الحمد لله الدال على ذاته وصفاته بعجائب مصنوعاته، الكشاف عن عدله وحكمته بوجوب غناه وعالميته، القادر على جميع أجناس المقدورات، العالم فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، الحي الذي لا يتغير به الحال، الموجود فيما لم يزل، وفي ما لا يزال، المدرك للمدركات لا بالآلات، المستغني في ثبوت هذه الصفات عن المؤثرات، الواحد ولا شريك له ولا وزير، المتعالي عن المضاد والنظير، الغني فلا تجوز عليه المنافع والمضار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، العدل فليس بظلام للعبيد، الصادق في الوعد والوعيد الذي قضى بالحق وهدى إلى الرشاد، وتنزه عن فعل القبيح وإرادة الفساد وأزاح علل المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين، وأزهق الباطل بمترادفات الحجج، وأوضح للخلق عن سوء المنهج حتى صارت طرق الخير والشر متعينة ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حي عن بينة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة إخلاص وصدق، وأن محمدا عبد هورسوله بالهدى ودين الحق أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة هاديا وشهيدا، ثم مضى إلى دار الكرامة حميدا، فصلوات الله ورضوانه على وجهه الكريم كلما طلع نجم أو هب نسيم، وعلى آله الكرام البررة المطهرين، وعلى الصحابة المتبعين أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
مخ ۳
فإن أهم التكليف علم العقائد، وإن الظفر بالحق فيه مراحل الفوائد، وأنه قد كثرت فيه الآراء واتبعت فيه الأهواء وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق، وسلكوا بنيات الطريق، فمن شق قسطا ولى بجحد المشاهدات، ويحاول دفع الضرورات، وملحد يبكي الصانع ويضيف التأثير إلى الطبائع، وفلسفي ينفي عن الله الاختيار ويعول على العقل والفلك الدوار وباطني يقول بالسابق والتالي، ويعمد غير الله، ولا يبالي، ومطرفي يقصر تأثير الصانع على الأصول، وهو لم يحصل من إثباته تعالى على محصول، وثنوي يقول بالقديم الثاني /2/، وآخر يتلوه في قديم المعاني، وبرهمي ينفي النبوة رأسا، وذمي لا يرى في تكذيب الرسل بأسا، ومجسم يشبه الله تعالى بالمحدثات، ويثبت له الجوارح والآلات، ومجبر يعتذر للشياطين والعصاة، ويحمل مساوي العباد على الله، ومرج يتعلل بالإخلاص والأمالي، ويبني دينه على حرف التواني، ورافض يبغض شيوخ الإسلام، ويخبط من الغلو والتعصب في ظلام. فهذه أصول فرق الضلالة، والذين تفرعت عنهم كل جهالة، كل منهم بمذهبه فرح مسرور، ورحاهم الكل على قطب الغواية تدور، ليس على غير الباطل يعولون، ويوم تقوم الساعة يومئذ يحسر المبطلون، لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وصاح بهم إلى مخالفة الحق فاستمعوه، واستفز بمكره منهم من استطاع وصار له من علماء السوء أتباع، يدعون له إلى كل بدعة وضلال، ويبالغون في نصرته بالأقوال والأعمال، قد انتصب منهم في كل فرقة أمير يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويسلك منهم في كل بدعة منهجا، اقتداء بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وسقفوا لهم بالتمويه على كل مهواة، فاستمالوا بشبههم أفئدة الطغام، وأنزلوا على قضيتهم جمهور العوام، إلى أن صارت الطائفة المحقة فرقة من نيف وسبعين فرقة، فلست تكاد ترى للحق محبا، إلا من يصغي لسماع الحجة قلبا، ولا يظفر بمنصف يناظر لله، ويقبل واضح الحق من حيث أتاه.
مخ ۴
نعم، قد قام بنصرة هذا الدين فريق من ذوي البصائر وأهل التحقيق، اعتمدوا فيه على الحق الواضح، وسلكوا منهاج السلف الصالح، بهم حرس الله معالم الحق، وجعلهم في أرضه حجة على الخلق، ليس يحول الشبهات بينهم وبين الصواب ولا ينخدعون بلوامع السراب، فهم أقطاب الدين وعليهم بدور لؤلئية، وإليهم ينتمي الحق، وفي سمائهم يطلع كوكبه، أولئك آل المصطفى وشيوخ الأعتزال، النافون عن علوم الديانة كل تحريف وانتحال، فجزاهم الله عن هداية خلقه أفضل ما جزى القائمين بحقه، وبلغهم آمالهم في الخيرات، وضاعف لهم بفضله الحسنات، ثم أنه بعثني على جمع هذا الكتاب التقرب إلى الله وطلب الثواب، فجمعته على وفق ما جمعه الأولون /3/ الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، متبركا بذكر ما أصلوه لا طلبا لتحصيل شيء أهملوه، واقتداء بقويم هداهم لا طمعا في بلوغ مداهم، ورجوعا في طلب الحق إليهم لا استدراكا في مسائل عليهم، وتمسكا بهديهم القويم لا اعتراضا في سبيلهم المستقيم، وتكثيرا لسوادهم لا من قلة، ونصره لمذهبهم لا بعد ذلة، فمثل ذلك غدت في أبها الصاحب وللناس فيما يعشقون مذاهب. عصمنا الله بفضله وبرحمته، وجعلنا ممن يعرفه حق معرفته، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير.
