بسشالله الرحمزالرويو رب يسر وأعن يا كريم بجاه محمد النبي العظيم (خطبة المؤلف] الحمد لله الذي اختص نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتاب أخرس الفصحاء، وأعجز البلغاء عن التفوه بمثل أقصر سورة من سوره، بل آية من آياته، وبجوامع الكلم وبدائع الحكم وعظيم الخلق في سائر أقواله وأفعاله وحالاته، وخرق له خوارق الوجود بمعجزات آبهرت العقول، وقصر عن إحصائها استفصاء المادحين لسيره وآياته، وبخصوصيات قطعت الخلائق عن آن يصلوا لشأو علاه وكمال شرفه وشرف كمالاته، وبأمة سطع عليها بدر وجوده في آفق سعوده، وفاض عليها فائض جوده في عالم شهوده، فأنار من أخلاقها وعقولها، وكمل من إقبالها وقبولها، وزين من بديع فصاحتها وعجيب بلاغتها، وراض ما استصعب من إبائها، وأغاض ما اشرآب من نوائها، ما صارت به خير الأمم، والعدول الشهود على من عليهم تقدم، بنص القرآن القطعي البرهان، القاصم لظهر المعاند وترهاته، وأوجب على الكافة غاية تعظيمه ومنه ذكر مناقبه ومآثره، وبيان أوصافه السنية وأحواله العلية وخصائصه ومعجزاته، ولذلك ذهب الناس في هلذه الفنون كل مذهب ، وأظهروا تعظيمه نظما ونثرا وسرا وجهرأ كما وجب، فحباهم بلحظه وإسعافه وإمداداته وأشهد أن لا إلكه إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أنتظم بها في سلك عناياته وأشهد آن سيدنا محمدأ عبده ورسوله، المحبو منه بخوارق هباته، والمفوض إليه امداد الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بمعاني القرب وبيناته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه حماة الدين القويم عن زيغ كل زائغ وتحريفاته، وهداة الخلق إلى الصراط المستقيم بإيضاح كلياته وجزئياته، صلاة وسلاما دائمين بدوام نعم الله تعالى على خواصه وأهل طاعاته
مخ ۱
============================================================
وبد فمما يتعين على كل مكلف أن يعتقد أن كمالات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا تحصى، وأن أحواله وصفاته وشمائله لا تستقصى، وأن خصائصه ومعجزاته لم تجتمع قط في مخلوق، وأن حقه على الكمل - فضلأ عن غيرهم - أعظم الحقوق، وأنه لا يقوم ببعض ذلك إلا من بذل وسعه في اجلاله وتوقيره وإعظامه، واستجلاء مناقبه ومآثره وحكمه وأحكامه، وأن المادحين لجنابه العلي، والواصفين لكماله الجلي.. لم يصلوا إلا إلى قل من كل لا حد لنهايته ، وغيض من فيض لا وصول إلى غايته، ومن ثم كان أبلغ بيت هنا المطلع الأتي ، كما يعلم مما يأتي فيه وفي " بردة انا نضد رشرد اله لنسن ل شرب ضان بلا نال المديح": ثم يليه: دع ما ادعنه النصارى في نبيهم وأحكم بما شنت مذحا فيه وآختكم ثم يليه: فميلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم ثم يليه: فاق النبئين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم فهم مقصرون عما هنالك، قاصرون عن آداء كل ما يتعين من ذلك، كيف وأي الكتاب مفصحة عن علاه بما يبهر العقول، ومصرحة من صفاته بما لا يستطاع إليه الوصول ؟1 امن البسيط) وقد قيل: ماذا عسى الشعراء اليؤم تندحه من بعد ما مدحث حسم تنزيل فعلم أنه لو بالغ الأولون والاخرون في إحصاء مناقبه. لعجزوا عن استقصاء ما حباه به مولاه الكريم من مواهبه، ولكان الملم بساحل بحرها مقصرا عن حصر [من الكامل] بعض فخرها، ولقد صح لمحبيه أن ينشدوا فيه :
مخ ۲
============================================================
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وعلى تفتن واصفيه بخشنه [من الطويل) وإنه لحقيق بقول القائل: فما بلغت كفك أمريء متناولا من المجد إلا والذي نال أطول ولو حذقوا إلا الذي فيه أفضل ولا بلغ المهدون في القول مذحة (من الكامل] ولابن خطيب الأندلس: يثني على علياك نظم مديحي مدحثك آيات الكتاب فما عسى كان القصور قصار كل فصيح وإذا كتاب الله أثنى مفصحا وقد رئي العارف المحقق السراج ابن الفارض السعدي رضي الله عنه في النوم، فقيل له : لم لا مدحت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ - أي: بالتصريح، وإلا.. فنظمه في الحقيقة إما في الحضرة الإللهية، أو فيه صلى الله عليه وسلم - فقال: (من الطويل] أرى كل مذح فيي النبي مقصرا وإن بالغ المثشي عليه واكثرا 2 إذا الله أثنى بألذي هو أفله عليه فما مقدار ما تمدح ألورى ؟
قال البدر الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين- كابي تمام والبحتري وابن الرومي مدحه صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه؛ فإن المعاني وإن جلت دون مرتبته، والأوصاف وإن كملت دون وصفه، وكل غلو في حقه تقصير، فيضيق على البليغ النطاق، فلا يبلغ إلا قليلا من كثير.
هلذا وإن من أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن كثير من شمائله من الوزن الفائق المنيع، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته.
