكنك أن تضع ثقتك، مثلي تماما، في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء «دائرتي المقربة».» حدث ذلك في الحادي عشر من مايو.
في الثالث عشر من مايو، وبناء على اتفاق مسبق مع سفير جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) مارتين بيرباخ، قمنا بتنظيم حفل مشترك تأكيدا على الصداقة بين السفارتين. أقيم الحفل في سفارة ألمانيا الديمقراطية. كان الجو حارا وخانقا، وقد بذل الرفاق الألمان جل اهتمامهم لعمل برنامج جيد يتسم بالمرح. على أن السفير لم يستطع أن يفلت من أفكاره وخاصة أنه كان يستشعر (وكان هناك ما يوحي بذلك) أن أحداثا جساما على وشك الوقوع، ولكن ملامحها لم تتضح كاملة بعد.
ناپیژندل شوی مخ
في منتصف الحفل، تغيب السفير برهة لاستدعائه لأمر ما، وعندما عاد همس في أذني قائلا: «لقد أخبرني سائقي أنه كان يستمع للراديو، وأنهم أذاعوا نبأ استقالة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية شعراوي جمعة!»
أعدت سؤال السفير: «استقالة؟! وما الأسباب؟ أجاب: غير معروف. لم يعلنوا أكثر من ذلك. إما أنه هو الذي تقدم باستقالته، وإما أنهم عرضوا عليه الرحيل، وربما يكون السائق أخطأ السمع.»
بالطبع كان الخبر يحمل في طياته أمورا فائقة الأهمية.
اضطررت لمغادرة الحفل، كان علي أن أعود إلى البيت وأن أعرج بعد ذلك للأهمية على دار الأوبرا، حيث يعرض باليه «دون كيخوت» من إعداد المخرجين والأساتذة السوفييت. كانوا ينتظرونني هناك، وإذا لم أذهب فربما يتم تأويل الأمر وخاصة في ضوء أحداث هذه الليلة. قررنا الذهاب إلى المسرح مع بداية الحفل لمجرد الظهور إذا جاز التعبير. وبطبيعة الحال، لم نع شيئا من العرض.
تعلمت من خبرتي الطويلة في العمل الدبلوماسي أن الحدس كثيرا ما يؤدي دورا مهما. وهو أمر ليس بمستغرب؛ حيث إن الحدس يعكس على نحو غير واع الخبرة المتراكمة. شعرت أن أمرا جللا سيقع حتما في هذه الليلة. غادرت الحفل مستترا بالظلام.
كان الوقت متأخرا، لكن رفاقي كانوا بانتظاري في السفارة. كانوا قد استمعوا من الإذاعة إلى خبر استقالة شعراوي جمعة. والآن، تبث الإذاعة المارشات والأغاني الوطنية، وهي إشارة على وقوع حدث ما مهم.
وما هي إلا برهة بعد إذاعة خبر قبول الرئيس لاستقالة شعراوي جمعة، حتي توالت أنباء الاستقالات؛ فقد قدم استقالته وزير الحربية محمد فوزي، ورئيس مجلس الأمة لبيب شقير، ووزير الإعلام محمد فائق، وأمناء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي عبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود وغيرهم. وقبل السادات استقالة كل من تقدم ذكره، وقام على الفور بتعيين رئيس الأركان اللواء محمد صادق وزيرا للحربية، كما عين محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية.
بدأ الأمر في الوضوح، يبدو أن الاستقالة الجماعية كانت بالفعل محاولة لممارسة الضغط على السادات حتى يعود للسير في خط القيادات المصرية. ويبدو أيضا أن أحدا من هذه القيادات لم يفكر في عواقب الأمور؛ فبعد أن عاد «المتآمرون»، كما أطلق عليهم فيما بعد، إلى منازلهم بعد أن تقدموا باستقالتهم، خلدوا إلى النوم على أسرتهم. لم تكن هذه بالطبع، محاولة انقلاب؛ فالانقلابات لا تتم على هذا النحو مطلقا.
لكن هذا السلوك أدهش السادات. كان كما لو أنه هو الذي قام بنفسه باستثارة كل من تستهويه طريقته في القيادة لتقديم استقالته. وها هو يجد على وجه السرعة بديلا لقيادتين ولقوتين حاكمتين؛ الجيش والشرطة. وهو ما يعني أن هذين المرشحين كانا معدين له سلفا. عندئذ تذكرت الكلمات التي قالها السادات لي منذ أقل من يومين فقط مضيا : «يمكنك أن تضع ثقتك - مثلي تماما - في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء دائرتي المقربة.» لماذا قال لي ذلك؟ ثم عدت أفكر: ألم يقل لي السادات هذا وهو يضمر في نفسه فكرة محددة؟
هزت الأحداث في مصر العالم العربي بأسره، وشدت إليها انتباه العالم كله. وراحت صحافة الدول الغربية، لسبب ما، تؤكد بشدة على أن ضربة قاصمة أصابت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي. هذا ما كانت تتمناه الدول الغربية، وكل من كان استقلال مصر استقلالا حقيقيا على غير هواه.
ناپیژندل شوی مخ