مخ ۵
مقدمة:
اعلم أن كل علم يشرف بشرف معلومه وتعظيم نفعه لحسب الحاجة إلى مفهومه وتعلق قدره على وفق وضاعه ضده، ويعز وجدانه على عكس دناه، فقده، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، ولأن به يتميز الكفر من الإيمان، وعليه يدور رحاء الحق في كل زمان، قد حكم بوجوبه وجلالته العقل، وجاء بتأكيد ذلك القول الفصل، فكل عاقل قد أخذ بتحصيله وكلف العلم بجملته وتفصيله.
مخ ۶
ثم أنه لارتفاع قدره يعز منا له، وكذا كل نفيس هذا حاله، فإن الشيء بحسب جلالة محصوله تعظم المشقة في تحصيله، وعلى قدر علو مكانه يكون الاهتمام بشأنه، فلن يظفر بفوائد علم التوحيد إلا الخواص كما لا يلتقط اللآلي إلا من غاص، ولا يتمكن من افتضاض أبكاره إلا من أمهرهن صافي أفكاره، فلا يصدنك عنه صعوبة تركته، فأصعب من ذلك عاقبة الجهل به، ولا يلتفت إلى الذين ينهون عن تعلمه ويدعون عظم الخطر في تفهمه، فلم يجهلوا والله قدره، ولا جحدوا بذلك فخره، ولكن رأوا بعد ثناؤه وعز مناله، وأظهروا تجلدا كراهة وصاله، وتكلموا فيه بلسان قاصر، وقلب حائر، فهم في ذلك كما قال الشاعر:
وثب الثعلب يوما وثبة .... طلبا منه لعنقود العنب
ثم لما لم ينله قال ه .... ذا حامض ليس لنا فيه أرب
نعم، فكما أن النفع بهذا الفن كثير فإن خطر الجهل به ليس يسير، فالمقدم عليه كراكب البحر المتلاطم، والمحجم عنه في ظلام متراكم، ومن ثم عظم التكليف به والثواب عليه واستندت الأديان في كل زمان إليه، فسبيل العاقل أن ينظر فيه نظر متعرف لا نظر متعجرف، ويطلبه طلب متقرب لا طلب متغصب، ويوطن نفسه على قبول الحق من حيث ورد، ولا يعتمد في أمر دينه على أحد، فيكون قد حقب دينه الرجال /4/ وذهب معهم من يمين إلى شمال، فمثله كمثل رجل خلق له عينان فأطبقهما وانخرط في سلك العميان، قسم الله لنا من يوفقه الحظ الأسنى وختم لنا، ولكل مسترشد بالحسنى.
مخ ۷
الكلام في معرفة الصانع جل وعز
اعلم أن الكلام في العلم بالله هو يترتب على أربع مقدمات:
الأولى في ماهية العلم وقسمته لما ستعرف إن شاء الله تعالى من أن علم التصور مقدم على علم التصديق.
والثانية: في وجوب معرفة الله تعالى لأنها هي المقصود من الكتاب كله.
والثالثة: في النظر؛ لأنه الطريق إليها. والرابعة: في الأدلة؛ لأنها متعلق للنظر، ثم يقع الكلام بعد ذلك في تفاصيل أبواب الكتاب.
القول في ماهية العلم وقسمته وما يتصل بذلك
العلم والمعرفة والفهم والدرية والفقه في اللغة بمعنى واحد بدليل أنه لا يصح إثبات بعضها ونفي بعض. وفي الاصطلاح: هو الاعتقاد الذي يكون معتقده أو ما يجري مجراه على ما تناوله مع سكون النفس إليه.
قلنا: الاعتقاد ليدخل فيه الجهل والتقليد والتبخيت. وقلنا على ما تناوله ليخرج الجهل. وقلنا: مع سكون النفس؛ ليخرج التقليد والتبخيت حيث يطابقان معتقدهما، فأما حيث لا يطابقانه فهما جهل، لكن خصا بهذه التسمية لمعنى آخر فإن حقيقة التقليد هو اعتقاد الشيء لمجرد أن الغير قال به، ولهذا لا نكون نحن مقلدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ما جاء به؛ لأنا لم نعتقده لمجرد قوله، بل للحجة، وكذلك علماء المخالفين ليسو مقلدين لأسلافهم؛ لأنهم لم يعتقدوا ما قالوه لمجرد قولهم بل للشبهة.
وحقيقة التبخيت هو اعتقاد الشي هجوما وخبطا لا لأمر، فبهذا يفارقان الجهل، وحاصل الفرق بينهما وبينه أنهما أعم منه من وجه وأخص من وجه، وهو بالعكس، فعمومهما من حيث يسميان بهذه التسمية سواء طابقا معتقدهما أو لا، وعمومه من حيث يسمى جهلا سواء استند إلى قول الغير أم لا، وسواء فعل هجوما وخبطا أو لا.
