مصر په د نهیم پېړۍ پیل کې
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرونه
واستخلص الألفي من التجارب التي مرت به جملة أمور: منها أنه يصعب اجتماع كلمة البكوات على أمر، وأن كلا منهم يؤثر نفعه الخاص على صالح الطائفة عموما، وأن أحدا منهم في سبيل الفوز بالسلطة لا يحجم عن التآمر على أخيه وخشداشه الذي هو من طبقته أو على أستاذه الذي يدين له بكل ما هو فيه من جاه وسؤدد ويفتك به، وأن العثمانيين أعداء المماليك ولا يمكن الاطمئنان إليهم أو الوثوق بعهودهم، وأن المماليك وحدهم ودون مساعدة دولة أجنبية كبيرة لهم لن يتمكنوا من استرجاع سيطرتهم القديمة، وأن عليه أن يعتمد على نشاطه هو وحده ومعاونة الإنجليز له إذا شاء استخلاص الحكم لنفسه، وأنه لا مندوحة عن بذل قصارى جهده لطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر لتحقيق هذه الغاية، وأن القاهريين والمشايخ لم يكونوا جميعا راضين عن حكم محمد علي، وأن هناك طائفة منهم لا يرون بأسا في عودة حكم البكوات إذا ظهر من هؤلاء أنهم يبغون حقا توفير أسباب الحياة الهادئة المطمئنة لهم ورفع المظالم عنهم، وأن حكومة محمد علي كانت تصادف من الصعوبات والمتاعب منذ تأسيسها ما جعلها متأرجحة وغير مستقرة على دعائم ثابتة، وأفاد الألفي فائدة كبيرة من سفارته إلى لندن، وقد تحدث الشيخ الجبرتي عن الآثار التي تركتها هذه الرحلة إلى بلاد الإنجليز في نفسه من حيث توسيع أفق تفكيره فيما يجب أن تكون عليه أساليب الحكم والأغراض المتوخاة منه، وقد دلت محاولات الألفي لاستمالة المشايخ وما جاء في كتبه إليهم أثناء مفاوضاته مع محمد علي، ثم أحاديثه مع سليمان أغا أثناء مسعى هذا الأخير لحمل البكوات على دفع المبلغ المتفق عليه، على إدراكه الصحيح للموقف الداخلي.
وثمة ميزة أخرى جعلته متفوقا على سائر إخوانه هي أن الألفي لم يكن رجل قتال وحرب أو دسائس ومؤامرات فحسب، بل كان إلى جانب ذلك محبا للعلم والعلماء، وله من بين المشايخ أصدقاء كالشيخ الجبرتي والشيخ حسن العطار، وقد سجل الأول أن الألفي خلال السنوات الأربع التي قضاها في الصعيد (1786-1790) بسبب واقعة حسن باشا الجزائرلي ومجيئه لتأديب البكوات «قد ترزن عقله، وانهضمت نفسه، وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها، ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتبا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره، ثم إنه رغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك، واستمر على ذلك مدة تجاسر عليه خشداشيته فاضطر حينئذ إلى ترك اعتكافه.» وقال عنه في موضع آخر: «إنه كان له ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصا العلوم الغريبة مثل الجغرافيات والجغرافيا والإسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية، ويعرف أيضا مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها، كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس، وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة متضلع، وناقشه مناقشة متطلع.» وله أيضا معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية، وكان له في ذلك إصابات، ومن صفاته أنه إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة ومزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه، وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون، وكان فيه تواضع، إذا خرج من داره بخطة الشيخ ضلام أو بناحية قيصون حيث سكن بها بعض الوقت، وقصد إلى أحد القصور التي عمرها خارج القاهرة وهي القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل، والقصر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك، فلما سئل عن سبب ذلك قال إنه يستحي أن يمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إليه ويفرجهم على نفسه.
ولقد قال الشيخ الجبرتي: «إنه كان أميرا جليلا مهيبا محتشما مدبرا بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة، إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه، قوي الشكيمة، صعب المراس، عظيم البأس، ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه، يحب علو الهمة في كل شيء، حتى إن التجار الذين يعاملهم في المشتريات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها؛ ولذلك راج حال العاملين له رواجا عظيما، وكان ينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه، ويحب لهم رفعة القدر عن غيرهم، مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنفه وزجره، فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفا شديدا ويهابون خطابه.» وبالجملة - كما قال الشيخ: «كان الألفي آخر من أدركه من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظرا في عواقب الأمور، وكان وحيدا في نفسه، فريدا في أبناء جنسه.»
