من شقوق تیاره
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
ژانرونه
التصق جسدي تماما بالبلاط ولم أعد أملك شيئا من قوة أو قابلية، سوى التقلب عليه حين يضطرني الأمر تفاديا للركلات المتلاحقة، مضافا إلى انهيار قواي بالكامل. كان القيد الجامع قد شل يدي بالكامل؛ فقد انزلقت السلسلة إلى الآخر أثناء العراك من طرف واحد، واستحكم التصاقها بالمعصمين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري. لم تتوقف الحفلة السادية هنا، بل وثبت فوقي أجساد بعضها كان ثقيلا جدا وأخرى ليست كذلك مع أنها جميعا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفتها. كانوا يقفزون بشكل متناوب فوق أي موطأ تجده أقدامهم على جسدي، لا يميزون بين وجه لي أو قفا. أكاد أجزم، رغم كل ما سوف يقرأ من هذه الأسطر ويستعظم حصوله علي، وقد لا يصدقه البعض أو يظنه مبالغة أو أمرا لا يمكن لبشر أن يتحمله. أجزم بأني كنت محظوظا جدا فكثير ممن عرفتهم في تلك الزنزانات ورأيتهم فيما بعد قد نالوا أضعاف ما نلت من الأذى والعذاب، إنما للأسف لم يرووا حكايتهم بعد.
تمر ساعات طويلة ولا تكف الأحذية عن الاصطدام بجسدي ركلا وتقليبا بين الحين والآخر. أوشكت تماما على الانهيار وبلوغ مرحلة الإغماء لولا بعض استراحات قصيرة بين فينة وأخرى. بالتأكيد لم تكن هذه الاستراحات لخاطرنا، بل لخاطر أصحاب الأحذية المدببة ليشربوا شايا ويأكلوا معه كعكا أو بسكويتا. كنت أسمع صوت جرشه تصكه أسنانهم وهو يختلط بسباب وشتائم لم تتوقف أبدا، كأنها جزء من زادهم اليومي أو هي الأوكسجين الذي يستنشقونه ليبقوا على قيد الحياة. هوسهم السادي لم يفتر حتى في هذه الفواصل القصيرة من الاستراحة كما كنت آمل وقتها بتوقفه؛ مثلا لم يعجب أحدهم أن يستمر في شرب الشاي وإكمال القدح الذي يمسكه بيده فسألني: «هل تريد شايا؟»
لم أرد عليه لأني كنت أعلم يقينا أنه لا يسألني، بل يدبر أمرا ما استهزاء بي. لم يخب حدسي ولا كذب ظني؛ فقد سكب بكل هدوء ما تبقى من شاي ساخن في قدحه على فروة رأسي. ولسوء الحظ كنت قد زرت الحلاق قريبا جدا قبل حفلة العبث هذه، ومن عادتي - كما هي حتى اليوم - أن أخفف شعر رأسي كثيرا. الشاي يقدم عادة في بلدي في قدح والسكر يكاد يملأ نصفه، لم تكن هذه العادة تعجبني أبدا من قبل ولا الآن وهو ينزل على رأسي. الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنا، لكن ماذا سوف أفعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي. بقيت أشعر بالدبق واللزوجة منها لوقت طويل جدا ثم صارت موئلا مثاليا لكثير من الهوام والحشرات التي يزخر بها المعتقل، خصوصا أن الاستحمام غدا واحدا من الأمنيات المستحيلة لزمن طويل، بل لدهور.
بعد انتظار طويل، وكم كان من انتظار مقرف؛ لأني كنت أنتظر أن يأتي اللاشيء أو الأسوأ. أنتظر مجهولا إن أتى لن يحل مشكلة، بل سوف يفاقمها ويزيدها تعقيدا وسوءا. ومع ذلك كنت أوهم نفسي أنه من المحتم علي ترقب المجهول وانتظاره؛ لأن قدومه سيضع نهاية لهذا الإرزاء والازدراء الذي غمرت به وغطست فيه عميقا نحو قاع بلا قرار. وهم شبيه بانتظار من لا يأتي أبدا رغم كل أوهام المنتظرين له، انتظار ابتدع صورته العجز حين يتملك صاحبه، ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه بخيالات وإبداعات من صنع أوهامه، ويبحر فيها بعيدا بلا شراع ولا دليل يتبع خطاه مصدقا واثقا أنه بها يمسك حبل نجاة ينتهي طرفه الآخر عند بر النجاة والأمان، ولا يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرض يم لا متناهي الأطراف من العجز والشلل والانغماس في فضاء أحلام وهمية. أبواب النجاة لن تفتح لوحدها، ولن تسير إلى أي أحد، من يرد بلوغها فعليه أن يسعى إليها ويطرقها ويفتحها عنوة إن أبت، وبالتأكيد لن يصل إلى باب الخلاص عاجز مشلول، بل يبلغها الساعون إليها ويطرق بابها السائرون نحوها وهم فقط من يفتحها.
وصل ضابط كبير (ع. ع.)، وبدأ يطلب الموجودين بالأسماء واحدا تلو الآخر. رأيته كتلة لحم ضخمة تشوبها حمرة مختلطة ببياض ترشح عنفا وتقطر قوة وتفيض قسوة. سألني بضعة أسئلة تقليدية: اسمك، عمرك، تحصيلك الدراسي، ومن أي محافظة أنت، وأسئلة أخرى لا قيمة لها نسيتها الآن، وبادرني بسؤال يستدعي الضحك والخوف معا: «هل آذاك أحد؟»
لم أعرف بماذا أجيب عن هذا السؤال، هل يجهل جوابه فعلا وهو يرى حالي المبعثر بعد معركة خاسرة آثارها ترتسم على كل شيء في وعلي؟ أم أنه يبالغ في السخرية، أم أنه يستفزني لخوض نزال جديد؟ أم هو سؤال عبثي هكذا درج على لسانه بلا تفكير؟ وأيا كان الجواب فقد كان من الأجدى، بل من اللازم والواجب علي تجاهل مثل هذه الأسئلة؛ لأن الإجابة عليها قد تحول المسار إلى سكة جديدة لا تحمد خواتيمها ولا تحسن عقباها، وأي عقبى تؤمل بعد هذا الاستقبال الحار؟!
ويبدو أنه بالفعل لم يكن معنيا بالإجابة؛ لذا لم يعلق على وجومي وإطراقي، بل أمرني هادرا بالانصراف بلهجة وعيد ببطش وتهديد بأزرى مما لقيت حتى الآن. - اذهب ارتح اليوم وغدا سنبدأ معك الكلام.
لم أفهم أي شيء من كل ما حصل رغم نشوتي الداخلية بأمر الانصراف، والتي ربما ارتسمت على محياي المبعزق. وفي طريق الانصراف ألححت على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهريا، أين هو الاتهام الموجه لي؟ ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقا ستكون التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثيرا: أن النزوة المجنونة في أن تكون إنسانا هي من أكبر الجرائم وأخطر التهم في جمهوريات الخوف؟
إنهم لا يبحثون عن شيء، بل يريدون وأد الفطرة الإنسانية التي إن طلت على صخب هذا العالم ونما برعمها قليلا، استفز تجبرهم وتيقظ استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنونا، وطفقوا يغرفون من ظلمة بئر الموت أنواع القسوة لمحوها. لو أصاب العث الشجر وفسد الثمر فإن الزاد والقوت لا يؤخذ إلا من السليم، وبهذا النزر القليل من الثمر تواصل قافلة الوجود سيرها السرمدي، وسيذهب العث مهما كثر إلى المزابل هو وجميع الثمر الفاسد.
3
ناپیژندل شوی مخ