ما صاغه صوغ التبر الأحمر، ونظمه نظم الدر والجوهر، الشيخ الإمام، العارف الكامل الهمام، المتفنن المحقق، البليغ الأديب المدقق، إمام الشعراء وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء وأفصح البلغاء، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي ولد سنة ثمان وست مئق، وأخذ عنه الإمام أبو حيان، والإمام اليعمري أبو الفتح
مخ ۳
============================================================
ابن سيد الناس، ومحقق عصره العز ابن جماعة وغيرهم، وتوفي سنة ست آو سبع وتسعين وست مثة على ما قاله المقريزي(1)، للكن صوب شيخ الإسلام العسقلاني أنه سنة آربع وتسعين كان أحد آبويه من بوصير الصعيد، والأخر من دلاص، فركبت النسبة منهما فقيل: الدلاصيري، ثم اشتهر بالبوصيري، قيل: ولعلها بلد آبيه فغلبت عليه، وكان من عجائب الدهر في النظم والتثر، ولو لم يكن له إلا قصيدته المشهورة ب1 البردة"، التي تسبب نظمها عن وقوع فالج به أعيا الأطباء، ففكر في إعمال قصيدة في النبي صلى الله عليه وسلم يتشفع بها إليه صلى الله عليه وسلم، ثم به إلى ربه، فأنشأها، فرآه ماسحأ بيده الكريمة عليه، فعوفي لوقته، ثم لما خرج من بيته.. لقيه عبد صالح فطلب منه سماعها فعجب منه؛ إذ لم يخبر بها أحدا، فقال: سمعتها البارحة تنشد بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يتمايل كتمايل القضيب، (قال] فأعطيته إياها، وقيل: إنه اشتد رمده بعد نظمها، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في التوم، فقرا عليه شينا منها فتفل في عينيه فبرىء لوقته-. لكفاه ذلك شرفا وتقدما، كيف وقد ازدادت شهرتها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن ؟!
وكان يعاني صنعة الكتابة على الحمايات، وباشر ببلبيس الشرقية، ثم ترك ذلك وصحب القطب أبا العباس المرسي رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات المعارف منقلبه ومثواه، فعادت عليه بركته، وساعده لحظه وهمته إلى آن فاق أهل زمانه، ورزقه الله من الشهرة والحظ ما لم يصل إليه أحد من أقرانه، فرحمه الله تعالى ورضي عنه من قصيدته الهمزية المشهورة، العذبة الألفاظ الجزلة المباني، العجيبة الأوضاع البديعة المعاني، العديمة النظير البديعة التحرير؛ إذ لم ينسج أحد على منوالها، ولا وصل إلى علا حسنها وكمالها، حتى الإمام البرهان القيراطي، المولود سنة ست وعشرين وسبع مثة، والمتوفى سنة إحدى وثمانين وسبع مثة؛ فإنه مع جلالته وتضلعه من العلوم العقلية والنقلية، وتقدمه على أهل عصره في العلوم العربية والأدبية، لا سيما علم البلاغة، ونقد الشعر وإتقان صنعته، وتمييز حلوه من مره، ونهايته من بدايته.. أراد أن يحاكيها ففاته الشنب ، وانقطعت به الحيل عن آن يبلغ من معارضتها (1) انظر " المقفى الكبير"(5/ 662) :
مخ ۴
============================================================
أدني آرب، وذلك لطلاوة نظمها، وحلاوة رسمها، وبلاغة جمعها، وبداعة صنعها، وامتلاء الخافقين بأنوار جمالها، وإدحاض دعاوى أهل الكتابين ببراهين جلالها، فهي- دون نظائرها - الاخذة بأزمة العقول، والجامعة بين المعقول والمنقول، والحاوية لأكثر المعجزات، والحاكية للشمائل الكريمة على سنن قطع أعناق أفكار الشعراء عن أن تشرتب إلى محاكاة تلك المحكيات، والسالمة من عيوب الشعر من حيث فن العروض، كادخال عروض على أخرى، وضرب على آخر، ومن حيث فن القوافي، كالايطاء وهو : تكرير لفظ القافية بمعناه قبل سبعة أبيات، وقيل: عشرة، وكالاكفاء وهو: اختلاف حرف الروي، والإقواء وهو: اختلاف حركته، للكنها وإن شرحت، وتعاورتها الأفكار وخدمت.. تحتاج إلى شرح جامع، ودستور مانع، يجلو عرائس أبكارها على منصات الألباب مع الاختصار، ويظهر مخبآت أسرارها ظهور الشمس في رابعة النهار، ويفتح مقفلات معمياتها عما قد يوجب القصور والعثار، وينبه على نفائس فرائدها، وينوه بجلالة عرائس فوائدها، ويعرب عن غراتب تعقيدها، ويفصح عن فنون بلاغتها وبدائع تأنيقها وتشييدها فاستخرت الله تعالى في شرح كذلك ، وإن كنت لست هنالك ، راجيا أن أندرج به في سلك خدمة جنابه صلى الله عليه وسلم، وأن أطوق بسببه سوابغ مدده ولحظه الأعظم، ومستعينأ بالله ومتوكلا عليه، ومفوضأ سائر آموري إليه، وسائلا منه بدائع الطافه، وتتابع إتحافه، وتيسير هذا المطلب، وإنجاح هلذا المأرب، إنه الجواد "المنح المكية في شرح الهمزية" الكريم، الرؤوف الرحيم: ويته ثم بلغني أن الناظم سماها " أم القرى" تشبيها لها بمكة، بجامع آنها حوت بطريق التصريح أو الإيماء ما في أكثر المدائح النبوية، وحينئذ سميته : " أفضل القرى لقراء أم القرى " وقد بين شارحها الإمام، المحقق في العلوم الأدبية والشرعية، الشمس الجوجري شيغ مشايختا، رحمه الله وشكر سعيه.، بحرها وعروضها وضربها وقافيتها،
مخ ۵
============================================================
وما يدخلها من العلل والزحاف بما أطال فيه، لكنه ليس له كبير جدوى هنا؛ لأن من يعرف فن العروض وتوابعه لا يحتاج إليه إلا لمجرد التذكير، ومن لا يعرفه يستوي عنده ذكر ذلك وحذفه اليسير منه والكثير: وخلاصة شيء منه: أنها من بحر الخفيف، وهو مركب من ستة آجزاء سباعية الحروف : فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن - مرتين- وقد يدخله الخبن في مستفعلن فيصير متفعلن فينقل إلى مفاعلن؛ لأنه أخف، بل وفي جميع أجزائه، فيحذف ثاني كل وهو حسن، والكف وهو : حذف سابعه من البعض أو الكل غير السابع(1)؛ إذ لا يوقف على متحرك، وهو صالح، وقد يجتمعان وهو قبيح، ويدخله التشعيث بآن تفقد صورة الوتد، فيصير مفعولن على صورة ثلاثة أسباب خفيفة، ووقع في كثير من أبيات هذه القصيدة، وهو من جملة الزحاف وإن أجري مجرى العلل: وقافيتها من المتواتر، وهو: ما فصل بين ساكنيها حرف واحد متحرك؛ إذ ليس هنا بين الألف والواو الساكنين سوى الهمزة التي هي الروي.
