وكانت طريقنا في الذهاب والإياب سهلة ميسرة هذه المرة قد اطردت فيها الأقنية اطرادا حسنا، وجرت المياه في مساربها تستقيم حينا وتلتوي حينا آخر، ولكنها جرت معتدلة هادئة، لا تنسد الأقنية ولا تضطر عمال وزارة الأشغال إلى قطع الطرق على السيارات وتحويلها إلى تلك الطرق التي شكوت منها في رحلة سابقة.
وكان أهل الريف مشغولين بالعيد، وللعيد في نفوس الريفيين أثره، مهما تكن أحوالهم، ومهما تكن الظروف التي تحيط بهم؛ فهم يبتهجون وإن كانت أمورهم كلها بؤس، وهم يظهرون السعادة والرضى وإن كانت حياتهم كلها تدعو إلى الشقاء والسخط، ومصدر ذلك فيما أظن أنهم مقتنعون بأن العيد يجب أن يدل على معناه، وأن يؤخذ أمره بالجد لا بالهزل، وأن يفرح الناس فيه، ويبتهجوا به مهما تكن الظروف؛ لأنهم قد خلقوا للفرح والابتهاج. وأهل الريف لم يتحضروا كما تحضرنا، ولم يتعمقوا الحياة كما تعمقناها، وهم يحبون فيما أعتقد أن يسموا الأشياء بأسمائها، وفيهم من السذاجة وطهارة القلوب ما يحملهم على أن يصدقوا الحياة حين تنبئهم بأن من أيام الدنيا ما ينبغي أن يفرح الناس فيه ويبتهجوا به، فهم يفرحون ويبتهجون لأن الفرح والابتهاج من الأشياء المفروضة في هذه الأيام المعينة. وعلى كل حال فقد قطعنا الطريق إلى صحرائنا، وقطعنا الطريق من صحرائنا إلى القاهرة دون أن نرى مظاهر البؤس والحزن؛ لأن العيد قد أخفى مظاهر البؤس والحزن، ولأن أهل الريف قد أرادوا كما يريدون دائما أن يحسنوا لقاء العيد ويكرموا مثواه، ويتلقوه بما يجب أن يتلقى به من السرور والابتهاج، ويؤجلوا حزنهم وبؤسهم وشقاءهم إلى الأيام التي تحتمل أن يظهر فيها البؤس والحزن والشقاء.
في هذه الأيام - أيام العيد - خدع الغني وصاحب الثراء عن غناه وثرائه، وعن رأي الناس فيهما واحتمال الناس لهما، فلم يحس سخطا ولا حسدا. وفي هذه الأيام - أيام العيد - خدع الفقير البائس عن فقره وبؤسه، فخيل إلى نفسه أنه غني وأنه سعيد، ولم ينظر إلى غنى الغني وثراء صاحب الثروة هذه النظرات التي يملؤها الحقد أحيانا، ويملؤها الحزن والتمني دائما. وفي هذه الأيام أيام العيد أحس الأغنياء والفقراء جميعا كأن الله قد مسهم بجناح من رحمته التي وسعت كل شيء، فسعد الأغنياء بثرائهم وسعد الفقراء بفقرهم وبأسائهم، وجرت أمور الناس على خير ما ينبغي أن تجري عليه في أيام العيد التي هي أيام هدنة بين السراء والضراء، وبين النعماء والبأساء، وفرغنا نحن لما أردنا أن نفرغ له من هذه الحياة الحيوانية التي نزدريها في القاهرة كما قلت منذ حين.