واردنا بالمعتقد: ما يكون سببا كالذوات، وبما يجري مجراه ما لا يكون شيئا كالصفات والأحكام والأمور السلبية. وأردنا بسكون النفس: التفرقة التي يجدها أحدنا بين أن يعتقد كون زيد في الدار بالمشاهدة أو بخبر نبي، وبين أن يعتقد ذلك بخبر رجل من أفناء الناس، ولفظ الاعتقاد والسكون مجاز تشبها بعقد الخيط والسكون المقابل للحركة، لكن إضافته إلى النفس قرينة تشعر بالمراد.
مخ ۸
وحده الشيخ أبو الحسين بأنه ظهور أمر للحي ظهورا يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه، وليس بسديد /5/ لأن الظهور أمر يختص بالمعلوم، والعلم أمر يختص بالعالم وأيضا فالظهور هنا مجان ولا قرينة تشعر بالمراد، وأيضا فلا يصح إطلاقه على الله تعالى، فلا يقال ظهر لله هذا الأمر ولا ينقلب علينا هذا في الاعتقاد؛ لأنا إنما حددنا العلم في الشاهد، والباري تعالى عندنا عالم لا بعلم.
فأما أبو الحسين فإنه حد العلم شاهدا وغائبا؛ لأن المرجع به عنده إلى التعلق في الموضعين، وأيضا فإن أراد بقوله يمتنع تجويز خلافه، أي يستحيل، فغير صحيح؛ لأن أحدنا قد يختار الجهل(1)، ويجوز في نفسه خلاف المعلوم في المسائل الاستدلالية، وإن حصل هذا الظهور ، وإن أراد يمتنع أحدنا من التجويز أي لا يفعله مع القدرة عليه فغير صحيح؛ لأن أحدنا كما يمتنع من هذا التجويز عند حصول هذا الظهور، فإنه قد يمتنع منه عند اعتقاد حصول هذا الظهور، وهو لم يعتبر في الحد سكون النفس حتى يتميز به الظهور الحقيقي وغير الحقيقي.
فصل والعلم ضربان: تصور وتصديق.
فالتصور: هو العلم بصور الأشياء ومفرداتها، ومعنى ذلك: أنه يحصل في ذهن الإنسان صورة مطابقة لما في الخارج. ومنه قولهم تصورت هذا الشيء، أي علمت صورته.
والتصديق: هو العلم بالنسب الحاصلة بين تلك المفردات بإثبات أو نفي، وسمي تصديقا لصحة دخول التصديق في الخبر المطابق له، وكل واحد من هذين القسمين ضروري ومكتسب، فالضروري منهما هو الاعتقاد الذي لا يقف على اختيار المختص به مع سكون النفس.
وقلنا: مع سكون النفس احترازا من أن يفعل الله فيه اعتقادا غير مطابق، فإن ذلك جائز من جهة القدرة والمكتسب ما يقف على اختياره كذلك.
مخ ۹
مثال الضروري من التصور العلم بزيد ونحو ذلك مما لا يحتاج إلى تحديد. ومن التصديق: العلم بأن الكل أكثر من الجزء، وأن الظلم قبيح،والعدل حسن، وشكر النعمة، وقضاء الدين واجب، ونحوه. ومثال: المكتسب من التصور العلم بماهية العالم والقديم والمحدث ونحو ذلك مما لا يعلم إلا بالحد. ومن التصديق: العلم بأن العالم محدث وأن الله قادر، ونحو ذلك مما لا يعلم إلا بالدليل.
فصل
وطريق اكتساب علم التصور الحد إن كان المطلوب العلم بالماهية مفصلا والرسم إن كان المطلوب مجرد تمييزها عن غيرها، والشرح الذي هو الحد اللفظي إن كان المطلوب العلم بالماهية مجملا.
والحد: قول مؤلف من ذاتيات الشيء الكاشفة عن ماهيته كما إذا حددت الخمر بأنه شراب معتصر /6/ من العنب مسكر كثيره، فإن هذه الأوصاف ذاتية للخمر، ومعنى كونها ذاتية أنه لا يعقل، ولا يكون خمرا إلا بها حتى لو رفعتها عن ذهنك لما أمكنك تصور الخمر.
والرسم: قول مؤلف من عرضيات الشيء المميزة له عن غيره كما إذا حددت الخمر بأنه شديد يقذف بالزبد يحفظ في الدن أحمر ونحو ذلك، وكما إذا حددت الإنسان بأنه المنتصب القامة العريض الأظفار الماشي على رجلين الضاحك ونحو ذلك، فإن هذه الأشياء عرضية ومعنى كونها عرضية أنه يمكن أن تعقل الماهية من دونها، فهي في حكم العارضة الخارجة عن الماهية.
وهذه العرضيات تنقسم إلى لوازم كالولادة للإنسان والزوجية والفردية للعدد، ونحو ذلك.
ومفارقات، وهي ضربان: مستمرة، كسواد الزنجي، وبياض الكافور. وزائلة، كصفرة الذهب وحمرة الخجل.
والشرح هو إيراد لفظ مرادف للفظ آخر أجلأ منه عند السائل كما إذا قيل ما الذابل، فقلت الرمح. وطريق اكتساب علم التصديق الأدلة، وسيأتي الكلام فيها.
فصل
ولا بد أن ينتهي الاكتساب إلى الضرورة في طرفي التصور والتصديق وإلا لم تنقطع المطالبة بما في التصوريات، وبلم في التصديقيات، بل كان يحتاج كل حد إلى حد، وكل دليل إلى دليل.
