له کړکۍ څخه
من النافذة
ژانرونه
والعصا كاللحية تكون أليق في سن منها في سن أخرى. وكذلك ألوانها وزينتها أو عطلها وحجومها. وهي توافق الذوق العام حينا وتنافيه حينا آخر. فما لهذا الذوق ثبات، وإنه لدائم التغير والتطور. ففي الجيل الماضي مثلا لم يكن مستغربا أن ترى الشبان الأقوياء الخفاف يتخذون العصي، ولا يبدون إلا وهي في أيديهم، أما الآن فقد اختلف الحال، وصار الذوق العام ينفر من منظر الشاب وفي يده عصا. ولا عجب، فإن من يكتفي من الملابس بقميص مفتوح الجيب، قصير الكمين، وسروال إلى ما فوق الركبة، لا يمكن أن يكون إلا مستهجن المنظر إذا اتخذ عصا؛ لأن معنى العصا لا يوائم هذه الثياب الخفيفة التي تفيد معاني القوة والجلد والنشاط والأسر والمرح.
وقد كانت لي عصا ذات تاريخ، ولم تكن عصاي ولا كنت اشتريتها، وإنما أعارنيها - أو نزل لي عنها - صديقي العقاد، لما هيضت ساقي، وكان أخي - وهو أقصر مني قامة - يتخذ عصا أطول منه، فاستعرتها منه لأتوكأ عليها، ولكنها كانت طويلة تكاد تبلغ كتفي، فبادلت الأستاذ العقاد وهو مديد القامة، غير أن عصاه كان قصيرة تصلح لي دونه، وظلت معي سنوات طويلات، عرفها إخواني جميعا، لطول عهدي بصحبتها، وكانت لا تفارقني حتى عند النوم، كنت أبقيها إلى جانبي على السرير، وكنت ربما نسيتها في الترام، أو مقهى، أو بيت صديق، فترد إلي كالثوب الذي يقول فيه الشاعر:
طال ترداده إلى الرفو حتى
لو بعثناه وحده لتهدى
ثم اتخذت بيتي في صحراء الإمام على الطريق إلى قرية البساتين القريبة من المعادي، فاتفق لي في إحدى ليالي رمضان أن عدت من القاهرة قبيل السحور، وإذا بمجنون ضخم الجثة هائل الأنحاء، كثيف شعر الصدر والذراعين والوجه والرأس، يتصدى لي، و«أنا» كما يعرف القارئ - أو لا يعرف - «من خف واستدق؛ فلا يثقل أرضا ولا يسد فضاء»، وكان هذا المجنون هادئا في العادة؛ لا يثور ولا يمس أحدا بسوء، وكان العطارون يستخدمونه - بدلا من الحمار - في إدارة طاحون البن، فإذا وقف ألقوا إليه بالرغيف فيلتهمه ثم يدور بالطاحون، وكان شر ما يصدر عنه مما يدخل في باب الأذى، أن يرى فتاة على رأسها جرة ماء كبيرة فيتناولها - الجرة لا الفتاة - ويقلبها على فمه فيأتي على ما فيها، فلما اعترض طريقي دهشت ثم فزعت، ولم يمهلني؛ بل انتزع مني العصا فتركتها له ونجوت بنفسي، وإذا به يكسرها على ركبته، كما يكسر بعضهم عود القصب، وكانت غليظة متينة، فحمدت الله الذي لم يجعلني في يديه بدلها! ***
جلست في بكرة الصباح إلى نافذتي أنظر إلى الطريق وهو يفرش رملا فإنه يوم المحمل، وكان البرد شديدا، وبلغ من قسوته أني كنت أنفخ في يدي وأفركهما وأنا خلف الزجاج، فكيف بهؤلاء المساكين الذين يجرفون الرمل ويفرشونه وما عليهم من الثياب إلا هلاهيل! ولو استطعت لرقدت ودسست نفسي في لحاف، ولكني لا أطيق الفراش بعد أن أفتح عيني على مطلع نهار جديد. ولست أتخذ المواقد للتدفئة أو المراوح للتبريد؛ لأني أكرهها وأخشاها، فإني ضعيف وهنان الكيان، فلا أزال من أجل ذلك أقول في الصيف: ويلي من سمائمه، وفي الشتاء: ألا بعدا لمشتائي! ولا أصنع - لقلة عقلي من فرط خوفي - شيئا ألطف به الوقدة أو أدفع به القرة.
