237

مصر په د نهیم پېړۍ پیل کې

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

ژانرونه

ولذلك فإنه بينا بذل محمد علي جهده لتأمين استقرار الحكم في الداخل، ظل يعنى عناية فائقة ليتوقى الخطر الخارجي، ولم يعتور وسيلته لتحقيق هذه الغاية الأخيرة لبس أو إبهام، فهو قد عرف أن مصدر الخطر عليه دولتان، هما إنجلترة وفرنسا، وهو قد عرف أن الركون إلى جانب الباب العالي لا يكفل له السلامة، وقد رسمت له الحوادث الماضية الطريق التي ينبغي عليه أن يسلكها، كما استولد منها عناصر برنامجه السياسي الذي يدور حول أمر واحد؛ تقرير الحكم الوراثي في مصر. فهو إذا فاز بمحالفة الإنجليز أو نجح في كسب صداقتهم، ثم وثق علاقاته بفرنسا، وهما المعنيتان بأمر مصر أكثر من غيرهما من الدول، فحصل بفضل ذلك على «الوضع» الذي يريده لباشويته، سهل عليه حينئذ، وبالوسائل التي يدريها، إقناع الباب العالي بالتسليم مرة أخرى بالأمر الواقع، وأما إذا فشلت جهوده معهما، فلا مفر عندئذ من استرضاء الباب العالي، ومحاولة الظفر منه بالوضع الذي يريده. على أن النجاح في كلا الأمرين توقف قبل أي شيء آخر على مدى استقرار حكم الباشا في ولايته بالدرجة التي تمكنه من إسداء الخدمات التي قد يكون أصدقاؤه في حاجة إليها، ثم الذود عن حياض ولايته إذا بدا لأعدائه إقصاؤه عنها.

ومنذ حملة «فريزر» لم يكن وعرا الطريق الذي صار على الباشا أن يسلكه في علاقاته مع الدولتين المتناضلتين؛ إنجلترة وفرنسا، فقد كان من أهم آثار هذه الحملة، أنه عدا ما جاءه من تعليمات عامة من الباب العالي تدعوه إلى تشديد النكير على الإنجليز وطردهم من البلاد، وتنبئه بأن أوامر قد صدرت لحاكمي الشام وصيدا لنجدته، فقد استقل محمد علي بتدبير مسألة إجلاء العدو عن الولاية، وانفرد وحده بتحمل عبء القتال، ونشأ في مصر ميدان للعمليات العسكرية بمعزل عن ميادين الحروب الأخرى التي اشتبكت فيها الدولة، واختص الباشا بوصفه المسئول الأول عن تأمين سلامة ولايته بإدارة شئون الحرب والسياسة حسبما يراه محققا لبلوغ هذه الغاية الأخيرة، واستهدف في نشاطه غرضا مباشرا ما كان يتفق الظفر به وما تريده الدولة، ونعني بذلك الاستيلاء على الإسكندرية وإدخالها في نطاق باشويته، بعد أن ظل الباب العالي يحرص دائما على بقائها خاضعة في إدارتها له رأسا، ولم يتلق محمد علي أية تعليمات من الديوان العثماني تجيز له عقد صلح منفرد مع أعداء الدولة، ولم يطلع محمد علي هذا الديوان على الشروط التي تفاوض فيها مع مندوبي القائد الإنجليزي، وحرص بطبيعة الحال على أن يظل أمر «المحالفة» التي عرضها على هؤلاء سرا مكتوما.

وقد ترتب على استقلال الباشا بإدارة شئون الحرب والسياسة أثناء هذه الحملة، أن صار هو وحده في اعتبار القواد الإنجليز والوكلاء الفرنسيين، المرجع الذي يرجعون إليه، في المسائل المتعلقة بها، فلم تكن هناك مندوحة للإنجليز عن الاتصال به والمفاوضة معه رأسا، لا بوصفه غريمهم الذي ينازلهم فحسب، بل وأهم من ذلك أيضا؛ لأن مفاوضتهم مع الباب العالي قد فشلت ولم يتسن لهم آنئذ عقد صلح مباشر مع الدولة؛ ولأنهم بسبب هزيمتهم في مصر ولتصميمهم على التمسك بقاعدتهم الهامة في صقلية قد قرروا الجلاء عن الإسكندرية، وارتضوا بتسليم الإسكندرية إلى محمد علي لقاء إطلاق سراح الأسرى الإنجليز. حقيقة كان «السير آرثر باجيت» قبل انقطاع المفاوضة مع القبطان باشا السيد علي الجزائري، قد توصل إلى اتفاق مع هذا الأخير بصدد إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكتب إلى محمد علي في هذا المعنى في 16 سبتمبر 1807، ولكن رسوله «مورييه» الذي حمل رسالته هذه كما حمل رسالة القبطان باشا إلى محمد علي، لم يصل إلى الإسكندرية - كما عرفنا - إلا يوم 22 سبتمبر؛ أي بعد إبرام اتفاق الجلاء عنها، وبعد أن كان قد تم إطلاق سراح الأسرى الإنجليز وتسليمهم .