مخ ۱۰
[أقسام علم التصديق]
وقال الشيخ الحسن بن أحمد بن متويه: لا يجب ذلك إلا في أصول الأدلة؛ لأن كثيرا من المسائل لا تستند إلى أصل ضروري كالعلم بالصانع، فإنه ينبني على كون أحدنا فاعلا وليس بضروري على التفصيل، وكذلك كونه قادرا ينبني على كوننا قادرين، وليس بضروري.
قال: وما هذا حاله من الأدلة فإنما يجب على المستدل أن ينهي الخصم إلى ما إذا نظر فيه علم.
قال: ومثال ما ينتهي إلى أصل ضروري، دليل العدل، فإنه ينبني على أن من علم قبح الفعل واستغنى عنه فإنه لا يفعله، وهو ضروري، وكذلك استدلالنا على نفي الظلم عن الله تعالى بأنه لو فعله لاستحق الذم، فإن استحقاق الذم على ذلك ضروري في الشاهد.
وعلى الجملة فأكثر المسائل تنبني على أصل ضروري. ولقائل أن يقول أنه ما لم ينته إلى أصل ضروري لم تنقطع المطالبة. وقوله: إن الواجب منا أن ينتهي الخصم إلى ما إذا نظر فهي علم هو صحيح لكنا إذا قلنا للخصم: انظر إلى ما أنهيناك إليه تعلم كان ذلك استدلالا منا على أن ذلك المنظور فيه دليل، واستدلالنا هذا لا شك مستند إلى الضرورة، وهي الوجدان من النفس، فإن حين نظرنا فيه، وجدنا أنفسنا عالمة عند النظر فيه حتى لو لم نجد ذلك من أنفسنا /7/ لكان للخصم أن يقول: قد نظرت فيما أنهيتموني إليه، فلم أعلم، ونصدقه فيما قال وما ذكره رحمه الله تعالى من المثال، فهو صحيح، لكنه يمكن استناده إلى أصل ضروري، وإن كثرت مراتبه فإنا وإن لم نعلم كون أحدنا فاعلا ضرورة فإنا نستدل على ذلك بما يستند إلى الضرورة، وهو أن فعله يدل على قصده وداعيه وأنه يمدح ويذم عليه ونحو ذلك.
فصل
وعلم التصور مقدم على علم التصديق؛ لأن من لا يعلم ماهية
المقرين لا يمكنه ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي ولا إثبات.
فصل
وينقسم علم التصديق إلى: عقلي، كالعلم بوجوب رد الوديعة، وقبح الظلم، وحدوث العالم.
وشرعي: كالعلم بوجوب الصلاة وتحريم النبيذ.
مخ ۱۱
وينقسم إلى ما يحصل لا عن طريق كالبديهي وعلم المثبتة، وإلى ما يحصل عن طريق ما موجبه كالعلم الحاصل عند المشاهدة أو النظر، أو غير موجبة كالعلم الحاصل عند الدرس، وإلحاق التفصيل بالجملة.
فصل وينقسم علم التصور إلى جملي وتفصيلي.
فالجملي، هو: ما حصل بالحد اللفظي، كما إذا قيل ما العقار؟ فقلت: الخمر. والتفصيلي، هو ما يحصل بالحد المعنوي كما إذا قلت الشراب المعتصر من العنب المسكر كثيره.
وينقسم التصديق إلى جملي وتفصيلي، فالجملي كالعلم بأن زيدا في جملة هذه العشرة، وأن كل ظلم قبيح، والتفصيلي كالعلم بأن هذا الشخص هو زيد وأن هذا الظلم المعين قبيح.
وقد اختلف الشيوخ في ذلك، فقال شيخنا أبو هاشم: العلم الجملي هو التفصيلي، ولكنه لم يكن متعلقا، ثم تعلق، فالعلم بأن زيدا في جملة العشرة هو العلم بأنه هو هذا الشخص، والعلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بقبح الظلم المعين. ويبطله أنه مبني على بقاء الاعتقادات.
وبعد فإذا شاهدنا السواد في الجسم علمناه على الحقيقة، وإن لم يعلمه غيرا للجسم.
وبعد فنحن نعلم ثواب أهل الجنة، وهو غير متناه، فلو كان العلم الجملي هو التفصيلي لاحتجنا إلى علوم لا يثناها.
وبعد فيعلق العلم لما هو عليه في ذاته، فلو كان العلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بأن هذا الظلم المعين قبيح لكان قد وقف تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل فيقدح في تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل، فيقدح في أن تعلقه لذاته.
وبعد، فلو لم يتعلق العلم الجملي لما فصل أحدنا بين العشرة التي علم كون زيد فيها، وبين غيرها، وأما ما ذكره ابن متويه في المحيط والتذكرة من أن الجملي يخالف التفصيلي والشيء لا يصير بصفة مخالفة، ففي الاستدلال به نظر؛ لأنه محل النزاع /8/ فكيف يقول التفصيلي يخالف الجملي، وهما عند الخصم واحد.
مخ ۱۲
[فصل في أن العلم من قبيل الاعتقاد.]