ولعلي قد أسرفت على نفسي بعض الشيء حين زعمت أني برئت من الحياة العقلية في هذه الأيام الثلاثة براءة تامة أو مقاربة؛ فليس من شك في أني لم أقرأ أدبا ولا علما ولا سياسة، ولكني لم أفرغ لحياة الجسم وحده، وإنما رجعت نفسي إلى عهدين من عهود الحياة المصرية، لم أكد أتصل بهما حتى فكرت فأطلت التفكير، وحتى أحسست وشعرت، فكنت قوي الإحساس دقيق الشعور. فأما أحد هذين العهدين فعهد مصر القديمة، رجعت إليه حين زرت صديقتي تلك التي اتصلت بها نفسي أشد الاتصال، وهام بها قلبي أشد الهيام، وتعلق بها عقلي أشد التعلق، تلك الصبية التي فارقت الحياة ولم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، والتي خطفها من أهلها بنات النيل إلى قصرهن المسحور في أعماق النيل. فلما انتهين بها إلى هذا القصر أخذن نفسها البريئة الطاهرة ورددن جسمها إلى أهلها، فتلقاه هؤلاء محزونين فرحين، وأقاموا له ذلك البيت الذي أحب أن ألم به كلما زرت تلك الصحراء. وسجل أبوها في ذلك البيت تسجيلا مؤثرا في لغة يونانية عذبة، وسجل ما يجب أن يقدم إليها في المواسم من ألوان التحيات، فأحببت أن ألم ببيت أسيدورا كلما زرت تلك الصحراء، وأن ألم بذلك البيت على نحو ما كان يلم به أبوها، ذلك المصري القديم. وما يمنع أن يقدم إلى نفس تلك الصبية البريئة شيء من الزهر؟ وما يمنع أن يحرق في بيت تلك الصبية البريئة شيء من البخور، ولا سيما حين يكون هذا البخور قديما قد وجد في مقابر المصريين القدماء؟ وما يمنع أن يقف مثلي أمام ذلك السرير الذي اضطجع فيه جسم تلك الصبية البريئة ألفي عام، حتى إذا كشف عنه بحث الجامعيين وجد فيه رمادا لا يثبت للمس اللامس، وخاتما صغيرا من الذهب نقل إلى مصلحة الآثار؟ أما أنا فلا أكره أن ألم بهذا البيت وقد قدمت بين يدي زيارتي له بعض الزهر، وسبقني من حرق فيه بعض الطيب، وأشعل فيه ذبالة ضئيلة تكاد تشبه تلك النفس الطاهرة الصافية البريئة التي احتفظ بها بنات النيل في قصرهن المسحور في أعماق النيل. نعم، وما أكره أن أقف أمام ذلك السرير، فأذكر وأعتبر؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين. وما أبيح لنفسي أن أزور تلك الصحراء دون أن ألم بذلك البيت إلمامة قصيرة، وأذكر قول الشاعر العربي القديم:
ألما بمي قبل أن تطرح النوى
بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها
فإلا يكن إلا تمتع ساعة
قليل فإني نافع لي قليلها
فهذا أحد العهدين. أما العهد الثاني فما زال قائما حاضرا تصرفنا عنه حياتنا المثقفة الممتازة، ولعلنا نرتفع بأنفسنا عنه لأننا نراه سخفا وإيغالا في حب القديم، ولكني أحب أن ألم به بين حين وحين ؛ لأني أتمثل فيه عهد الصبا، وأتمثل فيه حياة الكثرة المطلقة من المصريين، وأمتزج فيه بهذه الكثرة المطلقة، وألغي فيه ما بيني وبين هذه الكثرة من الفروق، وأشعر فيه شعورا قويا جدا بأني واحد من هذه الملايين التي لا تحصى من المصريين منذ عرف المصريون أرض مصر وعاشوا. وهذا العهد الذي أحبه كل الحب وأبيح للمثقفين أن يسخروا مني لأني أحبه كل الحب، هو هذا الذي يتمثل حين يجتمع فريق من أهل القرى حول شيخ من مشايخ الطرق ليعقدوا مجلسا من مجالس الذكر. وأنا أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع، وأعرف أيضا ما يقوله الأوروبيون عن مجالس الذكر. ولكن ماذا تريد؟ إني أحب هذه المجالس وأجد فيها نفسي الضائعة، وأتمثل فيها مصريتي القديمة والجديدة والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذي أحب أن أجده دائما بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبي أن يدعو لي مجلس الذكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذكر الله كما تعودوا أن يذكروا، وعلى غناء المنشد مدح النبي
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