4
ونعود إلى ما بدأنا به: خلقت ألفاظ اللغة لتشير إلى مسميات؛ فما ليس يشير منها إلى شيء فإنه يكون لفظا بغير معنى. هذه حقيقة ناصعة الوضوح، لكن قوما من المشتغلين بالفلسفة أو من هم في حكمهم لا يعجبهم منا أن نقول كلاما كهذا؛ إنهم يريدون أن يخبوا خبا في ألفاظ لو طالبتهم أن يشيروا لك إلى مسمياتها في دنيا الأشياء، استنكروا منك هذا الطلب المادي الخسيس؛ إنهم في رأي أنفسهم يسبحون في عالم علوي، ولا يجوز لك أن تنزلهم على الأرض الصلبة التي يدوسها الناس بأقدامهم؛ فإذا كان الناس مثلا يتحدثون عن «الشجرة» أرادوا هم أن يطيروا إلى «فكرة الشجرة»، وإذا تحدث الناس عن «النهر كما يبدو من ظواهره» بحثوا عن «حقيقة النهر الكامنة وراء الظواهر»، وإذا فكر الناس في الأشياء فرادى كما هي في عالم الواقع المحسوس أصروا هم أن يكون حديثهم عن الكون في مجمله بغض النظر عن تفصيلاته؛ لذلك تراهم إذا ما حدثتهم عن محمد وزينب من أفراد الناس، نفروا من مثل هذا الحديث؛ لأن ما يهمهم هو «الإنسان بصفة عامة»؛ وعبثا تسترعي أنظارهم إلى أن «الإنسان بصفة عامة» لا يجوع ولا يمرض؛ بل أنت إذا ما هممت باسترعاء أنظارهم إلى مثل هذا التفكير الجزئي العملي المفيد صرخوا في وجهك سخطا على هذه المادية الدنيئة التي تحارب أحلام الإنسان وأمانيه، وراحوا يكتبون عنك في المجلات والصحف، ويذكرونك في المحاضرات العامة بأنك إنسان نشاز في نغمة سائدة فيها غموض حلو مستساغ!
ما الذي يغري هؤلاء الأفاضل بالتشبث بكلمات لا يعرفون لها معاني ولا مدلولات؟ يغريهم بذلك أن هذه الكلمات لها في آذانهم سحر عجيب؛ إنه لا ضرورة عندهم أن تشير الكلمة من هذه الكلمات إلى مسمى معلوم، بل يكفيهم أن يكون لها في المسامع هذا الرنين اللذيذ الممتع ... وسحر الكلمات أمر قديم قدم الإنسان نفسه: فتاريخ الكهنوت حافل بالكلمات التي تشفي العلل، وتفتك بالعدو، وتنزل المطر إذا يبست السماء!
إنه كسب كبير للفكر العلمي الدقيق أن نضع نصب أعيننا مبادئ هي غاية في «البساطة» واليسر والوضوح؛ أولها أننا نحن الذين خلقنا هذه الرموز خلقا؛ وإنما خلقناها أسماء تطلق على مسميات، ولم نخلقها لنلهو بها ونعبث؛ فلا قداسة للفظة اصطنعناها رمزا إلا بمقدار ما يكون للضوء الأحمر في حركة المرور من قداسة، أو بمقدار ما يكون لعمود الخشب نقيمه في الطريق ليدل على اتجاه السير من قداسة. لا قداسة لرموز خلقناها نحن خلقا لتقوم عندنا مقام مسمياتها، والرمز الذي لا يؤدي هذه المهمة رمز زائف ينبغي أن نمحوه لئلا يختلط علينا الأمر بين الحق والباطل.
ألفاظ اللغة - على اختلاف صورها وأوضاعها - قطع من مادة ولا روحانية في الأمر؛ فاللفظة المكتوبة قطرة من مداد جفت على الورق، لا فرق بينها وهي مسكوبة على الورق كلمة وبينها وهي في الزجاجة قطرة إلا الاتفاق الذي تواضعنا عليه بأن تكون صورتها على الورق رمزا لا يقصد لذاته، بل يراد به مسماه الذي يتحتم أن يكون شيئا مما عسانا أن نلاقيه في دنيانا وفي خبراتنا. وقد تتواضع الجماعات المختلفة على أن تسكب المداد في صور مختلفة: يسكبه فريق من اليمين إلى اليسار على صورة، ويسكبه فريق آخر من اليسار إلى اليمين على صورة أخرى، ولا فرق بين الصورتين؛ لأن كلا منهما موضع اتفاق عند الجماعة التي اصطلحت عليها.