حجة أبي هاشم: أنه لو كان العلم بكون زيد في جملة العشرة متعلقا، لصار الجهل بزيد على التفصيل، فكان يلزم إذا اعتقد في زيد أنه ليس بزيد أن ينتفي عنه الجملي.
والجواب: أن من شرط التضاد اتحاد الطريقة، والجملي لا يضاد التفصيلي.
قال: لو لم يضاده للزم إذا اعتقد في كل واحد من العشرة أنه ليس بزيد أن لا ينتفي العلم الجملي، قيل له: أنه متى اعتقد ذلك دعته هذه الاعتقادات إلى أن يفعل اعتقادا جمليا بأنه ليس من العشرة.
قال: إنما يدعوه ذلك حال فعل الاعتقاد العاشر، فيلزم اجتماع العلم والجهل في الوقت العاشر؛ لأنه إنما يفعل الاعتقاد الجملي في الوقت الحادي عشر؛ لأنه الثاني من حالة الدعاء.
قيل له: بل الذي يدعوه إلى أن يعتقد في الرجل العاشر أنه ليس بزيد يدعوه إلى فعل اعتقاد جملي بأنه ليس في العشرة، فينبغي الاعتقاد الجملي بانه فيها فلا يجتمع العلم والجهل في العاشر.
فصل والعلم من قبيل الاعتقاد.
وقال أبو الهذيل: بل هو جنس مستقل، وتوقف أبو الحسين. لنا أنه لو كان غيرا للاعتقاد؛ لصح انفصاله عنه حتى يكون أحدنا معتقدا [به] ساكن النفس، ولا يكون عالما والعكس.
وبعد، فإما أن يضاد الاعتقاد فلا يصح، مجامعته له، وإما أن يخالفه فيلزم إذا طرى الضد أن لا ينفهما جميعا؛ لأن الضد إنما ينفي المثلين والضدين، وإما أن يماثله وهو المطلوب.
وبعد فحال العالم يلتبس بحال الجاهل والمقلد، والشيء لا يلتبس بما ليس من جنسه.
شبهة: أنه لو كان اعتقادا لوجب في كل عالم أن يسمى معتقدا، وهو باطل بالقديم تعالى.
والجواب: أنه إنما يلزم ذلك في كل عالم بعلم هو اعتقاد، والله تعالى عالم لا بعلم، ولو قدرناه عالما بعلم لما صح إطلاق ذلك في حقه؛ لأنه إنما يجوز به في من له قلب وضمير تشبيها بعقد الحبل.
قال: لو كان العلم اعتقادا لكان كل اعتقاد علما.
مخ ۱۳
[فصل فيما يعرف به أن كون العلم اعتقاد]
قيل له: ولو كانت الحركة كونا؛ لكان كل كون حركة. والتحقيق أنه لم يكن علما بمجرد كونه اعتقادا، بل لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص.
فصل
والذي به يعرف كون الاعتقاد علما هو سكون النفس، عند الجمهور.
وقال أبو علي بسلامة طريقه من الانتقاض
وقال الجاحظ: قد يكون الجاهل ساكن النفس. والذي يبطل قول أبي علي أن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره، وإنما يعرف كونه علما /9/ بأمر يرجع إليه، وأنه إنما يعرف سلامة طريقه من النقص بعد أن يعرف كون الاعتقاد الحاصل عنها علما.
شبهته رحمه الله هو أنا لا يمكن من تعريف الغير بأن اعتقادنا علم وأن اعتقاده ليس بعلم إلا ببيان سلامة طريقنا دون طريقه.
والجواب عليه: أن هذا لا يوجب ما ذكره؛ لأنا لو أمكننا أن نعرف الغير بسكون أنفسنا لكان ذلك هو الواجب.
والذي يبطل قول الجاحظ: أن الجاهل إنما يتصور بصورة ساكن النفس بدليل أنه لو شكك عليه لبطل(1) اعتقاده.
فصل
وهذا الحكم أعني سكون النفس الذي به فارق العلم غيره يعلم ضرورة عن الشيخ أبي عبد الله، سواء كان الاعتقاد المقتضي له ضروريا أو استدلاليا.
وقال الجمهور: يعلم ضرورة إن كان المقتضي له ضروريا، أو استدلالا إن كان المقتضى له استدلاليا. حجة أبي عبد الله أن كل حكم ضروري يثبت في موضع بطريق، فإنه يثبت بها في سائر المواضع.
واعترضه الجمهور بأنه اعتماد على مجرد الوجود، ويمكن أن يحتج لصحة مذهبه بأنه لا يمكن الإشارة إلى من يجعله دليلا على أنفسنا ساكنة.
وبعد، فكان يلزم صحة أن ينظر أحدنا في الدليل على الوجه الذي يدل فيعلم المدلول ولا يعلم أن نفسه ساكنة بأن لا ينظر في هل هي ساكنة أم لا، أو بأن ينظر في ذلك لا على الوجه الصحيح. وعلى الجملة فلا بد أن يكون محوزا حال النظر في ذلك، وقد ثبت أن أحدنا عند أن يحصل له العلم لا شك في سكون نفسه.
مخ ۱۴
وبعد فأحدنا يجد نفسه ساكنة من دون نظر، وبعد وكان يلزم التسلسل في الأدلة، فإذا علمنا الشيء بدليل احتجنا إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، ثم إذا نظرنا في ذلك الدليل الآخر فعلمناه وسكنت أنفسنا احتجنا في ذلك السكون إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، وهلم جرا.
