واتخذا طريقهما إلى شجرة الصفصاف يجددان العهد ويبعثان الذكرى، ومشيا صامتين يتبعهما ظلهما ويتبادلان لمسة باليد كلما همت أن تجتاز قناة في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ وعاد الماضي كما بدأ، وتعاهدا لا يفترقان في هذه المرة حتى يبلغا آخر الطريق، وعادت البهجة إلى القصر الأبيض ورف النور من شرفاته!
من أدباء الجيل
كانت أشعة المصباح ذابلة صفراء ترتعش لكل نسمة تهب، وكان الجو عاصفا والمطر يلطم زجاج النافذة فينفذ رشاشه من فروجها ويسيل قطرات على الجدار. وفي زاوية من الغرفة كان الفتى النحيل جالسا إلى نضد صغير يكتب ...
منذ ساعات والفتى في مجلسه ذلك، يستنزل الوحي ويتألف أشتات المعاني، لا يكاد يحس شيئا حوله، والناس نيام.
يجب أن يفرغ من إعداد هذه الخطبة التي يكتبها قبل الصباح، إن هنالك من ينتظر ...
ودقت الساعة اثنتي عشرة دقة، فرفع رأسه عن أوراقه ووضع القلم وفي عينيه أثر الجهد والإعياء ... وارتفق بذراعه على النضد الذي يتخذه خوانا بالنهار ومكتبا بالليل، فسمع له مثل صرير الباب تضربه الريح ... ودار بعينيه في الغرفة التي تضم كل ما يملك من متاع، ينقل بصره بين البذلة المعلقة بالمشجب، والطربوش الملقى على الوسادة، والفراش المشعث منذ غادره في الصباح الباكر، ثم زفر زفرة ... وخرجت من بين الكتب المركومة إلى جانب الحائط دويبة صغيرة تلتمس طريقها إلى الباب في تثاقل وبطء، وارتمى إليها نظر الفتى، فابتسم ... ثم قلب شفته في رثاء وقال: «حتى أنت يا مسكينة ...! تسهرين الليل مثلي في البحث عن القوت!»
ثم عاد إلى مكتبه وأوراقه ...
وفرغ الفتى من عمله، فأشعل آخر دخينة في علبته ... ثم أخذ يقرأ لنفسه ما كتب ... وأشرق وجهه راضيا كأنما مسحت على آلامه يد رحيمة، ثم هب واقفا وعلى شفتيه ابتسامة الرضا والسلام، وبسط أوراقه أمام عينيه ... وراح يقرأ: «أيها السادة ...»
وخيل إليه في موقفه ذاك أنه هو ما هو بين الناس، في جمع حاشد تشرئب أعناقهم إليه، فلعب به الزهو واستخفته الكبرياء، واستمر يخطب ... «... أشكر لكم هذا التقدير الغالي ... إن أمة تحتفي بأدبائها هذه الحفاوة العظيمة ...»
وأحس شيئا يخزه في صدره فلم يتم ... «التقدير الغالي ...! والحفاوة العظيمة ...!» أين هو من هذه المعاني؟
ناپیژندل شوی مخ