من شقوق تیاره

ناهض الهندي d. 1450 AH
76

من شقوق تیاره

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ژانرونه

إحباط هذه العملية لم يوقف مزيدا من عمليات هروب فردية، وأحيانا لمجموعات صغيرة. بعض منها تم في أيام المواجهة حيث استطاع بعض السجناء الهرب باستنساخ أثر ختم كان يوضع على ذراع كل زائر، يقوم السجين الهارب بوضع ذراعه على أثر الختم وينقله إلى ذراعه بعد معالجة فنية، ويخرج مع أول طلائع المغادرين من العوائل الزائرة لأبنائها، موهما الحرس أنه زائر، ويقدم نفسه باسم زائر دخل إلى السجن فعلا بعد ترتيب بطاقة تعريفية له، ثم يخرج الزائر الحقيقي في وقت لاحق مع بطاقة تعريف شخصية يحملها مضافا إلى الختم الحقيقي الموشوم على ذراعه . لم تكن تساور حراس السجن الشكوك بعبور سجين باسم زائر حتى إن اكتشف خروج الاسم نفسه مسبقا بالرجوع إلى قوائم الزوار ويتم التغاضي عن هذا التكرار على أنه خطأ إداري، ويمر الموضوع وسط الفوضى التي كانت تعم البلد والسجن حينها بسبب ظروف حرب الخليج الثانية والانفلات الإداري والأمني. لم تكشف هذه الطريقة إلا بعد تكررها وإلقاء القبض على أحدهم بعد أن شك أحد الحرس بهوية السجين المتخفي المرتبك وهو يرتدي زيا غريبا محاولا إخفاء ملامحه، وحاول الفرار من الحارس الذي استوقفه في محاولة يائسة، ليلقي القبض عليه وتتوقف سلسلة الهروب في أيام المواجهة.

أما أغرب عمليات الهروب فكانت هروب شاب عرف بصلابته وجرأته، الغريب في العملية، أن هذا الشاب كان على وشك أن يطلق سراحه خلال أشهر قليلة لانقضاء مدة محكوميته إلا أنه قرر المخاطرة والهروب ولو تم إلقاء القبض عليه لدفع ثمن ذلك غاليا بسنوات طويلة إضافية يقضيها في السجن وعقوبة شديدة.

واحدة من عمليات الهروب المشوقة في جميع أحداثها حصلت حين ادعى سجين المرض الشديد في إحدى الليالي وأقنع الكل - بما فيها إدارة السجن - بإصابته بالتهاب الزائدة الدودية. تحسن معاملة إدارة السجن للسجناء في حينها وفرت فرصة لنقل السجناء المرضى ذي الحالات الخطرة والطارئة إلى مستشفيات خارجية للعلاج. وبالفعل تم نقل هذا السجين إلى مستشفى خارجي في منطقة الكرخ في منطقة سكنية كبيرة، وهناك ظل مصرا على ادعاء المرض، وأجريت له عملية الزائدة الدودية بالفعل، ليحظى بفرصة البقاء في المستشفى ريثما يتعافى من آثار العملية، ولكنه استطاع الهرب بعد ليلة واحدة قضاها في هذه المستشفى وهو ما يزال يئن من جراح العملية وآثارها. حمل أوجاعه معه في قصة مثيرة واستطاع الهرب إلى مدينته وتجاوز مفاوز تفتيش كثيرة رغم أن اسمه وزع عليها في أحداث مثيرة، ومن ثم أكمل رحلته إلى خارج العراق ليستقر هناك ولم يستطع أي جهاز أمني الوصول إليه أبدا.

19

ساد التفاؤل كثيرا وبدا أننا نعيش العام الأخير في السجن وعمر النظام، خصوصا مع اندلاع انتفاضة شعبية كبيرة شملت معظم أرجاء البلد، عززها فقدان السيطرة الحكومية على أربع عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة بعد هزيمة قاسية مذلة للجيش في حرب الخليج الثانية كلفت البلد آلاف الضحايا من الجنود والمدنيين وخسائر مادية هائلة. توج كل هذا التهاوي لسلطة وهيبة النظام باستسلام مخز لقيادة طالما تبجحت بقدراتها الحربية الفارغة وبكبرياء أجوف، وجلست في الآخر راضخة مستسلمة لكل شروط الغزاة في خيمة صفوان الشهيرة. كانت تصلنا الأخبار عبر أجهزة الراديو التي شاع وجودها بين السجناء حتى بعلم سلطات السجن وإن بغير رضاها، وبدا أن عملية غزو الكويت قوضت النظام تماما ولم تعد المسألة سوى مسألة وقت قصير لسقوط حتمي لهذا النظام الهمجي العبثي.

تغير سلوك إدارة السجن تجاه السجناء بشكل كامل، وصار وديا جدا لكنه مرتبك أيضا، فمع أنهم ظلوا يمارسون دورهم الرسمي بإدارة السجن وتنظيم أموره وفق التعليمات العامة، إلا أنهم بدءوا يهابون السجناء بشكل جدي ويتجنبون إبداء أي مظاهر عدائية حتى مع صدور مخالفات جدية حقيقية. هذه المخالفات لو صدرت في وقت سابق - ولو بمقدار عشر معشارها - لكانت العواقب لا تحتمل، أما الآن فتمر بسلام وكأنه لم يحدث شيء. صار الحرس يتوددون للسجناء وسط إيمان من الكل من سجين وسجان أن هذه الحرب هي نهاية النظام الفعلية، وأنها دقت آخر مسمار في نعشه، وسوف يحمل إلى مزبلة التاريخ مقبرته ومقامه اللائق به في وقت قريب جدا، وما على الكل سوى قليل من الصبر لحضور مراسم الدفن الرسمية.

