مین وراء منظار
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
ژانرونه
وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلى إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضا يجمع بين الحياء والاستعلاء.
ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد، وهو لا يفتأ يكرر قوله: «شرفت بلدنا يا بك! أهلا وسهلا بابن الأكابر، دي البلد كلها منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير.»
وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها عنده بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهدا برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعا؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلا: «هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول: إن دبلت الوردة ريحتها فيها.»
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها شيئا فيها، ويتملكني الإشفاق حينا، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة، وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد يقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزاء، وتطابق الجريمة والعقاب ...
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو كذلك من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيرا صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ... ولعله كان يحس أن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء، ومن درر حديثه قوله: «ياما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية أو مصر فيعود بعد أسبوع سالف أجرة الوابور ... دا أنا كنت هارون الرشيدي اللي بيقولوا عليه.»
وقلت: وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعا، فتلعثم قليلا وقال: لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك ... آه من البنك!
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه، ثم سألته عن مصير هذه الضياع فقال: الخواجه خريستو تاجر القطن، وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثرى هذا الوادي أرضا أولى بها بنوه، أرضا كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس، وتسقي بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.
وسألته عن شعورده إذا مر اليوم بهاتيك الضياع، ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وإنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقط كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضا إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فدانا، من أرض أجداده.
وكان مجلسنا هذا في دكان بدال، ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء، ولكن التاجر نفى وجودها عنده، فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف، فأشار إليها قائلا: «أمال إيه ده !» وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها، وضحك صاحب السلطان ضحكة مرة وهو يهز رأسه قائلا: «هيه ... طيب! السلام عليكم.» ثم خرج، وتنفس التاجر الصعداء.
ناپیژندل شوی مخ