من شقوق تیاره
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرونه
آخر مشهد لمحته عيناي قبل أن أحشر بين جثتي رجلي أمن قويين في تلك العربة، هو وجه شقيقي العائد للتو من نزهة قصيرة بسيارته البولندية البيضاء. رأيت علامات فزع ودهشة ارتسمت على محياه وهو يشهد السرعة الفائقة التي تم اختطافي بها. كانت تعابير وجهه تحكي إحساسه بأي معضلة وقعت فيها، ونظراته ترسل كلمات وداع ألجم الموقف لسانه عن النطق بها، كلمات وداع لمغادر لن يعود، وإن عاد فسوف يرجع بحمولة ثقيلة من الحزن والهموم لكل من يعرفه، وسيكون ذلك بعد انتظار صعب لزمن طويل وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة.
قلدوني أساور هي مهر عرس الحرية الذي سوف أزف له، وقبلها أرجعوا المعصمين إلى ما وراء ظهري، ثم طلبوا مني أن أسير على هدى كلماتهم حين أنزلت من العربة بعد فترة وجيزة: «سر يمينا ... اذهب إلى اليسار ... اخفض رأسك.»
لا أعلم حتى اليوم هل كانت كلماتهم فعلا فيها أي موضع لنية صادقة لإرشادي إلى الطريق؟ طريق متعرج ملتو ما زلت أجهل أبعاده وتضاريسه ولم يتسن لي التعرف عليها أبدا، أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كل السنوات المقبلة؟ نعم، كانت هي فعلا كذلك على الأرجح، كما كان هناك من بعدها ما يقارب العقد الكامل من السخرية اللاذعة. انتهى المسار بي إلى حجرة ما زلت أذكر - بل أعرف - كل تفاصيلها، وأستطيع وصفها بمنتهى الدقة، كما أني أيضا في المقابل ما زلت أجهلها بالمطلق؛ لأنها لم تكن سوى ظلام دامس ومقعد خشبي لعله كان مصطبة طويلة تتسع لآخرين، لم أجرؤ على التحقق منه فقد كنت مرعوبا ومرتبكا إلى حد كبير. لم ينقض الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف الشديد والقلق الكبير، حتى غطس وجهي في سيل صفعات، ثم توالت علي شلالا غزيرا. غرقت في وحلها وعلقت بي مخاوف شتى وهواجس. كان يخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي، صوت ألم مبرح وعذاب شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض. شرطي أمن يجلس بالقرب مني كان يضحك متشفيا وهو يستمع لتلك الصرخات، ويدس في روحي رعبا جديدا وهو يقول ساخرا: من ذاك المسكين الذي لم ألتق إلا صوته المعذب: «هل حان زمن الولادة أم أنها لا زالت متعسرة؟»
كان صدى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوفا وارتجافا في ثيابي التي ابتلت بعرق فزع المواجهة الأولى، وما كان يعوزني لمزيد من التعرق مع قيظ آب اللاهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرق حتى في أيام الشتاء الباردة سوى هذا الرعب.
سحبت بعد هنيئة إلى غرفة باردة بكل ما فيها، أجلست على كرسي حديدي ورفعت العصابة عن عيني لأرى قابيل منتصبا أمامي لأول مرة بزي عسكري، وقد رسمت على كتفيه نجمة يتيمة. هذه المرة هكذا رأيته وسوف أراه كل مرة بهيئة وصورة جديدة، وفي كل المرات ومهما تعددت الصور فإن له حقيقة واحدة لا تتغير، حقيقة شيطان. صور سوف تتكاثر مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم. ويبدو أن لن يصرع الشيطان إلا في وقت معلوم حين نرحل عن داره إلى أرض ليس فيها غريزة.
ضحك الضابط الصغير برتبته وسنه وكل شيء فيه، ساخرا وهو يشير إلى هيئتي التي بعثرتها كفوف غليظة، ولمح بكلمات مقتضبة إلى تهمة تنتظرني. تهمة ترحل بصاحبها سريعا إلى موت شاع انتشاره بين الهامسين بحلم الحرية مثل طاعون أسود. لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة الأولى لأجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت أجلس عليه، تمسك به يدا هذا الضابط الصغير، وبدأ يوزعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل ما أوتي من قوة لا يعبأ أين تقع.
في تلك اللحظة بالذات بدأت أجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة الأولى وأستعيد وعيي الغائب. نفيت كل تهمة ألقاها علي، إلا أنه لم يكن معنيا بالأمر كثيرا؛ إذ ما كان كل هذا سوى ممر قصير إلى أماكن أخرى أشد رعبا وأكثر ظلاما، سوف أتنقل بينها قسرا. سوف تتغير مثل تغيير أحذية قديمة مهترئة بالية لا تصلح للانتعال، لكن أرغم على استعمالها مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنقع شديد الوحولة.
قبل أن يكمل عقرب الساعة دورة واحدة كاملة لينهي الساعة الأولى على ما قدرته حينها، اقتادتني زنود شديدة جديدة، وهذه المرة غلفت عيني عصابة جلدية سوداء في طرفيها قطعة بلاستيكية لتكتم الرؤية عني بالكامل، إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلقنا أدوارها الكثيرة بمصعد كهربائي. العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به إلى عمود أو شيء يشبهه، لا أدري ما هو، ولم يتسن لي أن أراه أو أن أتحسسه أبدا ولا حتى لوهلة واحدة، فقد حذرني أحدهم من الحركة أو أن أنبس ببنت شفة، وكنت فتى مطيعا، على أن حجب بصري لم يمنعني من تحديد الوقت بدقة، إنه ما بعد الساعة الرابعة عصرا. دلني على ذلك صوت مغن مشهور لا يجهله أحد، كان يلقب بالعندليب الأسمر، وكنت معجبا بصوته. كان يشدو مغنيا في فيلم الأسبوع الذي يعرض من بعد ظهر كل جمعة كالعادة الجارية حينها. كان يشدو بألم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي، ويفوح عطر الوجع من تلفاز قريب، مرددا:
أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير.
أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير.
ناپیژندل شوی مخ