وإن قال الجمهور: إن الدليل الذي يحصل به العلم بالمدلول والعلم سكون النفس واحد، وكذلك النظر واحد، فلا يلزم التسلسل في الأدلة ولا التجويز حال العلم بالمدلول.
وقيل لهم: هذا على بعده يلزم عليه كون النظر مولدا لعلمين مختلفين، العلم بالمدلول والعلم بسكون النفس إليه.
على أن أحدنا إنما يجد نفسه طالبة للعلم بالمدلول حال النظر ولا يجدها طالبة للعلم بسكون النفس.
حجة الجمهور: أنه إذا كان الاعتقاد استلاليا فبالأولى ما هو مقتضى عنه؛ لأنه كالفرع له.
ولأبي عبد الله أن يجيب بأنكم إن أردتم بكون سكون النفس استدلاليا أنه مقتضى عن علم /10/ استدلالي، فهو صحيح، لكن ذلك لا يمتنع من كونه معلوما بالوجدان من النفس وإن أردتم بكونه استدلاليا أن النظر الأول يولده أو أنه يحصل بنظر مستأنف فهو محل النزاع.
قالوا: كان لا يصح زوال العلم الاستدلالي قط بعد حصوله؛ لأن أحدنا يضطر فيه إلى سكون النفس. وله أن يقول بل يصح زوال العلم الاستدلالي، لكن إذا زال ما هو مقتضى عنه، وهو سكون النفس النفس، وإذا زال سكون النفس زال العلم الضروري المتعلق بسكون النفس؛ لأن الله تعالى لا يحدد فينا اعتقادا ضروريا يتعلق بالشيء، لا على ما هو به.
مخ ۱۵
فصل كل ما لا يعلم استدلالا يجوز أن يعلم ضرورة مطلقا، وكل
ما يعلم ضرورة يجوز أن يعلم استدلالا بشرط زوال العلم الضروري إذا لم يكن من كمال العقل.
وقال قوم: يجوز مطلقا في الطرفين، ويبطله أن من حق الاستدلال التجويز الاستحالة أن ينظر الإنسان فيما هو قاطع فيه.
وقال الشيخ أبو القاسم: لا يجوز في واحد من الطرفين، وجعل العلم بالله تعالى في دار الآخرة استدلاليا، لكونه في الدنيا كذلك. لنا أما الأول فلأنا إذا قدرنا على العلم فالله تعالى عليه أقدر، فيصح كونه ضروريا.
وأما الثاني: فلأنه إذا زال العلم بالشيء ضرورة لم يمكنا أن نعلمه إلا بالاستدلال.
وأما قوله في أهل الآخرة، فباطل؛ لأن الاستدلال لا يصح إلا مع التجويز، وفي ذلك يتغيض على أهل الجنة، ويتعيش على أهل النار لتجويزهم الجميع انقطاع ما هم فيه حال النظر.
وبعد فكان يجوز أن لا يختار أهل النار المعرفة، وليس له أن يقول هم ملجئون إليها، لأن الإلجاء بنا في التكليف، وهم عنده مكلفون، وإن كان التكليف في حقهم باطلا، وإلا وجب أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بما كلفوه، فيؤدي إلى أن يستحق أهل النار ثوبا بالطاعة، وأن يستحق أهل الجنة الذم والعقاب إن عصوا وأن تلحقهم مشقة.
مخ ۱۶
فصل
وللعلم بكونه علما حال تثبت بالفاعل، وقيل حكم وقيل لا حكم ولا حال.
لنا: إنه قد شارك سائر الاعتقادات في كونه اعتقادا ومتعلقا وموجبا لمن اختص به وانفرد باقتضائه لسكون النفس، فلا بد من أمر له يثبت التفرقة، وهو إما فاعل ولا يصح لفقد الاختيار، والأصح أنه يجعل الجهل كذلك.
وأما معنى وهو باطل /11/ لفقد الاختصاص والمخصص.
وأما حكم وهو باطل لأنا نعلم هذه التفرقة من دون اعتبار غير، ولا ما يجري مجراه.
وأما صفة واجبة وهو باطل لمشاركة سائر الاعتقادات له في ذلك.
وأما صفة جائزة وهو المطلوب.
فصل
والمؤثر في هذه الحالة هو الفاعل للاعتقاد بواسطة وقوعه على أحد الوجوه التي سنذكرها؛ لأنه إما أن يكون علما لجنسه أو لصفة جنسه كما يقوله الشيخ أبو القاسم أو لوجوده أو لحدوثه على وجه أو لمعنى أو لمجرد اختيار الفاعل أو بالفاعل بواسطة أحد هذه الوجوه المذكورة.
والأربعة الأقسام الأولة باطلة لحصولها في سائر الاعتقادات.
مخ ۱۷
والخامس باطل لفقد الاختصاص. والسادس باطل، لفقد الاختيار عند زوال الوجوه.
والسابع هو المطلوب.
فصل
والوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما ستة:
أحدها: وقوعه عقيب النظر، والواسطة هنا هو النظر عند ابن متويه، وكونه باطرا عند أبي رشيد.