والقافية : قيل : آخر كلمة من البيت ، والأصح : أنها من آخر حرف متحرك منه قبل ساكنين ، فقافية البيت الاتي على الأول لفظ : سماء ، وعلى الأصح : من الميم ال وسترى كثرة ما راعاه الناظم من أنواع البديع ، لا سيما الاقتباس القرآني، للكن فيه كلام منتشر للعلماء، وخلاصة الحق منه : أنه مجمع على جوازه كما قاله بعض المتأخرين المطلعين، قال : وقد استعمله العلماء قاطبة في خطبهم وإنشائهم، واستنكره قوم جهلا منهم بالنصوص والنقول؛ فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، والصحابة والتابعون والعلماء قديما وحديثا، ونصوا في كتب الفقه على جوازه، وزعم بعض المالكية منعه يرده استعمال مالك رضي الله عنه له، ونص على جوازه غير واحد منهم، كابن عبد البر وعياض، وقد نقل الشيخ داوود الباجلي اتفاق المالكية والشافعية على جوازه ، وفي " شرح مجمع البحرين" لابن الساعاتي : التصريح بجوازه ، ولا فرق (1) الصواب أن يقول : غير السادس؛ لأن تفعيلات الخفيف ستة فقط كما هو معلوم
مخ ۶
============================================================
فيه بين أن يزاد على لفظ القرآن او ينقص منه ، أو يغير إعرابه أو لا.
قال السكاكي : اعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يعبر عنه ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن وكالملاحة، ولا طريق لتحصيله لغير ذوي الفطن السليمة إلا بالتمرن في علمي المعاني والبيان.
وقال غيره : لا تدرك معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدليل عليه ، كما أن التي أدون في المحاسن قد تكون أحلى منها في العيون والقلوب، ولا يدرك سبب ذلك، ولكنه يدرك بالذوق والمشاهدة، وأهل الذوق ليسوا إلا الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فاليه يرجع في فضل بعض الكلام على بعض، ولكون علم المعاني والبيان والبديع بهذه المثابة. كان يسمى قديمأ صنعة الشعر ونقد الشعر ونقد الكلام، وتسميته بالمعاني والبيان والبديع حادثة من المتأخرين، كما أشار لذلك الكمال ابن الأنباري والعسكري وغيرهما.
وقد حصلت لي رواية هلذه القصيدة وغيرها من شعر الناظم من طرق متعددة، منها، بل أعلاها: أني أرويها عن شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الحفاظ والمتأخرين، أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي، عن العز أبي محمد بن الفرات عن العز أبي عمر بن البدر ابن جماعة عن ناظمها وعن حافظ العصر ابن حجر، عن الإمام المجتهد السراج البلقيني والسراج ابن الملقن والحافظ زين الدين العراقي، عن العز ابن جماعة رحمهم الله تعالي، عن الناظم وأرويها أيضا عن مشايخنا، عن الحافظ السيوطي، عن جماعة منهم الشمني، بعضهم قراءة وبعضهم إجازة، عن عبد الله بن علي الحنبلي كذلك، عن العز ابن جماعة عن الناظم وقد راعى الناظم رحمه الله تعالى آمرين مهمين : أحدهما: البداءة بالبسملة؛ للحديث الحسن أو الصحيح : "كل أمر ذي بال-
مخ ۷
============================================================
أي : حال يهتم به - لا يبدأ فيه ببسم الله الرخمان الروحيم فهو أجذم "(1) أي : مقطوع البركة ، ولا تنافيه رواية : 0 الحمد لله "(2) ، لأن القصد البداءة بأي ذكر كان، كما أفادته رواية : "لا يبدأ فيه بذكر الله "(3) فذكر البسملة والحمدلة لبيان أفضل الذكر لا غير، ومن ثم ابتدىء القرآن بهما. ولم ينظر الناظم إلى ما قيل : إن الشعر لا يبدأ فيه بالبسملة، لأن محله - على ما فيه - فيما ليس كهذه القصيدة؛ لأنها اشتملت على أفضل العلوم والمعلومات، فهي أحق بالبداءة بالبسملة من كثير من العلوم: تانيهما: ما هو الأحق بالرعاية على كل بليغ من براعة المطلع، وهو: سهولة اللفظ، وصحة السبك، ووضوح المعنى، ورقة التشبيب، وتجنب الحشو، وتناسب المعاني، وعدم تعلق البيت بما بعده، ويسمى آيضا حسن الابتداء، وقد انتزعوا من هلذا براعة الاستهلال في النظم والنثر، بأن يكون مبدأ الافتتاح دالا على ما بني ذلك النظم أو النثر عليه من الغرض المسوق إليه، كقول أبي تمام : (من البسيطا السيف أضدق أنباء من الكثب(4) لما كان غرضه ذكر الفتح والتحريض على الحرب، وما افتتح به الناظم هلذه القصيدة فيه جميع تلك الشروط وزيادة، كما لا يخفن على متأمل لغرضه، وهو ذكر أوصافه صلى الله عليه وسلم التي ارتقى فيها إلى غاية لم يبلفها غيره، ولذلك كان ميع ما بعده من المدح إلى آخر القصيدة كالشرح والبيان لما تضمنه هاذا المطلع، فلله دره من مطلع جامع بديعا لم يسبق ناظمه لمثله (1) أحرجه السمعاني في " أدب الإملاء والاستملاء" (51/1).
