فالمحصول الأول كحصول العلم مثلا بامتلاء إناء أو خلوه بأن يبصر مثلا يرشح أو يوجد ثقيلا أو يبصر مكفأ ويوجد خفيفا. والمحصول الثاني وهو الذي للأقاويل الشعرية مثل ما تشف لك آنية الزجاج عن صورة ما تحويه. فلذلك صارت الأقاويل الشعرية أشد إبهاجا وتحريكا للنفوس من غيرها. فلشدة منسبة الأقاويل الشعرية للأغراض الإنسانية كانت أشد تحريكا للنفوس وأعظم أثرا فيها.
٣- إضاءة: وليست المحاكاة في كل موضع تبلغ الغاية القصوى من هز النفوس وتحريكها، بل تؤثر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها، وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها، وبقدر ما تجد النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر لها.
٤- تنوير: فتحرك النفوس للأقوال المخيلة إنما يكون بحسب الاستعداد، وبحسب ما تكون عليه المحاكاة في نفسها، وما تدعم به المحاكاة وتعضد مما يزيد به المعنى تمويها والكلام حسن ديباجة من أمور ترجع إلى لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب. وقد ذكرت جل كليات تلك الأشياء في هذا الكتاب.
٥- إضاءة: والاستعداد نوعان: استعداد بأن تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال والهوى كما قال المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)
وإنما تنفع المقالة في المر ... ء، إذا وافقت هوى في الفؤاد
والاستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه بما أسلبها من هزة الارتياح لحسن المحاكاة. هكذا كان اعتقاد العرب في الشعر. فكم خطب عظيم هونه عندهم بيت! وكم خطب هين عظمه بيت آخر!. ولهذا ما كانت ملوكهم ترفع أقدار الشعراء المحسنين، وتحسن مكافأتهم على إحسانهم. وكان لغير العرب بين الأمم في القديم أيضًا من العناية بالشعر والتأثر له وحسن الاعتقاد فيه مثل ما كان للعرب. وقد قال أبو علي ابن سينا: "إنهم كانوا ينزلون الشاعر منزلة النبي فينقادون لحكمه ويصدقون بكهانته". هذا على أن العرب انتهت من إحكام الصنعة الجديرة بالتأثير في النفوس إلى ما لم تنته إليه أمة من الأمم، لاضطرارهم إلى التأنق في تأسيس مباني كلامهم وإحكام صنعته بسكناهم البيد البسابس في غير إيالة تربطهم وسياسة تضبطهم. فكانوا أخلق أمة بأن يكثر تنازعهم فيما يقيمون به معايشهم. فاتخذوا الإبل لارتياد الخصب، واتخذوا الخيل للعز والمنعة، واتخذوا الكلام المحكم نظما ونثرا للوعظ والحض على المصالح.
٦- تنوير: ولشدة حاجة العرب إلى تحسين كلامها اختص كلامها بأشياء لا توجد في غيره من ألسن الأمم. فمن ذلك تماثل المقاطع في الأسجاع والقوافي لأن في ذلك مناسبة زائدة، ومن ذلك اختلاف مجاري الأواخر، واعتقاب الحركات على أواخر أكثرها، ونياطتهم حرف الترنم بنهايات الصنف الكثير المواقع في الكلام منها لأن في ذلك تحسينا للكلم بجريان الصوت في نهاياتها، ولأن للنفس في النقلة من بعض الكلمة المتنوعة المجاري إلى بعض على قانون محدود راحة شديدة واستجدادا لنشاط السمع بالنقلة من حال إلى حال، ولها، في حسن اطراده في جميع المجاري على قوانين محفوظة قد قسمت المعاني فيها على المجاري أحسن قسمة، تأثر من جهتي التعجيب والاستلذاذ للقسمة البديعة والوضع المتناسب العجيب. فكان تأثير المجاري المتنوعة وما يتبعها من الحروف المصوتة من أعظم الأعوان على تحسين مواقع المسموعات من النفوس، وخصوصا في القوافي التي استقصت فيها العرب كل هيئة تستحسن من اقترنات بعض الحركات والسكنات والحروف المتماثلة المصوتة وغير المصوتة ببعض، وما تتنوع إليه تلك الاقترنات من ضروب الترتيب. فهذه فضيلة مختصة بلسان العرب. ولهذا قال أبو نصر: "إن الألسن العجمية متى وجد فيها شعر مقفى فإنما يرومون أن يحتذوا فيه حذو العرب. وليس ذلك موجودا في أشعارهم القديمة".
٧- إضاءة: وإنما التزمت العرب إجراء اللواحق المصوتة على أعقاب الكلم ونهاياتها على قانون قانون في موضع موضع لا يتعدى، في كل موضع منها صورة مخصوصة من المجاري (لوجهين):
1 / 39