حجة ابن متويه: أنه لو كان المؤثر كونه باطرا للزم إذا فعل الله، في أخذنا نظرا، وكان العلم الحاصل عنه من فعله تعالى أن يكون قد أثرت صفة أحدنا في فعل الله تعالى.
وأجيب عن أبي رشيد بأن الصفة إنما تؤثر حيث يمكن تعليق الحكم بها لا في كل موضع، وهاهنا قد صار وقوعه من فعل الله وجها في كونه علما فلم يمكن تعليق ذلك في الصفة وهذا حسن، لأنه لا يكفي في الدلالة على أن الصفة هي المؤثرة، وأن كفى في جواز ذلك وفي تضعيف استلال ابن متويه رحمه الله تعالى فإذا الأولى في الاستدلال أن يقال أن النظر إذا أثر في الصفة فهو مؤثر في ما تؤثر فيه الصفة إن ثبت لها تأثير، وأيضا فإذا أثر في الاعتقاد كان أولى أن يؤثر في وقوه على وجه كسائر وجوه الأفعال.
الوجه الثاني: أن يقع عقيب تذكر النظر والاستدلال كعلم المنتبه من رقدته، والمؤثر هنا إما أن يكون نظرا مستأنفا أو النظر الأول أو تذكره، والأول باطل؛ لأن العلم يحصل أول حالات الانتباه والنظر يحتاج إلى وقت ممتد، ولأن أحدنا لا يجد نفسه ناظرة، والثاني باطل لأن النظر إنما يولد في بأبي وجوده وهاهنا أوقات كثيرة بقي أن يكون المؤثر تذكره للنظر وتأثير التذكر إنما هو على جهة الدعاء لا على جهة الإيجاب؛ لأن الذكر علم ضروري، فلو أوجب لكان علم المنتبه من فعل الله تعالى، ولأن الذكر قد يكون من مجموع أمور، فلا يصح تأثيرها في شيء واحد.
مخ ۱۸
والوجه الثالث: أن يقع من فعل العالم بالمعتقد كالعلم الذي يفعله الله تعالى في أحدنا، وكما إذا فعل أحدنا في نفسه اعتقادا مبتدأ بما هو عالم به، فإن ذلك يؤثر في كونه علما تأثير دعاء أيضا؛ لأن الله تعالى كما يقدر على أن يفعل فينا اعتقادا مطابقا يقدر على أن يفعل اعتقادا غير مطابق، ولا يجوز أن يكون المؤثر كونه مريدا والأوجب إذا أراد أحدنا كون الجهل علما أن يكون كذلك ولا أن يكون المؤثر كونه قادرا والأوجب في كل قادر أن يكون اعتقاده علما.
الوجه الرابع: زاده الشيخ أبو عبد الله، وهو وهو إلحاق التفصيل بالجملة كمن يعلم كل ظلم قبيح لم يعلم في فصل معين أنه ظلم، فإن هذين العلمين يدعوا انه إلى فعل علم ثالث بقبح هذا الظلم المعين إلحاقا للتفصيل بالجملة، وهذا لا يستقيم على أصل أبي هاشم؛ لأن الجملي هو التفصيلي عنده، لكن لم يكن متعلقا، ثم تعلق.
وأما الشيخ أبو الحسين فإنه يجعل العلم الثالث الذي هو التفصيلي متولدا عن العلم الجملي.
قال: لأنه لو حصل بالداعي لجاز حصول صارف يقابل الداعي، وكان يلزم لو خلق الله في أحدنا علما ضروريا بأنه إن فعل هذا العلم الثالث أدخله النار أن لا يعلم قبح الظلم المعين مع العلم بأنه ظلم وأن كل ظلم قبيح ومعلوم خلاف ذلك وإن كان قد التزمه بعض معتزلة الري.
واعلم أن هذا الإلزام متوجه، فإما قوله أن الجملي يولد التفصلي، فهو لا يستقيم على أصول البهاشمة؛ لأن الاعتقاد عندهم لا يولد الاعتقاد.
مخ ۱۹
قالوا: لأنه لو ولده لولده في محله إذ لا جهة له، ولولده في الوقت الأول إذ لا مقتضي لتأخره، فكان يلزم وجود ما لا يتنافى من العلوم في حالة واحدة، إذ لا وجه يقتضي الحصر. وأيضا فليس العلم الجملي بأن يولد اعتقادا أولي من صده، ولأبي الحسين أن يقول ما قولكم يولد ما لا يتناهى، فلا يلزم؛ لأن المولد عندي هو الجملي لا كل علم، وهو أن ولد في الوقت الأول، فالمبق له تفصيلي، والتفصيلي لا يولد عندي، فلا يلزم وجود ما لا يتناهى.
وأما قولكم بأن يولد اعتقادا أولي من صده فلا يلزم أيضا كما لا يلزم في النظر إذا ولد العلم أن يولد ضده. إذا ثبت هذا فالأقرب /13/ والله أعلم إن لم يصح ما قاله أبو الحسين من كون، الثالث متولدا أن يكون ضروريا من جهة الله تعالى بفعله ابتداء عند حصول العلمين الأولين .
فإذا قيل: طريقة العادة، فكان يجوز أن لا يفعله الله تعالى بأن تختلف العادة.