(2) أخرج هلذه الرواية ابن حبان (1)، وأبو داوود (4807)، وابن ماجه (1894)، والنساني في " عمل اليوم والليلة "(498) (3) أخرج هذه الرواية الإمام أحمد (359/2)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (501) (4) ديوان أبي تمام (96/1)
مخ ۸
============================================================
كيف تؤقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء (كذ): مى فني الاصل اسم منى : النفصمته معين حر النرط أو الاسفهام على الفتح؛ لخفته، وعلى حركة؛ لا لتقاء الساكنين، وترد للشرط، وخرج عليها نحو ينفق كف يشاء}، وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه، وللاستفهام، وهو الغالب إما: حقيقيا نحو : كيف زيد؟ أو غيره كما هنا؛ إذ هي للإنكار المشوب بالتعجب المتضمن للنفي كما يعلم مما يأتي، وكما في الايتين الاتيتين، وتقع خبرا قبل ما لا يستغني، نحو: كيف آنت؟ وحالا قبل ما يستغني، نحو: كيف جاء زيد؟
أي : على أي حالة جاء؟ ومنه ما هنا في النظم ؛ إذ هي حال من فاعل (ترقى) أي : على أي حالة ترقى الأنبياء رقيك ؟! أي : لا يكون ذلك ولا كان .
وعن سيبويه: آنها ظرف، فموضعها نصب دائما، وتقديرها: في آو على آي حال، وجوابها المطابق: على خير ونحوه، وأنكر ذلك الأخفش والسيرافي، فموضعها رفع مع المبتدا، تصب مع غيره، وتقديرها في نحو: كيف زيد؟ أصحيح زيد؟ ونحو: كيف جاء زيد؟ اراكبا جاء زيد؟ ونحوه، وجوابها: صحيح ونحوه.
وقال ابن مالك : (لم يقل أحد: إن كيف ظرف؛ إذ ليست زمانا ولا مكانا، وللكنها لما كانت تفسر بقولك : على أي حال؟ لكونها سؤالا عن الأحوال العامة ..
سميت ظرفا؛ لأنها في تأويل الجار والمجرور، واسم الظرف يطلق عليهما مجازا) قال ابن هشام : (وهذذا حسن) اه(1) وعلم من قوله : (لكونها...) إلى آخره : أنه يستفهم بها عن حال الشيء لا عن ذاته قال الراغب : (وإنما يسأل بها عما يصح آن يقال فيه: شبيه وغير شبيه، ولهذا لا يصح أن يقال في الله : كيف) قال : (وكل ما أخبر الله بلفظ كيف عن نفسه.. فهو (1) مفني اللبيب (1/ 272)
مخ ۹
============================================================
استخبار على طريق التنبيه للمخاطب أو التوبيخ أو الإنكار، كما في: كيف تكفردب بالله}، كيف يهدى الله قوما)(1).
وفرق الزمخشري بين كيف والهمزة، بأن (كيف) سؤال تفويض؛ لإطلاقه، فكأن الله في الآية الأولى فوض الأمر إليهم في أن يجيبوا بأي شيء أجابوا، ولا كذلك الهمزة؛ فإنه سؤال حصر وتوقيت؛ فإنك تقول: أجدك راكبا أم ماشيا؟ فتوقت وتحصر، ومعنى الإطلاق ما قاله صاحب " المفتاح" : كيف: سؤال عن الحال، وهو ينتظم فيه الأحوال كلها، والكفار حين صدور الكفر عنهم ، لا بد أن يكونوا على إحدى الحالتين؛ إما عالمين بالله أو جاهلين به، فإذا قيل : كيف تكفرون بالله ؟ ..
أفاد : أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل ؟ هذا معنى التفويض في الاية: (ترقى رقيك) الحسي، فماضيه مكسور القاف من: رقي السلم، وهو رقيه صلى الله عليه وسلم ببدنه يقظة بمكة ليلة الإسراء قبيل الهجرة إلى السماء، إلى سدرة المنتهى، ثم إلى المستوى الذي سمع فيه صرير الأقلام في تصاريف الأقدار، ثم إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقي، وغير ذلك مما لم يصل إليه ملك مقرب ولا نبي مرسل: والمعنوي من رقا بالفتح، وهو: التنقل من كل صفة كاملة وخلق عظيم إلى صفة أخرى وخلق آخر أكمل وأعظم، وهكذا إلى ما لا غاية له، ففي كلامه استعمال المشترك في معنييه، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو الأصح عندنا في الأصول، وعلى مقابله المنقول عن الأكثرين يكون هلذا من عموم المجاز.
(الأنبياء) جمع نبي، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، من النبأ بهمز، وقد لا يهمز تخفيفا، وهو الخبر؛ لأنه مخبر ومخبر عن الله تعالى، أو من النبوة، فلا يهمز؛ لأنه مرتفع أو مرفوع الرتبة على غيره من الخلق، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن المهموز بقوله : "لا تقولوا يا نبيء ألله" بالهمز " بل قولوا يا نبي الله " بلا همز؛ لأنه قد يرد بمعنى الطريد، فخشي صلى الله عليه وسلم في الابتداء سبق هلذا المعنى إلى بعض الأذهان فنهاهم عنه، فلما قوي إسلامهم وتواترت به القراءة .. نسخ النهي عنه؛ لزوال سببه: (1) انظر : " مفردات الراغب* (ص730).
