١٣- إضاءة: وإنما احتجت على إثبات وقوع الأقاويل الصادقة في الشعر لأرفع الشبة الداخلة في ذلك على قوم، حيث ظنوا أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة. وهذا قول فاسد قد رده أبو علي ابن سينا في غير ما موضع من كتبه، لأن الاعتبار في الشعر غنما هو التخييل في أي مادة اتفق، لا يشترط في ذلك صدق ولا كذب، بل أيهما ائتلفت الأقاويل المخيلة منه فبالعرض. لأن صنعة الشعر هي جودة التأليف وحسن المحاكاة، وموضوعها الألفاظ وما تدل عليه.
فالصدق والكذب والشهرة والظن أشياء راجعة على المفهومات التي هي شطر الموضوع، فنسبتها إلى المدلولات التي هي المعاني كنسبة العمومية والحوشية والحال الوسطى بينهما والغرابة إلى الأدلة التي هي الألفاظ. وكل هذه الأصناف من الألفاظ تقع في الشعر. وصناعة الشاعر فيها حسن التأليف والهيئة. كما أن كل تلك المواد تقع فيه. وصناعة الشاعر فيها حسن المحاكاة والنسب والاقترانات الواقعة بين المعاني. وكما أن الألفاظ المستعذبة المتوسطة في الاستعمال أحسن ما يستعمل في الشعر لمناسبتها الأسماع والنفوس، وحسن موقعها منهما، ثم إن الشاعر مع ذلك يستعمل الحوشي والساقط تسامحا واتساعا، حيث تضطره الأوزان والقوافي، فكذلك المعاني التي تكون الأقاويل فيها صادقة أو مشتهرة، أفضل ما يستعمل في الشعر لكونها تحرك النفوس إلى ما يراد منها تحريكا شديدا.
وليست تحرك الأقاويل الكاذبة إلا حيث يكون في الكذب بعض خفاء أو حيث يحمل النفس شدة ولعها بالكلام لفرط ما أبدع فيه على الانقياد لمقتضاه، وإن كان مما يكره ولا يصدق الحاض عليه. ومع هذا فتحريكها دون تحريك الأقاويل الصادقة عام فيها قوي، وتحريك الكذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك الصادقة عام فيها قوي، وتحريك الكاذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك فيه وقوي كان أخلق بأن يجعل عمدة في الاستعمال حيث يتأتى. كما أن ما عذب من الألفاظ ولم يكن حوشيا ولا عاميا أجدر أن يعتمد في الشعر من غيره. لكن الشاعر أيضًا يضطر حيث يريد تحسين قبيح أو تقبيح حسن أو تتميم ناقص بالنسبة على ما يراد منه بالمبالغة في وصفه لتزيد النفوس زيادة الوصف تحريكا، فيستعمل حينئذ الأقاويل الكاذبة وما لا يوقع الصدق كما يستعمل الحوشي والعامي من الألفاظ مضطرا في ذلك، أو مسامحة للفكر في ما يقتضيه من المعاني أو يجتلبه من الألفاظ عفوا دون كد، أو لأن يرى بعض الأحوال المقدرة التي يتخيلها أهز من الأحوال التي وقعت له، فيبني قوله على الحال المخيلة الممكنة دون الواقعة، ليكون الكلام بذلك أشد موقعا من النفس وعلوقا بالقلب.
١٤- تنوير: فقد تبين أن أفضل المواد المعنوية في الشعر ما صدق وكان مشتهرا، وأحسن الألفاظ ما عذب ولم يبتذل في الاستعمال. وكلامنا ليس واجبا على الشاعر لزومه، بل مؤثرا حيث يمكن ذلك. وتبين بهذا أن قول من قال: إن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة كاذب، وأنه بمنزلة من يقول: إن الألفاظ الشعرية لا تكون إلا حوشية ولا تكون مستعملة، لأن الألفاظ المستعملة والمقدمات الصادقة أولى ما يستعمل في الشعر حيث يمكن ذلك ويكون الوضع والغرض لائقا به. وما مثله في قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجع فيه إذا وافق الغرض إلا مثل من منع من ذي علة ما هو أشد له موافقة بالنسبة إلى شكاته واقتصر به على أدنى ما يوافقه مع التمكن من هذا وذلك. فإن كان هؤلاء الذين رأيهم هذا نفسوا على الشعراء وقوع الصدق في كلامهم، فلا خلق أشد نفاسة من هؤلاء. وإن كان جرى عليهم سهو وغلط في ذلك، فما أجدر هذه الفطر البشرية والفكر الإنسانية بذلك! ١٥- إضاءة: ولعل الغلط إنما جرى عليهم من حيث ظنوا أن ما وقع من الشعر مؤتلفا من المقدمات الصادقة فهو قول برهاني، وما ائتلف من المشهورات فهو قول جدلي، وما ائتلفت من المظنونات المترجحة الصدق على الكذب فهو قول خطبي، ولم يعلموا أن هذه المقدمات كلها إذا وقع فيها التخييل والمحاكاة كان الكلام قولا شعريا لأن الشعر لا تعتبر فيه المادة، بل ما يقع في المادة من التخييل.
وقد قال أبو علي ابن سينا: "الأقاويل الشعرية مؤتلفة من المقدمات المخيلة من حيث يعتبر تخييلها، كانت صادقة أو كاذبة. وبالجملة تؤلف من المقدمات من حيث لها هيئة وتأليف تقبلها النفس بما فيها من المحاكاة، بل ومن الصدق، فلا مانع من ذلك".
1 / 25