وفي هذا اختلفنا اختلافا يمكن النظر إليه النظرة الجدلية التي تقسمه إلى دعوى ونقيضها ثم تأليف بينهما أو محاولة ذلك لولا أن الترتيب الزمني لهذه الأضلاع الثلاثة لم يأت على هذا التتابع، بل جاءت مرحلة التأليف في ترتيب الظهور أسبق من المرحلتين الأخريين.
أما ما سأجعله بمثابة الدعوى في هذه المعركة فهو المذهب التجريبي العلمي (الوضعية المنطقية) التي ذهب إليها كاتب هذه السطور، ونشرها ودعمها بكل وسائل النشر والتدعيم. فماذا يقول هذا المذهب - أو بتعبير أدق - هذا المنهج لأنه ليس مذهبا ذا فلسفة إيجابية بقدر ما هو طريقة للنظر بالنسبة إلى كل ما تستخدم فيه اللغة والرموز الأخرى، من مذاهب الفلسفة ونظريات العلم وغير هذه وتلك من ضروب القول والكتابة.
يقوم هذا المنهج التجريبي على أساس تحليله للغة؛ كيف نشأت وعلى أي صورة تجري في الاستعمال اليومي وفي الاستعمال العلمي وفي غير هذين من مجالات الخلق الأدبي. وينتهي به التحليل إلى أن للغة ميدانين كبيرين تستعمل فيهما بطريقتين مختلفتين، إحداهما هي حين تستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، والأخرى هي حين تستخدم في غير هذه العملية الإشارية كأن يراد بها إثارة عواطف السامع أو إقامة بناء ذهني صرف تتسق أجزاؤه من داخل ، ولكنه لا يعنى شيئا في خارج، فإذا رأيت علم الضوء - مثلا - يقدم لي قولا في مسار الضوء؛ ما سرعته، وكيف ينعكس أو ينكسر أو غير ذلك، كان مدار قوله هذا هو التطبيق الخارجي ولذلك يتحتم أن يكون قابلا لهذا التطبيق الذي على أساسه نحكم بقبوله أو برفضه. وكذلك قل في شئون الحياة اليومية، فإذا زعمت لك أن القطار السريع من القاهرة إلى الإسكندرية يغادر القاهرة في تمام الساعة السابعة صباحا ليصل إلى محطة الإسكندرية بعد ساعتين وربع ساعة، كان قبولك لزعمي هذا مرهونا بقياسه على الواقع الفعلي ، وعندئذ فقط يتبين لك مدى ما فيه من صدق على ذلك الواقع، وبمقدار ما يكون في الصياغة اللفظية من رسم لطريق التطبيق الفعلي يكون لها «معنى». على أن ما له «معنى» قد يصيب وقد يخطئ فيكفي للعبارة أن تبين كيف يكون طريق تطبيقها على الواقع - سواء وجدناها تنطبق أو وجدناها لا تنطبق - لنقول إنها ذات معنى. فمن حيث «المعنى» لا فرق بين أن أقول إن الشمس تدور حول الأرض في أربع وعشرين ساعة، وأن أقول إنها تفعل ذلك في مائتين وأربعين ساعة؛ لكل من هاتين العبارتين صورة معينة تهدينا إلى طريقة المطابقة بينها وبين الواقع، لكن إحداهما سيتبين صدقها عند المطابقة كما سيتبين كذب الأخرى.
وأما الميدان الثاني في استعمال اللغة فهو حيث لا يقصد بها الإشارة إلى العالم الخارجي، بل يراد بها أثرها الوجداني أو يراد بها إقامة بناءات ذهنية تقتصر على مجرد التصور ولا نزعم لها أنها تسمى جانبا أو آخر من جوانب العالم، فالشاعر الذي يروي عن الليل أنه كموج البحر، لا يلفت نظرك إلى شيء في محيطك الخارجي، تنظر إليه لتطابق بينه وبين ما زعمه لك، بل يلفت نظرك إلى خبرة داخلية تحسها في شعورك. وكذلك الرياضي حين يبني نسقا رياضيا - كما فعل إقليدس - لا يدعي أن نسقه هذا يشير بالضرورة إلى كائنات خارجية، إذ قد يخلو العالم الخارجي من المثلثات أو من المربعات، ومع ذلك يظل نسقه الرياضي صحيحا؛ لأن صحته قائمة على طريقة تكوينه لا على إشارته إلى مسميات في دنيا الأشياء. وقل هذا نفسه بالنسبة إلى فريق من الفلاسفة يلجأ أفراده إلى ما يفعله الرياضي من حيث طريقة البناء، وهو أن يبدءوا بحقائق معينة لا يدعون أنها مكسوبة بالمشاهدة الحسية، بل يقولون إنها من إدراك الحدس، ثم يستنبطون من ذلك الإدراك الحدسي ما يمكن استنباطه من نتائج. ومن مجموع هذه النتائج مرتبة «منسقة» يتكون البناء الفلسفي المعين، فافرض أنك وقفت عند مرحلة بذاتها من هذا البناء تسأل كيف أستيقن من صوابها؟ فعندئذ يحيلونك على المقدمات التي استنبطت منها لترى أن استدلالها كان استدلالا صحيحا، وهكذا دواليك تحال في كل مرحلة إلى سابقتها، حتى تصل إلى نقطة الابتداء الأولى، فتسأل الرياضي أو الفيلسوف الاستنباطي من أين جاءت؟ فيكون الجواب: هي مسلمة الصدق لأنها مفروضة (بلغة الرياضيين) أو لأنها مدركة بحدس البصيرة (بلغة الفلاسفة).
