واستمع إلى نقدة الفنون، كيف يصفون الآثار الفنية التي يتناولونها بالعرض والتقديم؛ يقولون عن القصيدة أو عن الصورة: إنها رشيقة مثلا، أو إنها صارخة أو هادئة، وبالطبع لا ينبعث من ألوان الصورة صراخ، كما أن كلمات القصيدة ليست فتاة تسير بخطى خفيفة فتوصف بالرشاقة ... لكنه الرمز أمر محتوم على الإنسان ليعبر عن نفسه كائنة ما كانت حالته النفسية التي يريد إبرازها إلى الخارج لتكون على مرأى من الناس ومسمع. •••
وننتقل من مجال اللغة وغيرها من الرموز التي نرمز بها إلى أشياء الواقع وإلى القيم التي نقوم بها هذه الأشياء، فقد رأينا أن التفاهم في هذا المجال كله لا يكون بغير علامات ورموز، ننتقل من هذا المجال إلى مجال طويل عريض واسع عميق، هو مجال الأحلام وما يشبه الأحلام من أساطير وغيرها.
فلا أحسبنا نعدو الصواب إذا قلنا إن الإنسان يحيا بصحوه كما يحيا بنومه، وكذلك لا نعدو الصواب إذا قلنا أيضا إنه يحيا بعقله الواعي، كما يحيا بعقله الحالم، لا بل إن بعض علماء النفس ليربطون حقيقة الإنسان بأحلامه أكثر مما يربطونها بحياته الواعية.
فكيف نحلم وبأي شيء يكون الحلم؟
أظنه لا داعي إلى إفاضة القول في هذا، فقد أصبحت نظرية الأحلام شائعة في شتى المستويات الثقافية، كل يأخذ منها بحظه من الدقة والتفصيل، لكن ما ينبغي ذكره في سياق حديثنا هذا هو الدور الذي يقوم به الرمز في أحلامنا. فالأشياء والأفعال التي نراها في الحلم، هي بمثابة الكلمات نستخدم كل شيء منها، أو فعل لنرمز إلى ما نريد أن نرمز إليه، فليس الحلم كالمقالة أو كالفصل من فصول الكتاب: قوامه كلمات وعبارات يتبع بعضها بعضا على صورة يمسك فيها بعضها برقاب بعض إمساك النتيجة التي تتبع مقدماتها، فذلك هو أسلوب الحياة الصاحية الواعية، وأما الحلم فتتابع من رموز أخرى غير رموز اللغة المألوفة، فالبحر تراه في الحلم بمثابة كلمة أو جملة، وكذلك العصا، وكذلك الصعود أو الهبوط ... عالم كله رموز. ولئن دخل التكلف والتصنع في حياة الإنسان الواعية، فحياة الأحلام هي الإنسان على حقيقته وعلى طبيعته العارية التي لا تعرف نفاقا ولا رياء، فإن كان الرمز هو لب الأحلام وصميمها، كان الرمز بالتالي هو لب الإنسان وصميمه.
وماذا تكون الأساطير التي لم يخل منها شعب من الشعوب إن لم تكن هي أحلام تلك الشعوب، بل ماذا يكون الأدب في صميمه إلا أن يكون متنفسا كالأحلام سواء بسواء، يعيش فيه الإنسان وفق طبيعته الذاتية؟ وأعتقد أن هذا هو المقصود حين يقال - كما قال كيتس - إن الجمال حق، فالفن الجميل - كالشعر مثلا - مهما امتلأ بالصور الغريبة فهو حق؛ لأنه كالحلم في إبراز حقيقة الإنسان، ولك بعد ذلك أن تنظر إلى الدور الذي قامت به وتقوم به الأساطير. الأدب كله بصفة عامة، لتعلم كم يرتكز الإنسان على الرمز في حياته اللصيقة بلباب نفسه. •••
ونختم القول بكلمة عن العلم الصرف الذي قد يظن إنه أبعد ما يكون عن عالم الرمز، وإذا هو لا شيء إلا رموز في رموز؛ فهذه هي الرياضة: حقيقتها أنها بناء من رموز لا أكثر ولا أقل؛ فيبدأ العالم الرياضي - إقليدس في الهندسة مثلا - يبدأ بطائفة من رموز هي الكلمات التي يؤلف منها تعريفاته ومسلماته، ثم يمضى بعد ذلك في استدلال مجموعات رمزية من مجموعات رمزية أخرى؛ والحساب والجبر أمعن في عملية الرمز لأنهما يستغنيان عن الكلمات بطائفة من علامات وأحرف، يظل العالم الرياضي يبني منها معادلاته ليستدل من المعادلات معادلات وهلم جرا. ومعلوم أن البناء الرياضي كائنا ما كان، وهو نظام متسق من رموز، يراعى فيه سلامة استدلال صيغة رمزية من صيغة رمزية، بغض النظر عن مطابقة هذه الصيغ للواقع الخارجي أو عدم مطابقتها له.
فهذه المطابقة مع العالم الخارجي متروكة للعلوم الطبيعية التي هي في كثير من أجزائها عبارة عن رياضة تطبيقية. وحتى هذه العلوم الطبيعية ترتد في النهاية إلى أرقام تقرأ على مراقم ومقاييس، وإلى رسوم بيانية ولوحات فوتوغرافية وهلم جرا.
خذ أي قانون طبيعي شئت، خذ قانون الجاذبية - مثلا - تجده صياغة من رموز؛ نعم إننا نستغل هذه الرموز في فهم الطبيعة وتسييرها، لكن هذا لا يجعلها شيئا آخر غير صياغة رمزية.
وبهذه المناسبة أذكر عبارة قرأتها هي غاية في قوة التصوير لتطور التفكير الإنساني على مر العصور؛ إذ قال صاحب العبارة: إن الأمر كله انتقال من طريقة في الرمز إلى طريقة أخرى في الرمز أيضا؛ فقد كان البدائي يستخدم السحر والدعاء وما إليهما ليحقق الظاهرة الطبيعية التي يريد تحقيقها، كإنزال المطر مثلا، وأما الإنسان المعاصر فيستخدم صيغا رياضية للغاية نفسها. ونقصد بالصيغ الرياضية قوانين العلوم؛ فكلا الرجلين أداته الرمز في تحقيق الهدف، وكلا الرجلين يتمسك بطريقته الرمزية لما دلته خبرته على نجاحها، وكلا الرجلين يحاول الملاءمة بين نفسه وبين الطبيعة من حوله. فالبدائي يرشو الطبيعة بالدعاء والثناء، ويمالئها بالتعزيم والسحر، والمعاصر العلمي لا يرشو ولا يمالئ بل هو يمسك بمفتاحها لتنفتح له عن أسرارها، كلما أدار لها المفتاح بإرادته. فكلا الرجلين يستعمل للطبيعة رموزا لكن الفرق هو أن البدائي يتصور أن لرموزه سلطانا مباشرا على الطبيعة؛ وأما المعاصر العلمي فينظر إلى رموزه على أنها وصف للطبيعة وليست هي بذات السلطان والإرغام.
ناپیژندل شوی مخ