ولا جدال في أن «محمد علي» في قيامه بالمفاوضة رأسا مع القواد الإنجليز، دون تدخل الباب العالي أو إشرافه على هذه المفاوضة، قد كسب «وضعا» جديدا يضعه عمليا على قدم المساواة مع حكام وجاقات الغرب، ويخوله حق التطلع إما إلى تقرير هذا «الوضع» الجديد من الناحية القانونية أو الشرعية بحمل الباب العالي على استصدار الفرمانات اللازمة لذلك، وإما إلى استدامة تقريره فعلا، بالحصول على موافقة الدول - وأهم هذه في نظره، إنجلترة وفرنسا - على هذا «الوضع»، وزيادة على ذلك فإنه إذا استمر تسليم الدول بهذا الأمر الواقع، وتبع ذلك انتفاء معارضتها له، غنم الباشا مغنما كبيرا يعينه على التفرغ لمعالجة هذه المسألة ذاتها وبالطرق التي يعرفها في القسطنطينية.

وكما صار الإنجليز يرجعون إليه فيما يتصل بإجلاء جيشهم عن هذه البلاد، وارتضوا بإبرام اتفاقية الجلاء معه رأسا، فقد وجد الوكلاء الفرنسيون من جانبهم أيضا، ألا سبيل لتعزيز مصالح فرنسا في مصر إلا بتوثيق علاقاتهم مع الباشا، ولقد شاهدنا كيف أن القاهرة، لا القسطنطينية، كانت ميدان نشاط العملاء الفرنسيين للتنكيل بجيش «فريزر» وضمان إخفاقه، ثم لمنع الاتفاق بين محمد علي والقواد الإنجليز، وقد فشل هؤلاء العملاء في مبتغاهم الأخير، ولكنهم لم يجدوا مناصا من قبول الأمر الواقع ورضوا ب «التفسيرات» التي أدلى بها إليهم محمد علي، والتي كانت فحواها أنه لا يعتزم مصافاة الإنجليز، بل إنه سوف يقلب لهم، عند أول بادرة وبمجرد جلائهم عن البلاد، ظهر المجن. وكان من بواعث رضاهم بتصديق هذا الادعاء أن «محمد علي» كان بيده هو وحده إلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية في مصر، إذا شاء، أو صون هذه المصالح، وفضلا عن ذلك، فإنه لم يبد منه منذ وصوله إلى الحكم ما يدل على أنه يريد التخلي عن صداقة فرنسا، بل ثابر - على العكس من ذلك - على إنشاء صلات المودة مع الوكلاء الفرنسيين، ثم توقفت هذه الصلات بينه وبينهم في الأعوام الأخيرة، زد على ذلك أن الإمبراطور «نابليون» قد عقد معاهدة «تلست» مع القيصر الروسي، ولم يعد خافيا على الوكلاء الفرنسيين في مصر أن الإمبراطور لا يزال يمني النفس باحتلال هذه البلاد، ثم إنهم أدخلوا في حسابهم أن تطورات الموقف في أوروبا قد تفضي إلى إرسال حملة فرنسية إلى مصر، مثلما فعل الإنجليز أنفسهم، وإن انبروا ينفون بشدة هذا الاحتمال للباشا، وصار من صالحهم طالما بقي الغزو الفرنسي المتوقع في عداد المشروعات التي لم تتح الفرصة لتنفيذها، أن يثابروا على كسب مودة محمد علي وصداقته؛ صونا لمصالح دولتهم.

وعلى ذلك، فقد استطاع الباشا أثناء نضاله مع جيش «فريزر» أن يحتفظ بصداقة الوكلاء الفرنسيين من جهة، وأن يستبدل صداقة الإنجليز بعداوتهم له من جهة أخرى، وكان بفضل هذا النجاح المزدوج أن عظم تفاؤله في إمكانه أن يقنع هاتين الدولتين؛ إنجلترة وفرنسا، بمعاونته على بلوغ «الوضع» الذي ينشده لباشويته، ولو أن هاتين الدولتين بالرغم من انتفاعهما من صداقة محمد علي، لم تكونا متهيئتين - لأسباب سوف يأتي ذكرها - لقبول أي تغيير يطرأ على العلاقة التي ربطت بين باشوية محمد علي والباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليه. (3) إنجلترة: محالفة، أم صداقة وتجارة؟