هذان هما الميدانان الرئيسيان للغة، وعليك حين تستخدم اللغة أن تكون على بينة في أي ميدان من ميدانيها تستخدمها. أتشير بها إلى كائنات خارجية وعندئذ يتحتم عليك الركون إلى تجربة الحواس، أم تقصر نفسك على البناءات الذهنية التصورية، وعندئذ لا تطالب بالرجوع إلى تجربة الحواس وتكون ملزما بمراعاة مقاييس أخرى ملائمة لنوع البناء التصوري الذي تقيم أركانه في ذهنك.
هذا هو ما يقوله المنهج الوضعي المنطقي أو التجريبي العلمي، وإنما سمي «وضعيا منطقيا» لأنه أولا: يشترط لكل عبارة تدعي الإشارة إلى دنيا الأشياء أن يقوم صوابها على تصويرها لتجربة الحواس، وهذا هو الجانب الوضعي من الموقف. ولأنه، ثانيا: يكتفي بتحليل لغة العبارة نفسها، وهذا التحليل وحده كفيل بإرشادنا إن كانت العبارة مقبولة من ناحيتها المنطقية أو غير مقبولة، وهذا هو الجانب المنطقي من الموقف، فافرض مثلا، أنني زعمت لك عن «الروح» أنها «مادية» في جوهرها، فليس بك حاجة إلى البحث عن روح تتناولها لترى إن كانت مادية أو لم تكنز. وحسبك في رفضك لهذا القول أن تحلل هاتين الكلمتين، فإذا انتهى بك التحليل إلى أن كلمة «الروح» تطلق على كائنات غير مادية، علمت على الفور أنه من التناقض - إذن - أن توصف بأنها مادية؛ لأنني أكون عندئذ كمن يقول «اللامادي مادي» فرفضنا لهذه العبارة قائم على «المنطق» وحده؛ منطق اللغة ومنطق الفكر.
تلك هي الدعوى، فكيف جاء نقيضها - أو نقائضها إذا جاز أن يكون للفكرة الواحدة أكثر من نقيض واحد؟ جاءت تلك النقائض على مستويات مختلفة باختلاف أشخاصها في جدية المأخذ وعمق التفكير، فمنها ما عارض به العقاد على أساس جدلي فيه متانة الحجة، لكنها حجة مردود عليها، فمن أقوى ما اعترض به - وهو اعتراض شائع بين أعداء الوضعية المنطقية - أنه إذا كان هذا المنهج يرفض في باب العلم كل ما عدا نوعين فقط من القول، أحدهما قول تجريبي قياسه الواقع المحسوس والثاني قول فيه تحصيل حاصل (كالمعادلات الرياضية) باعتبار أن ما عدا هذين النوعين من الكلام هو أقوال فارغة من المعنى، إذن فالعبارة نفسها التي سيق بها هذا المذهب هي من قبيل الأقوال الفارغة؛ لأنها لا هي من قوانين العلم الطبيعي (النوع الأول) ولا هي من قبيل العلم الرياضي (النوع الثاني). لكن هذه الحجة مردود عليها بما يسمى «نظرية الأنماط المنطقية» التي مؤداها أن العبارات اللغوية ليست من مستوى واحد، ومقياس الصدق في أحد هذه المستويات ليس هو مقياسه في المستوى الآخر. مثال ذلك: افرض أنني حللت الجمل اللغوية التي وردت في هذه الصفحة فوجدتها جميعا قد كتبت باللغة العربية، فسجلت هذه الحقيقة عندي بعبارة إنجليزية أقول بها ما معناه «إن جميع العبارات على هذه الصفحة عبارات عربية» أفيجوز أن يعترضني معترض بقوله: لكن حكمك هذا لو صح لوجب أن يكون هو كذلك عبارة عربية؟ كلا؛ لأن حكمي هذا من «نمط» منطقي أعلى، يحكم على ما دونه، ولا يخضع هو نفسه لحكم نفسه، وأمثال ذلك في الحياة كثيرة كثرة لا يجوز معها أن يقع ناقد في مثل هذا الخطأ المنطقي، ومع ذلك فالذي وقع فيه كثيرون؛ فقد أكتب بطاقة على صندوق كل ما فيه برتقال، لتدل البطاقة على محتوى الصندوق، دون أن يطوف ببال ناقد أن يقول «لكن لو كان الوصف الموجود على البطاقة لما بداخل الصندوق وصفا صحيحا لوجب أن يكون هو نفسه برتقالة من البرتقال.» نعم إن هذا هو الموقف نفسه حين نحلل العبارات العلمية لنقول عنها آخر الأمر: العبارات العلمية كلها إما عبارات وصفية تشير إلى الواقع المحسوس وإما عبارات تحليلية تنطوي على تحصيل حاصل كمعادلات الرياضة، فلا يكون هذا الحكم العام نفسه خاضعا لقاعدة نفسه، بحيث أقول عنه إن هذا الحكم لا هو من قوانين العلوم الطبيعية ولا هو من تحصيلات الحاصل إذن فهو خلو من المعنى.