مخ ۱۰
============================================================
وهو: ذكر من بني ادم حر سالم من منفر كعمى، وما وقع ليعقوب وشعيب لم يكن عمى حقيقيا، وكذلك بلاء أيوب صلى الله عليه وسلم لم يستقر، بل صار بدنه بعد الشفاء أجمل منه قبله، أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فإن آمر، فرسول أيضا وإن لم يكن له كتاب ولا نسخ لشرع من قبله على الأشهر، فالرسول أخص مطلقا من النبي، ولا يطلق على غير الآدمي كالملك والجني إلا مقيدا، ومنه : جاعل الملتيكة رسلا، الله يصطفى م المليكة رسلا ومبى الناس} على أن معنى الإرسال فيهما غيره في الأول؛ إذ هو فيه إيحاء ما يتعبد به هو وآمته، وفيهما مجرد الإرسال للغير بما يوصله إليه فإن قلت : نفي رقي الأنبياء رقيه لا يستلزم نفي رقي الرسل رقيه؛ لتصريحهم بأن الأعم لا دلالة له على الأخص، والمراد إنما هو نفي رقي كل منهما رقيه ولم تف به بارته قلت: ممنوع ، بل هي وافية، بل مصرحة به ؛ لأن قوله : (ما طاولتها سماء): صريح في نفي رقي الكل رقيه كما يعلم مما يأتي في شرحه ؛ لأن النكرة في حيز النفي للعموم، وفي آنه أراد بالأنبياء هنا ما يشمل الرسل، على أن المحقق الكمال ابن الهمام نقل في " مسايرته " أن المحققين على ترادف النبي والرسول ، فلعل الناظم ممن يرى ذلك، وإن كنت رددته في " شرح المنهاج "(1) لمخالفته للأحاديث الصريحة الصحيحة في عدد الأنبياء والرسل، وسيأتي بعضها، وأيضا فنفي الحقيقة مطلقا كالنبوة التي تضمنها لفظ (الأنبياء) هنا.. يستلزم نفيها مع قيدها ولا عكس كما صرحوا به، فتعين ما ذكره الناظم، ولا يصح ذكر الرسل. فتأمله: يهات: منها: ما صرح به كلامه- لما مر في معنى (كيف)- آنه استفهام متضمن لنفي رقيهم كرقيه، وللتعجب ممن يشكك في ذلك، وهذا أولى ممن قال : وللتعجب من وقوعه لو وقع من اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك الرقي بمعنييه السابقين، وأنه المنفرد بغاية كمال الشرف والرفعة إجماعا، أما الأول.. فواضح، وأما الثاني. . فكذلك عند من تأمل آي القرآن وما اشتملت عليه إما تصريحا أو تلويحا (1) تحفة المحتاج (26/1).
مخ ۱۱
============================================================
من الإشارة إلى إنافة قدره العلي عنده، وأنه لا مجد يساوي مجده: وقال المفسرون في: ورفع بعضهر درجت : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الزمخشري: (في هذذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي؛ لما فيه من الشهادة على آنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس)(1).
ومن تلك الدرجات أن آياته ومعجزاته أكثر وأبهر؛ إذ ما من معجزة لنبي قبله إلا وله مثلها أو آبهر منها كما بينه الأئمة، وسيأتي بعضه، وزاد عليهم بمعجزات لم يصح ولم يقع نظيرها لأحد منهم، وناهيك بكتابه القرآن؛ فإنه لا تتناهى معجزاته ولا تنقضي آياته ، وأن أمته أزكى وأكثر وأطهر من بقية الأمم بنص : { كنتم خير أمةه أخرجت للناس، وخيرية الأمة تستلزم خيرية نبيها، وأفضلية دينها؛ إذ لا شك أن خيريهم بحسب كمال دينهم المستلزم لكمال نبيهم، وأن صفاته أعلى وأجل، وذاته أفضل وأكمل، كما يصرح به قوله تعالى: فبهدهم اقتدة لأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم أمره أن يقتدي بجميعهم، وذلك يستلزم أن يأتي بجميع ما فيهم من الخصال الحميدة، فاجتمع فيه ما تفرق فيهم، وفي حديث الشفاعة العظمى وانتهائها إليه بعد تنصل كل منها واعترافه بأنه ليس أهلا لها : التصريح بذلك أيضا ، وكذا الحديث الصحيح : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(2) وفي رواية : 0 أنا أكرمهم على ربي"(2) وفي حديث الترمذي : " أنا سيد ولد آدم يؤم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا تخت لوائي "(4) وهو صريح في دخول آدم ، كحديث البخاري وغيره : " أنا سيد الناس يؤم القيامة "(5) وحديث : " أنا سيد العالمين " صححه الحاكم واعترض.
وبذلك تعلم أفضليته على الملائكة ؛ لأن آدم أفضل منهم بنص الأية.
(1) الكشاف (325/1) (2) اخرجه ابن ماجه (4308).
(3) أحرجه الترمذي (3610)، والدارمي (49) (4) الترمذي (3148).
(5) البخاري (4712).
مخ ۱۲
============================================================
ويؤيده الحديث الاتي على الأثر: " ليس أحد من الملائكة " وحديث الترمذي الحسن كما بينه البلقيني في " فتاويه " ، زاد على الترمذي : " وأنا أثرم الأولين والاخرين " وهذا صريح في شموله للأنبياء والملائكة جميعهم وفي حديث : "قال آدم : يا رب ؛ أشألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلأ غفرت لي...4 الحديث ، وفيه أنه تعالى قال : " يا آدم؛ كيف عرفته ولم أخلقه؟
قال : يا رب؛ لما خلقتني بيدك - أي : قدرتك الباهرة - ونفخت في من روحك- أي : سرك العجيب الذي لا يعلم حقيقته أحد غيرك - .. رفعت رأسي فرائت على قوائم العزش مكتوبا : لا إلله إلأ الله، محمد رسول ألله ، فعلمت أنك لم تض إلى أسمك إلأ أحب الخلق إليك ، قال الله تعالى : صدفت يا آدم ؛ إنه لأحث الخلق إلى، وإذ سألتني بحق محمد.. فقذ غفرث لك ، ولؤلا محمد.. ما خلقتك" صححه الحاكم واعترض(1)، لنكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وله حكم المرفوع : (ولولا محمد.. ما خلقت آدم، ولولا محمد.. ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه: لا إلله إلا الله، محمد (4) رسول الله فسكن)(1).
وفي روايات أخر: (لولاه ما خلقت السماء ولا الأرض، ولا الطول ولا العرض، ولا وضع ثواب ولا عقاب، ولا خلقت جنة ولا نارا، ولا شمسا ولا قمرا): وصح : " أنا أول من تنشق عنه الأزض، فألبس حلة من حلل الجنة ، ثم أقوم عن (3)9 يمين العزش ، ليس أحد من الملاتكة يقوم ذلك المقام غيري "(2) .
وفي رواية ذكرها السراج البلقيني في " فتاويه " أنه تعالى قال له : ( قد مننث عليك بسبعة أشياء : أؤلها : أني لم أخلق في السماوات والأرض أكرم علي منك) وفي أخرى ذكرها أيضا : (أن جبريل قال له: أبشر؛ فإنك خير خلقه، وصفوته من (1) المستدرك وبهامشه "التلخيص" (215/2) .
