وأيا ما كانت دراسته في المرحلة الثانوية، فقد دخل كيمبردج، وأنفق عاميه الأولين في دراسة كلاسيكية كاد لا يجد فيها جديدا يضاف إلى ما كان قد تعلمه في مدرسته الثانوية، لكن الجديد حقا خلال ذينك العامين، هو تلك المجموعة الفذة من شباب الجامعة الذين رآهم يلتقون معا للمناقشة والحديث، فدأب على الاتصال بهم والاستماع إليهم، مأخوذا مشدوها لذلك المستوى الرفيع الذي كانوا يرتفعون إليه في أحاديثهم ومناقشاتهم، مما لم يكن لصاحبنا به عهد من قبل، فهو يسمعهم يتحدثون في السياسة والأدب، والفلسفة وغيرها في براعة وفي عمق وكذلك في جد لم يكن يتصور أن يكون في مناقشات شباب لم يزل في عهد الطلب، فامتلأ فتانا نشوة وإعجابا. ولم يكن له إزاء ذلك إلا أن ينصت لهؤلاء الزملاء في صمت، وأحس في دخيلة نفسه كأنما هو الريفي الساذج جيء به بغتة إلى حيث الحضارة والثقافة، ولم يجد عنده ما يضيفه مما يقبل المقارنة بما يقوله هؤلاء الزملاء، لا بل إنه قد أحس بالزهو أن قبلته تلك الجماعة واحدا منهم، فكانت هذه أول مرة في حياته - كما يقول هو - يجد فيها نفسه على علاقة وثيقة حميمة مع أفراد ذوي كفاية عقلية ممتازة، فكان لذلك ما كان في تحريك نفسه وتنشيط عقله.
كان برتراند رسل أحد هؤلاء الطلاب، كان يكبر مور بعامين عمرا ودراسة، وله يرجع الفضل في أن دخل مور ميدان الفلسفة؛ ذلك أنه حين سمعه يتحدث إليه ويناقشه، قال إن له استعدادا فلسفيا يلفت النظر، وحثه على أن يكمل العامين الباقيين له في الدراسة الجامعية، في طلب الفلسفة. وهنا يقول مور إنه لم يكن قد سمع قبل ذلك أن الفلسفة مادة تدرس في الجامعات، إنه حين ذهب إلى كمبردج لم يتوقع إلا أن يواصل دراسته الكلاسيكية، ليصبح بعد تخرجه مدرسا لها في المدارس الثانوية. نعم إنه إبان مرحلته الثانوية كان قد درس محاورة بروتاجوراس لأفلاطون، لكنه لم ينفعل قط لنوع المسائل الفلسفية التي تثار في تلك المحاورة، وغير هذه المحاورة لم يكن جورج مور قد قرأ شيئا قط من الفلسفة.
2
أما وقد ذكرنا أول لقاء بينه وبين برتراند رسل إذ هما طالبان في كيمبردج، فيجمل أن نقف هاهنا وقفة قصيرة لنقص عن علاقة بين هذين الفيلسوفين اللذين لا يكاد يذكر اسم أحدهما حتى يثب إلى الذهن اسم زميله، لأنهما معا يعدان زعيمي مدرسة فلسفية معاصرة، هي مدرسة التحليل، حتى ليطلق أحيانا على هذه المدرسة اسم مدرسة كيمبردج، لوجود هذين الصديقين في كيمبردج.
ترك برتراند رسل الجامعة سنة 1894م، وكان مور لم يزل في منتصف شوطه الجامعي، لكن العلاقة كانت قد توثقت بينهما، فلبث مور مدى ستة أعوام بعد ذلك دائم الاتصال بصديقه، يناقشان معا ما يعرض لهما من المسائل الفلسفية، إما في كيمبردج عندما كان رسل يعاودها بالزيارة حينا بعد حين، وإما في منزل رسل الريفي حين كان مور يعاوده بالزيارة حينا بعد حين. وكان الصديقان بطبيعة الحال يؤثر أحدهما في الآخر بأفكاره ولفتاته، مما حدا برسل أن يعترف في مقدمة كتابه «أصول الرياضة» بما هو مدين به لمور. ولعل هذا الاعتراف من رسل هو الذي أوحى إلى كثيرين بالظن بأن مور كان أستاذا لرسل، وأنه أكبر منه سنا وأسبق منه في الدراسة. وها هنا يحاول مور في تاريخ حياته الموجز الذي كتبه عن نفسه، يحاول أن يؤكد أن الأفكار التي قصد إليها رسل عندما اعترف بفضل مور عليه، قد تبين لهما معا - فيما بعد - أنها أفكار خاطئة، أي أن رسل لم يأخذ عن مور - فيما يقول مور نفسه - إلا أخطاء على حين أن مؤلفات رسل قد كانت من أهم ما أثار التفكير عند مور. فلئن كان رسل قد أثر تأثيرا بالغا في صديقه بالاتصال الشخصي المباشر، إلا أن أثره فيه كان أبلغ وأعمق بكتبه التي أنفق مور في دراستها وتحليلها وقتا أطول بكثير جدا - حسب اعترافه هو نفسه - مما أنفقه في دراسة مؤلفات أي فيلسوف آخر على الإطلاق.