ويزيد العقاد على هذا الاعتراض اعتراضا آخر فيقول: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل.» ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» وردا على ذلك نقول إن مثل هذه الجملة هي - كمعادلات الرياضة - تحصيل حاصل، وليست مما يصف الواقع، وصدقها كامن في أنها تكرر معنى واحدا مرتين؛ وذلك لأنك لو سألت: ماذا تعني بكلمة «العدم»؟ لأجبت نفسك بأنه هو «ما لا يكون» وإذا عدت فسألت وماذا تعني كلمة «المستحيل»؟ لأجبت نفسك هنا أيضا بقولك إنه هو «ما لا يكون»، وإذن فترجمة الجملة بعبارة أخرى تصبح «ما لا يكون لا يكون» وهو قول صحيح، لأنه تحليلي تكراري وشبيه بقولك 2 = 2 أو بقولك 1 + 3 = 4، وليس في هذا ما ينفي ما ذهبت إليه الوضعية المنطقية في تحليلاتها لتقبل ما تقبله وترفض ما ترفضه. وهكذا يمضي العقاد (راجع كتابه «بين الكتب والناس») في معارضات جدلية، تدل على أخذه للقضية أخذا جادا لكنها لا تدل بالضرورة على أنه قد أصاب. •••
ومن النقائض كذلك فصل خصصه الدكتور محمد البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» - لا أقول «للرد» على الوضعية المنطقية؛ لأن الرد يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، بل أقول إنه خصص فصلا ألقي فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها، وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك، أراد بها أن يثير نفوس قرائه - لا أقول عقولهم، لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق - نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه على طائفة من مواطنيهم. كان كاتب هذه السطور أحدهم بسبب كتاب أخرجه وجعل عنوانه «خرافة الميتافيزيقا» ليقول به إنه إذا أراد المتكلم أن يتصدى لقول علمي يتصل بالعالم الخارجي فليكن سنده تجربة الحواس ، لأن ما هو مجاوز لمجال الإدراك الحسي سبيله آخر، وطريقة تصديقه طريقة أخرى، فإذا جاء فيلسوف ميتافيزيقي يزعم لنا أن للبرتقالة «جوهرا» وراء لونها وشكلها وطعمها، كان من حقنا أن نسأله أن يقيم لنا البرهان على أساس من تجاربنا نحن ما دمنا نحن الذين نستمع إليه.
ويبدأ الدكتور محمد البهي حملة إثارة النفوس منذ عنوان كتابه، إذ يجعل جزءا من هذا العنوان عبارة تقول إن هؤلاء المواطنين الذين هاجمهم في دعاواهم الفكرية ذوو صلة بالاستعمار الغربي. ولست أظن أن مما يشرفه ولا مما يشرف قراءه أن يجعل رجالا من أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق (وهما أيضا ممن خصص لاتهامهم فصولا من كتابه) أعوانا للمستعمر على تحقيق أغراضه، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور بأن يجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمته «الدين خرافة» وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الوطني الذي عاون الاستعمار بكتابه قد خرج كذلك على دينه. ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة. وحتى إذا سلمنا معه أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟
ناپیژندل شوی مخ