وسيقبل الناس - رجالا ونساء وأطفالا - بعد ساعة أو نحوها، فيزدحم بهم الطريق، ليشهدوا موكب المحمل، وإن كان لا جديد فيه، وستغص الشرفات والنوافذ بالمطلين والمطلات، وسيدق علينا بابنا فنفتحه، ويدخل من نعرف ومن لا نعرف، ويحتلون شرفاتنا ونوافذنا لينظروا وينعموا. وقد قضيت في هذا المسكن اثني عشر عاما وزيادة، ولست أذكر أن رجلا غريبا طرق بابنا ورجا منا أن نأذن له في الفرجة، ولكن المرأة تجترئ وتقدم على ما يحجم ويجبن عنه الرجل. ولم أجترئ أنا قط على سؤال واحدة من هؤلاء الطارقات الغريبات عن هذه الشجاعة: من أين يجئن بها! وقلت: أسأل امرأتي، فلعلها وهي من جنسهن تدري، ولكنها ما استطاعت قط أن تجيبني بأكثر من قولها: «وهل أنا أعرف؟» فأسألها : «ولكن لماذا أرى الشجاعة تخونك أنت دونهن؟» فتستغرب وتسأل: «ماذا تعني؟» فأقول: «أعني لماذا لا ترديهن عن بيتك ما دمت لا تعرفيهن؟» فتقول: «يا خبر أبيض! وبأي وجه أفعل ذلك؟» فأقول: «بمثل الوجوه التي يتطفلن بها عليك» فتقول: «هذا شيء آخر. إنهن لا يسألننا شيئا سوى أن يقفن في شرفة أو نافذة، فكيف يضيرنا هذا؟!»
فلا أرى فائدة ترجى من هذا الحوار فأقصر، وأبقى في غرفة كتبي لا أبرحها، وإذا كان لا بد من الخروج، أوصدتها ودسست مفتاحها في جيبي. فما أكثر ما استعير من كتبي ولم يرد! وماذا تقول لمن تحلف لك مائة يمين ويمين أنها ستعيد الكتاب بعد يومين اثنين لا أكثر؟! والمصيبة أن كتبي غير مرتبة، وأني لم أضع لها فهرسا، ولست أقيد ما يؤخذ منها، لأنه لا خير في هذا، فإني أنا أنسى أن الكتاب استعير، والذي يستعيره يؤثر أن ينسى أنه عارية ترد. ولكني لا أخجل هذا الخجل حين يكون طالب الاستعارة رجلا، فلماذا يا ترى؟! ألأن الرجل منا لا يطيب له أن يدع امرأة - ولو كانت لا تعنيه - تظن أنه فظ جافي الطباع؟! وأحسب أن الرجل يدور في نفسه - وهو مدرك لذلك أو غير مدرك، سيان - أن كل امرأة صديقة محتملة؛ أي إنها قد تكون في يوم من الأيام صديقة له، فمن سوء التمهيد لذلك اليوم أن يردها ردا سيئا. وليس هذا منطق العقل، ولكنه منطق الطباع، فإن من قلة العقل أن يكلف الرجل نفسه عناء التمهيد لصداقة كل امرأة في هذه الدنيا، ومن قلة العقل أيضا أن يتوهم أن المراضاة هي التمهيد الذي لا تمهيد غيره، فقد تكون الخشونة أفعل وأكفل بأن تبلغ الرجل سؤاله. على أني لا أدري، فما زالت المرأة - فيما أرى - لغزا معقدا لا حل له.
وعلى ذكر الكتب والمكتبة أقول: إن من أغرب ما وقع لي في هذا البيت، أن لصا تسور في ليلة صيفية إلى غرفة نومي، وحمل كل ما على المشجب من ثيابي وثياب امرأتي، وكان حكيما عاقلا، فلم يحاول أن يفتح خزانة أو صوانا أو غير ذلك، لئلا يحدث صوتا فنستيقظ، ولو عرف ما اتقى ولا بالغ في حذره، فما عندنا شيء ندفع به عن أنفسنا - حتى ولا عصا - وقد سألني أخي بعد ذلك عما كنت خليقا أن أصنع لو كنت غير نائم، فكان جوابي الذي لا أتردد فيه: «كنت أتناوم!»
على أن هذا ليس بيت القصيد، وإنما بيته أن اللص ترك ما كان في جيوبي من أوراق ومفاتيح عند مخبأ في الفضاء الذي يشرف عليه البيت، فجاءنا بها حارس المخبأ فأكبرت في اللص هذا الحرص على نبذ ما لا ينفعه، وحمدت له أنه ألقى بالمفاتيح والأوراق على مقربة من البيت، ولكني لما تأملت المفاتيح ألفيتها ناقصة، فقد أخذ اللعين مفتاح باب المكتب الذي على السلم. فهو إذن ينوي أن يشرفنا بزيارة أخرى! وضحكت وقد خطر لي أن لعله لص عالم، أو من هواة الكتب، ولم يسعني إلا أن أغير القفل.
ناپیژندل شوی مخ