ثم إنه كان للألفي ميزة هامة أخرى هي قدرته على السيطرة على العربان وامتثال جميع قبائل هؤلاء الكائنين بالقطر المصري لأمره، وذلك لمعرفته التامة بطبائعهم وأحوالهم، وتوثيق صلاته بهم عن طريق الزواج من بناتهم، ومع أنه كان يبطش بهم، ويصادر أموالهم، ويسومهم سوء العذاب فقد عرف كيف يمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد ... ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر، واجتمع منهم الألوف في معسكره، ولم يجد مأوى يلجأ إليه حين هروبه من جند البرديسي الذين أرادوا الفتك به عند عودته من سفارته في لندن إلا عند هؤلاء العربان، حتى إن كثيرا من الناس صاروا يقولون: إنه يسحرهم أو معه سر يسخرهم به.
ولكن الألفي لم يستطع الانتفاع بهذه المزايا التي جعلت من خصومته لمحمد علي مصدر خطر كبير على ولايته، ظل ماثلا حتى انطوت صفحة الألفي نفسه ووافاه أجله، وكان مرد ذلك، وبالرغم من الصفات العظيمة التي اتصف بها وذكرها الشيخ الجبرتي إلى ما انطبع في نفسه من خصال الأنانية والأثرة وحب جمع المال، وتفضيل صالحه الشخصي على كل ما عداه، وقد تقدم في مواضع عدة كيف أن جنده ومماليكه وعربانه كانوا يغيرون على القرى والدساكر في الجيزة والبحيرة والمنوفية يسلبون الأهالي ويفتكون بهم ويفضحون نساءهم، ولقد حاول الألفي أن يعتذر عن مسلكهم وعن مسلكه هو في إطلاقهم هكذا يعيثون في البلاد فسادا بحاجته إلى المال والمؤن لسد مطالب جنده وعربانه، ولكن هذه الفعال غيرت عليه أهل القاهرة والريف عموما، وكانت مبعث عناد أهل دمنهور على وجه الخصوص ورفضهم تسليم مدينتهم إليه والإصرار على مقاومته.
وكان إخفاق الألفي أمام دمنهور من أهم العوامل الفاصلة في تحطيم كل آماله وضياع فرصة استرجاع السلطة وتأسيس حكمه نهائيا من يده.
وكان الألفي يعتمد في نجاح عمليات الحصار الذي ضربه على دمنهور على معاونة القبطان باشا له وقيامه ببعض العمليات العسكرية التي تساعده على إخضاع البلدة قبل مجيء الفيضان، ولما كان صالح باشا عند وصوله إلى الإسكندرية متحمسا لتنفيذ الاتفاق الذي يقضي بطرد محمد علي والأرنئود وتولية موسى باشا وتنصيب الألفي شيخا للبلد، فقد شجع هذا الأخير على استمراره على حصار دمنهور، فأرسل في يوليو مدافع وذخائر إلى معسكر الألفي، وسلح السفن الصغيرة في أسطوله ثم نقلها من ميناء الإسكندرية القديمة إلى مينائها الجديدة استعدادا لمهاجمة رشيد، وكان الخطة بعد انتصار الألفي في معركة النجيلة (31 يوليو 1806) أن يستولي هذا سريعا على دمنهور توطئة للزحف على رشيد، وأيد القبطان هذه الخطة عندما فقد كل أمل في إمكانه إخضاع محمد علي بطريق المفاوضة وإقناعه بترك البلاد سلما إذعانا لأوامر الباب العالي، ولكنه بدلا من إنفاذ النجدات القوية إلى الألفي، كان كل ما أحدثه انتصار النجيلة هو إغراء القبطان باشا بإرسال بعض الذخائر إلى معسكر الألفي سرا وبطرق هي أشبه بالتهريب منها بأي شيء آخر، ثم تباطأ من ناحية أخرى في إرسال الحملة المزمعة ضد رشيد، وعبثا صار الألفي الذي توقع أن يطول أمد الحصار المضروب على دمنهور أن يقنعه بضرورة الإسراع في الاستيلاء على رشيد لضمان بقاء المواصلات مفتوحة بينها وبين معسكر الألفي من جهة، ثم بينها وبين الإسكندرية خصوصا من جهة أخرى، لا سيما وأن هذه الأخيرة كانت تعتمد في تموينها على رشيد ذاتها، ولكن القبطان باشا - كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «وندهام» في 14 أغسطس - أصم أذنيه تماما عن سماع كل هذا الذي طلبه منه الألفي، وراح رجاله يقولون: إنه إنما يريد تنفيذ المهمة التي أتى من أجلها، من غير أن تراق قطرة دم واحدة، وكان «مسيت» قد علل قبل ذلك بأسبوعين عندما كتب للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 31 يوليو ما لاحظه من تباطؤ في حركة القبطان بأنه من المحتمل أن يكون قد وصلته فعلا من القسطنطينية تعليمات معينة حتى لا يعجل بعمل اتفاق أو ترتيب مع المماليك، وقد استند فيما ذهب إليه على ما ذكره «أربثنوت» نفسه في رسالته إليه بتاريخ 14 يونيو من أن تعليمات مثل هذه قد صدرت للقبطان باشا، واستمر «مسيت» يلح على صالح باشا في ضرورة المبادرة بالاستيلاء لا على رشيد فحسب، بل وكذلك على دمياط، ثم على دمنهور بالتعاون مع الألفي، ولكن دون طائل.