(2) أخرجه الخلال في " السنة "(261/1).
(3) أخرجه الترمذي (3611).
مخ ۱۳
============================================================
البشر، حباك الله بما لم يحب به أحدا من خلقه، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا...) الحديث.
وصح عن بحيرى - وهو من علماء أهل الكتاب الذين لا يقولون شيئا إلا عنه -: (هلذا سيد العالمين)(1).
وصح أيضا عن عبد الله بن سلام الصحابي الجليل، امام أهل الكتاب بشهادته صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر بالمسجد يوم الجمعة أمورا: منها : (وإن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقيل له: فأين الملائكة؟
فضحك وقال للسائل : يا ابن آخي؛ هل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق السماوات والأرض، والرياح والسحاب والجبال وسائر الخلق التي لا تعصي الله شيئا، وإن اكرم الخلق على الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم)(2).
وبين السراج البلقيني أن هلذا له حكم المرفوع ، وهو كذلك؛ فإنه من آجل الصحابة، فلا يقوله إلا عنه صلى الله عليه وسلم، أو عما صح من التوراة: قال : واختيار الباقلاني والحليمي أفضلية الملائكة.. يمكن حمله على غير نبينا ؛ اي: وبهذا جزم بعض أجلاء تلامذته كالبدر الزركشي، أو على تفضيل في نوع خاص؛ أي: لأنه قد يوجد في المفضول مزية، بل مزايا لا توجد في الفاضل، ثم قال : ولا يظن بأحد من أئمة المسلمين أنه يتوقف في أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الملائكة، وكذلك سائر الأنبياء، وأطال في الحط والرد على من توقف في ذلك وزعم أن هلذا ليس مما كلفتا بمعرفته ، ثم قال : وهذا الزعم باطل؛ فإن هذذا من مسائل أصول الدين الواجبة الاعتقاد على كل مكلف، والبيان بسوق (3) أدلتها وايضاحها على كل من تأهل لذلك : وقد صح في الحديث المشهور : " ثلاث من كن فيه. . وجد حلاوة الإيمان، من (1) أخرجه الترمذي (3620)، والحاكم (115/2) (2) أخرجه البيهقي في * الشعب" (149)، والحاكم (568/4) (3) في (1) و(ب) : (والبيان يسوق)
مخ ۱۴
============================================================
كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما "(1) وتأمل قوله : " مما سواهما" تجده ظاهرا ، بل صريحا في كل ما ذكرناه .
ومنها : ما أفاده كلامه من جواز التفضيل بين الأنبياء هو ما عليه عامة العلماء؛ لما مر من الأدلة الصريحة فيه وأما قوله تعالى : { لا نفرق بئن أحد منهر . . فهو باعتبار الإيمان بهم وبما أنزل اليهم وأما الأحاديث الصحيحة : "لا تفضلوني على الأنبياء" ، " لا تفضلوا بين الآنبياء"(2) ، "لا تخيروا بين الأنبياء"(3) .. فهي إما : قبل علمه بالتفضيل وأنه أفضلهم، وإما: محمولة على التواضع؛ لتصريحه بالتفضيل، أو على تفضيل يؤدي الى تنقيص بوجه، أو إلى حط من مقام أحدهم، وعليهما يدل سياق الحديث، أو على التفضيل في ذات النبوة أو الرسالة؛ فإنهم كلهم مشتركون في ذلك لا يتفاوتون فيه، وإنما يتفاوتون في زيادة الأحوال والمعارف والخصوصيات والكرامات: وزعم حملها على التفضيل بآرائنا ليس في محله ؛ لأن تفضيل ذلك بالرآي المحض مجمع على منعه، وبالدليل الدال عليه لا وجه لمنعه: وأما الحديثان الصحيحان : 8 ما ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متن"(4)، من قال : أنا خير من يونس بن متى.. فقد كذب"(5).. فحكمة التخصيص فيهما بيونس نفي توهم التفاوت بينهما في القرب من الحق؛ لاختلاف محلهما الصوري برفع نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قاب قوسين، ونزول يونس صلى الله عليه وسلم إلى قعر البحر؛ أي: لا تتوهموا من هذذا التفاوت الصوري تقاوتأ في القرب والبعد من الله تعالى ، بل نسبة كل إليه واحدة وإن تفاوت مكانهما؛ (1) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) (2) أخرجه البخاري (3415)، ومسلم (2373).
(3) أخرجه البخاري (2412)، ومسلم (2374) 4) أخرجه البخاري (3396)، ومسلم (2377) (5) أخرجه البخاري (4604)، ومسلم (3245).
مخ ۱۵
============================================================
لتعاليه عن الجهة والمكان، فهو نهي عن تفضيل مقيد بالمكان لا مطلقا ومنها : أن قوله : (الأنبياء) يشمل من عرف منهم ومن لم يعرف، قال الله تعالى: منهمر من قصصنا عليلك ومنهم من لم نقصص عليلاك واختلفوا في عدد من عرف منهم، والمشهور فيه ما في حديث آبي ذر عند ابن مردويه في "تفسيره " : قال : قلت : يا رسول الله ؛ كم الأنبياء؟ قال : " مثة ألف وأربعة وعشرون ألفا" قلت : يا رسول الله ؛ كم الرسل منهم؟ قال : " ثلاث مئة وثلاثة عشر، جم غفير " قلت : يا رسول الله؛ من كان أولهم؟ قال : " آدم" ثم قال : "يا أبا ذر ؛ أزبعة منهم سزيانئون : آدم وشيث ونوح وآخنوخ، وهو إذريس ، وهو أول من خط بألقلم ، وأزبعة من العرب : هود وصالح وشعيب ونبئك يا أبا ذر ؛ وأول نبي من بني إسرائيل - أي : ممن بعد أولاد إسرائيل وهو يعقوب صلى الله على نبينا وعليه وعليهم وسلم - موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبئين آدم، وآخرهم نبيك".