خلال أيام الحرب كنا نسمع صوت الانفجارات المرعب من الطائرات والصواريخ الأمريكية وهي تدك العاصمة عبر فتحات شبابيك علوية في أحد الأقسام الجديدة، كنا نرى لهب نيران الانفجارات الهائلة تضيء السماء وتزيدنا قلقا لما يحصل بالبلد، مع مخاوف جدية من احتمال تعرض السجن هو الآخر لضربة جوية مماثلة لهذه الضربات لكونه يقع في منطقة عسكرية (معسكر أبو غريب). وبالفعل سمعنا في إحدى الأمسيات أصوات انفجارات قريبة جدا أرعبتنا لشدتها ولهول قوتها، بل رأينا صواريخ كروز أمريكية تتجه إلى أهدافها ولا أحد يقدر على اعتراضها من الدفاعات الجوية وتعبر بسلام من فوق السجن وعلى ارتفاعات منخفضة جدا، بحيث كان بالإمكان أن نرى كل تفاصيلها بسهولة وكأنها من شدة انخفاضها طائرة تستعد للهبوط في مدرج مطار قريب.

في أحد النهارات - وبينما كنا في ساحة السجن الخارجية - مرت من فوقنا ثلاثة من هذه الصواريخ، وحاول حارس في أحد أبراج المراقبة أن يطلق الرصاص عليها ظنا منه أنه قادر على إسقاطها، فهب عليه السجناء بصراخ جماعي يوبخونه خشية أن يغير الصاروخ اتجاهه وينفجر فوق السجن. بالطبع هذا الاحتجاج لم يكن عن دراية ولا عن علم بهذه الصواريخ ولا بالشئون العسكرية؛ لأنه لا يوجد أحد من السجناء يملك معلومات عسكرية حقيقية بمستوى محترف إلا أشخاص قلة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة وهناك شكوك جدية في اطلاعهم على معلومات تخص أسلحة متطورة كالتي نتحدث عنها. هذا الاحتجاج كان يعبر عن حالة الضعف المتردي التي بلغها النظام والأمن في السجن بحيث صار السجناء لا يهابون أحدا من رجاله، وبالأحرى صار الحرس هم من يهابون السجناء. لم تكن هذه الحادثة هي المرة الوحيدة التي عرت وكشفت هذا التردي الأمني في حراسة السجن والسيطرة عليه، ففي يوم - وفي عز الظهيرة - هرب أحد سجناء الأقسام المفتوحة من فتحة صنعها في السور الخارجي للسجن، واكتشف حركته أو بالأحرى اشتبه أحد حراس أبراج المراقبة بوجود حركة مريبة بين الأحراش والأدغال المحيطة بالسجن فبدأ يطلق النار عليها، فما كان من السجناء إلا أن بدءوا بالصراخ عليه، وهو يحاول أن يفسر لهم ما يحدث، وهم يردون عليه بكلمات هي أقرب للتهديد من النصح، كانوا يقولون له: «أخي، لا تورط نفسك! قد يكون هذا السجين الذي تدعي هروبه في مرمى طلقاتك وينال إصابة قاتلة منك.» - «إذا تعرض للموت ماذا سيكون ردك؟» - «هذا السجين حتما وراءه من سوف يطالبك بدمه لو حصل مكروه له.»

لم تكن هذه الحالة المنفلتة في السجن فقط، بل في عموم البلد، وكنا نراها ونسمعها في أحاديث الزوار وعلى وجوه أهالينا الذين نلتقيهم أيام المواجهة حينئذ. موجة التفاؤل الكبيرة بانهيار النظام في العاجل القريب كانت طاغية على كل شيء. مع أني كنت ضمن قلائل ينظرون بسلبية لدور القوات الأمريكية وهجماتها على البلد ولم أكن أرجو خيرا منهم، وما زلت مواظبا على عدم الثقة بسياسة أمريكا وأعدها أس البلاء في العالم كله وليس في منطقة الشرق الأوسط وحسب، وعندما أقول: من ضمن قلائل؛ لأن الجو السائد كان خلاف ذلك، وكان يتمنى سقوط النظام بأي طريقة، حتى إنه في أحد الأيام - وبعد نقاش عن هذه الحرب - وجه أحدهم لي كلمة فيها تشكيك بأصل معارضتي للحكم الفاشي. كانت لحظة عابرة لم تؤثر على علاقتي الشخصية مع هذا الصديق أبدا، وما زلت أحتفظ بصداقته حتى هذه اللحظة ولا أظن سوف يصيبها شيء في المستقبل سوى مزيد من عرى الوثاقة، لكنها كانت مؤشرا مهما على أن المعارضة السياسية ينبغي عليها أن توسع أفقها وتتخلى عن خصوماتها الشخصية، وأن تجعل غايتها إرساء المبادئ الحقة، وأهدافها في خدمة شعبها بوسائل صحيحة أخلاقيا، وأن تكون هذه الأخلاقيات هي المرشد والدليل القائد في جميع مواقفها السياسية ولا تسير وراء دوافع ذاتية ولا خلف مشاعر الانتقام الشخصي.

سبيل الانتقام الشخصي الأناني - رغم كل الأعذار التي تساق لتبريره - سوف يبقي الشعوب في تيه لا تجد منه مخرجا، وتظل تدور في حلقة معبأة بالكوارث والفتن وفي النهاية يضيع الشعب كله وإن كان معه بطل عبوره موسى النبي نفسه ولن يجد لهما أحد من أثر سوى حكايا قديمة تصلح للتسلية وللغارقين في أحلام لن يتحقق منها شيء لتغدو بطول أمدها كابوسا سرمديا مزعجا.

ناپیژندل شوی مخ