٦- تنوير: وإنما وقع الغلط في هذا لقوم من القدماء كانوا فقراء من علم البلاغة على غنائهم من الرواية، ولقوم من أبناء هذا الزمان هم أفقر خلق الله من تلك وهذه، ولمن يريد أن يستنبط قوانين هذه الصناعة من صناعة أخرى لعله لا يحسنها بله هذه، وذلك غير ممكن، فإنما يستنبط الشيء من معدنه ويطلب في مظنته، أو لعل من هذه صفته قد رأى يوما أحدا ممن تكلم في علم البلاغة قد عاب الانحطاط من الصفة إلى ما يوافقها في نسق واحد من الكلام. فهذا لا يخلو من أن يكون غير عارف بهذه الصناعة مثله، فهو جدير أن يظن أن ضد ذلك حسن وهو البدء بالشيء الأحقر والصيرورة منه إلى الأعظم المفاوت له في غرض يتراميان فيه إلى تحسين شيء واحد أو تقبيحه، أو يكون عارفا بالصنع فيكون قد عاب ما هو جدير بالعيب، وهو يعتقد أن ضده معيب أيضًا كذلك لأن كلا الموضعين من وضع التنافر. وما أكثر ما يقع الغلط للناس في هذه الصنعة من هذا الباب! لأن وجوه النظر في ما يحسن ويقبح في هذه الصنعة لا تحصى كثرة. وكل ما يستحسن ويستقبح فإن له اعتبارات شتى بحسب المواضع وما يليق بواحد منها. وبحسب الأغراض والأحوال وتباين المقاصد في جميع ذلك تتشعب طرق الاعتبار في هذه الصناعة إلى ما يعز حصره، فيطالع بعض من لم يتفرغ لهذه الصنعة ولا في طبعه أن يعلمها لو تفرغ لها الشيء التافه من الأقاويل في هذه الصناعة، فيبني نظره فيها على ذلك، وهو قد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء.
٧- إضاءة ويجب في محاكاة أجزاء الشيء أن ترتب في الكلام على حسب ما وجدت عليه في الشيء لأن المحاكاة بالمسموعات تجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلونات من البصر. وقد اعتادت النفوس أن تصور لها تماثيل الأشباح المحسوسة ونحوها على ما عليه ترتيبها. فلا يوضع النحر في صور الحيوان إلا تاليا للعنق وكذلك سائر الأعضاء فالنفس تنكر لذلك المحاكاة القولية إذا لم يوال بين أجزاء الصور علة مثل ما وقع فيها، كما تنكر المحاكاة المصنوعة باليد إذا كانت كذلك. فإن وقعت محاكاة على هذا النحو من فساد الترتيب فالواجب أن يعتقد فيها أنها صور جزئية إذا كان كل جزء منها قد خيل على حدته على ما يجب فيه لا صورة كلية لأن المجموع ليس له نظام المجموع، فيجب لهذا أن تعتبر المحاكاة تفاريق.
٨- تنوير: ولا يخلو الشيء من أن يحاكى بأوصاف له شهيرة أو صفات خاملة أو بمجموعها. ولا تخلو من أن تقع التخاييل في جميع أجزاء الشيء أو في بعضها. والمخيل الذي تقع التخاييل في بعض أجزائه لا يخلو أن تقع في طرف واحد منه، أو في كلا طرفيه، أو فيهما معا وما بينهما. وأحسن التخاييل ما اشتهرت الأوصاف فيه وعمت.
٩- إضاءة: فالمحاكاة التامة في الوصف هي استقصاء الأجزاء التي بموالاتها يكمل تخييل الشيء الموصوف. وفي الحكمة استقصاء أركان العبارة عن جملة أجزاء المعنى الذي جعل مثالا لكيفيات مجاري الأمور والأحوال وما تستمر عليه أمور الأزمنة والدهور. وفي التاريخ استقصاء أجزاء الخبر المحاكى وموالاتها على حد ما انتظمت عليه حال وقوعها، كقول الأعشى: (البسيط -ق- المترادف)
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف، فقال له: ... قل ما شاء، فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل، ثم قال له اقتل أسيرك، إني مانع جاري
فهذه محاكاة تامة، ولو أخل بذكر بعض أجزاء هذه الحكاية لكانت ناقصة، ولو لم يورد ذكرها إلا إجمالا لم تكن محاكاة ولكن إحالة محضة.
١٠- تنوير: فأما طريق التهدي إلى تحسينات الأشياء وتقبيحاتها بالمحاكاة فإنه لما كان المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده بما يخيل لها فيه من حسن أو قبح وجلالة أو خسة وجب أن تكون موضوعات صناعة الشعر الأشياء التي لها انتساب إلى ما يفعله الإنسان ويطلبه ويعتقده. والأقاويل الدالة على تلك الأشياء من حيث تخيل بها تلك الأشياء. فتحسين المحاكاة وتقبيحها إما يتعلقا بفعل أو اعتقاد، أو يتعلقا بالشيء الذي يفعل أو يعتقد.
وطرق تعلقها بالشيء أو فعله أو اعتقاده أربعة:
1 / 33