واللفظة المنطوقة كذلك قطعة من مادة هي هزة في الهواء؛ فقد يهتز الهواء بأوراق الشجر ويحدث حفيفا ، وقد يهتز بماء الجدول فيحدث خريرا، وكذلك قد يهتز لاهتزاز اللسان عند حركة الزفير فيحدث صوتا نختاره ونتفق على أن يكون هذا الصوت رمزا نكتفي به حين نريد أن نتحدث عن مسماه؛ لكن هذا المسمى يتحتم أن يكون مما قد وقع في دنيا السامع وفي خبراته، وإلا ذهب الصوت اللفظي عبثا.
اللفظة من ألفاظ اللغة حدث من أحداث الطبيعة؛ هي لمعة من الضوء أو نبرة من الصوت يحلو لنا أن نتفق عليها وقد نغير ما اتفقنا عليه غدا أو بعد غد؛ هي حدث من أحداث الطبيعة، ومسماها حدث آخر من أحداث الطبيعة، وكل ما في الأمر هو أنني أخذت جزءا من مادة الطبيعة لينوب عن جزء آخر: فكلمة «شجرة» هذي التي تراها أمامك ترقيما أسود، هي نفسها واقعة من وقائع العالم المحسوس، شأنها شأن الشجرة العينية في ذلك، وقد اخترت واقعة لترمز إلى أخرى، لأنها أيسر استعمالا في عملية التفاهم؛ الكلمة «صورة» ومسماها «مصور» فهل يجوز في دنيا التصوير أن تدعي أن أمامك صورة لشيء معين، ثم تقول: إن ذلك الشيء لا وجود له؟ ماذا صورت إذن؟
كسب كبير للفكر العلمي الدقيق أن يحاسب العالم نفسه هذا الحساب كلما استخدم رمزا من رموز اللغة: إلام يشير هذا اللفظ؟ فإذا لم يجد بين الأشياء شيئا يشار إليه به حذف اللفظ في غير وجل ولا خوف ولا حسرة . ولكني أقول هذا - كاتبا ومحاضرا - فينهض الناقدون ليردوا هذه العادية عن الفلسفة في عصرها الذهبي حين كانت ترسل الكلمات إرسالا بغير حساب؛ أو ليردوا هذه العادية عن مثل الإنسانية العليا؛ كأنما الإنسانية - عندهم - لا تضع أمامها من المثل العليا إلا صورا لا تفهم، ولا يكون إلى تحقيقها العملي من سبيل!
قيمة القيم
شبه السفينة، نراها ماخرة عباب الماء عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم، يلطمها الموج وتلطمه، يفور البحر من حولها أو يسكن، وتعصف بها الريح، أو تهدأ، لكنها في مجراها ومرساها ماخرة عباب الماء عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم؛ وذلك بفضل ربانها الذي يلوذ بمقصورته، قد لا تراه الأبصار الشاخصة، لكن السفينة تحس بزمامها في قبضته، يجريها هنا ويرسيها هناك كيفما شاء ودبر. شبه هذه السفينة وربانها يكون الإنسان بما يغمر رأسه من قيم، هي قيم يدركها بالفطرة حينا، وحينا آخر تبث في نفسه بثا، فإنك لترى هذا الإنسان في صخب الحياة صاعدا هابطا ساخطا راضيا مستسلما أو ثائرا، فتدري آنا وآنا لا تدري فيم سخطه ورضاه؛ لأن الشواهد المنظورة قد لا تكفيك للفهم والتعليل، وذلك لأنها هي المعاني في رأسه التي تسيره، وإن شئت فقل إنها مجموعة القيم التي تمسك بزمامه وتوجهه، ففهمه على حقيقته هو فهمها.
ناپیژندل شوی مخ