وكان آل ابن تيمية أفراد عائلة اشتهرت كابرا عن كابر بالعلم والخطابة والوعظ وخدمة القرآن، ولم يترك ابن تيمية ناحية من نواحي الثقافة إلا وقد كتب فيها - وكثيرا ما كتب وألف وهو نزيل السجون - وما أكثر ما نزل السجون - ألف الكثير من رسائله في السجن، أو في الطريق منه أو إليه، بعيدا عن المراجع والمصادر فهو - كما وصفت - من قوم خشن أنكر ما يرى وجوب إنكاره، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وجاهد بقلمه ولسانه، وهو جهاد شاركه ويشاركه فيه كثير من الفقهاء من أمثاله، وجاهد في صفوف المقاتلة، وهو جهاد انفرد به دون فقهاء زمانه، فاشترك في مقاتلة التتار وفي مقاتلة أهل البغي المنتسبين لبعض الفرق، وكان في رأيه أن هؤلاء سهلوا على الصليبيين النزول في ثغور الساحل، كما سهل نظراؤهم اجتياح التتار أراضي الخلافة في الشرق، وشغف ابن تيمية بالتفسير شغفا عظيما، وتعلق بالسنة تعلقا كبيرا، وعنده أن الاستعصام بالكتاب والسنة يهيئ لصاحب اليقين النظر الواثق إلى شئون الفرد، وشئون المجتمع، ويمضي به النظر إلى الفصل في تلك الشئون على الوجه الذي تقتضيه المصلحة العليا للجماعة.
وبهذا استطاع هذا السلفي أن يضع أسس التجديد في المجتمع الحديث، وانتفى عنه بذلك ما وصفوه به من جمود ومن صلابة، وكان على استعداد ليقبل الكثير في سبيل الاجتماع تحت راية الكتاب والسنة، لا يسأل عن أصل السلطان أو طبيعته إذا قام صاحبه أو أصحابه بتحقيق المصلحة، وكذلك لا يرى بأسا في اختلاف الأقاليم، وفي اختلاف المعاملات، وأحوال الطوائف، إن لم تمس المصلحة العليا للجماعة.
بل وعمل على أن يجعل من تنوع العناصر أداة القوة، مثال ذلك: قبوله نظام العشائر في البوادي، وتوليه شيوخها بالإرشاد والتهذيب وحثهم على الهدوء والاستقرار، فخرج على الجمود الذي كان يسود إذ ذاك، والذي أذهب كثيرا من جلال الفقه الإسلامي.
وقد ظهر هذا بارزا في دراسته المشهورة للسياسة الشرعية، وقد ظهرت آثار هذه الحرية في آرائه الاقتصادية، وأصول المعاملات، وقد بين للناس في رسالته «الحلال» الأصول التي يجب أن يتبعوها في معاملتهم، وأنحى باللائمة على أولئك الفقهاء والمتصوفة الذين أرادوا نوعا من الورع أفرطوا فيه بغير دليل شرعي، حتى كاد يقلب وجوه المعاملات، ويصم الجماعة الإسلامية بأنها تتعامل في غير حل، وتعيش في غير مل، (على حد قول المرحوم الأستاذ عبد العزيز المراغي في ترجمته الجميلة لابن تيمية) وبالجملة فقد حاول أن يتحلل من الربقة التي وضعها بعض الفقهاء من التقيد بحرفية النص دون الرجوع إلى الروح التي أملته والظروف التي أحاطت به.
ولكن لا يكون ذلك إلا بالاستمساك بالعروة الوثقى، بالاعتصام بالكتاب والسنة، والتقدير لآراء السلف الذين حرصوا على نقل الدين إلى الخلف خاليا من كل شائبة.
يوضح موقفه عامة رأيه مثلا في الخوارج فإنه على الرغم من رميه لهم بالمروق عن الدين، نجده يقدرهم ويثني على حرصهم على مبادئهم وجهادهم فيما اعتقدوه سبيل الله، وهو يراهم المثل الأعلى لنشر المبادئ والقيام عليها واحتفاظهم بالقرآن الكريم، وإن كان ينعي عليهم إفراطهم في مجافاة السنة وفصلها عن القرآن، وعدم استغلالها استغلالا حسنا لو قاموا به لكانوا خير الناس تمثيلا لمبادئ المسلمين.
وقد عرض ابن تيمية في كفاحه لآراء من سبقه ومن عاصره، وتتبعها بالدرس والتمحيص، فكان عالما أصوليا فقيها محدثا خبيرا بالملل والنحل، مطلعا على الفلسفة، عالما بالتاريخ.
ووجه عنايته بالملل والنحل اعتقاده أن مبادئها كانت سببا في تلك الحركات الثورية الهدامة التي أدت إلى تفكك عرى الوحدة الإسلامية، على أنه استغل ما ورد في مقالات اللاإسلاميين أحسن استغلال، وصاغ على ضوء آرائهم وظيفة الإمام العادل، وفتح باب الاجتهاد والقواعد العامة لإصلاح الراعي والرعية، متكلما في كل هذا بلغة إسلامية على نهج الإسلام والسنة، شارحا إياه بما وسعه بيانه من القرآن وأحاديث الرسول وآراء السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وبما تقتضيه مصلحة المسلمين، وما تمليه روح الشريعة على أن الكفاح في سبيل الحق أثار عليه من أثار، وأغضب عليه من أغضب، وأوغر أعداؤه عليه صدر أولي الأمر، فأوهموهم أن ابن تيمية لا يخشى منه من الناحية الدينية فحسب، بل إن خطره من الناحية السياسية أبعد أثرا، وإنه لو أرخي له العنان لكان خاتمة مطافه إخراج المماليك من الحكم، كما فعل المهدي ابن تومرت في بلاد المغرب، فبدأ اضطهاد الحكام له سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكان قد قارب الثلاثين.
وكان ذلك في دمشق، وفي السنة الخامسة من القرن الثامن بدأت المدة التي قضاها في سجون القاهرة والإسكندرية، ثم كانت الخاتمة في قلعة دمشق وفيها كانت وفاته.
قيل: ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللهو، مضيعين بها الصلوات فأنكر الشيخ ذلك عليهم، وألزمهم بالأعمال الصالحة، وعلمهم من الدين ما يحتاجون إليه، حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم خيرا من المدارس والزوايا، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وقد نقل أحد مؤرخيه رسالة منه لوالدته تطلعنا على جانب آخر من جوانب تلك الشخصية العظيمة، كتب إليها: «كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة ومنن كريمة وآلاء جسيمة، نشكر الله عليها، ونسأله المزيد من فضله، وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية، متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا، ولسنا - والله - مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور، فإنكم - والحمد لله - لا تختارون الساعة إلا ذلك، ونسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة، ولا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئا من أمور الدنيا قط ، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.»
ناپیژندل شوی مخ