قلنا: هو كذلك، لكنه معدود في كمال العقل، فيكون العلم بقبح الظلم المعين في ذلك كالعلم بقبح الظلم على الجملة، وليس لزوم زواله عند أن لا يختار الله فعله بأبلغ من لزوم زواله عند حصول صارف يزيد على الداعي.
الوجه الخامس: زاده أبو عبد الله أيضا وهو يذكر العلم، فإذا ذكر أحدنا أنه كان عالما ثم فعل اعتقادا، كان ذلك الذكر وجها في كونه علما، وهذا إنما يستقيم على مذهبه في أن العلم بالعلم ليس علما بالمعلوم، وإليه ذهب القاضي وأبو إسحاق.
فأما الشيخان أبو علي وأبو هاشم، فعندهما أن العلم بالعلم علم بالمعلوم، فإذا علم أحدنا أنه عالم بالشيء فقد علم الشيء ولا حاجة إلى فعل علم آخر.
والحق ما قاله أبو عبد الله وإلا لزم، إذا ذكر أحدنا أنه كان عالما بالله، وقد ثبت أن الذكر علم ضروري أن يكون قد علم الله ضرورة.
مخ ۲۰
الوجه السادس: خرج على مذهب أبي هاشم وهو أن يعتقد أحدنا تقليدا أن زيدا في الدار، ثم يبقى هذا الاعتقاد إلى أن يشاهده فيها، فإنه يصير وجها في كون ذلك الاعتقاد علما؛ لأنه من فعل العالم بالمعتقد، وهذا مبني على مذهبه في بقاء الاعتقادات، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تبقى.
وقال أبو علي: يبقى الضروري دون المكتسب.
حجة الجمهور: أن الباقي لا ينفى إلا بضد أو ما يجري مجراه، وأحدنا خرج عن كونه عالما لا الضد، ولا إلى ما يجري مجراه، والشك والسهو ليسا معينين.
وبعد فلو بقيت العلوم لما احتاج أحدنا إلى تكرار الدرس، ولوجب في من سمع سبا أن يحفظه ولا يزول عنه.
فصل
قد يحتاج العلم إلى العلم إما لكونه أصلا له كاحتياج العلم بالحال إلى القلم بالذات، وإما لكونه طريقا إليه كاحتياج العلم بكونه تعالى موجودا إلى العلم بكونه قادرا، والفرق بين أصل الشيء وطريقه أنه لا يصح حصوله من دون أصله، ويصح حصوله من دون طريقه، ولهذا يصح /14/ أن يخلق الله تعالى فينا علما ضروريا بكونه موجودا، وإن لم يعلم كونه قادرا، ولا يصح أن يفعل فينا العلم بصفة الذات دون العلم بالذات.
فصل
والعلوم قد تماثل وقد تختلف، ولا يضاد الاستحالة تعلق العلم بالشيء لا على ما هو به، وذلك شرط التضاد.
ويعرف تماثلها باتحاد المتعلق، والوجه والطريقة والوقت، كأن يعلم زيدا على صفة مخصوصة في وقت مخصوص جملة أو تفصيلا، فإنها تكون متماثلة لاتفاقها في أخص ما يثنى عن صفة ذاتها ولتماثل موجبها، ولأن الضد الواحد يبغيها كلها، ويعرف الاختلاف بتعدد(1) أحد هذه الوجوه المذكورة، ولم يشترط ابو هاشم إيجاد الطريقة بناء على مذهبه في أن العلم الجملي لا يتعلق ولا اشترط اتحاد الوقت بناء على مذهبه في بقاء الاعتقادات.
مخ ۲۱
فصل
وكل علم حسن عند أبي هاشم وأبي الهذيل، وخالفه أبو القاسم في العلم إذا قصد به وجه قبيح كالعلم بالسحر، للعمل به، والعلم بالشبهة للتلبيس، والعلم إذا كان فيه مفسدة كالعلم بأعيان الصغائر والعلم بما معه تمكن من معارضة القرآن.
قال أبو هاشم: الذي يقبح هو القصد في الأول والتمكين في الثاني. واعترضه ابن متويه بأنه لا يمتنع أن يعلم الله من حال بعض المكلفين أنه إذا حصل له علم ما فسد عنده. ويمكن الجواب بأن العقلاء يستحسنون الإقدام على كل علم على الإطلاق، فلو كان فيها ما هو قبيح لدل عليه الشرع.
فصل
ويصح أن يعلم المعلوم الواحد بعلوم كثيرة خلافا لأبي علي، وكأنه بناء على أصله في امتناع تسكير الساكر، وجمع المجتمع ونحوه.
لنا: صحة اجتماع المتماثلات والمختلفات في المحل الواحد، ومتى علمه بعلوم فهو كمن علمه بعلم واحد؛ لأن سكون النفس لا يتزايد، فأما الجلاء فالمرجع به إلى كثرة الطرق لا كثرة العلوم، ولهذا قد يكون العلم الواحد أجلا من العلوم الكثيرة كالضروري مع المكتسبات.
وأما قولهم فلان أعلم من فلان فمعناه في أحد قولي أبي علي كثرة علومه كقولهم أقدر، وفي القول الثاني كثرة المعلومات.
وقال أبو هاشم: معناه أنه يعلم ما يعلمه الآخر، وما لا يعلمه.
مخ ۲۲