هذا ما يقوله فيلسوفنا مور عن تأثره برسل، فاسمع ما يقوله رسل عن تأثره بمور. يقول ما معناه إنه بعد أن كان معجبا بكانت وهيجل وبرادلي في أول دراسته الجامعية ، عاد فانفض عنهم جميعا لما تبين له أنهم على ضلال، «ولولا تأثير جورج مور في تشكيل وجهة نظري، لجاء تحولي عن هؤلاء بخطوات أبطأ، فقد اجتاز جورج مور في حياته الفلسفية المرحلة الهيجلية نفسها التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر أمدا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة على الفلسفة المثالية، وتبعته في ثورته، وفي نفسي شعور بالتحرر؛ فبعد أن كان برادلي يقول عن كل الإدراكات الفطرية إنها ظواهر وليست من الحق في شيء، جئنا نحن لنقول إن كل ما يقول الإدراك الفطري إنه حق فهو حق، ما دام هذا الإدراك الفطري غير متأثر بفلسفة أو لاهوت.»
قلنا إن الصديقين لبثا على صلة دائمة ست سنوات بعد أن تخرج رسل من الجامعة، لكن تلتها عشرة أعوام (1901-1911م) لم يلتقيا خلالها إلا نادرا، ثم تلاقيا بعد ذلك في كيمبردج زميلين في التدريس.
3
قضى جورج مور ثمانية وعشرين عاما يدرس الفلسفة في كيمبردج (1911-1939م) وكان من أهم الأحداث التي حدثت خلالها - فيما يروي مور في قصة حياته - لقاؤه بفتجنشتين، الذي كان له فيما بعد أبلغ الأثر في توجيه مدرسة فلسفية معاصرة نشأت في فينا، وهي ما أطلق عليها اسم «الوضعية المنطقية». كان فتجنشتين يستمع لمحاضرات مور ، فلمح الأستاذ في تلميذه نبوغا حمله على أن يقول: «سرعان ما شعرت إزاءه أنه أبرع مني في الفلسفة بدرجة كبيرة، بل شعرت أنه كذلك أعمق بكثير، وأنفذ مني بصيرة فيما ينبغي أن يكون عليه البحث والسير فيه.» ويمضي مور في رواية قصته مع فتجنشتين فيقول: إنني لم أعد أراه في كيمبردج بعد سنة 1914م، حتى عاد إليها سنة 1929م، لكنني لما نشرت رسالته في فلسفة المنطق، قرأتها، مرة بعد مرة محاولا أن أتعلم منها؛ فهي رسالة أعجبت وما أزال أعجب بها إعجابا شديدا؛ نعم لقد وجدت فيها كثيرا مما لم أستطع فهمه، لكنني كذلك - فيما أظن - قد فهمت منها أشياء كثيرة أراها تنير أمامنا الطريق بضوء ساطع. ولما عاد فتجنشتين إلى كيمبردج سنة 1929م حضرت له محاضراته عدة أعوام متلاحقة ، لم أزدد به خلالها إلا إعجابا فوق إعجاب؛ وأحسبه بغير شك قد جعلني بتأثيره أتشكك في أشياء كثيرة كنت - لولاه - لأثبتها مطمئنا لها. ولقد حملني على الاعتقاد بأن حل المسائل الفلسفية التي كانت تحيرني، إنما هو مرهون باصطناع منهج أجاد هو استخدامه إجادة رائعة، وإنه ليسرني أنه هو الذي قد خلفني في أستاذية الفلسفة بكيمبردج.
ولقاء آخر بشخص آخر يستحق الذكر، هو لقاء فيلسوفنا بأحد طلابه وهو رامزي
ناپیژندل شوی مخ