وروى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان في كتابه "الأنواع والتقاسيم" وصححه(1)، للكن خالفه ابن الجوزي فذكره في موضوعاته " واتهم به ابراهيم بن هشام (2)، قال الحافظ ابن كثير : ولا شك أنه تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هلذا الحديث، فالله أعلم . وبينت في شرح " المنهاج" في الخطبة : أن حديث كون الأنبياء مثة ألف وأربعة وعشرين ألفأ، وحديث كون الرسل ثلاث مثة وخمسة عشر. . صحيحان . فاعلمه (3) ، وروى أبو يعلى : "كان فيمن خلا من إخواني من ألأنبياء ثمانية آلاف نبي ، ثم كان عيسى أبن مزيم ، ثم كنت أنا "(2) .
(يا) حرف نداء للبعيد، أو القريب المنزل منزلته، وهو هنا إشارة إلى بعد (1) الاحسان (361).
(2) ذكر هذا الحديث الإمام السيوطي رحمه الله في الدر المنثور" (746/2) وقال : (أخرجه ابن حبان في "صحيحه "، وابن الجوزي في " الموضوعات " ، وهما في طرفي نقيض والصواب: أنه ضعيف، لا صحيح ولا موضوع) (3) تحفة المحتاج (26/1).
(4) مسند أبي يعلى (4092).
مخ ۱۶
============================================================
مرتبته صلى الله عليه وسلم عن آن تلحق أو تسامى (سماء) بالتنوين والنصب؛ لأنها نكرة موصوفة، وهي من حيز الشبيه بالمضاف، فتنصب لا غير على الأصح: وقال الكسائي : يجوز فيها النصب والضم.
وفصل الفراء فأوجب النصب إذا كان العائد من الصفة إليها ضمير غيبة كما هنا، وك: يا رجلأ ضرب زيدا، والضم إذا كان ضمير خطاب ك: يا رجل ضربت زيدا: تبيه : لا يأتي هنا الخلاف في النكرة غير المقصودة، وهو : قول الأصمعي: لا تنادى مطلقا، والمازني، لا يتصور نداؤها؛ لأنه يقتضي الإقبال عليها، وعدم قصدها يقضي عدمه قال: وما جاء منونا منها فضرورة، والكوفيين: شرط صحة ندائها: أن تكون صفة في الأصل حذف موصوفها، نحو: يا ذاهبا، والمنع : إن لم تكن كذلك، وذلك لأن محل هذه الأقوال الأربعة حيث لم توصف النكرة بمفرد أو جملة أو ظرف، وإلا.. جاز نداؤها مطلقا اتفاقا.
فإن قلت: (سماء) هنا نكرة مقصودة قطعا كما يعلم مما يأتي، وموصوفة بجملة: (ما طاولتها سماء) كما تقرر، وحكمهما متناف، فان قصدها يوجب بناءها على الضم، ووصفها يوجب نصبها على الأصح كما تقرر، فما المغلب منهما حينئذ؟
قلت : لم أر للنحاة في مثل هلذه الصورة نصا، وإنما أطلقوا في المقصودة البناء، وفي الموصوفة النصب، ومفهومهما متخالف؛ إذ إطلاق الموصوفة يقتضي آنه لا فرق بين المقصودة وغيرها، واطلاق المقصودة يقتضي أنه لا فرق بين الموصوفة وغيرها، لا يقال: الوصف يستلزم القصد، ومع ذلك لم ينظروا للقصد معه؛ لأنا نمنع استلزامه له؛ إذ لا بدع أن الأعمى يقول : يا رجلا صالحا خذ بيدي من غير أن يقصد أحدا بعينه، ولكن لا بد أن يدار الأمر في نحو هذذه الصورة على نظر الناظر ، فإن اعتبر الوصف.. أجري عليه حكمه السابق، أو القصد أجري عليه حكمه فائدة : يجوز تنوين المنادى المبني للضرورة إجماعا، ثم اختلفوا : هل الأولى بقاء الضم ، أو الأولى النصب ؟ فالخليل وسيبويه والمازني على الأول ، علما كان أو نكرة مقصودة، وعيسى بن عمر والجرمي والمبرد على الثاني ردا إلى أصله، كما رد غير المنصرف إلى الكسر عند تنوينه في الضرورة:
مخ ۱۷
============================================================
واختار ابن مالك في " شرح التسهيل" إبقاء الضم في العلم ، والنصب في النكرة المعينة ، لأن شبهها بالمضمر أضعف وبعض المتأخرين عكسه، وهو اختيار النصب في العلم؛ لعدم الالباس فيه، والضم في النكرة المعينة ؛ لئلا تلتبس بالنكرة غير المقصودة ؛ إذ لا فارق حينئذ إلا الحركة؛ لاستوائهما في التنوين (1).
إذا تقرر ذلك وقلنا بأن النكرة المنونة هنا مبنية على الضم على أحد شقي كلام الكسائي، أو على ما ذكرته ، أنه إذا أريد بالنكرة الموصوفة مقصود.. بنيت على الضم.. فالأولى هنا على الأول والرابع : الضم ، وعلى الثاني والثالث : النصب(2)، والذي أقوله : إن الضم متعين هنا على الكل؛ لأنه الظاهر خلافا لما يوهمه الرآي الرابع : أن محل الخلاف حيث لا إلباس يتولد منه محذور، وهنا النصب يترتب عليه محذور: لايهامه أن السماء الأولى نكرة غير مقصودة، وحينيذ يفسد المعنى؛ لأن النكرة غير المقصودة لا يصح نفي مطاولة نكرة غير مقصودة لها أيضا، بخلاف ما إذا كانت الأولى نكرة مقصودة كما هو المراد هنا ؛ إذ هي اسم جنس يشمل سائر الأجرام العلوية؛ فإن هذه بهذا المعنى هي التي لا تطاولها سماء؛ أي : مرتفع غيرها؛ لأنه لم يوجد في هلذا الوجود أرفع منها، فتأمل ذلك حق التأمل واحفظه، فإنه مما يتعين استفادته، لا سيما مع النظر لما قاله الشارح مما لم يعثر فيه على شيء مما ذكرته (ما): نافية (طاولتها) أي: غالبتها في الطول والارتفاع (سماء)، وهذذا الشطر الثاني كالدليل للشطر الأول؛ إذ التقدير : لم يرتق أحد منهم ارتقاءك ؛ لأنه لم يستطع مطاولتك في ارتقائك الحسي ولا المعنوي، وإن كانت درجاتهم كلها ومراتبهم (1) الذي ذهب إلى هذا الإمام السيوطي رحمه الله تعالى، وقال بعد تصريحه باختياره لذلك: (ولم أقف على هلذا الرأي لأحد) اه0 همع الهوامع في شرح جمع الجوامع " (41/2).