ولقد سبق أن أشرنا، أثناء الحديث عن مفاوضات الباشا مع الإنجليز بشأن تسليم الإسكندرية، إلى الأسباب التي جعلته يفضل كسب صداقة هؤلاء على استمرار عداوتهم له، فهم أصحاب أسطول كبير كفل لهم السيطرة في البحر الأبيض، ثم إن نابليون صاحب الانتصارات الباهرة في القارة الأوروبية لم يستطع حتى هذا الحين أن يدعي أنه قد أحرز نصرا عليهم، ثم هم الذين أخرجوا قبلا الفرنسيين من مصر، ويسهر أسطولهم في البحر الأبيض الآن لمنع هؤلاء من تجديد غزوهم لها، ثم اعتقد محمد علي إلى جانب هذا كله أن بوسعهم بفضل قوتهم البحرية، إذا شاءوا، الحيلولة دون وصول عمارة عثمانية أخرى إلى الشواطئ المصرية، ووقف تدخل الباب العالي في شئون هذه الباشوية بصورة تهدد حكومة محمد علي بها.

ولقد سبق أن أوضحنا كيف أن الرغبة في تأمين باشويته ضد نزوات الباب العالي خصوصا كانت مبعث تفكير محمد علي في ضرورة ظفره لولايته بوضع مشابه لوضع الولايات أو الوجاقات المغربية، على أساس إنشاء الحكم الوراثي في أسرته في مصر كخير ضمان للاحتفاظ بالباشوية. كما أوضحنا أن هذه الرغبة كانت مما جعله يطلب محالفة الإنجليز «ضد أعدائهم وأعدائه» من فرنسيين وعثمانيين على السواء، وذلك لقاء رعاية المصالح الإنجليزية التجارية في مصر، وتموين السفن البريطانية التي تأتي إلى الإسكندرية لتمتار منها، وتزويدها على وجه الخصوص بحاجتها من «ماء النيل». ولم يكن يبغي محمد علي مما عرضه على «فريزر» من وضع نفسه تحت حماية الإنجليز، سوى استمالة هؤلاء إلى قبول الدفاع عنه «عسكريا» ضد أي غزو قد يأتيه من جانب الفرنسيين أو العثمانيين، وإقناعهم بعقد المحالفة معه.

ومع أن «فريزر» لم يكن لديه من التعليمات ما يخوله إبرام هذه المحالفة التي يريدها محمد علي، واكتفى بأن وعده بإبلاغ رغبته في قبول «الحماية» البريطانية عليه إلى حكومته في لندن، ثم لم يبد أن هذه كانت تريد وقتئذ الارتباط بتعهدات جديدة من طراز تلك التي ارتبطت بها سابقا مع المماليك، قد تفرض عليها واجبات لا قبل لها بها، معطلة لنشاط قواتها المعدة لمواجهة ما قد يطرأ من تقلبات على الموقف في أوروبا، وليس من صالحها الالتزام بها، فقد أدار محمد علي هذه المفاوضات «السرية» بقدر كبير من المهارة، حتى إن «فريزر» خرج منها وهو مقتنع تماما بأن الباشا جاد في عروضه، وصادق في رغبته كسب مودة الإنجليز والتعاون معهم. وكان ظاهرا أن الباشا في هذه المرحلة الأولى قد قطع شوطا كبيرا في نيل صداقتهم، ولم يكن هناك لذلك ما يدعو إلى يأسه من استمالتهم إلى تأييده في مطلبه من حيث حصوله على الحكم الوراثي في مصر في وضع مشابه - كما قدمنا - لما هو قائم فعلا في وجاقات الغرب، أو توقع وقوفهم على الأقل موقف الحياد وعدم التصدي لمعارضته إذا هو استطاع بوسائل أخرى، وعن غير طريقهم، الوصول إلى غايته.

وحقيقة الأمر، أن هذه الصداقة مع الإنجليز - وهي التي عقد محمد علي على استمرارها آمالا كبيرة - إنما كانت من مبدأ الأمر مرتهنة بتوفر عاملين: أحدهما مثابرة الباشا على الخطة التي رسمها لنفسه في هذه المسألة، والآخر اقتناع الإنجليز أنفسهم بأن من صالحهم، إذا لم يكن في وسعهم عقد محالفة مع الباشا - كانت «دفاعية» حسبما اقترح الباشا في عروضه على «فريزر» - على الأقل أن تسود العلاقات الودية بينهم وبينه، وأن من صالحهم تعزيز هذه العلاقات التي مهد لقيامها إبرام اتفاق الجلاء عن الإسكندرية بشروطه العلنية المعروفة.

ناپیژندل شوی مخ