من شقوق تیاره

ناهض الهندي d. 1450 AH
62

من شقوق تیاره

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

ژانرونه

كان القمل مقيما دائميا بأنواعه الثلاثة؛ قمل الرأس، قمل الجسم، وقمل العانة، والعثور عليه غاية في اليسر بأقل جهد وفي أول حملة تفتيش عنه. تنطلق حملات التفتيش بشكل مستمر؛ لأنه يقف وراء ظاهرة الحك المزعجة المزمنة التي تصل في بعض المرات مدى لا يطاق، يهرش السجين معها كل مكان في جلده الخارجي، من قمة رأسه إلى تحت إبطيه وعند المواضع الحساسة التي يحار كيف ينبشها بحثا عن هذا الكائن المزعج.

في إحدى المرات حلت علي لعنة الحكة بشكل جنوني، وصرت لا أحتملها فأصررت وقتها على حز كل شعرة نبتت على جسمي في الحال. بالطبع لا أقدر على القيام بهذا إلا بمساعدة من سجين آخر طلبت منه ذلك فآثر الانتظار قليلا لبعد تناول وجبة العشاء التي أوشكت بعد أن صب الحساء في الأواني المعدنية، إلا أن هستيريا أصابتني من ذاك الهرش وصرت أصرخ بوجهه أن يترك كل شيء ويقوم من فوره ويخلصني من الشعر خصوصا تحت إبطي بالحال. الموقف هزلي مبك مضحك، أنا أشعر بنار حرقة مستعرة جراء الحك والقمل يواصل قرصاته متلذذا، والسجناء وهم يتهيئون لتناول العشاء يضحكون على إصراري على الحلاقة الفورية وعلى غضبي وأنا أدور كمن يرقص من الألم، حتى أنا استغرقت في ضحك طويل على نفسي لكن بعد أن خلصني صاحبي من شعري ومن الأقزام الساكنة فيه.

نوع القمل الذي يعيش في فروة الرأس كان السجناء يسمونه كالبتوس، وفيما يبدو أنها تحريف لاسمه الإنجليزي «

» وربما سمعت اللفظة من طبيب ما بطريقة خاطئة وأنتجت هذا المصطلح الغريب. ولم يكن من السهل أبدا التعرف على مصدر بعض المصطلحات الخاصة في السجن وتشعر كأنها لغة خاصة ولدت هناك في زمن سحيق عندما بلبلت الآلهة الألسن في بابل القديمة.

السجن عالم آخر خلف هذا الكون، والعيش فيه يبرز الجوهر الحقيقي لهذا العالم. ليس من قوام لهذا الوجود إلا بالحياة ولا قيمة للحياة إلا بالحرية ولا يمكن إدراك الشيء إلا بإدراك ضده. وحيثما يوجد الضد يوجد الوعي بحقيقة المعنى وعند غياب الضد لن تعرف إلا مظاهر الأشياء دون كنهها وحقيقة جوهرها.

الحياة، ليس أن تجري دماء في العروق، ولا أن ينبض قلب بضربات تلقائية بفعل لا إرادي، ولا هي هواء يملأ رئتين ويزفرهما، لأنه حتى الأجساد الميتة يمكنها أن تفعل ذلك. الحياة أن تشعر بالسعادة وتلمس بحواسك جمالا أحاطت هالته بك، ويصيبك غم عظيم ويعتريك حزن كبير عندما يزاحم الجمال قبح البهيمية ساعة يظلم الإنسان نفسه بظلمه أخاه. ليس هناك من مكان أكثر مناسبة لرؤية كل هذا بأفضل صوره وأدق معانيه أفضل من السجن، هناك يولد الوعي بمعنى الحياة وهناك تتكشف جمالات الحرية.

في عالم ينأى عن الأسوار الإسمنتية العالية وعن أبراج الحراسة يمكن تصور معنى الجمال والحرية، لكن الوعي بأدق معانيه يولد فقط في تلك الدائرة التي تغلقها أسلاك شائكة وخنادق محفورة بعمق قامة بشرية مغمورة بمياه راكدة وفي رقعة مظلمة تقع تحت مرمى بنادق قنص لجنود قاطنين في أبراج محصنة. نعم هناك يولد الوعي، وهل يولد الإنسان إلا من المعاناة؟

مصطلحات لم أعرف أبدا كيف اشتقت وبدت غريبة جدا على كل اللغات. أسمع تارة عنها حكايات تبدو مثل الأساطير تحاول تفسيرها وفك شفرتها وفض لغزها لكنها تختفي بسرعة مثل طيف عابر، ليبقى السجن أحجية عصية لا يمكن لأحد أن يدرك تماما كل تفاصيله ولا الأشياء التي تجري فيه، وإن سكنه وعاش فيه دهرا.

مصطلح مثل «الكانة» لم أجد له تفسيرا أبدا، حاولت أن أشتق له علاقات مع المسمى وأنسج له قرابات مع لغات شتى بلا جدوى. إنما لا بد من التعامل معه؛ لأنه الأمل الوحيد في ستر الجسم العاري ووقايته من برد لا يرحل في مكان حظر على الشمس الوصول إليه. نسيج سميك بني غامق في الغالب وأحيانا رصاصي يوزع في فترات متباعدة وبطريقة غير كافية كما هي كل الأشياء التي توزع ليس للاكتفاء إنما للإبقاء على الأنفاس تصعد شهيقا وزفيرا ليس أكثر من هذا. منظر الكانة الكريه يبعث على القرف والاشمئزاز ويثير مشاعر كآبة سوداوية تدفع للزهد بها والإعراض عنها رغم الحاجة الشديدة، حتى إني لم أسمع أو أر يوما تنافسا عليها من السجناء أبدا.

في أيام الشتاء مع ندرة الأغطية وبرودة الأرض الإسمنتية وتهلهل الملابس، يصير البرد جهنميا. ولم أشعر بالدفء أبدا طيلة السنوات العشر التي قضيتها هناك ولا حتى للحظة واحدة، وفي الليلة الأولى التي خرجت فيها من السجن وجدت فراشا أعدته لي والدتي فوجئت وأنا أدخل تحت أغطيته بكمية الدفء العظيمة التي يحتويها.

ناپیژندل شوی مخ