(2) القول الأول : هو قول سيبويه ومن معه، وهو أن الضم أولى ، والرابع : هو قول السيوطي الذي اشار إليه الشارح بقوله : (وبعض المتأخرين عكسه) وهو : اختيار النصب في العلم ، والضم في النكرة المعينة، أما الثاني فهو قول المبرد ومن معه ، وهو أن النصب أولى، والثالث : قول ابن مالك ، وهو : اختيار الضم في العلم، والنصب في النكرة المعينة
مخ ۱۸
============================================================
وصفاتهم بأسرها أرفع الدرجات واكمل المراتب وأجل الصفات.
قال تعالى: ولقد أخترنهم على عليه على الطلمين}، وهذه الآية صريحة في فضلهم على جميع الملائكة، بل الخلق؛ إذ العالم ما سوى الله، وإنما جمع جمع العقلاء؛ تغليبا لهم.
وفيه استعارة لفظ (السماء) الأول لنبينا صلى الله عليه وسلم، والثاني لبقية الأنبياء؛ لأن السماء أعلى ما يرى من الأجرام الحسية، كما أنهم أعلى الخلق، ورشح لذلك بذكر الارتقاء الملائم للمستعار منه لم يساؤوك في علاك وقذ حا ل سنا منك ثونهم وسناء (لم يساووك) : مستأنفة على ما يأتي، فيكون من أسلوب الحكيم ، أو حال من فاعل (ترقي)، (في علاك) جمع : علياء تأنيث : الأعلى من علا- بالفتح- يعلو علوا في المكان، وعلي بالكسر- يعلى، وعلا- بالفتح - يعلى علاء في الشرف.
قال الشارح: (ولما كان نفي المطاولة لا يلزم منه نفي المساواة، وكان المعنى لا يتم إلا بنفيها.. صرح بذلك) وتبعه غيره فقال : (لمالم يلزم من نفي المطاولة نفي المساواة. أشار إلى نفيها، وإن كان يؤخذ مما تقدم للكن لا بطريق التصريح) اه وهو عجيب مع ما مر في (كيف): أنه أفاد بطريق التصريح نفي رقي أحد منهم رقيه، وهذا مساو لقوله : (لم يساووك)، فالحق أنه تأكيد وإطناب فقط، على أن لذكره فائدة أخرى هي البرهان عليه بطريق أخرى، وحينئذ يكون ما سلكه من ذكر الجملة الأولى في شطر البيت الأول ، والبرهان عليها بما في الشطر الثاني، ثم إعادتها بمعناها في أول البيت الثاني، والبرهان عليها بما في بقيته.. من بديع تحقيقه وكمال بلاغته (وقد حال) أي: حجز ومنع، جملة مستأنفة، أو حالية من الفاعل أو السفعول و(قد) هنا واجبة الذكر أو التقدير عند البصريين، قالوا : لتقرب الماضي من
مخ ۱۹
============================================================
الحال، واعترضهم المحقق السيد الجرجاني، وتبعه المحقق الكافيجي وغيره بأن هذا غلط منهم، سببه اشتباه لفظ الحال عليهم؛ فإن الحال الذي تقربه (قد) حال الزمان، والحال المبين للهيئة حال الصفات، ولك رده بأنهما وإن تغايرا للكنهما متقاربان، كما هو شأن الحال وعاملها، وحينئذ لزم من تقريب الأولى تقريب الثانية المقاربة لها في الزمن، فتأمله فإنه مهم؛ إذ تغليط أولثك الأئمة الذين لا ينحصرون مع إمكان تأويل كلامهم تساهل: واقتصار الشارح على الأول بعيد كتخصيصه له بفاعل (ترقى) البعيد دون فاعل (يساووك) القريب وإن كان متحدا، والأول أولى؛ لما قدمته أن هلذه الجملة كالبرهان أو التعليل لما قبلها، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن الحالية تفيد ذلك هناك أيضا، على أنها الظاهر المتبادر.
(سنا) بالقصر؛ آي: ضوء عظيم ظاهر (منك) خصك الله به، وهو مجاز عن علوم القرآن المحيطة بعلوم الأولين والاخرين وغيرها التي اختصه الله بها، وأمره أن يسأله بأن يزيده منها ، وهلذا مقتبس من تسميته تعالى القرآن نورا في آيات كثيرة من كتابه، نحو: واتبعوا النور الذى أنزل معه}، وعما اختصه الله به من جمال الظاهر(1)، بما آتاه من الحسن في خلقه بما لم يلحقه فيه يوسف فضلأ عن غيره، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وفي خلقه بما أبان الله تعالى رفعته فيه إلى الغاية بقوله عز قائلا : وإنك لعلل خلق عظير}، وهلذا مقتبس من تسميته تعالى لنبيه نورا في نحو قوله : { قد جاء كم مرن الله نور وكتلب مبير*} : وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء بأن الله تعالى يجعل كلا من حواسه وأعضائه وبدنه نور؟(2)؛ إظهارا لوقوع ذلك، وتفضل الله عليه به ليزداد شكره وشكر أمته على ذلك ، كما أنا أمرنا بالدعاء الذي في آخر (البقرة) مع وقوعه وتفضل الله به كذلك : ومما يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم صار نورا: أنه كان إذا مشى في الشمس نهارا أو (1) قوله: (وعما اختصه..) معطوف على قوله قبل سطرين: (وهو مجاز عن.) (2) كما في حديث : "اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا...
أخرجه البخاري (1316)، ومسلم (763)، وغيرهما
مخ ۲۰