ومنذ 9 أغسطس كتب «أربثنوت» إلى حكومته معلقا على فشل محاولات «مسيت» هذه: أنه لما كان متعذرا على القبطان باشا حصوله على نجدات من تركيا وتحول صعوبات عديدة دون حصوله على مؤن من مصر ذاتها فالمتوقع أن يرتد عائدا إلى القسطنطينية دون أن يفعل شيئا من أجل تحقيق الغرض من حملته إلى مصر.
على أن صالح باشا كان قد بدأ يفقد تفاؤله منذ أن اتضح له أن لا سبيل بغير القوة لإخراج محمد علي والأرنئود من مصر، وأن الألفي قد استعصى عليه إخضاع دمنهور، وأن مساعي سليمان أغا لدى بكوات الصعيد ولدى الألفي نفسه لدفع المبلغ المطلوب قد اصطدمت بصعوبات عديدة، وأن من الخير له لذلك كله أن يجعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج على حد تعبير الشيخ الجبرتي، فذكر «دروفتي» - في رسالته إلى حكومته في 2 سبتمبر أنه قد أوقف استعداداته ضد رشيد، وصارت جهوده منحصرة في مفاوضات لا قيمة لها، ثم إعطاء الألفي بعض ذخائر الحرب وتشجيعه على أخذ دمنهور بإخضاعها حتى يتسنى وصول الماء إلى صهاريج الإسكندرية، ويمتنع بذلك تذمر أهلها، ولكن هذه الذخائر التي أرسلها القبطان باشا لم تكن كافية، وظل الألفي في حاجة إلى نجدات أكثر نفعا إذا شاء التغلب على مقاومة أهل دمنهور له، فكان من رأي «مسيت» منذ 14 أغسطس أنه قد يضطر إلى الانسحاب ورفع الحصار عن هذه المدينة بالرغم من أنها مسورة بسور من الطوب؛ وذلك بسبب استطاعتها رد الهجوم المتكرر عليها ودفعه عنها، ومع ذلك، فإن القبطان ما لبث أن أوقف أيضا إرسال الذخائر إلى الألفي لما وجد أن مساعي سليما أغا لم تسفر عن نتيجة، ثم إنه صار إلى جانب ذلك يلح على الألفي أن يدفع هو المبلغ المطلوب، حتى إن الألفي كتب في 15 سبتمبر يشكو إلى «مسيت» من مسلك القبطان باشا الذي امتنع وقتئذ عن إمداده بذخائر الحرب والمدافع على غرار ما كان يفعل في الماضي، وذلك بالرغم من إلحاف الألفي في رجائه، وصار يطلب منه زيادة على ذلك إرسال مبلغ من المال يعجز الألفي عن دفعه بسبب ظروفه الحرجة الراهنة، ويرجو لذلك من «مسيت» أن يبلغ السفير الإنجليزي بالقسطنطينية هذا الأمر حتى يرى رأيه فيه.
وقد بعث «مسيت» بهذه الرسالة إلى السفير في 18 سبتمبر وقال: إن رفع الحصار عن دمنهور لا يجب أن يكون مبعث دهشة؛ لأن القبطان باشا رفض إمداد الألفي بالذخائر، ومرد مسلك القبطان هذا إلى الهدايا الثمينة التي نالها من محمد علي، فقد حضر إلى الإسكندرية أحد ضباطه يحمل هذه الهدايا له، وكان من أثر جشع القبطان الذي جعله مجردا من كل خجل أو حياء أنه صار يطلب مالا من الألفي وأهل دمنهور على السواء وعلى يد الرسول نفسه وفي اللحظة التي يبيع فيها علنا حياده لمحمد علي، ثم استطرد «مسيت» يذكر وقوع معركتين إحداهما في الصعيد والأخرى في الوجه البحري انهزم فيهما الأرنئود على يد المماليك، ولكنه كان من رأيه أنه ما دامت النجدات تأتي محمد علي، وما دام البكوات يجهلون فنون الحصار وليس لديهم الوسيلة التي تمكنهم من الاستمرار فيه، فإن شجاعة المماليك لا نفع منها ولا طائل تحتها .
ناپیژندل شوی مخ