٣- إضاءة: وطرق وقوع التخييل في النفس: إما أن تكون بأن يتصور في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال، أو بأن تشاهد شيئا فتذكر به شيئا، أو بأن يحاكى لها الشيء بتصوير نحتي أو خطي أو ما يجرى مجرى ذلك، أو يحاكى لها صوته أو فعله أو هيأته بما يشبه ذلك من صوت أو فعل أو هيأة، أو بأن يحاكى لها معنى بقول يخيله لها -وهذا هو الذي نتكلم فيه نحن في هذا المنهج- أو بأن يوضع لها علامة من الخط تدل على القول المخيل، أو بأن تفهم ذلك بالإشارة.
د- معرف دال عل طرق المعرفة بجهات مواقع التخييل من الأقاويل وما بإزائها من المعاني وما يحسن أن ينحى بالمحاكاة نحوه من ذلك وما لا يحسن.
وأحسن مواقع التخييل: أن يناط بالمعاني المناسبة للغرض الذي فيه القول متخييل الأمور السارة في التهاني، والأمور المفجعة في المراثي. فإن مناسبة المعنى للحال التي فيها القول وشدة التباسه بها يعاون التخييل على ما يراد من تأثر النفس لمقتضاه.
١- إضاءة: ويحسن موقع التخييل من النفس، أن يترامى بالكلام على أنحاء من التعجيب، فيقوى بذلك تأثر النفس لمقتضى الكلام.
والتعجب يكون باستبداع ما يثيره الشاعر من لطائف الكلام التي يقل التهدي إلى مثلها. فورودها مستندر مستطرف لذلك: كالتهدي إلى ما يقل التهدي إليه من سبب للشيء تخفى سببيته، أ، غاية له، أو شاهد عليه، أو شبيه له أو معاند، وكالجمع بين مفترقين من جهة لطيفة قد انتسب بها أحدهما على الآخر، وغير ذلك من الوجوه التي من شأن النفس أن تستغربها.
٢- تنوير: ويجب ألا يسلك بالتخييل مسلك السذاجة في الكلام، ولكن يتقاذف بالكلام في ذلك إلى جهات من الوضع الذي تتشافع فيه التركيبات المستحسنة والترتيبات والاقترانات والنسب الواقعة بين المعاني. فإن ذلك مما يشد أزر المحاكاة ويعضدها. ولهذا نجد المحاكاة أبدا يتضح حسنها في الأوصاف الحسنة التناسق، المتشاكلة الاقتران، المليحة التفصيل، وفي القصص الحسن الاطراد، وفي الاستدلال بالتمثيلات والتعليلات، وفي التشبيهات والأمثال والحكم، لأن هذه أنحاء من الكلام قد جرت العادة في أن يجهد في تحسين هيآت الألفاظ والمعاني وترتيباتها فيها.
٣- إضاءة وإذا كان في قوة القول البسيط أو القريب من البساطة أن يتخيل منه أشياء لو وضع اللفظ طبقا لها لم يكن إلا متركبا، حسن الهيئة، جرى مجرى ما قبله في الاستحسان. وذلك كالتشبيه بغير حرف وكالاستعارة وما جرى مجراهما في ذلك.
هـ- معلم دال على طرق العلم بما تنقسم غليه المحاكاة
لا يخلو المحاكي من أن يحاكي موجودا بموجود أو بمفروض الوجود مقدره. ومحاكاة الموجود بالموجود لا تخلو من أن تكون محاكاة شيء بما هو من جنسه أو محاكاة شيء بما ليس من جنسه. ومحاكاة محسوس بغير محسوس، أو غير محسوس بمحسوس، أو مدرك بغير الحس بمثله في الإدراك. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون محاكاة معتاد بمعتاد، أو مستغرب بمستغرب، أو معتاد بمستغرب، أو مستغرب بمعتاد. وكلما قرب الشيء مما يحاكى به كان أوضح شبها. وكلما اقترنت الغرابة والتعجيب بالتخييل كان أبدع.
١- إضاءة: وتنقسم التخاييل والمحاكيات بحسب ما يقصد بها إلى: محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والملح في بعض الواضع التي يعتمد فيها وصف الشيء ومحاكاته بما يطابقه ويخيله على ما هو عليه. وربما كان القصد بذلك ضربا من التعجيب أو الاعتبار. وربما كانت محاكاة المطابقة في قوة المحاكاة التحسينية أو التقبيحية. فإن أوصاف الشيء الذي يقصد في محاكاته المطابقة لا تخلو من أن تكون من قبيل ما يحمد ويذم وإن قل قسطها مثلا من الحمد والذم. فكأن التخييل بالجملة لم يخل من تحريك النفس إلى استحسان أو إلى استقباح. فلهذا كانت قوة محاكاة المطابقة في كثير من المواضع قوة إحدى المحاكاتين التحسينية أو التقبيحية، لكنها قسم ثالث على كل حال، إذ لم تخلص على تحسين ولا تقبيح.
وقد ذكر هذا أبو علي بن سينا، وقسم المحاكيات هذه القسمة.
1 / 28